تفسير سورة الرحمن

التفسير الوسيط لطنطاوي
تفسير سورة سورة الرحمن من كتاب التفسير الوسيط المعروف بـالتفسير الوسيط لطنطاوي .
لمؤلفه محمد سيد طنطاوي . المتوفي سنة 1431 هـ
تفسير سورة الرحمن

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة وتمهيد
١- سورة " الرحمن " سميت بهذا الاسم، لافتتاحها بهذا الاسم الجليل من أسماء الله –تعالى-.
وقد وردت تسميتها بهذا الاسم في الحديث الذي أخرجه الإمام الترمذي عن جابر بن عبد الله قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه فقرأ عليهم سورة " الرحمن " من أولها إلى آخرها، فسكتوا، فقال صلى الله عليه وسلم : " لقد قرأتها على الجن، فكانوا أحسن مردودا منكم كنتم كلما أتيت على قوله –تعالى- :[ فبأي آلاء ربكما تكذبان ] قالوا : ولا بشيء من نعمك يا ربنا تكذب فلك الحمد ]( ١ ).
وسميت في حديث مرفوع أخرجه البيهقي عن علي بن أبي طالب –رضي الله عنه- " عروس القرآن "
وقد ذكروا في سبب نزولها، أن المشركين عندما قالوا :[ وما الرحمن ] نزلت هذه السورة لترد عليهم، ولتثنى على الله –تعالى- بما هو أهله.
٢- وهي مكية في قول جمهور الصحابة والتابعين، وروى عن ابن مسعود وابن عباس أنها مدنية، وقيل هي مكية إلا قوله –تعالى- :[ يسأله من في السموات والأرض... ].
قال القرطبي : والقول الأول أصح، لما روى عن عروة بن الزبير قال : أول من جهر بالقرآن بمكة بعد النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن مسعود.
وذلك أن الصحابة قالوا : ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر به قط، فمن رجل يسمعهم إياه ؟
فقال ابن مسعود : أنا، فقالوا : نخشى عليك، إنما نريد رجلا له عشيرة يمنعونه، فأبى، ثم قام عند المقام فقال : بسم الله الرحمن الرحيم. [ الرحمن، علم القرآن... ] ثم تمادى رافعا بها صوته وقريش في أنديتها، فتأملوا وقالوا : ما يقول ابن أم عبد ؟
قالوا : هو يقول الذي يزعم محمد أنه أنزل عليه، ثم ضربوه حتى أثروا في وجهه.. وفي هذا دليل على أنها مكية.. ( ٢ ).
والحق أن ما ذهب إليه الإمام القرطبي من كون سورة الرحمن مكية، هو ما تطمئن إليه النفس، لأن السورة من أولها إلى آخرها فيها سمات القرآن المكي، الذي يغلب عليه الحديث المفصل عن الأدلة على وحدانية الله وقدرته وعظم نعمه على خلقه، والمقارنة بين حسن عاقبة الأخيار، وسوء عاقبة الأشرار..
٣- وعدد آياتها ثمان وسبعون آية في المصحف الحجازي، وست وسبعون في المصحف البصري.
٤- وتبدأ السورة الكريمة بالثناء على الله –تعالى-، ثم بالثناء على القرآن الكريم، ثم ببيان جانب من مظاهر قدرة الله –تعالى-، ومن جميل صنعه، وبديع فعله.. قال –تعالى- :[ الرحمن علم القرآن. خلق الإنسان. علمه البيان. الشمس والقمر بحسبان. والنجم والشجر يسجدان. والسماء رفعها ووضع الميزان. أن لا تطغوا في الميزان ].
٥- وبعد أن ساق –سبحانه- ما ساق من ألوان النعم، أتبع ذلك ببيان أن كل من على ظهر هذه الأرض مصيره إلى الفناء، وأن الباقي هو وجه الله –تعالى- وحده... وببيان أهوال القيامة، وسوء عاقبة المكذبين وحسن عاقبة المؤمنين..
قال –تعالى- :[ يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام ].
[ ولمن خاف مقام ربه جنتان، فبأي آلاء ربكما تكذبان. ذواتا أفنان ].
٦- ثم وصفت ما أعده الله –تعالى- للمتقين وصفا يشرح الصدور، ويقر العيون، فقد أعد –سبحانه- لهم بفضله وكرمه الحور العين، والفرش التي بطائنها من إستبرق.
قال –تعالى- :[ حور مقصورات في الخيام. فبأي آلاء ربكما تكذبان. لم يطمثهن إنس ولا جان. فبأي آلاء ربكما تكذبان. متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان. فبأي آلاء ربكما تكذبان. تبارك اسم ربك ذو الجلال والإكرام ].
وهكذا نرى السورة الكريمة تطوف بنا في آفاق هذا الكون، فتحكي لنا من بين ما تحكي –جانبا من مظاهر قدرة الله –تعالى- ونعمه على خلقه- وتقول في أعقاب كل نعمة [ فبأي آلاء ربكما تكذبان ]، وتتكرر هذه الآية فيها إحدى وثلاثين مرة، لتذكير الجن والإنس بهذه النعم كي يشكروا الله –تعالى- عليها شكرا جزيلا.
نسأل الله –تعالى- أن يجعلنا جميعا من عباده الشاكرين عند الرخاء، الصابرين عند البلاء.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
قطر – الدوحة
مساء الأربعاء ٢ من رجب ١٤٠٦ ه
١٢/٣/١٩٨٦ م
كتبه الراجي عفو ربه
د. محمد سيد طنطاوي
١ - تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٢٦٩..
٢ - تفسير القرطبي ج ١٧ ص ١٥١..

التفسير قال الله- تعالى-:
[سورة الرحمن (٥٥) : الآيات ١ الى ١٣]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الرَّحْمنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (٢) خَلَقَ الْإِنْسانَ (٣) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (٤)
الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (٥) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (٦) وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (٧) أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (٨) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (٩)
وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (١٠) فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (١١) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (١٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٣)
افتتحت السورة الكريمة بهذا الاسم الجليل لله- عز وجل- وهو لفظ مشتق من الرحمة، وصيغته الدالة على المبالغة، تنبه إلى عظم هذه الرحمة وسعتها.
وهذا اللفظ مبتدأ، وما بعده أخبار له.
ثم بين- سبحانه- مظاهر قدرته ومنته على عباده بأجل النعم وأعظمها شأنا، فقال:
عَلَّمَ الْقُرْآنَ والقرآن هو أعظم وحى أنزله- سبحانه- على أنبيائه ورسله.
أى: علم نبيه ﷺ القرآن الذي هو أعظم النعم شأنا وأرفعها مكانا، إذ باتباع توجيهاته وإرشاداته، يظفر الإنسان بالسعادة الدنيوية والأخروية.
ولفظ الْقُرْآنَ هو المفعول الثاني لعلم، والمفعول الأول محذوف.
وهذه الآية الكريمة تتضمن الرد على المشركين الذين زعموا أن هذا القرآن قد تعلمه
128
الرسول ﷺ من البشر، كما حكى- سبحانه- عنهم في قوله: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ... «١».
وفي قوله: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ... «٢».
كما تتضمن الرد عليهم لزعمهم أنهم لا يعرفون الرحمن، كما في قوله- تعالى-: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ... «٣».
وقوله- تعالى-: خَلَقَ الْإِنْسانَ. عَلَّمَهُ الْبَيانَ بيان لنعمتين أخريين من نعمه- سبحانه-. والمراد بالإنسان: جنسه، والمراد بالبيان: الفهم والنطق والإفصاح عما يريد الإفصاح عنه بالكلام الذي أداته اللسان.
أى خلق- سبحانه- بقدرته الإنسان على أجمل صورة، وأحسن تقويم، ومكنه من الإفصاح عما في نفسه عن طريق المنطق السليم، والقول الواضح، كما مكنه من فهم كلام غيره له، فتميز بذلك عن الأجناس الأخرى، وصار أهلا لحمل الأمانة التي عجزت عن حملها السموات والأرض والجبال، وأصبح مستعدا لتلقى العلوم والخلافة في الأرض..
