ﰡ
في السورة توكيد ليوم القيامة وهوله، وإنذار بمصير الكفار الرهيب وتنويه بمصير المؤمنين فيه، وأسلوبها ذو خصوصية فنية نثرية، ومع ما في بعض فصولها من خطاب للمكذبين فإنها لا تحتوي موقفا شخصيا معينا ويصح أن تسلك في سلك السور ذات الطابع العام، وقد ذكر المصحف الذي اعتمدنا عليه أن الآية [٤٨] مدنية، وانسجام هذه الآية التام مع الآيات يسوغ الشك في صحة ذلك، وترابط فصول السورة وتوازنها وخصوصية نظمها تسوغ القول إنها نزلت دفعة واحدة.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة المرسلات (٧٧) : الآيات ١ الى ٧]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (١) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (٢) وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (٣) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (٤)فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (٥) عُذْراً أَوْ نُذْراً (٦) إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (٧)
. (١) المرسلات: من الإرسال، والمرسلات عرفا بمعنى المرسلات متتابعة كعرف الفرس أو الديك.
(٢) عرفا: من عرف الديك أو الفرس.
(٣) العاصفات عصفا: الشديدة الهبوب والحركة.
(٤) الناشرات: من النشر بمعنى الإعلان والإذاعة.
(٦) ذكرا: هنا بمعنى التذكير أو الوحي.
(٧) عذرا: من الإعذار وهو التنبيه حتى لا يبقى محل للوم والتحجج.
(٨) نذرا: من الإنذار.
تعددت الأقوال في تأويل الفقرات المقسم بها ومحمولها، وقد تكرر القسم بمثل هذا الأسلوب الذي تتعدد في تأويلها ومحمولها الأقوال كمطالع سور الصافات والذاريات والنازعات.
وقد قيل في صدد فقرات السورة إنها الرياح كما قيل إنها الملائكة. وقيل كذلك إنها الرياح والملائكة معا. ومن نماذج الأقوال ما جاء في تفسير ابن عباس رواية الكلبي بأن الله أقسم بالملائكة الذين يرسلون متتابعين كعرف الفرس، وأقسم بالرياح العواصف وأقسم بالسحاب الناشرات بالمطر، أو الملائكة الذين ينشرون الكتاب وأقسم بالملائكة الذين يفرقون بين الحق والباطل، والحلال والحرام بما يلقونه من الذكر والوحي عذرا لله من الجور والظلم، أو نذرا لخلقه من عذابه.
وقد جاء في تفسير الكشاف للزمخشري أن الله أقسم بطوائف من الملائكة أرسلهن بأوامره فعصفن في مضيهن كما تعصف الرياح امتثالا لأمره، وبطوائف منهن نشرن أجنحتهن في الجو عند انحطاطهن بالوحي، أو نشرن الشرائع في الأرض أو نشرن النفوس الموتى بالكفر والجهل بما أوحين، ففرقن بين الحق والباطل، فألقين ذكرا إلى الأنبياء عذرا للمحقين أو نذرا للمبطلين، أو أقسم برياح عذاب أرسلهن فعصفن وبرياح رحمة نشرن السحاب في الجو ففرقن بينه، أو بسحائب نشرن الموات ففرقن بين من يشكر الله تعالى على نعمة الغيث وبين من يكفر.
والذي يتبادر لنا أن السامعين أو نبهاءهم كانوا يفهمون محمول هذه الفقرات ودلالتها لأن القرآن نزل بلسان عربي مبين يسمعه أناس يعلمونه على ما جاء في آية
والآية الأخيرة هي جواب القسم كما هو واضح. والآيات والحال هذه بصدد توكيد وقوع ما يوعد به الناس وهو يوم القيامة وحسابه وثوابه وعقابه وكون الله عزّ وجلّ ينزل الوحي مع الملائكة لإنذار الناس والإعذار إليهم. حتى يتعظوا ولا يبقى لهم حجة بالغفلة.
والخطاب وإن كان للسامعين عامة فهو كما تلهمه عبارة تُوعَدُونَ وهي من الوعيد موجه بخاصة إلى الكفار لأنهم المحتاجون للتوكيد بسبب تكذيبهم للقيامة وهم موضع الوعيد بسبب جحودهم وإعراضهم عن الدعوة.
[سورة المرسلات (٧٧) : الآيات ٨ الى ١٥]
فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (٨) وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ (٩) وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ (١٠) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (١١) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (١٢)
لِيَوْمِ الْفَصْلِ (١٣) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ (١٤) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٥)
. (١) طمست: محيت أو انطفأت.
