تفسير سورة المرسلات

البحر المحيط في التفسير
تفسير سورة سورة المرسلات من كتاب البحر المحيط في التفسير .
لمؤلفه أبو حيان الأندلسي . المتوفي سنة 745 هـ
سورة المرسلات
هذه السورة مكية. وحكي عن ابن عباس وقتادة ومقاتل أن فيها آية مدنية وهي :﴿ وَإذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُواْ لاَ يَرْكَعُونَ ﴾. ومناسبتها لما قبلها ظاهرة جدّاً، وهو أنه تعالى يرحم من يشاء ويعذب الظالمين، فهذا وعد منه صادق، فأقسم على وقوعه في هذه فقال :﴿ إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَواقِعٌ ﴾.

سورة المرسلات
[سورة المرسلات (٧٧) : الآيات ١ الى ٥٠]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (١) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (٢) وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (٣) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (٤)
فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (٥) عُذْراً أَوْ نُذْراً (٦) إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (٧) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (٨) وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ (٩)
وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ (١٠) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (١١) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (١٢) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (١٣) وَما أَدْراكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (١٤)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٥) أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (١٦) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (١٧) كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (١٨) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٩)
أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٢٠) فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (٢١) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢٢) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (٢٣) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٤)
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (٢٥) أَحْياءً وَأَمْواتاً (٢٦) وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ مَاءً فُراتاً (٢٧) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٨) انْطَلِقُوا إِلى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٩)
انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (٣٠) لَا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (٣١) إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (٣٢) كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (٣٣) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٤)
هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (٣٥) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (٣٦) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٧) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (٣٨) فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (٣٩)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٠) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (٤١) وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٤٢) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٤٤)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٥) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (٤٦) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٧) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (٤٨) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٩)
فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (٥٠)
371
فَرَجْتُ الشَّيْءَ: فَتَحْتُهُ فَانْفَرَجَ، قَالَ الرَّاجِزُ:
الْفَارِجُو بَابِ الْأَمِيرِ الْمُبْهَمِ كَفَتَ: ضَمَّ وَجَمَعَ، وَمِنْهُ
قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «اكْفِتُوا صِبْيَانَكُمْ».
ومنه قيل ليقبع الْغَرْقَدِ: كَفَتَ وَكَفَتَهُ، وَالْكِفَاتُ اسْمٌ لِمَا يُكْفَتُ، كَالضِّمَامِ وَالْجِمَاعِ يُقَالُ: هَذَا الْبَابُ جماع الأبواب، وقال الصمامة بْنُ الطِّرْمَاحِ:
فَأَنْتَ الْيَوْمَ فَوْقَ الْأَرْضِ حَيٌّ وَأَنْتَ غَدًا تَضُمُّكَ فِي كِفَاتِ
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْكِفَاتُ: الْوِعَاءُ. شَمَخَ: ارْتَفَعَ. الشَّرَرُ: مَا تَطَايَرَ مِنَ النَّارِ مُتَبَدِّدًا فِي كُلِّ جِهَةٍ، وَاحِدُهُ شَرَرَةٌ، وَلُغَةُ تَمِيمٍ: شَرَارٌ بِالْأَلِفِ وَاحِدُهُ شَرَارَةٌ. الْقَصْرُ: الدَّارُ الْكَبِيرَةُ الْمُشَيَّدَةُ، وَالْقَصْرُ: قِطَعٌ مِنَ الْخَشَبِ قَدْرَ الذِّرَاعِ وَفَوْقَهُ وَدُونَهُ يُسْتَعَدُّ بِهِ لِلشِّتَاءِ، وَاحِدُهُ قَصْرَةٌ وَالْقَصَرُ، بِفَتْحِ الصَّادِ: أَعْنَاقُ الْإِبِلِ وَالنَّخْلِ وَالنَّاسِ، وَاحِدُهُ قَصَرَةٌ وَبِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الصَّادِ جَمْعُ قَصْرَةٍ، كَحَلْقَةٍ مِنَ الْحَدِيدِ وَحِلَقٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً، فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً، وَالنَّاشِراتِ نَشْراً، فَالْفارِقاتِ فَرْقاً، فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً، عُذْراً أَوْ نُذْراً، إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ، فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ، وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ، وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ، وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ، لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ، لِيَوْمِ الْفَصْلِ، وَما أَدْراكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ، وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ، أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ، ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ، كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ، وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ، أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ، فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ، إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ، فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ، وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ، أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً، أَحْياءً وَأَمْواتاً، وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ مَاءً فُراتاً، وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ.
هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ. وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ وَمُقَاتِلٍ أَنَّ فِيهَا آيَةً مَدَنِيَّةً وَهِيَ:
وَإِذا قِيلَ: لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ. وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا ظَاهِرَةٌ جِدًّا، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى يَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ الظَّالِمِينَ، فَهَذَا وَعْدٌ مِنْهُ صَادِقٌ، فَأَقْسَمَ عَلَى وُقُوعِهِ فِي هَذِهِ فَقَالَ: إِنَّما
372
تُوعَدُونَ لَواقِعٌ
. وَلَمَّا كَانَ الْمُقْسَمُ بِهِ مَوْصُوفَاتٍ قَدْ حُذِفَتْ وَأُقِيمَتْ صِفَاتُهَا مَقَامَهَا، وَقَعَ الْخِلَافُ فِي تَعْيِينِ تِلْكَ الْمَوْصُوفَاتِ. فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَأَبُو صَالِحٍ وَمُقَاتِلٌ وَالْفَرَّاءُ: وَالْمُرْسَلاتِ: الْمَلَائِكَةُ، أُرْسِلَتْ بِالْعُرْفِ ضِدَّ النُّكْرِ وَهُوَ الْوَحْيُ، فَبِالتَّعَاقُبِ عَلَى الْعِبَادِ طَرَفَيِ النَّهَارِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٌ: الْأَنْبِيَاءُ، وَمَعْنَى عُرْفًا: إِفْضَالًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
لَا يَذْهَبُ الْعُرْفُ بَيْنَ اللَّهِ وَالنَّاسِ وَانْتِصَابُهُ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ، أَيْ أُرْسِلْنَ لِلْإِحْسَانِ وَالْمَعْرُوفِ، أَوْ مُتَتَابِعَةً تَشْبِيهًا بِعُرْفِ الْفَرَسِ فِي تَتَابُعِ شَعْرِهِ وَأَعْرَافِ الْخَيْلِ وَتَقُولُ الْعَرَبُ: النَّاسُ إِلَى فُلَانٍ عُرْفٌ وَاحِدٌ إِذَا تَوَجَّهُوا إِلَيْهِ مُتَتَابِعِينَ، وَهُمْ عَلَيْهِ كَعُرْفِ الضَّبُعِ إِذَا تَأَلَّبُوا عَلَيْهِ، وَانْتِصَابُهُ عَلَى الْحَالِ.
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَيْضًا وَابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: الرِّيَاحُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: السَّحَابُ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: عُرْفاً بِسُكُونِ الرَّاءِ، وَعِيسَى: بِضَمِّهَا.
فَالْعاصِفاتِ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: الشَّدِيدَاتُ الْهُبُوبِ. وَقِيلَ: الْمَلَائِكَةُ تَعْصِفُ بِأَرْوَاحِ الْكُفَّارِ، أَيْ تُزْعِجُهَا بِشِدَّةٍ، أَوْ تَعْصِفُ فِي مُضِيِّهَا كَمَا تَعْصِفُ الرِّيَاحُ تَحَقُّقًا فِي امْتِثَالِ أَمْرِهِ. وَقِيلَ: هِيَ الْآيَاتُ الْمُهْلِكَةُ، كَالزَّلَازِلِ وَالصَّوَاعِقِ وَالْخُسُوفِ.
وَالنَّاشِراتِ، قَالَ السُّدِّيُّ وَأَبُو صَالِحٍ وَمُقَاتِلٌ: الْمَلَائِكَةُ تَنْشُرُ صُحُفَ الْعِبَادِ بِالْأَعْمَالِ.
وَقَالَ الرَّبِيعُ: الْمَلَائِكَةُ تَنْشُرُ النَّاسَ مِنْ قُبُورِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَالْحَسَنُ ومجاهد وقتادة:
الرِّيَاحُ تَنْشُرُ رَحْمَةَ اللَّهِ وَمَطَرَهُ. وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: الْأَمْطَارُ تُحْيِي الْأَرْضَ بِالنَّبَاتِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الصُّحُفُ تُنْشَرُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِأَعْمَالِ الْعِبَادِ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ النَّاشِرَاتُ عَلَى مَعْنَى النَّسَبِ، أَيْ ذَاتُ النَّشْرِ. فَالْفارِقاتِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ مسعود وأبو صالح ومجاهد وَالضَّحَّاكُ: الْمَلَائِكَةُ تُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَالْحَسَنُ وَابْنُ كَيْسَانَ: آيَاتُ الْقُرْآنِ فَرَّقَتْ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا: الرِّيَاحُ تُفَرِّقُ بَيْنَ السَّحَابِ فَتُبَدِّدُهُ. وَقِيلَ: الرُّسُلُ، حَكَاهُ الزَّجَّاجُ. وَقِيلَ: السَّحَابُ الْمَاطِرُ تَشْبِيهًا بِالنَّاقَةِ الْفَارُوقِ، وَهِيَ الْحَامِلُ الَّتِي تَجْزَعُ حِينَ تَضَعُ. وَقِيلَ: الْعُقُولُ تُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالصَّحِيحِ وَالْفَاسِدِ. فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَالْجُمْهُورُ:
الْمَلَائِكَةُ تُلْقِي مَا حَمَلَتْ مِنَ الْوَحْيِ إِلَى الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَقَالَ قُطْرُبٌ:
الرُّسُلُ تُلْقِي مَا أُنْزِلَ عَلَيْهَا إِلَى الْأُمَمِ. وَقَالَ الرَّبِيعُ: آيَاتُ الْقُرْآنِ أُلْقِيَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
373
