تفسير سورة الأحقاف

بيان المعاني
تفسير سورة سورة الأحقاف من كتاب بيان المعاني المعروف بـبيان المعاني .
لمؤلفه ملا حويش . المتوفي سنة 1398 هـ

انفراده في صفة الكبرياء والعظمة. وفي هذا إعلام بأنهما ليسا كسائر الصفات التي يتصف بها بعض المخلوقين مجازا كالرحمة والكرم وغيرهما، وشبههما بذلك لأن المتصف بهما يشملانه كما يشمل الرداء الإنسان، ولأنه لا يشاركه في ردائه وإزاره أحد، فكذلك الله تعالى لا ينبغي أن
يشاركه فيهما أحد، لأنهما من صفاته اللازمة المختصة به وهذا، والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
تفسير سورة الأحقاف عدد ١٦- ٦٦- ٤٦
نزلت بمكة بعد الجاثية، عدا الآيات ١٠، ١٥، ٣٥ فإنها نزلت بالمدينة، وهي خمس وثلاثون آية، وستمئة وأربع وأربعون كلمة، وألفان وخمسمائة وخمسة وتسعون حرفا.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قال تعالى: «حم» ١ تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ» ٢ تقدم تفسيرها بنظيراتها التي قبلها حرفيا «ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ» الذي تقتضيه الحكمة الكونية والتشريعية وهذا الاستثناء مفرغا من أعم الأحوال من فاعل خلقنا أو مفعوله، أي ما خلقناهما في حال من الأحوال إلا حالا ملابسا بالحق، وفيه دلالة على وجود الصانع وصفات كماله وابتغاء أفعاله على حكم بالغة عظيمة وانتهائها إلى غايات جليلة بالغة، وكل ذلك يؤجل إلى قدر مقدر في اللوح المحفوظ لا يتبدل ولا يتغير، ولا يقدم ولا يؤخر، يدلك عليه قوله عز قوله «وَأَجَلٍ مُسَمًّى» ينتهي إليه فناؤهما، وهو معلوم لديه وحده، لأن علمه مما اختص به نفسه المقدسة. قال تعالى «وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا» به في هذا القرآن من بعث وحساب وغيره «مُعْرِضُونَ» ٣ عنه لا يلتفتون إليه والواو للحال أي والحال أنهم في إعراض عريض عنه، فيا سيد الرسل «قُلْ» لهؤلاء المعرضين «أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» أخبروني عنها وكيف تعبدونها وهي أوثانا جامدة لا حقيقة لها «أَرُونِي» ماهيتها و «ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ» حتى تستحق العبادة «أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي
122
السَّماواتِ»
حتى عدلتموها بخالقها كلا «ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا» القرآن جاء فيه ما تقولونه، وهو ليس فيه شيء من ذلك «أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ» وبقية منه يؤثر عن الغير، ومن هنا سميت الأحاديث أخبارا، أي أروني مطلق علم من العلوم السالفة «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» ٤ في زعمكم هذا بأنها أهل للعبادة فإذا لم يكن عندكم شيء من ذلك فأنتم إذا ظالمون.
مطلب عدم سماع دعاء الكفرة من قبل أوثانهم وتفتيده وتبرؤ الرسول صلّى الله عليه وسلم من علم الغيب وإسلام عبد الله بن سلام:
«وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ» دعاءه ولو ظل دائبا يدعوها ليل نهار «إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ» لا تجيبه لأنها جماد لا تبصر ولا تسمع ولا تفهم باللفظ ولا بالإشارة «وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ» ٥ لأنهم لا يدرون بهم. هذا إذا كانوا أصناما أو كواكب، أما إذا كانوا من ذوي العقول فإن كانوا من المقربين المقبولين عند الله كعيسى والمسيح وعزير والملائكة فلاشتغالهم عنهم بما هو خير، أو كونه بمحل ليس من شأنه الذي فيه أن يسمع دعاء الداعي، لأن الله تعالى يصون سمعهم عن سماع دعائه، لأن ما لا يرضاه الله يؤلمهم سماعه، وإن كان لا يضره لأنه لم يأمر به ولم يرده، ويتنزه الله تعالى عن مثله، وإن كان من أعداء الله كشياطين الجن والإنس الذين عبدوا من دون الله فإن كان ميتا فلاشتغاله بما هو فيه من الشر لو فرض سماعه، والميت ليس من شأنه السماع ولما يتحقق منه السماع إلا معجزة كسماع أهل القليب لقوله صلّى الله عليه وسلم ما أنتم بأسمع منهم وما جاء في السلام على الأموات وأنهم يردون السلام فذلك من قبل أرواحهم الخالية عن أجسادهم، لأن الأرواح كلها خالدة المنعم منها والمعذب، وهؤلاء المتخذين للعبادة ليسوا بأولئك، وإن كان حيا فإن كان بعيدا عنه فالأمر ظاهر بعدم السماع وإن كان قريبا سليم الحاسة فلا فائدة من إجابته، إذ لا يقدر على إجابة طلبه.
