تفسير سورة المرسلات

تفسير النيسابوري
تفسير سورة سورة المرسلات من كتاب غرائب القرآن ورغائب الفرقان المعروف بـتفسير النيسابوري .
لمؤلفه نظام الدين القمي النيسابوري . المتوفي سنة 850 هـ
( سورة المرسلات وهي مكية حروفها ثمانمائة وستة عشر كلماتها مائة وإحدى وثمانون آياتها خمسون ).

(سورة المرسلات)
(وهي مكية حروفها ثمانمائة وستة عشر كلماتها مائة وإحدى وثمانون آياتها خمسون)
[سورة المرسلات (٧٧) : الآيات ١ الى ٥٠]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (١) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (٢) وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (٣) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (٤)
فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (٥) عُذْراً أَوْ نُذْراً (٦) إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (٧) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (٨) وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ (٩)
وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ (١٠) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (١١) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (١٢) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (١٣) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ (١٤)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٥) أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (١٦) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (١٧) كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (١٨) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٩)
أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٢٠) فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (٢١) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢٢) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (٢٣) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٤)
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (٢٥) أَحْياءً وَأَمْواتاً (٢٦) وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (٢٧) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٨) انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٩)
انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (٣٠) لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (٣١) إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (٣٢) كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (٣٣) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٤)
هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (٣٥) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (٣٦) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٧) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (٣٨) فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (٣٩)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٠) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (٤١) وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٤٢) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٤٤)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٥) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (٤٦) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٧) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (٤٨) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٩)
فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (٥٠)
القراآت
فالملقيات ذكرا بتشديد الذال للإدغام: أبو عمرو وحمزة في رواية عنهما عذرا بضم الذال: الشموني والبرجمي أَوْ نُذْراً بالسكون: أبو عمرو وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد: وقتت بالتشديد وبالواو: أبو عمرو ويعقوب.
وبالتخفيف: ويزيد. وفي رواية بإبدال الواو همزة كقولهم «أجوه» في «وجوه». الباقون: بالإبدال
420