وَاخْتَارَ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنَ الْأَقْوَالِ أَنْ تَكُونَ وَالْمُرْسَلاتِ إِلَى آخِرِ الْأَوْصَافِ: إِمَّا لِلْمَلَائِكَةِ، وَإِمَّا لِلرِّيَاحِ. فَلِلْمَلَائِكَةِ تَكُونُ عُذْرًا لِلْمُحَقِّقِينَ، أَوْ نُذْرًا لِلْمُبْطِلِينَ وَلِلرِّيَاحِ يَكُونُ الْمَعْنَى: فَأَلْقَيْنَ ذِكْرًا، إِمَّا عُذْرًا لِلَّذِينِ يَعْتَذِرُونَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِتَوْبَتِهِمْ وَاسْتِغْفَارِهِمْ إِذَا رَأَوْا نِعْمَةَ اللَّهِ فِي الْغَيْثِ وَيَشْكُرُونَهَا، وَإِمَّا إِنْذَارًا لِلَّذِينِ يَغْفُلُونَ عَنِ الشُّكْرِ لِلَّهِ وَيَنْسُبُونَ ذَلِكَ إِلَى الْأَنْوَاءِ، وَجُعِلْنَ مُلْقِيَاتٍ لِلذِّكْرِ لِكَوْنِهِنَّ سَبَبًا فِي حُصُولِهِ إِذَا شُكِرَتِ النِّعْمَةُ فِيهِنَّ، أَوْ كُفِرَتْ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَالَّذِي أَرَاهُ أَنَّ الْمُقْسَمَ بِهِ شَيْئَانِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ الْعَطْفُ بِالْوَاوِ فِي وَالنَّاشِراتِ، وَالْعَطْفُ بِالْوَاوِ يُشْعِرُ بِالتَّغَايُرِ، بَلْ هُوَ مَوْضُوعُهُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ. وَأَمَّا الْعَطْفُ بِالْفَاءِ إِذَا كَانَ فِي الصِّفَاتِ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى الْعَادِيَاتِ، وَهِيَ الْخَيْلُ وَكَقَوْلِهِ:
يَا لَهْفَ زَيَّابَةَ لِلْحَارِثِ فَالصَّا بِحِ فَالْغَانِمِ فَالْآيِبِ
فَهَذِهِ رَاجِعَةٌ لِمَوْصُوفٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْحَارِثُ. فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَقْسَمَ أَوَّلًا بِالرِّيَاحِ، فَهِيَ مُرْسَلَاتُهُ تَعَالَى، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ عَطْفُ الصِّفَةِ بِالْفَاءِ، كَمَا قُلْنَا، وَأَنَّ الْعَصْفَ مِنْ صِفَاتِ الرِّيحِ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي فِيهِ تَرَقٍ إِلَى أَشْرَفَ مِنَ الْمُقْسَمِ بِهِ الْأَوَّلِ وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَيَكُونُ فَالْفارِقاتِ، فَالْمُلْقِياتِ مِنْ صِفَاتِهِمْ، كَمَا قُلْنَا فِي عَطْفِ الصِّفَاتِ وَإِلْقَاؤُهُمُ الذِّكْرَ، وَهُوَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ، يَصِحُّ إِسْنَادُهُ إِلَيْهِمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:
فَالْمُلْقِياتِ اسْمُ فَاعِلٍ خَفِيفٌ، أَيْ نَطْرُقُهُ إِلَيْهِمْ وَابْنُ عَبَّاسٍ: مُشَدَّدٌ مِنَ التَّلْقِيَةِ، وَهِيَ أَيْضًا إِيصَالُ الْكَلَامِ إِلَى الْمُخَاطَبِ. يُقَالُ: لَقَّيْتُهُ الذِّكْرَ فَتَلَقَّاهُ. وَقَرَأَ أَيْضًا ابْنُ عَبَّاسٍ، فِيمَا ذَكَرَهُ الَمَهْدَوِيُّ: بِفَتْحِ اللَّامِ وَالْقَافِ مُشَدَّدَةً اسْمُ مَفْعُولٍ، أَيْ تَلَقَّتْهُ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَرَأَ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ وَالنَّحْوِيَّانِ وَحَفْصٌ: عُذْراً أَوْ نُذْراً بِسُكُونِ الذَّالَيْنِ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَابْنُ خَارِجَةَ وَطَلْحَةُ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَأَبُو حَيْوَةَ وَعِيسَى وَالْحَسَنُ: بِخِلَافٍ وَالْأَعْشَى، عَنْ أَبِي بَكْرٍ: بِضَمِّهِمَا وَأَبُو جَعْفَرٍ أَيْضًا وَشَيْبَةُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَالْحَرَمِيَّانِ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ:
بِسُكُونِهَا فِي عُذْرًا وَضَمِّهَا فِي نُذْرًا، فَالسُّكُونُ عَلَى أَنَّهُمَا مَصْدَرَانِ مُفْرَدَانِ، أَوْ مَصْدَرَانِ جَمْعَانِ. فعذرا جَمْعُ عَذِيرٍ بِمَعْنَى الْمَعْذِرَةِ، ونذرا جَمْعُ نَذِيرٍ بِمَعْنَى الْإِنْذَارِ. وَانْتِصَابُهُمَا عَلَى الْبَدَلِ مِنْ ذِكْراً، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَالْمُلْقِيَاتِ عُذْرًا أَوْ نُذْرًا، أَوْ عَلَى الْمَفْعُولِ مِنْ أَجْلِهِ، أَوْ عَلَى أَنَّهُمَا مَصْدَرَانِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ عَاذِرِينَ أَوْ مُنْذِرِينَ. وَيَجُوزُ مَعَ الْإِسْكَانِ أَنْ يَكُونَا جَمْعَيْنِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ. وَقِيلَ: يَصِحُّ انْتِصَابُ عُذْراً أَوْ نُذْراً عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ بِالْمَصْدَرِ الَّذِي هُوَ ذِكْراً، أَيْ فَالْمُلْقِيَاتِ، أَيْ فَذَكَرُوا عُذْرًا، وَفِيهِ بُعْدٌ لِأَنَّ الْمَصْدَرَ هُنَا
374
لَا يُرَادُ بِهِ الْعَمَلُ، إِنَّمَا يُرَادُ بِهِ الْحَقِيقَةُ لِقَوْلِهِ: أَأُلْقِيَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ. والإعذار هي بِقِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَى الْخَلْقِ، وَالْإِنْذَارُ هُوَ بِالْعَذَابِ وَالنِّقْمَةِ. إِنَّما تُوعَدُونَ: أَيْ مِنَ الْجَزَاءِ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، لَواقِعٌ: وَمَا مَوْصُولَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ قَدْ كُتِبَتْ مَوْصُولَةً بِإِنَّ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ هِيَ الْمُقْسَمُ عَلَيْهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَوْ نُذْراً بِوَاوِ التَّفْصِيلِ وَإِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ: وَنُذْرًا بِوَاوِ الْعَطْفِ.
فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ: أَيِ أُذْهِبَ نُورُهَا فَاسْتَوَتْ مَعَ جِرْمِ السَّمَاءِ، أَوْ عُبِّرَ عَنْ إِلْحَاقِ ذَوَاتِهَا بِالطَّمْسِ، وَهُوَ انْتِثَارُهَا وَانْكِدَارُهَا، أَوْ أُذْهِبَ نُورُهَا ثُمَّ انْتَثَرَتْ مَمْحُوقَةَ النُّورِ.
وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ: أَيْ صَارَ فِيهَا فُرُوجٌ بِانْفِطَارٍ. وَقَرَأَ عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ: طُمِّسَتْ، فُرِّجَتْ، بِشَدِّ الْمِيمِ وَالرَّاءِ وَالْجُمْهُورُ: بِخَفِّهِمَا. وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ: أَيْ فَرَّقَتْهَا الرِّيَاحُ، وَذَلِكَ بَعْدَ التَّسْيِيرِ وَقَبْلَ كَوْنِهَا هَبَاءً. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أُقِّتَتْ بِالْهَمْزِ وَشَدِّ الْقَافِ وَبِتَخْفِيفِ الْقَافِ وَالْهَمْزِ النَّخَعِيُّ وَالْحَسَنُ وَعِيسَى وَخَالِدٌ. وَقَرَأَ أَبُو الْأَشْهَبِ وَعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ وَعِيسَى أَيْضًا وَأَبُو عَمْرٍو: بِالْوَاوِ وَشَدِّ الْقَافِ. قَالَ عِيسَى: وَهِيَ لُغَةُ سُفْلَى مُضَرَ. وَعَبْدُ اللَّهِ وَالْحَسَنُ وَأَبُو جَعْفَرٍ: بِوَاوٍ وَاحِدَةٍ وَخَفِّ الْقَافِ وَالْحَسَنُ أَيْضًا: وُوقِتَتْ بِوَاوَيْنِ عَلَى وَزْنِ فُوعِلَتْ، وَالْمَعْنَى: جُعِلَ لَهَا وَقْتٌ مُنْتَظَرٌ فَحَانَ وَجَاءَ، أَوْ بَلَغَتْ مِيقَاتَهَا الَّذِي كَانَتْ تَنْتَظِرُهُ وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَالْوَاوُ فِي هَذَا كُلِّهِ أَصْلٌ وَالْهَمْزَةُ بَدَلٌ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَعْنَى تَوْقِيتِ الرُّسُلِ: تَبْيِينُ وَقْتِهَا الَّذِي يَحْضُرُونَ فِيهِ لِلشَّهَادَةِ عَلَى أُمَمِهِمْ، وَجَوَابُ إِذَا مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ وَتَقْدِيرُهُ: إِذَا كَانَ كَذَا وَكَذَا وَقَعَ مَا تُوعَدُونَ. لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ: تَعْظِيمٌ لِذَلِكَ الْيَوْمِ، وَتَعْجِيبٌ لِمَا يَقَعُ فِيهِ مِنَ الْهَوْلِ وَالشِّدَّةِ. وَالتَّأْجِيلُ مِنَ الْأَجَلِ، أَيْ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ أُخِّرَتْ، لِيَوْمِ الْفَصْلِ: أَيْ بَيْنَ الْخَلَائِقِ. وَيْلٌ: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ فِي أَوَّلِ ثَانِي حِزْبٍ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، يَوْمَئِذٍ: يَوْمَ إِذْ طُمِسَتِ النُّجُومُ وَكَانَ مَا بَعْدَهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ بضم النون، وقتادة: بِفَتْحِهَا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِنْ هَلَكَهُ بِمَعْنَى أَهْلَكَهُ. قَالَ الْعَجَّاجُ:
وَمَهْمَهٍ هَالِكِ مَنْ تَعَرَّجَا انْتَهَى.
