تفسير سورة الأنعام

تيسير التفسير
تفسير سورة سورة الأنعام من كتاب تيسير التفسير .
لمؤلفه إبراهيم القطان . المتوفي سنة 1404 هـ
سورة الأنعام
هي السورة السادسة من سور القرآن الكريم، وهي مكية، وآياتها مئة وخمس وستون نزلت بعد الحجر، وقد نزلت جملة واحدة على قول معظم المفسرين والرواة. أما تاريخ نزولها فغير معروف بالضبط، ولكن أقرب الأقوال أنها نزلت في السنة الخامسة أو السادسة من البعثة. ويعود ترجيح ذلك إلى تعدد الموضوعات التي تناولتها، والتوسع في عرضها الذي تلمح منه الدعوة والجدل مع المشركين، بسبب من طول الأعراض من طرفهم وإصرارهم على تكذيب رسول الله. وكل هذا يقتضي التوسع في عرض القضايا العقيدية على هذا النحو.
وفي المصحف الأميري أنها مكية إلا الآيات " ٢٠، ٢٣، ٩١، ٩٢، ١١٤، ١٤١، ١٥١، ١٥٢، ١٥٣ ".
أما الرواية عن قتادة وابن عباس فتقول إن السورة كلها مكية نزلت في ليلة واحدة جملة واحدة، ما عدا آيتين منها نزلتا بالمدينة، هما قوله تعالى ﴿ وما قدروا الله حق قدره.. ﴾ إلى قوله ﴿ ثم ذرهم في خوضهم يلعبون ﴾ ( ٩١ ) نزلت في مالك بن الصيف وكعب بن الأشرف اليهوديين. وقوله تعالى :﴿ وهو الذي أنشأ جنات معروشات الآية... ﴾ ( ١٤١ ) نزلت في قيس بن ثابت أو في معاذ بن جبل.
ولسورة الأنعام منهج خاص في معالجتها للقضايا يخالف منهج السور المدنية الأربع التي سبقتها، وهي : البقرة وآل عمران والنساء والمائدة. فهذه السور تشترك كلها في هدف واحد، هو تنظيم شئون المسلمين بالتشريع لهم على اعتبارهم أمة مستقلة، وبإرشادهم إلى مناقشة جيرانهم أهل الكتاب فيما يتصل بالعقيدة والأحكام، وإلى الأساس الذي يرجعون إليه ويحكمونه في التعامل معهم في السلم والحرب. وقلما تعرض هذه السور إلى شيء من شئون الشرك ومناقشة المشركين، كما تفعل سورة الأنعام. ومع اشتراك هذه السور في أصل الهدف العام، فإنها تختلف قلة وكثرة فيما تتناوله من التشريع الداخلي الخاص بالمسلمين، والتشريع الخارجي بينهم وبين من يخالفهم في الدين.
أما سورة الأنعام فإنها تتميز عن تلك السور من حيث أهدافها، فهي، كسورة مكية، لم تعرض لشيء من الأحكام التنظيمية لجماعة المسلمين، كالصوم والحج في العبادات، والعقوبات في الجنايات، والمداينة والربا في الأموال، وأحكام الأسرة في الأحوال الشخصية.
كذلك لم تذكر شيئا عن القتال ومحاربة الخارجين على الدعوة، كما لم تتحدث في شيء عن أهل الكتاب، ولا طوائف المنافقين. ولا نجد في السورة نداء واحدا للمؤمنين باعتبارهم جماعة تنظمها وحدة الإيمان، لأن المجتمع الإسلامي ما كان قد تكون في تلك الفترة.
وتنهج سورة الأنعام منهجا خاصا في معالجتها للقضايا الكبرى التي شغلت العقول منذ القدم، فتبدأ بالحمد لله، تثبت استحقاقه وحده له، وتسير في طريق نوع من أنواع التربية العامة، وهو ذكر نوع الخلق والإيجاد للكائنات وظواهرها، ﴿ الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض، وجعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ﴾.
ثم تسير في وصف عظمة الله في آياته الكونية، سمائه وأرضه، وتعرض لاستدلال إبراهيم على وحدانية الله بظاهرة البزوغ والأفول للأجرام السماوية التي لا ينفك الإنسان يقلب بصره فيها.
وأخيرا تقول في نتيجة هذا السبح الطويل :﴿ بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة، وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم، ذلكم ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل، لا تدركه الأبصار، وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير، قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه، ومن عمي فعليها، وما أنا عليكم بحفيظ وكذلك نصرف الآيات، وليقولوا درست ولنبينه لقوم يعلمون ﴾.
فسورة الأنعام عرضت للعناصر الدينية الأولى، وهي القضايا الكونية الكبرى التي شغلت العقل البشري منذ نظر في الآفاق. وقد كانت هذه القضايا من قديم الزمن ميدانا لاختلاف النظر، واختلاف ما يدين به الإنسان في خلق العالم، قديما وحاضرا. والواقع أن هذه القضايا هي التي تحاول نتائجها الإجابة عن أسئلة ثلاثة تتفاعل في نفس الإنسان وكثيرا ما يقف العقل البشري أمامها حائرا مضطربا.
وهذه القضايا هي : قضية الألوهية وعبادة الله، وقضية الوحي والرسالة، وقضية البعث والجزاء.
وقد تناولت سورة الأنعام هذه القضايا التي لو عرفتها البشرية وآمنت بها حق الإيمان، لتخلصت من ظلمات المادة القاتلة، واستخدمت تلك المادة في بلوغ أقصى درجات السعادة، وحققت حكمة الله في خلق الإنسان، وفي إرسال الرسل إلى الناس.
وقد جاء في تضاعيف هذه السورة تصوير متكرر بعبارات مختلفة وأساليب متعددة في هذه القضايا الثلاث.
قضية الألوهية : فمن تصوير قضية الألوهية :﴿ قل أغير الله أتخذ وليا، فاطر السماوات والأرض ﴾. ﴿ قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون ﴾. ﴿ قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله ﴾. ﴿ قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ﴾. ﴿ ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه، وهو على كل شيء وكيل ﴾. ﴿ قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له ﴾. ﴿ قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء ﴾.
قضية الوحي والرسالة : ومن تصوير قضية الوحي والرسالة :﴿ وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ ﴾. ﴿ إن أتبع إلا ما يوحى إلي ﴾. ﴿ اتبع ما أوحي إليك من ربك ﴾ ﴿ وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا، والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين ﴾. ﴿ الله أعلم حيث يجعل رسالته ﴾.
قضية البعث : ومن تصوير قضية البعث :﴿ ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا يرب فيه ﴾. ﴿ وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو، وللدار الآخرة خير للذين يتقون، أفلا تعقلون ﴾ ﴿ لكل نبأ مستقر وسوف تعلمون ﴾. ﴿ ويوم يقول كن فيكون، قوله الحق وله الملك يوم ينفخ في الصور ﴾. ﴿ ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون ﴾.
هذه نماذج من تصوير سورة الأنعام للقضايا الثلاث التي دار حديثها حولها. وهو تصوير يحمل توجيها واضحا وقويا إلى الحجة والبرهان، وحسب المنصف في نظره وتدبره أن ينظر فيتفهمه على وجهه الحق ويدرك إشارته وإيحاءه.
ثم تنتهز السورة من الحديث في التحليل والتحريم فرصة لدعوة الناس إلى ما حرم الله في وصايا عشر، ترجع إلى العقيدة وإلى الأموال والأنفس والمعاملة والفواحش والعدل والوفاء بالعهد. ثم تكون الوصية العاشرة :﴿ وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله، ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون ﴾.
ثم تختم السورة – بعد أن تقطع أعذار المشركين وتتوعدهم على الإعراض عن الحق – بآية تكشف للإنسان مكانته عند ربه في هذه الحياة، فهو خليفة في الأرض، جعل الله عمارة الكون تحت يديه. وقد فاوت الخالق في المواهب بين أفراد الإنسان لغاية سامية وحكمة عظيمة، هي الابتلاء في مواقف هذه الحياة. ﴿ وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتاكم إن ربك سريع العقاب، وإنه لغفور رحيم ﴾
ومن هنا كانت سورة الأنعام بين السور المكية ذات شأن في تركيز الدعوة الإسلامية، تقرر حقائقها وتفند شبه المعارضين لها، فاقتضت الحكمة الإلهية أن تنزل جملة واحدة، وقد شاركها في البدء بالحمد أربع سور مكية هي : الفاتحة، والكهف، وفاطر، وسبأ.
يقول الإمام القرطبي في تفسيره : " قال العلماء : إن هذه السورة أصل في محاجة المشركين وغيرهم من المبتدعين، ومن كذب بالبعث والنشور. وهذا يقتضي إنزالها جملة واحدة ".
مناسبة هذه السورة لما قبلها : إن من نظر في ترتيب السور كلها في المصحف يرى أنه قد روعي في ترتيبها الطول والتوسط والقصر في الجملة. ومن الحكمة أن في ذلك عونا على تلاوته وحفظه، فالناس يبدأون بقراءته من أوله، فيكون الانتقال من السبع الطوال إلى المئين، فالمثاني، فالمفصل أنفى للملل وأدعى إلى النشاط. ويبدأون من آخره، لأن ذلك أسهل على الأطفال. ولكن في كل قسم من الطوال والمئين والمفصل تقديما لسور قصيرة على سور أطول منها، ومن حكمة ذلك أنه قد روعي التناسب في معاني السور مع التناسب في السور، أي مقدار الطول والقصر.
والسبع الطوال أولها البقرة وآخرها التوبة. وسور المئين ما كانت آياتها أكثر من مائة أو قريبا منها. والمثاني ما كانت آياتها أقل من مائة مما قبل المفصل، وقد سميت مثاني لأنها ثانية المئين أو لأنها تثنى وتعاد كثيرا في التلاوة- وسميت الفاتحة المثاني لهذا المعنى أيضا. أما المفصل فقد سمي كذلك لكثرة الفصل بين سوره.
وقد تقدم سورة الأنعام أربع سور طوال مدنية، وجاء بعدهن سورتا الأنعام والأعراف المكيتان، وبعدهما سورتا الأنفال والتوبة المدنيتان، وتقعان في أوائل الربع الثاني من القرآن. وما بعدهما من سور النصف الأول من القرآن كله مكي. وسور الربع الثالث كلها مكية، إلا سورة النور فإنها مدنية، وسورة الحج فهي مختلطة. أما الربع الرابع فهو مختلط وأكثره سور المفصل التي تقرأ في الصلاة. وهنا يحسن أن نبين مناسبة جعل سورتي الأنعام والأعراف المكيتين بعد السور الأربع المدنية وقبل الأنفال والتوبة، ثم مناسبة الأنعام للمائدة.
إن سورة البقرة أجمع سور القرآن لأصول الإسلام وفروعه، ففيها بيان التوحيد والبعث والرسالة العامة والخاصة، وأركان الإسلام العملية. وفيها بيان الخلق والتكوين، وأحوال أهل الكتاب والمشركين والمنافقين في دعوة القرآن، ومحاجة والجميع. فيها بيان أحكام المعاملات المالية، والقتال، والزوجية، والسور الطوال التي بعدها متممة لما فيها، فالثلاث الأولى منها مفصلة لكل ما يتعلق بأهل الكتاب، لكن البقرة أطالت في محاجة اليهود خاصة، وأطالت آل عمران في محاجة النصارى في نصفها الأول، وحاجتهم سورة النساء في أواخرها، واشتملت في أثنائها على بيان شئون المنافقين مما أجمل في سورة البقرة. ثم أتمت سورة المائدة محاجة اليهود والنصارى فيما يشتركان فيه وفيما ينفرد كل منهما به.
ولما كان أمر العقائد هو الأهم المقدم في الدين، وكان شأن أهل الكتاب فيه أعظم من شأن المشركين، قدمت السور المشتملة على محاجتهم بالتفصيل، وناسب أن يجيء بعدها ما فيه محاجة المشركين بالتفصيل. وتلك سورة الأنعام لم تستوف مثله سورة مثلها، فهي متممة لشرح ما في سورة البقرة مما يتعلق بالعقائد.
وجاءت سورة الأعراف بعدها متممة لشرح ما فيها ومبينة لسنن الله تعالى في الأنبياء والمرسلين وشئون أممهم معهم. وهي حجة على المشركين وأهل الكتاب جميعا. لكن سورة الأنعام فصلت الكلام في إبراهيم الذي ينتمي إليه العرب وأهل الكتاب في النسب والدين، فيما فصلت سورة الأعراف الكلام في موسى الذي ينتمي إليه أهل الكتاب ويتبع شريعته جميع أنبيائهم حتى عيسى ابن مريم.
ولما تم بهذه الصورة تفصيل ما أجمل في سورة البقرة من العقائد في الإلهيات والنبوات والبعث، ناسب أن يذكر بعدها تكملة ما أجمل فيها من الأحكام، ولا سيما أحكام القتال والمارقين والمنافقين.
وبذلك يتبين أن ركن المناسبة الأعظم بين سورتي المائدة والأنعام أن المائدة معظمها في محاجة أهل الكتاب، والأنعام في محاجة المشركين. ومن التناسب بينهما

الحمد : الثناء الحق والذكر الجميل.
الظلمة : الحال التي يكون عليها كل مكان لا نور فيه، والنور قسمان : حِسّي وهو ما يدرك بالبصر، ومعنويّ وهو ما يدرَك بالبصيرة.
الجَعل : الإنشاء والإبداع كالخلق، إلا أن الجعل مختص بالإنشاء التكويني كما في هذه الآية، وبالتشريعي كما في قوله تعالى :« ما جعل الله من بَحيرة ولا سائبة »الآية.
ولم يذكر النور في القرآن إلا مفرداً، والظلمة إلا جمعاً. وذلك لأن النور واحد حتى لو تعددت مصادره، فيما تتم الظُلمة بعد حجب النور واعتراضه، ومصادر ذلك كثيرة. وكذلك حال النور المعنوي، فهو شيء واحد فيما الظلمات متعددة. فالحق واحد لا يتعدد، والباطل الذي يقابله كثير. والهدى واحد، والضلال المقابل له كثير. وقُدمت الظلمات في الذكر على النور لأنها سابقة عليه في الوجود، فقد وُجدت مادة الكون وكانت سديما كما يقول علماء الفلك، ثم تكوّنت الشموس والأجرام بما حدث فيها من الاشتعال لشدة الحركة. وإلى هذا يشير حديث عبد الله بن عمرو :« إن الله خلق الخلق في ظلمة، ثم رشّ عليهم من نوره، فمن أصابه نورُه اهتدى، ومن أخطأهُ ضل » رواه أحمد والترمذي. ويؤيده قوله تعالى :﴿ ثُمَّ استوى إِلَى السماء وَهِيَ دُخَانٌ، فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ أتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ﴾.
ومثلُ ما سبق أن الظلمات المعنوية أسبقُ في الوجود، فان نور العلم والهداية كسبيٌ في البشر، وغير الكسبيِّ منه الوحي، وظلمات الجهل والأهواء سابقة على هذا النور ﴿ والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً، وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾.
يعدلون : يجعلون له عديلاً مساوياً في العبادة، أي : يتخذون له أندادا.
الثناء والذِكر الجميل لله، الذي خلق هذا الكون وما فيه مما نراه وما لا نراه، وأوجد الظلمات والنور لمنفعة العباد. ثم مع هذه النعم الجلية يُشرِك به الكافرون ويجعلون له شريكاً في العبادة ! !
بدأت سورة الأنعام هنا في آياتها الأولى، فركّزت اتجاهها نحو القضايا الثلاث التي أشرنا إليها : الألوهية، الوحي والرسالة، وقضية البعث بعد الموت، فقررت في أولاها ما يوجب النظَر في التوحيد، وأثبتت لِلّه في سبيل ذلك استحقاق الحمد بحقيقته الشاملة لجميع أنواع صوره، وأهابت بالعقول أن تلتفت إلى أنه هو الذي خلق الكون بمادته وجوهرة، فلا أحد غيره يستحق شيئا من الحمد والثناء، لأن الله هو وحده المصدر، ولا يصح في عقلٍ أن يتجه بالعبادة والتقديس إلى غيره، فما أضلَّ أولئك الذين تنكبوا طريق العقل السليم واتخذوا له شركاء هو الّذي خلقهم في جملة ما خلق.
ففي الآية الكريمة إشارة إلى عظمة الخلق ووحدته، وعظمةُ الخلق تدل على وحدانية الخالق وجلاله : فالسماوات بنجومها وكواكبها، والأرض وما عليها من حيوان ونبات، وما في باطنها من معادن جامدة وسائلة، والبحار وما يسبح فيها من لآلئ وأحياء، كلها تدل على وحدانية الخالق. وكذلك النور الواحد والظلمات المنوعة، كظلمة الصخر والبحر والكهف والضباب المتكاثف... كل هذا يدل على إبداع الخالق.
الأجَل : المدة المقدَّرة.
تمترون : تشكّون في البعث.
هو الذي بدأ خلْقكم من طين هذه الأرض، ثم قدّر لحياة كل واحد منكم زمنا ينتهي بموته، وأجلاً مسمّى عنده. وهذا يعني أن الله تعالى قضى لعباده أجلَين : أجَلاً لحياة الفرد قبل مماته، وأجلاً آخر محدداً عنده تعالى لبعث جميع الناس بعد انقضاء عمر الدنيا. ثم أنتم أيها الكافرون، بعد هذا تجادلون في قدرة الله على البعث ! ما دام الله هو الذي خلق الإنسان من طين، وسخّر له ما في الأرض والسماوات ينتفع بما فيها، فكيف يشك أي إنسان في أن له حياة أخرى ! !
هو وحده المستحقُّ للعبادة في السماوات وفي الأرض، يعلم ما أخفيتموه وما أظهرتموه، ويعلم ما تكسبُون من الخير والشر فيحصي ذلك عليكم ليجازيكم به.
تقرر هذه الآية الكريمة خاصة الألوهية من العلم الشامل وعموم القدرة، وهما الأساسان في فهم الحق بالنسبة إلى الألوهية، وبالنسبة إلى البعث والجزاء، وبالنسبة إلى الوحي والرسالة.
الآية : العلامة والعبرة والحجة، ومن القرآن جملة أو جُمل.
الإعراض : التولي عن الشيء.
بعد أن أرشد سبحانه وتعالى في الآيات السالفة إلى دلائل وحدانيته، وذكَر أنها على شدة وضوحها لم تمنع المشركين من أن يتجاهلوا ذلك كله، جاءت هذه الآية تقرر أن لله آياتٍ يبعث بها أنبياءه إلى خلقه، وهي آيات الشرائع والأحكام، وآيات الخلق والإتقان. لكن الناس مع وضوح هذه الآيات تأخذهم فتنة الحياة، فيُعرضون ويكذّبون. ثم توعّدهم ربهم على إعراضهم ذاك وأنذرهم عاقبة التكذيب بالحق، ووجَّه أنظارهم إلى ما حل بالأمم التي قبلهم لعلّم يرعوون.
﴿ وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ ﴾.
ولا تنزلُ عليهم آية من تلك الآيات الناطقة بتفصيل بدائع صنع الله إلا أعرضوا عنها استهزاءً وتكذيبا.
الحق : دين الله الذي جاء به خاتم رسله. الإنباء : الإخبار الذي جاء به القرآن الكريم من وعد ووعيد.
ولما بيّن تعالى أن شأنهم الإعراضُ عن الآيات قال :﴿ فَقَدْ كَذَّبُواْ بالحق لَمَّا جَآءَهُمْ ﴾ أي أنه بسببٍ من ذلك الإعراض عن النظر في الآيات كذّبوا بالحق الذي جاءهم به النبيّ عليه السلام، ولم يتأملوا ما فيه.
ثم هدّدهم وتوعدهم على تكذيبهم فقال :﴿ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ ﴾ أي : إن عاقبة التكذيب أن تحل بهم العقوبات العاجلة، من نصر رسوله وأصحابه، وإظهار دينه على الدين كله. وقد حقق ذلك، وتم فتح مكة والنصر لدين الله.
القرن : القوم المقترنون في زمن واحد، جمعُه قرون.
مكّناهم في الأرض : جعلناهم يتصرفون فيها.
أرسلنا عليهم السماء مدرارا : أمطرنا عليهم مطرا غزيرا.
وبعد أن توعدهم سبحانه بنزول العذاب بهم، بيّن أنَّ هذا مما جرت به سُنّته في المكذبين قبلهم ليتّعظوا فقال :
﴿ أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرض مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ ؟ ﴾ ألم يَعْلموا أنّنا أهلَكْنا أُمماً كثيرةً قبلَهُم، أعطَيْناهم مِن أسبابِ القُوّة والبقاءِ في الأرضِ ووسّعنا عليهم في الرزق والنعيم ما لم نُعْطِكم مثلَه أيها الكافرون.
ولما لم يشكروا هذه النِعم، أهلكناهم بسبب شركهم وكثرة ذنوبهم ﴿ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ ﴾ أي : أوجدنا أناساً غيرهم خيراً منهم.
وفي هذه الآية ردّ على كفار مكة وهدمٌ لغرورهم بقوتهم وثروتهم، قبالة ضعف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وفقرهم في ذلك الوقت. كما حكى الله عنهم في قوله :﴿ وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ﴾ [ سبأ : ٣٥ ].
الكتاب : الصحيفة المكتوبة، ومجموعة الصحف في موضوع واحد. القرطاس : الورق الذي يكتب فيه.
اللمس : مسُّ الشيء باليد، وقد يستعمل بمعنى طلب الشيء، يقال : لمسه والتمسه وتلمّسه.
السحر : خداع وتمويه يُري ما لا حقيقة له في صورة الحقائق.
بعد أن أرشد سبحانه في الآيات المتقدمة إلى ما دعا إليه الرسولُ الكريم من التوحيد والبعث، ثم ذكر أن قريشا نزعت إلى التكذيب، وأنذرهم عاقبة ذلك طالباً إليهم أن يتعظوا من أمم غابرة، أورد هنا شُبهاتِ أولئك الجاحدين المعاندين على الوحي وبعثة الرسول صلى الله عليه وسلم منها لجوؤهم إلى رمي الحديث بالسحر. وتفسير الآية :
ولو أنْزلنا عليك أيها النبي، هذا القرآن مكتوبا في ورق ظاهر، كدليل على رسالتك، فرأوا بأعينهم وتأكدوا منه بلمسه بأيديهم، لقالوا : ما هذا الذي رأيناه ولمسناه إلا سحر واضح ظاهر.
وكان كفار قريش وزعماؤهم يتعنّتون كثيراً ويطلبون من الرسول الكريم أشياء للتعجيز، وكان النبي يعجَب من كفر قومه به وبما أنزل عليه، رغم وضوح برهانه، فبيّن الله تعالى أسباب ذلك، وأن هذا قديم في طباع البشر وأخلاقهم.
لقُضي الأمر : لتم هلاكهم.
لا ينظَرون : لا يمهلون.
وكان من تعنت قريش أنهم اقترحوا أن يُنزل على الرسول ملَك من السماء يسمعون كلامه ويرونه، ويكون معه رسالة من ربه. وقد رد الله تعالى الاقتراحين بقوله تعالى ﴿ وَقَالُواْ لولا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ : وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ الأمر ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ ﴾
قالوا : نطلب أن ينزل الله عليه ملَكاً يصدِّقه، ولو أنزلْنا كما اقترحوا لقُضي الأمر بإهلاكهم ثم لا يؤخَّرون ساعة.
اللبس : الستر والتغطية.
ولو جُعل الرسول ملَكاً لجُعل متمثّلاً في صورة بشرٍ، وذلك ليستطيعوا رؤيتَه، وسماعَ كلامه فالملائكة أرواح لطيفة لا تُرى، ولا يمكن أن يظهروا للعيان إلا في صورة جسم بشري. ولو جاءهم ملك في صورة بشر لاعتقدوا أنه بشر مثلهم، وحينئذٍ يقعون في اللَّبس والخطأ الذي يتخبطون فيه الآن.
وقد ذكر الإمام البخاري في تفسير «قضاء الأمر » عدةَ وجوه :
- إن سنة الله قد جرت بأن أقوام الرسل إذا اقترحوا آية ثم لم يؤمنوا بها بعد أن جاءتهم، عذّبهم الله عذاب الاستئصال. والله لا يريد أن يستأصل هذه الأمة التي بعث فيها خاتم رسله نبي الرحمة ﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ﴾.
- إنهم لو شاهدوا الملَك بصورته الأصلية لماتوا من هول ما يشاهدون.
- إنهم اقترحوا ما لا يتوقّف عليه الإيمان، فلو أُعطوه ولم يجدِ ذلك معهم نفعا، دلّ ذلك على منتهى العناد الذي يستدعي الإهلاك وعدم الإمهال...
الاستهزاء والهزؤ : السخرية والاحتقار.
حاق به المكروه : أحاط به.
بعد أن ذكر سبحانه مقترحات كفار قريش السخيفة وتعنتهم، وخفّف عن الرسول ما يلاقيه منهم من سوء الأدب، بيّن له أنه ليس أول رسول يلاقي ما يلاقيه.. فان كثيرا من الرسل قبله لاَقوا من أقوامهم مثل ما لاقى بل أشدّ. والتفسير : لقد استهزأ الكفار برسل كرام قبلك، فأحاط بالساخرين العذاب الذي أنذرهم به رسلهم، جزاء على سوء صنيعهم. وفي الآية تسلية للرسول الكريم عن إيذاء قومه له، وتعليم له بسنُنِ الله في الأمم مع رسلهم، وبشارة له بحسن العاقبة، وما سيحل بالمستهزئين من الخزي والنّكال.
ثم أمر هؤلاء المكذبين أن يسيروا في الأرض ليروا كيف كانت عاقبةُ الذين كذّبوا أنبياءه من قبلهم.