قال تعالى «وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ» العابدون والمعبودون «كانُوا» أي المعبودون «لَهُمْ» لعابديهم «أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ» ٦ جاحدين لها منكريها يقولون كما أخبر الله عنهم (تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ) الآية ٦٣ من سورة
123
القصص في ج ١، وهي مكررة في المعنى كثيرا فيخذلون حينذاك ويعلمون أنه قد سقط في أيديهم «وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ» الذي أتاهم على لسان رسولهم وهو القرآن «لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ» ٧ وإنما حكموا عليه بأنه سحر لعجزهم عن الإتيان بمثله، وعلى الأنبياء بأنهم سخرة لأن الأمور التي تظهر على أيديهم خارقة للعادة «أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ» من لدن نفسه أي إذا لم يقولوا سحر قالوا اختلقه «قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ» فيكون تجاوزا على الله «فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً» يدفع عني عذابه أو يمنعه من الوصول إلي فكيف افتري عليه لأجلكم وأنتم لا تستطيعون كف عقوبته عني ولكن «هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ» من القدح في وحي الله والطعن فيّ «كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ» لمن عصاه إذا لم يكن مشركا به «الرَّحِيمُ» ٨ بمن أطاعه ورجع إليه. تشير هذه الآية إلى أن من تاب وأناب لربه فإنه يغفر له ويرحمه، وهو كذلك إذا شاء «قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ» حتى تقولوا إني ابتدعت ما جئتكم به (الابتداع أن يأتي الرجل بما لم يكن قبل) ولم تنكرر هذه الكلمة في القرآن، أي لأني لست أول رسول أرسله الله لهداية البشر حتى تعجبوا وتقولوا ما تقولون، إذ بعث رسل قبلي جاءوا أقوامهم بمثل ما جئتهم به، فكيف تنكرون نبوتي وتجعلونها بدعة «وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ» فيما يستقبل من الزمان في هذه الدنيا هل أخرج أو أقتل أو أحبس كما فعلت الأقوام السالفة بأنبيائهم، ولا أعلم هل تصرون على تكذيبكم لي فتهلكون خسفا أو غرقا أو رهبة، أو تؤمنون فتنالون ما وعدني به ربي إليكم من نعيم الآخرة كغيركم من الأمم المكذبة والمصدقة؟ لأن هذا كله من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله لأني بشر مثلكم لا علم لي به إلا أن الله تعالى أخبرني بأن المؤمن مصيره في الآخرة الجنة، والكافر مرجعه النار، وأمرني أن أخبركم بهذا، وهو حق لا مناص منه. وفي هذه الآية ردّ على من ينسب إلى الأولياء علم الغيب من الأمور الكلية والجزئية، لأن الأنبياء أنفسهم صرّحوا بعدم علمهم الغيب إلا ما يوحيه الله إليهم منه، وما لا يكون للنبي لا يكون للولي قطعا.
124
قال في بدء الأمالي:
ولم يفضل ولي قط دهرا نبيا أو رسولا بانتحال
وقال النسفي لا يبلغ ولي درجة الأنبياء. وقال إن نبيا واحدا أفضل من جميع الأولياء فتنبه، واعلم أن الولي مهما بلغ من علو الشأن والرفعة لا ينال أدنى درجات الأنبياء، فضلا عن الرسل. قال تعالى يا أكرم الرسل قل لقومك ما أتبع فيما أقوله لكم سحرا ولا كهانة ولا اختلاقا ولا خرافات «إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ» من ربي وإني لست بساحر ولا كاهن ولا قصاص «ما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ» ٩ لكم شريعة الله كما أوحاها إلي لا أبتدع شيئا فيها من نفسي ولا أنقل لكم عن غيره شيئا أبدا، واعلم أن البدع والبديع من كل شيء المبدأ، والبدعة تطلق على ما لم يكن زمن الرسول صلّى الله عليه وسلم، وتكون حسنة إذا أجمع على حسنها المؤمنون، وسيئة إذا أجمعوا على قبحها، ولا عبرة بقول البعض في التحسين والتقبيح.
هذا، قالوا لما نزلت هذه الآية فرح المشركون وقالوا واللات والعزّى ما أمرنا وأمر محمد عند الله إلا واحدا، ولولا أنه ابتدع ما يقوله من ذاته لأخبره الذي بعثه ما يفعل، وقال الكلبي: لما ضجر أصحاب محمد من أذى المشركين قالوا له حتى متى تكون على هذه الحالة فقال ما أدري ما يفعل بي ولا بكم، وهل أترك في مكة أم أومر بالخروج إلى أرض رفعت لي بالمنام ذات نخيل وشجر.
وما أخرجه أبو داود في ناسخه من أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى في سورة الفتح ج ٣ (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) وأن الأصحاب قالوا له هنيئا لك يا نبي الله، قد علمنا ما يفعل بك، فماذا يفعل بنا؟ فأنزل الله الآية ٤٨ من الأحزاب ج ٣ وهي (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً) وقوله تعالى (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) الآية ٥ من سورة الفتح ج ٣، لا يصح لأن هذه خبر من الأخبار لا يدخلها النسخ وهي محكمة.
وهذه الآية المدنية الأولى من هذه السورة، قال تعالى «قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ» هذا القرآن الذي أتلوه عليكم منزل «مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ» أيها اليهود «وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ» في المعنى يعني التوراة والإنجيل
125
والزبور والصحف السماوية «فَآمَنَ» ذلك الشاهد وهو عبد الله بن سلام على أن القرآن من عند الله كما آمن بالتوراة بأنها من عنده «وَاسْتَكْبَرْتُمْ» عن الإيمان به أنفة وعدوانا وظلما لأنفسكم وغيركم «إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» ١٠ ويناسب هذه الآية في المعنى الآية المدنية ١٧ من سورة هود المارّة، يروى البخاري ومسلم عن سعيد بن العاص قال: ما سمعت النبي صلّى الله عليه وسلم يقول لحي يمشي على وجه الأرض إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام، قال وفيه نزلت هذه الآية.
وأخرج البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك قال: بلغ عبد الله بن سلام مقدم النبي صلّى الله عليه وسلم المدينة، وهو في أرض يخترق النخيل، فأتاه وقال إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي، ما أول أشراط الساعة، وما أول طعام يأكله أهل الجنة، ومن أي ينزع الولد إلى أبيه، ومن أي شيء ينزع الولد إلى أخواله؟ فقال صلّى الله عليه وسلم أخبرني بهن آنفا جبريل، أما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيارة كبد الحوت، وأما الشّبه في الولد فإن الرجل إذا غشي المرأة فسبقها ماؤه كان الشبه له، وإذا سبقت كان الشبه لها، قال أشهد أنك رسول الله. ثم قال يا رسول الله إن اليهود قوم بهت، إن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم عني بهتوني عندك فجاءت اليهود ودخل عبد الله ابن سلام البيت، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم أي رجل فيكم عبد الله بن سلام؟ فقالوا أعلمنا وابن أعلمنا وخيرنا وابن خيرنا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم أفرأيتم إن أسلم عبد الله، قالوا أعاذه الله من ذلك، زاد في رواية، فأعاد عليهم، فقالوا مثل ذلك، قال فخرج عبد الله إليهم، فقال أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، فقالوا شرنا وابن شرنا، ووقعوا فيه، زاد في رواية، فقال عبد الله بن سلام هذا الذي كنت أخافه يا رسول الله أن يصموني به وأنا براء مما يقولون، ولكن الشريف يخاف أن يلصق به ما يعيبه، وبهذا ثبت كذب اليهود وبهتهم.
