تفسير سورة الحديد

تفسير مقاتل بن سليمان
تفسير سورة سورة الحديد من كتاب تفسير مقاتل بن سليمان .
لمؤلفه مقاتل بن سليمان . المتوفي سنة 150 هـ
سورة الحديد
عددها تسع وعشرون آية كوفي

﴿ سَبَّحَ للَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ ﴾ يعني ذكر الله الملائكة وغيرهم والشمس والقمر والنجوم ﴿ وَ ﴾ ما في ﴿ وَٱلأَرْضِ ﴾ من الجبال، والبحار، والأنهار، والأشجار، والدواب، والطير، والنبات، وما بينهما يعني الرياح، والسحاب، وكل خلق فيهما، ولكن لا تفقهون تسبيحهن ﴿ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ﴾ في ملكه ﴿ ٱلْحَكِيمُ ﴾ [آية: ١] في أمره ﴿ لَهُ مُلْكُ ﴾ يعني له ما في ﴿ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ يُحْيِـي ﴾ الموتى ﴿ وَيُمِيتُ ﴾ الأحياء ﴿ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ من حياة وموت ﴿ قَدِيرٌ ﴾ [آية: ٢] ﴿ هُوَ ٱلأَوَّلُ ﴾ قبل كل شىء ﴿ وَ ﴾ هو ﴿ وَٱلآخِرُ ﴾ بعد الخلق ﴿ وَ ﴾ هو ﴿ وَٱلظَّاهِرُ ﴾ فوق كل شىء، يعني السماوات ﴿ وَ ﴾ وهو ﴿ وَٱلْبَاطِنُ ﴾ دون كل شىء يعلم ما تحت الأرضيين ﴿ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ ﴾ قبل خلقهما ﴿ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي ٱلأَرْضِ ﴾ من المطر ﴿ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا ﴾ النبات ﴿ وَمَا يَنزِلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ ﴾ من الملائكة ﴿ وَمَا يَعْرُجُ ﴾ يعني وما يصعد ﴿ فِيهَا ﴾ يعني في السماوات من الملائكة ﴿ وَهُوَ مَعَكُمْ ﴾ يعني علمه ﴿ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ﴾ من الأرض ﴿ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ لَّهُ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَإِلَى ٱللَّهِ تُرْجَعُ ٱلأُمُورُ ﴾ [آية: ٥] يعني أمور الخلائق في الآخرة ﴿ يُولِجُ ٱلْلَّيْلَ فِي ٱلنَّهَارِ وَيُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱلْلَّيْلِ ﴾ يعني زيادة كل منهما ونقصانه، فذلك قوله:﴿ يُكَوِّرُ ٱللَّيْـلَ عَلَى ٱلنَّهَـارِ وَيُكَوِّرُ ٱلنَّـهَارَ عَلَى ٱللَّيْلِ ﴾[الزمر: ٥]، يعني يسلط كل واحد منهما على صاحبه في وقته حتى يصير الليل خمس عشرة ساعة، والنهار تسع ساعات.
﴿ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ ﴾ [آية: ٦] يعني بما فيها من خير أو شر.
قوله: ﴿ آمِنُواْ بِٱللَّهِ ﴾ يعني صدقوا بالله، يعني بتوحيد الله تعالى ﴿ وَرَسُولِهِ ﴾ محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ وَأَنفِقُواْ ﴾ في سبيل الله، يعني في طاعة الله تعالى ﴿ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ﴾ من أموالكم إلى غيركم الله فيها ﴿ فَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَأَنفَقُواْ لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ ﴾ [آية: ٧] يعني جزاء حسناً في الجنة، ثم قال: ﴿ وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلرَّسُولُ ﴾ محمد صلى الله عليه وسلم حين ﴿ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُواْ بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ ﴾ يعني يوم أخرجكم من صلب آدم، عليه السلام، وأقروا له بالمعرفة والربوبية ﴿ إِن كُنتُمْ ﴾ يعني إذ كنتم ﴿ مُّؤْمِنِينَ ﴾ [آية: ٨].
