تفسير سورة يونس

اللباب
تفسير سورة سورة يونس من كتاب اللباب في علوم الكتاب المعروف بـاللباب .
لمؤلفه ابن عادل الحنبلي . المتوفي سنة 775 هـ
سورة يونس
قالت فرقة : نزل من أولها نحو من أربعين آية بمكة، وباقيها بالمدينة، وهي مائة وتسع آيات. وهي مكية في قول عكرمة وعطاء وجابر. وقال ابن عباس إلا ثلاثة آيات١ وقال مقاتل : إلا آيتين من قوله :﴿ فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك ﴾٢ [ الآية : ٩٤ ] وقال الكلبي : إنها مكية إلا قوله ﴿ ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به وربك أعلم بالمفسدين ﴾٣ [ الآية : ٤٠ ] فإنها مدنية نزلت في اليهود، وعدد كلماتها ألف وثمانمائة واثنتان وثلاثون كلمة، وحروفها سبعة آلاف وخمس مائة وسبعة وستون حرفا.
١ ذكره القرطبي في "تفسيره" (٨/١٩٤)..
٢ ينظر: المصدر السابق..
٣ ينظر: المصدر السابق..

قوله: بسم الله الرحمن الرحيم «الر» تقدم الكلامُ على الحروف المقطعة في أول الكتاب، واختلافُ القُرَّاء في إمالة هذه الحروف إذا كان في آخرها ألفٌ، وهي: را، وطا، وها، ويا، وحا. فأمال «را» من جميع سورها إمالة محضة الكوفيون إلا حفصاً، وأبو عمرو وابن عامر. وأما الأخوان وأبو بكر «طا» من جميع سورها نحو: ﴿طس﴾ [النمل: ١]، ﴿طسم﴾ [الشعراء: ١]، ﴿طه﴾ [طه: ١]، و «يا» من «يس»، وافقهم ابنُ عامر، والسوسي على «يا» من ﴿كهيعص﴾ [مريم: ١]، بخلاف عن السوسي. وأمال الأخوان وأبو عمر، وورش، وأبو بكر «ها» من «طه»، وكذلك أمالها من «كهيعص» أبو عمرو، والكسائي، وأبو بكر دون حمزة وورش.
وأمال أبو عمرو، وورش، والأخوان، وأبو بكر، وابن ذكوان «حا» من جميع سورها السبع [غافر: ١]. إلاَّ أن أبا عمرو، وورشاً يميلان بين بين، وللقرَّاء في هذا عمل كثير مذكورٌ في كتب القراءات، وكلُّها لغات صحيحةٌ.
251
قال الواحدي: «الأصلُ ترك الإمالة في هذه الكلمات نحو» مَا «و» لا «؛ لأن ألفاتها ليست منقلبة عن الياء، وأمَّا من أمال فلأنَّ هذه الألفاظ أسماء للحروف المخصُوصة، فقصد بذكر الإمالة التَّنبيه على أنَّها أسماء لا حروف».

فصل


اتفقوا على أنَّ قوله «الر» وحده ليس آية، واتفقوا على أنَّ قوله «طه» وحده آية، والفرق أن قوله «الر» لا يشاكل مقاطع الآي التي بعده، بخلاف قوله «طه» فإنه يشاكل مقاطع الآي التي بعده.
قال ابن عبَّاس والضحاك: «الر» معناه: أنا الله أرى، وقيل: أنا الربُّ لا ربَّ غيري. وقال سعيد بن جبير: «الر» و «حم» و «ن» حروف اسم الرحمن مُفرقة، ورواه أيضاً يزيد عن عكرمة عن ابن عبَّاس. قال الرَّاوي: فحدَّثت به الأعمش فقال: «عندك أشباه هذا ولا تخبرني به».
قوله: ﴿تِلْكَ آيَاتُ الكتاب﴾ «تلك» يحتمل أن تكون إشارة إلى آيات هذه السورة، وأن تكون إشارة إلى ما تقدَّم هذه السورة من آيات القرآن، لأن «تلك» إشارة إلى غائبٍ مؤنَّث، وقيل: «تلك» بمعنى «هذه» أي: هذه آياتٌ، ومنه قول الأعشى: [الخفيف]
٢٨٦٢ - تِلْكَ خَيْلِي منهُ وتِلْكَ رِكابِي هُنَّ صُفْرٌ أولادُهَا كالزَّبيبِ
أي: هذه خَيْلِي، وهذه رِكَابِي.
«والكتاب» : يحتمل أن يكون المراد به القرآن، ويحتمل أن يراد به الكتاب المخزون المكنون عند الله تعالى الذي نسخ منه كل كتاب، لقوله: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ﴾
[الواقعة: ٧٧، ٧٨]، وقوله: ﴿وَإِنَّهُ في أُمِّ الكتاب لَدَيْنَا﴾ [الزخرف: ٤]، وقوله: ﴿وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب﴾ [الرعد: ٣٩]. وقيل: المراد من «الكتابِ الحكيمِ» : التوراة والإنجيل، والتقدير: إنَّ الآيات المذكورة في هذه السُّورة هي الآيات المذكورة في التوراة والإنجيل، والمعنى: إنَّ القصص المذكُورة في هذه السُّورة موافقة للقصص
252
المذكورة في التوراة والإنجيل، فحصول هذه الموافقة في هذه السورة موافقة للقصص لا يمكن إلا إذا خص الله محمداً بإنزال الوحي عليه، وقال أبُو مسلم: قوله «تِلْكَ» إشارة إلى حروف التهجِّي، فقوله: ﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الكتاب﴾ يعني: أنَّ هذه الحروف هي الأشياء التي جعلت آيات وعلامات لهذا الكتاب الذي وقع به التَّحدِّي، فلولا امتياز هذا الكتاب عن كلام النَّاسِ بالوصف المعجز، وإلا لكان اختصاصُه بهذا النظم دون سائر النَّاس القادرين على التَّلفُّظ بهذه الحروف محالاً.
قوله: «الحكيم» قيل: ذُو الحكمة، بمعنى اشتمال الكتاب على الحكمة. وقيل: وصف الكتاب بصفة من تكلم به؛ كقول الأعشى: [الكامل]
٢٨٦٣ - وغريبةٍ تَأتِي المُلُوكَ حَكيمَةٍ... قَدْ قُلْتُهَا ليُقالَ: مَنْ ذَا قالهَا؟
فيكون «فعيل» بمعنى «مُفْعَلٍ».
وقال الأكثرون: «الحَكِيم» بمعنى الحاكم، «فعيل» بمعنى «فاعل» ؛ لقوله تعالى ﴿وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكتاب بالحق لِيَحْكُمَ بَيْنَ الناس﴾ [البقرة: ٢١٣] وقيل: بمعنى: المُحْكَم، «فَعِيل» بمعنى «مُفْعَل»، أي: محكم، والمحكم معناه: المنع من الفساد، فيكون المعنى: لا تُغَيِّرهُ الدُّهور، والمراد: براءته عن الكذب والتناقض. وقال الحسن «حكم فيه بالعدل والإحسان، وإيتاء ذي القُربى ونهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، وحكم فيه بالجنَّة لمنْ أطاعهُ، وبالنَّار لمن عصاه».
فعلى هذا «الحَكيم» يكون بمعنى المحكُوم فيه. وقيل: «الحَكِيم» في أصل اللغة: عبارة عن الذي يفعل الحِكْمَة والصواب، فمن حيث إنَّه يدل على هذه المعاني صار كأنَّه هُوَ الحكيم في نفسه.
253
قوله: ﴿أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ﴾ الهمزة للإنكار، و «أَنْ أَوْحَيْنَآ» «أن» والفعل في تقدير المصدر وهو اسم «كان»، و «عَجَباً» خبرها، و «للنَّاس» متعلِّق بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ من «عَجَباً» لأنه في الأصل صفة له، أو متعلِّقٌ ب «عَجَباً»، ولا يضُرُّ كونه مصدراً؛ لأنَّه يُتَّسع في الظرف وعديله ما لا يُتَّسع في غيرهما. وقيل: لأنَّ «عَجَباً» مصدرٌ واقعٌ موقع اسم الفاعل أو اسم المفعول، ومتى كان كذلك جاز تقديمُ معموله. وقيل:
253
هو متعلِّق ب «كَانَ» النَّاقصة، وهذا على رأي مَنْ يُجيز فيها ذلك. وهذا مرتَّبٌ على الخلاف في دلالة «كان» النَّاقصة على الحدث، فإن قلنا: إنَّها تدلُّ على ذلك فيجُوزُ وإلاَّ فلا. وقيل: هو متعلِّقٌ بمحذوفٍ على التَّبيين، والتقدير في الآية: أكان إيحاؤنا إلى رجُلٍ منهم عجباً لهم. و «منهم» صفة ل «رجُل».
وقرأ رُؤبة «رَجْل» بسكون الجيم، وهي لغة تميم، يُسَكِّنُون «فَعُلاً» نحو: سبع وعضد.
وقرأ عبد الله بن مسعود «عَجَبٌ». وفيه تخريجان، أظهرهما: أنَّها التَّامة، أي: أحدث للنَّاس عجب و «أنْ أوْحَيْنَا» متعلِّق ب «عجب» على حذف لامِ العلَّة، أي: عجبٌ ل «أنْ أوْحَيْنَا»، أو يكون على حذف «مِنْ»، أي: مِنْ أنْ أوحينا. والثاني: أن تكون الناقصة، ويكون قد جعل اسمها النَّكرة وخبرها المعرفة، على حدِّ قوله: [الوافر]
٢٨٦٤ -......................... يكُونُ مزاجها علسلٌ ومَاءُ
وقال الزمخشري: والأجودُ أن تكون التَّامة، و «أنْ أوحَيْنَا» : بدلٌ من «عَجَبٌ». يعني به بدل اشتمال أو كل من كل، لأنه جعل هذا نفس العجب مبالغة، والتخريج الثاني لابن عطيَّة.