قالوا وكان اسمه الحصين، فلما أسلم سماه رسول الله عبد الله، وفي كتب اليهود أن الحصين هذا رأى النبي صلّى الله عليه وسلم حينما قدم بصرى وصار يتردد إليه ويعلمه التوراة، حتى انهم نسبوا تأليف القرآن إليه لعنهم الله وأخزاهم ما أبهتهم، لأن هذا لم يصل
126
إلى مكة، ولم ير النبي صلّى الله عليه وسلم إلا بعد الهجرة بالمدينة، فلما رآه وصارت اليهود تقول هذا كذاب، قال لهم وجه هذا ليس بوجه كذاب، على أنه لو فرض صحة اجتماعه به في بصرى فإن ذلك الوقت كان عمره صلّى الله عليه وسلم اثنتي عشرة سنة، ولم تحدثه نفسه بنزول كتاب عليه كي يؤلفه له، ولم يدع النبوة ليركن إليه ويعلمه، ولم يبق في بصرى زمنا يستوعب تعرفه به فضلا عن تعليمه، وقد بقي حتى بلغ الأربعين من عمره، ولم يتكلم بشيء من الوحي، قاتلهم الله على إفكهم وكفرهم، وما هذا إلا حسد منهم لعبد الله على إيمانه ليس إلا وكان من أمره ما كان رضي الله عنه، ولهذا البحث صلة في الآية ٤٧ من سورة النساء في ج ٣، لأنه رضي الله عنه تأخر في إعلان إسلامه لليهود خوفا من الطعن فيه كما يشير إليه قوله (هذا الذي كنت أخافه) بالحديث المار ذكره في معرض العذر عن تأخير إسلامه، وهناك أقوال بأن الشاهد في هذه الآية موسى عليه السلام شهد على التوراة التي هي مثل القرآن بأنها منزلة من عند الله، كما شهد محمد على القرآن فآمن من آمن بموسى والتوراة واستكبرتم يا معشر قريش عن الإيمان بالقرآن ومحمد، وأن الآية نزلت في محاججة كانت بين الرسول وقومه، واستدل صاحب هذا القول بأن السورة مكية، وعبد الله بن سلام أسلم في المدينة، والأول أولى، لأن هذه الآية من المستثنيات بمقتضى الأحاديث الصحيحة المتقدمة، ومنها ما أخرجه الطبراني بسند صحيح عن عوف ابن مالك الأشجعي أنها نزلت بالمدينة في قصة عبد الله بن سلام، وروى ذلك عن محمد ابن سيرين وهو ما عليه جمهور المفسرين وابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة، وروى ذلك ابن سعيد وابن عساكر عن عكرمة.
قال تعالى «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا» من أهل مكة «لِلَّذِينَ آمَنُوا» منهم بمحمد صلّى الله عليه وسلم «لَوْ كانَ» ما جاء به محمد «خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ» هؤلاء المؤمنون به بادئ الرأي لفقرهم ومهانتهم عندنا يعنون عمارا وصهيبا وابن مسعود وأمثالهم من فقراء المسلمين، ويسكتون عن أبي بكر وأصحابه الذين آمنوا قبل هؤلاء «وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ» هؤلاء الكفرة «فَسَيَقُولُونَ» عنادا وجحودا «هذا» الذي جاء به محمد وآمن به هو وأولئك «إِفْكٌ قَدِيمٌ» ١١ كان يقوله مثله من قبله لقومه ليس بقرآن. قال
127
تعالى ردا لقولهم كيف يقولون ذلك «وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى» أنزلناه عليه كما أنزلنا هذا القرآن على محمد «إِماماً» يقتدي به قومه «وَرَحْمَةً» منا لمن آمن به وصدقه وعمل به وهو شاهد أيضا لما جاء به محمد لأن ما جاء فيه من المعاني مطابقة لما في قرآنه من التوحيد والوعد والوعيد والقصص والأخبار «وَهذا كِتابٌ» أنزلناه عليك يا محمد «مُصَدِّقٌ» لما قبله من الكتب في المعنى وخاصة فيما هو في كتاب موسى لأنه أعم من غيره بالنسبة لسائر الكتب وجعلناه «لِساناً عَرَبِيًّا» حال من فاعل مصدق وهو الضمير العائد للكتاب «لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا» منهم بلسانهم كي يفهموه ويعوه «وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ» ١٢ العاملين به «إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا» على إيمانهم وجمعوا بين التوحيد الذي هو خلاصة العلم والاستقامة في الدين التي هي منتهى العمل «فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ» مما يخافه غيرهم أن يلحقهم ما يكرهونه «وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ» ١٣ على ما فاتهم من الدنيا لأن الله عوضهم خيرا منها في دار جزائه ولا على ما يناله غيرهم مما يحبونه لأن كلا منهم راض بما أعطاه الله ويعتقد أن لا أحد أحسن منه من صنفه ولذلك فلا تحاسد عند أهل الجنة، راجع الآية ٣٠ من فصلت «أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ» ١٤ في دنياهم من الإحسان وناهيك بإحسان يكون من الملك الديان. وهذه الآية المدنية الثانية، قال تعالى «وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً» بأن يحسن إليهما ولا يسيء «حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً» حين ثقل عليها «وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً» بشدة الطلق حالة الوضع «وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ» فطامه عن الرضاع «ثَلاثُونَ شَهْراً» وذلك أن أقل مدة الحمل ستة أشهر وأكثر مدة الرضاع سنتان، فإذا وضع لأكثر من ستة نقص من مدة الرضاع مثل ما زاد على مدة أقل الحمل، فإذا كان الوضع لتسعة مثلا كان الرضاع واحدا وعشرين شهرا وهكذا، أما من يولد لتمام سنتين على قول أبي حنيفة أو لتمام أربع سنين على قول الشافعي رحمهما الله فهو نادر، وعلى كل يكون رضاعه دون السنتين، ولهذا البحث صلة في الآية ١٤ من سورة المؤمنين الآتية، «حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ» جمع لا واحد له من لفظه.