﴿ هُوَ ٱلَّذِي يُنَزِّلُ عَلَىٰ عَبْدِهِ ﴾ محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ﴾ يعني القرآن بين ما فيه من أمره ونهيه ﴿ لِّيُخْرِجَكُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ ﴾ يعني من الشرك إلى الإيمان ﴿ وَإِنَّ ٱللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ [آية: ٩] حين هداكم لدينه وبعث فيكم محمداً صلى الله عليه وسلم، وأنزل عليكم كتابه.
ثم قال: ﴿ وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ﴾ يعني في طاعة الله إن كنتم مؤمنين، فأنفقوا في سبيل الله، فإن بخلتم، فإن الله يرثكم أهل السماوات والأرض، فذلك قوله: ﴿ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ ﴾ يفنون كلهم، ويبقى الرب تعالى وحده، فالعباد يرث بعضهم بعضاً، والرب يبقى فيرثهم، قوله: ﴿ لاَ يَسْتَوِي مِنكُم ﴾ في الفضل والسابقة ﴿ مَّنْ أَنفَقَ مِن ﴾ ماله ﴿ قَبْلِ ٱلْفَتْحِ ﴾ فتح مكة ﴿ وَقَاتَلَ ﴾ العدو ﴿ أُوْلَـٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً ﴾ يعني جزاء ﴿ مِّنَ ٱلَّذِينَ أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ ﴾ بعد فتح مكة ﴿ وَقَاتَلُواْ ﴾ العدو ﴿ وَكُلاًّ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلْحُسْنَىٰ ﴾ يعني الجنة، يعني كلا الفريقين وعد الله الجنة ﴿ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ [آية: ١٠] بما أنفقتم من أموالكم، وهو مولاكم يعني وليكم.
قوله تعالى: ﴿ مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً ﴾ يعني طيبة به نفسه على أهل الفاقة ﴿ فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ ﴾ [آية: ١١] يعني جزاء حسناً في الجنة، نزلت في أبى الدحداح الأنصارى ﴿ يَوْمَ تَرَى ﴾ يا محمد ﴿ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ ﴾ على الصراط ﴿ يَسْعَىٰ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ﴾ دليل إلى الجنة ﴿ وَبِأَيْمَانِهِم ﴾ يعني بتصديقهم في الدنيا، أعطوا النور في الآخرة على الصراط، يعني بتوحيد الله تعالى، تقول الحفظة لهم: ﴿ بُشْرَاكُمُ ٱلْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ﴾ لا يموتون ﴿ ذَلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ ﴾ [آية: ١٢] ﴿ يَوْمَ يَقُولُ ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ وهم على الصراط ﴿ ٱنظُرُونَا ﴾ يعني ارقبونا ﴿ نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ ﴾ فمنضي معكم ﴿ قِيلَ ﴾ يعني قالت الملائكة: ﴿ ٱرْجِعُواْ وَرَآءَكُمْ فَٱلْتَمِسُواْ نُوراً ﴾ من حيث جئتم فالتمسوا نوراً من الظلمة، فرجعوا فلم يجدوا شيئاً ﴿ فَضُرِبَ ﴾ الله ﴿ بَيْنَهُم ﴾ يعني بين أصحاب الأعراف وبين المنافقين ﴿ بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ ﴾ يعني بالسور حائط بين أهل الجنة وبين أهل النار ﴿ بَاطِنُهُ ﴾ يعني باطن السور ﴿ فِيهِ ٱلرَّحْمَةُ ﴾ وهو مما يلي الجنة ﴿ وَظَاهِرُهُ ﴾ من قبل النار، وهو الحجاب ضرب بين أهل الجنة والنار، وهوالسور، والأعراف ما ارتفع من السور.
﴿ ٱلرَّحْمَةُ ﴾ يعني الجنة.
﴿ مِن قِبَلِهِ ٱلْعَذَابُ ﴾ [آية: ١٣].
