ﰡ
حم: تقرأ هكذا حاميم. افتتحت هذه السورة بهذين الحرفين من حروف الهجاء وقد تقدم ذِكر أمثالهما.
وقد أقسم الله تعالى بكتابه المبين لطريقِ الهدى، وأنه جعله بلغةِ العرب، لغة قومك أيّها الرسولُ لِيفهَموا معناه، وأنه محفوظٌ في علمه تعالى، فليس هو من عند محمدٍ كما تدّعون يا مشركي قريش. اننا لن نترك تذكيركم به بسببٍ من إعراضكم عنه، وانهماككم في الكفر به، وإنما نفعل ذلك رحمةً منّا ولطفاً بكم.
ثم حذّرهم وأنذرهم بأن كثيراً من الأمم قبلهم كانوا أشدّ منهم قوة، وكذّبوا رسُلَهم فكانت عاقبتهم الدمار والهلاك.
﴿ومضى مَثَلُ الأولين﴾
وقد رأيتم ما حلّ بهم، فاحذَروا ان يحل بكم مثلُه.
وبعد أن ذكر ان المشركين سادِرون في كُفرهم وإعراضهم عما جاء به القرآن بيّن هنا أن أفعالهم تخالف اقوالهم:
﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العزيز العليم﴾
ومع اعترافهم هذا بالله يعبُدون الاوثان من دونه!!.
ثم ذكر تعالى أنه هو الذي جعل لكم الأرضَ فِراشاً ممهَّدا، وجعل فيها طُرقاً لتهتدوا بها في سيَركم، ونزّل من السماء ماءً بقدْر الحاجة يكفي الزرع ويسقي الحيوان، وأحيا به الأرضَ الميتة. ومثلُ إحياء الأرضِ بعد موتها، يخرجُكم يومَ القيامة للحساب والجزاء. ولقد خلق اصناف المخلوقات جميعاً من حيوان ونبات، وسخّر لكُم السفنَ والدوابّ لتركبوها، وتذكروا نعمة ربكم وتقولوا:
﴿سُبْحَانَ الذي سَخَّرَ لَنَا هذا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ﴾
لولا لطفُ الله بنا ما كنا لذلك مطيقين. إننا يوم القيامة إلى ربنا لراجعون، فيجازي كلَّ نفس بما كسبت، فاستعدّوا لذلك اليوم، ولا تغفلوا عن ذِكره.
قراءات:
قرأ نافع وحمزة والكسائي: إن كنتم قوما مسرفين بكسر همزة ان. والباقون: أن كنتم بفتح الهمزة.
بعد ان بيّن الله أنهم يعترفون بالألوهية وأن الله هو خالق هذا الكون - ذكر هنا أنهم متناقضون مكابرون، فهم مع اعترافهم لله بخلْق السموات والأرض قد جعلوا بعضَ خلقه ولدا ظنوه جزءا منه. وهذا كفرٌ عظيم.
ومن عجيب أمرِهم أنهم خصّوه بالبنات، وجعلوا لهم البنين، مع انهم إذا بُشِّر أحدُهم بالأنثى صار وجهه مسودّا من الغيظ، وامتلأ كآبة وحزناً لسوء ما بُشّر به.
﴿أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الحلية وَهُوَ فِي الخصام غَيْرُ مُبِينٍ﴾
وقد جعلوا لله الأنثى التي تتربّى في الزينة، واذا خوصِمتْ لا تقْدِر على الجَدل والمخاصمة، واختاروا لأنفسِهم الذكور!!
ثم نعى عليهم في جَعْلهم الملائكة إناثا، وزاد في الانكار عليهم بأن مثلَ هذا الحكم لا يكون الا عن مشاهدة، فهل شَهدوا ولادتهم؟
﴿سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ﴾ يوم القيامة حيث يُسألون عنها ويجازون بها.