ورحم الله- تعالى- صاحب الكشاف، فقد صور هذه المعاني بأسلوبه الرصين فقال:
عدد الله- عز وجل- آلاءه فقدم ما هو أسبق قدما من ضروب آلائه، وأصناف نعمائه، وهي نعمة الدين، وقدم من نعمة الدين ما هو في أعلى مراتبها، وأقصى مراقيها، وهو إنعامه بالقرآن وتنزيله وتعليمه، لأنه أعظم وحى الله رتبة، وأعلاه منزلة. وأحسنه في أبواب الدين أثرا، وهو سنام الكتب السماوية، ومصداقها، والعيار عليها.
وأخر ذكر خلق الإنسان عن ذكره، ثم أتبعه إياه، ليعلم أنه إنما خلقه للدين، وليحيط علما بوحيه، وكتبه، وما خلق الإنسان من أجله.. ثم ذكر ما تميز به الإنسان عن سائر الحيوان من البيان، وهو المنطق الفصيح المعرب عما في الضمير..
ولفظ الرَّحْمنُ مبتدأ، وهذه الأفعال مع ضمائرها أخبار مترادفة، وإخلاؤها من العاطف، لمجيئها على نمط التعديد، كما تقول: زيد أغناك بعد فقر، أعزك بعد ذل، كثرك بعد قلة.. فما تنكر من إحسانه.. «٤».
(١) سورة النحل الآية ١٠٣.
(٢) سورة الفرقان الآية ٤.
(٣) سورة الفرقان الآية ٦٠. [.....]
(٤) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٤٣.
129
وقوله- تعالى-: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ بيان لنعمة رابعة من نعمه- تعالى- التي لا تحصى.
والحسبان: مصدر زيدت فيه الألف والنون، والمراد بحساب دقيق، وتقدير حكيم، والجار والمجرور متعلق بمحذوف.. أى: الشمس والقمر يجريان في هذا الكون، بحساب دقيق في بروجهما ومنازلهما، بحيث لا يشوب جريهما اختلال أو اضطراب، وبذلك يعرف الناس السنين والشهور والأيام، ويعرفون أشهر الحج والصوم، وغير ذلك من شئون الحياة...
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى-: لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ، وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ، وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ «١».
ثم قال- تعالى-: وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ والمراد بالنجم هنا- عند بعضهم- النبات الذي لا ساق له، وسمى بذلك. لأنه ينجم- أى يظهر من الأرض- بدون ساق.
ويرى آخرون: أن المراد به نجوم السماء، فهو اسم جنس لكل ما يظهر في السماء من نجوم. ويؤيد هذا الرأى قوله- تعالى-: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ، وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ، وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ... «٢».
والشجر: هو النبات الذي له ساق وارتفاع عن وجه الأرض.
والمراد بسجودهما: انقيادهما وخضوعهما لله- تعالى- كانقياد الساجد لخالقه..
قال ابن كثير: قال ابن جرير: اختلف المفسرون في معنى قوله: وَالنَّجْمُ بعد إجماعهم على أن الشجر ما قام على ساق، فعن ابن عباس قال: النجم: ما انبسط على وجه الأرض من النبات. وكذا قال هذا القول سعيد بن جبير، والسدى، وسفيان الثوري، وقد اختاره ابن جرير..
وقال مجاهد: النجم- المراد به هنا- الذي يكون في السماء، وكذا قال الحسن وقتادة، وهذا القول هو الأظهر... «٣».
وقوله- تعالى-: وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ... أى: والسماء أوجدها بقدرته مرفوعة بدون أعمدة، وأنتم ترون ذلك بأعينكم.
(١) سورة يس الآية ٤٠.
(٢) سورة الحج الآية ١٨.
(٣) تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٢٧٠.
130
فالمقصود بقوله رَفَعَها لفت الأنظار إلى مظاهر قدرته- تعالى-، وإلى وجوب شكره وإخلاص العبادة له، والتزام طاعته..
والميزان: يطلق على الآلة التي يزن الناس بها ما يريدون وزنه من الأشياء المختلفة.
والمراد به هنا: وجوب التزام العدل في الأحكام، وشاع إطلاق الميزان على العدل في الأحكام، لأن كليهما تضبط به الأحكام، وتنال الحقوق. أى: والسماء خلقها مرفوعة ابتداء، وشرع وأثبت العدل وأمر باتباعه في الأقوال والأحكام، ليستقيم أمر الناس.
قال الآلوسى ما ملخصه: قوله: وَوَضَعَ الْمِيزانَ أى: شرع العدل وأمر به، لينتظم أمر العالم ويستقيم، كما قال صلى الله عليه وسلم: «بالعدل قامت السموات والأرض» أى: بقيتا على أتقن نظام.. وتفسير الميزان بالعدل، هو المروي عن مجاهد، والطبري، والأكثرين، وهو مستعار للعدل استعارة تصريحية.
وعن ابن عباس والحسن وقتادة، أن المراد بالميزان ما تعرف به مقادير الأشياء، وهو الآلة المسماة بهذا الاسم.. أى: أوجده في الأرض ليضبط الناس معاملاتهم في أخذهم وعطائهم.. «١».
وجملة: أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ بمنزلة التعليل لما قبلها. أى: شرع العدل بين الناس، وأوجب عليهم التمسك به في كل شئونهم، لئلا يتجاوزوه إلى غيره من الجور والظلم. والطغيان: هو تجاوز الحدود المشروعة في كل شيء.
ثم أكد- سبحانه- هذا المعنى وهو التزام العدل تأكيدا صريحا فقال: وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ، وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ.
وقوله: وَأَقِيمُوا من الإقامة، والمراد به الإتيان بالشيء على أكمل صورة، ومنه قوله- تعالى-: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ... أى: أدوها كاملة الأركان والسنن والخشوع.
والقسط: العدل، يقال: أقسط فلان في حكمه، إذا عدل، والباء للمصاحبة.
وقوله: وَلا تُخْسِرُوا من الإخسار بمعنى النقص والبخس والجور.
والمعنى: شرع الله العدل، ونهاكم عن تجاوزه، وأمركم أن تقيموا حياتكم عليه في أوزانكم التي تتعاملون بها فيما بينكم، وفي كل أحوالكم، فاحذروا أن تخالفوا أمره...
(١) تفسير الآلوسى ج ٢٧ ص ١٠١.
131
وكرر- سبحانه- لفظ «الميزان» للتنبيه على شدة عناية الله- تعالى- بإقامة العدل بين الناس في معاملاتهم، وفي سائر شئونهم، إذ بدونه لا يستقيم لهم حال، ولا يصلح لهم بال، ولا يستقر لهم قرار...
ثم انتقلت السورة الكريمة، إلى بيان جانب من مظاهر نعمه الأرضية، فقال- تعالى-:
وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ.
والمراد بالأنام: الخلائق المختلفون في ألوانهم وأشكالهم وألسنتهم، والذين يعيشون في شتى أقطارها وفجاجها... وهو اسم جمع لا واحد له من لفظه.
أى: والأرض «وضعها» أى: أوجدها موضوعة على هذا النظام البديع، من أجل منفعة الناس جميعا، لأن إيجادها على تلك الصورة الممهدة المفروشة.. جعلهم ينتفعون بما فيها من كنوز وخيرات، ويتقلبون عليها من مكان إلى آخر.. وصدق الله إذ يقول: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً...
وقوله- سبحانه-: فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ. وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ، بيان لبعض ما اشتملت عليه هذه الأرض من خيرات.
والفاكهة: اسم لما يأكله الإنسان من ثمار على سبيل التفكه والتلذذ، لا على سبيل القوت الدائم، مأخوذة من قولهم فكه فلان- كفرح- إذا تلذذت نفسه بالشيء.. والأكمام: جمع كمّ- بكسر الكاف-، وهو الطلع قبل أن تخرج منه الثمار.
وقوله: ذُو الْعَصْفِ أى: ذو القشر الذي يكون على الحب، وسمى بذلك لأن الرياح تعصف به. أى: تطيره لخفته، أو المراد به الورق بعد أن ييبس ومنه قوله- تعالى-: فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ.