﴿ يُنَادُونَهُمْ ﴾ يعني يناديهم المنافقون من وراء السور. ﴿ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ ﴾ في دنياكم ﴿ قَالُواْ بَلَىٰ ﴾ كنتم معنا في ظاهر الأمر ﴿ وَلَـٰكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ ﴾ يعني أكفرتم ﴿ أَنفُسَكُمْ ﴾ بنعم وسَوْفَ عن دينكم ﴿ وَتَرَبَّصْتُمْ ﴾ يعني بمحمد الموت، وقلتم يوشك محمد أن يموت فنستريح منه ﴿ وَٱرْتَبْتُمْ ﴾ يعني شككتم في محمد أنه نبي ﴿ وَغرَّتْكُمُ ٱلأَمَانِيُّ ﴾ عن دينكم، وقلتم يوشك محمد أن يموت فيذهب الإسلام فنستريح ﴿ حَتَّىٰ جَآءَ أَمْرُ ٱللَّهِ ﴾ الموت ﴿ وَغَرَّكُم بِٱللَّهِ ٱلْغَرُورُ ﴾ [آية: ١٤] يعني الشياطين ﴿ فَٱلْيَوْمَ ﴾ في الآخرة ﴿ لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ ﴾ معشر المنافقين ﴿ فِدْيَةٌ وَلاَ مِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ بتوحيد الله تعالى يعني مشركي العرب ﴿ مَأْوَاكُمُ ٱلنَّارُ ﴾ يعني مأوى المنافقين والمشركين في النار ﴿ هِيَ مَوْلاَكُمْ ﴾ يعني وليكم ﴿ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ ﴾ [آية: ١٥] وذلك أنه يعطى كل مؤمن كافر، فيقال: هذا فداؤك من النار، فذلك قوله: ﴿ لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ ﴾ يعني من المنافقين، ولا من الذين كفروا، إنما تؤخذ الفدية من المؤمنين.
قوله: ﴿ أَلَمْ يَأْنِ ﴾ نزلت في المنافقين بعد الهجرة بستة أشهر، وذلك أنهم سألوا سلمان الفارسي ذات يوم، فقالوا: حدثنا عما في التوراة، فإن فيها العجائب، فنزلت:﴿ الۤر تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ ٱلْمُبِينِ إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ ٱلْقَصَصِ بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ ﴾[يوسف: ١-٣].
يخبرهم أن القرآن أحسن من غيره، يعني أنفع لهم فكفوا عن سؤال سلمان ما شاء الله، ثم عادوا فسألوا سلمان، فقالوا: حدثنا عن التوراة فإن فيها العجائب، فنزلت:﴿ ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ ٱلْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ﴾يعني القرآن ﴿ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ ﴾ [الزمر: ٢٣]، فكفوا عن سؤال سلمان ما شاء الله. ثم عادوا أيضاً فسألوا: فقالوا: حدثنا عما في التوراة، فإن فيها العجائب، فأنزل الله تعالى: ﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ ٱللَّهِ ﴾ يعني المنافقين يقول: ألم ينل، ويقال: لم يحن، للذين أقروا باللسان وأقروا أن تخشع قلوبهم لذكر الله، يقول: أن ترق قلوبهم لذكر الله عز وجل، وهو القرآن يعني إذا ذكر الله ﴿ وَمَا نَزَلَ مِنَ ٱلْحَقِّ ﴾ يعني القرآن، يعني وعظهم، فقال: ﴿ وَلاَ يَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ ﴾ في القساوة ﴿ مِن قَبْلُ ﴾ من قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم ﴿ فَطَالَ عَلَيْهِمُ ٱلأَمَدُ ﴾ يعني طول الأجل، وخروج النبي صلى الله عليه وسلم كان المنافقون لا ترق قلوبهم لذكر الله ﴿ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ﴾ فلن تلن ﴿ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ [آية: ١٦].
قوله: ﴿ ٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ يُحْيِـي ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ ٱلآيَاتِ ﴾ يعني بالآيات النبت ﴿ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [آية: ١٧] يقول: لكي تعقلوا وتتفكروا في أمر البعث.