ثم حكى عنهم شُبهةً أخرى، وهي انهم قالوا: لو شاء الله ما عبدْنا الملائكة، وردّ عليهم بقوله: ﴿أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِّن قَبْلِهِ﴾ ويعني: هل اعطيناهم كتاباً قبل القرآن يؤيّد افتراءهم هذا فهم متعلقون به!
وعندما فقدوا كل حجة ودليل قالوا:
﴿إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا على أُمَّةٍ وَإِنَّا على آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ﴾
لقد وجدْنا آباءنا على دينٍ فقلّدناهم، وبذلك ينقطع الجدل بعد عنادهم وعجزهم.
ان حال هؤلاء مثلُ الأمم السابقة، فقد قالت ﴿إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا على أُمَّةٍ وَإِنَّا على آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ﴾
وفي هذا تسليةٌ للرسول الكريم ودلالة على ان التقليد في نحو ذلك ضلالٌ قديم.
ثم حكى الكتابُ الكريم ما قاله كل رسول لأمته:
﴿قُلْ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بأهدى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَآءَكُمْ﴾
اتتبعون آباءكم وتلقّدونهم ولو جئتكم بدينٍ هو خيرٌ من دين آبائكم بما فيه من الهداية والرشاد!.
فقالوا مجيبين ومصرّين على كفرهم: ﴿قالوا إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ﴾. ولم يبق لهم عذرٌ بعد هذا كله ولذلك قال تعالى: ﴿فانتقمنا مِنْهُمْ فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكذبين﴾
وفي هذا تسليةٌ كبرى للرسول الكريم، وإرشادٌ له إلى عدم الاكتراث بتكذيب قومه له، ووعيدٌ وتهديد لهم.
قراءات:
قرأ حمزة والكسائي وحفص: أوَمَن يُنَشّأ بضم الياء وفتح النون وتشديد الشين المفتوحة والباقون: أوَمَن يَنْشأ بفتح الياء وسكون النون وفتح الشين من غير تشديد.
وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر: وجعلوا الملائكة الذين هم عند الرحمن. والباقون: الذي هم عباد الرحمن. وقرأ نافع: أأُشْهدوا خلقهم بفتح الهمزة وبضم الألف واسكان الشين. وقرأ الباقون: أشهِدوا بهمزة واحدة وكسر الشين. وقرأ ابن عامر وحفس: قال أولو جئتكم. وقرأ الباقون: قل أولو جئتكم، بفعل الأمر.
يبين الله تعالى للمعاندين لرسولِ الله ﷺ أن أشرفَ آبائهم وهو ابراهيم عليه السلام تركَ دينَ آبائه، وقال لأبيه وقومه: إنني بريء من عبادة آلهتكم الباطلة. وانه لا يعبد الا الله الذي خلَقَه على فِطرة التوحيد، فهو سَيَهديه إلى طريق الحق، ويجعلُ كلمة التوحيد باقيةً في ذرّيته ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ فيؤمنون بها.
لقد متّع الله قريشاً بالنعمة والأمن في بلدهم، فاغترّوا بذلك ولم يتّبعوا ملّةَ أبيهم ابراهيم...
﴿حتى جَآءَهُمُ الحق وَرَسُولٌ مُّبِينٌ﴾
جاءهم الرسولُ الأمين بالقرآن الكريم يهديهم الى الصراط المستقيم. فلما جاءهم الرسول بالحقّ كذّبوه وقالوا ساحر.
﴿وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ﴾
وقالوا مستخفّين بهذا النبيّ الكريم لأنه فقير: هلاّ نزل القرآن على أحد رجلين من عظماء مكة او الطائف وهما: الوليدُ بن المغيرة من سادات مكة، او عروة بن مسعود الثقفي من سادات الطائف.
وهنا يردّ الله تعالى عليهم ويبين لهم جهلهم بأن العظمةَ ليست بكثرة المال ولا بالجاه، وأن النبوة منصبٌ إلهي وشرفٌ من الله يعطيها من يستحقها، وليست بأيديهم ولا تحت رغبتهم ولذلك قال:
﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ﴾
كيف جهِلوا قَدْرَ أنفسِهم حتى يتحكموا في النبوة ويعطوها من يشاؤون! الله تعالى قَسَم المعيشة بين الناس وفضّل بعضهم على بعض في الرزق والجاه، ليتخذَ بعضُهم من بعض أعواناً يسخّرونهم في قضاء حوائجهم، وليتعاونوا على هذه الحياة.