فصل


التعجُّب: حالة تعتري الإنسان من رؤية شيء على خلاف العادة، وسبب نزول هذه الآية: أنَّ الله - تعالى - لمَّا بعث محمَّداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رسولاً، تعجَّب كفار قريش وقالوا: إنَّ الله أعظم من أن يكون رسُوله بشراً، فأنكر الله عليهم ذلك التعجُّب، أما بيان تعجُّبهم من تخصيص محمَّدٍ بالرسالة فمن وجوه:
الأول: قوله تعالى: ﴿وعجبوا أَن جَآءَهُم مٌّنذِرٌ مِّنْهُمْ﴾ [ص: ٤] إلى قوله: ﴿إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجَابٌ﴾ [ص: ٥].
والثاني: أن أهل مكَّة كانوا يقولون: إنَّ الله تعالى ما وجد رسُولاً إلى خلقه إلا يتيم أبي طالب.
والثالث: أنهم قالوا: ﴿لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ﴾ [الزخرف: ٣١] ؛ فأنرك الله عليهم هذا التعجُّب بقوله ﴿أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إلى رَجُلٍ مِّنْهُمْ﴾ فلفظه استفهام؛ ومعناه الإنكار لأنْ يكون ذلك عجباً، والمراد ب «النَّاس» : أهل مكة، والألف فيه للتوبيخ.
فإن قيل: لِمَ لَمْ يقل: أكان عند الناس عجباً، بل قال: ﴿أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً﴾ ؟.
254
فالجواب: أن قوله: ﴿أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً﴾ معناه أنهم جعلوه لأنفسهم أعجوبة يتعجَّبُون منها، وعيَّبوه ونصَّبُوه للاستهزاء والتعجُّب إليه وليس في قوله: «أكان عند النَّاس عجباً» هذا المعنى.
وقوله: ﴿أَنْ أَوْحَيْنَآ إلى رَجُلٍ مِّنْهُمْ﴾ يعني: محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
قوله: ﴿أَنْ أَنذِرِ الناس﴾ يجوز أن تكون المصدريَّة، وأن تكون التفسيريَّة، ثم لك في المصدريَّة اعتباران:
أحدهما: أن تجعلها المخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الأمر والشَّأن محذوف.
كذا قال أبو حيَّان، وفيه نظرٌ من حيث إنَّ أخبارَ هذه الحروف لا تكون جملة طلبيَّة، حتى لو ورد ما يوهمُ ذلك يُؤوَّلُ على إضمار القول؛ كقول الشاعر: [البسيط]
٢٨٦٥ - ولوْ أصَابَتْ لقالتْ وهيَ صَادِقَةٌ إِنَّ الرِّياضَةَ لا تُنْصِبْكَ للشَّيبِ
وقول الآخر: [البسيط]
٢٨٦٦ - إنَّ الذينَ قَتَلْتُمْ أمسِ سيِّدهُمْ لا تَحْسَبُوا ليْلَهُمْ عنْ ليْلِكُمْ نَامَا
وأيضاً فإنَّ الخبر في هذا الباب إذا وقع جملة فعلية، فلا بد من الفصل بأشياء تقدَّمت في المائدة. ولكن ذلك الفاصل هنا متعذِّرٌ.
والثاني: أنَّها التي بصدد أن تنصب الفعل المضارع، وهي توصل بالفعل المتصرِّف مطلقاً، نحو: «كَتبتُ إليْه بأنْ قُمْ». وقد تقدم البحث في [النساء٦٦]، ولم يذكر المنذرُ به وذكر المُبَشَّرَ به؛ لأنَّ المقام يقتضي ذلك، وقدَّم الإنذار على التَّبشير، لأنَّ إزالة ما لا ينبغي مقدَّم في الرتبة على ما لا ينبغي، والإنذار للكفَّار والفساق ليرتدعوا عن فعل ما لا ينبغي، والتَّبشير لأهلِ الطَّاعةِ؛ لتقوى رغبتهم فيها.
قوله: ﴿أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ﴾ «أنَّ» وما في حيَّزها هي المُبشَّرُ بها، أي: بشِّرهُم باستقرارِ قدمِ صدْق، فحذفت الباءُ، فجرى في محلِّها المذهبان، والمرادُ ب «قدم صِدْقٍ» : السابقةُ والفضلُ والمنزلةُ الرَّفيعة، وإليه ذهب الزجاج والزمخشريُّ؛ ومنه قولُ ذِي الرُّمَّة: [الطويل]
255
لمَّا كان السعي والسبقُ بالقدم سُمِّي السَّعي المحمود قدماً، كما سُمِّيت اليدُ نعمةً لمَّا كانت صادرةً عنها، وأضيف إلى الصدق دلالةً على فضله، وهو من باب «رجُلُ صدقٍ، ورجلُ سوءٍ».
وقيل: هو سابقةُ الخير التي قدَّمُوها؛ ومنه قول وضَّاح اليمن: [المنسرح].
٢٨٦٧ - لَكُم قدمٌ لا يُنْكِرُ النَّاسُ أنَّهَا مَعَ الحسَبِ العَاديِّ طمَّتْ على البَحْرِ
٢٨٦٨ - مَالكَ وضَّاحُ دَائِمَ العَزَلِ ألَسْتَ تَخْشَى تقارُبَ الأجَلِ
صلِّ لذي العَرْشِ واتَّخِذْ قَدَماً يُنْجِيكَ يَوْمَ العَثَارِ والذَّلَلِ
وقيل: هو التقدُّم في الشرف؛ ومنه قول العجَّاج: [الرجز]
٢٨٦٩ - ذَلَّ بنُو العوَّامِ عنْ آلِ الحَكَمْ وتَرَكُوا المُلْكَ لملكٍ ذي قَدَمْ
أي: ذي تقدُّم وشرف.
قال ابن عبَّاس: أجراً حسناً بما قدَّمُوا من أعمالهم، وروى عليُّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس: هو السعادة في الذكر الأول.
وقال زيد بن أسلم: هو شفاعة الرَّسُول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -.
وقال عطاء: مقام صدق، لا زوال له، ولا بؤس فيه. وأضيف القدمُ إلى الصِّدق وهو نعته، كقولهم: مَسْجِد الجَامِع، ﴿وَحَبَّ الحصيد﴾ [ق: ٩].
وقال أبُو عبيد: كل سابق في خير أو شرٍّ فهو عند العرب قدم، يقال لفُلان قدم في الإسلام، وله عندي قدم صدق وقدم سوءٍ، وهو يؤنثُ. وقد يذكر، فيقال: قدم حسن، وقدم صالحة. و «لَهُمْ» خبر مقدَّم، و «قَدَمَ» اسمها، و «عِندَ ربِّهِمْ» صفة ل «قَدَمَ»، ومنْ جوَّز أن يتقدَّم معمُولُ خبر «أنَّ» على اسمها إذا كان حرف جرٍّ؛ كقوله: [الطويل]
256
قال: ف «بِحُبِّهَا» متعلقٌ ب «مُصَاب»، وقد تقدَّم على الاسم، فكذلك «لَهُمْ» يجوز أن يكون متعلقاً ب «عِنْدَ ربِّهِمْ» لمَا تضمَّن من الاستقرار، ويكونُ «عندَ ربِّهِمْ» هو الخبر.
قوله: ﴿قَالَ الكافرون إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ﴾ لمَّا جاءهم رسول منهم فأنذرهم وبشَّرهُم قالوا مُتعجِّبين: «إنَّ هذا لسَاحِرٌ مُبِينٌ»، وقرأ نافع، وأبو عمرو، وابن عامر «لسِحْرٌ» والباقون «لَسَاحر»، ف «هَذَا» يجوزُ أن يكون إشارةً للقرآن، وأن يكون إشارةً للرسُول على القراءة الأولى، ولكن لا بد من تأويل على قولنا: هو إشارة للرسول، أي: ذو سحر أو جعلوه إيَّاه مبالغةً، وعلى القراءة الثانية فالإشارةُ للرَّسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - فقط.
واعلم أنَّ إقدامهم على وصف القرآن بأنَّه سحرٌ، يحتمل أنَّهم ذكروه في معرض الذَّمِّ، ويحتمل أنهم ذكروه في معرض المدح، فلهذا قال بعضُ المُفَسِّرين: أرَادُوا به أنَّه كلام مزخرف حسن الظَّاهر، لكنه باطِل في الحقيقة، ولا حاصل له، وقال آخرون: أرادُوا به أنَّه لكمال فصاحته، وتعذر مثله، جارٍ مجرى السِّحْر. وهذا كلام فَاسِد، فلهذا لم يذكر جوابه، وبيان فساده: أنَّه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كان منهم، ونشأ بينهم، وما غَابَ عنهم، ولم يُخالط أحداً سواهم، ولم تكن مكَّة بلدة العُلماء، حتى يقال: إنَّه تعلَّم السحر منهم، أو تعلم العلوم الكثيرة منهم، فقدر على الإتيان بمثل هذا القرآن. وإذا كان الأمر كذلك، كان حمل القرآن على السِّحْر كلاماً في غايةِ الفسادِ، فلهذا السَّبب ترك جوابه.
257
لمَّا حكى عن الكُفَّار تعجُّبهم من الوَحْي والبَعْثَة والرِّسالة، أزال ذلك التعجُّب بأنه لا يبعد أن يبعث خالق الخلْقِ إليْهِم رسولاً يُبشِّرهم على الأعمال الصَّالحة بالثَّواب، وعلى الأعمال الباطلة بالعقاب، وهذا الجوابُ إنَّما بإثبات أمرين آخرين:
أحدهما: إثبات أنَّ لهذا العالم إلهاً قادراً قاهراً، نافِذَ الحُكم بالأمْر والنَّهي والتَّكليف.
والثاني: إثبات الحَشْر والنَّشر والبعث والقيامة، حتى يحصل الثَّواب والعقاب اللذان أخبر الأنبياءُ - عليهم الصلاة والسلام - عن حصولهما، فلذلك ذكر ما يدلُّ على تحقيق هذين الأمرين.
257
فإمَّا إثبات الإله، فبقوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض﴾، وأمَّا إثبات المعاد، فبقوله تعالى: ﴿إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ الله حَقّاً﴾ [يونس: ٤] فهذا ترتيبٌ في غاية الحسن، فإن قيل: كلمة «الَّذي» وضعت للإشارة إلى شيء معروف عند السَّامع، كما إذا قيل لك: مَنْ زَيْدٌ؟ فتقول: الذي أبوه مُنْطلق، فهذا التعريف إنَّما يحسنُ لو كان أبوهُ منطلقاً أمراً معلوماً عند السَّامع، فهاهنا لما قال: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾ يوجب أن يكون ذلك أمراً معلوماً عند السَّامع، والعرب ما كانوا عالمين بذلك، فكيف يحسن هذا التعريف؟.
فالجواب: أنَّ هذا كان مشهُوراً عند اليهود والنصارى؛ لأنَّه مذكور عندهم في التَّوراة والإنجيل، والعرب كانوا يُخالطُونَهُم، فالظَّاهر أنَّهم كانوا سمعُوه منهُم، فلهذا حَسُنَ هذا التعريف. فإن قيل: ما الفائدةُ في بيان الأيَّام التي خلق الله فيها السموات والأرض، مع أنَّه تعالى قادر على خلق جميع العالم في أقلِّ من لمْح البصرِ؟
فالجواب على قول أهل السُّنَّة: أنَّه تعالى يحْسُن منه كلّ ما أراد، ولا يُعَلَّلُ شيء من أفعاله بشيء من الحِكْمَة والمصالح، وأمَّا على قول المعتزلة: وهو أنَّ أفعالهُ تعالى مشتملةٌ على المصالحِ والحكمة، فقال القاضي: «لايبْعُد أنْ يكون خلق الله السموات والأرض في هذه المُدَّة المخصوصة، أدخل في الاعتبار في حقِّ بعض المُكَلِّفين» ثم قال: فإن قيل: فمن المُعْتَبر؟ ثم أجاب فقال: أما المعتبر فهو أنَّه لا بد من مُكلَّفٍ أو غير مكلَّف خلقه الله تعالى قبل خلقه السموات والأرض وإلاَّ لكان خلقُهُمَا عبثاً.
فإن قيل: فَهَلاَّ جَازَ أن يَخْلقهمَا لأجل حيوان يَخْلقُهُ من بعد؟.
قلنا: إنَّه تعالى لا يخاف الفوْت، فلا يجُوزُ أن يقدم على خلق لأجل حيوان سيحدُث بعد ذلك، وإنَّما يصحُّ ذلك منَّا في مُقدِّمَات الأمُور، لأنَّا نخشى الفَوْت، ونخافُ العَجْز.
قال: وإذا ثَبَتَ هذا، فقد صحَّ ما روي في الخبر أنَّ خلق الملائكة والجنِّ، كان سابقاً على خلقِ السموات والأرض.
فإن قيل: أولئك الملائكةَ لا بدَّ لهم من مكانٍ، وقبل خلق السموات والأرض لا مكان، فكيف يمكن وُجُودهُم بلا مكان؟
قلنا: الذي يقدر على تَسْكِين العَرْش والسموات والأرض في أمكنتها، كيف يعجزُ عن تسكين أولئك الملائكة في أحيازها بقدرته وحكمته؟ وأمَّا وجه الاعتبار في ذلك فهُو أنَّه لمَّا حصل هناك مُعْتَبر، لم يمتنع أن يكون اعتباره بما شاهده حالاً بعد حال أقوى.
لأنَّ ما يحدث على هذا الوجه، فإنه يدلُّ على أنه صادر من فاعل حكيمٍ. وأمَّا المخلُوق دفعةً واحدةً فإنَّه لا يدلُّ على ذلك.
فإن قيل: هذه الأيام كأيَّام الدُّنيا، أو كما قال ابن عباس: إنَّها ستَّة أيَّام من أيَّام الآخرة كل يوم منها ألف سنة مِمَّا تعُدُّون