وبالتشديد أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مظهرا روى النقاش عن ابن ربيعة عن أصحابه والحلواني عن قالون وحفص والنجاري وعن ورش فقدرنا مشددا: أبو جعفر عن نافع وعلي، انطلقوا إلى ظل بفتح اللام: رويس: جمالت على التوحيد: حمزة وعلي وخلف وحفص وجمالات بضم الجيم مجموعة: يعقوب. الآخرون: بالكسر مجموعا.
الوقوف:
عُرْفاً هـ لا عَصْفاً هـ لا نَشْراً هـ لا فَرْقاً هـ لا ذِكْراً هـ لا نُذْراً هـ لا لَواقِعٌ هـ ط طُمِسَتْ هـ لا فُرِجَتْ هـ لا نُسِفَتْ هـ لا أُقِّتَتْ هـ لا بناء على أن عامل «إذا» محذوف أي إذا كانت هذه الأمور يفصل بين الخلق أُجِّلَتْ هـ ط للفصل بين الجواب والسؤال الْفَصْلِ ج لِلْمُكَذِّبِينَ هـ الْأَوَّلِينَ هـ ط لأن ما بعده مستأنف أي ثم نحن نتبعهم الْآخِرِينَ هـ بِالْمُجْرِمِينَ هـ مَهِينٍ هـ لا مَعْلُومٍ هـ لا فَقَدَرْنا هـ الْقادِرُونَ هـ كِفاتاً هـ لا وَأَمْواتاً هـ لا فُراتاً هـ لا لِلْمُكَذِّبِينَ هـ تُكَذِّبُونَ هـ ج للتكرار مع الآية ووجه الوقف لمن قرأ بفتح اللام أوضح لأنه ابتداء إخبار عن موجب عملهم بما أمروا به شُعَبٍ هـ لا اللَّهَبِ هـ ط كَالْقَصْرِ هـ ج لأن ما بعده وصف لشرر لا للقصر صُفْرٌ هـ ط لِلْمُكَذِّبِينَ هـ لا يَنْطِقُونَ هـ لا فَيَعْتَذِرُونَ هـ لِلْمُكَذِّبِينَ هـ الْفَصْلِ هـ ج لاحتمال ما بعده الاستئناف والحال أي أشير إلى يوم مجموعا فيه وَالْأَوَّلِينَ هـ فَكِيدُونِ هـ لِلْمُكَذِّبِينَ هـ يَشْتَهُونَ هـ تَعْمَلُونَ هـ الْمُحْسِنِينَ هـ لِلْمُكَذِّبِينَ هـ مُجْرِمُونَ هـ لِلْمُكَذِّبِينَ هـ لا يَرْكَعُونَ هـ لِلْمُكَذِّبِينَ هـ يُؤْمِنُونَ هـ
التفسير:
الكلمات الخمس في أول هذه السورة يحتمل أن يكون المراد بها جنسا واحدا أو أجناسا مختلفة. أما الاحتمال الأول فذكروا فيه وجوها الأول: أنها الملائكة أقسم رب العزة بطوائف الملائكة الذين أرسلهم بأوامره حال كونهن عرفا أي متتابعة كشعر العرف. يقال: جاؤا عرفا واحدا وهم عليه كعرف الضبع إذا اجتمعوا عليه، ويجوز أن يكون العرف خلاف النكر أي أرسلهن للاحسان والمعروف. فإن هؤلاء الملائكة إن كانوا بعثوا للرحمة فمعنى الإحسان حينئذ ظاهر، وإن كانوا قد بعثوا لأجل العذاب فذلك إن لم يكن معروفا للكفار فإنه معروف للأنبياء والمؤمنين الذين انتقم الله من الكفار لأجلهم. ومعنى الفاء في فَالْعاصِفاتِ أنهن عقيب الأمر عصفن في مضيهن كما عصفت الرياح بدرا إلى امتثال الأمر. قيل: هو من قولهم «عصفت الحرب بالقوم» أي ذهبت بهم وأهلكتهم. ويقال «ناقة عصوف» أي عصفت براكبها فمضت كأنها ريح من السرعة فالمراد أنهن حين أرسلن للعذاب طرن بروح الكافر. ثم أقسم بطوائف من الملائكة نشرن أجنحتهن في الجو عن
421
انحطاطهن بالوحي أو نشرن الشرائع في الأرض. أو أحيين النفوس الميتة بما أوحين ففرقن بين الحق والباطل فألقين ذكرا إلى الأنبياء عُذْراً للمحقين أَوْ نُذْراً للمبطلين. قال الأخفش والزجاج: هما بالسكون مصدران كالشكر والكفر، والضم لغة في كل منهما كالنكر والنكر، والمعنى إعذارا أو إنذارا وكل منهما بدل من ذِكْراً أو مفعول له. وقال أبو عبيد:
بالثقل جمع عذير بمعنى المعذرة وجمع نذير بمعنى الإنذار أو بمعنى العاذر والمنذر فيكونان حالين من الإلقاء أي عاذرين أو منذرين الوجه الثاني أنها الرياح أقسم الله سبحانه برياح عذاب أرسلهن متتابعة فعصفن عصفا ورياح رحمة نشرن السحاب في الجو ففرقن بينه كقوله وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً [الروم: ٤٨] فألقين ذكرا إي صرن سببا في حصول الذكر لأن الإنسان العاقل إذا شاهد تلك الرياح التجأ إلى ذكر الله والتضرع إليه فيكون عذرا للذين يعتذرون إلى الله عز وجل بالتوبة والاستغفار، وإنذارا للذين يغفلون عن الله ويغفلون شكره إذ ينسبونها إلى الأنواء. والوجه الثالث إنها القرآن وآياته أرسلت متتابعة أو بكل معروف وخير فعصفت أي قهرت سائر الملل والأديان والكتب أي ابتدأن بالقهر والنسخ عقيب الإرسال، ونشرن بعد ذلك بالتدريج آثار الحكم وأنوار الهداية في قلوب العالمين ففرقت بين الحق والباطل وألقت الذكر والشرف إلى النبي ﷺ وأمته كما قال وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزخرف:
٤٤] الرابع أنها طوائف الأنبياء أرسلوا بالوحي المستعقب لكل خير ومفتاحه «لا إله إلا الله» فأخذ أمرهم في العصوف والاشتداد إلى أن بلغ غايته وانتشرت دعوتهم ففرقوا بين المؤمن والكافر، والمقر والجاحد، وألقوا الذكر والتوحيد إلى الناس كافة أو إلى طائفة معينين.