والريحان: هو النبات ذو الرائحة الطيبة، وقيل هو الرزق.
أى: في هذه الأرض التي تعيشون عليها أوجد الله- تعالى- الفاكهة التي تتلذذون بأكلها، وأوجد لكم النخيل ذات الأوعية التي يكون فيها الثمر..
وأوجد لكم الحب، الذي تحيط به قشوره، كما ترون ذلك بأعينكم، في سنابل القمح والشعير وغيرهما.
وأوجد لكم النبات الذي يمتاز بالرائحة الطيبة التي تبهج النفوس وتشرح الصدور، فأنت ترى أنه- تعالى- قد ذكر في هذه الآيات ألوانا من النعم، فقد أوجد في الأرض الفاكهة للتلذذ، وأوجد الحب للغذاء، وأوجد النباتات ذات الرائحة الطيبة.
132
قال القرطبي ما ملخصه: وقراءة العامة وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ بالرفع فيها كلها، عطفا على «فاكهة» أى: فيها فاكهة وفيها الحب ذو العصف، وفيها الريحان..
وقرأ ابن عامر بالنصب فيها كلها عطفا على الأرض، أو بإضمار فعل، أى: وخلق الحبّ ذا العصف والريحان. أى: وخلق الريحان.
وقرأ حمزة والكسائي بجر الرَّيْحانُ عطفا على العصف. أى: فيها الحب ذو العصف والريحان، ولا يمتنع ذلك على قول من جعل الريحان بمعنى الرزق، فيكون كأنه قال: والحب ذو الرزق، لأن العصف رزق للبهائم، والريحان رزق للناس.. «١».
ثم ختم- سبحانه- هذه النعم بقوله: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ.
والفاء للتفريع على النعم المتعددة التي سبق ذكرها، والاستفهام للتعجيب ممن يكذب بهذه النعم، والآلاء: جمع إلى- بكسر الهمزة وفتحها وسكون اللام- وهي النعمة، والخطاب للمكلفين من الجن والإنس، وقيل لأفراد الإنس مؤمنهم وكافرهم، أى: فبأى واحدة من هذه النعم تكذبان ربكما، أى: تجحدان فضله ومننه- يا معشر الجن والإنس- مع أن كل نعمة من هذه النعم تستحق منكم الطاعة لي، والخضوع لعزتى والإخلاص في عبادتي.
قال الجمل ما ملخصه: كررت هذه الآية هنا إحدى وثلاثين مرة تقريرا للنعمة، وتأكيدا للتذكير بها، وذلك كقول الرجل لمن أحسن إليه، وهو ينكر هذا الإحسان: ألم تكن فقيرا فأغنيتك، أفتنكر هذا؟ ألم تكن عريانا فكسوتك، أفتنكر هذا... ؟
ومثل هذا الكلام شائع في كلام العرب، وذلك أن الله- تعالى- عدد على عباده نعمه، ثم خاطبهم بقوله: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ.
وقد كرر- سبحانه- هذه الآية ثماني مرات، عقب آيات فيها تعداد عجائب خلقه، ومبدأ هذا الخلق ونهايته، ثم كررها سبع مرات عقب آيات فيها ذكر النار وشدائدها بعدد أبواب جهنم.. ثم كررها- أيضا- ثماني مرات في وصف الجنتين وأهلهما، بعدد أبواب الجنة، وكررها كذلك ثماني مرات في الجنتين اللتين هما دون الجنتين السابقتين، فمن اعتقد الثمانية الأولى، وعمل بموجبها، استحق هاتين الثمانيتين من الله- تعالى-، ووقاه السبعة السابقة بفضله وكرمه.. «٢».
(١) تفسير القرطبي ج ١٧ ص ١٥٧.
(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٤ ص ٢٥٤.
133
ثم انتقلت السورة الكريمة الى الحديث عن نعمة خلق الإنسان، وعن مظاهر قدرته في هذا الكون، فقال- تعالى-:
[سورة الرحمن (٥٥) : الآيات ١٤ الى ٢٥]
خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (١٤) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (١٥) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٦) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (١٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٨)
مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (١٩) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (٢٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢١) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (٢٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٣)
وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٢٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٥)
والصلصال- الطين اليابس الذي تسمع له صوتا وصلصلة إذا قرع بشيء.
والفخار: الخزف المجوف الذي صار كذلك بعد أن أدخل في النار.
ولا تعارض بين هذه الآية، وبين غيرها من الآيات التي تحكى أن الإنسان خلق من تراب أو من طين أو من صلصال من حمأ مسنون.
لأن كل آية تتحدث عن مرحلة من مراحل خلق الإنسان، لأن هذا التراب صار طينا، ثم خمر هذا الطين فصار حمأ مسنونا، أى: طينا أسود متغير الرائحة، ثم يبس هذا الطين فصار صلصالا كالفخار.
فالآيات الكريمة التي تحدثت عن خلق الإنسان لا يصادم بعضها بعضا، وإنما يؤيد بعضها بعضا.
قال بعض العلماء: وقد أثبت العلم الحديث أن جسم الإنسان يحتوي من العناصر ما تحتويه الأرض، فهو يتكون من الكربون، والأكسجين، والحديد...
134
وهذه نفسها هي العناصر المكونة للتراب، وإن اختلفت نسبها من إنسان إلى آخر، وفي الإنسان عن التراب، إلا أن أصنافها واحدة.
إلا أن هذا الذي أثبته العلم لا يجوز أن يؤخذ على أنه التفسير الحتمي للنص القرآنى.
فقد تكون الحقيقة القرآنية تعنى هذا الذي أثبته العلم، أو تعنى شيئا آخر سواه، وتقصد إلى صورة أخرى من الصور الكثيرة التي يتحقق بها معنى خلق الإنسان من تراب، أو من طين، أو من صلصال...
والذي ننبه إليه بشدة، هو ضرورة عدم قصر النص القرآنى على كشف علمي بشرى، قابل للخطأ والصواب، وقابل للتعديل والتبديل، كلما اتسعت معارف الإنسان، وكثرت وتحسنت وسائله للمعرفة «١».
والمعنى: خلق- سبحانه- بقدرته أباكم آدم الذي هو أصلكم، وعنه تفرع جنسكم من طين يابس يشبه الفخار في يبوسته وصلابته.
وَخَلَقَ- سبحانه- الْجَانَّ أى: جنس الجن مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ أى:
من لهب خالص لا دخان فيه، أو مما اختلط بعضه ببعض من اللهب الأحمر وغير الأحمر، إذ المارج، هو المختلط، وهو اسم فاعل بمعنى اسم المفعول مثل دافق، أى: خلق جنس الجان من خليط من لهب النار. ومن في قوله مِنْ نارٍ للبيان.
قال ابن كثير: يذكر الله- تعالى- خلقه الإنسان من صلصال كالفخار، وخلقه الجان من مارج من نار، وهو طرف لهبها قاله الضحاك، وعن ابن عباس: من مارج من نار، أى: من لهب النار..
وروى مسلم عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار. وخلق آدم مما وصف لكم» «٢».
والمقصود بالآيتين تذكير بنى آدم بفضلهم على غيرهم، حيث بين- سبحانه- لهم مبدأ خلقهم، وأنهم قد خلقوا من عنصر غير الذي خلق منه الجن، وأن الله- تعالى- قد أمر إبليس المخلوق من النار، بالسجود لأبيهم آدم المخلوق من الطين، فعليهم أن يشكروا الله- تعالى- على هذه النعمة، وأن يحذروا وسوسة إبليس وجنوده.
وبعد أن أمر بشكر هذه النعم، أتبع ذلك ببيان مظهر آخر من مظاهر قدرته، فقال:
(١) راجع في ظلال القرآن ج ٢٧ ص ٣٥٤١.
(٢) تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٢٧١.
135
رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ، وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ.
أى: هو- سبحانه- رب مشرق الشمس في الشتاء والصيف، ورب مغربها فيهما، وفي هذا التدبير المحكم منافع عظمى للإنسان والحيوان والنبات.