258
فالجواب: قال القاضي: الظَّاهرُ في ذلك أنَّهُ تعريف لعباده مدَّة خلقه لهما، ولا يجوز أن يكون ذلك تعريفاً إلاَّ والمدَّة هذه الأيَّام المعلومة، ويمكن أن يقال: لمَّا وقع التعريف في الأيَّام المذكورة في التوراة والإنجيل، وكان المذكُورُ هناك أيَّام الآخرة لا أيَّام الدنيا، لم يكن ذلك قادحاً في صحَّة التعريف بها.
فإن قيل: هذه الأيام إنما تعد بطُلوع الشمس وغروبها، وهذا المعنى مفقودٌ قبل خلقها، فكيف يعقل هذا التعريف؟
فالجواب: التعريف يحصل بما أنَّه لَوْ وقع حدوثُ السموات والأرض في مدَّة، لو حصل هناك أفلاك دائرة وشمسٌ وقمر، لكانت تلك المُدَّة مساوية لستَّة أيَّام.
فإن قيل: هذا يقتضي حصول مدَّة قبل خلقِ العالم، يحصل فيها حدوث العالم، وذلك يوجبُ قدم المُدَّة.
فالجواب: أن تلك المُدَّة غير موجودة، بل هي مفروضة موهُومة، لأنَّ تلك المُدَّة المعينة حادثةٌ، وحدوثها لا يحتاج إلى مدَّة أخرى، وإلا لزم إثبات أزمنة لا نهاية لها وذلك محالٌ، فكلُّ ما يقولونه في حدوث المدَّة، فنحن نقوله في حدوث العالم.
فإن قيل: اليومُ قد يُراد به اليوم مع ليلتِهِ، وقد يُرَاد به النَّهَار وحده، فما المرادُ بهذه الآية؟ فالجواب: أنَّ الغالبَ في اللُّغة هو اليوم بليلته.
قوله: ﴿ثُمَّ استوى عَلَى العرش﴾ قال ابنُ الخطيب: لا يمكن حمل الآية على ظاهرها، لأنَّ الاستواء على العرش معناه كونه مستقرًّا عليه، بحيث إنَّه لولا العرش لسقط ونزل، وإثبات هذا المعنى يقتضي كونه تعالى محتاجاً إلى العرش، وإنه لولا العرش لسقط ونزل، وذلك محالٌ، لإجماع المسلمين على أنَّه تعالى هو المُمْسِكُ له والحافظُ له، وأيضاً فإن قوله: «ثُمَّ استوى» يدل على أنه قبل ذلك ما كان مُسْتَوياً عليه، وذلك يدلُّ على أنَّه تعالى يتغيَّر من حالٍ إلى حالٍ، وكل متغير محدث، وذلك باطلٌ بالاتِّفاق. وأيضاً: لمَّا حدث الاستواء في هذا الوقت دلَّ على أنَّ تعالى كان قبل هذا الوقت مُضْطَرباً متحرِّكاً، وذلك من صفاتِ المُحدثات. وأيضاً ظاهرُ الآية يدلُّ على أنه تعالى إنَّما استوى على العرش بعد خلق السموات والأرض؛ لأنَّ كلمة «ثُمَّ» للتَّراخي، وذلك يدلُّ على أنَّه تعالى كان قبل العرش غنيّاً عن العرش، فلمَّا خلق العرش امتنع أن تنقلب حقيقتُه وذاته من الاستغناء إلى الحاجة، فوجب أن يبقى بعد خلق العرش غنيّاً عن العرش، ومن كان كذلك امتنع أن يكون مستقرّاً على العرش، فثبت بهذه الوجوه أنَّهُ لا يمكن حمل هذه الآية على ظاهرها، وإذا كان كذلك امتنع بالاستدلال بها في إثبات المكان والجهة، وإذا تقرَّر هذا، فقال جمهور المفسِّرين: المراد بالعرش هنا: هو الجسم العظيم الذي في السَّماء، وهو مخلوق قبل خَلْق السموات والأرض، بدليل قوله:
﴿وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المآء﴾ [هود: ٧].
259
وقيل: المراد من العرش: الملك، يقال: فلان على عرشه أي: ملكه. وقال أبُو مسلم الأصفهاني. «المراد بالعَرْش: أنَّه تعالى لمَّا خلق السموات والأرض سطحها ورفع سمكها، فإنَّ كلَّ بناء يسمَّى عَرْشاً، وبانيه يسمَّى عارشاً، قال تعالى ﴿وَمِنَ الشجر وَمِمَّا يَعْرِشُونَ﴾ [النحل: ٦٨] أي: يبنون، وقال: ﴿وَهِيَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا﴾ [البقرة: ٢٥٩]، والمراد: أنَّ القرية خلت منهم مع سلامة بنائها وقيام سقفها، وقال: ﴿وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المآء﴾ [هود: ٧] أي: بناؤه على الماءِ، وإنَّما ذكر الله تعالى ذلك، لأنه أعجب في القدرة، لأنَّ الباني يتباعد عن الماء إلى الأرض الصلبة، لئلاَّ ينهَدِم بناؤُه، والله تعالى بنى السموات والأرض على الماء، ليعرف العُقلاء كمال قُدْرتِهِ، فالمُرَاد بالاستواء على العرش: هو الاستعلاء عليه بالقَهْر، لقوله ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الفلك والأنعام مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُواْ على ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا استويتم عَلَيْهِ﴾ [الزخرف: ١٢، ١٣]، فوجب حَمْلُ اللفظ على ذلك، ولا يجوزُ حمله على العرش الذي في السَّماء، لأنَّ الاستدلال على وجود الصَّانع، يجب أن يكون بشيء معلُوم ومشاهد، والعرش الذي في السماء ليس كذلك، وأمَّا أجرام السموات والأرض فهي مشاهدة مَحْسُوسة، فكان الاستدلال بأحوالها على وجود الصَّانع صواباً حسناً».
وبهذا الوجه تصير هذه الآية موافقةٌ لقوله: ﴿أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السمآء بَنَاهَا﴾ [النازعات: ٢٧] الآية.
قوله: ﴿يُدَبِّرُ الأمر﴾ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه في محلِّ رفعٍ خبراً ثانياً ل «إنَّ».
الثاني: أنَّه حالٌ.
الثالث: أنه مستأنفٌ لا محلَّ له من الإعراب. ومعنى «يدبِّر الأمر» : يقضيه وحده على حسب مقتضى الحكمة، أي: يُدبِّر أحْوَال الخَلْقِ، وأحوال ملكوت السموات والأرض. قوله ﴿مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ﴾ أي: يدبر الأشياء، لا بشفاعة شفيعٍ، ولا تدبير مدبر، فمعناه: أن الشفعاء لا يشفعون إلا من بعد إذنِهِ.
فإن قيل: كيف يليق ذكر الشَّفيع مع ذكر مَبْدَأ الخَلْقِ، وإنَّما يليق ذكره بأحْوال القيامة؟ فالجواب: قال الزَّجَّاج: إنَّ الكفَّار الذين كانوا مخاطبينَ بهذه الآية كانوا يقولون: إنَّ الأصنام شفعاؤنا عند الله. وهذا ردٌّ على النضر بن الحارث، كان يقول: إذا كان يوم القيامة تشفعني اللاَّت والعُزَّى.
وقال أبو مسلم: «الشَّفيعُ هاهنا هو الثاني، مأخوذ من الشفع الذي يخالف الوتر، كما يقال: الزوْج والفرد».
فمعنى الآية: خلق الله السموات والأرض وحدهُ لا شريكَ يعينه، ثم خلق الملائكة والجنَّ والبشر، وهو المراد من قوله ﴿إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ﴾ أي: لم يحدُث أحدٌ ولم يدخل في الوجود، إلاَّ من بعد أن قال له: كُنْ حتَّى كان. ثم قال
260
﴿ذلكم الله رَبُّكُمْ فاعبدوه﴾ مُبَيِّناً بذلك أنَّ العبادة لا تصلح إلا له، وأنه هو المستحقُّ لجميع العبادات، لأنه هو المنعمُ بجميع النِّعم التي ذكرها.
ثم قال: ﴿أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ﴾ دالاًّ بذلك على وُجُوب التَّفكُّر في تلك الدَّلائل القاهرة الباهرة.
قوله تعالى: ﴿إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً﴾ الآية.
لمَّا ذكر الدَّلائل الدَّالة على إثبات المبدأ، أردفه بما يدلُّ على صحَّة القول بالمعاد فقوله «إليه مرجعكم» الرجع بمعنى الرجوع و «جميعها» نصب على الحال أي ذلك الرجوع يحصل حال الاجتماع وهذا يدل على أن المراد بالرجوع القيامة لا الموت.
وقوله: «وعْدَ اللهِ» منصوبٌ على المصدر المؤكَّدِ؛ لأنَّ معنى «إلَيْهِ مرْجِعكُمْ» : وعدكم بذلك.
وقوله: «حَقّاً» مصدرٌ آخرُ مؤكِّدٌ لمعنى هذا الوعد، وناصبه مضمر، أي: أحَق ذلك حقّاً.
وقيل: انتصب «حَقّاً» ب «وَعْدَ» على تقدير «في»، أي: وَعْدَ الله في حق، يعني على التَّشْبيه بالظرف. وقال الأخفش الصغير: التقدير: وقت حق؛ وأنشد: [الطويل]
٢٨٧٠ - فَلاَ تَلْحَنِي فيهَا فإنَّ بحُبِّهَا أخاكَ مُصَابُ القَلْبُ جَمٌّ بلابِلُهْ
٢٨٧١ - أحَقّاً عِبَادَ الله أنْ لَسْتُ ذَاهِباً وَلاَ وَالِجاً إِلاَّ عليَّ رَقيبُ
«إنَّهُ يَبْدَؤا» الجمهور على كسر الهمزة للاستئناف، وقرأ عبد الله، وابن القعقاع، والأعمش، وسهيل بن شعيب بفتحها، وفيها تأويلاتٌ:
أحدها: أن تكون فاعلاً بما نصب «حَقّاً» أي: حقَّ بدءُ الخَلْقِ، ثُمَّ إعادته؛ كقوله: [الطويل]
٢٨٧٢ - أَحَقّاً عبادَ اللهِ أنْ لَسْتُ جَائِياً............................
البيت.
وهو مذهبُ الفرَّاء، فإنَّه قال «والتقدير: يحقُّ أنَّه يبدأ الخَلْق».
والثاني: أنه منصوبٌ بالفعل الذي نصب «وَعْدَ اللهِ»، أي: وعد الله تعالى بدء الخلق ثم إعادته، والمعنى: إعادةُ الخلْقِ بعد بدئه.
261
الثالث: أنه على حذفِ لام الجرِّ، أي: لأنَّهُ ذكر هذه الأوجه الثلاثة الزمخشري وغيره.
الرابع: أنَّهُ بدلٌ من «وَعْدَ اللهِ» قالهُ ابن عطية.
الخامس: أنه مرفوعٌ بنفس «حَقّاً» أي: بالمصدر المنون، وهذا إنَّما يتأتَّى على جَعْل «حَقّاً» غير مؤكدٍ، لأنَّ المؤكَّدَ لا عمل له إلاَّ إذا نَابَ عن فعله، وفيه بحث.
السادس: أن يكون «حَقّاً» مشبهاً بالظَّرف خبراً مقدماً، و «إنَّه» في محلِّ رفع مبتدأ مؤخراً، كقولهم: أحقاً أنَّك ذاهبُ، قالوا: تقديره: أفي حقٍّ ذهابك.
وقرأ ابن أبي عبلة «حَقٌّ أنَّه» برفع حق وفتح «أنّ» على الابتداء والخبر، قال أبو حيَّان: وكون «حق» خبر مبتدأ، و «أنه» هو المبتدأ هو الوجه في الإعراب، كما تقول: صحيحٌ أنك مخرج؛ لأنَّ اسم «أن» معرفة، والذي تقدَّمه في هذا المثال نكرة، فظاهرُ هذه العبارة يُشْعر بجواز العكس، وهذا قد ورد في باب «إنَّ» ؛ كقوله: [الطويل]
٢٨٧٣ - وإنَّ حراماً أنْ أسُبَّ مُجَاشِعاً بآبَائِيَ الشُّمِّ الكِرَامِ الخَضَارِمِ
وقوله: [الطويل]
٢٨٧٤ - وإنَّ شفَاءً عبْرَةٌ أنْ سَفَحْتُهَا وهَلْ عندَ رسْمٍ دارٍ مِنْ مُعَوَّلِ
على جَعْلِ «أنْ سَفَحْتُهَا» بدلاً من «عَبْرَة»، وقد أخبر في «كان» عن نكرةٍ بمعرفةٍ، كقوله: [الوافر]
٢٨٧٥ -................................. ولا يَكُ موقِفٌ مِنْكِ الوَدَاعَا
وقوله: [الوافر]
٢٨٧٦ -................................. يكُونُ مِزاجَهَا عَسَلٌ ومَاءُ
قال مكِّي: «وأجاز الفرَّاء رفع» وَعْد «، بجعله خبراً ل» مَرْجِعُكُمْ «. وأجاز رفعَ» وَعْد «و» حَقّ «على الابتداء والخبر، وهو حسنٌ، ولم يقرأ به أحد».
262
قال شهابُ الدِّين: نعم لم يرفع «وَعْد»، و «حَقّ» معاً أحد، وأمَّا رفعُ «حَقٌّ» وحده فقط تقدَّم أن ابن أبي عبلة قرأه، وتقدَّم توجيهه، ولا يجوز أن يكون «وعْد الله» عاملاً في «أنَّه» لأنه قد وُصِفَ بقوله «حَقّاً» قاله أبو الفتح، وقرىء «وعَدَ اللهُ» بلفظ الفعل الماضي ورفع الجلالة فاعلةً، وعلى هذه يكون «إنَّه يَبْدأ» معمولاً له إنْ كان هذا القَارِىءُ يفتح «أنه»، والجمهُور على يَبْدَأ بفتح الياء من بَدَأ، وابنُ أبي طلحة «يُبْدِىء» مِنْ أبْدَأ، وبَدَأ وأبْدَأ بمعنى واحد.