كذلك فيها تحدّ لهم، قُل يا محمد، للمستهزئين بك من قومك : سيروا في الأرض، وتأملوا كيف كان الهلاك نهاية المكذبين لرسلهم، وكيف كانت عاقبتهم بما تشاهدون من آثارهم، ثم اعتبروا أنتم بهذه النهاية، وذلك المصير.
كتب على نفسه الرحمة : أوجب على نفسه إيجاب فضل وكرم.
في الآيات السابقة ذكرَ اللهُ تعالى أصول الدين الثلاثة : التوحيد، والبعث، والجزاء، ورسالة محمد، ثم ذكر شبهات الكافرين الجاحدين وبيّن ما يدحضها، ثم أرشد إلى سننه تعالى في أقوام الرسل المكذّبين وعاقبتهم. وهنا يرد ذِكر هذه الأصول الثلاثة بأسلوب آخر : أسلوب السؤال والجواب.
هذا الأسلوب في طريقين بارزين لا نكاد نجدهما بهذه الكثرة في غير هذه السورة. فهي تورد الأدلةَ المتعلقة بتوحيد الله، وتفرُّدِه بالمُلك والقدرة في صورة الشأن المسلَّم بالتقرير الذي لا يقبل الإنكار أو الجدل ﴿ هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مِّن طِينٍ ثُمَّ قضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ وَهُوَ الله فِي السماوات وَفِي الأرض يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ الخ... ﴾ هذا الأسلوب.
أما الأسلوب الثاني فهو أسلوب التلقين : تلقين الحجة والأمر بقذفها في وجه الخصم حتى تحيط به من جميع جوانبه فلا يستطيع التفلّت منها، ولا يجد بُدّاً من الاستسلام لها. ففي حجج التوحيد والقدرة :
﴿ قُل لِّمَن مَّا فِي السماوات والأرض قُل للَّهِ كَتَبَ على نَفْسِهِ الرحمة ﴾
﴿ قُلْ أَغَيْرَ الله أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السماوات والأرض... الآية ﴾.
﴿ قُلْ إني أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾.
﴿ قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ الله أَوْ أَتَتْكُمْ الساعة أَغَيْرَ الله تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾.
﴿ قُلْ أَغَيْرَ الله أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ ﴾
وفي حجج الوحي وبيان مهمة الرسول، وأن الرسالة لا تنافي البشرية، وفي إيمان الرسول بدعوته، واعتماده على الله، وعدم اكتراثه بهم، أو انتظار الأجر منهم :
﴿ قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً ؟ قُلِ الله شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ ﴾.
﴿ قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ الله ولا أَعْلَمُ الغيب، ولا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ، إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحَى إِلَيَّ ﴾ إلى آيات كثيرة.
وفي وعيدهم على التكذيب :
﴿ قُلْ سِيرُواْ فِي الأرض ثُمَّ انظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكذبين ﴾.
﴿ قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ الله بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ القوم الظالمون ﴾.
﴿ قُلْ يَا قَوْمِ اعملوا على مَكَانَتِكُمْ إِنَّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدار ﴾.
﴿ قُلِ انتظروا إِنَّا مُنتَظِرُونَ ﴾.
وفي الرد عليهم في التحليل والتحريم من دون الله وتفنيدِ شبهتهم في الشرك وآثاره، وفي بيان ما حرم خاصة في الطعام، وعامة في نظام الله :
﴿ قُلْ آالذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأنثيين ﴾.
﴿ قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً الآية... ﴾.
﴿ قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَآ ؟ ﴾.
﴿ قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ﴾.
هذان الأسلوبان قد تناوبا معظم ما تضمنته هذه السورة العظيمة، والقرآن كله عظيم..
ويدل الأسلوبان على أنهما صدرا في موقف واحد، وفي مقصد واحد، ولخصم واحد بَلَغ من الشدة والعتو مبلغاً استدعى من الله تزويد الرسول بعدةٍ قوية تتضافر في جملة شديدة يقذف بها في معسكر الأعداء، فتزلزل عمده، وتهد من بنيانه، فيخضع بالتسليم للحق.
﴿ قُل لِّمَن مَّا فِي السماوات والأرض ؟ ﴾.
قل أيها الرسول، لقومك الجاحدين لرسالتك، المعرضين عن دعوتك : من هو مالك السماوات والأرض ومن فيهن ؟ فإن أحجموا ولم يجيبوا، فقل الجواب الذي لا جواب غيره : إن مالكها هو الله وحده لا شريك له. لقد أوجب على ذاته العلية الرحمة بخلقه، فلا يعجل في عقوبتهم وإنما يقبل توبتهم. ومن مقتضى هذه الرحمة أن يجمعكم إلى يوم القيامة.
﴿ الذين خسروا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾، والذين ضّيعوا أنفسَهم، وعرَّضوها للعذاب في هذا اليوم هم الذين لا يؤمنوا بالله، ولم يصدقوا رسوله، ولا بيوم الحساب.
سكن : من السكون، ضد الحركة.
فلله ما في السماوات والأرض، وله كل ما فيهنّ من ساكن ومتحرك في كل مكان وزمان، وهو السميع المحيط سمعه بكل شيء، والعليم المحيط علمه بكل شيء.
الولي : الناصر ومتولي الأمر.
فاطر السماوات والأرض : مبدعها على غير مثال.
وهو يُطعم ولا يطعم : هو الرزاق لغيره ولا يرزقه أحد.
قل أيها النبي، أنا لا أتخذ غير الله إلهاً وناصرا، وهو وحده منشئ السماوات والأرض على نظام لم يُسبق إليه. روى عن ابن عباس أنه قال : ما عرفت معنى فاطر السماوات والأرض، حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما : أنا فطرتها، أي ابتدعتها.
وهو الرزاق لعباده طعامَهم، وليس هو بحاجة إلى من يرزقه ويطعمه. وقل لهم يا محمد، بعد أن استبانت لكم الأدلة على وجوب عبادة الله وحده، فأنا أُبلّغكم أنني قد أمرني ربي أن أكون أول من أسلم إليه، ونهاني عن أن أشرك معه غيره في العبادة.
ذلك أني أخاف إن خالفتُ أمر ربي وعصيته، عذابَ يوم يتجلى فيه الرب على عباده ويحاسبهم على أعمالهم ويجازيهم بما يستحقون.
يصرف عنه : يبعد عنه.
إنه يوم شديد عند ذلك، فمن صرُف عنه العذاب ونجا من العقوبة، فقد رحمه الله، فدخل الجنة، و فاز فوزا عظيما.
المس : أعمًّ من اللمس، يقال : مسه السوء أو الكِبَر أو العذاب أو التعب : أصابه.
الضر : الألم والحزن والخوف.
بعد أن بين سبحانه وتعالى أن صَرْفَ العذاب والفوزَ بالنعيم هو من رحمته تعالى في الآخرة، بين هنا أن الأمر كذلك في الدنيا، وأن التصرف فيها له وحده.
إن يُصبْك الله بأي نوع من الألم والسوء والحزن وغيره، فلا صارف يصرفه عنك إلا الله، وإن يمنحك خيرا كصحة وغنى وقوة وجاه فلا رادّ لفضله، وهو القادر على حفظه عليك، لأنه القدير على كل شيء.
القاهر : الغالب.
وبعد أن أثبت الله تعالى لنفسه كمال القدرة، أثبت لها كمال السلطان والقوة، مع كمال الحكمة والعلم المحيط بخفايا الأمور، فقال :
﴿ وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الحكيم الخبير ﴾.
وهو الغالب بقدرته، المستعلي على عباده، المتّصف بالحكمة في كل ما يفعل، هو المحيط علمه بما ظهر واستتر، والخبير بمصالح الأشياء، ومضارها، لا تَخفى عليه خوافي الأمور.
الشهيد : الشاهد عن علم ويقين.
الإنذار : التخويف.
قل أيها النبي، لِمَن يطلبون شهادة على رسالتك : أي شيء أعظمُ شهادةً وأحق بالتصديق ؟ ثم قل : إن الله أعظم شاهد بيني وبينكم على صدق ما جئتكم به، وقد أنزل عليّ هذا القرآن ليكون حجة لصدقي، لأحذركم به أنتم وكل من بلغه خبرُه.
واسألْهم : أأنتم الذين تقولون، معتقدين، إن مع الله آلهة غيره ؟ ثم قل لهم : لا أشهد بذلك، ولا أُقركم عليه، وإنما المعبودُ بحق إلهٌ واحد هو الله ربي وربكم، وأنا بريء مما تشركون به من الأصنام والأوثان.
بين الله تعالى في الآية السابقة أن شهادة الله على صحة نبوة رسوله كافية في تحقُّقها، وذكَر كذب أهل الكتاب في ادعائهم أنهم لا يعرفون محمداً صلى الله عليه وسلم، فأورد أنهم يعرفون نبوّته كما يعرفون أبناءهم. وقد رُوي أن كفار قريش أرسلوا ليهودَ وسألوهم عن صفة النبي هل جاء في كتبهم عنها شيء، فأنكروا أن في التوراة والإنجيل شيئا من ذلك. وقد كذبوا في ذاك، إن صفته في كتبهم واضِحة ظاهرة.
﴿ الذين خسروا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾، فهؤلاء قد ضيعوا أنفسهم لأنهم كذبوا، ولم يقرّوا بما يعرفون، بل أصرّوا على إنكارهم الحقائق.
افترى : كذب.
وليس هناك من هو أشد ظلماً ممن افترى على الله كذِبا، كمن زعم أن له ولداً أو شريكا، ولا ممن كذّب بآياته المنزلة على أنبيائه السابقين وأنكرها.
تزعمون : تظنون، وأكثر ما يستعمل الزعم فيما هو باطل.
اذكر لهم أيها الرسول، ما سيحصل لهم يوم نجمع الخلق كلّهم للحساب، ثم نقول للذين عبدوا مع الله غيره : أين الذين جعلتموهم شركاء لله، وزعمتم في الدنيا أنهم أولياؤكم من دونه ؟
لن تكون نتيجة محنتهم الشديدة في هذا الموقف الحرج إلا محاولة التخلص من شركهم السابق بالكذب، قائلين ما أشركنا في العبادة أحدا. قراءات :
قرأ حمزة والكسائي «ثم لم يكن » بالياء والباقون «لم تكن » بالتاء. وقرأ ابن كثير وابن عامر وحفص «فتنتهم » بالرفع، والباقون «فتنتهم » بنصب التاء. وقرأ حمزة وخلف والكسائي «والله ربنا » بنصب الباء، والباقون بكسرها.
ضل : غاب، وخفِي.
انظر كيف سيغالطون أنفسهم بهذا الكذب، كيف غاب ما كانوا يختلقونه من عبادة الأحجار، ويزعمونها شركاء لله.
الأكنة : الأغطية مفردها كنان.
الوقر : الثقل في السمع، الصمم.
الأساطير : مفردها أسطورة، وهي الخرافة.
بعد أن بين تعالى أحوال الكفار يوم القيامة، وما يكون منهم من تلجلج واضطراب، ذكر هنا ما يوجب اليأس من إيمان بعضهم مهما توالت الآيات والنذر.
ومنهم من يستمع إليك حين تتلو القرآن، لا ليتفهموه وليهتدوا به، وإنما ليتلمسوا سبيلا للطعن فيه والسخرية منه. لذا فقد حرمناهم من الانتفاع بعقولهم وأسماعهم، فباتوا وكأن عقولهم عليها أغطية تحجب عنهم الإدراك الصحيح، وكأن في آذانهم صمماً يحول دون سماع الآيات على صحة نبوتك وحتى لو رأوا كل دليل فإنهم لن يؤمنوا. وسيظلون إذا جاؤوك ليجادلوك بالباطل، قالوا مدفوعين بكفرهم : ما هذا إلا خرافات عن الأولين.
نأى عنه : بعد، وأعرض.
وهم ينهون الناس عن الإيمان بالقرآن، ويبتعدون عنه بأنفسهم، فلا ينتفعون ولا يَدعون غيرهم ينتفع به.
الواقع أنهم لا يضرون بذلك إلا أنفسهم، وما يشعرون بقبح ما يفعلون.
روى ابن عباس : قال حضر عند النبي صلى الله عليه وسلم أبو سفيان، والوليد بن المغيرة، والنضر ابن الحارث، والحارث بن عامر، وأبو جهل... في جَمعٍ من كفار قريش، واستمعوا إلى النبي وهو يقرأ القرآن فقالوا للنضر : يا أبا قتيلة، ما يقول محمد ؟ فقال : والذي جعل الكعبة بيته ما أدري ما يقول، إلا أني أراه يحرك شفتيه ويتكلم بأساطير الأولين مثل ما كنتُ أحدّثكم بهِ عن القرون الماضية. ( وكان النضر كثير الحديث عن القرون الأولى ). قال أبو سفيان : إني لأرى بعض ما يقول حقاً. فقال أبو جهل : كلا فأنزل الله الآية... وهناك روايات أخرى...
وقفوا على النار : اطّلعوا عليها وعرفوها.
يبين الله تعالى هنا مشهدا من مشاهد يوم القيامة، وبعض ما يكون من أمرِ الكفار عندما يُعرَضون على النار ويشاهدون هولها، عند ذاك يتمنون أن يعودوا إلى الدنيا ليعملوا صالح الأعمال. وقد كذّبهم الله فيما يقولون من أمر ذلك.
ولو ترى أيها النبي، هؤلاء الكفار وهم واقفون على النار يعانون أهوالها لرأيتَ أمرا غريباً رهيباً، إذ يتمنّون الرجوع إلى الدنيا، ويقولون ياليتنا نُردّ إليها لنُصلح أعمالنا، ونكون من المؤمنين.
لكن قولهم هذا ليس إلا رهبة وتخلصاً، فقد جاء بعد أن ظهر لهم ما لا يمكن إخفاؤه والمكابرة فيه.
قراءات :
قرأ حمزة ويعقوب وحفص «لا نكذب بآيات ربنا ونكون » بالنصب فيها والباقون بالرفع. وقرأ ابن عامر «ونكون » بنصب النون.
ولو رُدوا إلى الدنيا كما يتمنون، لعادوا إلى الكفر الذي نهاهم الله عنه، اغتراراً منهم بزخرفها وإطاعة لأهوائهم. إنهم لكاذبون في دعواهم الإيمان إذا ردوا إلى الدنيا.
فلو أُعيدوا إلى الدنيا لقالوا : ليس لنا حياة إلا هذه، وما نحن بمبعوثين بعد ذلك.
يبين الله هنا حال الكفار حين ينكشف لهم كل شيء يوم القيامة، ويجدون أنفسهم في موقف حرج، فيتحسرون ويندمون على تفريطهم السابق في الدنيا، وغرورهم بمتاعها الزائل.
ولو ترى يا محمد، هؤلاء الظالمين المكذبين حين يقفون للحساب أمام ربهم، ويعرفون صدق ما أنزله على رسله لرأيت سوء حالهم إذ يقول الله لهم : أليس هذا تشاهدونه الآن هو الحق الذي أنكرتموه في دنياكم ؟ فيقولون متذلّلين : بلى وربنا إنه الحق. فيقول الله لهم بعد ذلك : ادخلوا النار بسبب ما كنتم حريصين عليه من الكفر.
الساعة : الزمن المعّين، والمراد به هنا يوم القيامة.
بغتة : فجأة.
الحسرة : الغم والندم على ما فات.
فرّطنا : قصرنا.
الأوزار : جمع وزر وهو الحمل الثقيل، ومعناه هنا الإثم والذنب.
يومذاك يكون الذين أنكروا لقاء الله للحساب والجزاء يوم القيامة قد خسِروا كل شيء... حتى إذا فاجأتهم مشاهد يوم القيامة وهولها ندموا وقالوا : يا حسرتنا على إهمالنا اتّباعَ الحق وما فرطنا في الدنيا. إنهم هم يحملون ذنوبهم ويرزحون تحت أعبائها، وما أسوأ تلك الأثقال !
الحقّ أقول لكم : ليست هذه الحياة الدنيا التي حسب الكفار أنه لا حياة غيرها إلا لهواً ولعباً لا نفع فيه، أما الدار الآخرة فهي الحياة الحقيقة. إن نعيم الآخرة لهو أنفع للذين يخافون الله فيمتثلون أمره. أفلا تعقلون هذا الأمر الواضح، وتفهمون ما يضركم ولا ينفعكم ؟.
قراءات :
قرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم ويعقوب « تعقلون » بالتاء والباقون «يعقلون » بالياء.
الجحود والجحد : الإنكار وعدم الاعتراف بالحق.
إننا نعلم بتكذيبهم لرسالتك وحزنك وأسفك عليهم، فلا تحزن من ذلك، فان منشأ هذا التكذيب هو العناد والجحود.
إن الحقيقة أنهم لا يتهمونك يا محمد بالكذب، ولكنهم يظلمون أنفسهم مكابرة في الحق وعناداً له، فينكرون بألسنتهم دلائل صدقك، وعلامات نوبتك.
هناك روايات كثيرة وردت عن إقرار بعض زعماء قريش بصدق النبي عليه الصلاة والسلام، ولكنْ سراً بينهم. فقد روى ابن جرير عن السُدّي أن الأخنَس بن شريق وأبا جهل التقيا، فقال الأخنس لأبي جهل : يا أبا الحكَم أخبرني عن محمد : أصادق هو أم كاذب ؟ فإنه ليس ها هنا أحد يسمع كلامك غيري. قال أبو جهل : والله إن محمداً لَصادق وما كذب قط، ولكن إذا ذهب بنو قومه باللواء والسقاية والحجابة والندوة والنبوّة فماذا يكون لسائر قريش ؟ ! والزعامة الدنيوية والمصلحة هنا هما أساس إعراض أبي الحكَم، كما ترى.
وروى سفيان الثورِي عن عليّ كرم الله وجهه قال : قال أبو جهل للنبي صلى الله عليه وسلم : إنّا لا نكذّبك ولكن نكذّب بما جئت به.
فهم يعلمون حق العلم أن الرسول صادق، وقد جرّبوه منذ نشأته وعرفوه، لكن خوفهم على مراكزهم جعلهم يصرّون على الكفر والجحود.
القراءات :
قرئ «ليُحْزِنك ».
كلمات الله : وعده ووعيده.
النبأ : الخبر ذو الشأن العظيم.
لقد قوبل رسل قبلك يا محمد، بالتكذيب والإيذاء من أقوامهم كما تجد أنت الآن من قومك، فصبروا حتى نصرناهم، فاصبر أنت مثلهم.
﴿ وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ الله ﴾، اصبر وسيأتيك نصرنا، فلا مغّير لوعدِ الله بنصْرِ الصابرين.
﴿ وَلَقدْ جَآءَكَ مِن نَّبَإِ المرسلين ﴾، لقد قصصنا عليك من أخبار هؤلاء الرسل وتأييدنا لهم، ما فيه تسلية لك، ويقتضيه توجيه الرسالة من تحمُّل الشدائد.
قراءات :
قرأ نافع والكسائي «لا يُكْذِبونك » من أكذب والباقون «يُكَذِّبونك ».
كبر الأمر : عظم، وشق وقْعه.
الإعراض : التولي والانصراف عن الشيء رغبة عنه، أو احتقاراً له. الابتغاء : طلبُ ما في طلبه مشقة.
النفق : سرب في الأرض له مدخل ومخرج.
السلّم : المرقاة، مأخوذة من السلامة لأنه الذي يُسْلمك إلى المكان الذي تريد.
الجهل : ضد العلم ويُذَم الإنسان بجهل ما يجب عليه علمه.
إن كان قد شق عليك انصرافهم عن دعوتك، فإن استطعت أن تتخذ طريقا في باطن الأرض، أو سلّما تصعد به إلى السماء، فتأتيهم بدليل على صدقك، فافعل. ليس في قدرتك ذلك يا محمد، فأرحْ نفسك واصبر لحكم الله. ولو شاء الله هدايتهم لحملهم جميعاً على الإيمان بما جئت به قسراً وقهراً. لكنه تركهم لاختبارهم، فلا تكونن من الذين لا يعلمون حكم الله وسنّته في الخلق.
استجاب : أطاع في ما دُعي إليه، وأجاب الداعي واستجاب له : لبّاه وقام بما دعاه إليه. والاستجابة من الله يعبر بها في الأمور التي تقع في المستقبل. استجاب الله فلاناً، ومنه، وله : قبل دعاءه وقضى حاجته. الموتى : هنا الكفار.
يبعثهم الله : يحييهم.
بعد أن بيّن الله تعالى أن حكمته اقتضت أن يكون البشر متفاوتين في الاستعداد مختارين في تصرفاتهم وأعمالهم، فمنهم من يختارون الهدى ومنهم من يختارون الضلال، بيّن هنا أن الأولين هم الذين ينظرون في الآيات ويفقهون ما يسمعون، وأن الآخرين لا يفقهون ولا يسمعون، فهم والأموات سواء.
إنما يجيب دعوةَ الحق مقبلين عليه، أولئك الذين يسمعون كلامَ الله سماع فهمٍ وتدبّر، أما الذين لا تُرجى استجابتهم فإنهم لا يسمعون السماع النافع، ولا ينتفعون بدعوتك، لأنهم في حكم الأموات، يُترك أمرهم إلى الله، فهو سيبعثهم يوم القيامة من القبور، ويرجعهم إليه فيحاسبهم على ما فعلوا.
ذكر شيئا من تعنتهم وعنادهم الدال على عظيم جحودهم. إذا قالوا : إننا نطلب أن تُنزّل آية معجزة على محمد كدليل مادي من ربه تشهد بصدق دعوته.
قل لهم أيها الرسول : إن الله قادر على أن ينزل أي دليل تقترحونه، ولكن أكثركم لا تعلمون حكمة الله في إنزال الآيات. إنها ليست تابعة لأهوائكم، ولو أجاب مقترحاتكم ثم كذبتم بعد ذلك لأهلككم، لكن أكثركم لا يعلمون نتائج أعمالهم.
الدابة : كل ما يدب على الأرض من الحيوان.
الطائر : كل ذي جناح.
الأمم : واحدها أُمة : وهي كل جماعة يجمعهم أمر واحد، كزمان أو مكان، أو صفات أو مصالح.
التفريط : التقصير.
الكتاب : اللوح المحفوظ.
يحشرون : يجمعون.
بعد أن بين سبحانه وتعالى أنه قادر على إنزال الآيات إذا رأى من الحكمة والمصلحة إنزالها، ذكر هنا ما هو كالدليل على ذلك، فأرشد إلى عموم قدرته وشمول علمه وتدبيره في ما أوجد من مخلوقات على الأرض، أو في الفضاء.
إن أقوى دليلٍ على قدرة الله وحكمته، أنه خلَق كل شيء، وليس من حيوان يدب في ظاهر الأرض وباطنها، أو طائر يسبح في الهواء، إلا خلقها الله جماعات تماثلكم أيها البشَر، وجعل لها خصائصها ومميزاتها ونظام حياتها. إنه لم يترك في الكتاب المحفوظ شيئاً إلا ذكره. وإن كانوا قد كذّبوا، فسوف يُحشرون مع كل الأمم للحساب يوم القيامة.
والذين لم يصدّقوا بآياتنا الواضحة الدالة على قدرتنا، لم ينتفعوا بحواسهم من معرفة الحق فتخبّطوا في ضلال الشرك والعناد تخبُّط الأصم والأبكم في الظلمات الحالكة : ظلمة الوثنية، وظلمة الجاهلية، والكفر، والجحود. وهؤلاء لا نجاة لهم من الهلاك. ولو كان لديهم أي استعداد للخير لوفّقهم الله إليه. فإنه سبحانه إذا أراد إضلال إنسان لفساد قصده، تركه وشأنه. وإذا أراد هدايته لسلامة قصده، يسّر له السير في طريق الإيمان الواضح المستقيم.
وهذه الآية الكريمة وأمثالها ترشدنا إلى البحث في طباع الأحياء لنزداد علماً بسنُن الله وأسراره في خلقه، ونزداد بآياته إيمانا، ونعتبر بحال من لم يستفيدوا مما فضلهم الله بِهِ على الحيوان، وهو بالعقل، ومما جاء به الرسول الكريم من هدى وإرشاد، وهو القرآن.
أرأيتكم : أخبِروني، وهو أسلوب يُذكر للتعجيب والتنبيه إلى أن ما يُذكر بعده غريب عجيب.
بعد أن بيّن الله تعالى للمشركين أن علمه محيط بالكون كله، وعنايته تعم كل ما فيه، وأن أمم الحيوان، كأمم الإنسان، قد أوتيت من الإلهام والغريزة ما تميز به بين ما ينفعها وما يضرها، أمرَ نبيّه الكريم أن يوجّه إلى الكفار هذا السؤال، ليعلموا أن ما تقلّدوه من الشرك عارض يُفسد أذهانهم وقت الرخاء، حتى إذا جد الجد ونزل بهم مكروه دعوا الله مخلصين له الدين. والسؤال هو : أخبروني أيها المكذّبون إن أتاكم عذاب كالذي نزل بمن قبلكم، أو جاءتكم القيامةُ بأهوالها، إلى من تتجهون ! ؟ ألغيرِ الله تضرَعون أن يكشف ما نزل بكم من البلاء ؟ إن كنتم صادقين في عبادتكم لغير الله فيجب أن تتجهوا إليهم.
قراءات :
قرأ نافع أرأيتكم بتسهيل الهمزة، وقرأ الكسائي : أريتكم بحذف الهمزة. والباقون «أرأيتكم » بتحقيق الهمزة. وحمزة يسهل الهمزة بالوقف.
يكشف : يزيل ما تدعونه إلى كشفه.
الواقع أنكم لا تتجهون إلا إليه، تدعونه أن يكشف عنكم البلاء إن شاء. إنكم في حال الشدة تنسون كل ما تجعلونه شركاء لله، فلماذا تفطنون لهم في الرخاء ! !