128
وقال سيبويه واحده شدة، راجع تفصيل ما فيه في الآية ١٤ من سورة القصص في ج ١، «وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً» هي نهاية تمام قوته واستوائه وغاية كمال شبابه وعقله وكماله، ولهذا جاء في الحديث أن الشيطان يمر يديه على وجه من زاد على الأربعين ولم يتب ويقول له يأبى وجه لا يفلح. وأخرج أبو الفتح الأزدي من طريق جديد عن الضحاك عن ابن عباس مرفوعا: من أتى عليه الأربعون سنة فلم يغلب خيره على شره فليتجهز إلى النار. وقيل في هذا المعنى:
إذا المرء في الأربعين ولم يكن له دون ما يهوى حياء ولا ستر
فدعه ولا تنفس عليه الذي مضى وإن جرّ أسباب الحياة له العمر
لأنه والعياذ بالله ينطبع على ما هو عليه فيصعب تبديل خلقه كما يستحيل تغير خلقه، وفي هذا المعنى أيضا يقول الآخر:
وماذا يبتغي الشعراء مني وقد جاوزت سنّ الأربعين
وقال الآخر:
أبعد شيي أبتغي الأدبا وكنت قبلا فتى مهذبا
إلا من شملته عناية الله فخصه بلطف منه بسائق ما قدر له في الأزل، لأنه قد يسبق عليه كتابه كما جاء في الحديث الصحيح المار ذكره. «قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي» ألهمني ووفقني «أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ» بالإيمان والهداية والرشد «وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ» مني بأن يكون خالصا لوجهك «وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي» بأن تكون صالحة مرضية أنتفع بها وتنتفع بي في الدنيا والآخرة «إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ» ١٥ قلبا وقالبا «أُولئِكَ» أمثال هذا القائل هم «الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا» في الدنيا من الطاعات، لأن المباحات وإن كانت حسنة إلا أنها قد تكون لا حسنة ولا قبيحة فلا يثاب عليها، ولهذا عبّر بالأحسن جل إحسانه القائل «وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ» فلا نؤاخذهم عليها وسيعدّون «فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ» في الآخرة وكان هذا الوعد بالقبول والتجاوز وإدخال الجنة لهؤلاء الشاكرين التائبين «وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ» ١٦ به في الدنيا على لسان رسلهم لا خلف فيه البتة.
129
مطلب فيما اختص به أبو بكر ورد عائشة على مروان ومعرفة الراهب:
أخرج ابن عساكر من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهم أنها نزلت في أبى بكر الصديق رضي الله عنه، وقال علي كرم الله وجهه إنها نزلت في أبي بكر حيث أسلم أبواه جميعا، ولم يجتمع لأحد من المهاجرين أنه أسلم أبواه غيره وأوصاه الله بهما، ولزمت هذه الوصية من بعده، وفي قوله كرم الله وجهه (مِنَ الْمُهاجِرِينَ) دليل على مدنية هذه الآية، إذ لم تطلق هذه الكلمة على أحد قبل الهجرة. قال ابن عباس وقد أجاب الله دعاءه فأعتق تسعة من المؤمنين كانوا يعذبون في الله منهم بلال، ولم يرد شيئا من الخير إلا أعانه الله عليه ووفقه لفعله. وقد أجاب دعاءه بإسلام أهله أيضا فاجتمع له أبواه أبو قحافة عثمان بن عمرو، وأمه أم الخير بنت صخر بن عمرو، وابنه عبد الرحمن، وحفيده أبو عتيق، وكلهم مسلمون. ولم يجتمع لأحد من الصحابة مثل هذا، وقد صحب رضي الله عنه محمدا صلّى الله عليه وسلم وهو ابن ثماني عشرة والنبي ابن عشرين سنة في تجارة إلى الشام، فنزلوا منزلا فيه سدرة، فقعد صلّى الله عليه وسلم في ظلها ومضى أبو بكر إلى راهب هناك يسأله عن الدين، فقال له الراهب من الرجل الذي في ظل السدرة؟ فقال محمد بن عبد الله ابن عبد المطلب نسبة لجده ليعلمه مقامه وقدره لأن عبد المطلب مشهور في مكة وغيرها، وكان يلقب بقاضي العرب وخطيب الحرم ليحترمه، فقال الراهب هذا والله نبي، وما استظل تحتها بعد عيسى أحد إلا هذا، وهو نبي آخر الزمان، فوقع في قلب أبي بكر اليقين والتصديق، فكان لا يفارقه في سفر ولا في حضر، وبعد أن شرفه الله بالنبوة آمن به، وهو ابن ثمان وثلاثين سنة ودعا ربه بما حكاه الله عنه في هذه الآية. وما قيل إنها نزلت في سعد بن أبي وقاص لم يثبت، وهو أهل لأن ينزل به قرآن لأنه من العشرة المبشرين بالجنة، ومن رءوس المهاجرين الأخيار وأحبهم إلى النبي المختار، والآية بلفظها عامة يدخل فيها كل من هذا شأنه ويدخل فيها أبو بكر وسعد وأمثالهما من الصحابة دخولا أوليا، وعلى القول بأنها خاصة بالصديق فيكون لفظ الإنسان بالآية من العام المخصوص، لأن لفظ الإنسان
130
لم يأت في القرآن العظيم إلا في سياق الذم، قال تعالى (قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ) الآية ١٧ من عبس (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) الآية ٦ من الإنفطار (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً) الآية ٦ من الإنشقاق (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) الآية ٢ من العصر في ج ١ وقال (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ) (وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ) من آخر الأحزاب في ج ٣، فهذه كلها في معرض الذم، فتكون الأولى في معرض المدح هنا، إذ ما عموم إلا وخص منه. قال تعالى «وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما» تضجر منهما كراهية لهما راجع الآية ٢٣ من الإسراء في ج ١، «أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ» هذه الجملة مقول القول أي أأنشر حيّا من قبري بعد بلائي «وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي» فلم يحيى منهم أحد «وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ» عليه لما سمعا كلامه الدال على إنكار البعث، وعدم الإيمان وصارا يقولان له «وَيْلَكَ» هلاكك من وبال هذا الكلام، وأصل الويل الدعاء بالثبور والهلاك، ويقوم مقام الحث على الفعل أو تركه «آمِنْ» بالله وصدق رسوله واعتقد بالحياة الآخرة بعد الموت، فقد وعد الله به رسله وأخبرونا به «إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ» واقع لا محالة، وأنه سيدخل المؤمنين الجنة والكافرين به النار البتة «فَيَقُولُ» لهما «ما هذا» الذي تدعوان إليه بأن أصدقه وأقبله «إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» ١٧ خرافاتهم الكاذبة الملعقة، وهذه الآية عامة في كل كافر دعواه والداه إلى الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر، فلم يفعل ولم يصغ لقولهما، وما زعمه مروان في الحديث الذي رواه البخاري عن يوسف بن ماهك قال:
كان مروان على الحجاز استعمله معاوية فخطب فجعل يذكر يزيد بن معاوية لكي يبايع له، فقال له عبد الرحمن بن ابي بكر رضي الله عنهما شيئا، فقال لشرطته خذوه، فدخل بيت عائشة، فلم يقدروا عليه، فقال مروان هذا الذي أنزل الله فيه (وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ) فقالت عائشة رضي الله عنها وعن أبيها من وراء الحجاب ما أنزل الله فينا شيئا من القرآن (تريد مما هو يفيد الذم) إلا ما أنزل الله في سورة النور من براءتي. ومما يؤيد قول عائشة وينفي قول مروان عليه ما يستحق من الملك الديان قوله تعالى «أُولئِكَ» العاقون الكافرون هم «الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ
131
الْقَوْلُ»
بالعذاب المقدر أزلا «فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ» ١٨ الآخرة كما خسروا الدنيا، وعبد الرحمن رضي الله عنه وعن والديه من أفاضل المؤمنين فلا يتصور دخوله في هذه الآية البتة، وإسلام أبويه قبله لا يقتضي نزول هذه الآية فيه، لأن إسلامه جب ما قبله فضلا عن أنه من أبطال المؤمنين، وله مواقف مشهورة يوم اليمامة وغيره، لهذا فلا يعقل نزول هذه الآية فيه، بل هي عامة في كل مؤمنين دعيا أولادهما للإيمان، قال تعالى «وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا» بحسب برهم وكمال إيمانهم، وللكافرين الدركات بمقتضى عقوقهم وعصيانهم، وفيه تغليب الدرجات على الدركات «وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ» يوم القيامة «وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» ١٩ فيها فلا يزاد على سيئات المسيء ولا ينقص من حسنات المحسن.
مطلب فى قوله (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ) الدنيا وكيفية إهلاك قوم عاد:
«وَ» اذكر لقومك يا محمد «يَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ» فيقال لهم على رءوس الأشهاد «أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها» فلم يبق لكم في الآخرة ما تكافأون عليه لأنكم استوفيتم حظكم في الدنيا «فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ» الذي فيه الذل والصغار والخزي والهوان «بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ» بطرا، والكبرياء من خصائص الإله فلا يحق لكم أن تتصفوا به بسبب ما خولكم من نعمه من مال وولد ورئاسة بل عليكم أن تشكروا نعمه وتتواضعوا لجلاله ليزيدكم «وَ» يجازيكم أيضا «بِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ» ٢٠ تخرجون عن طاعته وتتجاوزون حدوده وتقعون في حماه، وقد وصف الله تعالى هذا الصنف بالاستكبار وهو من عمل القلب، والفسق وهو من عمل الجوارح، وجعل عذابهم بالذل والهوان بمقابلة ذلك.
روى البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: دخلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فإذا هو متكىء على رمال حصير قد أثر في جنبه، فقلت أستأنس يا رسول الله؟ قال نعم، فجلست فرفعت رأسي في البيت فو الله ما رأيت شيئا يرد البصر إلا أهبّة ثلاث، فقلت أدع الله أن يوسع على أمتك فقد وسع على فارس
132
والروم ولا يعبدون الله، فاستوى جالسا، ثم قال أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟
أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا، فقلت استغفر لي يا رسول الله.
طلب المغفرة رضي الله عنه إذ فهم من كلام صاحبه صلّى الله عليه وسلم أن طلبه ذلك مما لا ينبغي أن يقع من مثله وظن أنه أخطأ باقتراحه ذلك، غفر الله له ورضي عنه يخاف من مثل هذا وهو مبشر بالجنة، فكيف بنا أيها الناس؟ نسألك اللهم العفو والعافية والرضاء، ولنذكر نبذة مما كان عليه حضرة الرسول لعلنا نتعظ ونقنع بما عندنا رزقنا الله القناعة بالدنيا والشفاعة بالآخرة. روى البخاري ومسلم عن عائشة قالت:
ما شبع آل محمد من خبز شعير يومين متتابعين حتى قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
ورويا عنها قالت: كان يأتي علينا الشهر ما نوقد فيه نارا إنما هو (غذاؤنا) الأسودان التمر والماء إلا أن نؤتى باللحم، أي من قبل الغير. وروى البخاري عن أبي هريرة قال:
لقد رأيت سبعين من أصحاب الصفة ما منهم رجل عليه رداء إما إزار أو كساء قد ربطوا في أعناقهم، فمنها ما يبلغ نصف الساقين، ومنها ما يبلغ الكعبين، فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته. وروى البخاري عن ابراهيم بن عبد الرحمن أن عبد الرحمن بن عوف أتي بطعام وكان صائما فقال: قتل مصعب بن عمير وهو خير مني، فكفن في برده إن غطي رأسه بدت رجلاه، وإن غطي رجلاه بدا رأسه، قال وأراه قال قتل حمزة وهو خير مني فلم يوجد ما يكفن به إلا برده، ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط، وقد خشيت أن تكون عجّلت لنا طيباتنا في حياتنا الدنيا، ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام. وأخرج الترمذي عن ابن عباس قال:
كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يبيت الليالي المتتابعة طاويا وأهله لا يجدون عشاء، وكان أكثر خبزهم خبز الشعير. وقال جابر بن عبد الله: رأى عمر بن الخطاب لحما معلقا في يدي، فقال ما هذا يا جابر. فقلت اشتهيت لحما فاشتريته، فقال أو كلما اشتهيت يا جابر اشتريت أما تخاف هذه الآية (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ) إلخ. وجاء رجل إلى عمر فرآه يأكل في قصعة وآخرين يأكلون في قصعة أخرى، فجلس معه بزعمه أن الذي أمامه أحسن فإذا هي عظام وعصب فقال ما هذا يا أمير المؤمنين؟ قال فما تظن، إنا إذا ذبحنا الجزور بعثنا بمطايبها إلى آل محمد صلّى الله عليه وسلم، والذي يليه إلى
133
المهاجرين والأنصار، والذي يليه إلى من حضر من المسلمين، وما بقي لعمر وآل عمر، على أننا أعلم بصلاء الجداء منكم، ولكن لا نريد أن يقال لنا غدا (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ) إلخ. وعليه فلا يظن أحد أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يصبر على قلة الأكل وأدونه لعدم قدرته على غيره، كلا كيف وقد خيره الله أن يجعل له جبال مكة ذهبا، ولكن هذا من باب الزهد له صلّى الله عليه وسلم ولعمر رضي الله عنه، والآية في كفار قريش لأنهم كانوا مستغرقين في لذات الدنيا معرضين عن الآخرة تاركين ما يوصل إليها من خير
ولهذا ذكرهم الله بقوله «وَاذْكُرْ» يا محمد لقومك الكافرين «أَخا عادٍ» هودا عليه السلام «إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ» جمع حقف رمل مستطيل فيه اعوجاج وانحناء يقال احقوقف الشيء أي أعوج أو كثيب الرمل المعوج، وقال ابن عباس هو واد بين عمان ومهرة، فيه ذلك الكثيب المنكسر وإلا فاللغة لا تسمي الوادي حقفا وإنما ذكرهم بهم لأنهم كانوا أكثر منهم أموالا وأولادا وقوة وجاها وقد سلط الله عليهم العذاب بكفرهم ليتعظوا بمن قبلهم لئلا يصيبهم ما أصابهم «وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ» جمع نذير بمعنى الرسل «مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ» أي قبل نبيهم وبعده قال لهم «أَلَّا تَعْبُدُوا» أحدا ولا شيئا «إِلَّا اللَّهَ» وحده المستحق للعبادة «إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ» إن عبدتم غيره «عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ» ٢١ في هوله عظيم في عذابه ترتعد له القلوب وتذل فيه الجبابرة وتقشعر له الجلود وتهان فيه الأكاسرة والقياصرة «قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا» تصرفنا بما تموه علينا من الكذب «عَنْ» عبادة «آلِهَتِنا» التي دأبنا عليها وآباؤنا من قبلنا، كلا لا نقبل منك «فَأْتِنا بِما تَعِدُنا» به من العذاب «إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» ٢٢ في قولك «قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ» وحده بوقت مجيء العذاب الذي هددتكم به لم يخبرني به «وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ» من لدنه لتعلموا أني قمت بواجبي نحركم وأديت ما أمرت به «وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ» ٢٣ أهمية عذاب الله ولا تلقوا إليه بالا، فلم يلتفتوا إلى قوله، قال تعالى «فَلَمَّا رَأَوْهُ» أي العذاب الذي وعدهم به نبيهم وقد بينه الله بقوله جل قوله «عارِضاً» في ناحية السماء «مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ» قال ابن عباس
134
أوديتهم بين عمان ومهرة، وقيل في مهرة في أراضي حضرموت باليمن، ففرحوا فرحا شديدا، لأن المطر كان حبس عنهم مدة طويلة، وكانوا أهل عمل، إلا أنهم يسيرون إلى المراعي ومواقع القطر في الربيع، فإذا هاج العود ويبس رجعوا إلى منازلهم، وهم من قبيلة إرم «قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا» لأن العارض هو السحاب يعرض في ناحية السماء ثم يطبق بآفاقها فيمطر إن شاء الله، قال الأعشى:
يا من يرى عارضا قد بت أرقبه كأنما البرق في حافاته الشعل
وقال الآخر:
يا من رأى عارضا أرقت له بين ذراعي وجبهة الأسد
قال تعالى ردا على زعمهم «بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ» من العذاب «رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ» ٢٤ لا طاقة لقوى البشر على تحمله ولا تقدر على دفعه، وهذه الجملة صفة ريح لأنه نكرة والجمل بعد النكرات صفات وبعد المعارف أحوال، وهذه الريح المشئومة «تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ» تمر به وتهب عليه «بِإِذْنِ رَبِّها» لأنها مرسلة منه بالعذاب فلا تبقي لما تمر به أثرا، فأهلكهم الله جميعا «فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ» خالية، والخطاب لكل من يتأتى منه الرؤية، أو لسيد المخاطبين خاصة، وقرىء يرى على الغيبة بالمجهول وهي المثبتة بالمصاحف «كَذلِكَ» مثل هذا الجزاء الصارم «نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ» ٢٥ قالوا إن تلك الريح كانت تحمل الفسطاط وتحمل الظعينة حتى ترى كأنها جرادة، فدخلوا بيوتهم حين رأوها وأغلقوا أبوابها، فقلعت الأبواب وصرعتهم، وأهالت عليهم الرمال سبع ليال وثمانية أيام، حتى دفنتهم وصار لهم أنين تحت الرمال، ثم كشفتها عنهم وحملتهم فرمتهم في البحر وتركت بيوتهم خالية، قالوا وإن هودا عليه السلام خط على نفسه ومن آمن به خطا فصارت تمر بهم لينة باردة معجزة له عليه السلام. روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا عصفت الريح قال اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به، وإذا تخيلت السماء (تغميت، والمخيلة السحاب الذي يظن فيه المطر) تغير لونه وخرج ودخل وأقبل وأدبر،
135
فإذا أمطرت السماء سرّي عنه (كشف وأزيل ما كان به من الغم) فعرفت ذلك عائشة فسألته فقال لعله يا عائشة كما قال قوم عاد (فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً) الآية.