﴿وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾
والنبوّة وما يتبعها من سعادة الدارَين خيرٌ من كل ما لديهم في هذه الحياة الدنيا. فهذا التفاوت في شئون الدنيا هو الذي يتم به نظام المجتمع، فلولاه لما صرَّف بعضُهم بعضا في حوائجه، ولا تعاونوا في تسهيل وسائل العيش.
ثم بين الله تعالى انه: لولا ان يرغبَ الناسُ في الكفر إذا رأوا الكفار في سَعةٍ من الرزق لمتَّعهم الله بكل وسائل النعيم، فجعل لبيوتهم أبواباً من فضة وسقُفا وسررا ومصاعد من فضة، وزينةً في كل شيء.. وما هذا كلّه إلا متاع قليلٌ زائل مقصور على الحياة الدنيا الفانية.
﴿والآخرة عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ﴾
أعدّها الله للذين أحسنوا واتقَوا وأخلصوا في إيمانهم.
روى الترمذي وابن ماجه عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله ﷺ: «لو ك انت الدنيا تَعْجِل عند الله جناحَ بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء».
قراءات:
قرأ ابن كثير وابو عمرو: سَقفاً بالافراد، والباقون: سُقُفا بالجمع. وقرأ عاصم وحمزة وهشام: لمّا متاع الحياة بتشديد ميم لما. والباقون: لما بالتخفيف.
بعد ان ببين الله ان المال متاعُ الدنيا عَرَضٌ زائل، وان نعيم الآخرة هو النعيم الدائم - ذكر هنا أن الذي يهتم بالدنيا ومتاعها ويُعرِض عن القرآن وما جاء به يهيئ له شيطاناً لا يفارقه، وأن شياطين هؤلاء الفئة من البشر يصدّونهم عن السبيل القويم، ويظنون انهم مهتدون. حتى اذا جاء ذلك الرجل يومَ القيامة الى الله ورأى عاقبة إعراضه وكفرِه قال لقرينه نادماً: يا ليت بيني وبينك بُعدَ المشرق والمغرب، فبئس الصاحبُ كنتَ لي، حتى أوقعتني في الهاوية.
ثم يقال لهم جميعا: لن يخفَّف العذابُ عنكم اليوم، وكلّكم في العذابِ مشتركون، لا يستطيع أحد منكم ان يساعد الآخر.
ثم بين الله تعالى لرسوله الكريم أن دعوته لا تؤثر في قلوبهم، فأنت يا محمد لا تُسمع الصمَّ عن الحق ولا تهدي العميَ عن الاعتبار.
ثم سلّى رسوله الكريم وبين له انه لا بدّ أن ينتقم منهم، إما في حياة الرسول او بعد مماته، فان قبضناك يا محمد قبل ان نُريَك عذابَهم، ونشفي بذلك صدرَك وصدورَ قوم مؤمنين فإنا سننتقم منهم في الدنيا والآخرة. ﴿أَوْ نُرِيَنَّكَ الذي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُّقْتَدِرُونَ﴾ مسيطرون.
فاعتصِم يا محمد بالقرآن لأنه الحقُّ والنور المبين، وايبُتْ على العمل به، واللهُ معك لأنك على صراطه المستقيم.
ان القرآن الذي أوحيناه إليك شرف لك وللعرب، فلقد رفع من شأنهم ونشَر سلطانهم ولغتهم في شرق الأرض وغربها، وكما قال تعالى: ﴿لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ [الأنبياء: ١٠]. وأيّ ذكرٍ اعظم ابها الرسول في شرائع مَنْ أرسلْنا قبلك من رسُلنا، هل جاءت دعوة الناس الى عبادة غيرِ الله؟ ان جميع الرسل جاؤا بالدعوة إلى عبادة الله وحده لا شريكَ له.