الخامس وهو بالتأويل أشبه أن المرسلات هي الدواعي والإلهامات الربانية أرسلت فأخذت في العصوف والاشتداد بحيث أزالت عن القلب حب ما سوى الله وانبثت آثارها في سائر الأعضاء والجوارح، فلا يسمع إلا بالله ولا يبصر إلا بالله، وكذا البطش والمشي وسائر الحركات والسكنات، ففرقت بين الوجود المجازي وهو وجود سوى الله وبين الوجود الحقيقي وهو البقاء بالله، وألقت الذكر على كل الجوارح فلم يذكر غير الله. وأما الاحتمال الثاني ففيه وجوه أيضا أحدها: وهو المنقول عن الزجاج واختاره القاضي أن الثلاث الأول هي الرياح كما في الوجه الثاني من الوجوه المتقدمة، والباقيتان الملائكة كما مر في الوجه الأول منها. ووجه الجمع بين الرياح والملائكة هو اللطافة وسرعة الحركة. وثانيها أن الأولين هما الرياح والثلاثة الأخيرة هي الملائكة لأنها تنشر الوحي، ثم يعقبه أثران ظهور الفرق بين أولياء الله وأعدائه ودوران ذكر الله على القلوب والألسن. وقد يتأيد هذا الوجه بعطف الثانية على الأولى بفاء الوصل المنبئ عن التعقيب والتسبيب. ثم التنسيق بالواو
422
وعطف الباقيين عليها بالفاء وثالثها أن الأولى ملائكة العذاب والباقية آيات القرآن على منوال ما سبق. قوله إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ جواب القسم ومعناه على ما قال الكلبي: كل ما توعدون به من الخير والشر لواقع. والأكثرون يخصونه بمجيء القيامة بدليل ذكر أماراتها بعده وهو قوله فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ أي أزيلت عن أماكنها بالانتثار وأذهب ضوءها بالانكدار وقد ورد كل منهما وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ [فاطر: ٢] وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ [التكوير: ٢] فذكروا في وجه الجمع بينهما أنه يجوز أن يمحق نورها ثم تنتثر بمحوق النور. وفسر الانتثار في الكشاف بمحق الذوات وفيه بعد لأن الانتثار غير الانعدام وإن أراد بالمحق غير هذا فعليه بالبيان قوله وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ أي فتحت السماء فكانت أبوابا وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ أي سيرت أجزاؤها في الهواء كالحب إذا نسف بالمنسف وقد مر في «طه» في قوله وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً [طه: ١٠٥] قال مجاهد والزجاج: المراد بأقتت الرسل تعيين الوقت الذي يحضرون فيه للشهادة على أممهم، وكان هذا الوقت مبهما عليهم قبل ذلك وقريب منه قول جار الله: إن معنى وقتت بلغت ميقاتها الذي كانت تنتظره وهو يوم القيامة. ثم عجب العباد من هول ذلك اليوم فقال لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ الأمور المتعلقة بهؤلاء الرسل وهي تعذيب من كذبهم وتعظيم من صدقهم وظهور ما كانوا يوعدون الأمم إليه ويخوفونهم به من العرض والحساب ونشر الدواوين ووضع الموازين. ثم أجاب بأنهم أجلوا لِيَوْمِ الْفَصْلِ بين الخلائق، ثم عظم ذلك اليوم ثانيا فقال وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ وأي شيء شدته ومهابته. ثم عقبه بتهويل ثالث فقال وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ أي يوم إذ كان كذا وكذا من الأهوال لِلْمُكَذِّبِينَ وإعرابه كإعراب سَلامٌ عَلَيْكَ [مريم: ٤٧] وقد سبق. وقد كرر هذا التهويل في تسعة مواضع أخر لمزيد التأكيد والتقرير كما مر في سورة الرحمن. ثم هددهم بقوله أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ كعاد وثمود وغيرهما إلى زمن محمد ﷺ ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ وهم كفار مكة أهلكهم الله يوم بدر وغيره من المواطن قوله كَذلِكَ أي مثل ذلك الإهلاك الفظيع نَفْعَلُ بكل مجرم. ثم وبخهم بتعديد النعم وآثار القدرة عليهم فقال أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ حقير لا يعبأ به وهو النطفة فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ وهو الرحم وهو أنه يتمكن فيه ما يتكون منه الولد إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ أي إلى مقدار معلوم من الزمان المقدر ولهذا قال فَقَدَرْنا بالتشديد فَنِعْمَ الْقادِرُونَ أي فنعم المقدرون له نحن. ومن قرأ بالتخفيف فبمعنى التقدير أيضا لتتوافق القراءتان. قال الفراء:
قدر وقدّر بالتخفيف والتشديد لغتان، ويجوز أن يكون المخفف من القدرة أي فقدرنا على خلقه وتصويره كيف شئنا فنعم أصحاب القدرة نحن حيث خلقناهم في أحسن تقويم. وفي
423
قوله وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ توبيخ وتخويف من وجهين أحدهما: أن النعمة كلما كانت أعظم كان كفرانها أفحش. والثاني أن القادر على الإبداء أقدر على الإعادة فالمنكر لهذا الدليل الواضح يستحق غاية التوبيخ. ثم عد عليهم نعم الآفاق بعد ذكر الأنفس. والكفات اسم ما يكفت أي يضم ويجمع، ويجوز أن يكون اسما لما يكفت به مبينا للمفعول كالشداد لضمام يشد به رأس القارورة. وانتصب أَحْياءً وَأَمْواتاً بفعل مضمر دل عليه هذا الاسم أي تكفت أحياء على ظهرها وأمواتا في بطنها. والتنكير للتفخيم أي أحياء وأمواتا لا تعد ولا تحصى. وجوز انتصابهما على الحال والضمير الذي هو ذو الحال محذوف للعلم به أي تكفتكم في حال حياتكم وفي حال مماتكم. وقيل: معنى كونها كفاتا أنها تجمع ما ينفصل منهم من المستقذرات وقيل: معناه أنه جامعة لما يحتاجون إليه في التعيش. وقيل: هما راجعان إلى الأرض يعني ما ينبت وما لا ينبت. والكل بتكلف. والوجه هو الأول. وباقي الآية ظاهر مما سلف مرارا. ثم أخبر عما يقال للمكذبين في يوم الفصل فقال انْطَلِقُوا أي يقال لهم انطلقوا لما كذبتم به من العذاب. ثم بين ما أجمل بقوله انْطَلِقُوا
يروى أن الشمس تقرب يوم القيامة لرؤوس الخلائق وليس عليهم يومئذ لباس فتلفحهم الشمس وتسفعهم وتأخذ بأنفاسهم، ويحمي الله برحمته من يشاء إلى ظل من ظلاله
فهناك يقولون فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ [الطور: ٢٥] ويقال للمكذبين انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ من عذاب الله وعقابه انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ قال الحسن: ما أدري ما هذا الظل ولا سمعت فيه بشيء فقال قوم: سمى النار بالظل مجازا. وشعبها الثلاث كونها من فوقهم ومن تحت أرجلهم ومحيطة بهم. وعن قتادة: هو الدخان شعبة عن يمينهم وأخرى عن يسارهم والثالثة من فوق، تظلهم حتى يفرغ من حسابهم والمؤمنون في ظل العرش. وقال في الكشاف: هو عبارة عن عظم الدخان. فالدخان العظيم تراه يتفرق ذوائب وقال أهل
التأويل:
الشعب الثلاث هي القوة الغضبية ومنشؤها القلب في الجانب الأيسر، والشهوية ومنشؤها الكبد في الجانب الأيمن، والشيطانية ومنشؤها الدماغ من فوق، فيتولد من اتباع هذه الثلاثة ثلاثة أنواع من الظلمات. وقال أبو مسلم: هي الأوصاف الثلاثة التي ذكرها الله تعالى عقيبه وهي لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ وفيه تهكم بهم وتعريض بأن ظلهم غير ظل المؤمنين أي ذلك الظل غير مانع حر الشمس وغير مغن من حر اللهب شيئا أي لا روح كما قال في الواقعة لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ [الآية: ٤٤] يقال أغن عني وجهك أي أبعده لأن الغني عن الشيء يباعده كما أن المحتاج إليه يقاربه. وإنما عدي في الآية ب «من» لأنه أراد أن ابتداء الإغناء منه، وعن قطرب أن اللهب هاهنا هو العطش. ثم شبه الشرر وهو ما يتطاير
424
من النار متبددا في كل جهة بالقصر. والأكثرون على أنه واحد القصور. وعن سعيد بن جبير ومقاتل والضحاك أنه الغليظ من أصول الشجر العظام الواحدة قصرة كجمرة وجمر. وروي عن ابن عباس أنه سئل عن القصر فقال: خشب كنا ندخره للشتاء. ثم زاد في البيان أن أتبعه تشبيها آخر قائلا كأنه جمالات صفر وهي جمع جمالة بمعنى جمل. ويجوز أن يكون جمع جمال كرجالات وقال أبو علي: التاء في جِمالَتٌ لتأكيد الجمع كحجر وحجارة. أما الجمالة بالضم فهي قلوس سفن البحر أي حبالها كما مر في قوله حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ [الأعراف: ٤٠]
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن عباس أنها قطع النحاس.
