ﰡ
(وهي مكية حروفها ثمانمائة وستة عشر كلماتها مائة وإحدى وثمانون آياتها خمسون)
[سورة المرسلات (٧٧) : الآيات ١ الى ٥٠]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (١) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (٢) وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (٣) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (٤)فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (٥) عُذْراً أَوْ نُذْراً (٦) إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (٧) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (٨) وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ (٩)
وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ (١٠) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (١١) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (١٢) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (١٣) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ (١٤)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٥) أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (١٦) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (١٧) كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (١٨) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٩)
أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٢٠) فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (٢١) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢٢) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (٢٣) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٤)
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (٢٥) أَحْياءً وَأَمْواتاً (٢٦) وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (٢٧) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٨) انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٩)
انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (٣٠) لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (٣١) إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (٣٢) كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (٣٣) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٤)
هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (٣٥) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (٣٦) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٧) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (٣٨) فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (٣٩)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٠) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (٤١) وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٤٢) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٤٤)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٥) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (٤٦) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٧) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (٤٨) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٩)
فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (٥٠)
القراآت
فالملقيات ذكرا بتشديد الذال للإدغام: أبو عمرو وحمزة في رواية عنهما عذرا بضم الذال: الشموني والبرجمي أَوْ نُذْراً بالسكون: أبو عمرو وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد: وقتت بالتشديد وبالواو: أبو عمرو ويعقوب.
وبالتخفيف: ويزيد. وفي رواية بإبدال الواو همزة كقولهم «أجوه» في «وجوه». الباقون: بالإبدال
الوقوف:
عُرْفاً هـ لا عَصْفاً هـ لا نَشْراً هـ لا فَرْقاً هـ لا ذِكْراً هـ لا نُذْراً هـ لا لَواقِعٌ هـ ط طُمِسَتْ هـ لا فُرِجَتْ هـ لا نُسِفَتْ هـ لا أُقِّتَتْ هـ لا بناء على أن عامل «إذا» محذوف أي إذا كانت هذه الأمور يفصل بين الخلق أُجِّلَتْ هـ ط للفصل بين الجواب والسؤال الْفَصْلِ ج لِلْمُكَذِّبِينَ هـ الْأَوَّلِينَ هـ ط لأن ما بعده مستأنف أي ثم نحن نتبعهم الْآخِرِينَ هـ بِالْمُجْرِمِينَ هـ مَهِينٍ هـ لا مَعْلُومٍ هـ لا فَقَدَرْنا هـ الْقادِرُونَ هـ كِفاتاً هـ لا وَأَمْواتاً هـ لا فُراتاً هـ لا لِلْمُكَذِّبِينَ هـ تُكَذِّبُونَ هـ ج للتكرار مع الآية ووجه الوقف لمن قرأ بفتح اللام أوضح لأنه ابتداء إخبار عن موجب عملهم بما أمروا به شُعَبٍ هـ لا اللَّهَبِ هـ ط كَالْقَصْرِ هـ ج لأن ما بعده وصف لشرر لا للقصر صُفْرٌ هـ ط لِلْمُكَذِّبِينَ هـ لا يَنْطِقُونَ هـ لا فَيَعْتَذِرُونَ هـ لِلْمُكَذِّبِينَ هـ الْفَصْلِ هـ ج لاحتمال ما بعده الاستئناف والحال أي أشير إلى يوم مجموعا فيه وَالْأَوَّلِينَ هـ فَكِيدُونِ هـ لِلْمُكَذِّبِينَ هـ يَشْتَهُونَ هـ تَعْمَلُونَ هـ الْمُحْسِنِينَ هـ لِلْمُكَذِّبِينَ هـ مُجْرِمُونَ هـ لِلْمُكَذِّبِينَ هـ لا يَرْكَعُونَ هـ لِلْمُكَذِّبِينَ هـ يُؤْمِنُونَ هـ
التفسير:
الكلمات الخمس في أول هذه السورة يحتمل أن يكون المراد بها جنسا واحدا أو أجناسا مختلفة. أما الاحتمال الأول فذكروا فيه وجوها الأول: أنها الملائكة أقسم رب العزة بطوائف الملائكة الذين أرسلهم بأوامره حال كونهن عرفا أي متتابعة كشعر العرف. يقال: جاؤا عرفا واحدا وهم عليه كعرف الضبع إذا اجتمعوا عليه، ويجوز أن يكون العرف خلاف النكر أي أرسلهن للاحسان والمعروف. فإن هؤلاء الملائكة إن كانوا بعثوا للرحمة فمعنى الإحسان حينئذ ظاهر، وإن كانوا قد بعثوا لأجل العذاب فذلك إن لم يكن معروفا للكفار فإنه معروف للأنبياء والمؤمنين الذين انتقم الله من الكفار لأجلهم. ومعنى الفاء في فَالْعاصِفاتِ أنهن عقيب الأمر عصفن في مضيهن كما عصفت الرياح بدرا إلى امتثال الأمر. قيل: هو من قولهم «عصفت الحرب بالقوم» أي ذهبت بهم وأهلكتهم. ويقال «ناقة عصوف» أي عصفت براكبها فمضت كأنها ريح من السرعة فالمراد أنهن حين أرسلن للعذاب طرن بروح الكافر. ثم أقسم بطوائف من الملائكة نشرن أجنحتهن في الجو عن
بالثقل جمع عذير بمعنى المعذرة وجمع نذير بمعنى الإنذار أو بمعنى العاذر والمنذر فيكونان حالين من الإلقاء أي عاذرين أو منذرين الوجه الثاني أنها الرياح أقسم الله سبحانه برياح عذاب أرسلهن متتابعة فعصفن عصفا ورياح رحمة نشرن السحاب في الجو ففرقن بينه كقوله وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً [الروم: ٤٨] فألقين ذكرا إي صرن سببا في حصول الذكر لأن الإنسان العاقل إذا شاهد تلك الرياح التجأ إلى ذكر الله والتضرع إليه فيكون عذرا للذين يعتذرون إلى الله عز وجل بالتوبة والاستغفار، وإنذارا للذين يغفلون عن الله ويغفلون شكره إذ ينسبونها إلى الأنواء. والوجه الثالث إنها القرآن وآياته أرسلت متتابعة أو بكل معروف وخير فعصفت أي قهرت سائر الملل والأديان والكتب أي ابتدأن بالقهر والنسخ عقيب الإرسال، ونشرن بعد ذلك بالتدريج آثار الحكم وأنوار الهداية في قلوب العالمين ففرقت بين الحق والباطل وألقت الذكر والشرف إلى النبي ﷺ وأمته كما قال وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزخرف:
٤٤] الرابع أنها طوائف الأنبياء أرسلوا بالوحي المستعقب لكل خير ومفتاحه «لا إله إلا الله» فأخذ أمرهم في العصوف والاشتداد إلى أن بلغ غايته وانتشرت دعوتهم ففرقوا بين المؤمن والكافر، والمقر والجاحد، وألقوا الذكر والتوحيد إلى الناس كافة أو إلى طائفة معينين.
الخامس وهو بالتأويل أشبه أن المرسلات هي الدواعي والإلهامات الربانية أرسلت فأخذت في العصوف والاشتداد بحيث أزالت عن القلب حب ما سوى الله وانبثت آثارها في سائر الأعضاء والجوارح، فلا يسمع إلا بالله ولا يبصر إلا بالله، وكذا البطش والمشي وسائر الحركات والسكنات، ففرقت بين الوجود المجازي وهو وجود سوى الله وبين الوجود الحقيقي وهو البقاء بالله، وألقت الذكر على كل الجوارح فلم يذكر غير الله. وأما الاحتمال الثاني ففيه وجوه أيضا أحدها: وهو المنقول عن الزجاج واختاره القاضي أن الثلاث الأول هي الرياح كما في الوجه الثاني من الوجوه المتقدمة، والباقيتان الملائكة كما مر في الوجه الأول منها. ووجه الجمع بين الرياح والملائكة هو اللطافة وسرعة الحركة. وثانيها أن الأولين هما الرياح والثلاثة الأخيرة هي الملائكة لأنها تنشر الوحي، ثم يعقبه أثران ظهور الفرق بين أولياء الله وأعدائه ودوران ذكر الله على القلوب والألسن. وقد يتأيد هذا الوجه بعطف الثانية على الأولى بفاء الوصل المنبئ عن التعقيب والتسبيب. ثم التنسيق بالواو