قراءات:
قرأ حمزة والكسائي وابو عمرو وحفص: حتى اذا جاءنا بالافراد. والباقون: جاءانا على التثنية.
بعد ان ذكَر الله ان كفار قريش طعنوا في نبوة محمدٍ ﷺ لكونه فقيراً - بيّن هنا ان سيّدنا موسى جاء الى فرعون واشرافِ قومه وقال لهم ﴿إِنِّي رَسُولُ رَبِّ العالمين﴾ وأظهر لهم المعجزات، لكنهم سخروا منه وضحكوا من المعجزات. وكانت كل معجزة من المعجزات التي توالت عليهم أكبرَ من أختها. وحيث أصروا على الكفر والطغيان أصبناهم بأنواع البلايا، ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ عن غيهم. ولكن بالرغم من معاينتهم تلك المعجزات فقد اعتبروها من قبيل السحر فقالوا: يا ايها الساحر، ادعُ لنا ربك متوسّلاً بما عَهد عندك ان يكشف عنا العذاب، فإذا كشفه عنّا اهتدينا وآمنا بما تريد.
فلما كشف الله عنهم العذاب بدعاء موسى نقضوا العهدَ ولم يؤمنوا. وقد جاءت هذه القصة مفصّلة في سورة الأعراف.
ثم اخبر الله عن تمرد فرعون وطغيانه وعناده فقال: ﴿ونادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ...﴾
أليس لي مُلك مصر وهذه الأنهار التي تشاهدونها تجري من تحت قصري، ﴿أَفَلاَ تُبْصِرُونَ﴾ أيها القوم!؟
﴿أَمْ أَنَآ خَيْرٌ مِّنْ هذا الذي هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ﴾
فأنا خير من هذا الفقير الحقير الذي لا يكاد يُفصح عما يريد.
ثم ذكر شبهةً مانعة لموسى من الرياسة، وهي انه لا يلبس لباس الملوك، فهلاّ القى ربّه عليه أساورَ من ذهبٍ ان كان صادقا!! او جاء معه الملائكةُ ملازمين له ليساعدوه!
﴿فاستخف قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ﴾.
وبعد ذلك بين الله ان هذه الخِدع قد انطلتْ عليهم، وسحَرت ألبابهم، فأطاعوه واعترفوا بربوبيته وكذّبوا موسى.
ثم بين الله مآلهم: فلما أغضبونا بعنادهم انتقمنا منهم بعاجلِ عذابنا، فأغرقناهم أجمعين، وجعلناهم قُدوةً لمن يعمل عملَهم من اهلِ الضلال، وعبرةً وموعظة لمن يأتي بعدهم من الكافرين.
وفي قصة موسى هنا تسليةٌ للرسول الكريم بها لأن قومه عيّروه بالفقر، وقد سبق لموسى ان عيره فرعونُ بالفقر والضعف.
قراءات:
قرأ حفص: اسورة. وقرأ الباقون: أساور، اسورة جمع اسوار، وجمع الجمع اساور وأساورة. وقرأ حمزة والكسائي وخلف: فجعلناهم سُلُفا بضم السين واللام. والباقون: سلفا، بالإفراد.
لقد جادل مشركو قريش رسول الله ﷺ جدلا كثيرا، من ذلك ان الرسول الكريم لما تلا عليهم: ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ﴾ [الأنبياء: ٩٨] قال له عبدُ الله بن الزِبِعْرَي - وهو من شعراء قريش وقد أَسلمَ وحسُنَ إسلامه فيما بعد-: أليس النصارى يعبدون المسيح وأنتَ تقول كان عيسى نبياً صالحاً، فان كان في النار فقد رضينا. فأنزل الله تعالى بعد ذلك: ﴿إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى أولئك عَنْهَا مُبْعَدُونَ﴾ [الأنبياء: ١٠١].