ولا تعارض بين هذه الآية، وبين قوله- تعالى- في آية أخرى: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ... «١». لأن المراد بهما جنسهما، فهما صادقان على كل مشرق من مشارق الشمس التي هي ثلاثمائة وستون مشرقا، وعلى كل مغرب من مغاربها التي هي كذلك.
أو بين قوله- تعالى- في آية ثالثة: رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ «٢». أى: ورب جميع المشارق التي تشرق منها الشمس في كل يوم على مدار العام إذ لها في كل يوم مشرق معين تشرق منه، ولها في كل يوم أيضا- مغرب تغرب فيه.
ثم قال- سبحانه-: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ. بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ. يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ.
وقوله: مَرَجَ من المرّج بمعنى الإرسال والتخلية، ومنه قولهم: مرج فلان دابته. إذا أرسلها إلى المرج، وهو المكان الذي ترعى فيه الدواب.
ويصح أن يكون من المرج بمعنى الخلط، ومنه قوله- تعالى-: فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ أى: مختلط، وقيل للمرعى: مرج لاختلاط الدواب فيه بعضها ببعض.
والمراد بالبحرين: البحر العذب، والبحر الملح. والبرزخ: الحاجز الذي يحجز بينهما، بقدرة الله- تعالى-.
والمعنى: خلق الله- تعالى- البحرين، وأرسلهما بقدرته في مجاريهما، بحيث يلتقيان ويتصل أحدهما بالآخر، ومع ذلك لم يختلطا، بل يبقى المالح على ملوحته. والعذب على عذوبته، لأن حكمة الله قد اقتضت أن يفصل بينهما، بحواجز من أجرام الأرض، أو بخواص في كل منهما، تمنعهما هذه الخواص وتلك الحواجز، من أن يختلطا، ولولا ذلك لاختلطا وامتزجا، وهذا من أكبر الأدلة على قدرة الله- تعالى-، ورحمته بعباده، إذ أبقى الله- تعالى- المالح على ملوحته، والعذب على عذوبته، لينتفع الناس بكل منهما في مجال الانتفاع به...
(١) سورة المزمل الآية ٩.
(٢) سورة الصافات الآية ٥.
136
فالماء العذب ينتفع به في الشراب للناس والدواب والنبات.. والماء الملح ينتفع به في أشياء أخرى، كاستخراج الملح منه، وفي غير ذلك من المنافع..
ومن بديع صنع الله في هذا الكون، أنك تشاهد البحار الهائلة على سطح الأرض، والأنهار الكثيرة، ومع ذلك فكل نوع منهما باق على خصائصه، مع أن كلا منهما قد يلتقى بالآخر.
قال بعض العلماء: والمقصود بالبحرين ما يعرفه العرب من هذين النوعين وهما نهر الفرات. وبحر العجم، المسمى اليوم بالخليج الفارسي. والتقاؤهما: انصباب ماء الفرات في الخليج الفارسي، في شاطئ البصرة، والبلاد التي على الشاطئ العربي من الخليج الفارسي تعرف عند العرب ببلاد البحرين لذلك.
والمراد بالبرزخ بينهما: الفاصل بين الماءين: الحلو والملح بحيث لا يغير أحد البحرين طعم الآخر بجواره وذلك بسبب ما في كل منهما من خصائص تدفع عنه اختلاط الآخر به وهذا من مسائل الثقل النوعي.
وذكر البرزخ تشبيه بليغ، أى: بينهما مثل البرزخ، ومعنى لا يبغيان: أى لا يبغى أحدهما على الآخر، أى: لا يغلب عليه فيفسد طعمه، فاستعير لهذه الغلبة لفظ البغي.. «١».
وقال صاحب الظلال- رحمه الله-: والبحران المشار إليهما هما البحر المالح، والبحر العذب، ويشمل الأول البحار والمحيطات، ويشمل الثاني الأنهار. ومرج البحرين: أرسلهما وتركهما يلتقيان. ولكنهما لا يبغيان، ولا يتجاوز كل منهما حده المقدر، ووظيفته المقسومة، وبينهما برزخ من طبيعتهما من صنع الله- تعالى-.
وتصب جميع الأنهار- تقريبا- في البحار، وهي التي تنقل إليها أملاح الأرض، فلا تغير طبيعة البحار ولا تبغى عليها، ومستوى سطوح الأنهار أعلى- في العادة- من مستوى سطح البحر، ومن ثم لا يبغى البحر على الأنهار التي تصب فيه. ولا يغمر مجاريها بمائه الملح..
وبينهما دائما هذا البرزخ من صنع الله، فلا يبغيان.
فلا عجب أن يذكر- سبحانه- البحرين، وما بينهما من برزخ، في مجال الآلاء والنعم.. «٢».
ثم يذكر- سبحانه- بعض نعمه المختبئة في البحرين فيقول: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ.
(١) تفسير التحرير والتنوير ج ٢٧ ص ٢٤٦ للشيخ محمد الطاهر بن عاشور.
(٢) راجع في ظلال القرآن ج ٢٧ ص ٣٤٥٢.
137
واللُّؤْلُؤُ- في أصله- حيوان، وهو أعجب ما في البحار، فهو يهبط إلى الأعماق، وهو داخل صدفة جيرية تقيه من الأخطار.. ويفرز مادة لزجة تتجمد مكونة «اللؤلؤ».
والمرجان- أيضا- حيوان يعيش في البحار... ويكون جزرا مرجانية ذات ألوان مختلفة:
صفراء برتقالية، أو حمراء قرنفلية، أو زرقاء زمردية «١».
ومن اللؤلؤ والمرجان تتخذ الحلي الغالية الثمن، العالية القيمة، التي تتحلى بها النساء..
والآية الكريمة صريحة في أن اللؤلؤ والمرجان يخرجان من البحرين- الملح والعذب- إلا أن كثيرا من المفسرين ساروا على أنه- أى: اللؤلؤ والمرجان- يخرج من أحدهما فحسب، وهو البحر الملح..
قال الآلوسى ما ملخصه: واللؤلؤ صغار الدر، والمرجان كباره.. وقيل: العكس..
والمشاهد أن خروج «اللؤلؤ والمرجان» من أحدهما وهو الملح.. لكن لما التقيا وصارا كالشىء الواحد جاز أن يقال: يخرجان منهما، كما يقال: يخرجان من البحر، ولا يخرجان من جميعه، ولكن من بعضه، كما تقول: خرجت من البلد، وإنما خرجت من محلة من محاله، بل من دار واحدة من دوره، وقد يسند إلى الإثنين ما هو لأحدهما، كما يسند إلى الجماعة ما صدر من واحد منهم.. «٢».
والحق أن ما سار عليه الإمام الآلوسى وغيره: من أن اللؤلؤ والمرجان يخرجان من البحر الملح لا من البحر العذب، مخالف لما جاء صريحا في قوله- تعالى-: وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ، هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ، وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ، وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها... «٣».
فإن هذه الآية صريحة في أن اللؤلؤ والمرجان يخرجان من كلا البحرين الملح والعذب، وقد أثبتت البحوث العلمية صحة ذلك، فقد عثر عليهما في بعض الأنهار العذبة، التي في ضواحي ويلز واسكتلاندا في بريطانيا.. «٤».
ثم بين- سبحانه- نعمة أخرى من نعمة التي مقرها البحار فقال: وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ.
(١) راجع «كتاب الله والعلم الحديث» ص ١٠٥ للأستاذ عبد الرازق نوفل. [.....]
(٢) راجع تفسير الآلوسى ج ٢٢ ص ١٠٦.
(٣) سورة فاطر الآية ١٢.
(٤) راجع دائرة معارف الشعب المصرية العدد ٧٣ ص ٥٣٧.
138
والجوار: أى السفن الجارية، فهي صفة لموصوف محذوف دل عليه متعلقه، وهو قوله- تعالى- فِي الْبَحْرِ.
والمنشآت: جمع منشأة- اسم مفعول- أى: مرفوعة الشراع، وهو ما يسمى بالقلع، من أنشأ فلان الشيء، إذا رفعه عن الأرض، وأنشأ في سيرة إذا أسرع...