قدر وقدّر بالتخفيف والتشديد لغتان، ويجوز أن يكون المخفف من القدرة أي فقدرنا على خلقه وتصويره كيف شئنا فنعم أصحاب القدرة نحن حيث خلقناهم في أحسن تقويم. وفي
يروى أن الشمس تقرب يوم القيامة لرؤوس الخلائق وليس عليهم يومئذ لباس فتلفحهم الشمس وتسفعهم وتأخذ بأنفاسهم، ويحمي الله برحمته من يشاء إلى ظل من ظلاله
فهناك يقولون فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ [الطور: ٢٥] ويقال للمكذبين انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ من عذاب الله وعقابه انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ قال الحسن: ما أدري ما هذا الظل ولا سمعت فيه بشيء فقال قوم: سمى النار بالظل مجازا. وشعبها الثلاث كونها من فوقهم ومن تحت أرجلهم ومحيطة بهم. وعن قتادة: هو الدخان شعبة عن يمينهم وأخرى عن يسارهم والثالثة من فوق، تظلهم حتى يفرغ من حسابهم والمؤمنون في ظل العرش. وقال في الكشاف: هو عبارة عن عظم الدخان. فالدخان العظيم تراه يتفرق ذوائب وقال أهل
التأويل:
الشعب الثلاث هي القوة الغضبية ومنشؤها القلب في الجانب الأيسر، والشهوية ومنشؤها الكبد في الجانب الأيمن، والشيطانية ومنشؤها الدماغ من فوق، فيتولد من اتباع هذه الثلاثة ثلاثة أنواع من الظلمات. وقال أبو مسلم: هي الأوصاف الثلاثة التي ذكرها الله تعالى عقيبه وهي لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ وفيه تهكم بهم وتعريض بأن ظلهم غير ظل المؤمنين أي ذلك الظل غير مانع حر الشمس وغير مغن من حر اللهب شيئا أي لا روح كما قال في الواقعة لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ [الآية: ٤٤] يقال أغن عني وجهك أي أبعده لأن الغني عن الشيء يباعده كما أن المحتاج إليه يقاربه. وإنما عدي في الآية ب «من» لأنه أراد أن ابتداء الإغناء منه، وعن قطرب أن اللهب هاهنا هو العطش. ثم شبه الشرر وهو ما يتطاير
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن عباس أنها قطع النحاس.
ومعظم أهل اللغة لا يعرفونه. وقال الفراء: يجوز أن يكون الجمالات بالضم من الشيء المجمل. يقال: أجملت الحساب وجاء القوم جملة أي مجتمعين. والمعنى أن هذه الشرر ترتفع كأنها شيء مجموع غليظ أصفر والأكثرون على أن المراد بهذه الصفرة سواد يعلوه صفرة. قال الفراء: لا ترى أسود في الليل إلا وهو مشرب صفرة والشرر إذا تطاير فسقط وفيه بقية من لون النار كأنه أشبه شيء بالجمل الأسود الذي يشوبه شيء من الصفرة.
وقال آخرون: الشرر إنما يسمى شررا ما دام مرتفعا وحينئذ يكون نارا وإذا كان نارا كان أصفر فاقعا. واعلم أنه عز اسمه شبه الشرر في العظم والارتفاع بالقصر ثم شبهه مع ذلك في اللون والكثرة والتابع وسرعة الحركة بالجمالات الصفر. ثم نقل عن ابن عباس أنه قال: هذا التشبيه إنما ورد على ما هو معتاد في بلاد العرب. وقصورهم قصيرة السمك جارية مجرى الخيمة. فسمع أبو العلاء ذلك فشبه الشرر بالطراف وهو الخيمة من الأديم قال:
حمراء ساطعة الذوائب في الد | جى ترمي بكل شرارة كطراف |
وإنما لم يؤذن لهم في الاعتذار لأنه سبحانه أزاح الاعتذار في الدنيا بتقديم الإنذار بدليل قوله فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً عُذْراً أَوْ نُذْراً ولهذا قال في آخر هذا الأخبار وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ثم أشار لمزيد التهديد والتوبيخ إلى اليوم المذكور بقوله هذا يَوْمُ الْفَصْلِ ثم أوضح هذه الجملة بقوله جَمَعْناكُمْ أيها المتأخرون وَالْأَوَّلِينَ لأن الفصل بين الخلائق لا يجوز إلا بإحضار الكل. وقد يستدل به على عدم جواز القضاء على الغائب. ثم عجزهم وحقر أمرهم بقوله فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ وقد علم أنه لا حيلة لهم في رفع البلاء عن أنفسهم يومئذ كما كانوا يحتالون في الدنيا يؤذون بذلك أنبياء الله وأولياءه، وهذا التعجيز
إخوتي لا تبعدوا أبدا | وبلى والله قد بعدوا |
يروى أن وفد ثقيف أمرهم رسول الله ﷺ بالصلاة فقالوا: لا ننحني أي لا نركع ولا نسجد فإنها مسبة علينا. فقال صلى الله عليه وسلم: لا خير في دين ليس فيه ركوع ولا سجود. وأنزل الله الآية.
ثم ختم السورة بالتعجب من حال الكفار وإصرارهم على جهالاتهم وضلالاتهم بعد القرآن وبياناته وقد مر في أول «الجاثية» نظيره والله أعلم. تم.
تم الجزء التاسع والعشرون ويليه الجزء الثلاثون وأوله تفسير سورة النبأ