وقد بين الله في أكثر من آية أن المشركين ينسون آلهتهم المزيفة عند الشدة والضيق، مثل قوله تعالى :﴿ فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الفلك دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ... ﴾ [ الروم : ٦٥ ].
البأساء : المشقة، والعذاب الشديد.
الضراء : الضُرّ ضد النفع. يتضرعون : يظهرون الخضوع بتكلّف.
ثم بين أن من سنّته تعالى أخْذَ عباده بالشدائد لعلّهم يثوبون إلى رشدهم، فقال :﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إلى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بالبأساء والضراء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ﴾، فلا يشُق عليك أيها الرسول ما تلاقيه من قومك... لقد بعثنا قبلك رسلاً إلى أمم كثيرة قبل أمتك فكذّبوهم، فعاقبناهم لعلّهم يرجعون إلى الله.
لكنّ كثيراً من الناس يصلون إلى حال من الشرك والفجور لا يغيّرها بأس ولا يُحَوّلها بؤس فلا تجدي معهم العبر والمواعظ، ومنهم تلك الأمم الذين أُرسل إليهم أولئك الأنبياء.
ولا تذهب بعيداً، وحالنا نحن العربَ شاهد ودليل... لقد نزل بنا أكبر الشدائد وهاجمنا في ديارنا ألأَمُ الناس وأخبثُهم، بل أخذوا قسما عزيزاً من بلادنا، ومع ذلك لم نتعظ ولم نغير من حالنا شيئا. إننا لا زِلنا سادرين في غرورنا، نتفاخر بماضينا، غافلين عن عدونا الحاضر، ويقتل بعضنا بعضاً طمعاً في مناصب فصّلها لهم عدوّ الأمة وخصيم الإسلام... لم نرجع إلى ديننا، ولم نتضرع إلى ربنا، بل تضرعنا إلى أعدائنا الألداء في أمريكا وأوروبا، نطلب منهم النصر، غافلين متعمدين عن أن النصر من عند الله ومن عند أنفسنا.
هلاّ تضرّعوا إلينا خاشعين تائبين قبل أن جاءتهم مقدمات العذاب. إنهم لم يفعلوا، واستمرت قلوبهم على قسوتها، وزين لهم الشيطان ما هم عليه من الشرك والفجور.
مُبْلِسون : متحسرون، يائسون من النجاة.
فلما أعرضوا عن الاتعاظ بما ابتليناهم من الفقر والمرض، وأصرّوا على كفرهم، ابتليناهم بعد ذلك بالرزق الواسع، وفتحنا عليهم أبواب رخاء العيش وصحة الأجسام والأمن على الأنفس، حتى إذا فرحوا بكل ذلك ولم يشكروا الله عليه، جاءهم العذابُ بغتة، فإذا هم متحسّرون يائسون من النجاة لا يجدون إليها سبيلا.
والخلاصة أن الله تعالى سلّط عليهم المكاره والشدائد ليعتبروا ويتعظوا، فلما لم تجدِ معهم شيئا نَقَلَهم إلى حال هي ضدُّها، ففتح عليهم أبواب الخيرات، وسهّل لهم سبل الرزق والرخاء فلم ينتفعوا به أيضاً. عند ذاك أذاقهم جزاءهم العادل.
روى الإمام أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا، على معاصيه، ما يحب، فإنما هو استدراج، ثم تلا هذه الآية.
وروى مسلم عن صُهيب عن النبي أنه قال :«عجبا لأمر المؤمن، إن أمْرَهُ كلّه خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابتْه سراءُ شكَر فكان خيراً له، وإن أصابتْه ضراءُ صبرَ فكان خيراً له ».
دابر القوم : آخرهم.
لقد هلك أولئك القوم الظالمون وأبيدوا عن آخرهم.
والحمدُ... هنا إرشاد من الله لعباده بتذكيرهم بما يجب عليهم من حمده على نصر المرسَلين المصلحين، وإيماءٌ إلى وجوب ذكره في عاقبة كل أمر وخاتمة كل عمل، ﴿ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين ﴾.
نصرّف الآيات : نكررها على وجوه مختلفة.
يصدفون : يعرضون.
قل أيها الرسول، لهؤلاء المكذبين بك وما جئت به من الهدى والحق : أخبروني ماذا يكون من أمركم مع آلهتكم الذين تدعونهم من دون الله إن أصمّكَم اللّهُ فذهب بسمعكم، وأعماكم فذهب بأبصاركم، ثم طبع على قلوبكم بما يحجبها عن الإدراك... مَنْ غيرُ اللهِ تعالى تأتيكم بكل ما أُخِذ منكم ؟ أُنظر أيها النبي كيف نتابع عليهم الحجج، ونضرب لهم الأمثال على وجوه شتى ليعتبروا ويعودوا عن كفرهم، ولكنهم مع كل هذه البراهين يصرون على عنادهم وكفرهم.
قراءات :
أرأيتم، وأرأيتكم، مثل ما تقدم، نافع يسهل الهمزة، والكسائي يحذفها، وحمزة يسهّلها بالوقف، والباقون يثبتونها «أرأيتكم » كما هي هنا في المصحف.
وهذا تهديد. قل لهم أيها الرسول : أخبروني إن حلّ بكم عذاب الله فجأة دون توقع، أو جاءكم عياناً وأنتم تنظرون إليه، فمن الخاسرُ عند ذاك إلا الذين ظلموا أنفسهم بالإصرار على الشرك والضلال ؟.
وهذه وظيفة الرسل. وما نرسل الأنبياء إلا ليبشّروا من يؤمن بالخير والثواب، وليحّذروا من يكفر من العذاب.
﴿ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾. ولا حاجة إلى تفسير.
يمسهم العذاب : يصيبهم.
أما الذين كذّبوا بآياتنا الواضحة على صدق ما جاء به الرسل، فإن لهم العذابَ جزاءً خروجهم عن الطاعة وعدم الإيمان.
الخزائن : واحدها خِزانة، ما يُخزن فيه ما يراد حفظه ومنع التصرف فيه.
الغيب : ما غيِّب علمه عن الناس.
الأعمى والبصير : المراد به هنا الضال والمهتدي.
كان الكلام في الآيات السالفة في بيان أركان الدين وأصول العقائد ووظيفة الرسل، والجزاء على الأعمال يوم الحساب، وهنا يبين لنا وظيفة الرسل العامة. قل أيها الرسول لهؤلاء الكفار المعاندين : أنا لا أقول لكم عندي خزائن الله فأملك التصرّف في أرزاق العباد، وشئون المخلوقات. كلا، إن التصرف المطلق من شأن الله وحده. وليس موضوع الرسالة أن يكون الرسول قادراً على ما لا يقدر عليه البشر، كتفجير الينابيع والأنهار في مكة، وإيجاد الجنات والبساتين، والإتيان بالله والملائكة وغير ذلك من التعجيز. وكان المشركون قد جعلوا ذلك شرْطاً للإيمان بالرسول.
كذلك لا أدّعي علم الغيب الذي لم يطلعني الله عليه، ولا أقول إني ملَك أستطيع الصعود إلى السماء. أما قوله تعالى ﴿ عَالِمُ الغيب فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ ﴾ فإن إظهار شيء خاص من عالم الغيب على يدي الرسل لهو من الأمور التي يخصّ بها الرسل ليؤيد بذلك دعوتَهم ورسالتهم. وهو لا يتعدّى إلى حمل أقوال الرسل على المستقبل، فهم لا يعلمون إلا ما علمهم الله به.
﴿ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَيَّ ﴾.
إنما أنا بشر أتبع ما يوحيه الله تعالى إلي، فأمضي لوحيه واعمل بأمره.
﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعمى والبصير... ﴾، هنا وبخهم الله تعالى على ضلالهم، فأمر رسوله أن يسألهم ما إذا كانوا يعتقدون أن الضال والمهتدي ليسا سواء فقال : قل هل أعمى البصيرة الضال عن الصراط المستقيم، يَعْدِل ذا البصيرة المهتدي إليه ؟ هل يليق بكم أن تعرضوا عن الهدى الذي أسوقه إليكم بعد هذا كله ! ! تعقلوا أيها القوم، ما في هذا القرآن من ضروب الهداية والعرفان.
الحشر : اجتماع الخلق يوم القيامة.
بعد أن أمر الله تعالى نبيّه الكريم بتبليغ الناس حقيقة رسالته، أمره بإنذار من يخافون الحساب والجزاء فقال :
أنِذر يا ما محمد، بما يوحى إليك، وحذّر بما في هذا القرآن أولئك الذين يخافون أهوال يوم الحشر، حيث لا ناصر ولا شفيع إلا بإذن الله، لعلّهم يتقون فيبتعدون عما يُغضبه.
ثم نهى الرسولَ أن يطيع المترفين من كفار قريش في شأن المستضعفين من المؤمنين.
فقال : لا تستجب أيها النبي، لدعوة المتكبرين من المشركين، فتُبعد عنك المستضعفين من المؤمنين. إنهم هم الذين يعبدون ربهم طول الوقت لا يريدون إلا رضاه. لا تلتفت يامحمد، لدسّ المشركين عليهم، فلست مسؤولاً أمام الله عن شيء من أعمالهم، وليسوا مسؤولين عن أعمالك، فإن استجبتَ وأبعدتَ المؤمنين، كنتَ من الظالمين.
كان زعماء المشركين وكبراؤهم - أمثال أبي جهل وعُتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والحارث بن عامر، وقرظة بن عمرو وغيرهم - كثيراً ما يتضايقون من المؤمنين المستضعَفين - مثل عمار بن ياسر، وبلال، وصهيب، وخَبَّاب، وسالم مولى أبي حذيفة، وابن مسعود- وكانوا يطلبون من النبي أن يبعدهم عنه حتى يحضروا مجلسَه ويستمعوا إليه.
روى أحمد، وابن جرير، والطبراني عن عبد الله بن مسعود قال :«مر الملأ من قريش على النبي صلى الله عليه وسلم وعنده صُهيب وعمار وخباب ونحوهم من ضعفاء المسلمين، فقالوا : يا محمد، أرضيتَ بهؤلاء من قومك ؟ أهؤلاء مَنّ الله عليهم من بيننا ؟ أنحن نكون تبعا لهؤلاء ؟ أطردْهم عنك، فلعلّك إن طردتهم أن نتبعك.
فأنزل الله تعالى فيهم القرآن :﴿ وَأَنذِرْ بِهِ الذين يَخَافُونَ أَن يحشروا إلى رَبِّهِمْ... إلى قوله أَلَيْسَ الله بِأَعْلَمَ بالشاكرين ﴾.
القراءات : قرأ ابن عامر :«بالغُدوة » والباقون، «بالغَداة ».
تشير الآية الكريمة إلى ما سبق وتفسيرها :
وبمثل هذا الابتلاء الذي جرت به سنتنا، امتحنّا المتكَبرين... لقد سبقَهم الضعفاء إلى الإسلام، ليقول المتكبرون مستنكرين ساخرين : هل هؤلاء الفقراء هم الذين أنعم الله عليهم من بيننا بالخير الذي يعد به محمد ؟
وفي الآية إشارة إلى أن ما اغتّر به الكبراء من النعيم لن يدوم، كما لن يبقى المؤمنون على الضعف الذي صبروا عليه... لا بد أن ينعكس الحال، وتدول الدُّولة لهؤلاء الضعفاء من المؤمنين. وقد صدَق الله وعدَه.
السلام : البراءة والعافية من الآفات والعيوب، والسلام أيضا من أسماء الله تعالى.
وقد استُعمل السلام في التحية بمعنى تأمين المسلَّم عليه من كل أذى من المسلِّم.
كتب : أوجَبَ.
الجهالة : السفَه والخفة والغفلة.
بعد أن نهى الله تعالى نبيه عن طرد المستضعفين من حضرته أملاً في استمالة المشركين المتكبرين من بني قومه، أمره أن يلقى الذين يدخلون في الإسلام بين حين وآخر، يعلّمهم ويبشّرهم برحمته تعالى ومغفرته.
إذا جاءك الذين يصدّقون بك وبرسالتك سائلين عما إذا كان لهم توبة عن ذنوبهم التي فرطت منهم، فقل لهم تكريماً لهم : سلام عليكم، إنني أبَشّركم برحمة الله الواسعة... لقد أوجَبَها على ذاته تفضّلاً منه. وهي تقضي أن من تاب ورجع عن ذنبه نادماً ثم أصلح عمله، غفر الله له، وشمله بعطفه.
قراءات :
قرأ نافع وابن عامر وعاصم ويعقوب بفتح الهمزة «أنه من عمل منكم سوءا » والباقون بكسر الهمزة. وقرأ ابن عامر ويعقوب «فأنه غفور رحيم » بفتح الهمزة، والباقون بكسرها.
تستبين : تتضح وتظهر.
يبين سبحانه أنه فصّل الحقائق للمؤمنين حتى يبتعدوا عن سلوك المجرمين.
قراءات :
قرأ نافع «ولتستبين سبيلَ » بالنصب. وقرأ ابن عامر وأبو عمرو ويعقوب وحفص عن عاصم بالرفع. والباقون بالياء، وبرفع سبيل.
تدعون من دون الله : تعبدون.
قل أيها النبي لهؤلاء الكفار الذين يدعونك إلى الشِرك بالله، إن الله قد نهاني عن عبادة الذين تعبدونهم من دون الله، فلا أتبع أهواءكم، ولو فعلتُ ذلك واتبعتكم أكون قد انحرفتُ عن الحق، وسِرتُ على غير هدى.
البيّنة : الحجة الواضحة، وكل ما يُتبين به الحق.
يقُصّ الحق : يخبر به.
خير الفاصلين : القاضين في الأمور.
ثم أمره أن يقول لهم : إني على هدى من ربي فيما أّتبعه، فأنا على شريعة واضحة منزلة من ربي. أما أنتم فقد كذَّبتم القرآن الذي جاء بها، وليس في قدرتي أن أقدم ما تستعجلونه من العذاب، فذلك داخل في قدرة الله ومرهون بإرادته. ثم أكد ما سبق بقوله :﴿ إِنِ الحكم إِلاَّ للَّهِ ﴾ في هذا وفي غيره من شئون الأمم، إن شاء عجّل لكم العذاب وإن شاء أخّر. وله في ذلك سنن حكيمة، وهو يقص على رسوله القصص في وعده ووعيده، إنه خير الفاصلين بيني وبينكم.
قراءات :
قرأ ابن كثير ونافع وعاصم «يقص » بالصاد من القصص والباقون «يقضي » من القضاء.
قل أيها الرسول لهؤلاء الذين يستعجلون العذاب بقولهم ﴿ اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السماء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [ الأنفال : ٣٢ ] لو أن في قدرتي إنزال العذاب الذي تتعجلونه، لأنزلته عليكم غضباً لربي، لكن الأمر لله، وهو أعلم بما يستحقه الكافرون من العذاب العاجل أو الآجل.
المفاتح : جمع مفتح بفتح الميم، ومفتاح.
بعد أن أمر الله تعالى الرسول أن يبين للمشركين أنه على بينة من ربه فيما بلّغهم من الوحي، وأن ما يستعجلونه من العذاب ليس عنده، وأن الله تعالى يقضي الحق ويقصه على رسوله، عَمَد إلى وصف حقيقة الألوهية في مجال عميق من مجالاتها الفذة، هو مجال الغيب المكنون. فيقول :
وعند الله علمُ جميع المغّيبات، لا يحيط بها علماً إلا هو وحده، ومن أظهره هو على بعض العلم كما جاء في سورة الجن ﴿ عَالِمُ الغيب فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ ﴾.
والمغّيبات قسمان :
مغيبات مطلقة لا يمكن أن يصل إليها العقل الإنساني، ومنها ما يقع للإنسان في المستقبل من حوادث تتعلق به.
ومغيبات نسبية، وهي ما يتعلق بأسرار الكون وما فيه، وتسخيره لخدمة الإنسان، فإن العلم بها قد يغيب أجيالا ثم يظهر من بعد. ومفاتح هذه المغيبات أيضا بيد الله، يوفّق إليها من يشاء من عباده الذين يتعمقون في دراسة الكون. ومن ذلك الاختراعاتُ التي نرى بعض الناس يصلون إليها بعد جهد جهيد بتوفيق الله.
روى البخاري عن سالم بن عبد الله عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«الغيْبِ خَمْس : إن الله عندَهُ عِلمُ الساعةِ، ويُنَزّلُ الغيْثَ، ويعلَمُ ما في الأرحامِ، وما تَدري نفسٌ ماذا تَكسِبُ غَداً، وما تَدرِي نفسٌ بأيّ أرضٍ تموت، إن الله عَلِيمٌ خَبير ».
ويحيط علم الله كذلك بجميع الموجودات في البر والبحر، ولا تسقط ورقة عن شجرةً إلا بعلمه، ولا حبة ما في باطن الأرض، ولا شيء رطب ولا يابس، إلا هو في اللوح المحفوظ عند الله.
والخلاصة، إن عند الله عِلمَ ما لا تعلمونه، وعنده علم ما يعلمه جميعهم، فهو يعلم ما كان وما يكون وما هو كائن إلى يوم القيامة.
يتوفاكم بالليل : جعل النوم مثل الموت. توفّاه أخذه وافياً كاملا.
جرحتم : عملتم.
يبعثكم فيه : يرسلكم ويوقظكم من النوم في النهار.
الأجل المسمى : مدة البقاء في الدنيا.
وهو الذي يتوفى أنفسَكم في أثناء النوم، أي يُزيل إحساسها، ويوقظكم في النهار، ويعلم ما كسبتم فيه... حتى ينتهي أجَل كل منكم، ثم ترجعون إليه يوم القيامة فيخبركم بأعمالكم ويجازيكم عليها.
الحفظة : الملائكة الكرام الكاتبون.
بعد أن بين الله أمر الموت والرجوع إليه للحساب، والجزاء، ذكر قهره لعباده وإرسال الحفظة لإحصاء أعمال البشر فقال : إن الله هو الغالب بقدرته، المستعلي بسلطانه على عباده، يرسل عليكم ملائكة يحصون أعمالكم إلى أن تجيء نهاية كل منكم، فتقبض روحه ملائكتنا الذين نرسلهم لذلك. وهم لا يقصّرون فيما يوكل إليهم.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«يتعاقبون فيكم ملائكةٌ بِالليل، وملائكة بالنهار، يجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرُج الذين باتوا فيكم فيسألهم ربُّهم وهو أعلم بهم : كيف تركتم عبادي ؟ فيقولون : تركناهم وهم يصلّون، وأتيناهم وهم يصلّون ».
قراءات :
قرأ حمزة «توفاه رسلنا » بالألف الممالة، والباقون «توفته رسلنا ».
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٦١:الحفظة : الملائكة الكرام الكاتبون.
بعد أن بين الله أمر الموت والرجوع إليه للحساب، والجزاء، ذكر قهره لعباده وإرسال الحفظة لإحصاء أعمال البشر فقال : إن الله هو الغالب بقدرته، المستعلي بسلطانه على عباده، يرسل عليكم ملائكة يحصون أعمالكم إلى أن تجيء نهاية كل منكم، فتقبض روحه ملائكتنا الذين نرسلهم لذلك. وهم لا يقصّرون فيما يوكل إليهم.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«يتعاقبون فيكم ملائكةٌ بِالليل، وملائكة بالنهار، يجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرُج الذين باتوا فيكم فيسألهم ربُّهم وهو أعلم بهم : كيف تركتم عبادي ؟ فيقولون : تركناهم وهم يصلّون، وأتيناهم وهم يصلّون ».

قراءات :

قرأ حمزة «توفاه رسلنا » بالألف الممالة، والباقون «توفته رسلنا ».

ظلمات البر والبحر : حسيّة، كظلمة الليل وظلمة السحاب، ومعنوية، كظلمة الجهل بالمسالك، وظلمة الشدائد والأخطار. والعرب تقول لليوم الذي فيه شدة : يوم مظلم، ويوم ذو كواكب. وفي المثَل، رأى نجوم الظهر.
التضرع : المبالغة في الدعاء.
والخفية : بضم الخاء وكسرها الخفاء والاستتار.
بعد أن أبان تعالى لعباده إحاطة علمه، وشمول قدرته، وأنه القاهرة فوق عباده، ذكّرهم هنا بالدلائل الدالة على كمال قدرته الإلهية. فأمر رسوله أن يَسأل المشركين الغافلين عن أنفسهم : من ينجيكم من ظلمات البر إذا ضللتم فيه فتحيّرتم أين تذهبون، ومن ظلمات البحر إذا ركبتموه فأظلم عليكم فلم تهتدوا ؟ من يفعل ذلك غير الله الذي تلجأون إليه في خضوع، معلنين الدعاء تارة ومخفين إياه أخرى، مقْسِمين : لئن أنجيتَنا من هذه المخاطر لنكونن من الشاكرين لفضلك بالعبادة لك.
قراءات :
قرأ يعقوب «قل من ينجيكم » بدون تشديد، والباقون «ينجيكم » بتشديد الجيم. وقرأ أبو بكر :«وخفية » بكسر الخاء والباقون بضمها. وقرأ أهل الكوفة «أنجانا » وأماله حمزة والكسائي وخلف. وقرأ الباقون «لئن أنجيتنا »
الكرب : الغم الشديد.
إن الله وحده هو الذي ينقذكم من هذه الأهوال، ومن كل شدة أخرى، وعلى ذلك فسرعان ما تَحنِثون بأقسامكم وتشركون معه في العبادة غيره.
القراءات : قرأ أهل الكوفة :«قل الله ينجيكم » بالتشديد، والباقون بالتخفيف.
الشيع : واحدها شيعة، وهم كل قوم اجتمعوا على أمر. أو يلبسكم شيعا : يخلط أمركم خلط اضطراب فيجعلكم فرقاً مختلفة.
بأس : شدة.
نصرف الآيات : نحولها من نوع إلى آخر من فنون الكلام.
يفقهون : يفهمون.
بعد أن بيّن تعالى الدلائل على كمال القدرة الآلهية، ونهاية الرحمة بعباده، ذكر هنا قدرته على تعذيبهم إن عصوَه، وأبان أن عاقبة كفران النعم زوالها.
قل أيها الرسول لقومك الذين لا يشكرون نعمة الله ويشركون معه غيره في العبادة : إن الله وحده هو الذي يقدر على أن يرسل عليكم عذاباً يأتيكم من أعلاكم أو من أسفلكم، أو يجعل بعضكم لبعض عدوّاً، وتكونون طوائف مختلفة الأهواء متناكرة، يقتل بعضكم بعضا.
انظر أيها الرسول كيف دلّت الدلائل على قدرتنا واستحقاقنا وحدنا للعبادة، ومع هذا لا يؤمن قومك بذلك ! !
لا شك أن هذه الآية من معجزات القرآن الذي لا تفنى عجائبه، فإن فيها نبأ مَن كان قبل الإسلام، ومن كان زمن التنزيل، ومن سيأتي بعدهم.
فهذه الحروب التي تشبّ في عصرنا فيها من الأهوال ما لم يسبق له نظير، فقد أرسل الله على تلك الأمم المحاربة عذاباً من فوقها تقذفه الطائرات والصواريخ، وعذاباً من تحتها تقذفه الغواصات من أعماق البحار، وتهلك به مختلف السفن، كما جعل أمم أوروبا شيعاً متعادية، ذاق بعضُها بأس بعض فحلّ بها من القتل والدمار والتخريب ما يشيب له الأطفال.
وإذا نظرنا في أحوالنا نحن العرب والمسلمين، نجد أننا يعادي بعضنا بعضا ونحترب، فيما العدو مترّبص بنا ينتظر لينقضّ علينا ويلتهم ما يستطيع من أراضينا وبلادنا. وما ذلك إلا لأننا بعُدنا عن ديننا، وغرّتْنا الحياة الدنيا، فأصبحنا شيعاً كل حزب بما لديهم فرحون.
روى أحمد والترمذي عن سعد بن أبي وقاص قال «سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية قل هو القادر.. الخ » قال : أما إنّها كائنةٌ ولَم يأتِ تأويلُها بعد... ».
ثم ذكر الله تعالى أن قوم الرسول الكريم قد كذبوا بالقرآن على ما فيه من الآيات الواضحة البينة، وهو الحق الثابت، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
ثم أمر رسوله أن يبلغهم أن لا سبيل له في إجبارهم على الإيمان به فقال :«قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيل » لا أنا حفيظ ولا رقيب، وإنما أنا رسول أبلّغكم رسالات ربي، ولا أملك القدرة على إجبار الناس أن يؤمنوا.
مستقر : وقت استقرار ووقوع.
ثم هددهم وتوعدهم على التكذيب به فقال :﴿ لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾، لكل خبر جاءَ به القرآن وقت يتحقق فيه، وسوف تعلمون صدق هذه الأخبار عند وقوعها.
يخوضون في آياتنا : يسترسلون في الحديث بتشويه تلك الآيات.
أعرض عنهم : انصرف عنهم.
بعد الذكرى : بعد التذكير.
بعد أن ذكر الله تعالى في الآيات السابقة تكذيب كفار قريش، وبيّن أن الرسول عليه الصلاة والسلام مبلّغ للناس عن ربّه لا خالق للإيمان فيهم، جاءت هذه الآيات لتبيّن كيف يعامل المؤمنُ من يتخذ دين الله هزواً ولعبا من الكفار الذين كانوا يستهزئون بالقرآن وبالرسول والمستضعَفين من أصحابه الكرام. وكذلك كيف يعامل المؤمن أهل الأهواء والبِدع في كل زمان ومكان. والمخاطَب في هذه الآيات هو الرسول عليه الصلاة والسلام ومن كان معه من المؤمنين، ثم المؤمنين في كل زمان.
إذا حضرتَ مجلس الكفار، أو جاء المشركون ليستمعوا إليك، ووجدتهم يطعنون في آيات القرآن، أو يستهزئون بها، فانصرِف عنهم يا محمد حتى ينتقلوا إلى حديث آخر. وإن نسيتَ وجالستَهم وهم يخوضون، ثم تذكَرت أمر الله بالبعد عنهم، فلا تبقَ معهم أبداً.
