تفسير سورة الصف

النهر الماد من البحر المحيط
تفسير سورة سورة الصف من كتاب النهر الماد من البحر المحيط .
لمؤلفه أبو حيان الأندلسي . المتوفي سنة 745 هـ

﴿ بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ * سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ ﴾ الآية هذه السورة مدنية في قول الجمهور وسبب نزولها قول المنافقين للمؤمنين نحن منكم ومعكم ثم يظهر من أفعالهم خلاف ذلك ومناسبتها لآخر ما قبلها ان ثم﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَوَلَّوْاْ قوْماً غَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ ﴾[الممتحنة: ١٣] فاقتضى ذلك إثبات العداوة بينهم فحض تعالى على إثبات إذا لقي المؤمنون في الحرب أعداءهم والنداء بيا أيها إن كان للمؤمنين حقيقة فالاستفهام يراد به التلطف في العتب وإن كان للمنافقين فالمعنى يا أيها الذين آمنوا أي بألسنتهم والاستفهام يراد به الإِنكار والتوبيخ وتهكم في إسناد الإِيمان إليهم ولم يتعلق بالفعل بعده وإذا وقف عليه فبالهاء أو بسكون الميم ومن سكن في الوصل فلأنه جرى مجرى الوقف والظاهر انتصاب مقتاً على التمييز وفاعل كبر أن تقولوا وهو من التمييز المنقول من الفاعل والتقدير كبر مقت قولكم ما لا تفعلون وانتصب صفا على الحال أي صافين أنفسهم أو مصفوفين.﴿ كَأَنَّهُم ﴾ في تراصهم من غير فرجة ولا خلل.﴿ بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ ﴾ بعضه إلى بعض والظاهر تشبيه الذوات في التحام بعضهم ببعض بالبنيان المرصوص ولما كان في المؤمنين من يقول ما لا يفعل وهو راجع إلى الكذب كان ذلك في معنى الاذاية للرسول عليه الصلاة والسلام إذ كان في أتباعه من عانى الكذب فناسب ذكر قصة موسى عليه الصلاة والسلام وقوله لقومه لم تؤذوني واذايتهم له كان في انتقاصه في نفسه وجحود آيات الله تعالى واقتراحهم عليه ما ليس لهم اقتراحه.﴿ وَقَد تَّعْلَمُونَ ﴾ جملة حالية تقتضي تعظيمه وتكريمه فرتبوا على علمهم أنه رسول الله إليهم ما لا يناسب العلم وهو الإِذاية وقد تدل على التحقق في الماضي والتوقع في المستقبل والمضارع هنا معناه المعنى أي وقد علمتم وعبر عنه بالمضارع ليدل على استصحاب الفعل.﴿ فَلَمَّا زَاغُوۤاْ ﴾ عن الحق.﴿ أَزَاغَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ ﴾ أسند الزيغ إليهم ثم قال أزاغ الله قلوبهم كقوله تعالى:﴿ نَسُواْ ٱللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ﴾[الحشر: ١٩] وهو من العقوبة على الذنب بالذنب ولما ذكر شيئاً من قصة موسى عليه السلام مع بني إسرائيل ذكر شيئاً من قصة عيسى عليه السلام وهناك قال: يا قوم لأنه من بني إسرائيل وهنا قال عيسى يا بني إسرائيل من حيث لم يكن له فيهم أب وإن كانت أمه منهم ومصدّقاً ومبشراً حالان والعامل رسول أي مرسل ويأتي رسمه جملتان في موضع الصفة لرسول أخبر أنه مصدق لما تقدم من الكتب الإِلهية ولمن تأخر من النبي المذكور لأن التبشير بأنه رسول تصديق برسالته وروي أن الحواريين قالوا: يا روح الله هل بعدنا من أمة قال: نعم أمة أحمد علماء حكماء أبرار أتقياء كأنهم من الفقه أنبياء يرضون من الله باليسير من الرزق ويرضى الله منهم بالقلل من العمل. والله أفرد عيسى بالذكر في هذه المواضع لأنه آخر نبي قبل نبينا عليه السلام فبين ان البشارة به عمت جميع الأنبياء واحداً بعد واحد حتى انتهت إلى عيسى عليه السلام والظاهر أن الضمير المرفوع في جاءهم يعود على عيسى عليه السلام لأنه المحدث عنه وقرأ الجمهور تؤمنون وتجاهرون وقرأ عبد الله آمنوا وجاهدوا أمرين وزيد بن علي بالياء فيهما محذوف النون فيهما فأما قراءة الجمهور فصورتهما صورة الخبر فهما خبران بمعنى الأمر بين ذلك قراءة عبد الله ونظير ذلك قول العرب اتقى الله امرؤ فعل خيراً يثب عليه معناه ليتق الله امرؤ فانجزم قوله يثب على تقدير هذا الأمر فلذلك انجزم يغفر على تقدير آمنوا وجاهدوا وأما قراءة زيد فهو على إضمار اللام تقديره ليؤمنوا ويجاهدوا كما قال محمد تفد نفسك كل نفس إذا ما خفت من شىء تبالا تقديره لتفد.﴿ وَأُخْرَىٰ ﴾ لما تقدم الغفران وإدخال الجنات اتبع ذلك بقوله: ﴿ وَأُخْرَىٰ ﴾ فجاز أن يكون مبتدأ محذوف الخبر تقديره ولكم نعمة أو مثوبة أخرى وجاز أن يكون منصوباً على إضمار فعل تقديره ويمنحكم أخرى وتحبونها في موضع الصفة على التقديرين ومن قرأ نصراً وما بعده بالرفع فهو بدل من أخرى المقدر رفعها ومن قرأ نصرا وما بعده بالنصب فبدل على تقدير نصب أخرى ولما ذكر تعالى ما يمنحهم من الثواب في الآخرة ذكر ما يسرهم في العاجلة وهي ما يفتح عليهم من البلاد.﴿ وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾ جملة أو عطف على ما قبلها ولا يشترط التناسب في عطف الجمل.﴿ كُونُوۤاْ أَنصَارَ ٱللَّهِ ﴾ ندب المؤمنين إلى النصرة ووضع لهم هذا الإِسم وإن كان صار عرفا للاوس والخزرج وسماهم الله تعالى به والظاهر أن كما في موضع نصب على إضمار أي قلنا لكم ذلك كما قال عيسى:﴿ فَأَيَّدْنَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ بعيسى.﴿ عَلَىٰ عَدُوِّهِمْ ﴾ وهم الذين كفروا بعيسى.﴿ فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ ﴾ أي قاهرين لهم مستولين عليهم.
Icon