(٢) فرجت: فتحت.
(٣) وإذا الرسل أقتت: جعل لهم موعد موقوت.
(٤) يوم الفصل: يوم القضاء بين الناس وهو كناية عن يوم القيامة.
الآيات متصلة بالآيات السابقة ومعقبة عليها. فالذي يوعد به الكافرون واقع وسيكون من أعلامه تبدّل نواميس الكون ومشاهده الكبرى. وسيعلن الرسل بميقاته حتى يأتوا لشهود حساب أممهم، وسيكون هذا الميقات هو يوم الفصل الذي يحاسب الناس ويفصل في أمرهم فيه، وهو يوم عظيم يكون الجزء الثاني من التفسير الحديث ١٤
والمتبادر أن السؤال لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ يهدف إلى استرعاء السمع إلى خطورة اليوم المعين بمثابة (هل تدرون أي يوم ذلك اليوم) فيأتي الجواب (إنه يوم الفصل وما أدراك ما خطورة يوم الفصل).
والتبدّل الذي أشير إلى طروئه على السماء والنجوم والجبال هنا ليس بقصد الحصر. فقد ورد في سور عديدة سابقة ولاحقة إشارات إلى طروء التبدّل على مشاهد كونية غيرها.
وقد ذكرنا ما تلهمه هذه الإشارات من مقاصد في المناسبات السابقة فلا حاجة إلى التكرار.
تعليق على عبارة انفراج السماء وانطماس النجوم
وقد يتوهم البعض أن استعمال فعل الانفراج للسماء والطمس للنجوم يدل على أن القرآن يعني أن السماء جسم صلب وأن النجوم مصابيح قابلة للاشتعال والانطفاء. والذي نراه أن هذا أسلوب خطابي للناس متسق مع ما يرونه من مشاهد واعتادوه من ظواهر وقام في أذهانهم من صور، وأن القصد منه البرهنة على قدرة الله عزّ وجلّ ومطلق تصرفه في الأكوان وبخاصة بما يملأ النفوس روعة من مشاهدها.
وقد أوّلنا توقيت الرسل بما أوّلناه في القرآن آيات عديدة ذكر فيها الإتيان بالنبيين والرسل لشهود محاسبة أممهم يوم القيامة، منها آية سورة النساء هذه: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (٤١) وآيات سورة الزمر هذه: وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٩) وآية سورة المائدة
[سورة المرسلات (٧٧) : الآيات ١٦ الى ٢٨]
أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (١٦) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (١٧) كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (١٨) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٩) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٢٠)
فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (٢١) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢٢) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (٢٣) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٤) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (٢٥)
أَحْياءً وَأَمْواتاً (٢٦) وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (٢٧) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٨)
. (١) قرار مكين: كناية عن الرحم، والمكين بمعنى الحصين والحريز.
(٢) قدر معلوم: كناية عن مدة الحمل.
(٣) فقدرنا: فدبرنا وحسبنا.
(٤) كفاتا: وعاء ونطاقا متسعا للأحياء والأموات.
(٥) رواسي شامخات: كناية عن الجبال، وشامخات بمعنى عاليات.
(٦) فراتا: عذبا حلوا.
والآيات متصلة بالسياق السابق أيضا وبسبيل التدليل على قدرة الله على تحقيق ما يوعد به الناس من البعث والحساب والجزاء وهي ثلاثة مقاطع كل منها ينتهي بإنذار المكذبين بهول ذلك اليوم. وهذا التكرار مستمر في جميع مقاطع السورة مما جعل لها خصوصية نظمية ومما ينطوي فيه تشديد في الإنذار والتقريع كما هو المتبادر.
وفي كل مقطع حجة مقتطعة مما يعرفه السامعون من حقائق لا سبيل للمماراة فيها من قدرة الله وعظمة كونه ودقة نواميسه فيه حيث تستحكم الحجة فيهم.
وفي القرآن آيات جاء فيها اعترافهم صريحا بكل هذا وهو الذي سوّغ لنا تأويل الآيات بما أوّلناه بها. ففي سورة العنكبوت هذه الآية: وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (٣٨) حيث ينطوي فيها معرفتهم بنكال الأقوام السابقين بسبب اتباعهم الشيطان وعدم استجابتهم إلى رسلهم. ومن هذا الباب آيات سورة الصافات هذه: وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٣) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٣٤) إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٣٥) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٣٦) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (١٣٧) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٣٨). وفي سورة الزخرف هذه الآيات: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١١) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (١٢). وهذه الآية وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٨٧) وفي سورة الواقعة هذه الآيات: أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (٥٨) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (٥٩) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٦٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ
ومع أن أسلوب الآيات عام للسامعين على اختلافهم فالمتبادر من روحها أنها موجهة إلى الكفار والمكذبين على سبيل الإنذار والتقريع والإفحام والدعوة إلى الارعواء. وفي الآيات التالية لها دلالة صريحة على ذلك.