وتمام القصة مبينة في الآية ٥٨ من سورة هود المارة فراجعها وما ترشدك إليه، قال تعالى «وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ» أي قوم عاد «فِيما» في شيء عظيم «إِنْ» نافية بمعنىّ ما أي ما «مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ» يا أهل مكة من قوة الأبدان وطول الأعمار وكثرة الأموال «وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً» يستعملونها فيما خلقت لها من النظر في آلاء الله ليفقهوا أمر دينه فصرفوها لغير ما خلقت لها من أمور الدنيا الصرفة «فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ» يحول دون ذلك العذاب لأنهم استعملوها في معصية الله، فكان وجودها نقمة لا نعمة «إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ» التي أظهرها على أيدي أنبيائهم «وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» ٢٦ أحاط بهم العذاب جزاء سخريتهم، وفي هذا تهديد لأهل مكة ووعيد كبير لما يجابهون به نبيهم، «وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى» بإهلاك أهلها كديار ثمود وقرى قوم لوط وحجر صالح وقرى عاد باليمن، وإنما خاطب أهل مكة بهذا لأنهم يرونها بأسفارهم وحلة الشتاء والصيف «وَصَرَّفْنَا» بينا وكررنا «الْآياتِ» الدالة على التوحيد والبعث والأوامر والنواهي «لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» ٢٧ إلى الإيمان بذلك، فلم يفعلوا وأصروا على كفرهم «فَلَوْلا» هلا «نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً» يتقربون بها إلى الله ليشفعوا لهم عنده فعبدوها من دونه. ألا عبدوا الله وحده كي ينصرهم ويخلصهم مما حل بهم «بَلْ ضَلُّوا» عن الطريق السوي فلم يتقربوا إليه وتقربوا إلى أوثانهم التي غابت «عَنْهُمْ» عند حلول العذاب بهم فلم ينتفعوا بهم «وَذلِكَ» قولهم إنها تقربهم إلى الله وتشفع لهم عنده هو «إِفْكُهُمْ» اختلاقهم الكذب «وَما كانُوا يَفْتَرُونَ» ٢٨ من البهت على الملائكة وعيسى وعزير من إسناد عبادتهم إليهم، إذ تبرءوا منهم وأنكروا عبادتهم لهم وعلمهم بهم أيضا، ولهذا فقد غشيهم العذاب ولم يجدوا من ينقذهم منه، ولو أنهم تعرفوا إلى الله وتقربوا له لنجاهم منه، ثم شرع جل شرعه
136
ببيان ما وقع لحبيبه محمد صلّى الله عليه وسلم مع الجن ليذكره لقومه، وقد مر أول سورة الجن ما يتعلق برؤيتهم وحضورهم لدى الرسول بصورة مفصلة فراجعها في ج ١.
مطلب تكليف الجن ودخولهم في رسالة محمد صلّى الله عليه وسلم وأولي العزم من الرسل:
قال تعالى «وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ» يا سيد الرسل «نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ» منك كما يستمعه الإنس لأنه صلّى الله عليه وسلم مرسل إليهم أيضا كما أوضحناه هناك «فَلَمَّا حَضَرُوهُ» أي مجلسك الذي كنت تتلوه فيه «قالُوا» بعضهم لبعض «أَنْصِتُوا» تأدبا واحتراما لسماعه وليعوا ما يأمر به وينهى عنه، فأصغوا وبقوا منصتين «فَلَمَّا قُضِيَ» فرغ من القراءة وتفاهموا مع حضرة الرسول وأجابهم لما سألوا عنه «وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ» ٢٩ لهم سوء عاقبة الطغيان ومخوفيهم من هول القيامة والوقوف لدى الملك الديان لأنهم بعد أن آمنوا به صلّى الله عليه وسلم أمرهم تبليغ قومهم ما سمعوا منه وأن يؤمنوا بالله، ولما ذهبوا إليهم «قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى» يفهم من هذا أنهم كانوا يتدينون بالتوراة ولم يذكروا عيسى لأنه عليه السلام كان يعمل بالتوراة عدا ما غيرت منها شريعته بما جاء في الإنجيل المنزل عليه وهي أجل الكتب السماوية وأجمعها بعد القرآن، ويدل على عملهم بالتوراة قوله تعالى «مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ» من الكتب السماوية الإنجيل فما قبله، لأن الذي فيها كله موجود بالقرآن، ثم وصفوه بوصف أعظم بقولهم «يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ» الذي يجب اتباعه من العقائد والأحكام «وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ» ٣٠ لا يضل متّبعه ولا يزيغ
«يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ» الذي أنزل عليه هذا الكتاب الجليل وهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الذي أرسله الله لإرشاد هذا العالم كله «وَآمِنُوا بِهِ» وصدقوه واعملوا بكتابه.
واعلم أن الإيمان داخل بالإجابة، وإنما خصوه بالذكر ثانيا لأنه الأصل وهو المقصود من الإجابة، فيكون من باب ذكر العام وعطف أشرف أنواعه عليه، فإذا فعلتم «يَغْفِرْ لَكُمْ» الله ربه وربنا وربكم ورب الكون أجمع «مِنْ ذُنُوبِكُمْ» التي اقترفتموها «وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ» ٣١ حق عليكم بسبب كفركم بالله وتعديكم على الغير. تفيد هذه الآية الكريمة أن الجن كالإنس منهم المؤمن
137
ومنهم الكافر، وأن مؤمنهم معرض للثواب وكافرهم مهيء للعقاب، وإنما عبر بمن لأن الغفران لا يعم كل الذنوب إذا لم يشأ الله ذلك، لأن منها ما هو حق خالص لله مبني على المسامحة، ومنها ما يتعلق بها حق الغير فيتوقف غفرانها على إرضاء أربابها لأنه مبني على المشاححة، فقد لا تسمح نفسه بعفوها، فالأولى تكفرها التوبة فقط، والثانية التوبة وتأدية الحقوق، والمقاصصة أو العفو، والتي فيها حق الله حق العبد فيلزم لها كلا الشرطين، راجع الآية ٢٧ من سورة الشورى المارة تعلم تفصيل هذا، على أن الله تعالى إذا أراد خيرا بأمثال هؤلاء فإنه يرضي خصومهم ويدخلهم الجنة جميعا، قال ابن عباس وابن أبي ليلى إن الجن كالإنس يثابون على الإحسان ويعاقبون على الإساءة ويدخلون الجنة والنار بسبب أعمالهم، ونراهم في الآخرة من حيث لا يروننا عكس حالتهم في الدنيا كما ذكرناه في الآية ٢٧ من سورة الأعراف في ج ١، وهذا أصح الأقوال في الجن يؤيده قوله تعالى (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ) الآية ٥٦ من سورة الرحمن في ج ٣، قال هذا حمزة بن حبيب، وقال عمر بن عبد العزيز يكونون في رحاب الجنة وربضها أي فنائها، ثم هددوا قومهم فقالوا لهم «وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ» فإنه يخذله ويأخذه أخذا قويا «فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ» لأنه في قبضة ذلك الإله العظيم الذي لا يفوته فائت ولا يهرب من جزائه هارب سواء دخل في أعماق الأرض أو طار في أقطار السماء أو غاص في أعماق البحور، ولهذا البحث صلة في الآية ٣٣ من سورة الرحمن في ج ٣ فراجعه «وَلَيْسَ لَهُ» لهذا الذي لا يجيب داعي الله من «مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ» يمنعون وصول العذاب إليه أو ينصرونه منه «أُولئِكَ» الذين لا يجيبون داعي الله الآبون عن الإيمان به «فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» ٣٢ ظاهر معرضين عن سلوك الطريق القويم. وفي هذه الآيات دلالة ظاهرة واضحة على عموم رسالته صلّى الله عليه وسلم إلى الجن، وعلى أن الجن هم رسله إلى قومهم كرسل سيدنا عيسى عليه السلام، كما أشرنا إليه في الآية ٢٨ من سورة سبأ وفيها ما يرشدك إلى الآية ١٥٨ من سورة الصافات والآية ١٢٨ من سورة الأنعام المارات فيما يتعلق بهذا وغيره فراجعها تجد ما تريده إن شاء الله. أخرج الطبراني في الأوسط وابن مردويه عن الحبر أنه قال:
138
صرفت الجن إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم مرتين. وقد نقلنا في القصة على ما ذكره الخفاجي أن الأحاديث دلت على أن وفادة الجن كانت ستة مرات، وبذلك يجمع بين الاختلاف الوارد في الروايات بأن كان عددهم سبعة، وقيل تسعة، وقيل اثنى عشر، وقيل ثلاثمائة، وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة أنهم اثنا عشر ألفا، وعن مجاهد أنهم واحد وأربعون، وهذا الاختلاف في العدد أيضا يدل على أن لقاءهم بحضرة الرسول كان ست مرات وكل راو روى عددا مما ذكر، وكما وقع الاختلاف في الوفادة والعدد والمكان وقع الاختلاف في الزمن، وقدمنا أيضا ما يتعلق فيه أول سورة الجن، وإلى هنا انتهى ما يتعلق بالجن، أما تاريخه فقد أخرج أبو نعيم في الدلائل والواقدي عن أبي جعفر قال: قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلم الجن في ربيع الأول سنة إحدى عشرة من النبوة أي كان أول اجتماعهم به. هذا والله أعلم.
قال تعالى «أَوَلَمْ يَرَوْا» قومك يا محمد «أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ» يعجز ويتعب أو يتحيّر وحاشاه من هذا كله «بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى» مرة ثانية كما خلقهم أول مرة قل يا أكرم الرسل «بَلى» هو قادر على ذلك وهو أهون عليه، لأن الإبداع وهو اختراع ما لم يكن أعظم من الإعادة لأن لها مثالا وهو على غير مثال «إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» ٣٣ وإحياء الموتى شيء مقدور لله، فينتج إحياء الموتى مقدور لله، وذلك أن قوله (عَلى كُلِّ شَيْءٍ) تشير إلى كبرى لصغرى سهلة الحصول كما ذكرنا، ويلزم منها أنه تعالى قادر على إحياء الموتى كما أنشأهم أول مرة. واعلم أن ما قرأه بعضهم بدل قدير (يقدر) لا يلتفت إليه ولا تجوز هذه القراءة كما مر في الآية ٥٨ من سورة الأنعام، ولبحث القراءة صلة في الآية ١١ من سورة الحج في ج ٣.
قال تعالى «وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا» من منكري البعث وغيرهم «عَلَى النَّارِ» يوم القيامة يقال لهم «أَلَيْسَ هذا» الذي تشاهدونه من الإحياء بعد الموت والعذاب الذي أوعدكم به الرسل في الدنيا «بِالْحَقِّ» والصدق كما أخبروكم به «قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ» تعالى «فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ» ٣٤ بذلك وتجحدونه. وهذه الآية الثالثة المدنية كما قال صاحب البحر
139
عن ابن عباس وقتادة رضي الله عنهم وقد التفت بها جل جلاله إلى رسوله صلّى الله عليه وسلم يسليه بها عما هاجمه به قومه فقال عز قوله «فَاصْبِرْ» يا أكرم الرسل «كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ» ذوو الثبات والجد والحزم «مِنَ الرُّسُلِ» قبلك وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام وهو خاتمهم، راجع الآية ١٣ من سورة الشورى المارة والآية ٧ من سورة الأحزاب في ج ٣، وهذا أصح الأقوال في عددهم، وقال بعض العلماء إن الرسل كلهم أولوا عزم، لأنهم امتحنوا وصبروا عدا من استثنى الله بقوله في حق آدم (وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) الآية ١١٥ من سورة طه. وفي حق يونس بقوله (وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ) الآية ٤٨ من سورة القلم المارتين في ج ١، وقال آخرون هم الثمانية المذكورون في الآيتين ٨٥/ ٨٦ من سورة الأنعام المارة، وعلله بقوله (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) الآية ٩٧ منها وقال غيرهم أنهم تسعة: نوح لصبره زمنا طويلا على أمته، وإبراهيم لصبره على الإلقاء بالنار، وإسماعيل لصبره وتسليم نفسه للذبح، ويعقوب على فقد ولده، ويوسف على البئر والسجن والمرأة، وأيوب على البلاء العظيم الذي ابتلي به، وموسى على قومه، وداود لبكائه على خطيئته أربعين سنة، وعيسى على الزهد في الدنيا، وهذا القول ضعيف لعدم ذكره خاتم الرسل الذي امتحن بأكثر منهم وصبر على أذى قومه مع قدرته عليهم بتقدير الله إياه على الانتقام منهم، والقول الأول هو الصحيح، وقد نظمهم بعض الأجلة بقوله:
أولو العزم نوح والخليل الممجد وعيسى وموسى والحبيب محمد
أي اصبر يا محمد على دعوة الحق ومكابدة الشدائد كما صبر إخوانك الرسل من قبلك «وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ» نزول العذاب الذي وعدناك به ليؤمن مؤمنهم ويصر كافرهم وأنهم مهما مكثوا في هذه الدنيا لا يعد شيئا بالنسبة لطول الآخرة «كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ» من العذاب وأهوال القيامة «لَمْ يَلْبَثُوا» في الدنيا «إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ» لأنهم يستقصرون مدة لبثهم في الدنيا لما يرون من أهوال القيامة وطولها حتى يظنونه ساعة واحدة. واعلم يا سيد الرسل أن هذا القرآن الموحى إليك وما فيه من الآيات البينات «بَلاغٌ» كاف من الموعظة وان
140
Icon