وجادلوه بعد ذلك كثيرا، ولذلك يقول الله تعالى:
﴿وَلَمَّا ضُرِبَ ابن مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ﴾
لما بين الله وَصْفَ عيسى الحقَّ من أنه عبدٌ مهلوق، وعبادتُه كفرٌ، إذا قومك أيها النبي يُعرِضون عن كل هذا.
فقال الكافرون: أآلهتنا خيرٌ أم عيسى؟ فإذا كان عيسى في النار فلنكنْ نحنُ وآلهتنا معه.. وما ضرب الكفار لك هذا المثَلَ الا للجدل والغلبة في القول لا لإظهار الحق.
﴿بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ﴾
إنهم قوم شديدون في الخصومة، مجبولون على العَنَتِ والعناد.
ثم بين الله تعالى ان عيسى عبدٌ من عبيده الذين أنعم عليهم فقال:
﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لبني إِسْرَائِيلَ﴾
وما عيسى ابن مريم غلا عبدٌ أنعمنا عليه بالنبوّة، وقد جعلناه آيةً بأن خلقناه من غير أبٍ كَمَثَلِ آدم خَلَقَه الله من تراب. ولو نشاء لجعلْنا في الأرض عجائب كأمرِ عيسى كأن نجعل لبعضكم أولاداً ملائكة يخلفونهم، كما خلقنا عيسى من غير اب.
والحق أن عيسى بحدوثه من غير أب لدليلٌ على قيام الساعة، ﴿فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا﴾ واتبعوا هداي وهُدى رسولي، فما أدعوكم اليه هو الصراط المستقيم. ويقول بعض المفسّرين، وان القرآن الكريم ليعلِمُكم بقيام الساعة فاتَّبعوا تعاليمه، ولا تتبعوا زيغ الشيطان انه لكم عدوٌّ ظاهر.
ولما جاء عيسى رسولاً الى بني اسرائيل ومعه الآيات الدالة على رسالته، قال لقومه: قد جئتكم بشريعةٍ حكيمة تدعوكم الى التوحيد، وجئتكم لأبيّن لكم بعضَ الذي تختلفون فيه من أمر الدين، فاتقوا الله في مخالفتي، وأطيعوني فيما أدعوكم اليه. ان الله هو خالقي وخالقكم فاعبدوه وحده، وحافِظوا على شريعته، فهي الطريق الموصل الى النجاة. ولكنهم خالفوا ما دعاهم اليه، واخلتفوا، وصاروا شِيعا وفرقاً لا حصر لها. ﴿فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ﴾ هو يوم القيامة، حين يحاسَبون على كل صغيرة وكبيرة.
هل ينتظر هؤلاء الاحزاب المختلفون في شأن عيسى الا ان تقوم الساعةُ بغتةً وهم غافلون عنها!؟
قراءات:
قرأ الكسائي ونافع وابن عامر: يصُدون بضم الصاد. والباقون: بكسرها.
في هذه الآيات مشهدٌ من مشاهد يوم القيامة يبيّن حال فريقين متقابلَين، وهو يبدأُ في رسم صورةٍ عن الأصدقاء في ذلك اليوم فيقول:
ان الأصدقاء بعضُهم لبعض عدوٌّ الا الذين كانت صداقتهم خالصةً لوجه الله واجتمعوا على التقوى، فإنهم في كَنَفِ الله وضيافته لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون. ويومئذ يقال للذين آمنوا بالله وصدّقوا رسوله الكريم: ادخلوا الجنةَ أنتم وازواجُكم تُسرّون فيها سروراً عظيما. وهناك يلقَون من النعيم ما لا مثيل له في الدنيا، ويطاف عليهم بأوانٍ من ذهب ويشربون بأكواب من ذهب، ويجدون كل ما تشتهيه انفسهم وما تلذ به أعينهم، ويقال لهم إكمالاً للسرور: ﴿وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾. وفي هذه الجنة أيضاً فاكهة كثيرة الانواع ﴿مِّنْهَا تَأْكُلُونَ﴾.