أى: وله- سبحانه- وحده لا لغيره، التصرف المطلق في السفن المرفوعة القلاع والتي تجرى في البحر، وهي تشبه: الجبال في ضخامتها وعظمتها.
والتعبير: بقوله- تعالى- وَلَهُ للإشعار بأن كونهم هم الذين صنعوها لا يخرجها عن ملكه- تعالى- وتصرفه، إذ هو الخالق الحقيقي لهم ولها، وهو الذي سخر تلك السفن لتشق ماء البحر بأمره.
ومن الآيات الكثيرة التي تشبه هذه الآية في دلالتها على قدرة الله- تعالى- وعلى مننه على عباده بهذه السفن التي تجرى في البحر بأمره. قوله- تعالى-: وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ. إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ. أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ «١».
وبعد هذا الحديث المتنوع عن مظاهر قدرة الله- تعالى-، ونعمه على عباده... جاء الحديث عن تفرده- تعالى- بالبقاء، بعد فناء جميع المخلوقات التي على ظهر الأرض، وعن افتقار الناس إليه وحده- سبحانه- وغناه عنهم فقال- تعالى-:
[سورة الرحمن (٥٥) : الآيات ٢٦ الى ٣٦]
كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (٢٦) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (٢٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٨) يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (٢٩) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٠)
سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (٣١) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٢) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ (٣٣) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٤) يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (٣٥)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٦)
(١) سورة الشورى الآيات ٣٢- ٣٤.
139
والضمير في عَلَيْها يعود إلى الأرض بقرينة المقام، والمراد بمن عليها: كل من يعيش فوقها، ويدخل فيهم دخولا أوليا بنو آدم، لأنهم هم المقصودون بالخطاب، ولذا جيء بمن الموصولة الخاصة بالعقلاء.
أى: كل من على الأرض من إنسان وحيوان وغيرهما سائر إلى الزوال والفناء وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ وذاته بقاء لا تغير معه ولا زوال، فهو- سبحانه- ذُو الْجَلالِ أى: ذو العظمة والاستغناء المطلق وَالْإِكْرامِ أى: والفضل التام، والإحسان الكامل..
وقال- سبحانه-: وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ولم يقل ويبقى وجه ربكما. كما في قوله:
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما....
لأن الخطاب للنبي ﷺ على سبيل التكريم والتشريف، ويدخل تحته كل من يتأتى له الخطاب على سبيل التبع.
قال القرطبي: لما نزلت هذه الآية قالت الملائكة هلك أهل الأرض. فنزلت كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ فأيقنت الملائكة بالهلاك.
وقوله: وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ أى: ويبقى الله، فالوجه عبارة عن وجوده وذاته، قال الشاعر:
قضى على خلقه المنايا... فكل شيء سواه زائل
وهذا الذي ارتضاه المحققون من علمائنا.. «١».
وقوله- تعالى-: يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ بيان لغناه المطلق عن غيره، واحتياج غيره إليه.
(١) راجع تفسير القرطبي ج ١٧ ص ١٦٥.
140
والمراد باليوم هنا: مطلق الوقت مهما قل زمنه، والشأن: الأمر العظيم، والحدث الهام..
أى: أنه- سبحانه- يسأله من في السموات والأرض، سؤال المحتاج إلى رزقه، وفضله، وستره، وعافيته.. وهو- عز وجل- في كل وقت من الأوقات، وفي كل لحظة من اللحظات، في شأن عظيم. وأمر جليل، حيث يحدث ما يحدث من أحوال في هذا الكون، فيحيى ويميت، ويعز ويذل، ويغنى ويفقر، ويشفى ويمرض.. دون أن يشغله شأن عن شأن..
قال الآلوسى ما ملخصه: قوله: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ أى: كل وقت من الأوقات، هو في شأن من الشئون، التي من جملتها إعطاء ما سألوا. فإنه- تعالى- لا يزال ينشئ أشخاصا، ويفنى آخرين، ويأتى بأحوال، ويذهب بأحوال، حسبما تقتضيه إرادته المبنية على الحكم البالغة..
أخرج البخاري في تاريخه، وابن ماجة، وجماعة عن أبى الدرداء، عن النبي ﷺ أنه قال في هذه الآية: «من شأنه: أن يغفر ذنبا، ويفرج كربا، ويرفع قوما، ويخفض آخرين».
وسأل بعضهم أحد الحكماء، عن كيفية الجمع بين هذه الآية، وبين ما صح من أن القلم قد جف بما هو كائن إلى يوم القيامة، فقال: «شئون يبديها لا شئون يبتديها»..
وانتصب «كل يوم» على الظرفية، والعامل فيه هو العامل في قوله- تعالى-: فِي شَأْنٍ وهو ثابت المحذوف، فكأنه قيل: هو ثابت في شأن كل يوم.. «١».
ثم هدد- سبحانه- الذين يخالفون عن أمره تحذيرا شديدا، فقال: سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ.
وجيء بحرف التنفيس الدال على القرب وهو السين للإشعار بتحقق ما أخبر به- سبحانه-.
وقوله: سَنَفْرُغُ من الفراغ، وهو الخلو عما يشغل..
والمراد به هنا: القصد إلى الشيء والإقبال عليه، يقال: فلان فرغ لفلان وإليه، إذا قصد إليه لأمر ما...
والثقلان: تثنية ثقل- بفتحتين-، وأصله كل شيء له وزن وثقل، والمراد بهما هنا:
الإنس والجن.
(١) تفسير الآلوسى ج ٢٧ ص ١١٠.
141
والمعنى: سنقصد يوم القيامة إلى محاسبتكم على أعمالكم، وسنجازيكم عليها بما تستحقون، وسيكون هذا شأننا- أيها الثقلان- في هذا اليوم العظيم.
قال صاحب الكشاف: قوله: سَنَفْرُغُ لَكُمْ مستعار من قول الرجل لمن يتهدده، سأفرغ لك، يريد سأتجرد للإيقاع بك من كل ما يشغلني عنك، حتى لا يكون لي شغل سواه، والمراد: التوفر على النكاية فيه، والانتقام منه.
ويجوز أن يراد ستنتهى الدنيا وتبلغ آخرها، وتنتهي عند ذلك شئون الخلق التي أرادها بقوله- تعالى-: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ، فلا يبقى إلا شأن واحد، وهو جزاؤكم، فجعل ذلك فراغا لهم على طريق المثل... «١».
وقوله- سبحانه-: يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا... مقول لقول محذوف، دل عليه ما قبله.
والمعشر- برنة مفعل- اسم للجمع الكثير الذي يعد عشرة فعشرة.
وقوله: تَنْفُذُوا من النفاذ بمعنى الخروج من الشيء، والأمر منه وهو قوله:
فَانْفُذُوا مستعمل في التعجيز. والأقطار: جمع قطر- بضم القاف وسكون الطاء- وهو الناحية الواسعة..
والمعنى: سنقصد إلى محاسبتكم ومجازاتكم على أعمالكم يوم القيامة، وسنقول لكم على سبيل التعجيز والتحدي. يا معشر الجن والإنس، إن استطعتم أن تنفذوا وتخرجوا من جوانب السموات والأرض ومن نواحيهما المتعددة.. فانفذوا واخرجوا، وخلصوا أنفسكم من المحاسبة والمجازاة..
وجملة: لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ بيان للتعجيز المتمثل في قوله- تعالى- فَانْفُذُوا، والسلطان المراد به هنا: القدرة والقوة.
أى: لا تنفذون من هذا الموقف العصيب الذي أنتم فيه إلا بقدرة عظيمة، وقوة خارقة، تزيد على قوة خالقكم الذي جعلكم في هذا الموقف، وأنى لكم هذه القوة التي أنتم أبعد ما تكونون عنها؟.
فالمقصود بالآية الكريمة، تحذير الفاسقين والكافرين، من التمادي في فسقهم وكفرهم، وبيان أنهم سيكونون في قبضة الله- تعالى- وتحت سلطانه، وأنهم لن يستطيعوا الهروب من قبضته وقضائه فيهم بحكمه العادل.