فصل


في هذه الآية إضمار، تقديره: إنَّه يبدأ الخلق؛ ليأمرهم بالعبادة، ثم يُميتُهُم ثم يعيدهم، كقوله في البقرة: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ [البقرة: ٢٨].
إلاَّ أنَّه - تعالى - حذف ذكر الأمر بالعبادة ههنا؛ لأنَّه - تعالى - قال من قبله ﴿ذلكم الله رَبُّكُمْ فاعبدوه﴾ وحذف ذكر الإماتة، لأنَّ ذكر الإعادة يدلُّ عليها. وهذه الآية تدلُّ على أنَّه تعالى يعيد جميع المخلوقات، وإعادتها لا يمكن إلاَّ بعد إعدامها، وإلا لزم إيجاد الموجود وهو محالٌ، ونظيره قوله تعالى: ﴿يَوْمَ نَطْوِي السمآء كَطَيِّ السجل لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ﴾ [الأنبياء: ١٠٤] فحكم بأنَّ الإعادة تكون مثل الابتداء.
قوله: «ليَجْزِي» متعلِّق بقوله «ثُمَّ يُعِيدُهُ»، و «بالقِسْطِ» متعلقٌ ب «يَجْزِيَ» ويجوز أن يكون حالاً: إمَّا من الفاعل أو المفعول، أي: يَجْزيهُم مُلْتَبِساً بالقِسْطِ أو ملتبسين به، والقِسْطُ: العدل.

فصل


قال الكعبيُّ: «اللاَّم في قوله» ليَجْزِيَ الذينَ آمَنُوا «تدل على أنَّه تعالى خلق العباد للثواب والرحمة، وأيضاً فإنَّه أدخل» لام «التعليل على الثواب، ولم يدخلها على العقاب، بل قال: ﴿والذين كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ﴾ فدل على أنَّه خلق الخلق للرَّحمةِ لا للعقاب، وذلك يدلُّ على أنَّه - تعالى - ما أراد منهم الكفر، ولم يخلق الكفر فيهم».
والجواب: أنَّ لامَ التعليل في أفعال الله - تعالى - محالٌ؛ لأنه - تعالى - لو فعل فعلاً لعلَّةٍ لكانت تلك العِلَّة، إن كانت قديمة لزم قدم الفعل، وإن كانت حادثة فيلزم التسلسل، وهو محال.