ثم بيّن حال الفريق المقابل من أهل النار، وما يكون فيه الكفار من العذاب الدائم الذي لا يخفّف عنهم ابدا، وهم في حُزنٍ لا ينقطع. والله تعالى لم يظلمهم بهذا العذاب ﴿ولكن كَانُواْ هُمُ الظالمين﴾ باختيارِهم الضلالة على الهدى.
ثم بين كيف يقول أهل النار لخَزَنتها ويطلبون منهم ان يموتوا حتى يستريحوا من العذاب، ويردّ عليهم مالكٌ، خازن النار قائلاً:
﴿إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ﴾
لقد جاءكم رسولنا بالدّين الحق فآمن به قليل، وأعرض عنه أكثركم وهم كارهون، وستبقون في جهنم هذه جزاء كفركم.
ثم بين الله ما أحكموا تدبيره من ردّ الحق، وإعلاء شأن الباطل، وقال لهم:
﴿فَإِنَّا مُبْرِمُونَ﴾
إنا محكِمون أمراً في مجازاتكم واظهار الرسول عليكم.
لقد وهِموا فيما ظنّوا أننا لا نسمع سرّهم وما يتناجون به بينهم، ﴿بلى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ﴾ كلَّ ما صدر عنهم من قول او فعل.
قراءات: قرأ حفص ونافع وابن عامر: ما تشتهيه الانفس. والباقون: ما تشتهي الأنفس.
قل ايها الرسول للمشركين: إن صحّ الدليل القاطع ان للرحمن ولداً فأنا أولُ من يعبدُ هذا الولد، لكنه لم يصحّ ذلك ولن يصحّ.
ثم نزّه الله نفسه بقوله:
﴿سُبْحَانَ رَبِّ السماوات والأرض رَبِّ العرش عَمَّا يَصِفُونَ﴾
تنزه خالقُ هذا الكون العجيب وربُّ العرش المحيط بذلك كله، عما يصفه المشركون.
ثم امر الرسولَ الكريم أن يتركهم في خوضهم بباطلهم وشركهم حتى يلاقوا يومهم، يوم القيامة، وهناك يدركون خطأهم ويندمون.
ثم أكد هذا التنزيه ببيان أن الله هو الذي يُعبد في السماء بحقّ، ويُعبد في الأرض بحق.
﴿وَهُوَ الحكيم العليم﴾ الحكيم في تدبير خلقه، العليم بمصالحهم.
ان عنده وحده عِلم يوم القيامة، واليه وحده ترجعون في الآخرة للحساب، أما هذه الأوثان التي تعبدونها فلن تستطيع الشفاعة لكم. أما من نطق بالحق وكان على بصيرة من عند ربه فان شفاعته تنفع عند الله بإذنه، ولمن يستحقها.
ثم بين ان هؤلاء المشركين يتناقضون في اقوالهم وافعالهم فقال:
﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله فأنى يُؤْفَكُونَ﴾
ولئن سألتَ أيها الرسول هؤلاء المشركين من الذي خلقهم ليقولُنّ: خَلَقنا الله، فكيف إذن يُصرفون عن عبادته تعالى الى عبادة غيره!؟.
﴿وَقِيلِهِ يارب إِنَّ هؤلاء قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ﴾
والله عنده علمُ الساعة وعلمُ قول الرسول يا رب ان هؤلاء الذين أمرتّني بإنذارهم قومٌ لا يؤمنون. وقيلهِ بالجر نعطوف على قوله وعنده علم الساعة وعلم قيلِه.
ولذلك قال له تعالى:
﴿فاصفح عَنْهُمْ وَقُلْ سَلاَمٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾
فأعرِض عنهم أيها الرسول، وقل لهم سلام، فسوف يعلمون عاقبة كفرهم، وأنك ستنتصر عليهم.
قراءات:
قرأ عاصم وحمزة: وقيلِهِ بالجر، والباقون: وقيلَهُ بالنصب.