(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٤٧.
142
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى-: فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ. وَخَسَفَ الْقَمَرُ. وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ. يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ. كَلَّا لا وَزَرَ. إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ «١».
وقوله- سبحانه-: يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ استئناف في جواب سؤال مقدر عما سيصيبهم إذا ما حاولوا الفرار.
والشواظ: اللهب الذي لا يخالطه دخان، لأنه قد تم اشتعاله فصار أشد إحراقا.
والنحاس: المراد به هنا الدخان الذي لا لهب فيه، ويصح أن يراد به: الحديد المذاب.
أى: أنتم لا تستطيعون الهرب من قبضتنا بأى حال من الأحوال، وإذا حاولتم ذلك، أرسلنا عليكم وصببنا على رءوسكم لهبا خالصا فأحرقكم، ودخانا لا لهب معه فكتم أنفاسكم، وفي هذه الحالة لا تنتصران. ولا تبلغان ما تبغيانه، ولا تجدان من يدفع عنكم عذابنا وبأسنا.
هذا والمتأمل في تلك الآيات الكريمة. يراها قد صورت بأسلوب بديع تفرد الله- تعالى- بالملك والبقاء، وافتقار الخلائق جميعا إلى عطائه، وأنهم جميعا في قبضته، ولن يستطيعوا الهروب من حكمه فيهم..
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك جانبا من أهوال يوم القيامة، ومن العذاب الذي يحيط بالمجرمين، وينزل بهم، فقال- تعالى-:
[سورة الرحمن (٥٥) : الآيات ٣٧ الى ٤٥]
فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (٣٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٨) فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (٣٩) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٠) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ (٤١)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٢) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (٤٣) يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (٤٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٥)
(١) سورة القيامة الآيات ٧، ١٢.
143
وجواب «إذا» في قوله- سبحانه-: فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ محذوف لتهويل أمره..
وقوله- سبحانه-: فَكانَتْ وَرْدَةً تشبيه بليغ، أى: فكانت كالوردة في الحمرة.
والوردة جمعها ورود، وهي زهرة حمراء معروفة ذات أغصان شائكة. والدهان: ما يدهن به الشيء.. أى: فإذا انشقت السماء، فصارت حين انشقاقها وتصدعها، كالوردة الحمراء في لونها، وكالدهان الذي يدهن به الشيء في ذوبانها وسيلانها، رأيت ما يفزع القلوب، ويزلزل النفوس من شدة الهول.
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى-: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا. الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً «١».
وقوله- سبحانه-: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ، وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً، فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ. وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ.. «٢».
وقوله- عز وجل-: يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ، وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ، وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً «٣».
ثم بين- سبحانه- ما يترتب على هذا الانشقاق والذوبان للسماء من أهوال فقال:
فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ. أى: ففي هذا اليوم العصيب، وهو يوم الحشر، لا يسأل عن ذنبه أحد، لا من الإنس ولا من الجن.
أى: أنهم لا يسألون عن ذنوبهم عند خروجهم من قبورهم، وإنما يسألون عن ذلك في موقف آخر، وهو موقف الحساب والجزاء، إذ في يوم القيامة مواقف متعددة.
وبذلك يجاب عن الآيات التي تنفى السؤال يوم القيامة، والآيات التي تثبته، كقوله- تعالى-: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ.
وبعضهم يرى أن السؤال المنفي في بعض الآيات هو سؤال الاستخبار والاستعلام، والسؤال المثبت هو سؤال التوبيخ والتقريع.. عن الأسباب التي جعلتهم ينحرفون عن الطريق المستقيم، ويسيرون في طريق الفسوق والعصيان...
(١) سورة الفرقان الآيتان ٢٥، ٢٦.
(٢) سورة الحاقة الآيات ١٣- ١٦.
(٣) سورة المعارج الآيات ٨- ١٠.
144
ثم بين- سبحانه- ما يحل بالمجرمين في هذا اليوم من عذاب فقال: يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ، فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ. هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ.
وقوله: بِسِيماهُمْ أى: بعلاماتهم التي تدل عليهم، وهي زرقة العيون. وسواد الوجوه، كما في قوله- تعالى-: وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ... «١».
وكما في قوله- سبحانه-: يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً... «٢».
والنواصي: جمع ناصية، وهي مقدم الرأس. والأقدام: جمع قدم، وهو ظاهر الساق، و «أل» في هذين اللفظين عوض عن المضاف إليه.
والمراد بالطواف في قوله: يَطُوفُونَ بَيْنَها.. كثرة التردد والرجوع إليها بين وقت وآخر.
والحميم: الماء الشديد الغليان والحرارة.
وآنٍ: أى: قد بلغ النهاية في شدة الحرارة، يقال: أنى الحميم، أى انتهى حره إلى أقصى مداه، فهو آن وبلغ الشيء أناه- بفتح الهمزة وكسرها- إذا وصل إلى غاية نضجه وإدراكه، ومنه قوله- تعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ أى: نضجه..
أى: في هذا اليوم، وهو يوم الحساب والجزاء يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بسواد وجوههم، وزرقة عيونهم، وبما تعلو أفئدتهم من غبرة ترهقها قترة. فتأخذ الملائكة بالشعر الذي في مقدمة رءوسهم، وبالأمكنة الظاهرة من سيقانهم، وتقذف بهم في النار، وتقول لهم على سبيل الإهانة والإذلال: هذه جهنم التي كنتم تكذبون بها في الدنيا أيها المجرمون، فترددوا بين مائها الحار، وبين سعيرها البالغ النهاية في الشدة.
وفي قوله: فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ إشارة إلى التمكن منهم تمكنا شديدا، بحيث لا يستطيعون التفلت أو الهرب.
وقد ختمت كل آية من هذه الآيات السابقة بقوله- تعالى-: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ لأن عقاب العصاة المجرمين، وإثابة الطائعين المتقين، يدل على كمال عدله
(١) سورة الزمر الآية ٦٠.
(٢) سورة طه الآية ١٠٢.
145
- سبحانه-، وعلى فضله ونعمته على من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى.
قال الإمام ابن كثير: ولما كان معاقبة العصاة المجرمين، وتنعيم المتقين، من فضله.
ورحمته، وعدله، ولطفه بخلقه، وكان إنذاره لهم من عذابه وبأسه، مما يزجرهم عما هم فيه من الشرك والمعاصي وغير ذلك قال ممتنا بذلك على بريته فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ «١».
وكعادة القرآن الكريم في قرن أحوال الأخيار، بأحوال الأشرار، أو العكس: جاء الحديث عما أعده- سبحانه- للمتقين من جزيل الثواب، بعد الحديث عما سينزل بالمجرمين من عقاب فقال- تعالى-:
[سورة الرحمن (٥٥) : الآيات ٤٦ الى ٦١]
وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (٤٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٧) ذَواتا أَفْنانٍ (٤٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٩) فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ (٥٠)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥١) فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ (٥٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٣) مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (٥٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٥)
فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (٥٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٧) كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (٥٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٩) هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ (٦٠)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦١)
قال الآلوسى: قوله- تعالى-: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ... شروع في تعديد الآلاء التي تفاض في الآخرة على المتقين، بعد بيان سوء عاقبة المكذبين.
ومَقامَ مصدر ميمى بمعنى القيام مضاف إلى الفاعل. أى: ولمن خاف قيام ربه عليه وكونه مراقبا له، ومهيمنا عليه فالقيام هنا مثله في قوله- تعالى- أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِ
(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٢٨٧. [.....]
146
نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ... أو هو اسم مكان. والمراد به مكان وقوف الخلق في يوم القيامة للحساب.. إذ الخلق جميعا قائمون له- تعالى- كما في قوله- سبحانه-: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ «١».