فصل


في تفسير «القِسْط» وجهان:
263
الأول: أنَّه العدل، كما تقدم؛ والعدلُ هو الذي يكون لا زائداً ولا ناقصاً، وذلك يدلُّ على أنَّه تعالى لا يزيدهُم على ما يستحقونه بأعمالهم، ولا يتفضَّل عليهم بشيء.
فالجواب: أنَّ الثواب أيضاً محضُ التَّفضُّل، وأيضاً فبتقدير أن يساعد على حصول الاستحقاق إلا أنَّ لفظ «القِسْطِ» يدلُّ على توفية الأجْرِ، فأمَّا المنع من الزِّيادة فلفظ «القِسْط» لا يدلُّ عليه، فإن قيل: لِمَ خصَّ المؤمنين بالقسطِ مع أنَّه - تعالى - يجازي الكافرين أيضاً بالقسطِ؟
فالجواب: أنَّ تخصيصَ المؤمنين يدلُّ على مزيد العناية في حقِّهم، وعلى كونهم مخصوصين بمزيد الإحسان.
الوجه الثاني - في تفسير القِسْطِ -: أن المعنى: ليجزي الذين آمنُوا بقسطهم، وبما أقسطوا وعدلوا ولم يظلموا أنفسهم حين آمنُوا وعملو الصَّالحات، لأنَّ الشِّركَ ظلمٌ، قال تعالى ﴿إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: ١٣]، والعصاة أيضاً قد ظلموا أنفسهم، قال تعالى: ﴿فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ﴾ [فاطر: ٣٢] وهذا أقوى؛ لأنه في مقابلة قوله: ﴿بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ﴾.
قوله: ﴿والذين كَفَرُواْ﴾ يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون مرفوعاً بالابتداءِ، والجملة بعده خبره.
والثاني: أن يكون منصوباً عطفاً على الموصول قبله، وتكونُ الجملةُ بعده مُبَيِّنَة لجزائهم. و «شَرابٌ» يجُوزُ أن يكون فاعلاً، وأن يكون مبتدأن والأولُ أولَى.
قوله: «بِمَا كَانُوا» الظَّاهرُ تعلُّقه بالاستقرار المضمر في الجارِّ الواقع خبراً، والتقدير: استقرَّ لهم شرابٌ من حميم وعذاب أليمٌ بما كانُوا. وجوَّز أبو البقاء فيه وجهين ولم يذكر غيرهما:
الأول: أن يكون صفة أخرى ل «عَذاب».
والثاني: أن يكون خبر مبتدأ محذوف، وهذا لا معنى له، ولا حاجة إلى العدول عن الأوَّل. قال الواحدي: الحَميمُ: الذي أسخنَ بالنَّار حتى انتهى حرُّه، يقال: حَمَمْتُ الماءَ، أي: أسْخَنْتُهُ، أحْمِيهِ، فهو حميمٌ، ومنه الحَمَّام.

فصل


دلَّت الآية على أنَّه لا واسطة بين أن يكون المكلَّف مُؤمناً، وبين أن يكون كافراً، لأنَّه اقتصر في الآية على ذكر هذين القسمين.
وأجاب القاضي: بأنَّ ذكر هذين القسمين لا ينفي القسم الثالث؛ لأنَّ قوله تعالى: ﴿والله خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على بَطْنِهِ وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِي على رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على أَرْبَعٍ﴾
[النور: ٤٥] ولم يدلَّ على نفي القسم الرابع، بل ربما ذكر المقصود أو الأكثر،
264
وترك ما عداه، إذا كان قد بيِّن في موضع آخر، وقد بيَّن الله حال القسم الثالث في سائر الآيات.
وجوابه: إنَّما يترك القسمُ الذي يجري مجرى النَّادر، ومعلوم أنَّ الفسَّاق أكثر من أهل الطَّاعةِ، فكيف يجُوز ترك ذكرهم في هذا الباب؟ وأما قوله تعالى ﴿والله خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ﴾ [النور: ٤٥] فإنَّما ترك ذكر القسم الرابع، لأنَّ أقسام دواب الأرض كثيرة، فكان ذكرها بأسرها يوجبُ الإطناب، بخلاف مسألتنا، فإنه ليس هنا إلاَّ القسم الثَّالث، وهو الفاسقُ الذي يزعم الخصمُ أنَّه لا مؤمنٌ ولا كافرٌ، فظهر الفرق.
265
قوله تعالى :﴿ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً ﴾ الآية.
لمَّا ذكر الدَّلائل الدَّالة على إثبات المبدأ، أردفه بما يدلُّ على صحَّة القول بالمعاد فقوله " إليه مرجعكم " الرجع بمعنى الرجوع و " جميعها " نصب على الحال أي ذلك الرجوع يحصل حال الاجتماع وهذا يدل على أن المراد بالرجوع القيامة لا الموت.
وقوله :" وعْدَ اللهِ " منصوبٌ على المصدر المؤكَّدِ ؛ لأنَّ معنى " إلَيْهِ مرْجِعكُمْ " : وعدكم بذلك.
وقوله :" حَقّاً " مصدرٌ آخرُ مؤكِّدٌ لمعنى هذا الوعد، وناصبه مضمر، أي : أحَق ذلك حقّاً.
وقيل : انتصب " حَقّاً " ب " وَعْدَ " على تقدير " في "، أي : وَعْدَ الله في حق، يعني على التَّشْبيه بالظرف. وقال الأخفش الصغير : التقدير : وقت حق ؛ وأنشد :[ الطويل ]
أحَقّاً عِبَادَ الله أنْ لَسْتُ ذَاهِباً *** وَلاَ وَالِجاً إِلاَّ عليَّ رَقيبُ١
" إنَّهُ يَبْدَؤا " الجمهور على كسر الهمزة للاستئناف، وقرأ عبد الله، وابن٢٣ القعقاع، والأعمش، وسهيل بن شعيب بفتحها، وفيها تأويلاتٌ :
أحدها : أن تكون فاعلاً بما نصب " حَقّاً " أي : حقَّ بدءُ الخَلْقِ، ثُمَّ إعادته ؛ كقوله :[ الطويل ]
أَحَقّاً عبادَ اللهِ أنْ لَسْتُ جَائِياً ***. . .
البيت.
وهو مذهبُ الفرَّاء، فإنَّه قال " والتقدير : يحقُّ أنَّه يبدأ الخَلْق ".
والثاني : أنه منصوبٌ بالفعل الذي نصب " وَعْدَ اللهِ "، أي : وعد الله تعالى بدء الخلق ثم إعادته، والمعنى : إعادةُ الخلْقِ بعد بدئه.
الثالث : أنه على حذفِ لام الجرِّ، أي : لأنَّهُ ذكر هذه الأوجه الثلاثة الزمخشري وغيره.
الرابع : أنَّهُ بدلٌ من " وَعْدَ اللهِ " قالهُ ابن عطية٤.
الخامس : أنه مرفوعٌ بنفس " حَقّاً " أي : بالمصدر المنون، وهذا إنَّما يتأتَّى على جَعْل " حَقّاً " غير مؤكدٍ، لأنَّ المؤكَّدَ لا عمل له إلاَّ إذا نَابَ عن فعله، وفيه بحث.
السادس : أن يكون " حَقّاً " مشبهاً بالظَّرف خبراً مقدماً، و " إنَّه " في محلِّ رفع مبتدأ مؤخراً، كقولهم : أحقاً أنَّك ذاهبُ، قالوا : تقديره : أفي حقٍّ ذهابك.
وقرأ ابن أبي٥ عبلة " حَقٌّ أنَّه " برفع حق وفتح " أنّ " على الابتداء والخبر، قال أبو حيَّان : وكون " حق " خبر مبتدأ، و " أنه " هو المبتدأ هو الوجه في الإعراب، كما تقول : صحيحٌ أنك مخرج ؛ لأنَّ اسم " أن " معرفة، والذي تقدَّمها في هذا المثال نكرة، فظاهرُ هذه العبارة يُشْعر بجواز العكس، وهذا قد ورد في باب " إنَّ " ؛ كقوله :[ الطويل ]
وإنَّ حراماً أنْ أسُبَّ مُجَاشِعاً *** بآبَائِيَ الشُّمِّ الكِرَامِ الخَضَارِمِ٦
وقوله :[ الطويل ]
وإنَّ شفَاءً عبْرَةٌ أنْ سَفَحْتُهَا *** وهَلْ عندَ رسْمٍ دارٍ مِنْ مُعَوَّلِ٧
على جَعْلِ " أنْ سَفَحْتُهَا " بدلاً من " عَبْرَة "، وقد أخبر في " كان " عن نكرةٍ بمعرفةٍ، كقوله :[ الوافر ]
. . . *** ولا يَكُ موقِفٌ مِنْكِ الوَدَاعَا٨
وقوله :[ الوافر ]
. . . *** يكُونُ مِزاجَهَا عَسَلٌ ومَاءُ٩
قال مكِّي١٠ :" وأجاز الفرَّاء رفع " وَعْد "، بجعله خبراً ل " مَرْجِعُكُمْ ". وأجاز رفعَ " وَعْد " و " حَقّ " على الابتداء والخبر، وهو حسنٌ، ولم يقرأ به أحد ".
قال شهابُ الدِّين : نعم لم يرفع " وَعْد "، و " حَقّ " معاً أحد، وأمَّا رفعُ " حَقٌّ " وحده فقط تقدَّم أن ابن أبي عبلة قرأه، وتقدَّم توجيهه، ولا يجوز أن يكون " وعْد الله " عاملاً في " أنَّه " لأنه قد وُصِفَ بقوله " حَقّاً " قاله أبو الفتح، وقرئ١١ " وعَدَ اللهُ " بلفظ الفعل الماضي ورفع الجلالة فاعلةً، وعلى هذه يكون " إنَّه يَبْدأ " معمولاً له إنْ كان هذا القارئ يفتح " أنه "، والجمهُور على يَبْدَأ بفتح الياء من بَدَأ، وابنُ أبي طلحة١٢ " يُبْدِئ " مِنْ أبْدَأ، وبَدَأ وأبْدَأ بمعنى واحد.