تنبيه إلى أن الدعوة قائمة على الإقناع
وفي هذه الآيات وأمثالها الكثيرة مما سبق ومما سيأتي ظاهرة قرآنية جليلة وهي أن الدعوة كانت تقوم على الإقناع والجدل المنطقي الذي فيه الحجة الدامغة والإفحام، وعلى لفت النظر إلى وجود الله وقدرته الشاملة وحكمته البالغة بما في ملكوت السموات والأرض، وبما في تكوين وقوى الناس أنفسهم الذين يوجه إليهم الخطاب من آيات ومشاهد باهرة قائمة، مما يعترفون به ومما لا يتحمل مماراة ولا يحتاج إلى براهين خارقة، واستحقاق الله وحده من أجل ذلك للخضوع والعبودية والاتجاه.
[سورة المرسلات (٧٧) : الآيات ٢٩ الى ٤٠]
انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٩) انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (٣٠) لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (٣١) إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (٣٢) كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (٣٣)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٤) هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (٣٥) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (٣٦) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٧) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (٣٨)
فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (٣٩) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٠)
. (١) ظليل: ذو ظلّ واق.
(٢) القصر: قطع الشجر أو الحطب الكبيرة.
(٣) جمالات: جمع جمالة وهي الحبل المجدول أو حبل السفينة.
والوصف في المقطع الأول قوي مرعب. فجهنّم التي يساق المكذبون إليها والتي كانوا يكذبونها ترمي بشرر عظيم الحجم والطول. وقد ضرب عليها رواق ذو ثلاث شعب يظنه الرائي ظلا واقيا ولكنه لا يلبث أن يعرف أنه لا يصلح للاستظلال ولا يقي من اللهب.
وكذلك ما احتواه المقطعان التاليان حيث يحكيان ما سوف تكون عليه حال المكذبين من سوء وحرج. فهم لا يستطيعون أن يقولوا شيئا، ولا يسمح لهم بالاعتذار عمّا بدا منهم ويتحدون بأسلوب السخرية والاستهتار فيقال لهم لقد جمعناكم جميعا الأولين والآخرين فاصطنعوا أي حيلة وتوسلوا بأي وسيلة للخلاص من قبضة الله إذا استطعتم.
وكل هذا من شأنه أن يثير الفزع في السامعين ويحملهم على تدبر أمرهم قبل فوات الوقت وهو مما استهدفته الآيات كما هو المتبادر.
تعليق على ما يمكن أن يتوهم من تناقض في حكاية حال الكفار يوم القيامة
ولقد يبدو تناقض بين الآيتين [٣٦، ٣٧] اللتين تقرران أن الكفار في ذلك اليوم لا ينطقون. ولا يؤذن لهم فيعتذرون وبين آيات أخرى سابقة ولاحقة فيها إشارة إلى ما يكون في الآخرة من حجاج ومحاورات بين الله والكفار وبين الملائكة والكفار وبين المؤمنين والكفار وبين الكفار أنفسهم. وفيها اعتذارات عما بدا منهم مثل آيات سورة المدثر هذه: إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ (٣٩) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (٤٠) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (٤١) ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (٤٢) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (٤٣) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (٤٤) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ
ومثل آية سورة الزمر هذه:
وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (٧١)
ومثل آيات سورة المؤمنون هذه: قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (١٠٦) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (١٠٧) ومثل آيات سورة الشعراء هذه: قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ (٩٦) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٩٧) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٩٨) وَما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (٩٩) فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (١٠٠) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (١٠١) فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٢) ومثل آية سورة السجدة هذه: وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (١٢).
وهذا التناقض المتوهم يزول إذا ما لوحظ أن هذه التعابير هي تعابير تصويرية أسلوبية وفاق ما اعتاده الناس في حياتهم للتقريب والتأثير، وهذا الذي اعتاده الناس يتحمل هذا كما يتحمل ذلك حسب تنوّع المواقف ومقتضياتها. والهدف العام هو وصف هول مصير الكفار وشدّة موقفهم يوم القيامة، لإثارة الرعب والفزع في نفوسهم وحملهم على الارعواء والازدجار على ما قررناه آنفا.