والمعنى:
ولكل من خاف القيام بين يدي ربه للحساب، وخشي هيمنته- سبحانه- عليه، ومجازاته له لكل من خاف ذلك وقدم في دنياه العمل الصالح، جَنَّتانِ يتنقل بينهما، ليزداد سروره، وحبوره.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: لم قال: جَنَّتانِ؟ قلت الخطاب للثقلين، فكأنه قيل لكل خائفين منكما جنتان. جنة للخائف الإنسى، وجنة للخائف الجنى.
ويجوز أن يقال: جنة لفعل الطاعات، وجنة لترك المعاصي، لأن التكليف دائر عليهما، وأن يقال: جنة يثاب بها وأخرى تضم إليها على وجه التفضل، كقوله- تعالى-: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ «٢».
وقوله: ذَواتا أَفْنانٍ صفة للجنتين. والأفنان جمع فنن- بفتحتين- وهو الغصن.
أى: جنتان صاحبتا أغصان عظيمة. تمتاز بالجمال واللين والنضرة.
ثم وصفهما- سبحانه- بصفات أخرى كريمة فقال: فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ أى: في كل جنة منهما عين تجرى بالماء العذب الفرات...
فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ أى: وفيهما كذلك من كل نوع من أنواع الفاكهة صنفان، ليتفكه المتقون ويتلذذوا بتلك الفواكه الكثيرة، التي لا هي مقطوعة، ولا هي ممنوعة.
ثم بين- سبحانه- حسن مجلسهم فقال: مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ، وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ.
والجملة الكريمة حال من قوله- تعالى-: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ...
وعبر- سبحانه- بالاتكاء لأنه من صفات المتنعمين الذين يعيشون عيشة راضية، لاهم معها ولا حزن.
والفرش: جمع فراش- ككتب وكتاب- وهو ما يبسط على الأرض للنوم أو الاضطجاع.
(١) راجع تفسير الآلوسى ج ٢٧ ص ١١٥.
(٢) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٤٩.
147
والبطائن: جمع بطانة، وهي ما قابل الظهارة من الثياب، ومشتقة من البطن المقابلة للظهر، ومن أقوالهم: أفرشنى فلان ظهره وبطنه، أى: أطلعنى على سره وعلانيته.
والإستبرق: الديباج المصنوع من الحرير السميك، وهو من أجود أنواع الثياب.
والمعنى: أن هؤلاء الذين خافوا مقام ربهم ونهوا أنفسهم عن الهوى، يعيشون في الجنات حالة كونهم، متكئين في جلستهم على فرش بطائنها الداخلية من الديباج السميك. وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ أى: وما يجنى ويؤخذ من الجنتين قريب التناول، دانى القطاف.
فالمراد بقوله- تعالى-: وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ ما يجتنى من ثمارهما ودانٍ من الدنو بمعنى القرب.
أى: أنهم لا يتعبون أنفسهم في الحصول على تلك الفواكه، وإنما يقطفون ما يشاءون منها، وهم متكئون على فراشهم الوثير.
ثم بين- سبحانه- ألوانا أخرى من نعيمهم فقال: فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ، كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ.
وقوله- سبحانه-: قاصِراتُ الطَّرْفِ صفة لموصوف محذوف. والطمث: كناية عن افتضاض البكارة. يقال: طمث الرجل امرأته- من باب ضرب وقتل-، إذا أزال.
بكارتها. وأصل الطمث: الجماع المؤدى إلى خروج دم الفتاة البكر، ثم أطلق على كل جماع وإن لم يكن معه دم.
أى: في هاتين الجنتين اللتين أعدهما- سبحانه- لمن خاف مقامه.. نساء قاصرات عيونهن على أزواجهن، ولا يلتفتن إلى غيرهم. وهؤلاء النساء من صفاتهن- أيضا- أنهن أبكار، لم يلمسهن ولم يزل بكارتهن أحد قبل هؤلاء الأزواج... وكأن هؤلاء النساء في صفائهن وجمالهن وحمرة خدودهن... الياقوت والمرجان.
ثم ختم- سبحانه- هذه النعم بقوله: هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ والاستفهام لنفى أن يكون هناك مقابل لعمل الخير، سوى الجزاء الحسن، فالمراد بالإحسان الأول، القول الطيب، والفعل الحسن، والمراد بالإحسان الثاني: الجزاء الجميل الكريم على فعل الخير.
أى: ما جزاء من آمن وعمل صالحا، وخاف مقام ربه، ونهى نفسه عن الهوى.. إلا أن يجازى الجزاء الحسن، ويقدم له العطاء الذي يشرح صدره وتقر به عينه.
وقد عقب- سبحانه- بعد كل آية من تلك الآيات السابقة بقوله: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما
148
تُكَذِّبانِ
لأن كل آية قد اشتملت على نعمة أو نعم عظيمة من شأن العاقل أن يشكر الله- تعالى- عليها شكرا جزيلا.
ثم واصلت السورة حتى نهايتها، حديثها عن النعم التي منحها- سبحانه- لمن خاف مقام ربه، فقال- تعالى-:
[سورة الرحمن (٥٥) : الآيات ٦٢ الى ٧٨]
وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (٦٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٣) مُدْهامَّتانِ (٦٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٥) فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (٦٦)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٧) فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (٦٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٩) فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (٧٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧١)
حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (٧٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٣) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (٧٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٥) مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (٧٦)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٧) تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (٧٨)
وقوله- سبحانه-: وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ معطوف على قوله- تعالى- قبل ذلك:
وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ.
ولفظ دون هنا يحتمل أنه بمعنى غير. أى: ولمن خاف مقام ربه جنتان، وله- أيضا- جنتان أخريان غيرهما، فهو من باب قوله- سبحانه- لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ.
قالوا: ويشهد لهذا الاحتمال. أن الله- تعالى- قد وصف هاتين الجنتين بما يقارب وصفه للجنتين السابقتين، وأن تكرير هذه الأوصاف من باب الحض على العمل الصالح الذي يوصل الى الظفر بتلك الجنات، وما اشتملت عليه من خيرات.
149
ويحتمل أن لفظ دون هنا: بمعنى أقل، أى: وأقل من تلك الجنتين في المنزلة والقدر، جنتان أخريان..
وعلى هذا المعنى سار جمهور المفسرين، ومن المفسرين الذين ساروا على هذا الرأى الإمام ابن كثير، فقد قال- رحمه الله- هاتان الجنتان دون اللتين قبلهما في المرتبة والفضيلة والمنزلة، بنص القرآن، فقد قال- تعالى-: وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ..
فالأوليان للمقربين، والأخريان: لأصحاب اليمين..
والدليل على شرف الأولين على الأخريين وجوه:
أحدها: أنه نعت الأوليين قبل هاتين، والتقديم يدل على الاعتناء، ثم قال: وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ وهذا ظاهر في شرف المتقدم، وعلوه على الثاني.
وقال هناك ذَواتا أَفْنانٍ وهي الأغصان، أو الفنون في الملاذ: وقال هاهنا مُدْهامَّتانِ أى: سوداوان من شدة الري من الماء.. «١».
وقال الإمام القرطبي: فإن قيل: كيف لم يذكر أهل هاتين الجنتين، كما ذكر أهل الجنتين الأوليين؟.
قيل: الجنان الأربع لمن خاف مقام ربه. إلا أن الخائفين مراتب، فالجنتان الأوليان لأعلى العباد منزلة في الخوف من الله- تعالى-، والجنتان الأخريان لمن قصرت حاله في الخوف من الله- تعالى- «٢».
وقال الآلوسى: قوله- تعالى-: وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ مبتدأ وخبر أى: ومن دون تينك الجنتين في المنزلة والقدر جنتان أخريان والأكثرون على أن الأوليين للسابقين، وهاتين لأصحاب اليمين...
وقوله: مُدْهامَّتانِ صفة للجنتين.. أى: هما شديدتا الخضرة، والخضرة إذا اشتدت ضربت إلى السواد من كثرة الري.. «٣».
ثم فصل- سبحانه- أوصاف هاتين الجنتين فقال: يهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ
أى:
فوارتان بالماء الذي لا ينقطع منهما من النضخ وهو فوران الماء من العيون مع حسنه وجماله.
فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ وعطف- سبحانه- النخل والرمان على الفاكهة مع أنهما منها، لفضلهما، فكأنهما لما لهما من المزية جنسان آخران.
(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٢٧٩.
(٢) راجع تفسير القرطبي ج ١٧ ص ١٨٤.
(٣) تفسير الآلوسى ج ٢٧ ص ١٢١.
150
أو- كما يقول صاحب الكشاف-: لأن النخل ثمره فاكهة وطعام، والرمان فاكهة ودواء، فلم يخلصا للتفكه، ولذا قال أبو حنيفة- رحمه الله- إذا حلف لا يأكل فاكهة، فأكل رمانا أو رطبا لم يحنث... «١».
والضمير في قوله- تعالى-: فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ يعود إلى الجنات الأربع:
الجنتين المذكورتين في قوله- تعالى-: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ والجنتين المذكورتين هنا في قوله- سبحانه-: وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ.
ولفظ خَيْراتٌ صفة لموصوف محذوف. أى: نساء خيرات حسان.
أى: في هذه الجنات نساء فاضلات الأخلاق، حسان الخلق والخلق.
قال الجمل: قوله: خَيْراتٌ فيه وجهان: أحدهما: أنه جمع خيرة بزنة فعلة بسكون العين- يقال: امرأة خيرة، وأخرى شرة، والثاني. أنه جمع خيرة المخفف من خيرة بالتشديد، ويدل على ذلك قراءة خيرات- بتشديد الياء.. «٢».
وقوله حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ بدل من خيرات. والحور: جمع حوراء، وهي المرأة ذات الحور، أى: ذات العين التي اشتد بياضها واشتد سوادها في جمال وحسن..
ومقصورات: جمع مقصورة أى: محتجبة في بيتها. قد قصرت نفسها على زوجها... فهي لا تجرى في الطرقات.. بل هي ملازمة لبيتها، وتلك صفة النساء الفضليات اللاتي يزورهن من يريدهن، أما هن فكما قال الشاعر:
ويكرمها جاراتها فيزرنها... وتعتل عن إتيانهن فتعذر
أى: في تلك الجنات نساء خيرات فضليات جميلات مخدرات. ملازمات لبيوتهن، لا يتطلعن إلى غير رجالهن..
هؤلاء النساء لَمْ يَطْمِثْهُنَّ أى: لم يلمسهن ويباشرهن إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ.
أى: لم يجامعهن أحد لا من الإنس ولا من الجن قبل الرجال الذين خصصهن الله- تعالى- لهم..
وقوله: مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ... حال من قوله- تعالى-:
وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ....
(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٥٠.
(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٤ ص ٢٦٦.
151
والرفرف: مأخوذ من الرّف بمعنى الارتفاع، وهو اسم جمع واحده رفرفة، أو اسم جنس جمعى وخُضْرٍ صفة له..
والعبقري: وصف لكل ما كان ممتازا في جنسه. نادر الوجود في صفاته والمراد به هنا الثوب الموشى بالذهب، والبالغ النهاية في الجودة والجمال..
قال القرطبي: العبقري: ثياب منقوشة تبسط.. قال القتيبي: كل ثوب وشى عند العرب فهو عبقري. وقال أبو عبيد: هو منسوب الى أرض يعمل فيها الوشي..
ويقال: عبقر قرية باليمن تنسج فيها بسط منقوشة. وقال ابن الأنبارى: إن الأصل فيه أن عبقر قرية يسكنها الجن ينسب إليها كل فائق جليل، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: في عمر ابن الخطاب: فلم أر عبقريا يفرى فريه.. «١».
أى: هؤلاء الذين خافوا مقام ربهم، قد أسكناهم بفضلنا الجنات العاليات حالة كونهم فيها على الفرش الجميلة المرتفعة. وعلى الأبسطة التي بلغت الغاية في حسنها وجودتها ودقة وشيها..
ثم ختم- سبحانه- السورة الكريمة بقوله: تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ.
أى: جل شأن الله- تعالى-، وارتفع اسمه الجليل عما لا يليق بشأنه العظيم، فهو- عز وجل- صاحب الجلال. أى: العظمة والاستغناء المطلق، والإكرام. أى: الفضل التام، والإحسان الذي لا يقاربه إحسان.
وبعد: فهذا تفسير لسورة «الرحمن» نسأل الله- تعالى- أن يجعله خالصا لوجهه ونافعا لعباده.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم..
الدوحة- قطر صباح الأحد ٦ من رجب ١٤٠٦ هـ ١٦ من مارس ١٩٨٦ م.
كتبه الراجي عفو ربه د. محمد سيد طنطاوى
(١) تفسير القرطبي ج ١٧ ص ١٩٢.
152
تفسير سورة الواقعة
153

بسم الله الرّحمن الرّحيم

مقدمة وتمهيد
١- سورة «الواقعة» هي السورة السادسة والخمسون في ترتيب المصحف، أما ترتيبها في النزول، فقد كان نزولها بعد سورة «طه» وقبل سورة «الشعراء».
وقد عرفت بهذا الاسم منذ عهد النبوة، فعن ابن عباس قال: قال أبو بكر- رضى الله عنه- للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله قد شبت. قال: شيبتني هود والواقعة والمرسلات، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت.
وعن عبد الله بن مسعود- رضى الله عنه- قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول:
«من قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبدا... » «١».
٢- وعدد آياتها ست وتسعون آية عند الكوفيين. وسبع وتسعون عند البصريين، وتسع وتسعون عند الحجازيين والمدنيين.
٣- وسورة «الواقعة» من السور المكية الخالصة، واستثنى بعضهم بعض آياتها، وعدها من الآيات المدنية، ومن ذلك قوله- تعالى-: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ. وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ.
وقوله- سبحانه-: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ... إلى قوله- تعالى-:
وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ.
والذي تطمئن إليه النفس أن السورة كلها مكية، وأن ما استثنى منها لم يقم دليل يعتد به على صحته.
٤- وقد افتتحت سورة «الواقعة» بالحديث عن أهوال يوم القيامة، وعن أقسام الناس في هذا اليوم..
قال- تعالى-: وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً، فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ، وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ، وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ....
٥- وبعد أن فصل- سبحانه- الحديث عن كل قسم من هذه الأقسام، وبين ما أعد له
(١) تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٢٨١.
155
من جزاء عادل... أتبع ذلك بالحديث عن مظاهر قدرته، وسعة رحمته، وعظيم فضله، فقال- تعالى-: نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ. أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ، أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ....
أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ، أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ....
أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ، أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ.
أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ، أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ.
٦- وكما افتتحت السورة الكريمة ببيان أهوال يوم القيامة، وبيان أنواع الناس في هذا اليوم.. اختتمت- أيضا- بالحديث عن أقسام الناس يوم الحساب، وعاقبة كل قسم، قال- تعالى-: فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ، فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ. وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ، فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ، وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ، فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ، وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ، إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ، فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ.
٧- هذا والمتدبر في هذه السورة الكريمة، يراها قد ساقت بأسلوب بليغ مؤثر، ما يحمل الناس على حسن الاستعداد ليوم القيامة، عن طريق الإيمان العميق، والعمل الصالح، وما يبين لهم عن طريق المشاهدة مظاهر قدرة الله- تعالى- ووحدانيته، وما يكشف لهم النقاب عن أقسام الناس في يوم الحساب، وعن عاقبة كل قسم، وعن الأسباب التي وصلت بكل قسم منهم إلى ما وصل إليه من جنة أو نار..
وما يريهم عجزهم المطلق أمام قدرة الله- تعالى- وأمام قضائه وقدره.. فهم يرون بأعينهم أعز إنسان عندهم، تنتزع روحه من جسده.. ومع ذلك فهم عاجزون عن أن يفعلوا شيئا..
وصدق الله إذ يقول: فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ. وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ، وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ. فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ. تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ..
نسأل الله- تعالى- أن يجعلنا من عباده المقربين.. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم..
الدوحة قطر مساء الاثنين ٧ من رجب سنة ١٤٠٦ هـ ١٧ من مارس سنة ١٩٨٦ م د. محمد سيد طنطاوى
156
Icon