فصل


في هذه الآية إضمار، تقديره : إنَّه يبدأ الخلق ؛ ليأمرهم بالعبادة، ثم يُميتُهُم ثم يعيدهم، كقوله في البقرة :﴿ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ﴾ [ البقرة : ٢٨ ].
إلاَّ أنَّه - تعالى - حذف ذكر الأمر بالعبادة ههنا ؛ لأنَّه - تعالى - قال من قبله ﴿ ذلكم الله رَبُّكُمْ فاعبدوه ﴾ وحذف ذكر الإماتة، لأنَّ ذكر الإعادة يدلُّ عليها. وهذه الآية تدلُّ على أنَّه تعالى يعيد جميع المخلوقات، وإعادتها لا يمكن إلاَّ بعد إعدامها، وإلا لزم إيجاد الموجود وهو محالٌ، ونظيره قوله تعالى :﴿ يَوْمَ نَطْوِي السمآء كَطَيِّ السجل لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ ﴾ [ الأنبياء : ١٠٤ ] فحكم بأنَّ الإعادة تكون مثل الابتداء.
قوله :" ليَجْزِي " متعلِّق بقوله " ثُمَّ يُعِيدُهُ "، و " بالقِسْطِ " متعلقٌ ب " يَجْزِيَ " ويجوز أن يكون حالاً : إمَّا من الفاعل أو المفعول، أي : يَجْزيهُم مُلْتَبِساً بالقِسْطِ أو ملتبسين به، والقِسْطُ : العدل.

فصل


قال الكعبيُّ :" اللاَّم في قوله " ليَجْزِيَ الذينَ آمَنُوا " تدل على أنَّه تعالى خلق العباد للثواب والرحمة، وأيضاً فإنَّه أدخل " لام " التعليل على الثواب، ولم يدخلها على العقاب، بل قال :﴿ والذين كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ ﴾ فدل على أنَّه خلق الخلق للرَّحمةِ لا للعقاب، وذلك يدلُّ على أنَّه - تعالى - ما أراد منهم الكفر، ولم يخلق الكفر فيهم ".
والجواب : أنَّ لامَ التعليل في أفعال الله - تعالى - محالٌ ؛ لأنه - تعالى - لو فعل فعلاً لعلَّةٍ لكانت تلك العِلَّة، إن كانت قديمة لزم قدم الفعل، وإن كانت حادثة فيلزم التسلسل، وهو محال.

فصل


في تفسير " القِسْط " وجهان :
الأول : أنَّه العدل، كما تقدم ؛ والعدلُ هو الذي يكون لا زائداً ولا ناقصاً، وذلك يدلُّ على أنَّه تعالى لا يزيدهُم على ما يستحقونه بأعمالهم، ولا يتفضَّل عليهم بشيء.
فالجواب : أنَّ الثواب أيضاً محضُ التَّفضُّل، وأيضاً فبتقدير أن يساعد على حصول الاستحقاق إلا أنَّ لفظ " القِسْطِ " يدلُّ على توفية الأجْرِ، فأمَّا المنع من الزِّيادة فلفظ " القِسْط " لا يدلُّ عليه، فإن قيل : لِمَ خصَّ المؤمنين بالقسطِ مع أنَّه - تعالى - يجازي الكافرين أيضاً بالقسطِ ؟
فالجواب : أنَّ تخصيصَ المؤمنين يدلُّ على مزيد العناية في حقِّهم، وعلى كونهم مخصوصين بمزيد الإحسان.
الوجه الثاني - في تفسير القِسْطِ - : أن المعنى : ليجزي الذين آمنُوا بقسطهم، وبما أقسطوا وعدلوا ولم يظلموا أنفسهم حين آمنُوا وعملوا الصَّالحات، لأنَّ الشِّركَ ظلمٌ، قال تعالى ﴿ إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [ لقمان : ١٣ ]، والعصاة أيضاً قد ظلموا أنفسهم، قال تعالى :﴿ فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ ﴾ [ فاطر : ٣٢ ] وهذا أقوى ؛ لأنه في مقابلة قوله :﴿ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ ﴾.
قوله :﴿ والذين كَفَرُواْ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون مرفوعاً بالابتداءِ، والجملة بعده خبره.
والثاني : أن يكون منصوباً عطفاً على الموصول قبله، وتكونُ الجملةُ بعده مُبَيِّنَة لجزائهم. و " شَرابٌ " يجُوزُ أن يكون فاعلاً، وأن يكون مبتدأ، والأولُ أولَى.
قوله :" بِمَا كَانُوا " الظَّاهرُ تعلُّقه بالاستقرار المضمر في الجارِّ الواقع خبراً، والتقدير : استقرَّ لهم شرابٌ من حميم وعذاب أليمٌ بما كانُوا. وجوَّز أبو البقاء فيه وجهين ولم يذكر غيرهما :
الأول : أن يكون صفة أخرى ل " عَذاب ".
والثاني : أن يكون خبر مبتدأ محذوف، وهذا لا معنى له، ولا حاجة إلى العدول عن الأوَّل. قال الواحدي : الحَميمُ : الذي أسخنَ بالنَّار حتى انتهى حرُّه، يقال : حَمَمْتُ الماءَ، أي : أسْخَنْتُهُ، أحْمِيهِ، فهو حميمٌ، ومنه الحَمَّام.

فصل


دلَّت الآية على أنَّه لا واسطة بين أن يكون المكلَّف مُؤمناً، وبين أن يكون كافراً، لأنَّه اقتصر في الآية على ذكر هذين القسمين.
وأجاب القاضي : بأنَّ ذكر هذين القسمين لا ينفي القسم الثالث ؛ لأنَّ قوله تعالى :﴿ والله خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على بَطْنِهِ وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِي على رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على أَرْبَعٍ ﴾
[ النور : ٤٥ ] ولم يدلَّ على نفي القسم الرابع، بل ربما ذكر المقصود أو الأكثر، وترك ما عداه، إذا كان قد بيِّن في موضع آخر، وقد بيَّن الله حال القسم الثالث في سائر الآيات.
وجوابه : إنَّما يترك القسمُ الذي يجري مجرى النَّادر، ومعلوم أنَّ الفسَّاق أكثر من أهل الطَّاعةِ، فكيف يجُوز ترك ذكرهم في هذا الباب ؟ وأما قوله تعالى ﴿ والله خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ ﴾ [ النور : ٤٥ ] فإنَّما ترك ذكر القسم الرابع، لأنَّ أقسام دواب الأرض كثيرة، فكان ذكرها بأسرها يوجبُ الإطناب، بخلاف مسألتنا، فإنه ليس هنا إلاَّ القسم الثَّالث، وهو الفاسقُ الذي يزعم الخصمُ أنَّه لا مؤمنٌ ولا كافرٌ، فظهر الفرق.
١ البيت لابن الدمينة ورواية الديوان:
أحقا عباد الله أن لست صادرا *** ولا واردا إلا علي رقيب
ينظر: ديوانه (٩) والبحر المحيط ٥/١٢٩ والأشموني ٢/٢٣٥ والطبري ١٥/١٢ والكشاف ٢/٣٢٩ وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ٣٦٤ والدر المصون ٤/٦..

٢ ينظر: إتحاف ٢/١٠٤، الكشاف ٢/٣٢٨-٣٢٩، المحرر الوجيز ٣/١٠٤، البحر المحيط ٥/١٢٩، الدر المصون ٤/٦..
٣ تقدم تقريبا..
٤ ينظر: المحرر الوجيز ٣/١٠٤..
٥ ينظر: الكشاف ٢/٣٢٩، المحرر الوجيز ٣/١٠٤-١٠٥، البحر المحيط ٥/١٢٩، الدر المصون ٤/٦..
٦ تقدم..
٧ تقدم..
٨ عجز بيت للقطامي وصدره:
قضى قبل التفرق يا ضباعا
ينظر: ديوانه (٣٧) والكتاب ٢/٢٤٣ والمقتضب ٤/٩٤ وشرح المفصل لابن يعيش ٧/٩١ والخزانة ٩/٢٨٤ والمغني ٢/٤٥٣ والهمع ١/١١٩ والدرر ١/٨٨ والتهذيب ٣/١٣٩ واللسان (ودع) والدر المصون ٤/٦ والأشموني ٣/١٧٣..