وسرُّ هذا النهي أن الإقبال على أولئك الخائضين والقعود معهم يغريهم في التمادي، ويدل على الرضا به والمشاركة فيه. وهذا خطر كبير لما فيه من سماع الكفر والسكوت عليه.
ولكن ذكرى لعلهم يتقون : ولكن هذا تذكير لهم.
ثم بين الله تعالى أن المؤمنين إذا فعلوا ذلك فلن يشاركوا الخائضين في الإثم، لكن عليهم أن يذكّروهم، لعلّهم يكّفون عن الباطل.
أن تبسل نفس : أن تحبس بما كسبت وتمنع. البسل : حبس الشيء ومنعه بالقهر، ومنه شجاع باسل أي مانع غيره.
تَعْدِل : تَفْد كل فداء.
الحميم : الشديد الحرارة. ألِيم : شديد الألَم.
واترك يا محمد، أنت ومن اتبعك من المؤمنين، جميعَ الذين اتخذوا دينهم لعبا، فلقد خدعتهم الحياة الدنيا عن الآخرة، فآثروها واشتغلوا بلذائذها الفانية.
وبعد أن أمرهم بترك المستهزئين بدينهم أمر بالتذكير بالقرآن فقال : ذكّر يا محمد دائما بالقرآن، وحذرهم هول يوم القيامة، يوم تُحبس فيه كل نفس بعملها. ﴿ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ﴾. لا ناصر يومذاك ولا معين غير الله.
ثم أرشد إلى أنه لا ينفع في الآخرة إلا صالح الأعمال، فلا شفيع ولا وسيط، وكلُّ فِدية للنجاة من العذاب مرفوضة ولا ينفع النفسَ أي فدية تقدمها في ذلك اليوم.
ثم يبين الله أن هذا الإبسال كان بسوء صنِيعهِم، حيث اتخذوا دينهم هزواً ولعباً فحُرموا الثواب، وحُبسوا عن دار السعادة. لقد أحاطت بهم خطاياهم، فاستحقّوا أن يكون ﴿ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ ﴾، أي شراب من ماء شديد الحرارة، وعذاب شديد الألم بنار تشتعل في أبدانهم.
وفي ذلك عبرة لمن ينفعه القرآن، ولا يَغتَرُّ بلقب الإسلام فقط، ويعلم أن المسلم من اتخذ القرآن إمامه، وسنَّةَ رسوله طريقه، لا من اغتّر بالأماني وركن إلى شفاعة الشافعين.
وفي ذلك عبرة لمن ينفعه القرآن، ولا يَغتَرُّ بلقب الإسلام فقط، ويعلم أن المسلم من اتخذ القرآن إمامه، وسنَّةَ رسوله طريقه، من اغتّر بالأماني وركن إلى شفاعة الشافعين.
الأعقاب : واحدها عقب، مؤخر الرِجل، نردّ على أعقابنا : نرجع إلى الشِرك.
استهوته الشياطين : ذهبت بعقله.
عالم الغيب والشهادة : الغيب ما غاب عنا، والشهادة ما نراه من خلقه. قال ابن عباس : هما السر والعلانية.
القرآن الكريم في جميع مراحله يعرض الخير والشر للناس، يرغّب في الخير واتّباعه، ويحذّر من الشر وعواقبه، ويهدي إلى الصراط المستقيم. ومعنى الآية :
قل أيها الرسول لهؤلاء الكفار : هل يصحّ أن نعبد غير الله مما لا يملك جَلْبَ نفعٍ ولا دفع ضر ؟ وننتكِس فنُردَّ على أعقابنا بالعودة إلى الضلال والشِرك بعد إذ هدانا الله إلى الإسلام ! !.
ثم ضرب اللهُ مثلا يصوّر المرتدّ في أقبح حالة تتخيلها العرب وهي :
﴿ كالذي استهوته الشياطين فِي الأرض حَيْرَانَ، لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الهدى ائتنا... ﴾.
أي : الذي غرّرتْ به الشياطينُ وأضلّته في الأرض، فصار في حَيرة لا يهتدي معها إلى الطريق المستقيم، وله رِفقة مهتدون يحاولون تخليصه من الضلال، فهم ينادونه قائلين : ارجع إلى طريقنا السوي، لكنه لا يستجيب لهم.
أمر الله تعالى نبيّهُ الكريم أن يرغّب المشركين فيما يدعو إليه بلطف وأسلوب حكيم.
قل أيها النبي : إن الإسلام هو الهدى والرشاد، وهو الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، لا ما تدعون إليه من أهوائكم وأساطير آبائكم الأولين. وكل ما عدا هدى الله فهو ضلال لا فائدة منه. وقد أمَرَنا الله بالانقياد إليه، واتباع دينه القويم، فهو خالق العالمين.
كذلك أمرنا الله بإقامة الصلاة على أكمل وجه من الخضوع، وإن نخاف الله ونتقيه حق تقاته، لأنه هو الذي تُجمَعون وتساقون إلى لقائه يوم القيامة، فيحاسبكم على ما كسبتم.
الصور : القرن يُستعمل للنفخ، وقد استعمله الناس قديما. ويوم القيامة ينفخ في الصور، فيقوم الناس لرب العالمين.
وهو وحده الذي خلق السماوات والأرض، وأقام خلْقهما على الحق والحكمة. وفي أي وقت تتجه إرادته إلى إيجاد شيء، فإنه يوجده بكلمة «كن » إن قوله هو الحق والصدق، وله وحده التصرف المطلق يوم القيامة، حين يُنفخ في الصور فيُبعث من في القبور. عندئذٍ يقف الخلق بين يديه، لا تملك نفس لنفس شيئا والأمُر يومئذ لله. وهو سبحانه الذي يستوي في علمه الغائب والحاضر، والسر والعلانية. وهو الذي يتصرف بالحكمة في جميع أفعاله، ويحيط علمُه ببواطن الأمور وظواهرها، «فلا تَدْعوا مَعَ اللهِ أحَداً ».
إبراهيم : خليل الرحمن، أبو الأنبياء بعد نوح، والاسم أعجمي معناه : أبو الجمهور العظيم، أو أبو الأمة.
آزر : أبو إبراهيم. قال البخاري : إبراهيم بن آزر، وهو في التوراة تارح والله سماه آزر. وقال كثير من المفسرين إن اسمه تارح، وآزر وصفّ له.
الضلال : العدول عن الطريق الحق.
بعد أن بين الله لنا أن عبادة غيره عبث وضلال، وأمَرَنا أن نسلم إليه، لأننا سوف نُحشر يوم ينفخ في الصور، جاءت هذه الآيات لتشرح الموضوع الأساسي لهذه السورة، وهو بناء العقيدة على قاعدة من التعريف الشامل بحقيقة الألوهية وحقيقة الربوبية، وما بينهما من ارتباطات. لكنه يعالج ذلك في أسلوب من القصص اللطيف.
اذكر أيها الرسول، لهؤلاء المشركين، حين قال إبراهيم لأبيه آزر منكراً عليه عبادة غير الله : ما كان لك يا أبي أن تعبد الأصنام، وتتخذها آلهة وهي لا تضر ولا تنفع. إني أراك وقومك في ضلال ظاهر.
قراءات :
قرأ يعقوب : آزرُ بالضم على أنه منادى.
ملك الله وملكوته : سلطانه وعظمته.
وكما أرينا إبراهيم الحق في أمر أبيه وقومه، فقد عمدنا إلى أن نريّه مُلكنا العظيم للسماوات والأرض- بما فيها من بديع النظام وغريب الصنع- ليقيم الحجة على المشركين، وليكون في خاصة نفسه من الراسخين في الإيمان.
جَنَّهُ الليل : ستره.
أفل : غاب.
ثم فصّل سبحانه وتعالى كيف هداه إلى الإيمان. فلما استنكر إبراهيم عبادة الأصنام طلب هداية الله، وأخذ يفكر في هذا الكون العظيم. وكان من أول أمره في ذلك أنه لما أظلم عليه الليل، وهو يفكر في ملكوت الله، رأى كوكباً عظيما يقال إنه «المشتري ».
وكان قوم إبراهيم يعبدونه، فلما رآه قال : هذا ربي. لكن النجم غاب فلما غرب قال إبراهيم مبطلاً لربوبية ذلك النجم : أنا لا أُحِب الآفلين، ولا أقبل عبادة الآلهة المتغّيرين. وفي هذا تعريض بجهل قومه في عبادتهم الكواكب.
قراءات :
قرأ ابن ذكوان، وحمزة والكسائي وخلق ويحيى، «رأى » بكسر الراء وإمالة الهمزة. وقرأ أبو عمرو بفتح الراء وإمالة الهمزة والباقون «رأى » بفتح الراء والهمزة.
بزغ القمر : طلع.
وحين رأى إبراهيم القمر طالعاً بعد ذلك قال محدّثا نفسه : هذا ربي. فلما أفَل القمر، شأن سابقه الكوكب، قال إبراهيم مسمِعاً من حوله من قومه، ليوجّه نفوسهم إلى الهداية : أقسِم إن لم يوفقني ربي لإصابة الحق في توحيده لأكونن من القوم الضالّين.
وفي هذه المرة الثالثة انتقل من التعريض إلى التصريح بالبراءة منهم، والتصريح بأنهم على شِرك بيّن، فقد ظهر له الحق غاية الظهور.
ثم رأى إبراهيم الشمس طالعة بعد ذلك، فقال محدّثا نفسه : هذا ربّي، لأنه أكبر مما يُرى من الكواكب قدراً، وأعظم ضياء ونوراً، فهو أجدر بالربوبية. بيد أنها أفلَت كما أفلَ غيرها. وعند ذاك صرح إبراهيم بما أراد التعريض به، وقال : يا قوم، إني بريء من هذه المعبودات التي تشركونها مع الله في العبادة.
وجّهت وجهي : قصدت بعبادتي.
فطر السماوات : خلقها ومعنى فطر : شَقَّ.
الحنيف : المائل عن الضلال، المخلص في عبادته.
وبعد أن تبرّأ من شِركهم بيَّن لهم عقيدته، وهي عقيدة التوحيد الخالص التي هداه الله إليها، فقال :
إني جعلتُ توجُّهي في عبادتي لمن خلق السماواتِ والأرض مجانباً كلَّ سبيلٍ غير سبيله، ولستُ بعد الذي رأيت من دلائل التوحيد ممن يرضى أن يكون من المشركين.
حاجّهُ : جادله.
وبعد أن اطمأن قلب إبراهيم بالإيمان، جاء قومه يجادلونه فيما انتهى إليه من يقين، ليخوّفوه آلهتهم التي تنكّر لها. فظل صامداً يواجههم بيقين حازم، واعتمادٍ على ربه وخالقه الذي هداه.
وجادله قومه في توحيد الله وخوفوه من غضب آلهتهم، فقال لهم : ما كان لكن أن تجادلوني في التوحيد بعد أن هداني الله إلى الحق. أما آلهتكم التي تدْعونها فلا أخشاها، بل إنها لا تضر ولا تنفع. لكن إذا شاء ربّي شيئا من الضر وقع ذلك، لأنه وحده القادر على كل شيء. ثم أتى إبراهيم بما هو كالعلة لما قبله فقال :﴿ وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً ﴾ وأحاط بكل شيء.
﴿ أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ ؟ ﴾.
أتُعْرضون أيها الناس عن قولي بعدما أوضحته لكم من أنَّ آلهتكم ليس بيدها نفع ولا ضر، وتغفلون عن أن العاجز الجاهل لا يستحق أن يُعبد ؟. القراءات :
قرأ أهل المدينة وابن ذكوان «أتحاجوني » بتخفيف النون والباقون «أتحاجوني » بتشديدها. وقرأ الكسائي «وقد هداني » بالإمالة.
السلطان : الحدة والبرهان.
إنه لمن العجب أن أخاف آلهتكم الباطلة ولا تخافون أنكم عبدتم مع الله، الذي لا إله إلا هو، آلهةً باطلة ! ؟
فأيّ فريق- أنا أم أنتم- في هذه الحال أحق بالطمأنية، وأجدر بالأمن على نفسه من عاقبة عقيدته وعبادته إن كنتم تعلمون الحق وتدركونه ! ؟
لم يلبسوا : لم يخلطوا.
الظلم هنا : الشرك في العقيدة أو العبادة.
هنا يأتي الجواب. وهو لا شكَ في أن الذين آمنوا بالله تعالى، ولم يخلطوا إيمانهم بظلم عظيم، كعبادة أحد سواه، هم الأكثر أمناً، كما أنهم هم المهتدون إلى طريق الحق والخير.
روى ابن جرير قال لما نزلت هذه الآية :﴿ الذين آمَنُواْ وَلَمْ يلبسوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ ﴾ شقّ على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا : أيُّنا لم يظلم نفسه ؟ فقال : رسول الله :«ليس كما تظنُون، وإنما هو كما قال لقمان لابنه :«لا تُشرِك بالله إنّ الشِرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيم ».
هذه هي الحجة التي أعطيناها إبراهيم ليقيمها على قومه، فارتفع بها عليهم، وسنّتُنا في عبادنا أن نرفع بالعلم والحكمة من نريد منهم درجات، إن ربك يا محمد حكيمٌ يضع الشيء في موضعه، عليم بمن يستحق الرفعة ومن لا يستحقها.
وهب : أعطى بغير عوض.
هدينا. أرشدنا.
أحسن : فعَلَ ما هو حسن.
بعد أن حكى الله تعالى أنَّ إبراهيم أظهر حجة الله في التوحيد، وعدد وجوه نعمه وإحسانه إليه، ذكر هنا أنه جعله عزيزاً في الدنيا، وأبقى له هذه الكرامة إلى يوم القيامة.
ووهبنا لإبراهيم إسحاق نبيّاً، ثم جعلنا من ذريته يعقوب وغيره من الأنبياء والمرسلين.
وإنما ذكر إسحاق هنا دون إسماعيل لأنه هو الذي وهبه الله تعالى لإبراهيم بعد كبر سنه وعقم امرأته سارة، جزاءَ ما ظهر من إيمانه في قصة ذبح ولده إسماعيل، ولم يكن له ولد سواه.
ووفقنا من قبلهم نوحاً إلى مثل ما هدينا إبراهيم وذريته. وقد ذُكر نوح هنا إيماءً إلى شرف نسب إبراهيم.
﴿ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وموسى وَهَارُونَ، وَكَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين، وَزَكَرِيَّا ويحيى وعيسى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصالحين وَإِسْمَاعِيلَ واليسع وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى العالمين ﴾.
ومن ذريّة إبراهيم تناسل هؤلاء الأنبياء المرسلون، فقد ذكر في هذه الآية والآيات التي بعدها سبعة عشر نبيّاً. وستأتي الإشارة إلى آخرين من ذرياتهم وآبائهم وإخوانهم... كل هذا ليدل على فضل إبراهيم ونوح عليها السلام، حيث جعل الله الكتاب والنبوة في نسلهما.
وقد جاء في سورة الحديد، ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النبوة والكتاب ﴾ وهدينا من ذريته ( إبراهيم ) كلاً من داود وسليمان وغيرهما. فداود وسليمان وأيّوب وموسى وهارون، آتاهم الله الإمارة والملك مع النبوة والرسالة. وأيّوب كان أميرًا غنياً محسنا. ويوسف كان وزيراً عظيما وحاكماً متصرفا. وموسى وهارون كانا حاكمَين ولم يكونا ملكين.
وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس، كانت لهم ميزة الزهد والإعراض عن لذات الدنيا. ومن ثم خصّهم بوصف الصالحين.
القراءات :
قرأ حمزة والكسائي وخلف «اللَّيْسع » بتشديد اللام وفتحها وسكون الياء. والباقون «إلْيَسع » بسكون اللام وفتح الياء.
وإسماعيل واليسع ويونس ولوط، وهؤلاء لم يكن لهم من ملك الدنيا ما كان للقسم الأول، ولا من المبالغة في الزهد ما كان للقسم الثاني.
اجتبينا : اصطفينا.
وهدينا بعض آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واصطفيناهم، فسلكوا طريق الخير والصراط الذي لا اعوجاج فيه.
حبط علمه : بطل
إن ذلك التوفيق العظيم الذي نالته هذه النخبة الكرام لهو توفيق من عند الله يُكرم به من يشاء من عباده.
ولو أشرك هؤلاء النخبة المختارة، لضاعت كل أعمال الخير التي عملوها، فلم يكن عليها ثواب.
أولئك الذين آتيناهم الكتُب المنزلة والعلم النافع، وشرفَ النبوة، كما آتيناهم الحُكم، والقضاء بين الناس. فإن يكفر المشركون من أهل مكة بالكتاب والحكم والنبوة، فقد وفقنا للإيمان بها وتولِّي نصر الداعي إليها قوماً كراماً لن يكفروا، وهؤلاء هم مسلمو مكة، ثم الأنصار في المدينة، ومن أسلم بعد الهجرة. وحُكْمُ هذه الآية مستمر وباق إلى الأبد ما دامت السماوات والأرض.
أولئك الأنبياء الثمانية عشر الذين ذكرت أسماؤهم في الآيات السالفة، هم الذين وفقهم الله وهداهم، فاتّبعهم أيها النبي، أنت ومن معك واقتدِ بهم.
قل أيها الرسول لقومك، كما قال الأنبياء لأقوامهم : إنني لا أسألكم على هذا القرآن أجراً من مال أو منصب، وما هو إلا تذكير للعالمين، كل غايتي من تبليغه أن ينتفع به البشر جميعا ويهتدوا بهديه.
القراءات :
قرأ حمزة والكسائي وخلف ويعقوب، بحذف الهاء في «اقتده » في الوصل، وإثباتها في الوقف، والباقون بإثبات الهاء في الوصل والوقف.
ما قدروا الله حق قدره : ما عرفوه حق معرفته، والقدر والمقدار : القوة أيضا. والقدر الغِنَى والشرف.
قراطيس : واحدها قرطاس، وهو ما يُكتب فيه من ورق أو جلد أو غيرها.
ذرهم : اتركهم.
خوضهم : كلامهم بالباطل، وتصرّفهم الشائن.
بعد أن ذكر الله ما تفضل به على إبراهيم والأنبياء الذين ذكرهم، وأنه اجتباهم وهداهم إلى الصراط المستقيم، وأمر الرسول عليه الصلاة والسلام أن يهتدي بهُداهم، جاء في هذه الآيات يندّد بمنكِري الرسالات، ويصفهم بأنهم لا يقدّرون الله كما يجب، ولا يعرفون حكمته ورحمته وعدله. ومن ثم يقرّر أن الرسالة الأخيرة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم تجري على سنّة الرسالات قبلها، فالقرآن الكريم مصدّق لما سبقه من الكتب، وكلُّ من عند الله.
ما قَدّر هؤلاء الكفار الله حق التقدير، إذ أنكروا أن تنزل رسالتُه على أحد من البشر. فقل أيها النبي للمشركين ومن يشايعهم على ذلك من اليهود : إذنْ من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى، نوراً يضيء، وهدى يرشد ؟ إنكم أيها اليهود، تجعلون كتابه في أجزاء متفرقة... تُظهرون منها ما يتفق وأهواءكم، وتُخفون ما يٌلجئكم إلى الإيمان بالقرآن والنبي. هكذا مع أنكم علمتم منه ما لم تكونوا تعلمون، لا أنتم ولا آباؤكم.
وبعد أن بيّن سبحانه إنكار المنكرين للوحي بعبارة تدل على جهلهم، قال لرسوله : تولَّ إذن أيها النبي الجوابَ وقل لهم : إن الله هو الذي أنزل التوراة، ثمّ دعْهم بعد هذا فيما يخوضون فيه من باطلهم وكفرهم.
ومن المؤسف أن هذا القول الذي قاله مشركو مكة في جاهليتهم إنما يقوله أَمثالهم في كل زمان. بل منهم من يقولونه الآن، ممن يزعمون أن الأديان من صنع البشر، قد تطوّرت وترقت بتطور البشر في أحوالهم. وكثير من هؤلاء المثقفين على أيدي الأجانب، وكثير منهم يحتلّ مراكز كبيرة في الدول العربية والإسلامية غرّتهم الحياة الدنيا، وغرهم الغرور.
قراءات :
قرأ أبو عمرو وابن كثير :«يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون » بالياء، والباقون «بالتاء ».
أم القرى : مكة المكرمة، لأنها قبلة الناس، وفيها أول بيت وُضع للناس، فهي تعظَّم كالأم.
وهذا القرآن كتاب عظيم القدر أنزلناه على خاتم رسلنا كما أنزلنا من قبله التوراة على موسى. وقد باركنا فيه فجعلناه كثير الخير، دائم البركة، يبشر بالثواب والمغفرة، مصدّقاً لما تقدّمه من كتب الأنبياء، ومنذراً لأهل مكة من عذاب الله. فمن كان يؤمن بالقيامة فإنه يؤمن بهذا الكتاب. والمؤمنون به يحافظون على صلاتهم، فيؤدونها في أوقاتها كاملة مستوفاة. وقد خُصت الصلاة بالذِكر ههنا، لأنها عماد الدين.
القراءات : قرأ أبو بكر عن عاصم «لينذر » بالياء، والباقون «لتنذر » بالتاء.
الافتراء : اختلاق الكذب.
غمرات : واحدها غمرة، الشدة.
اليوم : المراد به يوم القيامة.
عذاب الهون : الذل الهوان.
بعد أن بين سبحانه أن القرآن كتاب من عند الله، وبذلك رد على الذين أنكروا إنزاله على محمد، قَفَّى هنا على ذلك بوعيد من كذَب على الله أو ادعى النبوة.
ليس امرؤ أشدّ ظُلماً ممن كذب على الله، أو قال تلقيّت وحياً من عند الله كذبا وبهتاناً، كما فعل مسيلمة الكذّاب والأسوَد العنسي فيما بعد.
كذلك ليس أحد اشدّ ظلماً ممن قال : سآتي بكلام مثل هذا القرآن. وكان النضر بن الحارث بن كلدة، أحد كفار قريش، يقول : إن القرآن أساطير الأولين، وهو شعر لو نشاء لقنا مثله. كما كان يجمع الناس بمكة ويقول لهم : تعالوا : أحدّثكم بأحسن من حديث محمد. وقد أُسر النضر يوم بدرٍ وقُتل بعد أن انتهت المعركة، وجاءت أخته قتيلة، ويقال إنها بنته إلى النبي صلى الله عليه وسلم بقصيدة ترثي أخاها وتعاتب الرسول الكريم منها :
يا راكباً إن الأُثَيْل مظنة من صبح خامسة وأنت موفق
أمحمدٌ يا خير ضِنْءِ كريمة في قومها والفحلُ فحل مُعْرِق
ما كان ضرَّك لو مننتَ وربما منّ الفتى وهو المَغيظُ المحنّق
الأثيل : بالتصغير موضع قرب المدينة. ضنء : نسل.
قال ابن هشام في السيرة : إن النبي عليه السلام عند سماعها قال : لو بلغَني هذا الشعر قبل قتله لمننتُ عليه ».
﴿ وَلَوْ ترى إِذِ الظالمون فِي غَمَرَاتِ الموت، والملائكة باسطو أَيْدِيهِمْ أخرجوا أَنْفُسَكُمُ ﴾.
الخطاب للرسول الكريم، ثم لكل من سمعه أو قرأه ومعناه : لو تُبصر إذ يكون الظالمون في شدائد الموت، تحيط بهم كما تحيط غمرات الماء بالغرقى، رأيتَ ما لا قدرة للبيان على وصفه. إذنْ لرأيتَ الملائكة ينزعون أرواحهم من أجسادهم في قسوة وعنف.
ثم حكى سبحانه أمر الملائكة لهم على سبيل التهكَم والتوبيخ حين بسطوا أيديهم لقبض أرواحهم «أخرِجُوا أنفُسَكُم ».
يومئذ يقال لهم : الآن تبدأ مجازاتكم بالعذاب المذلّ المهين، جزاء ما كنتم تقولون على الله غير الحق ( كقول بعضهم : ما أنزل الله على بشر من شيء، وقول بعض آخر : إنه أوحي إليه، وما أشبهَ ذلك من الكفر والعناد )، وجزاء استكباركم عن النظر والتدبر في آيات الله الكونية والقرآنية.
فرادى : واحدهم فرد.
خولناكم : أعطيناكم.
وراء ظهوركم : لم تنتفعوا به.
تقطّع بينكم : انقطع ما بينكم من صلات.
ضل : غاب.
ثم ذكر الله تعالى ما يقوله لهم الله يوم القيامة بعد ذلك ما تقول لهم ملائكته فقال : لقد تأكدتم الآن أنكم بُعثتم أحياء من قبوركم، كما خلقناكم أول مرة، وجئتم إلينا منفردين عن المال والولد، تاركين وراءكم في الدنيا كل شيء كنتم تغترّون به. إننا لا نرى معكم اليوم أولئك الشفعاء الذين زعمتم أنهم ينصرونكم عند الله، لأنهم شركاء له في العبادة... لقد تقطّعتْ بينكم وبينهم كل الروابط، وخابت آمالكم في كل ما زعمتم، فلا فداء ولا شفاعة، ولا يغني عنكم من عذاب الله من شيء.
الفلق : الشق.
الحب : الحنطة، وكل أنواع الحبوب.
النوى : واحدها نواة وهي بزرة التمرة والزبيبة.
تؤفكون : تضلون، تصرفون.
بعد أن أثبت الله سبحانه أمر التوحيد وثبّته، ثم أردف أمر النبوة والبعث، وردّ على منكري الوحي، وأوعدهم يوم الجزاء شراً، جاء هنا ليطلع الناس على آياته العظمى في هذا الكون العجيب.