ومعظم أهل اللغة لا يعرفونه. وقال الفراء: يجوز أن يكون الجمالات بالضم من الشيء المجمل. يقال: أجملت الحساب وجاء القوم جملة أي مجتمعين. والمعنى أن هذه الشرر ترتفع كأنها شيء مجموع غليظ أصفر والأكثرون على أن المراد بهذه الصفرة سواد يعلوه صفرة. قال الفراء: لا ترى أسود في الليل إلا وهو مشرب صفرة والشرر إذا تطاير فسقط وفيه بقية من لون النار كأنه أشبه شيء بالجمل الأسود الذي يشوبه شيء من الصفرة.
وقال آخرون: الشرر إنما يسمى شررا ما دام مرتفعا وحينئذ يكون نارا وإذا كان نارا كان أصفر فاقعا. واعلم أنه عز اسمه شبه الشرر في العظم والارتفاع بالقصر ثم شبهه مع ذلك في اللون والكثرة والتابع وسرعة الحركة بالجمالات الصفر. ثم نقل عن ابن عباس أنه قال: هذا التشبيه إنما ورد على ما هو معتاد في بلاد العرب. وقصورهم قصيرة السمك جارية مجرى الخيمة. فسمع أبو العلاء ذلك فشبه الشرر بالطراف وهو الخيمة من الأديم قال:
حمراء ساطعة الذوائب في الد جى ترمي بكل شرارة كطراف
فزعم صاحب الكشاف أنه أراد معارضة المعجز. قال الإمام فخر الدين الرازي: كان الأولى بصاحب الكشاف أن لا يذكر ذلك لأنه أخذ مقتبسا تابعا، والمعجز أظهر حالا وأجل منصبا من أن يتصدى لمعارضته أحد بعد استقرار أمره ويلتفت إلى المعارض، وإذ قد ذكر صاحب الكشاف ذلك فلنذكر التفاوت بين القرآن وبين كلام أبي العلاء وذلك من وجوه الأول: قيل: إن لون الأديم قريب من لون الشرارة إلا أن الجمالات متحركة كالشرارة دون الخيمة. الثاني أن القصر موضع الأمن وتشيبه الشرارة به إشارة إلى أن الكافر إنما يعذب بآفة من الموضع الذي يتوقع منه الأمن وهو دينه وملته التي ظن أنه منها على شيء، وليست الخيمة موضع الأمن الكلي الثالث أن الشرر متتابعة كالجمال ولا كذلك الطراف الرابع أن العرب اعتقدوا أن الجمال في ملك الجمال وتمام النعم في حصول النعم. ففي الآية إشارة إلى أنكم كنتم تعدون الجمال فخذوا هذه الشرارات التي هي كالجمالات وهذا التهكم غير
425
موجود في الشعر. الخامس أن الإبل إذا نفرت وشردت متتابعة نال من وقع فيما بينها بلاء شديد. فتشبيه الشرر بها يفيد كمال الضرر والطراف ليس كذلك. السادس أن القصر يكون أعظم غالبا من الطراف والجمالات وهي جمع الجمع تكون أكثر عددا من الطراف والغرض التوكيد فيكون تشبيه القرآن أبلغ في المعنى المقصود. السابع أن التشبيه بشيئين كالقصر والجمالات في إثبات الوصفين كالعظم والصفرة أقوى في ثبوت الوصفين من التشبيه بشيء واحد للوصفين بعينهما، لأن الأول كالمبين المفصل، والثاني كالمجمل المبهم إذ يحتمل أن يكون وجه التشبيه واحدا منهما فقط. الثامن أن الإنسان إنما يكون طيب العيش إذا كان وقت الانطلاق راكبا ووقت النزول راقدا في الظل فكأنه قيل في الآية على سبيل التهكم مركوبكم هذه الجمالات من الشرر وظلكم في مثل هذا القصر ولو شبه بالطرف لم يحصل هذا المقصود. التاسع أن تطاير القصر وهو من اللبن والحجر والخشب في الهواء أغرب من تطاير الخيمة وهي خفيفة الحجم. العاشر أن سقوط القصر أفظع وأهول من سقوط الطراف هذه خلاصة كلام الإمام في هذا المقام أوردناها لئلا يكون كتابنا خاليا من فوائد تفسيره. قوله هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ يروى أن نافع بن الأزرق سأل ابن عباس عن الجمع بين هذه الآية وبين نحو قوله ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ [الزمر: ٣١] فأجاب بتغاير الزمانين وتباين الموطنين. وقال الحسن: أراد لا ينطقون بحجة صحيحة وعذر واضح فكأنهم لم ينطقوا ولم يعتذروا. قوله وَلا يُؤْذَنُ إنما لم يقل «فيعتذروا» بسقوط النون للنصب كقوله لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا [فاطر: ٣٦] لأنه لو نصب لأوهم أنهم إنما لم يعتذروا لأجل أنهم لم يؤذوا في الاعتذار ولولا المنع لاعتذروا وهذا غير جائز، ولكن المراد أن لا عذر لهم في نفس الأمر كما لا إذن فالفاء لمطلق النسق لا للتسبب. هذا مع أنه فيه رعاية الفاصلة وهي من جملة الفصاحة اللفظية، ولهذا لم يقرأ في سورة «اقتربت» إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ [الآية: ٦] لا مثقلا. وقريء قوله في آخر «الكهف» و «الطلاق» عَذاباً نُكْراً [الآية: ٨] بالوجهين قالوا:
وإنما لم يؤذن لهم في الاعتذار لأنه سبحانه أزاح الاعتذار في الدنيا بتقديم الإنذار بدليل قوله فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً عُذْراً أَوْ نُذْراً ولهذا قال في آخر هذا الأخبار وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ثم أشار لمزيد التهديد والتوبيخ إلى اليوم المذكور بقوله هذا يَوْمُ الْفَصْلِ ثم أوضح هذه الجملة بقوله جَمَعْناكُمْ أيها المتأخرون وَالْأَوَّلِينَ لأن الفصل بين الخلائق لا يجوز إلا بإحضار الكل. وقد يستدل به على عدم جواز القضاء على الغائب. ثم عجزهم وحقر أمرهم بقوله فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ وقد علم أنه لا حيلة لهم في رفع البلاء عن أنفسهم يومئذ كما كانوا يحتالون في الدنيا يؤذون بذلك أنبياء الله وأولياءه، وهذا التعجيز
426
والتخجيل من جنس العذاب الروحاني فلهذا عقبه بقوله وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ثم زاد في حسرتهم وغمهم بتعديد ما أعد للمطيعين المتقين من الظلال والعيون والفواكه بدل ظلالهم التي لا روح فيها ولا تغني عن الحر والعطش، استقروا في تلك النعم مقولا لهم كُلُوا وَاشْرَبُوا وهو أمر إكرام لا أمر تكليف وهذا أيضا من جنس العذاب الروحاني بالنسبة إلى الكافرين حين يرون الذين اتقوا الشرك في النعيم المقيم ولذا أردفه بقوله وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ثم ذكر أن هذا الويل ثابت لهم في حال ما يقال في الآخرة كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قال جار الله: هذا في طريقة قول القائل:
إخوتي لا تبعدوا أبدا وبلى والله قد بعدوا
أي كنتم أحقاء في حياتكم بأن يدعى لكم بهذا، وفيه توبيخ وتذكير بحالهم السمجة وبما جنوا على أنفسهم من إيثار المتاع القليل على النعيم المقيم، وعلل ذلك بكونهم مجرمين إيعادا لكل مجرم، وجوز أن يكون كُلُوا وَتَمَتَّعُوا كلاما مستأنفا خطابا للمكذبين في الدنيا. ثم ذمهم على ترك الخشوع والتواضع لله بقبول وحيه. وقيل: ما كان على العرب أشد من الركوع والسجود.
يروى أن وفد ثقيف أمرهم رسول الله ﷺ بالصلاة فقالوا: لا ننحني أي لا نركع ولا نسجد فإنها مسبة علينا. فقال صلى الله عليه وسلم: لا خير في دين ليس فيه ركوع ولا سجود. وأنزل الله الآية.
ثم ختم السورة بالتعجب من حال الكفار وإصرارهم على جهالاتهم وضلالاتهم بعد القرآن وبياناته وقد مر في أول «الجاثية» نظيره والله أعلم. تم.
تم الجزء التاسع والعشرون ويليه الجزء الثلاثون وأوله تفسير سورة النبأ
427
Icon