قوله: ﴿ إِنَّ ٱلْمُصَّدِّقِينَ ﴾ من أموالهم ﴿ وَٱلْمُصَّدِّقَاتِ ﴾ نزلت في أبي الدحداح الأنصاري، وذلك" أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الناس بالصدقة ورغبهم في ثوابها، فقال أبو الدحداح الأنصاري: يا رسول الله، فإني قد جعلت حديقتي صدقة لله ولرسوله، ثم جاء إلى الحديقة، وأم الدحداح في الحديقة، فقال: يا أم الدحداح، إنى قد جعلت حديقتي صدقة لله ولرسوله، فخذي بيد صبيتاه فأخرجيهم من الحائط، فلما أصابهم حر الشمس بكوا، فقالت أمهم: لا تبكوا فإن أباكم قد باع حائطه من ربه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كم من نخلة مذلا عذوقها قد رأيتها لأبي الدحداح في الجنة "، فنزلت فيه: ﴿ إِنَّ ٱلْمُصَّدِّقِينَ وَٱلْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُواْ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً ﴾ يعني محتسباً طيبة بها نفسه ﴿ يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ ﴾ [آية: ١٨] يعني جزاء حسناً في الجنة. فقال الفقراء: ليس لنا أموال نجاهد بها، أو نتصدق بها، فأنزل الله تعالى: ﴿ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ يعني صدقوا ﴿ بِٱللَّهِ ﴾ بتوحيد الله تعالى ﴿ وَرُسُلِهِ ﴾ كلهم ﴿ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصِّدِّيقُونَ ﴾ بالله وبالرسل ولم يشكوا فيهم ساعة، ثم أستأنف، فقال: ﴿ وَٱلشُّهَدَآءُ ﴾ يعني من استشهد منهم ﴿ عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ ﴾ يعني جزاؤهم وفضلهم ﴿ وَنُورُهُمْ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ ﴾ يعني بالقرآن ﴿ أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلْجَحِيمِ ﴾ [آية: ١٩] يعني ما عظم من النار.
﴿ ٱعْلَمُوۤاْ أَنَّمَا ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا ﴾ زهدهم في الدنيا لكي لا يرغبوا فيها، فقال: ﴿ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي ٱلأَمْوَالِ وَٱلأَوْلاَدِ ﴾ والمنازل والمراكب فمثلها ومثل من يؤثرها على الآخرة ﴿ كَمَثَلِ غَيْثٍ ﴾ يعني المطر ينبت منه المراعي ﴿ أَعْجَبَ ٱلْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ﴾ فبينما هو أخضر إذ تراه مصفراً ﴿ ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً ﴾ هالكاً لا ينبت فيه، فكذلك من يؤثر الدنيا على الآخرة، ثم يكون له: ﴿ وَفِي ٱلآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ ﴾.
ثم قال: ﴿ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَانٌ ﴾ للمؤمنين ﴿ وَمَا ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَآ إِلاَّ مَتَاعُ ٱلْغُرُورِ ﴾ [آية: ٢٠] الفاني.
قوله: ﴿ سَابِقُوۤاْ ﴾ بالأعمال الصالحة وهي الصلوات الخمس ﴿ إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ لذنوبكم ﴿ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ ﴾ يعني السماوات السبع والأرضين السبع لو ألصقت السماوات السبع بعضها إلى بعض، ثم ألصقت السماوات بالأرضيين لكانت الجنان في عرضها جميعاً، لم يذكر طولها ﴿ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ ﴾ يعني صدقوا بتوحيد الله عز وجل ﴿ وَرُسُلِهِ ﴾ محمد صلى الله عليه وسلم أنه نبي يقول الله تعالى: ﴿ ذَلِكَ فَضْلُ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ ﴾ من عباده فيخصهم بذلك ﴿ وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ ﴾ [آية: ٢١].
﴿ مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي ٱلأَرْضِ ﴾ من قحط المطر، وقلة النبات، ونقص الثمار.