إن دلائل قدرة الله على البعث، واستحقاقه وحده للعبادة، متوافرة متنوعة. فهو وحده الذي يشق الحب ويخرج منه النبات، ويشق النوى ويخرج منه الشجر. إنه هو الذي يخرج الحي من الميت، كالإنسان من التراب، والميتَ من الحي، كاللبن من الحيوان.
ولقد اقترنت ( فالقُ الحب والنوى ) بآية ( فالق الإصباح ) وهي تدل على وجود الضوء والظلام، وإن الضوء مرتبط ارتباطاً وثيقاً بنمو النبات والأشجار. ذلك أن الحب والنوى بعد أن تُفلق نباتاً إنما تحتاج إلى غذاء... وهذا الغذاء يتكون من عناصر الأرض الخِصبة، ومن ضوء الشمس، فجذور النبات تتغذى من الأرض، وأغصانه وأوراقه تتغذى من حرارة الشمس التي يؤذن بها الصباح.
وهذه من قدرة الله وحده، فلا يقدر إلا الله أن يجهّز الكائن الحي بالقدرة على إحالة الذرات الميتة إلى خلايا حية، أو تحويل الخلايا الحية مرة أخرى إلى ذرات ميتة.
يقول الدكتور ايرفنج وليام في مقال عنوانه : المادية وحدها لا تكفي، في كتاب «الله يتجلى في عصر العلم ».
«إن العلوم لا تستطيع أن تفسر لنا كيف نشأت تلك الدقائق الصغيرة المتناهية في صغرها والتي تتكون منها جميع المواد. كما لا تستطيع أن تفسر لنا، بالاعتماد على فكرة المصادفة وحدها، كيف تتجمع هذه الدقائق الصغيرة لكي تكوّن الحياة. ولا شك أن النظرية التي تدّعي أن جميع صور الحياة الراقية قد وصلت إلى حالتها الراهنة من الرقي، بسبب حدوث بعض الطفرات العشوائية والتجمعات والهجائن، نظريةٌ لا يمكن الأخذ بها إلا عن طريق التسليم فهي لا تقوم على أساس من المنطق والإقناع ».
ويقول الدكتور البرت ماكوب ونشستر، المتخصص في علم الأحياء، في مقال : العلوم تدعم إيماني بالله، من كتاب «الله يتجلى في عصر العلم ».
«لقد اشتغلت بدراسة علم الأحياء، وهو من الميادين العلمية الفسيحة التي تهتم بدارسة الحياة، وليس بين مخلوقات الله أروع من الأحياء التي تسكن هذا الكون.
انظر إلى نبات برسيم ضئيل، وقد نما على أحد جوانب الطريق. هل تستطيع أن تجد له نظيراً في روعته بين جميع ما صنعه الإنسان من تلك العدد والآلات الرائعة ؟ إنه آلة حيّة تقوم بصورة دائبة لا تنقطع آناء الليل وأطراف النهار، بآلاف من التفاعلات الكيماوية والطبيعية. ويتم كل ذلك تحت سيطرة البروتوبلازم، وهي المادة التي تدخل في تركيب الكائنات الحية.
فمن أين جاءت هذه الآلةُ المعقدة ؟ إن الله لم يصنعها هكذا وحدها، ولكنه خلَق الحياة، وجعلها قادرة على صيانة نفسها، وعلى الاستمرار من جيل إلى جيل، مع الاحتفاظ بكل الخواص والمميزات التي تعيننا على التمييز بين نبات وآخر. إن دراسة التكاثر في الأحياء تعتبر أروع دراسات علم الأحياء، وأكثرها إظهارا لقدرة الله. إن الخلية التناسلية التي ينتج عنها النبات الجديد، تبلغ من الصغر درجة كبرى بحيث يصعب مشاهدتها إلا باستخدام المجهر. ومن العجيب أن كل صفة من صفات النبات، كل عرق، وكل شُعَيْرة، وكل فرع على ساق، وكل جذر أو ورقة- يتم تكوينها تحت إشراف مهندسين قد بلغوا من دقة الحجم مبلغا كبيرا، فاستطاعوا العيش داخل الخلية التي نشأ منها النبات ! ! تلك الفئة من المهندسين هي فئة الكروموسومات ( ناقلات الوراثة ). وكل ذلك يتم بإذن الله الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، وبقدر الله الذي تتم به كل حركة في الوجود كله ».
﴿ ذلكم الله ﴾ ربُّكم مبدعُ المعجزة المتكررة ذات السر العجيب. ﴿ فأنى تُؤْفَكُونَ ﴾ ؟ فكيف تُصرفون عن هذا الحق الواضح للعقول والعيون ! كيف تشركون به من لا يقدر على شيء من ذلك ! ؟.
ويجيء ذكر معجزة انبثاق الحياة من الموت كثيرا في القرآن الكريم كما يجيء ذكر خلق الكون ابتداءً، في معرض التوجيه إلى حقيقة الألوهية، وآثارها الدالة على وحدة الخالق وقدرته. ويهدف ذلك إلى تقويم تصور البشر بإعطائهم العقيدة الصحيحة.
الإصباح : الصبح.
جعل الليل سكنا : ليسكُن الإنسان فيه ويستقر.
الحسبان : الحساب والتوقيت.
هو الذي يجلو غبش الصبح بضوء النهار ليسعى الأحياء إلى تحصيل أسباب حياتهم ومعاشهم، وجعل الله الليل سَكَناً يستريح المتعَب فيه من العمل بالنهار، وتسكن فيه نفسُه. وأكثر الأحياء من الإنسان والحيوان تترك العمل والسعي في الليل، وتأوي إلى مساكنها للراحة.
كما سيّر الشمس والقمر بنظام دقيق يعرف به الناس مواقيتَ عبادتهم ومعاملاتهم، وهذا النظام المحكم تدبيرُ من الله المسيطر على الكون، المحيط علمه بكل شيء، البعيد المدى في الإبداع والإتقان، والذي قال :﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ﴾.
قراءات :
قرأ أهل الكوفة «جعل الليل سكنا » وقرأ الباقون «جاعل الليل ».
جعل : خلق.
النجوم : جمع نجم وهي الأجرام السماوية التي نرى كثيرا منها بالعين المجردة.
الطلمات : المراد بالظلمات ظلمة الليل، في أسفارنا برا وبحرا.
إن الله هو الذي خلق لكم النجوم أيها الناس، تستدلّون بها على الطريق فتسلكونها وتنجون من الأخطار في البر والبحر. فالله سبحانه وتعالى يذكّرنا ببعض فضله علينا في تسخير هذه النيرات التي نراها صغيرة، لبعدها عنا، بعد أن سبق وذكَرنا ببعض فضله في الشمس والقمر اللّذين يبدوان كبيرين في أعين الناس لقربهما.
وأقرب كوكب منا هو القمر، يبعد عن الأرض بنحو مائتين وأربعين ألف ميل، وهو يدور حول الأرض ويكمل دورته في تسعة وعشرين يوما ونصف يوم. وتبعد أرضنا عن الشمس ثلاثة وتسعين مليون ميل، وهي تدور حول محورها بسرعة ألف ميل في الساعة، وتدور حول الشمس في دائرة مساحتها مائة وتسعون مليون ميل، وتستكمل دورتها في هذه الدائرة مرة واحد في سنة كاملة. وتوجد تسعة كواكب مع الأرض هي : عطارد والزهرة والمّريخ وزحَل والمشتري واورانوس ونبتون وبلوتو، وكلها تدور حول الشمس بسرعة فائقة، وبعضها يكمل دورة كاملة في ثمانية وثمانين يوماً وهو عطارد، أقرب الكواكب إلى الشمس ؛ وبعضها يكمل دورة كاملة في مدة مائتين وثمان وأربعين سنة وهو بلوتو، أبعد الكواكب من الشمس. وهو يدور في دائرة مساحتُها سبعةُ بلايين وخمسمائة مليون ميل. وحول هذه الكواكب يدور واحد وثلاثون قمراً أخرى. وتوجد غير هذه الكواكب حلقة من ثلاثين ألفا من «النجيمات » وآلاف المذنبات، وشهب لا حصر لها وكلها تدور حول ذلك السيّار العملاق الذي نسميه الشمس، التي يبلغ قطرها : ثمانمائة وخمسة وستين ألف ميل. وهي أكبر من الأرض بمليون وربع مليون مرة.
ولا تشكّل هذه الشمس وما حولها من الكواكب المذكورة، والأقمار، والنجيمات، والشهب التي تشغل هذا المجال الواسع، ذرةً صغيرة في هذا الكون الواسع الذي لا يدركه عقل ولا بصر. ثم إن هذه الشمس ليست بثابتة أو واقفة في مكان ما، وإنما هي بدورها، ومع كل هذه الأجرام التي ذكرناها- تدور في النظام الرائع البديع بسرعة ٦٠٠، ٠٠٠ ألف ميل في الساعة وفي هذا الكون الفسيح العجيب آلاف الأنظمة غير نظامنا الشمسي يتكون منها ذلكم النظام الذي نسمّيه «المجرّات » أو مجاميع النجوم، وكأنها جميعها طبق عظيم تدور عليه النجوم والكواكب منفردة ومجتمعة، كما يدور الخذروف «البلبل » حين يلعب الأطفال.
ومجرّات النجوم هذه تتحرك بدورها أيضا، فالجرّة التي يقع فيها نظامنا الشمسي تدور حول محورها بحيث تكمل دورةً واحدة كل مائتي بليون سنة ضوئية ٢٠٠، ٠٠٠، ٠٠٠، ٠٠٠ وهذا شيء مذهل ومحيِّر لا تتصوره العقول.
ويقدّر علماء الفلك أن هذا الكون يتألف من خمسمائة مليون من المجرات، في كل منها «مائة مليار » من النجوم، أو أكثر أو أقل.
ويقدّرون أن أقرب مجموعة من النجوم، وهي التي نراها في الليل كخيوط بيضاء دقيقة والتي نسميها درب التبّانة، تضم حَيّزاً مداه ألف سنة ضوئية. وسرعة الضوء ٣٠٠، ٠٠٠ ألف كيلو متر في الثانية. وبمعرفة هذه الحقيقة يتبين لنا اتساع السنة الضوئية ومقدار زمنها، وكم تكون مسافة ألف سنة ضوئية. إنها شيء مذهل حقا، فوق تفكير البشر وطاقته.
ونبعد نحن سكان الأرض عن مركز هذه المجموعة بمقدار ثلاثين ألف سنة ضوئية، وهذه المجموعة جزء من مجموعة كبيرة تتألف من سبع عشرة مجرة. وقطرة هذه المجموعة الكبيرة ( ذات السبع عشرة ) مليونان من السنين الضوئية.
والحديث في هذا الموضوع طويل جدا، ومحيّر ومذهل. وحين ينظر العقل إلى هذا النظام العجيب، والتنظيم الدقيق الغريب المدهش لا يلبث أن يحكم باستحالة أن يكون هذا كله قائما بنفسه، بل إن هنالك طاقة غير عادية هي التي تقيم هذا النظام العظيم، وتهيمن عليه.
ولما في عالم السماوات وهذا الكون الذي بينا لمحة موجزة عنه- من بديع الصنع والنظام- ختم سبحانه وتعالى الآية بقوله :
﴿ قَدْ فَصَّلْنَا الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾.
أي : أنّا قد بينّا دلائل رحمتنا وقدرتنا لقوم ينتفعون بالعلم. فهو يوجّهنا إلى هذا الكون، وما فيه من حقائق مذهلة، تدفعنا إلى التدبر والتذكّر. اللهم اجعلنا ممن ينتفعون بالعلم والمعرفة، وثّبت قلوبنا بالإيمان الصادق.
وبعد أن بيّن لنا تعالى بعض آياته في هذا الكون العجيب ليذكّرنا بذلك، وينبّه الناس من غفلتهم، عطف الحديث ليذكّرنا بآياته العجيبة في أنفسنا. ذلك لأن الإنسان هو أعظم شيء في الوجود.
المستقر : موضع القرار والإقامة.
المستودع : موضع الوديعة.
الإنشاء : إيجاد الشيء وتربيته.
النفس : تطلق على الروح وعلى الشخص المركّب من روح وبدن.
والنفس البشرية الأولى هي آدم، والله تعالى هو الذي أوجدَكم من أصل واحد هو أب البشر آدم. وتبدأ الحياة من حيوان صغير لا يُرى بالعين المجردة، فالنفس هي مستودع لهذه الخلية في صلب الرجل، وهي مستقر لها في رحم الأنثى. ثم تأخذ الحياة في النمو والانتشار في هذه الأرض التي هي مكان استقراركم في حياتكم، ومستودعٌ لكم، بعد موتكم. هكذا فصّلنا الآياتِ لقوم يفقهون، وبيّنا دلائل قدرتنا لقوم يفقهون ما يُتلى عليهم، ويدركون الأشياء على وجهها. فالفقه هنا، وهو أعمق الفهم، ضروريٌ لإدراك صنع الله في هذه النفس الواحدة التي يخرُج منها أشكال وألوان، فيهب الله لمن يشاء أناثا، ويهب لمن يشاء الذكور.
قراءات :
قرأ ابن كثير وأبو عمرو : فمستقِر بكسر القاف والباقون بفتح القاف.
خضرا : نباتا غضا أخضر.
متراكبا : بعضه فوق بعض.
الطلع : أول ما يظهر من زهر النخل قبل أن ينشق عنه الغلاف. القنوان : واحدها قنو وهو : الفرع الصغير في النخلة، ويسمى العذق والعِرجون وهو الذي يحمل الثمر. وهو مثل العنقود من العنب.
دانية : قريبة التناول. دانية : قريبة متدلية.
ينعه : حين ينضج.
ثم ينقلنا إلى مشاهد الحياة المتفتحة في جنبات الأرض، فيذكر آية أخرى من آيات التكوين ويبين لنا دور الماء الظاهر في إنبات كل شيء.
وهو الذي أنزل من السحاب ماءً فأخرج به نبات كل صنف، جاء بعضه غضّاً طريا، يخرج منه حبٌّ كثير بعضه فوق بعض. ومن غبار طلع النخل تخرج عراجين محمّلة بالثمار قريبة سهلة التناول. كذلك أخرجنا بفضل الماء جناتٍ من الأعناب والزيتون والرمان، منها ما هو متشابه الثمر في الشكل، وما هو متشابه في الطعم والرائحة. فانظروا أيها الناس في تدبر واعتبار إلى ثمره حين يثمر، وإلى نضجه كيف تم بعد أطوار مختلفة. ثم وازنوا بين صفاته في كل من الحالين، يتبين لكم لطف الله وقدرته. أليس في ذلك دلائل عظيمة على وجود القادر الحكيم لقوم ينشدون الحق ؟ !
قراءات :
قرأ حمزة والكسائي : ثمره بضم الثاء والميم، جمع ثمرة. والباقون : ثمره بفتح الثاء والميم.
بعد هذا العرض الواضح لدلائل وجود الله ووحدانيته وقدرته يبين لنا الله تعالى شِرك المشركين وأوهامهم وسخفهم، فيعقّب على ذلك كلّه بالاستنكار فيقول : وجعلوا لله شركاء...
خلق الكلمة، واختلقها، وخرقها، واخترقها : ابتدعها كذباً، والخلقُ فعلُ الشيء بتدبير ورفق.
بعد أن ذكر سبحانه البراهين الدالة على توحيده بالخلق والتدبير في هذا الكون، ذكر هنا بعض أنواع الشِرك التي كانت منتشرة عند العرب وكثير من الأمم، وهي اتخاذ شركاء لله من عالم الجِن المستتر عن العيون. وهم لا يعرفون من هم الجن، ولكنها أوهام الوثنية. هذا كما اخترعوا لله نسلاً من البنين والبنات... لقد قالوا إن الملائكة والشياطين شركاء لله، وقد خلقهم الله جميعا، فإذا كان هو الذي خلقهم فكيف يكونون شركاء له في الألوهية والربوبية ! !
فقد قال مشركو العرب : إن الملائكة بنات الله، وقالت اليهود : عُزير ابن الله، وقالت النصارى : المسيح ابن الله... كل هذه الادعاءات لا تقوم على أساس من علم، بل هي الجهل المطبِق.
تنزّه الله تعالى عن كل نقص ينافي انفراده بالخلق والتدبير.
قراءات :
قرأ نافع وأهل المدينة «خرقوا » بتشديد الراء.
بديع السماوات : خالقها ومنشؤها، والبديع من أسماء الله تعالى لإبداعه الأشياء.
هنا يواجه كذبهم واختلاقهم بالحقيقة الإلهية ويكشف لهم جهلهم وأوهامهم، فيقول : إن الله هو الذي أنشأ السماوات والأرض على غير مثال سبق، فكيف يكون له ولد، كما يزعم هؤلاء، مع أنه لم تكن له زوجة، ولقد خلق جميع الأشياء بما فيها هؤلاء الذين اتخذوهم شركاء له، فكيف يخلقهم ويشاركون في القدرة على الخلق ؟ إنه هو عالم بكل شيء يحصي عليهم ما يقولون وما يفعلون.
ذلكم الله المنزَّه عن كل ما يصفونه به، المتصف بصفات الكمال، لا إله غيره، خالق كل شيء مما كان ومما سيكون، فهو وحده المستحق للعبادة. فاعبدوه وحده. وهو مع تلك الصفات الجليلة الشأن متوّلٍ جميع الأمور، يدبّر ملكه بعلمه وحكمته، فيرزق عباده، ويكلؤهم بالليل والنهار.
الإدراك : الوصول إلى الشيء، يقال : تبعه حتى أدركه.
البصر : حاسة الرؤية.
اللطيف : ضد الكثيف، واللطف في العمل : الرفق فيه.
أي لا تُبصر ذاتَه العيون، لكنه يعلم الأبصار والبصائر، وهو الرفيق بعباده والخبير بخلقه فلا يخفى عليه شيء من أمرهم.
البصائر : جمع بصيرة، لها عدة معان : العبرة، والمعرفة الثابتة باليقين، والشاهد للأمر والحجّة، والقوة التي تدرَك بها الحقائق العلمية، وعقيدة القلب.
أما البصَر فهو الذي تدرَك به الأشياء الحسية.
والمراد بالبصائر هنا الآيات الواردة في هذه السورة أو القرآن كله.
بعد أن أقام الله الأدلة والبراهين الواضحة على توحيده وكمال قدرته وعلمه، قرّر هنا أمر الدعوة والرسالة، وحدود تبليغ النبي صلى الله عليه وسلم لأوامر ربه، قل أيها النبي للناس : مِن خالقكم جاءتكم هذه الآيات البينات كدلائل تتبصرّون فيها من الحجج الكونية والبراهين العقلية، كيما تثبت لكم عقائد الحق اليقينية التي عليها مدار سعادتكم في دنياكم وآخرتكم. وأنتم أحرار بعد ذلك فمن أبصر فلنفسه قدّم الخير وبلغ السعادة، ومن عمي عن الحق، وأعرض عن سبيله، فعلى نفسه جنى. إنني لست عليكم بمحافظ ولا رقيب.
نصرّف الآيات : نأتي بها متواترة حالا بعد حال، مفسرين لها في كل مقام بما يناسبه.
درس الكتابَ والعلم يدرسه درسا ودراسة ومدارسة : قرأه وتعلمه.
يتجه الخطاب هنا إلى الرسول الكريم، فيتحدث عن تصريف الآيات على مستوى لا يمكن أن يأتي به النبي الأُمّيّ من عنده. وفي ذلك إشارة إلى أن المشركين يعلمون حق العلم أن النبيّ محمداً عاش بينهم ولم يدخل مدرسة، ولم يجلس إلى معلم ومع هذا فهم يعاندون فيقولون : إن محمداً درس هذه القضايا العقيدية والكونية مع أحد أهل الكتاب.
كيف هذا وما كان شيء من حياتك يا محمد خافياً عليهم، لا قبل الرسالة ولا بعدها ! وكيف هذا وليس مِن أهل الكتاب من يعلم شيئاً على هذا المستوى ! إن كتب أهل الكتاب موجودة قائمة، والمسافة شاسعة بين ما فيها وما في هذا القرآن الكريم.
ولا نريد أن نقول في هذه الكتب التي بين أيديهم شيئا، لكن علماءهم وكتابهم انتقدوها وبيّنوا كثيرا من زيفها وتحريفها. وقد صدر حديثا كتاب لعالم وطبيب فرنسي كبير هو الدكتور «موريس بوكاي » جعل اسمَه «القرآن والتوراة والإنجيل والعلم ». وفيه بيّن هذا العالم الكبير بعد دراسته التحليلية أن القرآن لا يتناقض مع الحقائق العلمية والتاريخية، خلافاً للتوراة والإنجيل. وهو يقول :«لقد اعتبر الإسلام دائماً أن هناك اتفاقاً بين معطيات كتابه المقدس والواقع العلمي. ولم تكشف دارسة نص القرآن في العصر الحديث عن الحاجة إلى إعادة النظر في هذا. وسوف نرى فيما بعد أن القرآن يثير وقائع ذات صفة علمية. وهي وقائع كثيرة جدا، خلافاً لقلّتها في التوراة. وليس هناك أي وجه للمقارنة بين القليل جداً لما أثارته التوراة من الأمور ذات الصفة العلمية، وبين تعدّد الموضوعات ذات السمة العلمية وكثرتها في القرآن...
وعلى سبيل المثال، نحن نجهل التاريخ التقريبي لظهور الإنسان على الأرض... لكنّنا لا نستطيع علمياً قبول صحة نص سفر التكوين الذي يورد أنساباً وتواريخ تحدّد أصل ظهور الإنسان ( خلق آدم ) بحوالي ٣٧ قرنا قبل المسيح... هذا فيما نستطيع أن نطمئن إلى أنه لن يمكن أبداً إثبات أن الإنسان قد ظهر على الأرض منذ ٥٧٣٦ سنة كما يقول التاريخ العبري في ١٩٧٥. وبناء على ذلك فإن معطيات التوراة الخاصة بقدم الإنسان غير صحيحة.
وإن الدارسة التي نقدمها الآن تختص بما تُنبئنا به الكتب المقدسة فيما يتعلق بالظاهرات الطبيعية المتنوعة الكثيرة، والتي تحيطها تلك الكتب بقليل أو بكثير من التعليقات والشروح. ولا بد من الملاحظة أن الوحي القرآني غني جداً في تعدُّد هذه المواضيع، وذلك على خلاف ندرتها في العهدين القديم والجديد.
لقد قمتُ أولاً بدارسة القرآن الكريم، وكان ذلك دون أي فكر مسبق وبموضوعية تامة، باحثاً عن درجة اتفاق نص القرآن ومعطيات العلم الحديث. وكنت أعرف قبل هذه الدراسة، وعن طريق الترجمات، أن القرآن يذكر أنواعا كثيرة من الظاهرات الطبيعية، ولكن معرفتي وجيزة. وبفضل الدراسة الواعية للنص العربي استطعت أن أحقق قائمة أدركت بعد الانتهاء منها أن القرآن لا يحتوي على أية مقولة قابلة للنقد من وجهة نظر العلم في العصر الحديث.
وبنفس الموضوعية قمتُ بنفس الفحص على العهد القديم والأناجيل : أما بالنسبة للعهد القديم فلم تكن هناك حاجة للذهاب إلى أبعد من الكتاب الأول، أي سِفر التكوين، حيث وجدت مقولاتٍ لا يمكن التوفيق بينها وبين أكثر معطيات العلم رسوخاً في عصرنا.
وأما بالنسبة للأناجيل فما نكاد نفتح الصفحة الأولى منها حتى نجد أنفسنا دفعة واحدة في مواجهة مشكلة خطيرة، ونعني بها شجرة أنساب المسيح. ذلك أن نص إنجيل متّى يناقض بشكل جلي إنجيلَ لوقا. إذ أن هذا الأخير يقدم لنا صراحة أمراً لا يتفق مع المعارف الحديثة الخاصة بقدَم الإنسان على الأرض. غير أن وجود هذه الأمور المتناقضة وتلك التي لا يحتملها التصديق، وتلك الأخرى التي لا تتفق والعلم، لا يبدو لي أنها تستطيع أن تضعِف الإيمان بالله. ولا تقع المسئولية فيها إلا على البشر. ولا يستطيع أحدا أن يقول كيف كانت النصوص الأصلية، وما نصيب الخيال والهوى في عملية تحريرها، أو ما نصيب التحريف المقصود من قِبَل كتبةِ هذه النصوص، أو ما نصب التعديلات غير الواعية التي أدخلت على الكتب المقدسة.
إن ما يصدمنا حقاً في أيامنا هذه أن نرى المتخصصين في دراسة النصوص يتجاهلون ذلك التناقض والتعارض مع الحقائق العلمية الثابتة، أو نراهم يكشفون عن بعض نقاط الضعف ليحاولوا التستّر عليها، مستعينين في ذلك ببهلوانيات جدلية.
وسنقدم في هذا الكتاب أمثلة لاستخدام وسائل التستّر على التناقض أو على أمر بعيد التصديق، مما يسمونه «صعوبةً » استحياءً منهم، وأنه كان ناجحا في كثير من الأحيان. وهذا ما يفسر لنا كيف أن كثيراً من المسيحيين ظلوا يجهلون نقاط الضعف الخطيرة في كثير من المقاطع في العهد القديم وفي الأناجيل. وسيجد القارئ، في الجزئين الأول والثاني من هذا الكتاب أمثلة صحيحة في ذلك.