وَخَرَّجَ بَعْضُهُمْ هَالِكِ مَنْ تَعَرَّجَا عَلَى أَنَّ هَالِكًا هُوَ مِنَ اللَّازِمِ، وَمَنْ مَوْصُولٌ، فَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ بِاسْمِ الْفَاعِلِ قَدْ يَكُونُ مَعْمُولُهَا مَوْصُولًا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:
نُتْبِعُهُمُ بِضَمِّ الْعَيْنِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَهُوَ وَعْدٌ لِأَهْلِ مَكَّةَ. وَيُقَوِّي الِاسْتِئْنَافَ قِرَاءَةُ
375
عَبْدِ اللَّهِ: ثُمَّ سَنُتْبِعُهُمْ، بِسِينِ الِاسْتِقْبَالِ وَالْأَعْرَجُ وَالْعَبَّاسُ عَنْ أَبِي عَمْرٍو: بِإِسْكَانِهَا فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى نُهْلِكِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ سُكِّنَ تَخْفِيفًا، كَمَا سُكِّنَ وَما يُشْعِرُكُمْ، فَهُوَ اسْتِئْنَافٌ. فَعَلَى الِاسْتِئْنَافِ يَكُونُ الْأَوَّلِينَ الْأُمَمَ الَّتِي تَقَدَّمَتْ قُرَيْشًا أَجْمَعَا، وَيَكُونُ الْآخِرِينَ مَنْ تَأَخَّرَ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ. وَعَلَى التَّشْرِيكِ يَكُونُ الْأَوَّلِينَ قَوْمَ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وَمَنْ كَانَ مَعَهُمْ، وَالْآخِرِينَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَمَنْ تَأَخَّرَ وَقَرُبَ مِنْ مُدَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْإِهْلَاكُ هُنَا إِهْلَاكُ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ، فَأَتَى بِالصِّفَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِإِهْلَاكِ الْعَذَابِ وَهِيَ الْإِجْرَامُ.
وَلَمَّا ذَكَرَ إِفْنَاءَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، ذَكَرَ وَوَقَفَ عَلَى أَصْلِ الْخِلْقَةِ الَّتِي يَقْتَضِي النَّظَرُ فِيهَا تَجْوِيزَ الْبَعْثِ، مِنْ ماءٍ مَهِينٍ: أَيْ ضَعِيفٍ هُوَ مَنِيُّ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، فِي قَرارٍ مَكِينٍ: وَهُوَ الرَّحِمُ، إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ: أَيْ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ وَقْتُ الْوِلَادَةِ.
وَقَرَأَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: فَقَدَّرْنَا بِشَدِّ الدَّالِ
مِنَ التَّقْدِيرِ، كَمَا قَالَ: مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ «١» وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِخَفِّهَا مِنَ الْقُدْرَةِ؟ وَانْتَصَبَ أَحْياءً وَأَمْواتاً بِفِعْلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ، أَيْ يَكْفِتُ أَحْيَاءً عَلَى ظَهْرِهَا، وَأَمْوَاتًا فِي بَطْنِهَا. وَاسْتَدَلَّ بِهَذَا مَنْ قَالَ: إِنَّ النَّبَّاشَ يُقْطَعُ، لِأَنَّ بَطْنَ الْأَرْضِ حِرْزٌ لِلْكَفَنِ، فَإِذَا نَبَشَ وَأَخَذَ مِنْهُ فَهُوَ سَارِقٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: نَكْفِتُكُمْ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا، فَيَنْتَصِبَا عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ لِأَنَّهُ قَدْ عُلِمَ أَنَّهَا كِفَاتُ الْإِنْسِ. انْتَهَى. ورَواسِيَ: جِبَالًا ثَابِتَاتٍ، شامِخاتٍ: مُرْتَفِعَاتٍ، وَمِنْهُ شَمَخَ بِأَنْفِهِ: ارْتَفَعَ، شَبَّهَ الْمَعْنَى بِالْجِرْمِ. وَأَسْقَيْناكُمْ
: جعلناه سقيا لمزراعكم وَمَنَافِعِكُمْ.
انْطَلِقُوا إِلى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ، انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ، لَا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ، إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ، كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ، وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ، هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ، وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ، وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ، هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ، فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ، وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ، إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ، وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ، كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ، كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ، وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ، وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ، وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ، فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ. يُقَالُ لِلْمُكَذِّبِينَ: انْطَلِقُوا إِلى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ: أَيِ مِنَ الْعَذَابِ. انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ:
(١) سورة الأنعام: ٦/ ١٠٩.
376