﴿ وَلاَ فِيۤ أَنفُسِكُمْ ﴾ يقول: ما أصاب هذه النفس من البلاء وإقامة الحدود عليها ﴿ إِلاَّ فِي كِتَابٍ ﴾ مكتوب يعني اللوح المحفوظ ﴿ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ ﴾ يعني من قبل أن يخلق هذه النفس ﴿ إِنَّ ذَلِكَ ﴾ الذي أصابها في كتاب يعني اللوح المحفوظ أن ذلك ﴿ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ ﴾ [آية: ٢٢] يقول: هين على الله تعالى. وبإسناده مقاتل، قال: حدثني عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس، قال: خلق الله تعالى اللوح المحفوظ مسيرة خمس مائة عام في خمس مائة عام، وهو من درة بيضاء صفحتاه من ياقوت أحمر كلامه نور، وكتابه النور والقلم من نور طوله خمس مائة عام.
قوله: ﴿ لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ ﴾ من الخير والغنيمة ﴿ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ ﴾ من الخير فتختالوا وتفخروا، فذلك قوله: ﴿ وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴾ [آية: ٢٣] يعني متكبر عن عبادة الله عز وجل فخور في نعم الله تعالى لا يشكر.
ثم قال: ﴿ ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ ﴾ يعني رؤوس اليهود يبخلون بخلوا بأمر محمد صلى الله عليه وسلم وكتموه ليصيبوا الفضل من اليهود من سفلتهم ﴿ وَيَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلْبُخْلِ ﴾ يقول: ويأمرون الناس بالكتمان والناس فى هذه الآية اليهود أمروهم بكتمان أمر محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ وَمَن يَتَوَلَّ ﴾ يعنى ومن أعرض عن النبي صلى الله عليه وسلم فبخل ﴿ فَإِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْغَنِيُّ ٱلْحَمِيدُ ﴾ [آية: ٢٤] غني عما عندكم حميد عند خلقه.
قوله: ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِٱلْبَيِّنَاتِ ﴾ يعني بالآيات ﴿ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْمِيزَانَ ﴾ يعني العدل ﴿ لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ ﴾ يعني لكي يقوم الناس ﴿ بِٱلْقِسْطِ ﴾ يعني بالعدل ﴿ وَأَنزْلْنَا ٱلْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ ﴾ يقول: من أمرى كان الحديد فيه بأس شديد للحرب ﴿ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ﴾ في معايشهم ﴿ وَلِيَعْلَمَ ٱللَّهُ ﴾ يعني ولكي يرى الله ﴿ مَن يَنصُرُهُ ﴾ على عدوه ﴿ وَ ﴾ ينصر ﴿ وَرُسُلَهُ ﴾ يعني النبي صلى الله عليه وسلم وحده فيعينه على أمره حتى يظهر ولم يره ﴿ بِٱلْغَيْبِ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِيٌّ ﴾ في أمره ﴿ عَزِيزٌ ﴾ [آية: ٢٥] في ملكه ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا ٱلنُّبُوَّةَ ﴾ فهم خمسة وعشرون نبياً ﴿ وَٱلْكِتَابَ ﴾ يعني الكتب الأربعة منهم إسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، وأيوب، وهو من ولد العيص، والأسباط، وهم اثنا عشر منه روبيل، وشمعون، ولاوي، ويهوذا، ونفتولن، وزبولن، وحاد، ودان، وآشر، واستاخر، ويوسف، وبنيامين، وموسى، وهارون، وداود، و سليمان، وزكريا، ويحيى وعيسى، ومحمد صلى الله عليه وسلم، التوراة، والأنجيل، والزبور، والفرقان، فهذه الكتب ﴿ فَمِنْهُمْ مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ [آية: ٢٦] يعني عاصين.