أما الجزء الثالث فسيجد فيه القارئ أمثلة توضيحية لتطبيق العلم على دارسة أحد الكتب المقدسة، وهو تطبيق لم يكن يتوقعه الإنسان. كما سيجد القارئ في ذلك بياناً لما قد جاء به العلم الحديث الذي هو في متناول كل يد، من أجل فهمٍ أكملَ لبعض الآيات القرآنية التي ظلت حتى الآن مستغلقة أو غير مفهومة. ولا عجب في هذا إذا عرفنا أن الإسلام قد اعتبر دائما أن الدين والعلم توأمان متلازمان. فمنذ البدء كانت العناية بالعلم جزءاً لا يتجزأ من الواجبات التي أمر بها الإسلام. والواقع أن تطبيق هذا الأمر هو الذي أدى إلى ذلك الازدهار العظيم للعلوم في عصر الحضارة الإسلامية. تلك الحضارة التي اقتات منها الغرب نفسه قبل عصر النهضة في أوربا. إن التقدم الذي تمّ اليوم، بفضل المعارف العلمية، في شرح بعض ما لم يكن مفهوما، أو بعض ما قد أسيء تفسيره حتى الآن، من آيات القرآن، ليشكّل قمةَ المواجهة بين العلم والكتب المقدسة ».
هذه مقتطفات مختصرة جداً من مقدمة هذا الكتاب الرائع الذي يقدّم لنا شهادة صادقة صادرة عن دراسة وبحثٍ بأمانة وحياد وشجاعة بدون تحيز ولا تعصب.
﴿ وكذلك نُصَرِّفُ الآيات وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾.
وبمثل هذا التنويع في عرض الدلائل الكونية، نعرض آياتنا في القرآن منّوعة مفصّلة، لنقيم الحجة بها على الجاحدين، فلا يَجِدوا إلا اختلاق الكذب، فيتهموك بأنك تعلّمت من الناس لا من الله.
هكذا بين سبحانه لرسوله أن الناس في شأن القرآن فريقان : فريق فسدت فطرتهم ولم يبقَ لديهم استعداد لهدية، ولا للعلم بما فيه من تصريف الآيات، ومن ثم كان نَصيبهم منه الجحود والإنكار. وفريق آخر اهتدى به وعمل بما فيه... من ثَم أمر رسوله أن يتبع ما أوحي إليه من ربه، وأن يُعرض عن المشركين، ولا يشغل باله بتكذيبهم وعنادهم.
قراءات :
قرأ ابن كثير وأبو عمرو «دارست » وابن عامر ويعقوب «درستْ ». بصيغة الماضي.
اتّبعْ أيها النبي ما جاءك به الوحي من الله، هو المعبود الواحد الذي لا شريك له فالتزم طاعته، ولا تبالِ بعناد المشركين وإصرارهم على الشرك.
ولو شاء الله أن يُلزمهم الهدى لهداهم، ولكنه تركهم لاختيارهم، فلقد خلق تعالى النّاسَ بهذا الاستعداد للهدى والضلال، ﴿ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ﴾ وما جعلناك يا محمد، رقيباً تحصي عليهم أعمالهم، ولا أنت بمكلف أن تقوم عنهم بتدبير شؤونهم وإصلاح أمرهم.
عدْواً : ظلما.
بعد أن أمر الله تعالى رسوله الكريم بتبليغ وحيه قولاً وعملاً، وبالإعراض عن المشركين، وبيّن له أن سنة الله في البشر أن لا يتفقوا على دين واحد، لاختلاف استعدادهم وتفاوتهم في درجات الفهم والفكر، وجّه الحديث هنا إلى المؤمنين طالباً منهم أن يقابلوا المشركين والمخالفين بأدب، فلا يسبّوا آلهتهم مخافة أن يحملوا المشركين على سبّ الله سبحانه. فقال : لا تسبوا أيها المؤمنون، أصنام المشركين التي يعبدونها من دون الله، فيحملهم الغضب لها على أن يسبوا الله تعدّياً وسفَهاً، كذلك زينّا لكل أمة عملَهم، كفراً وإيماناً، حسب استعدادهم، ثم يرجع الجميع إلينا يوم القيامة ونجازيهم على أعمالهم بما يستحقون.
قراءات :
قرأ يعقوب «عُدُوّاً » بضم العين والدال وتشديد الواو، والباقون «عدوا » بفتح العين وسكون الدال. والمعنى واحد.
وأقسموا بالله بأقصى أيمانهم أنْ لو ظهرت لهم معجزة مادّية يرونها بأعينهم لآمنوا، فقل لهم أيها النبي : إن الله يُظهر الآيات متى شاء لا حسب رغباتكم... بل ما يدريك أنهم لن يؤمنوا حتى لو ظهرت ! هكذا فعل أسلافهم.
الطغيان : مجاوزة الحدود.
يعمهون : يترددون في الضلال، والعمَهُ للبصيرة كالعمى للبصر.
ونقلّب قلوبهم وعيونهم فلا يعقلونها، ولا يبصرونها فلا يؤمنون بها كما لم يؤمن آباؤهم بالحق أول مرة، وندعهم في ظلمهم وطغيانهم يترددون.
قُبُلاً : مواجهة ومعاينة، وبعضهم قال : قبلا جمع قبيل، يعني قبيلا قبيلا. بعد أن بين سبحانه في الآيات السابقة أن مقترحي الآيات الكونية أقسموا بالله لو جاءتهم آية ليؤمنن بها، وأن المؤمنين ودُّوا لو أجيبَ اقتراحهم، وبيّن المخادعة في ذلك الاقتراح، فصَّل هنا ما أجملَه في قوله ﴿ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ فقال :﴿ وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الملائكة... الآية ﴾.
وهذه الآيةُ متعلقة بما كان يقترحه مشركو العرب على الرسول من الخوارق. فيكون المعنى : إن أولئك الذين أقسموا أن يؤمنوا إذا جاءتهم أيةٌ قومٌ كاذبون. فحتى لو نَزّلنا إليهم الملائكة يرونهم رأي العين، وكلّمهم الموتى بعد إحيائهم وإخراجهم من قبورهم، وجمعنا لهم كل شيء مواجهةً وعياناً، لظلّوا على كُفْرهم، ما لم يشأ الله تعالى أن يؤمنوا. إن أكثر هؤلاء المشركين يا محمد، يجهلون الحق، قد امتلأت قلوبهم بالحقد والعناد.
قال ابن عباس : كان المستهزئون بالقرآن خمسة : الوليد بن المغيرة المخزومي، والعاصي ابن وائل السهمي، والأسودَ بن يغوث الزُّهري، والأَسود بن المطلب، والحارث بن حنظلة : أتوا رسول الله في رهط من أهل مكة وقالوا : أرِنا الملائكة يشهدوا بأنك رسول الله، أو ابعثْ بعض موتانا حتى نسألهم : أحقُّ ما تقول أم باطل ؟ أو ائتنا بالله والملائكة قبيلا.
فالآية ترد عليهم باطَلهم وتعنتهم.
قراءات :
قرأ نافع وابن عامر «قِبَلاً » بكسر القاف وفتح الباء، والباقون «قبلا » بالضم.
العدو : ضد الصديق، يطلق على الجمع والمفرد.
الشيطان : المتمرد العاتي من الجن والإنس.
يوحي : يعلم بطريق خفي.
الزخرف : الزينة، وكل ما يَصْرِف السامع عن الحقائق إلى الأوهام. الغرور : الخداع بالباطل.
ومثلما أن هؤلاء عادَوك يا محمد، وعاندوك رغم أنك تريد هدايتهم فقد واجه كل نبي جاء قبلك أعداء مثلهم. وكانوا من الإنس والجن، يوسوس بعضهم لبعض بكلام مزخرف لا حقيقة فيه، فيشحنونهم بالغرور والباطل. وكانوا يفعلون ذلك بطرق خفيّة لا يفطن إلى باطلها إلا قليل. ولو شاء الله ما فعلوه، لكن ذلك كله بتقدير الله ومشيئته، لتمحيص قلوب المؤمنين. فاترك يا محمد، الضالين وما يفترون من كذب، وامضِ لشأنك، فالنصرُ لك آخر الأمر.
تصغى : تميل، الفعل الماضي صَغِي يصغى.
اقترف الذنب : ارتكبه، واقترف المال اكتسبه.
إن قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة لَتستمع إلى ذلك الخداع والقول المموَّه بالباطل فهؤلاء يحصُرون همَّهم كلّه في الدنيا، ويعتقدون أن الحياة هي الدنيا فقط، وينالون أتباع النبي بالأذى.
﴿ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ ﴾.
يعني : تميل أفئدة المشركين إلى الباطل وترضاه وتخضع للشياطين، ومعجبين بزخرفهم الباطل، فليرتكبوا من هذه الدسائس ما هم مرتكبون فإنهم لن يضروك بشيء.
الحكم : من يتحاكم الناس إليه.
مفصّلا : مبينّاً فيه الحلال وكل ما يحتاجه البشر من الأحكام.
الممترين : الشاكّين.
ذَكَر الله هنا المبدأ الإسلامي الأول وهو مبدأ حق الحاكمية المطلقة لله وحده، وتجريد البشر من ادّعاء هذا الحق أو مزاولته في أي صورة من الصور، كما بيّن أنه أنزل القرآن الكريم، وهو الآية الكبرى، وأقوى الأدلة على رسالة نبيّه، وهو الذين يجب الرجوع إليه في أمر الرسالة وإتباع حكمه فيها.
قل لهم أيها النبي : ليس لي أن أتعدّى حُكم الله، ولا أن أطلب حكَماً غيره يفصل بيني وبينكم. لقد أنزل القرآن الكريم مفصّلاً واضحاً ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، وبيّن فيه المبادئ الأساسية التي يقوم عليها نظام الحياة جملة، كما تضمَن أحكاماً تفصيلية في المسائل التي يريد الله تثبيتها في المجتمع الإنساني، مهما اختلفت مستوياته الاقتصادية والعلمية.
وبهذا وذاك كان في القرآن غَنَاء عن تحكيم غير الله في شأن من شؤون الحياة. ويَعلم الذين أوتوا الكتاب أن القرآن منزل من عند الله مشتملاً على الحق، كما بشّرت به كتبهم، لكنهم يحاولون إخفاء ذلك وكتمانه، فلا تكونّن يا محمد أنت ومن اتّبعك من الذين يشكون في الحق بعد أن بينّاه. قراءات :
قرأ ابن عامر وحفص عن عاصم :«منزل » بالتشديد. والباقون «منزل » بالتخفيف.
كلمة ربك : القرآن الكريم.
تمام الشيء : انتهاؤه إلى حد لا يحتاج إلى شيء خارج عنه وتمامها هنا كافية وافية... والصدق يكون في الإخبار ومنها المواعيد، والعدل يكون في الأحكام.
لا مبدّل لكلماته : لا تغيير فيها.
إن حكم الله قد صدر، فتمت كلمات ربك الصادقة العادلة فيما وعدك به من نصر، وأوعد المستهزئين بالقرآن، من خذلان. وليس في قدرة أحد أن يغّير كلمات الله وكتابَه، وهو سميع لكل ما يقال عليم بكل شيء.
القراءات :
قرأ الكوفيون ويعقوب «كلمة ربك » والباقون «كلمات » بالجمع.
يخرصون : يقولون بالظن، ويكذبون.
سبيله : طريقه، وهو دين الله القويم.
بعد أن أجاب الله تعالى عن شبهات المشركين، قرر هنا أنه لا ينبغي للنبيّ الالتفات إلى ما يقوله أولئك الضالّون، لأنهم يريدون أن يُضلوا المؤمنين. وهم لا يتبعون في كلامهم إلا الكذب والظن الفاسد.
﴿ وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأرض يُضِلُّوكَ... ﴾.
وإذا كان الله تعالى هو الحكم العدل الذي يُرجع إلى كتابه في طلب الحق ومعرفته، فلا تتبع أيها النبي أنت ومن معك أحدا يخالف قوله الحقَّ، ولو كانوا عدداً كثيراً. إنك إن تفعل، يبعدوك عن طريق الحق المستقيم، لأنهم لا يسيرون إلا وراء الظنون والأوهام.
إن ربك هو العليم بالّذين بعدوا عن طريق الحق، وبمن هو من المهتدين.
بعد أن بين الله ضلال مشركي العرب ومن على شاكلتهم في عقائدهم، لأنهم خراصون ضالون، أردف ذلك ببيان مسألة هامة لها خطرها هي مسألة الذبائح لغير الله.
وإذا كان الله تعالى هو الذي يعلم المهتدين من الضالين، فلا تلتفتوا أيها المؤمنين إلى ضلال المشركين في تحريم بعض الأنعام. كلوا منها، فقد رزقكم الله إياها، وجعلها حلالاً لكم، واذكروا اسم الله تعالى عليها عند ذبحها إن كنتم مؤمنين.
وكان مشركو العرب وغيرهم من الوثنيين وأرباب الملل المختلفة يجعلون الذبائح من أمور العبادات، ويقرنونها بأصول الدين والاعتقادات، فيتعبدون بذبحها لآلهتهم ولمن قدّسوا من رجال دينهم، وهذا شِرك بالله.
ليس لكم أي مبرر أو دليل يمنعكم أن تأكلوا مما يُذكر اسم الله عليه عند ذبحه من الأنعام. ولقد بيّن سبحانه وتعالى المحرَّم في غير حال الاضطرار، كالميتة والدم، بيدَ أن كثيراً من الناس يُضلون غيرهم بأهوائهم الزائفة من غير علم أو برهان.
قراءات :
قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر :«فصل » بضم الفاء، والباقون «فصل » بفتح الفاء. وقرأ نافع ويعقوب وحفص :«حرم عليكم » بفتح الحاء، والباقون :«حرم » بضم الحاء.
وقرأ الكوفيون :«ليضلون » بضم الياء، والباقون «يضلون » بفتح الياء.
ذروا : اتركوا.
الإثم : كل ما حرمه الله.
ظاهر الإثم : ما تعلق بالجوارح من الأعمال، والباطن ما تعلق بأعمال القلوب، كالكبر والحسد وتدبير المكايد الضارة بالناس.
يقترفون : يكتسبون
اتركوا أيها المؤمنون، جميع الأعمال المحرمة وابتعدوا عنها، فالتقوى الحقيقية هي في ترك الإثم ظاهره وباطنه، أما الذين يكسبون الإثم فسيُجزَون بما اقترفوا من سيئات.
وإذا كانت الأنعام حلالاً لكم بذبحها، فلا تأكلوا مما لم يُذكر اسم الله تعالى عليه عند ذبحه. إن ذلك فسقٌ وخروج عن حكم الله، وإن المفسدين من شياطين الإنس والجن ليُوَسْوِسون في عقول من استولوا عليهم ليجادلوكم بالباطل، علّهم يُقنعونكم بأكل الذبائح التي يذكرون عليهم اسم آلهتهم، أو ينحرونها للميسر. ومثل ذلك شأن الميتة، فقد كان المشركون يجادلون المسلمين في تحريمها، ويقولون إن الله ذبحها، فكيف يأكل المسلمون مما ذبحوا بأيديهم، ولا يأكلون مما ذبح الله ؟ إن هذا من السخف، فإن قبلتموه وأطعتموهم كنتم مثلهم في الشرك بالله.
ونجد الأئمة رحمهم الله قد اختلفوا في هذه المسألة على ثلاثة أقوال :
فبعضهم يقول : إن كل ذبيحة لم يُذكر اسم الله عليها عمدا أو سهواً لا يحِلُّ أكلها مطلقا. وهذا القول مرويُّ عن ابنِ عُمَرَ ومولاه نافع، ورواية عن مالك، وعن أحمد بن حنبل ومذهب أبي ثور، وداود الظاهري.
والقول الثاني : إن التسمية على الذبيحة ليست شرطاً بل هي مستحبة... فإن تركَها عمداً أو نسياناً لا يضر. وهذا مذهب الإمام الشافعي وجميع أصحابه. وروي ذلك عن ابن عباس وأبي هريرة، وعطاء بن رباح، وقالوا : إن النهي كان عن الذبائح التي تذبحها قريش لآلهتهم، أما ترك التسمية فلا يضر.
والقول الثالث : إن تَرَكَ التسمية سهواً لا يضر، وإن تركها عمداً لم تحل. وهذا هو المشهور من مذهب مالك وأحمد بن حنبل، وبه يقول أبو حنيفة وأصحابه، وهو مروي عن سيدنا عليّ وابن عباس والحسن البصري وغيرهم.
قال ابن جرير في تفسيره : اختلف أهل العلم في هذه الآية، هل نُسخ من حكمها شيء أم لا ؟ فقال بعضهم : إنها مُحكَمة ولم يُنسخ منها شيء، وقال بعضهم : إنها نُسخت بقوله تعالى :﴿ اليوم أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ ﴾.
ثم قال ابن جرير : والصواب، إنه لا تعارُضَ بين حِل طعام أهل الكتاب وبين تحريم ما يُذكر اسم الله عليه. وهذا هو الصحيح.
وبعض العلماء يرى أن ما يُذبح عند استقبال مَلِك أو أمير حرامٌ، ولا يجوز أكلُه وفي هذا تشديد وتزمُّت، فإن مثل هذه الذبائح حلال، وليست محرّمة، لأن الناس لا يعبدون هؤلاء الذين ذبحوا لهم عند قدومهم. وليس هذا الاستبشار بقدومهم إلا كذبح العقيقةِ للمولود وغير ذلك...
المِثل والمَثل ( بفتح الميم وكسرها ) : الشبهُ والنظير.
هنا مقارنة فبعد أن بين الله تعالى أن أكثر الناس ضالّون يتّبعون الظن، وأن كثيراً منهم يًضلون غيرهم بغير علم، وكيف أن من الشياطين متمردين على أمر ربهم، يظلّون يوسوسون إلى أوليائهم، ويحاولون أن يزعزعوا إيمان المؤمنين، كما بيّن الفرق بين المؤمنين المهتدين حتى يقتدي الناس بهم، والكافرين الضالّين للتنفير من طاعتهم والحذَر من غوايتهم، أراد هنا أن يقارن بين الفئتين فصوَّر لنا صورة تمثيلية بديعة ملخّصها :
أفمَن كان ميتاً بالكفر والجهل فأحييناه بالإيمان، وجعلنا له نوراً يسير على هديه في علاقاته بالناس، ويكون به على بصيرة من أمر دينه وآدابه، هو في حال مثل حال ذلك الذي يعيش في ظلام الجهل والكفر، والتقليد الأعمى وفساد الفطرة ! ! كما زيّن الله الإيمان في قلوب المؤمنين، زين الشيطان الشِرك في نفوس الظالمين الجاحدين.
الأكابر : الرؤساء أصحاب النفوذ.
القرية : البلد.
المجرم : فاعل الفساد والضرر. المكر : الخديعة، وصرف المرء عن مقصده إلى غيره بالحيلة.
لا تعجب أيها النبيُّ، إذا رأيتَ أكابر المجرمين في مكة يدبّرون الشر ويتفنّنون فيه. إن سنّة الله في الاجتماع البشري قد قضت أن يكون في كل مجتمع زعماء مجرمون يمكُرون بالرسل والمصلحين، لكن عاقبة هذا المكر والإجرام لاحقة بهم، منصّبة عليهم.
﴿ وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ﴾ وإن كانوا لا يشعرون بذلك.
الصِّغار : الذل والهوان.
يبين الله تعالى هنا تعنُّت المشركين وعنادَهم وحسدهم للنبي صلى الله عليه وسلم فيقول : إن هؤلاء الكبارَ من المجرمين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من علم ونبوة وهداية، فإذا جاءتهم حجّةٌ قاطعة تتضمن صدقَ الرسول الكريم لا يذعنون لها. بل يقولون : لن نؤمن بها حتى ينزل علينا الوحيُ كما ينزِلُ على الرسل.
هكذا قال الوليد بن المغيرة : لو كانت النبوة حقاً لكنتُ أَولى بها من محمد، فأنا أكبر منه سنّاً، وأكثر منه مالاً وولدا.
وقال أبو جهل : والله لا نرضى به ولا نتّبعه أبدا، إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه.
وقد رد الله عليهم جهالتهم وبين لهم خطأهم بقوله :
﴿ الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ﴾.
فالله تعالى وحده هو الذي يعلم من يستحق الرسالة، وهي فضلٌ من الله يمنحه من يشاء، لا ينالها أحد بكسْب، ولا يتّصل إليها بسبب ولا نسب. وهي أمرٌ لا يورث حتى ينتقل من والد إلى ولد، ولا فضل لقرابة أو اشتراك في الدم. وقد جعلها سبحانه حيث عِلِم، واختار لها أكرم خلقه وأخلصهم، محمدا خير الخلق وخاتم النبيين.
ثم أوعد الله المكابرين وبين سوء عاقبتهم لعدم استعدادهم للإيمان فقال :
﴿ سَيُصِيبُ الذين أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ الله وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ ﴾.
إذا كان هؤلاء يطلبون الرياسة بهذا العناد، فسينالهم الصغار والذل في الدنيا والعذاب الشديد في الآخرة، جزاء مكرهم وتدبيرهم السيء. وقد عذّب الله أكابر مجرمي مكة الذين تصدَّوا لإيذاء النبي عليه الصلاة والسلام، فقُتل منهم من قتل في بدر، ولحق الصغارُ والهوانُ بالباقين، وسينالهم العذاب الشديد في الآخرة، والعاقبة للمتقين.
قراءات :
قرأ ابن كثير وحفص رسالته، والباقون رسالاته بالجمع.
شرح الصدر : توسيعه، ويراد به جعل النفس مهيأة لتقبل الحق.
الضَّيِّقِ والضَّيْق ( بالتشديد والتخفيف )، ضد الواسع.
الحرج : شدة الضيق. الحرجة : الشجر الكثير الملتف بعضه ببعض بحيث يصعب الدخول فيه.
يصعد في السماء : يرتفع إلى أعلى فيضيق نفسه.
الرجس : كل ما يُستقذر، واللعنة في الدنيا، والعذاب في الآخرة.
يوازن الله تعالى في هذه الآية بين الضالِّين المضلين المستكبرين، وبين المستعدّين للإيمان بما جاء به الرسول الكريم. فيقول : إذا كان أولئك الأشرار قد ضلّوا واهتديتم، فبإرادة الله تعالى وقضائه، فمن يكتُب له الهداية يتسع صدرهُ لنور الإسلام، ويستقبله في يسر ورغبة. ومن يكتُب عليه الضلال يجعل صدره ضيّقا شديد الضيق، كأنه من شدة الضيق كمن يصعد إلى مكان شديد الارتفاع فتنقطع أنفاسه. بهذا يكتب الله الخذلان على الذين لم يهتدوا.
وقد أثبتت الدراسات العلمية أنه كلّما ارتفع الإنسان أخذ التنفس يضعُف ويضيق لقلّة الأوكسجين في الهواء. ذلك أن الطبقات العليا من الهواء أقل كثافةً من الطبقات التي هي أدنى منها. ولذلك نرى الطائرات الحديثة الآن مكيفةً ومجهّزة بأحدث الأجهزة لوقاية الركاب فيها. ﴿ عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾.
قراءات :
قرأ ابن كثير :«ضَيْقاً »، والباقون :«ضّيِقاً » بالتشديد. وقرأ نافع وأبو بكر عن عاصم :«حرجا » بكسر الراء، والباقون «حرجا » بفتح الحاء والراء. وقرأ ابن كثير «يصْعَد » بسكون الصاد وفتح العين بدون تشديد، وأبو بكر عن عاصم :« يصاعد » بمعنى يتصاعد.
صراط ربك : طريقه الذي ارتضاه، ودينه القويم.
المستقيم : الذي لا اعوجاج فيه ولا زيغ.
دار السلام : الجنة.
وليّهم : متولّي أمورهم، وكافيهم كل ما يهمهم.
إن هذا الذي بينّاه هو طريق الحق المستقيم، هو الإسلام الذي يشرح الله له صدر من يريد هدايته، ولقد فصّلناه ووضّحناه للناس، كي ينتفع به الذين من شأنهم التذكر وطلب الهداية.
ولهؤلاء السالكين صراط ربهم دارُ السلام وهي الجنة، حيث يظلّون في ولاية الله ومحبته، بسبب ما عملوا في الدنيا من خير.
المعشر : النفر والقوم.
الرهط : الجمع من الرجال.
استكثر الشيءَ : أخذ منه الكثير.
أولياؤهم : الذين تولوهم أي أطاعوهم في وسوستهم.
الاستمتاع بالشيء : الانتفاع به طويلا.
بلغنا أجلنا : وصلنا يوم البعث والجزاء.
المثوى : مكان الإقامة.
الخلود : المكث الطويل غير المحدود.
في الآيات السابقة بين الله حال الذين سلكوا صراطه المستقيم، وأن الله شرح صدورهم، وجزاؤهم الجنّة، فهم في كفالة ربهم ناعمون. وهنا يعرض سبحانه وتعالى حالَ الذين سلكوا طريق الشيطان. وهو يعرض يوم الحشر في القيامة وما فيه من هول، في مشهد حيّ حافل بالحوار، فيقول :
﴿ وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعاً... ﴾.
يوم يحشر الله تعالى الخلق جميعا من إنس وجنّ، ويقول جل جلالُه : يا معشر الجن، قد أكثرتُم من إغراء الإنس حتى تَبعكم منهم عدد كثير. فيقول الذين اتّبعوهم من الإنس ﴿ رَبَّنَا استمتع بَعْضُنَا بِبَعْضٍ ﴾. ربنا، لقد انتفع بعضُنا ببعض، واستمتعنا بالشهوات، وبما كان لنا في طاعتهم ووسوستهم من اللذّة والانغماس في الشهوات، ﴿ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الذي أَجَّلْتَ لَنَا ﴾. ثم إننا قد وصلنا إلى الأجل الذي حدّدته لنا، وهو يوم البعث والجزاء، وقد اعترفنا بذنوبنا فاحكُم فينا بما تشاء.
وما هذا الاعتراف إلا من نوع الحسرة والندامة على ما كان منهم من التفريط في الدنيا.
فيقول جل جلاله :
إن النار منزلكم ومقركم خالدين فيها إلا ما شاء الله أن ينقذهم، فكل شيء بمشيئته واختياره، فله السلطان الكامل، ﴿ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ ﴾ وهو حكيم فيما يفعل ويختار، عليم بما يستحقه كل من الفريقين.