[سورة المرسلات (٧٧) : الآيات ٤١ الى ٤٥]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (٤١) وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٤٢) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٤٤) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٥)
. وهذا المقطع استطرادي كما هو ظاهر، وصلته بالسياق قائمة بالاستطراد إلى ذكر مصير المؤمنين الصالحين بعد ذكر مصير الآثمين المكذبين، وقد تكرر مثل هذا الاستطراد كثيرا في المناسبات المماثلة، ومعنى الآيات واضح لا يحتاج إلى أداء بياني آخر.
ومع أن نعتي المتقين والمحسنين يعنيان المؤمنين بالله عزّ وجلّ ورسالة
تعليق على مدى التنويه بالمحسنين والإحسان
ولقد تكرر التنويه بالمحسنين والحثّ على الإحسان كثيرا في السور المكية والمدنية كما تكرر ذلك بالنسبة للمتقين والتقوى. ولقد علّقنا على مدى عناية التنزيل القرآني بالتنويه بالمتقين والحثّ على التقوى في سياق سورة القلم، ونقول هنا بمناسبة ورود كلمة المحسنين لأول مرة إن هذه الكلمة ومشتقاتها قد وردت في أكثر من مائة آية حيث يدلّ هذا على مبلغ عناية التنزيل القرآني بالتنويه بالمحسنين والحث على الإحسان كما هو الشأن بالنسبة للمتقين والتقوى.
والتعبير في أصل معناه والمقصد منه هو عمل ما هو حسن وأحسن وبعبارة أخرى عدم التقيد بقيد الواجب المقتضي عقلا وشرعا وخلقا بل تجاوزه إلى ما هو الأفضل والأحسن والأتمّ. وفي هذا ما فيه من قصد جليل إلى الارتفاع بالمسلم إلى ذرى الفضائل والمكرمات والكمال الخلقي والنفسي ونكتفي هنا ببعض الأمثلة التي يبرز فيها هذا القصد الجليل ويبرز معه ما وعده وأعده الله للمحسنين من مكافأة وجزاء في الدنيا والآخرة:
١- بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: ١١٢].
٢- وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [البقرة: ١٩٥].
٤- وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً [النساء: ١٢٨].
٥- لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [المائدة: ٩٣].
٦- وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف: ٥٦].
٧- إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل: ٩].
٨- ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١٢٥) وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (١٢٦) وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (١٢٧) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل: ١٢٥- ١٢٨].
٩- وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً [الإسراء: ٥٣].
١٠- وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:
٦٩].
١١- قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ [الزمر: ١٠].
١٣- إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (١٦) كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (١٧) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (١٨) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [الذاريات: ١٦- ١٩].
ولقد تعددت الآيات المكية والمدنية التي قررت أن الله لا يضيع أجر المحسنين وأنه يحب المحسنين وأنه سيزيد المحسنين وأنه سيجزي المحسنين مما فيه توكيد وتشويق متكرران. ومما هو متصل بذلك القصد الجليل كما هو المتبادر.
[سورة المرسلات (٧٧) : الآيات ٤٦ الى ٥٠]
كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (٤٦) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٧) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (٤٨) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٩) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (٥٠)
. والاتصال مستمر كذلك بين هذين المقطعين وما قبلهما، وفي المقطع الأول التفات خطابي للمجرمين المكذّبين احتوى إنذارا لهم وتنديدا باستكبارهم عن الركوع لله، أما الآية الأخيرة فقد جاءت خاتمة قوية للسورة تضمنت تنديدا وتقريعا للكفار على عنادهم وعدم تأثرهم بما يتلى عليهم من قرآن الله ونذره مع ما فيها من الحجة الدامغة والموعظة البالغة، وقد جاءت بأسلوب الاستنكار القوي فبأي شيء يؤمنون إذا لم يقنعهم هذا ويؤمنوا به.
وقد ذكر المصحف الذي اعتمدناه أن الآية [٤٨] مدنية وذكرت بعض الروايات «١» أنها نزلت في مناسبة استثقال وفد ثقيف الذي جاء لمفاوضة النبي عليه السلام بعد فتح مكة لحركة الركوع وطلبهم إعفاءهم منه، وانسجام الآية
والمتبادر أن الركوع هنا تعبير عن الصلاة لله وحده، وهذا ما كان يطلب من الناس عامة منذ بدء الدعوة.