﴿ ثُمَّ قَفَّيْنَا ﴾ يعني اتبعنا ﴿ عَلَىٰ آثَارِهِم ﴾ من بعدهم يعني من بعد نوح وإبراهيم وذريتهما ﴿ بِرُسُلِنَا ﴾ في الأمم ﴿ وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ ﴾ يقول: واتبعنا بعيسى ابن مريم ﴿ وَآتَيْنَاهُ ﴾ يعني وأعطيناه ﴿ ٱلإِنجِيلَ ﴾ في بطن أمه ﴿ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ ﴾ يعني اتبعوا عيسى ﴿ رَأْفَةً وَرَحْمَةً ﴾ يعني المودة، كقوله:﴿ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ ﴾[الفتح: ٢٩]، يقول: متوادين بعضهم لبعض جعل الله ذلك في قلوب المؤمنين بعضهم لبعض. ثم استأنف الكلام، فقال: ﴿ وَرَهْبَانِيَّةً ٱبتَدَعُوهَا ﴾ وذلك أنه لما كثر المشركون وهزموا المؤمنين وأذلوهم بعد عيسى ابن مريم، واعتزلوا واتخذوا الصوامع فطال عليهم ذلك، فرجع بعضهم عن دين عيسى، عليه السلام، وابتدعوا النصرانية، فقال الله عز وجل: ﴿ وَرَهْبَانِيَّةً ٱبتَدَعُوهَا ﴾ تبتلوا فيها للعبادة في التقديم ﴿ مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ ﴾ ولم نأمرهم بها ﴿ إِلاَّ ٱبْتِغَآءَ رِضْوَانِ ٱللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ﴾ يقول: لم يرعوا ما أمروا به يقول: فما أطاعوني فيها، ولا أحسنوا حين تهودوا وتنصروا، وأقام أناس منهم على دين عيسى، عليه السلام، حتى أدركوا محمداً صلى الله عليه وسلم فآمنوا به وهم أربعون رجلاً اثنان وثلاثون رجلاً من أرض الحبشة، وثمانية من أرض الشام، فهم الذين كنى الله عنهم، فقال: ﴿ فَآتَيْنَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ يقول: أعطينا الذين آمنوا ﴿ مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ ﴾ يعني صدقوا يعني جزاءهم وهو الجنة. قال: ﴿ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ [آية: ٢٧] يعني الذين تهودوا، وتنصروا فجعل الله تعالى لمن آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم من أهل الإنجيل أجرهم مرتين بإيمانهم بالكتاب الأول، كتاب محمد صلى الله عليه وسلم، فافتخروا على أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم بذلك، فقالوا: نحن أفضل منكم في الأجر لنا أجران بإيماننا بالكتاب الأول، والكتاب الآخر الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فشق على المسلمين، فقالوا: ما بالنا قد هاجرنا مع النبى صلى الله عليه وسلم وآمنا به قبلكم، وغزونا معه، وأنتم لم تغزو، فانزل الله تعالى: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ﴾ يعني وحدوا الله ﴿ وَآمِنُواْ بِرَسُولِهِ ﴾ يقول: صدقوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ﴿ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ ﴾ أجرين ﴿ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ ﴾ يعني تمرون به على الصراط إلى الجنة نوراً تهتدون به ﴿ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ﴾ ذنوبكم ﴿ وَٱللَّهُ غَفُورٌ ﴾ لذنوب المؤمنين ﴿ رَّحِيمٌ ﴾ [آية: ٢٨] بهم.
﴿ لِّئَلاَّ يَعْلَمَ ﴾ يعني لكيلا يعلم ﴿ أَهْلُ ٱلْكِتَابِ ﴾ يعني مؤمني أهل الإنجيل هؤلاء الأربعون رجلاً ﴿ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّن فَضْلِ ٱللَّهِ ﴾ وهو الإسلام إلا برحمته ﴿ وَأَنَّ ٱلْفَضْلَ بِيَدِ ٱللَّهِ ﴾ الإسلام ﴿ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ ﴾ من عباده ﴿ وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ ﴾ [آية: ٢٩] فأشرك المؤمنين في الكفلين مع أهل الإنجيل. قوله:﴿ مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ ﴾[الحديد: ٢٨] يقول: ما أمرناهم بها، كقوله:﴿ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ﴾[المائدة: ٢١] يعني التي أمركم الله تعالى. حدثنا عبدالله، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا الهذيل، عن المسيب، عن أبي روق في قوله: ﴿ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ﴾ يقول: ما وحدوني فيها.
Icon