وفي قوله تعالى ﴿ إِلاَّ مَا شَاءَ الله ﴾ فسحةٌ كبيرة وبشرى عظيمة بسعةِ حلمه ورحمته، إنه غفور رحيم.
قراءات :
قرأ حفص عن عاصم، وروح عن يعقوب :«يحشرهم » بالياء، كما هو في مصحفنا. وقرأ الباقون «نحشرهم » بالنون.
ومثلُ ذلك الذي ذُكر من استمتاع أولياء الإنس والجن بعضهم ببعض، نولي بعض الظالمين بعضاً بسبب ما كانوا يكسِبون من الكبائر والجرائم.
روى أبو الشيخ عن منصور بن أبي الأسود قال : سألت الأعمش عن قوله تعالى ﴿ وكذلك نُوَلِّي بَعْضَ الظالمين بَعْضاً ﴾ قال : معناه كما سمعتُ من أشياخي :«إذا فسد الناس أُمِّرَ عليهم شِرارهم. وذلك أن الحكّام يتصرفون في الأمم الجاهلة الضالّة تَصَرُّفَ رعاة السوءِ في الأنعام السائمة ».
ولذلك تفرَّد الإسلام بوضع هذا الدستور العظيم، جعل أمر الأُمة بين أهل الحلّ والعقد، وأمَر الرسولَ بالمشاورة، لئلا يتفرّد بالحكم طاغية يتحلل من الرقابة.
وإنما يولّي الله الناسَ بأعمالهم، فالمؤمن وليُّ المؤمن من أين كان وحيثما كان، والكافر وليُّ الكافر من أين كان وحيثما كان. وهذا ما نشاهده الآن من تجمُّع أولياء الشياطين من الكفار من صليبيّين وصهيونيين وغيرهم. وكلهم في صفِّ واحد ضد الإسلام والمسلمين، وهم يدعمون اليهود ويساعدونهم بكل ما لديهم من قوة وسلاح كما تفعل أمريكا في الوقت الحاضر، وبريطانيا قبلها، ليحاربوا المسلمين ويسلبوا وطنهم ومالهم. إنه تجمُّع يتجلّى فيه قولُه سبحانه :﴿ وكذلك نُوَلِّي بَعْضَ الظالمين بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ﴾.
والله سبحانه وتعالى غالبٌ على أمره، وقد بشّرنا بقوله :
﴿ إِن تَنصُرُواْ الله يَنصُرْكُمْ ﴾.
ونحن نأمل في أن تتجمَّع قوى المسلمين على قلب واحد، لهدف واحد هو تخليص أرضنا المقدسة، فلسطين، من براثن الأعداء.
الخطاب هنا موجه إلى الجنّ والإنس معا، فهل أرسل الله إلى الجن رسلا منهم كما أرسل إلى الإنس ؟ يقول جمهور العلماء : إن الرسل كلهم من الإنس كما يدل عليه ظاهر الآيات الأخرى. أما عالم الجن فهو غيبّي لا نعرف عنه إلا ما ورد به النص. وقد دل القرآن الكريم والأحاديث الصحيحة على أن النبي علي الصلاة والسلام قد أُرسل إليهم أيضا في قوله تعالى :
﴿ وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الجن يَسْتَمِعُونَ القرآن، فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالوا : أَنصِتُواْ فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْاْ إلى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ... الآيات ﴾ من سورة الأحقاف. فهذا يدل على أن الرسل من الإنس وحدهم، وأن الجن كانوا يستمعون لهم وينذرون أقوامهم.
فالله تعالى يقول لهم يوم القيامة : يا أيها الإنس والجن، لقد جاءتكم الرسل يذكُرون لكم الحجج والبينات، ويتلون عليكم الآياتِ المبينَة لأصول الإيمان، والمفصِّلة لأحكام الشرائع، وينذرونكم لقاء الله في هذا اليوم العصيب، فكيف تكذبون ؟
فأجابوا : قد أقررنا وشهِدنا على أنفسنا بما ارتكبنا. ولكنهم :﴿ وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا ﴾ قد خدعتهم الحياة في الدنيا ومتاعها من الشهوات والأموال والأولاد، وحبُّ التسلط على الناس. بذلك أقرّوا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا جاحدين كافرين بالآيات والنذر.
ثم يلتفت سبحانه وتعالى بالخطاب إلى الرسول الكريم والمؤمنين، وإلى الناس أجمعين فيقول :
﴿ ذلك أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ ﴾.
وهذا من رحمة ربنا تعالى بنا جميعا، فهو لا يؤاخذ الناس حتى على الشِرك والكفر حتى يرسل إليهم الرسل، كما بين ذلك في عدد من الآيات منها :﴿ رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل ﴾.
فالله سبحانه لا يهلك القرى بظلمهم وأهلها غافلون عن الحق، بل ينبهُهُم على يدِ رُسله أولاً، فإن تمادَوا نالوا جزاءهم.
وعلاوة على أن هذه الآيات تصوّر رحمة الله بالإنسان وفضله عليه، فإنها أيضاً تقرر أن العقل والمدارك وحدها لا تكفي، ولا تعصم من الضلال، ما لم تساندْها العقيدة ويَضبطْها الدين.
ثم يختم ذلك بتقرير لطيف في شأن الجزاء، للمؤمنين وغيرهم على السواء، فيقول :﴿ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ﴾.
أي أن لكل عامل خيرٍ أو شرِ درجاته من جزاء ما يعمله... إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، والله تعالى غير غافل عما يعملون، بل إن عملهم في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.
يذهبكم : يهلككم.
يستخلف : يأتي بغيركم، وينشئ نسلاً جديداً غيركم.
بعد أن قرر تعالى في الآيات السابقة حجة الله على المكلفّين بعد إرساله الرسل إليهم بيّن أنَّهم يشهدون على أنفسهم يوم القيامة أنهم كانوا كافرين، وأوضح أنه لا يعذب أحدا ظلماً وعدواناً، بيّن أنه تعالى غنّي عن العباد وعن إيمانهم به. من ثم فإنهم إذا أحسنوا فإنما يحسنون لأنفسهم. بل إن رحمته لتتجلّى في الإبقاء على الناس، وإن كانوا عصاة مشركين ظالمين، مع أنه قادر على أن يهلكهم، وينشئ غيرهم ليخلفهم.
﴿ وَرَبُّكَ الغني ذُو الرحمة ﴾.
إنه هو الغني عن العباد والعبادة، وصاحب الرحمة الشاملة التي وسعت كل شيء.
بمعجزين : لا تعجزونني.
المكانة : الحال التي هي عليها.
عاقبة الدار : عاقبة الدنيا.
بعد كل ما سبق أكد الله للناس أن ما وعد حق، وهو تعقيب فيه تهديد شديد.
فقال :﴿ إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَآ أَنتُم بِمُعْجِزِينَ ﴾.
أي إن الذي ينذركم الله به من عقاب، أو يبشركم، به من ثواب بعد البعث والحشر والحساب، آتٍ لا محالة، فلا تظنوه بعيدا. إنكم لن تُعجزوا من يطلبكم يومئذ، وليس لكم ملجأ تهربون إليه من دون الله.
وتنتهي التعقيبات بتهديد عميق الإيحاء والتأثير في القلوب، إذ يأمر الله رسوله الكريم أن ينذرهم بقوله :
﴿ قُلْ يَا قَوْمِ اعملوا على مَكَانَتِكُمْ إِنَّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدار إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون ﴾.
أي قل لهم يا محمد مهددا : اعملوا على النحو الذي اخترتموه بكل ما في قدرتكم، أما أنا فسأعمل على طريقتي التي ربّاني عليها ربي، وسوف تعلمون حتماً من تكون له العاقبة الحسنة في هذا الدار الآخرة. إن الله تعالى لم يكتب الفوز للظالمين، فهم لا يفلحون أبدا.
قراءات :
قرأ حمزة والكسائي «من يكون له عاقبة الدار » بالياء، وقرأ الباقون «تكون » بالتاء كما هو في المصحف.
ذرأ : خلق.
الحرث : الزرع.
شركاؤنا : الأوثان التي كانوا يتقربون بعبادتها إلى الله تعالى، وشركاؤهم سدنةُ الأوثان وخدمها.
ساء ما يحكمون : ما أسوأ حكمهم وقسمتهم.
بعد أن حاجّ الله تعالى المشركين وسائر العرب في كثير من أصول الدين، وكان آخرهم البعث والجزاء، أخذ هنا يفنّد أفعالهم وخرافاتهم في الحرث والزرع والأنعام، وفي التحليل والتحريم حسب الأهواء.
لقد أوضح أن المشركين الذين يعبدون الأوثان في أوهام مستمرة، فهم يجعلون بعض الزرع والإبل والبقر والغنم من نصيب الله تعالى بأن ينفقهوه على الضيوف والمحتاجين، ويجعلون البعض الآخر من نصيب الأوثان وينفقونه في خدمتها. ومعنى ذلك أنهم جعلوها شركاء لله تعالى. ثم يزعمون أن ما يجعلونه للأوثان يصل إليها وما يجعلونه لله تعالى لا يصل إليه، بل يأخذه الأضياف والفقراء. «ساءَ ما يَحْكُمون » فما أسوأ حُكمهم الظالم : لقد جعلوا الأوثان نظراء لله وهو سبحانه الخالق الأوحد، كما أنهم أساءوا حين أنفقوا ما جعلوه لله في غير مصارفه.
القراءات :
قرأ الكسائي :«بزعمهم » بضم الزاي، والباقون «بزعمهم » بفتح الزاي.
شركاؤهم : سدنة الآلهة التي يعبدونها من الأوثان.
لِيُرْدوهم : ليهلكوهم.
ليلبسوا : ليخلطوا عليهم.
كما زيّنتْ لهم أوهامهم تلك القسمة الظالمة التي مر ذكرها في الآية السابقة من الحرث والإبل والبقر وغيرها، زيّنت لهم أوهامهم وتضليلُ شركائهم من خدّام الأوثان وشياطين الإنس أن يقتلوا أولادهم. وكان ذلك يتم إما تديُّناً وتقرباً لآلهتهم في الجاهلية، أو بسبب من الفقر، كما جاء في بعض الآيات. ومنهم من كان يئد البنات، أي يدفنهن في التراب، خوفا من العار الذي يمكن أن يُلحقنه به.
وكان نَذْر قتل بعض الأولاد جاريا في دينهم، ومن ذلك نذْرُ عبد المطلب أن يقتل آخر أولاده إن وُلد له عشرة ذكور فكان العاشر عبد الله. وفداه بمائة من الإبل كما أفتاه بذلك بعض الكهان.
﴿ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ ﴾.
لقد زينوا لهم هذه الخرافات المنكرة ليهلِكوهم بالإغواء، ويفسدوا عليهم فِطرتهم، حين تنقلب عواطف الوالدين من رحمة ورأفة إلى قسوة ووحشية. من ثَمَّ ينحر الوالدُ ولده، ويدفن بنتَه الضعيفة وهي حية.
﴿ وَلَوْ شَاءَ الله مَا فَعَلُوه، فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ﴾.
تلك مشيئة الله في خلقه بما ينتحلونه من شرائع وما يفترون عليه من كذب، فاتركهم أيها الرسول. إن عليك أن تقوم بما أُمرت به من التبليغ، والله هو الذي يتولى أمرهم، وله سُنن في هداية خلقه لا تتغير ولا تتبدل.
قراءات :
قرأ ابن عامر :«وكذلك زُيّن لكثيرٍ من المشركين قتلُ أولادَهم شركائِهم بنصب أولادهم وجرّ شركائهم، وهنا فصل بين المضاف والمضاف إليه. وقرأ الباقون «زَيَّن لكثيرٍ من المشركين قتلَ أولاَدِهم شركاؤُّهم ».
حجر : محجور ممنوع.
سيجزيهم : سيعاقبهم الله على هذه المنكرات.
ثم ذكر الله تعالى ثالثا من آرائهم وديانتهم الفاسدة فقال :
﴿ وَقَالُواْ هذه أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ ﴾.
يعني : ومن أوهامهم أنهم قسموا أنعامهم وزرعهم أقساما ثلاثة :
١- أنعام وأقوات وحبوب وغيرها ممنوعة، تُجعل لمعبوداتهم، لا يأكلها أحد إلا من يشاؤون من خَدَمة الأوثان، ويقولون هي «حِجْر » أي محجورة للآلهة لا تعطى لغيرهم.
٢- أنعام حَرُمت ظهروها، فلا تُركب ولا يُحمل عليها، كما جاء في قوله تعالى بسورة المائدة :﴿ مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَائِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ ولكن الذين كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ على الله الكذب وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ﴾.
٣- أنعام لا يذكرون اسم الله تعالى عليها عند الذبح، بل يُهدونها لألهتهم وحدها وذلك لكذبهم على الله تعالى بشِركهم.
إن الله تعالى سيجزيهم بالعذاب في الآخرة، بسبب افترائهم عليه وتحريمهم ما لم يحرمه هو.
ثم ذكر نوعاً آخر من أحكامهم في التحريم بيّن فيه سخفهم وكذبهم على الله فقال :﴿ وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هذه الأنعام خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ على أَزْوَاجِنَا وَإِن يَكُن مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَآءُ... ﴾.
ومن ديانتهم الباطلة أنهم يقولون : إن ما في بطون الأنعام التي لا تُذبح ولا تُركب هو للذكور خاصة، ويحرُم على النساء. لكن ذلك الجنين إذا سقط ميتا اشترك في أكل لحمه الذكور والإناث فكيف يجوز ذلك ! إن الله سيجزيهم على كذبهم الذي وصفوا به فعلهم، إذا ادعوا أن هذا التحريم من عند الله وهو من عند أنفسهم. إن الله عليم بكل شيء، حكيم تسير جميع أفعاله على مقتضى الحكمة.
لقد خسر أولئك الذين قتلوا أولادهم، وَوَأَدُوا بناتهم سَفَهاً وحُمقاً، فالولد نعمةٌ من الله على العبد، ﴿ المال والبنون زِينَةُ الحياة الدنيا ﴾ فإذا سعى العبد في زوال هذه النعمة خسر خسرانا عظيما، واستحق الذم في الدنيا، والعقاب في الآخرة.
كذلك أولئك الذين حرموا على أنفسهم ما رزقهم الله من زرع وحيوان... لقد ضلُّوا وبعُدوا عن الحق، فهم لا يتّصفون بالهداية بحالٍ من الأحوال.
القراءات :
قرأ ابن كثير وابن عامر :«قد خسر الذين قَتَّلوا بالتشديد ».
أنشأ : خلق.
الجنات : الحدائق والبساتين والكروم الملتفة الأشجار لأنها تجُنُّ الأرض وتسترها.
معروشات : محمولات على العرائش.
غير معروشات : الأشجار التي تقوم عل سوقها ولا تحتاج إلى دعائم. الأكُل ( بضم الهمزة والكاف ) : ما يؤكل متشابهاً في النظر وغير متشابه في الطعم.
إن أصول الدين التي عُني بها القرآن الكريم واهتم ببيانها وكررها كثيرا هي : التوحيد، ولقد شدَد عليه لانتشار الوثنية في الجاهلية وتعدد الآلهة، والنبوة والبعث والقضاء والقدر.
وقد شدد سبحانه وتعالى في تقرير هذه الأصول، وسفّه أراءَ المشركين وبيّن سُخفهم وجهلهم، وجاء هنا ليبيّن عظمة الخالق، والحث على توحيده وإفراده بالعبادة. وأنه خالقُ كل شيء.
﴿ وَهُوَ الذي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ... ﴾.
الله وحدَه هو الذي خلق حدائق منها ما يغُرس ويُرفع على دعائم كالعنب وما شابهه، ومنها ما يقوم على ساقِه من مختلِف الأشجار. كذلك خلق النخلَ والزرع الذي يُخرجٍ ثمراً مختلفا في اللون والطعم والشكل والرائحة وغير ذلك، كما خلق الزيتون والرمّان متشابهاً في المنظر، وغير متشابه في الطعم، مع أن التربة قد تكون واحدة وتُسقى بماءٍ واحد. فكُلوا أيها الناس من ثمر ما خلق لكم إذا نضِج وطاب، وأخرِجوا الصدقة منه وقت حصاده، ولا تٌسرفوا في الأكل فَتَضُرُّوا أنفسكم. إن الله لا يرضى عن المسرِفين في تصرُّفاتهم وأعمالهم.
فالله سبحانه بعد أن أعلم بأنه هو الذي أنشأ لهم ما في الأرض من الشجر والنبات الذي يستعملون منه أقواتهم، أعلَمَهم بأنه أباح لهم ذلك كلَّه، فليس لأحد غيره أن يُحرِّم شيئا منه عليهم، لأن التحريم حق الله وحده. فمن ادّعاه لنفسه فقد جعل نفسه شريكا له تعالى، كما أن من أذعن لتحريم غير الله أشرك معه بعض ما خلق.
قراءات :
قرأ أهل البصرة وابن عامر وعاصم :«حصاده » بفتح الحاء، والباقون بكسر الحاء وهما لغتان.
الحمولة : الكبيرة من الإبل والبقر الذي يحمل الناس عليه الأثقال. والفرش : هو ما يتخذ من صوف الحيوان ووبره وشعره.
الخطوات ( واحدها خطوة بضم الخاء ) : المسافة بين القدمين في المشي.
ولقد خلق الله لكم من الأنعام، وهي الإبل والبقر والضأن والماعز، ما يحمل أثقالكم، وما تتخذون من أصوافها وأوبارها وأشعارها فراشا لكم. وهي رزقٌ من الله لكم، فكلوا ما أحلّ الله منها ولا تتّبعوا الشيطان وأولياءه في افتراء التحليل والتحريم، كما كان يفعل أهل الجاهلية... إن الشيطان لا يريد لكم الخير لأنه عدوُّ لكم ظاهر مبين.
ثمانية أزواج : يعني أن الأنعام أربعة أنواع هي : الضأن والماعز، والإبل والبقر، وكل نوع منه زوج... ذكر وأنثى.
ما اشتملت عليه الأرحام : الأجنّة.
بعد أن ذكر الله تعالى أن الأنعام إما حمولة وإما فَرش، فصّلها وقسمها ثمانية أزواج. فالحمولة هي الإبل والبقر، والفرش من الضأن والماعز، وكل من الأقسام الأربعة إما ذكرٌ وإما أنثى. وكل هذا التفصيل ليبطِل ما تقوَّله المشركون على الله تعالى بالتحريم والتحليل.
قل يا محمد للمشركين منكراً عليهم تحريمَ ما حرّموا من هذا : ما علّةُ تحريم هذه الأزواج كما تزعمون ؟ أهي كونها ذكورا ؟ ليس كذلك، لأنكم تُحلُّون الذكور أحيانا. أهي كونها إناثا ؟ ليس كذلك، لأنكم تحلّون الإناث أحيانا. أم هي التي في بطونها «ما اشتملت عليه الأرحام » ؟ وليس كذلك أيضاً، لأنكم لا تحرّمون الأجنَة على الدوام.
﴿ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾.
أخبِروني بمستندٍ صحيح يُعتمد عليه، إن كنتم صادقين فيما تزعمون في التحليل والتحريم.
قراءات :
قرأ ابن كثير وأبو عمرو، وابن عامر، ويعقوب «المعز » بفتح العين، والباقون بسكونها.
وخلق الله من الإبل زوجين، ومن البقر زوجين، قل لهم يا محمد منكراً عليهم : ما علة التحريم لما حرمتم من هذه الأزواج كما تزعمون ؟ أهي كونها ذكورا ؟ ليس كذلك، لأنكم تحلون الذكور أحيانا أم هي كونها إناثا ؟ ليس كذلك، لأنكم تحلون الإناث أحيانا. أم هي التي في بطونا ؟ ليس كذلك أيضاً، لأنكم لا تحَرمون الأجنة على الدوام. وتزعمون أن هذا التحريم من عند الله.
﴿ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ الله بهذا ﴾.
أكنتم حاضرين حين وجّه الله إليكم هذا التحريمَ فسمعتم نهيه ؟ لم يكن ذلك قطعا، فانتهوا عما أنتم فيه. إنه ظلم، وليس هناك أظلم ممّن كذّب على الله فنسب إليه ما لم يصدر عنه.
﴿ لِيُضِلَّ الناس بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾.
إن مثل هذا الأفّاك إنما يريد إضلال الناس من غير علم يستند عليه.
﴿ إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين ﴾.
إن الله لا يوفق للرشاد من افترى عليه الكذب، وقال عليه الزور والبهتان.
الطاعُم : الآكِلُ.
الميتة : البهيمة ماتت بدون ذبح.
المسفوح : السائل، كالدم الذي يجري من المذبوح.
رجس : قذر.
أُهِل لغير الله : ذبح باسم الأصنام.
غير باغ : غير طالب لذلك قاصدٍ له.
ولا عاد : ولا متجاوز قدر الضرورة.
بعد أن بين الله تعالى أنه ليس لأحد أن يحرّم شيئا من الطعام ولا غيره إلا بوحي من ربه على لسان رسُله الكرام، وإلا كان افتراءً من عنده ؛ وأبان أن من هذا الافتراء ما حرمته العرب في الجاهلية من الأنعام والحرث، عطَف هنا ليبّين ما حرمه الله على عباده من الطعام على لسان خاتم المرسلين، فقال :
قل أيها النبي لهؤلاء المفترين على الله الكذب، ولغيرهم من الناس :
لا أجد فيما أوحاه الله إليّ طعاماً محرّما على آكلٍ إلا أن يكون ميتةً لم تُذبح ذبحاً شرعيا، أو دماً مسفوحاً سائلا، ( فلا يدخل فيه الدم الجامد كالكبد والطحال، فقد ورد في الحديث :«أُحلّت لنا ميتتان : السمك والجراد، ودَمان : الكبد والطحال » أو يكون لحمَ خنزيرٍ. إن ذلك كله خبيث لا يجوز أكله.
﴿ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ ﴾ : وأن لا يكون هذا الشيء المحرم فيه خروج عن العقيدة الصحيحة، كأَنْ ذُكر عند ذبحه اسم غيرِ الله، كصنم أو معبود آخر. ومع هذا فإن من دعته الضرورة إلى أكل شيء من هذه المحرمات غيرَ طالب اللذّة في الطعام، وغير متجاوز قدر الضرورة- فلا حرج عليه. إن الله يقدّر المصلحة وهو غفور رحيم.
قراءات :
قرأ ابن كثير وحمزة «تكون ميتة » بالتاء. وقرأ ابن عامر «تكون ميتة » بالتاء وبرفع ميتة، وقرأ الباقون «يكون ميتة » بالياء وبنصب ميتة.
الذين هادوا : اليهود.
الظفر للإنسان وغيره مما لا يصيد، والمخلب والناب لما يصيد.
الشحم : ما يكون على الأمعاء والكرش والكلى من المادة الدهنية. حملت ظهورها : أي علقت بها.
الحوايا : الأمعاء والمصارين.
بأسه : عذابه.
في هذه الآية بيان لما حرمه الله على بني إسرائيل خاصّة، عقوبةً لهم، لا على أنه من أصول شرعه.
ولقد حرّمنا على اليهود أكل اللحم والشحم وغيرها من كل ما له ظفر من الحيوانات كالإبل والسباع. كما حرّمنا عليهم البقر والغنم شحومها فقط، إلا الشحوم التي حملتها ظهروها، أو التي توجد على الأمعاء، أو التي اختلطت بعظم... قد جاء هذا التحريم عقاباً لهم على ظلمهم، لأنه خبيث في ذاته.
فإن كذّبك المكذِّبون من اليهود والمشركين فيما أوحيتُ إليك يا محمد، فقل لهم محذِّراً : إن ربكم الذي يجب أن تؤمنوا به وحده ذو رحمة واسعة لمن أطاعة ولمن عصاه أيضا : لذلك لا يعاجلُكم بالعقوبة على تكذيبكم، فلا تغتّروا به وبسعة رحمته، فإن عذابه لا بدّ واقع بالمجرمين.
يخرُصون : يحزرون، يخّمنون، وهو هنا بمعنى الكذب.
الحجة البالغة : الدلالة المبينة للقصد المستقيم.
هلّم : احضُروا. بربهم يعدلون : يتّخذون له عديلاً ومثيلا.
سيقول المشركون اعتذاراً عن شِركهم، وتحريم ما أحلّ الله من المطاعم وتكذيباً لما أبلغتَهم من مقتِ الله لما هم عليه : إن الإشراك منّا، وتحريمَ الحلال، كانا بمشيئة الله ورضاه. ولو شاء عدم ذلك، وكرِه منّا ما نحنُ عليه، ما أشركنا نحنُ ولا أسلاُفنا، ولا حرّمنا شيئاً مما أحلّه لنا.
ولقد كذَّب الذين من قبلهم رسُلَهم، كما كذّبك هؤلاء، واستمروا في تكذيبهم حتى نزل بهم عذابُنا. فقل أيها الرسول لهؤلاء المكذّبين : هل عندكم فيما تقولونه هذا علم تعتمدون عليه وتحتجون به ؟ أظهِروه لنا إذا كان عندكم ذلك. إننا نود أن نفهمه ونوازنَ بينه وبن ما جئناكم به من الآيات الواضحة.
ثم يُبَيّن حقيقة حالهم بقوله تعالى :
﴿ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ ﴾.
أي : إنكم لستم على شيء من العلم، وما تتبعون فيما تقولون إلا الظنَّ الذي لا يُغني من الحق شيئا.
وبعد أن نفى سبحانه وتعالى عنهم حقيقة العلم، أثبت لذاته الحجةَ البالغة التي لا تعلوها حجة فقال :
﴿ قُلْ فَلِلَّهِ الحجة البالغة فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ﴾.