أَمْرٌ، قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ تَكْرَارًا أو بيان لِلْمُنْطَلَقِ إِلَيْهِ. وَقَرَأَ رُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ: بِفَتْحِ اللَّامِ عَلَى مَعْنَى الْخَبَرِ، كَأَنَّهُمْ لَمَّا أُمِرُوا امْتَثَلُوا فَانْطَلَقُوا، إِذْ لَا يُمْكِنُهُمُ التَّأْخِيرُ، إِذْ صَارُوا مُضْطَرِّينَ إِلَى الِانْطِلَاقِ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ، قَالَ عَطَاءٌ: هُوَ دُخَانُ جَهَنَّمَ. وَرُوِيَ أَنَّهُ يَعْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ، يَظُنُّ الْكُفَّارُ أَنَّهُ مُغْنٍ مِنَ النَّارِ، فَيُهْرَعُونَ إِلَيْهِ فَيَجِدُونَهُ عَلَى أَسْوَأِ وَصْفٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُقَالُ ذَلِكَ لِعَبَدَةِ الصَّلِيبِ. فَالْمُؤْمِنُونَ فِي ظِلِّ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَهُمْ فِي ظِلِّ مَعْبُودِهِمْ وَهُوَ الصَّلِيبُ لَهُ ثَلَاثُ شُعَبٍ، وَالشِّعْبُ: مَا تَفَرَّقَ مِنْ جِسْمٍ وَاحِدٍ. لَا ظَلِيلٍ: نَفْيٌ لِمَحَاسِنِ الظِّلِّ، وَلا يُغْنِي: أَيْ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مِنْ حَرِّ اللَّهَبِ شَيْئًا. إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ: الضَّمِيرُ فِي إِنَّهَا لِجَهَنَّمَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِشَرَرٍ، وَعِيسَى: بِشَرَارٍ بِأَلِفٍ بَيْنَ الرَّاءَيْنِ، وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ مِقْسَمٍ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ كَسَرَ الشِّينَ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ شَرَرٍ، أَيْ بِشِرَارٍ مِنَ الْعَذَابِ، وَأَنْ يَكُونَ صِفَةً أُقِيمَتْ مَقَامَ مَوْصُوفِهَا، أَيْ بِشِرَارٍ مِنَ النَّاسِ، كَمَا تَقُولُ: قَوْمٌ شِرَارٌ جَمْعُ شَرٍّ غَيْرُ أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ، وَقَوْمٌ خِيَارٌ جَمْعُ خَيْرٍ غَيْرُ أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ وَيُؤَنَّثُ هَذَا فَيُقَالُ لِلْمُؤَنَّثِ شَرَّةٌ وَخَيْرَةٌ بِخِلَافِهِمَا، إِذَا كَانَا لِلتَّفْضِيلِ، فَلَهُمَا أَحْكَامٌ مَذْكُورَةٌ فِي النَّحْوِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: كَالْقَصْرِ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ ومجاهد وَالْحَسَنُ وَابْنُ مِقْسَمٍ: بِفَتْحِ الْقَافِ وَالصَّادِ وَابْنُ جُبَيْرٍ أَيْضًا وَالْحَسَنُ أَيْضًا: كَالْقِصَرِ، بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الصَّادِ وَبَعْضُ الْقُرَّاءِ: بِفَتْحِ الْقَافِ وَكَسْرِ الصَّادِ وَابْنُ مَسْعُودٍ: بِضَمِّهِمَا، كَأَنَّهُ مَقْصُورٌ مِنَ الْقُصُورِ، كَمَا قَصَرُوا النَّجْمَ وَالنَّمِرَ مِنَ النُّجُومِ وَالنُّمُورِ، قَالَ الرَّاجِزُ:
فِيهَا عَنَابِيلُ أُسُودٌ وَنَمِرُ وَتَقَدَّمَ شَرْحُ أَكْثَرِ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ فِي الْمُفْرَدَاتِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ، وَمِنْهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: جِمَالَاتٌ بِكَسْرِ الْجِيمِ وَبِالْأَلِفِ وَالتَّاءِ، جَمْعُ جِمَالٍ جَمْعُ الْجَمْعِ وَهِيَ الْإِبِلُ، كَقَوْلِهِمْ: رِجَالَاتُ قُرَيْشٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنُ وَأَبُو رَجَاءٍ: بِخِلَافٍ عَنْهُمْ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُمْ ضَمُّوا الْجِيمَ، وَهِيَ جُمَالُ السُّفُنِ، الْوَاحِدُ مِنْهَا جُمْلَةٌ لِكَوْنِهِ جُمْلَةً مِنَ الطَّاقَاتِ وَالْقُوَى، ثُمَّ جُمِعَ عَلَى جُمَلٍ وَجِمَالٍ، ثُمَّ جُمِعَ جُمَالٌ ثَانِيًا جَمْعُ صِحَّةٍ فَقَالُوا: جُمَالَاتٌ. وَقِيلَ: الْجِمَالَاتُ: قُلُوصُ الْجُسُورِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ وَأَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ الْأَصْمَعِيِّ، وَهَارُونُ عَنْهُ: جِمَالَةٌ بِكَسْرِ الْجِيمِ، لَحِقَتْ جِمَالًا التَّاءُ لِتَأْنِيثِ الْجَمْعِ، كَحَجَرٍ وَحِجَارَةٍ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّلَمِيُّ وَالْأَعْمَشُ وَأَبُو حَيْوَةَ وأبو نحرية وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَرُوَيْسٌ: كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُمْ ضَمُّوا الْجِيمَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ:
الْجِمَالَاتُ: قُلُوصُ السُّفُنِ، وَهِيَ حِبَالُهُ الْعِظَامُ، إِذَا اجْتَمَعَتْ مُسْتَدِيرَةً بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ
377
جَاءَ مِنْهَا أَجْرَامٌ عِظَامٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: الْجِمَالَاتُ: قِطَعُ النُّحَاسِ الْكِبَارُ، وَكَانَ اشْتِقَاقُ هَذِهِ مِنِ اسْمِ الْجُمْلَةِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: صُفُرٌ، بِضَمِّ الْفَاءِ وَالْجُمْهُورُ: بِإِسْكَانِهَا، شَبَّهَ الشَّرَرَ أَوَّلًا بِالْقَصْرِ، وَهُوَ الْحِصْنُ مِنْ جِهَةِ الْعِظَمِ وَمِنْ جِهَةِ الطُّولِ فِي الْهَوَاءِ وَثَانِيًا بِالْجِمَالِ لِبَيَانِ التَّشْبِيهِ. أَلَا تَرَاهُمْ يُشَبِّهُونَ الْإِبِلَ بِالْأَفْدَانِ، وَهِيَ الْقُصُورُ؟ قَالَ الشَّاعِرُ:
فَوَقَفْتُ فِيهَا نَاقَتِي فَكَأَنَّهَا فدن لأقصى حَاجَةَ الْمُتَلَوِّمِ
وَمَنْ قَرَأَ بِضَمِّ الْجِيمِ، فَالتَّشْبِيهُ مِنْ جِهَةِ الْعِظَمِ وَالطُّولِ. وَالصُّفْرَةُ الْفَاقِعَةُ أَشْبَهُ بِلَوْنِ الشَّرَرِ، قَالَهُ الْجُمْهُورُ: وَقِيلَ: صُفْرٌ سُودٌ، وَقِيلَ: سُودٌ تَضْرِبُ إِلَى الصُّفْرَةِ. وَقَالَ عِمْرَانُ بْنُ حِطَّانَ الرَّقَاشِيُّ:
دَعَتْهُمْ بِأَعْلَى صَوْتِهَا وَرَمَتْهُمْ بِمِثْلِ الْجِمَالِ الصُّفْرِ نَزَّاعَةُ الشَّوَى
وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَالْأَعْرَجُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَعِيسَى وَأَبُو حَيْوَةَ وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةٍ: هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ، بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالْجُمْهُورُ: بِرَفْعِهَا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَمَا أَضَافَ إِلَى غَيْرِ مُتَمَكِّنٍ بَنَاهُ فَهِيَ فَتْحَةُ بِنَاءٍ، وَهِيَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ. وَقَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: قَالَ عِيسَى: هِيَ لُغَةُ سُفْلَى مُضَرَ، يَعْنِي بِنَاءَهُمْ يَوْمَ مَعَ لَا عَلَى الْفَتْحِ، لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا يَوْمَ مَعَ لَا كَالِاسْمِ الْوَاحِدِ، فَهُوَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ لِأَنَّهُ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ. انْتَهَى. وَالْجُمْلَةُ الْمُصَدَّرَةُ بِمُضَارِعٍ مُثْبَتٍ أَوْ مَنْفِيٍّ لَا يُجِيزُ الْبَصْرِيُّونَ فِي الظَّرْفِ الْمُضَافِ إِلَيْهَا الْبِنَاءَ بِوَجْهٍ، وَإِنَّمَا هَذَا مَذْهَبٌ كُوفِيٌّ. قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَصْبًا صَحِيحًا عَلَى الظَّرْفِ، فَيَصِيرُ هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَهُ مِنَ الْكَلَامِ دُونَ إِشَارَةٍ إِلَى يَوْمَ، وَيَكُونُ الْعَامِلُ فِي نَصْبِ يَوْمَ نِدَاءٌ تَقَدَّمَهُ مِنْ صِفَةِ جَهَنَّمَ، وَرَمْيِهَا بِالشَّرَرِ فِي يَوْمَ لَا يَنْطِقُونَ، فيكون يومئذ كلام معترض لَا يَمْنَعُ مِنْ تَفْرِيغِ الْعَامِلِ لِلْمَعْمُولِ، كَمَا كَانَتْ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ، ذَواتا أَفْنانٍ «١». انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا، وَتَكُونَ الْإِشَارَةُ بِهَذَا إِلَى رَمْيِهَا بِشَرَرٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
وَنَصَبَهُ الْأَعْمَشُ، أَيْ هَذَا الَّذِي قَصَّ عَلَيْكُمْ وَاقِعٌ يَوْمَئِذٍ، وَهُنَا نَفْيُ نُطْقِهِمْ. وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ نَطَقُوا فِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا الْيَوْمِ، وَذَلِكَ بِاعْتِبَارِ طُولِ الْيَوْمِ، فَيَصِحُّ أَنْ يَنْفِيَ الْقَوْلَ فِيهِ فِي وَقْتٍ وَيُثْبِتَ فِي وَقْتٍ، أَوْ نَفَى نُطْقَهُمْ بِحُجَّةٍ تَنْفَعُ وَجَعَلَ نُطْقَهُمْ بِمَا لَا يَنْفَعُ كَلَا نُطْقٍ.
(١) سورة الرحمن: ٥٥/ ٤٧- ٤٨.
378
وَقَرَأَ الْقُرَّاءُ كُلُّهُمْ فِيمَا أَعْلَمُ: وَلا يُؤْذَنُ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَحَكَى أَبُو عَلِيٍّ الْأَهْوَازِيُّ أَنَّ زَيْدَ بْنَ عَلِيٍّ قَرَأَ: وَلَا يَأْذَنُ، مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، أَيِ اللَّهُ تَعَالَى، فَيَعْتَذِرُونَ: عَطْفٌ عَلَى وَلا يُؤْذَنُ دَاخِلٌ فِي حَيِّزِ نَفْيِ الْإِذْنِ، أَيْ فَلَا إِذْنٌ فَاعْتِذَارٌ، وَلَمْ يَجْعَلِ الِاعْتِذَارَ مُتَسَبِّبًا عَنِ الْإِذْنِ فَيُنْصَبُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَمْ يُنْصَبْ فِي جواب النفي لتشابه رؤوس الْآيِ، وَالْوَجْهَانِ جَائِزَانِ. انْتَهَى. فَجَعَلَ امْتِنَاعَ النَّصْبِ هُوَ تشابه رؤوس الآي وقال: والوجهان جَائِزَانِ، فَظَهَرَ مِنْ كَلَامِهِ اسْتِوَاءُ الرَّفْعِ وَالنَّصْبِ وَأَنَّ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الرَّفْعَ كَمَا ذَكَرْنَا لَا يَكُونُ مُتَسَبِّبًا بَلْ صَرِيحُ عَطْفٍ، وَالنَّصْبُ يَكُونُ فِيهِ مُتَسَبِّبًا فَافْتَرَقَا. وَذَهَبَ أَبُو الْحَجَّاجِ الْأَعْلَمُ إِلَى أن قَدْ يُرْفَعُ الْفِعْلُ وَيَكُونُ مَعْنَاهُ الْمَنْصُوبَ بَعْدَ الْفَاءِ وَذَلِكَ قَلِيلٌ، وَإِنَّمَا جَعَلَ النَّحْوِيُّونَ مَعْنَى الرَّفْعِ غَيْرَ مَعْنَى النَّصْبِ رَعْيًا لِلْأَكْثَرِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَجَعَلَ دَلِيلَهُ ذَلِكَ، وَهَذِهِ الْآيَةُ كَظَاهِرِ كَلَامِ ابْنِ عَطِيَّةَ، وَقَدْ رَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ ابْنُ عُصْفُورٍ وَغَيْرُهُ.
هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ لِلْكُفَّارِ، وَالْأَوَّلِينَ: قَوْمَ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ تَقَدَّمَ زَمَانُهُمْ عَلَى زَمَانِ الْمُخَاطَبِينَ، أَيْ جَمَعْنَاكُمْ لِلْفَصْلِ بَيْنَ السُّعَدَاءِ وَالْأَشْقِيَاءِ. فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ: أَيْ فِي هَذَا الْيَوْمِ، كَمَا كَانَ لَكُمْ فِي الدُّنْيَا مَا تَكِيدُونَ بِهِ دِينَ اللَّهِ وَأَوْلِيَاءَهُ، فَكِيدُونِ الْيَوْمَ، وَهَذَا تَعْجِيزٌ لَهُمْ وَتَوْبِيخٌ. وَلَمَّا كَانَ فِي سُورَةِ الْإِنْسَانِ ذَكَرَ نَزْرًا مِنْ أَحْوَالِ الْكُفَّارِ فِي الْآخِرَةِ، وَأَطْنَبَ فِي وَصْفِ أَحْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ فِيهَا، جَاءَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْإِطْنَابُ فِي وَصْفِ الْكُفَّارِ وَالْإِيجَازُ فِي وَصْفِ الْمُؤْمِنِينَ، فَوَقَعَ بِذَلِكَ الِاعْتِدَالُ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فِي ظِلالٍ جَمْعُ ظِلٍّ وَالْأَعْمَشُ: فِي ظُلَلٍ جَمْعُ ظُلَّةٍ.
كُلُوا وَاشْرَبُوا: خِطَابٌ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. كُلُوا وَتَمَتَّعُوا: خِطَابٌ لِلْكُفَّارِ فِي الدُّنْيَا، قَلِيلًا: أَيْ زَمَانًا قَلِيلًا، إِذْ قُصَارَى أَكْلِكُمْ وَتَمَتُّعِكُمُ الْمَوْتُ، وَهُوَ خِطَابُ تَهْدِيدٍ لِمَنْ أَجْرَمَ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ.
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا: مَنْ قَالَ إِنَّهَا مَكِّيَّةٌ، قَالَ هِيَ فِي قُرَيْشٍ وَمَنْ قَالَ إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَدَنِيَّةٌ، قَالَ هِيَ فِي الْمُنَافِقِينَ.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي ثَقِيفٍ، قَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
حُطَّ عَنَّا الصَّلَاةَ فَإِنَّا لَا نَنْحَنِي إِنَّهَا مَسَبَّةٌ، فَأَبَى وَقَالَ: «لَا خَيْرَ فِي دِينٍ لَا صَلَاةَ فِيهِ».
وَمَعْنَى ارْكَعُوا: اخْشَعُوا لِلَّهِ وَتَوَاضَعُوا لَهُ بِقَبُولِ وَحْيِهِ. وَقِيلَ: الرُّكُوعُ هُنَا عِبَارَةٌ عَنِ الصَّلَاةِ وَخَصَّ مِنْ أَفْعَالِهَا الرُّكُوعَ، لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا يَأْنَفُونَ مِنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ. وجاه فِي هَذِهِ السُّورَةِ بَعْدَ كُلِّ جُمْلَةٍ قَوْلُهُ: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ، لِأَنَّ كُلَّ جُمْلَةٍ مِنْهَا فِيهَا إِخْبَارَ اللَّهِ تَعَالَى عَنِ أَشْيَاءَ مِنْ أَحْوَالِ الْآخِرَةِ وَتَقْرِيرَاتٍ مِنْ أَحْوَالِ الدُّنْيَا، فَنَاسَبَ أَنْ نَذْكُرَ الْوَعِيدَ عَقِيبَ كُلِّ
379
جُمْلَةٍ مِنْهَا لِلْمُكَذِّبِ بِالْوَيْلِ فِي يَوْمِ الْآخِرَةِ. وَالضَّمِيرُ فِي بَعْدَهُ عَائِدٌ عَلَى الْقُرْآنِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ قَدْ تَضَمَّنَ مِنَ الْإِعْجَازِ وَالْبَلَاغَةِ وَالْأَخْبَارِ الْمُغَيَّبَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا احْتَوَى عَلَيْهِ مَا لَمْ يَتَضَمَّنْهُ كِتَابٌ إِلَهِيٌّ، فَإِذَا كَانُوا مُكَذِّبِينَ بِهِ، فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُصَدِّقُونَ بِهِ؟ أَيْ لَا يُمْكِنُ تَصْدِيقُهُمْ بِحَدِيثٍ بَعْدَ أَنْ كَذَّبُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي هُوَ الْقُرْآنُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يُؤْمِنُونَ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ وَيَعْقُوبُ وَابْنُ عَامِرٍ فِي رِوَايَةٍ: بِتَاءِ الْخِطَابِ.
380
Icon