٩ تقدم..
١٠ ينظر: المشكل ١/٣٧٤..
١١ ينظر: الكشاف ٢/٣٢٩، المحرر الوجيز ٣/٥٠٤-١٠٥، البحر المحيط ٥/١٢٩، الدر المصون ٤/٦..
١٢ ينظر: المصدر السابق..
قوله تعالى: ﴿هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً﴾ الآية.
لمَّا ذكر الدلائل الدَّالة على الإلهيَّة، وهي التَّمسُّك بخلق السموات والأرض، ثم فرع عليها صحَّة القول بالحشر والنشر، عاد إلى ذكر الدَّلائل الدَّالة على الإلهيَّة، وهي التمسُّك بأحوال الشمس والقمر، وهو إشارةٌ إلى توكيد الدَّليل على الحشر والنشر؛ لأنَّه - تعالى - أثبت القول بالحشر والنشر بناءً على أنَّه لا بد من إيصالِ الثَّواب إلى أهل الطَّاعة، والعقاب إلى الكُفَّار، وأنَّه يجب تمييزُ المُحْسن عن المُسِيء.
ثم ذكر في هذه الآية أنَّه جعل الشمس ضياءً والقمر نُوراً وقدَّرَهُ منازل، ليتوصَّل المُكلَّف بذلك إلى معرفة السنين والحساب، فيُرتِّب مهمات معاشه وزراعته وحراثته، ويُعدَّ مهمات الشِّتاء والصَّيف، فكأنَّه تعالى يقول: تمييز المحسن على المسيء، أوجب وأوْلَى من تعليم أحوال السِّنين والشُّهُور، فلمَّا اقتضت الحكمة بخلق الشمس والقمر لهذا المهمِّ الذي لا نفع له فبأن تقتضي الحكمة والرَّحمة تمييز المحسن عن المسيء بعد الموت، مع أنَّه يقتضي النفع الأبَدِيّ والسعادة السَّرمديَّة كان أولى، فلمَّا كان الاستدلال بأحوال الشَّمس والقمر من الوجه المذكور في هذه الآية ممَّا يدلُّ على التَّوحيد من وجهٍ، وعلى صحَّة القول بالمعاد من الوجه الذي ذكرناه، لا جرم ذكر الله تعالى هذا الدَّليل بعد ذكر الدَّليل على صحَّة المعاد.
قوله: «ضِيَاءً» : إمَّا مفعولٌ ثانٍ على أنَّ الجعل للتصيير، وإمَّا حالٌ على أنَّه بمعنى الإنشاءِ، والجمهُور على «ضِيَاءً» بصريح اليَاءِ قبل الألف، وأصلها واو؛ لأنَّه من الضَّوْء. وقرأ قُنْبُل عن ابن كثيرٍ هنا وفي الأنبياء والقصص «ضِئَاء» بقلب الياء همزة، فتصير
265
ألفٌ بين همزتين. وأوِّلت على أنه مقلوبٌ قدِّمت لامُه وأخِّرت عينه، فوقعت الياءُ طرفاً بعد ألف زائدة فقلبت همزة على حدِّ «رِدَاء» وأرْدِية، وإن شئت قلت: لمَّا قلبت الكلمة صارت «ضِيَاواً» بالواو، عادت العين إلى أصلها من الواو لعدم موجب قلبها ياء وهو الكسر لسابقها، ثم أبدلت الواو همزة على حدِّ «كِسَاء». وقال أبو البقاء: «إنَّها قُلبتْ ألفاً، ثُمَّ قُلِبت الألفُ همزة، لئلاَّ تجتمع ألفان»، واستُبْعِدت هذه القراءة من حيث إنَّ اللغة مَبْنِيَّة على تسهيل الهمزِ فكيف يتخيَّلُون في قلب الحرفِ الخفيف إلى أثقل منه؟ لا غرو في ذلك، فقد قلبُوا حروف العلَّة الألف والواو والياء همزةً في مواضع لا تُحْصرُ إلا بعُسْرٍ، إلاَّ أنه هنا ثقيلٌ؛ لاجتماع همزتين.
وأكثر النَّاس على تغليط هذه القراءة؛ لأنَّ ياء «ضِيَاء» منقلبة عن واو، مثل: ياء قيام، وصيام، فلا وجه للهمزة فيها، قال أبو شامة: «وهذه قراءةٌ ضعيفةٌ، فإنَّ قياس اللُّغةِ الفرارُ من اجتماع همزتين إلى تخفيفِ إحداهُمَا، فكيف يُتَخيَّل بتقديمٍ وتأخيرٍ يُؤدِّي إلى اجتماع همزتين لم يكونا في الأصل؟ هذا خلافُ حكم اللُّغة».
وقال أبو بكر بن مُجاهد - وهو ممَّنْ قرأ على قنبل -: «قرأ ابن كثير وحده» ضِئَاء «بهمزتين في كل القرآن الهمزة الأولى قبل الألف، والثانية بعدها، كذلك قرأتُ على قنبل وهو غلط، وكان أصحاب البزّي، وابن فليح يُنكرُونَ هذا ويقْرؤُون» ضِيَاء «مثل الناس».
قال شهابُ الدِّين: «كثيراً ما يَتَجَرَّأ أبو بكر على شيخه ويُغَلِّطه، وسيمرُّ بكَ مواضع من ذلك، وهذا لا ينبغي أن يكون، فإنَّ قُنْبُلاً بالمكان الذي يمنع أن يتكلَّم فيه أحد».
وقوله في جانب الشمس: «ضِيَاءً» ؛ لأنَّ الضوءَ أقوى من النُّور، وقد تقدم ذلك أوَّل البقرة و «ضِيَاء ونُوراً» يحتمل أن يكونا مصدرين، وجُعِلا نفسَ الكوكبين مبالغة، كما يقال للكريم: إنه كرم وجود، أو على حذف مضافٍ أي: ذاتِ ضياء وذا نُورٍ، و «ضِيَاء» يحتمل أن يكون جمع «ضَوْء» كسَوْط وسِيَاط، وحَوْض وحِيَاض.
قوله: «مَنَازِلَ» نُصب على ظرف المكان، وجعله الزمخشريُّ على حذفِ مضافٍ: إمَّا من الأول أي: قدَّر مسيره، وإمَّا من الثاني أي: قدَّرهُ ذا منازل، فعلى التقدير الأول يكون «مَنازِلَ» ظرفاً كما مَرّ، وعلى الثاني يكون مفعولاً ثانياً على تضمين «قدَّرَ» معنى صيَّره ذا منازل بالتقدير، وقال أبو حيَّان - بعد أن ذكر التقديرين، ولم يعزُهما للزمخشري: أو قَدَّر له منازل، فحذف وأوصل الفعل إليه، فانتصب بحسب هذه التَّقادير على الظَّرف أو الحال أو المفعول، كقوله: ﴿والقمر قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ﴾ [يس: ٣٩] وقد سبقهُ إلى ذلك أبُو البقاء.
266
والضمير في «قدَّرهُ» يعود على القمر وحده، لأنَّه هو عُمدةُ العرب في تواريحهم.
وقال ابنُ عطيَّة: «ويحتمل أن يريدهما معاً بحسبِ أنهم يتصرَّفان في معرفة عدد السِّنين والحساب لكنَّه اجتزىء بذكر أحدهما، كقوله تعالى ﴿والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ﴾ [التوبة: ٦٢] ؛ وكما قال الشاعر: [الطويل]
٢٨٧٧ - رَمَانِي بأمْرٍ كُنْتُ مِنْهث ووَالدِي بَرِيئاً ومنْ أجْلِ الطَّوِيِّ رمَانِي
قوله:»
لِتَعْلَمُواْ «: متعلِّق ب» قدَّرَهُ «، وسُئل أبو عمرو عن الحساب: أتَنْصبُه أم تَجُرُّه؟ فقال: ومن يدري ما عدد الحساب؟ يعني أنه سئل: هل تعطفه على» عَدَدَ «فتنصبه أم على» السِّنين «فتجرَّه؟ فكأنَّه قال: لا يمكن جرُّه، إذ يقتضي ذلك أن يعلم عدد الحسابِ ولا يقدر أحدٌ أن يعلم عدده.