قل أيها النبي لهؤلاء الجاهلين : إن لِلّهِ الحجةَ الواضحة على كذبكم وادّعائكم أن الله قد رضيَ بعلمكم، ولا حجةَ لكم فيما تزعمون من الشِرك والتحليل والتحريم وغيرهما، ولو شاء الله أن يَهديكم بغير هذه الطريقة التي أقام أمر البشر عليها ( وهي التعليم والإرشاد بطريق النظر والاستدلال )، لهداكم أجمعين، فجعلكم تؤمنون بالفطرة كالملائكة، ولجعل الطاعة فيكم بغير شعور منكم ولا إرادة... وحينئذ لا تكونون من نوع الإنسان الذي قضت الحكمة وسبق العلم بخلقه مستعدّاً لعمل الخير والشر، الحق والباطل.
وبعد أن نفى عنهم العلم وسجّل عليهم اتّباع الهوى، أمَر رسوله الكريم أن يطالب المشركين بإحضار من عساهم يعتمدون عليه من الشهداء في إثبات ما ادّعوه فقال :
﴿ قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الذين يَشْهَدُونَ أَنَّ الله حَرَّمَ هذا ﴾.
هاتوا أنصاركم الذين يشهدون لكم أن الله حرم هذا الذي زعمتم أنه حرام. فإن حضروا وشهدوا، فلا تصدِّقهم يا محمد، لأنهم كاذبون. وإياك أن تتّبع أهواء هؤلاء الذين كذّبوا بالأدلة الكونية والقرآن المتلُو، والذين لا يؤمنون بالآخرة، كما يشركون بالله، ويتخذون له مثيلاً يشاركه في قدرته.
الإملاق : الفقر.
الفواحش : مفردها فاحشة، وهي كل ما قبح من الأقوال والأفعال.
يبلغ أشُده : تكتمل قواه العقلية والجسمية ببلوغ سن الرشد.
القسط : العدل.
لا تتبعوا السُبل : لا تحيدوا عن تعاليم الإسلام فتخسروا.
بعد أن بين الله لعباده جميع ما حرّم عليهم من الطعام، وذكر حجته البالغة على المشركين، لتحريمهم ما لم يحرّمه الله، ثم دحض شُبهتهم التي احتجوا بها على شِركهم بربهم، جاء بهذه الآيات الثلاث فيها تبيان أصول المحرمات في الأقوال والأفعال، وأصول الفضائل وأنواع البر. وقد عبر عنها بعض المفسرين بالوصايا العشر.
قل لهم أيها النبي : تعالوا أبيّن لكم المحرمات التي ينبغي أن تهتموا بها وتبتعدوا عنها :
١- لا تجعلوا لله شريكاً ما، بأي نوعٍ كان من أنواع الشرك.
٢- وأحسنِوا إلى الوالدين غاية الإحسان والبر.
٣- ولا تقتلوا أولادكم بسبب فقرٍ نزل بكم، فلستم، أنتم الرازقين، بل نحن الذين نرزقكم ونرزقهم.
٤- وابتعِدوا عن كل ما عظم قُبحه من الأعمال. وقد جاءت كلمات فاحشة وفحشاء وفواحش في كثير من الآيات، من ذلك قوله تعالى :﴿ إِنَّ الصلاة تنهى عَنِ الفحشاء والمنكر ﴾ وقوله :﴿ إِنَّ الله لاَ يَأْمُرُ بالفحشاء ﴾. ﴿ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ﴾. ﴿ يا نساء النبي مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ ﴾ فكل عمل قبيح هو فاحشة. وقد روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود أن النبي عليه الصلاة والسلام قال :«لا أحدٌ أَغْيرُ من الله، من أجل ذلك حرّم الفواحش : ما ظَهر منها وما بطَن ».
٥- ﴿ وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق ﴾، يعني إذا استحق القاتل ذلك. وفي الحديث الشريف «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بأمور ثلاثة : كفرٌ بعد إيمان، وزنا بعد إحصان، وقتل نفس بغير حق ».
﴿ ذلكم وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾، أمركم الله تعالى أمراً مؤكّدا باجتناب هذه المنهيات لتعقلوا ذلك.
٦- ولا تتصرفوا في مال اليتيم إلا بأحسنِ تصرُّف يحفظه وينميه، فاحفظوا مال اليتيم، وثمّروه، وأنفقوا منه على تربيته وتعليمه ما يصلُح به معاشه. واستمرّوا على ذلك حتى يبلغ رُشده، ويستطيع أن يستغل ماله بالتصرف السليم. فإذا بلغ فسلِّموه إليه كما قال تعالى في آية أخرى. ﴿ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فادفعوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ ﴾.
٧- وأتِمّوا الكيل إذا كِلتم للناس، أو اكتلتم لأنفسكم. وأوفوا الميزانَ إذا وزنتم لأنفسكم فيما تبتاعون، أو لغيركم فيما تبيعون ولا تكونوا من أولئك المطففين الذين وصفهم الله بقوله :﴿ الذين إِذَا اكتالوا عَلَى الناس يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ﴾.
﴿ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا ﴾ فالله تعالى لا يكلّف نفساً إلا ما تستطيعه دون حرج.
وهذا الأمر وقع في الأُمم التي قبلَنا قديماً كما حكى الله تعالى عن قوم شعيب بقوله :﴿ ويا قوم أَوْفُواْ المكيال والميزان بالقسط وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ ﴾.
وقال صلى الله عليه وسلم لأصحاب الكيل والميزان :«إنكم وُلِّيتم أمراً هلكتْ فيه الأمم السالفةُ قَبلكم ». ولا يزال ذلك يقع من كثير من ضعاف النفوس.
٨- ﴿ وَإِذَا قُلْتُمْ فاعدلوا وَلَوْ كَانَ ذَا قربى ﴾ إذا قلتم قولاً في حكمٍ أو شهادة أو خير أو نحو ذلك، فلا تميلوا عن العدل والصدق، دون مراعاة لصِلة القرابة أو المصاهرة أو الجنس. فبالعدل والصدق تصلح شئون الأمم والأفراد، فلا يحلُّ لأحد أن يحابي أحداً لقرابة أو غيرها ﴿ يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَاءَ بالقسط ﴾.
٩- ﴿ وَبِعَهْدِ الله أَوْفُواْ ﴾ وأوفوا بعهد الله، فلا تنقُضوا عهده الذي أخذه عليكم بالتكاليف، ولا العهود التي تأخذونها بينكم، فيما يتعلق بالمصالح المشروعة. ﴿ والموفون بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ ﴾. فمن آمن فقد عاهد الله حين الإيمان به أن يمتثل أوامره ونواهيه، وما شرعه للناس ووّصاهم به.
روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمران أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«أربعٌ من كنّ فيه كان منافقاً خالصا، ومن كانت فيه خصلة منها كانت فيه خصلة من النِفاق حتى يدَعَها : إذا حدَّث كذَب، وإذا وعَد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر ».
﴿ ذلكم وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ إن ذلك الذي تلوتُه عليكم من الأوامر والنواهي وصاكم الله به رجاء أن يذكره بعضكم لبعض مثل قوله تعالى :﴿ وَتَوَاصَوْاْ بالحق وَتَوَاصَوْاْ بالصبر ﴾.
﴿ وَأَنَّ هذا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فاتبعوه وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ﴾.
وأن هذا القرآن الذي أدعوكم إليه، وأدعوكم به إلى ما يحييكم، هو صراطي ومنهاجي الذي أسلكه إلى مرضاة الله، لا يَضِلُّ سالكه، ولا يهتدي تاركه.
الوصية العاشرة : لا تتبعوا الطرق الباطلة المضلّة التي نهاكم الله عنها، حتى لا تتفرقوا شيعا وأحزابا، وتبعدوا عن صراط الله المستقيم، كما هو حاصلٌ اليوم. فنحن لنا في كل خِربةٍ دولةٌ ذات مجد ! ! في كل بيت عدة شيع وأحزاب ! ! هدانا الله وتجاوز عما نحن فهي من مخادعة !
أخرج الإمام أحمد والنسائي وأبو الشيخ عن عبد الله بن مسعود قال :
«خطّ رسول الله خطاً بيده، ثم قال : هذا سبيلُ الله مستقيما، ثم خط خطوطاً عن يمين ذلك الخط وعن شماله ثم قال : وهذِه السبُل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه » ثم قرأ :﴿ وَأَنَّ هذا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فاتبعوه وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ﴾.
وقد جعل الله تعالى الصراط المستقيم واحدا والسبلَ المخالفة متعددة، لأن الحق واحدٌ والباطل كثير. ولما كان اتباع الصراط المستقيم وعدم التفرق فيه يجمع الكلمة ويعز أهل الحق، كان التفرق فيه سبب الضَّعف وذلك المتفرقين وضياع حقهم.
﴿ ذلكم وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾. لقد أوصاكم باتباع صراط الحق المستقيم ونهاكم عن سبيل الضلالات والأباطيل ليهيئكم لاتقاء كل ما يشقي ويردي في الدنيا والآخرة.
وقد وردت أحاديث كثيرة بشأن هذه الوصايا، من ذلك ما أخرجه عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«أَيُّكم يبايعني على هؤلاء الآيات الثلاث ؟ ثم تلا : قل تَعالوا أتلُ ما حرّم ربُّكم عليكم... ثم قال فَمن وفى بهنّ فأجرُه على الله، ومن انتقص منهنّ شيئاً فأدركه الله في الدُّنيا كانت عقوبتُه، من أخّر إلى الآخرة كان أمرُه إلى الله، إن شاء أخذه وإن شاء عفا عنه ».
قراءات :
قرأ حمزة والكسائي «وإن هذا صراطي » بكسر همزة إن. وقرأ ابن عامر ويعقوب «وأنْ هذا صراطي » بفتح همزة أَن وبتخفيف النون. وقرأ ابن عامر «صراطيَ » بفتح الياء والباقون بتسكين الياء. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وعاصم : وأنَّ، بفتح الهمزة وتشديد النون.
لقد رسمتْ هذه الآية والآيتين اللتين قبلها للإنسان طريق علاقته بربه الذي يرجع إليه الإحسان والفضل في كل شيء :«ألاّ تُشرِكوا به شيئا »، ووضعت الأساس المتين الذي يُبنى عليه صرح الأُسَر التي تكوِّن الأمةَ القوية الناجحة في الحياة :«وبالوالدَين إحسانا »، وسدّت منافذ الشر الذي يصيب الإنسان من الإنسان في الأنفُس والأعراض والأموال، وهي عناصر لا بدّ لسلامة الأُمة من سلامتها :«ولا تقتلوا أولادَكم »، «ولا تقتلوا النفسَ » «ولا تقربوا مال اليتيم » ثم ذكرتْ أهمّ المبادئ التي تسمو الحياة الاجتماعيةُ بالتزامِها والمحافظة عليها :«وأوفوا الكيلَ والميزان » «وإذا قُلتم فاعِدلوا » «وبعهدِ الله أَوفوا ». وخَتمت بأن هذه التكاليف، وتلك المبادئ، هي الصِراط المستقيم، بُعِث به محمد عليه الصلاة والسلام، كما بعث به جميع الرسل السابقين.
وقد أطلق العلماء على ما جاء في هذه الآية والآيتين اللتين قبلها «الوصايا العشر » نظرا لتذييل آياتها الثلاث بقولِ الله :«ذلكُم وصّاكم به » وقد روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال :«مَن سرَّه أن ينظر إلى وصيّةِ محمد التي عليها خاتَمُه فليقرأْ هذه الآيات :﴿ قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ... إلى قوله : لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾.
ورُوي عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال :
لما أمر الله نبيّه صلى الله عليه وسلم أن يَعرِض نفسه على قبائل العرب خرج إلى مِنَى وأنا وأبو بكرٍ معه. فوقف رسول الله على منازل القوم ومضاربهم، فسلَّم عليهم وردّوا السلام. وكان في القوم مفروقُ بن عمرو، وهانئ بن قَبيصة، والمثنّى بنُ حارثة والنعمانُ بن شَريك.
وكان مفروق أغلبَ القوم لساناً وأوضَحهم بيانا، فالتفتَ إلى رسول الله وقال له : إلامَ تدعو يا أخا قريش ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أدعوكم إلى شهادة أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريك له، وأَنّي رسولُ الله، وأن تُؤوُني وتنصروني وتمنعوني حتى أؤدّيَ حقّ اللهِ الذي أمرني به، فإن قريشاً قد تظاهرتْ على أمر الله، وكذّبت رسوله، واستغنت بالباطل عن الحق، والله هو الغني الحميد.
فقال مفروق : وإلامَ تدعو أيضاً يا أخا قريش ؟ فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم :«قل تعالوا أتل ما حرّم ربكم عليكم... الآيات الثلاث ».
فقال مفروق : وإلامَ تدعو أيضا يا أخا قريش ؟ فو الله ما هذا من كلام أهل الأرض، ولو كان من كلامهم لعرفناه. فتلا رسولُ الله :﴿ إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان وَإِيتَاءِ ذِي القربى وينهى عَنِ الفحشاء والمنكر والبغي يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ فقال مفروق : دعوتَ واللهِ يا قرشِيُّ إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، وقد أفِكَ قوم كذّبوك وظاهروا عليك.
وقال هانئ بن قبيصة : قد سمعتُ مقالتك واستحسنتُ قولك يا أخا قريش. ويعجبني ما تكلّمت به. فبشّرهم الرسول- إن آمنوا- بأرضِ فارسَ وأنهارِ كسرى. فقال النعمان : اللهمُّ وإنّ ذلك يا أخا قريش ؟ فتلا رسول الله قوله تعالى :﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى الله بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً ﴾ ثم نهض رسول الله وتركَهم وكلًّهم يعجَب من هذه الفصاحة، وتلك المعاني السامية، والفضائل العليا.
هذه مكانة الآية والآيتين اللتين قبلها من ذلك الكتاب العظيم، وهذا مبلغ تأثيرها في نفوس العرب، أهلِ الجاهلية ! وكيف لا تكون لها تلك المكانةُ وقد جمعتْ بأسلوبها الآخذِ بالقلوب أصولَ الفضائل، وعُمُدَ الحياة الطيبة التي تنبع من الفطرة السليمة ! !
وبعد، فأين المسلمون اليوم حينما يسمعون هذه الآيات، ثم ينظرون إلى ما هم فيه من تفرُّق في الآراء والأحكام، ومجافاةٍ لأحكام الله، وبُغضٍ لما لا يتفق وأهواءَهم منها، ومن الارتماء في أحضان أعدائهم المستعمرين، قدامى وجُدُد ! !
نسأل الله تعالى أن يجمعنا على كتابه الكريم ويهدينا الصراط المستقيم.
تماما على الذي أحسن : تماما للنعمة على المحسنين.
ولقد أنزلنا التوراة على موسى استكمالاً للإنعام على من أحسن القيام بأمر الدين، وأنزلناه مفصِّلاً لكل شيء من التعاليم المناسبة لقومه، وهدى إلى الطريق السويّ، ورحمةً لمن اهتدى به... وذلك ليؤمن بنو إسرائيل بلقاء ربهم يوم القيامة.
وبعد أن وصف التوراة بتلك الصفات وصف القرآن الكريم فقال : وهذا القرآنُ كتابٌ أنزلناه، مبارَك مشتمِلٌ على الخير الإلهي، والمنافع الدينية والدنيوية، وجامع لأسباب الهداية الدائمة، فاتّبعوا يا أيها الناس ما هداكم إليه، واتّقوا ما نهاكم عنه، ﴿ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾.
الدارسة : القراءة والعلم. صَدَفَ عنها : أعرض عنها.
وأنزلنا إليك أيها النبيّ هذا الكتاب المرشدَ إلى توحيد الله، وطريق طاعته، حتى لا يعتذر من تبلّغهم إيّاه ويقولوا يوم القيامة : إنما أُنزل الكتاب على طائفتين من قَبْلِنا، اليهود والنصارى، وكّنا عن تلاوتهما ذلك الكتاب غافلين. بل نحن لا ندري ما هي التوراة ولا الإنجيل لعدم فهمنا ما يقول أهلهما، إذا كانا بلسان غير لساننا.
كذلك نزلنا هذا القرآن حتى لا تقولوا : لو أنزل علينا الوحيُ الذي نزل عليهم، لكنّا أكثر منهم هداية وأحسنَ حالا، لسعةِ عقولنا وطيب استعدادنا.
وهنا ردّ الله عليهم بجواب قاطع لكل حجة، دافع لكل اعتذار، فقال :﴿ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ ﴾.
فلا حجة لكم بعد اليوم على عصيانكم، ولا محلَّ لقولكم هذا. لقد جاءكم القرآن علامةً واضحة على صدق محمد صلى الله عليه وسلم ومبيّناً كل ما تحتاجون إليه في دينكم ودنياكم.
وبعد أن بيّن سبحانه وتعالى عظيم قدرِ هذا الكتاب بيِّن سوءَ عاقبة من كذّب به فقال :
﴿ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ الله وَصَدَفَ عَنْهَا ﴾.
إن هذه الآيات مشتملة على الهداية الكاملة، والرحمة الشاملة، هل هناك أحدٌ أظلمُ ممن كذّب بها وأعرض عنها ! ؟.
وسنعاقب الذين يُعرضون عن آياتنا ولا يتدبّرون ما فيها بالعذاب البالغ غايته في الإيلام، جزاء إعراضهم وعدم تدبرهم.
بعد أن بين الله تعالى أنه إنما أنزل الكتاب إزالةً للعذر، وهدى ورحمة للناس، بيّن هنا أنه لا أمل في إيمان هؤلاء المعانِدين. ماذا ينتظرون ؟ لقد قامت الحُجَّة على وجوب الإيمان، ولم يفعلوا ! فماذا ينتظرون ! !
هل ينتظرون أن تأتيهم الملائكة رُسلاً بدل البشَر ؟ أو ينتظرون شاهدين على صدقك ؟ أو أن يأتيهم ربك ليروه عيانا، أو يشهد بصدقك ؟ أو أن تأتيهم بعض علامات ربك لنفس الغرض ؟
ثم يشير إلى تماديهم في تكذيب آيات الله، وعدم اعتدادهم بها، وأنه لا أمل في إيمانهم البتة.
﴿ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ في إِيمَانِهَا خَيْراً... ﴾.
وعندما تأتي علامات ربك ما تُلجئهم إلى الإيمان لن ينفعهم إيمانهم حينئذٍ، إذ يكون قد فات الأوان، وانتهت مرحلة التكليف، فلا ينفع العاصي أن يتوب.
قل لهؤلاء المعرضين المكذبين : انتظروا أحد هذه الأمور الثلاثة، واستمروا على تكذيبكم، إنا منتظرون حكم الله فيكم.
قراءات :
قرأ حمزة والكسائي :«يأتيهم الملائكة » بالياء والباقون «تأتيهم » بالتاء.
فرّقوا دينهم : غيروا فيه وجعلوه أديانا.
شيعا : فِرقا وأحزابا.
بعد أن وصى الله تعالى هذه الأمة على لسان رسوله باتّباع صراطه المستقيم ونهى عن اتّباع غيره من السبُل الضالة، ثم ذكر شريعة التوراة الأصلية ووصاياها، جاء يذكّر رسوله الكريم بأن هذه الأمم التي قبله بدّلوا وغيّروا وتفرقوا. أما هو وأُمته الإسلامية فليسوا منهم، والله سبحانه سيُعْلمهم يوم القيامة بكل ما فعلوا.
لستَ يا محمد، من الذين فرّقوا الدين الحق الواحد بالعقائد الزائفة والتشريعات الباطلة، ولا تؤاخذ بتفرقهم وعصيانهم، فأنت لا تملك هدايتهم. ما عليك إلا البلاغ، والله وحده هو الذي يملك أمرهم، ثم يخبرهم يوم القيامة بما كانوا يفعلونه في الدنيا.
قراءات :
قرأ حمزة والكسائي :«فارقوا دينهم » والباقون «فرقوا دينهم » والمعنى واحد.
بعد أن بين الله في هذه السورة العظيمة أصول الإيمان، وأقام عليها البراهين، وفنّد ما يورده الكفار من الشبهات، ثم ذكر في الوصايا العشر أصول الفضائل والآداب التي يأمر بها الإسلام وما يقابلها من الرذائل والفواحش، انتقل هنا ليبيّن الجزاء العام على الحسنات : كيف يزيد الله لمن يعملها أضعافا، فيما يجزي من يعمل السيئة سيئة مثلها فقط وهذا فضل عظيم من رب رحيم.
من عملَ صالحاً يضاعَف له عند ثوابه إلى عشرة أمثاله فضلاً وكرما. وقد جاء في بعض الآيات ﴿ مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً ﴾. ووعد في بعضها بالمضاعفة إلى سبعمائة ضعف كما في قوله تعالى :﴿ مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ والله يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ والعشرة تُعطى لمن أتى بالحسنَة، أما المضاعفة فوق ذلك فتختلف بحسب ما يكون البذْلُ والعطاء والمنفعلة والمصلحة.
أما من عملَ سيئا فإنه سوف يعاقب بمقدار عصيانه فقط، ذلك عدلٌ من الله، وليس هناك ظلمٌ بنقصِ ثواب، ولا زيادة عقاب.
روى البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :«إن الله تعالى كتَبَ الحسنات والسيئات، فمن همَّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنةً كاملة، فإن هو همَّ بها فعملها كتبها الله عنده عشرَ حسناتٍ إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة. ومن همّ بسيئةٍ فلم يعملْها كتبها الله حسنة كاملة، فإن هو همَّ بها فعملَها كتبها الله سيئةً واحدة ».
قراءات :
قرأ يعقوب «عشرةٌ أمثالها » برفع عشرة منونة، وأمثالها أيضا مرفوعة، الباقون «عشر أمثالها ».
دينا قيما : دين يقوم به أمر الناس في معاشهم. وفي قراءة :«قيما » بفتح القاف وتشديد الياء : ومعناه أيضا : مستقيم، ومنه قوله تعالى :﴿ وَذَلِكَ دِينُ القيمة ﴾ يعني دين الأمة المستقيمة.
حنيفا : مخلصا لعبادة الله.
نسكي : عبادتي.
محياي ومماتي : كل ما آتيه في حياتي، وما أموت عليه من الإيمان والعمل الصالح.
أبغي : أطلب.
الوزر : الحمل الثقيل والإثم. ومعنى «لا تزر وازرة وِزْرَ أخرى »
لا يؤخذ أحدٌ بذنب غيره.
خلائف : خلفاء، مفرده خليفة.
ليبلوكم : ليختبركم.
لما كانت هذه السورة أجمعَ السور لأصولِ الدين، مع إقامة الحجج عليها ودفع الشبهة عنها، وإبطال عقائد أهل الشرك وخرافاتهم، جاءت هذه الخاتمة بقول جامعٍ لجملة ما فُصّل فيها. وهو أن الدين القيّم والصراطَ المستقيم هو ملةُ إبراهيم دون ما يدّعيه المشركون، وما حرّفه أهلُ الكتاب. وأن النبي عليه الصلاة والسلام مستمسكٌ به، معتصِمٌ بحَبْله، يدعو إليه قولاً وعملا. وأنه هو الذي أكمل الدينَ بعد أن انحرفت الأمم السابقة عنه.
ثم بيّن أن الجزاء عند الله على الأعمال، لا يؤاخَذ أحدٌ بذنْب غيره، وأن المرجعَ إلى الله، فهو الذي يستخلف في الأرض من يشاء ويختبر البشر بالنِعم والنِقَم، يتولّى عقاب المسيئين ورحمةَ المحسنين، فلا واسطة بينه وبين عباده.
قل أيها النبي لقومك ولسائر البشر : إن ربّي أرشدني إلى طريق مستقيمٍ بلغ نهاية الكمال وكان هو الدينَ الذي اتّبعه إبراهيم مخلصاً في عبادة الله وحده، مائلاً عن العقائد الباطلة، فلم يعبد مع الله إلهاً آخر كما يزعم المشركون.
ثم قل : إن صلاتي وجميع عبادتي، وما آتيه حالَ حياتي من الأعمال الصالحة، وما أموت عليه من الإيمان، كله خالص لوجه الله، الذي لا ينبغي أن تكون العبادة إلاَّ له، فهو رب العباد وخالقهم، فاستحقّ أن يُعبد وحده ويُطاع.
إنه لا شريك له في الخلق، ولا في استحقاق العبادة، وقد أمرني بالإخلاص في التوحيد والعمل، وأنا أول المنقادين إلى امتثال أوامره، وترك ما نهى عنه.
قل يا محمد منكِراً على المشركين دعوتهم إياك لموافقتهم في شركهم : أأطلب بالعبادة ربّاً غير الله، مع أنه خالقُ كل شيء ؟ وقل لهم : لا تكسِب كلُّ نفسٍ إثماً إلا كان عليها جزاؤه دون غيرها، ولا تؤاخذ نفس بأخطاء غيرها «وأن ليس للإنسان إلا ما سعى » ثم تُبعثون يوم الحشر إلى ربكم، فيخبركم بما كنتم تختلفون فيه من أمر أديانكم وعقائدكم ويجازيكم عليها.
ليس للإنسان إلا ما عمل من عمل صالح، وفي الحديث الصحيح فيما رواه مسلم وأبو داود والنّسَائي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«إذا مات الإنسان انقطع عملُه إلا من ثلاث : صدقةٍ جارية، أو علم يُنتفع به، أو ولدٍ صالحٍ يدعو له ».
إن ربكم، الذي هو رب كل شيء، هو الذي جعلكم خلفاء للأمم السابقة في عمارة الكون، ورفعَ بعضَكم فوق بعض درجات في الكمال المادّيّ والمعنويّ، ليختبركم فيما أعطاكم من النعم كيف تشكرونها، وفيما آتاكم من الشرائع كيف تعملون بها. لكنه سريع العقاب للمخالفين العاصين.
وهو سبحانه على سرعة عقابه وشديد عذابه للمشركين المخالفين، غفورٌ للتوابين رحيم بالمؤمنين المحسنين، فلقد سبقت رحمتُه غضبَه، ووسعتْ كل شيء.
Icon