فصل


معنى الآية: ﴿هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً﴾ بالنهار، ﴿والقمر نُوراً﴾ بالليل. وقيل: جعل الشمس ذات ضياء، والقمر ذا نُورٍ، ﴿وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ﴾ أي: قدَّر له، يعنى: هَيَّأ له منازل لا يجاوزها ولا يقصُر دونها، ولم يقل قدرهما.
قيل تقدير المنازل منصرفٌ اليهما، واكتفى بذكر أحدهما لما قدَّمنا. وقيل: ينصرف إلى القمر خاصة، لأن بالقمر خاصة يعرف انقضاء الشُّهور والسِّنين، لا بالشمس. ومنازل القمر هي: المنازل المشهورة، وهي الثمانية والعشرون منزلاً، وهذه المنازل مقسومة على البُروجِ الاثني عشر، لكل برج منزلتان واحدة إن كان الشهر تسعاً وعشرين، فيكون انقضاء الشهر مع نزوله تلك المنازل، ويكون مقام الشهر في كل منزلة ثلاثة عشر يوماً، فيكون انقضاء السنة مع انقضائها.
واعلم: أنَّ الشمس سلطان النهار وأنَّ القمر سلطان الليل، وبحركة الشمس تنفصل السنة إلى الفصول الأربعة، وبالفصول الأربعة تنتظمُ مصالحُ هذا العالم، وبحركة القمر تحصُل الشهور، وباختلاف حاله في زيادة ضوئه ونقصانه تختلف أحوال رطوبات هذا العالم، وبسبب الحركة اليومية يحصل النهار والليل، فالنهار زمان التَّكسُّبِ والطلب، والليل زمان للرَّاحة، وهذا يدلُّ على كثرة رحمة الله - تعالى - للخلق وعظم عنايته لهم.
قال حكماء الإسلام: هذا يدلُّ على أنه - تعالى - أودع في أجرام الأفلاك والكواكب خواصَّ معينة، وقوى مخصوصة باعتبارها تنتظم مصالح هذا العالم السُّفلي، إذ لَوْ لَمْ يكُنْ لها آثارٌ وفوائد في هذا العالم، لكان خلقها عبثاً وباطلاً بغير فائدة، وهذه النُّصوص تُنافي ذلك.
قوله: ﴿مَا خَلَقَ الله ذلك إِلاَّ بالحق﴾ «ذلك»
إشارةٌ إلى الخلق، والتقدير: ما خلق الله ذلك المذكور إلا ملتبساً بالحقِّ، فيكون حالاً: إمَّا من الفاعل وإمَّا من المفعول. وقيل:
267
الباء بمعنى اللاَّم أي: للحقِّ، ولا حاجة إليه، والمعنى: لم يخلقه باطلاً، بل إظهاراً لصنعته، ودلالة على قدرته.
قوله: «يُفَصِّلُ» قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وأبو جعفر، ويعقوب «يُفصِّل» بياء الغيبة جرياً على اسم الله - تعالى -، والباقون: بنون العظمة، التفاتاً من الغيبة إلى التَّكلُّم للتَّعظيم.
ومعنى التَّفصيل: هو ذكر هذه الدلائل الباهرة، واحدة عقب الأخرى مع الشَّرح والبيان، ثم قال «لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» قيل: المراد منه: العقل الذي يعمُّ الكل. وقيل: المراد منه تفكر وعلم فوائد مخلوقاته، وآثار إحسانه، لأنَّ العلماء هم المنتفعون بهذه الدلائل، كقوله ﴿إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا﴾ [النازعات: ٤٥] مع أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كان منذراً للكُلِّ.
قوله تعالى: ﴿نَّ فِي اختلاف الليل والنهار﴾ الآية.
اعلم أنَّه تعالى استدلَّ على التوحيد والإلهية.
أولاً: بتخليق السموات والأرض.
وثانياً: بأحوال الشمس والقمر.
وثالثاً: في هذه الآية بالمنافع الحاصلة من اختلاف الليل والنهار، وقد تقدم تفسيره في سورة البقرة عند قوله: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض﴾ [البقرة: ١٦٤].
واعلم أنَّ الحوادث الحادثة في هذا العالم أربعة أقسام:
أحدها: الأحوالُ الحادثة في العناصر الأربعة، ويدخل فيها أحوال الرَّعد والبَرْق والسَّحاب والأمطار والثُّلُوج، ويدخل فيها أحوال البحار، وأحوال المَدِّ والجزْرِ، وأحوال الصَّواعق والزَّلازل والخَسْفِ.
وثانيها: أحوال المعادن وهي عجيبةٌ كثيرةٌ.
وثالثها: اختلاف أحوال النَّبات.
ورابعها: اختلاف أحوال الحيوانات، وكلُّها داخلةٌ في قوله: ﴿وَمَا خَلَقَ الله فِي السماوات والأرض﴾.
ثم قال: ﴿لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ﴾ خصَّها بالمتَّقين؛ لأنَّهم يحذرون العاقبة.
268
قوله تعالى :﴿ إنَّ فِي اختلاف الليل والنهار ﴾ الآية.
اعلم أنَّه تعالى استدلَّ على التوحيد والإلهية.
أولاً : بتخليق السماوات والأرض.
وثانياً : بأحوال الشمس والقمر.
وثالثاً : في هذه الآية بالمنافع الحاصلة من اختلاف الليل والنهار، وقد تقدم تفسيره في سورة البقرة عند قوله :﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض ﴾ [ البقرة : ١٦٤ ].
واعلم أنَّ الحوادث الحادثة في هذا العالم أربعة أقسام :
أحدها : الأحوالُ الحادثة في العناصر الأربعة، ويدخل فيها أحوال الرَّعد والبَرْق والسَّحاب والأمطار والثُّلُوج، ويدخل فيها أحوال البحار، وأحوال المَدِّ والجزْرِ، وأحوال الصَّواعق والزَّلازل والخَسْفِ.
وثانيها : أحوال المعادن وهي عجيبةٌ كثيرةٌ.
وثالثها : اختلاف أحوال النَّبات.
ورابعها : اختلاف أحوال الحيوانات، وكلُّها داخلةٌ في قوله :﴿ وَمَا خَلَقَ الله فِي السماوات والأرض ﴾.
ثم قال :﴿ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ ﴾ خصَّها بالمتَّقين ؛ لأنَّهم يحذرون العاقبة.
قوله تعالى: ﴿إَنَّ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا﴾ الآية.
لمَّا ذكر الدَّلائل القاهرة على إثبات الإلهيَّة، وعلى صحَّة القول بالمعاد، والحَشْرِ،
268
والنَّشْرِ، شرح بعده أحوال من يكفُر بها، ومن يؤمن بها؛ فأما شرح أحوال الكُفَّار، فهو المذكور في هذه الآية، وصفهم فيها بأربع صفاتٍ:
الأولى: قوله: ﴿إَنَّ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا﴾.
قال ابن عبَّاس، ومقاتل، والكلبي: معناه: لا يخافون البعث؛ لأنَّهم لا يؤمنون به، والرَّجاء: الخوف؛ لقوله: ﴿إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا﴾ [النازعات: ٤٥]، وقوله: ﴿وَهُمْ مِّنَ الساعة مُشْفِقُونَ﴾ [الأنبياء: ٤٩]، وقوله: ﴿مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً﴾ [نوح: ١٣] ؛ وقال الهذليُّ: [الطويل]
٢٨٧٨ - إذَا لسَعَتْهُ النَّحْلُ لمْ يَرْجُ لسْعَهَا وخَالفَهَا في بَيْتِ نُوبٍ عَوَاسِلِ
وقال الزَّجَّاج: الطَّمع؛ والمعنى: لا يطمعُون في ثوابنا، واعلم أنَّ اللِّقاء: هو الوصول إلى الشيء، وهذا في حقِّ الله - تعالى - محالٌ؛ لأنه مُنَزَّهٌ عن الحدِّ؛ فوجب أن يكون مجازاً عن الرُّؤية؛ فإنه يقال: لقيتُ فُلاناً، إذَا رأيْتَهُ.
الصفة الثانية: قوله: ﴿وَرَضُواْ بالحياة الدنيا﴾، وهذه إشارة إلى استغراقهم في طلب اللَّذاتِ الجسمانيَّة.
والصفة الثالثة: قوله: «واطمأنوا بِهَا» يجوز أن يكون عطفاً على الصِّلة، وهو الظاهرُ، وأن تكون الواو للحال، والتقدير: وقد اطمأنُّوا. وهذه صفةُ الأشقياء، وهي أن تحصل لهم الطُّمأنينة في حُبّش الدُّنْيا والاشتغال بلذَّاتها، فيزول عن قُلُوبهم الوجلُ، فإذا سمعُوا الإنذارَ والتَّخويفَ لم توجل قلوبهم وصارت كالميتة عند ذكر الله - تعالى -، وهذا بخلاف صفة السُّعداء، فإنَّهم يحصُلُ لهم الوجل عند ذكر الله - تعالى -، كما قال: ﴿إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ [الأنفال: ٢]، ثُمَّ إذا قويت هذه الحالةُ اطمأنُّوا بذكر الله، كما قال: ﴿وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ الله أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ القلوب﴾ [الرعد: ٢٨].
ومقتضى اللُّغة أن يقال: واطمأنُّوا إليها، إلاَّ أنَّ حروف الجرِّ يحسن إقامة بعضها مقام البعض.
الصفة الرابعة: قوله: ﴿والذين هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ﴾. يحتمل أن يكون من باب عطف الصفات، بمعنى أنَّهم جامعُون بين عدم رجاء لقاءِ الله وبين الغفلة عن الآياتِ، والمراد بالغفلة الإعراض، وأن يكون هذا الموصولُ غير الأولِ، فيكون عطفاً على اسم «إنَّ»، أي: إنَّ الذين لا يَرْجُون، وإنَّ الذين هُمْ.
269
و «أولئك» مبتدأ، و «مَأواهُمُ» مبتدأ ثانٍ، و «النَّار» خبر هذا المبتدأ الثاني، والثاني وخبره خبر «أولئك»، و «أولئك» وخبره خبر «إنَّ الذينَ»، و «بِمَا كَانُوا» متعلِّقٌ بما تضمَّنتهُ الجملةُ من قوله: «مَأواهُمُ النَّارُ» والباءُ سببيَّةٌ، و «ما» مصدريةٌ، وجيء بالفعل بعدها مضارعاً دلالةً على استمرار ذلك في كلِّ زمان. وقال أبو البقاء: «إن الباء تتعلَّق بمحذوفٍ، أي: جُوزُوا بما كانُوا».
270
و " أولئك " مبتدأ، و " مَأواهُمُ " مبتدأ ثانٍ، و " النَّار " خبر هذا المبتدأ الثاني، والثاني وخبره خبر " أولئك "، و " أولئك " وخبره خبر " إنَّ الذينَ "، و " بِمَا كَانُوا " متعلِّقٌ بما تضمَّنتهُ الجملةُ من قوله :" مَأواهُمُ النَّارُ " والباءُ سببيَّةٌ، و " ما " مصدريةٌ، وجيء بالفعل بعدها مضارعاً دلالةً على استمرار ذلك في كلِّ زمان. وقال أبو البقاء :" إن الباء تتعلَّق بمحذوفٍ، أي : جُوزُوا بما كانُوا ".
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات﴾ الآية.
لمَّا شرح أحوال المشركين ذكر أحوال المؤمنين، قال القفال: ﴿إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات﴾ أي: صدقُوا بقُلوبهم، ثم حَقَّقُوا التَّصديقَ بالعملش الصَّالحِ الذي جاءت به الأنبياء من عند الله.
ثم ذكر بعد ذلك درجات كراماتهم فقال: ﴿يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ﴾ فقيل: يهديهم إلى الجنَّة ثواباً على إيمانهم وأعمالهم الصَّالحة، ويدلُّ عليه قوله - تعالى -: ﴿يَوْمَ تَرَى المؤمنين والمؤمنات يسعى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم﴾ [الحديد: ١٢]، وما روي أنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - قال: «إنَّ المُؤمِنَ إذا خرج مِنْ قَبْرِهِ صوِّرَ لَهُ عملهُ في صُورةٍ حسنةٍ، فيقول لهُ: أنا عملك، فيكون له نُوراً وقائداً إلى الجنَّةِ، والكافر إذا خرج من قبرهِ صُوِّر لهُ عملهُ في صُورةٍ سيِّئةٍ، فيقول له: أنا عملُكَ، فينطلقُ به حتَّى يدخله النَّار»، وقال مجاهد: المؤمنُ يكون له نُورٌ يَمْشِي به إلى الجنَّة. قال ابن الأنباري: إيمانهم يهديهم إلى خصائص المعرفة، ولوامع من النُّور تشرقُ بها قُلوبُهم، وتزول بواسطتها الشُّكُوك والشُّبهات، كقوله - تعالى -: ﴿والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ﴾ [محمد: ١٧] وهذه الفوائدُ يجوزُ حصولها في الدُّنيا قبل الموت، ويجوز حصولها في الآخرة بعد الموت؛ قال القفال: وإذا حملنا الآية على هذا الوجه؛ كان المعنى: يهديهم ربُّهم بإيمانهم، وتجري من تحتهم الأنهار، إلاَّ أنَّه حذف الواو، وقيل: «تَجْرِي من تَحْتِهمْ» مُستأنفاص مُنقطعاً عمَّا قبله، ويجوز أن يكون حالاً من مفعول «يهديهم».
قوله تعالى: ﴿تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنهار﴾ المراد: أن يكونوا جالسين على سُرُرٍ
270
مرفوعة في البساتين، والأنهار تجري من بين أيديهم، كقوله: ﴿قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً﴾ [مريم: ٢٤]، وهي ما كانت قاعدة عليه بل المعنى: بين يديك، وكذا قوله: ﴿وهذه الأنهار تَجْرِي مِن تحتيا﴾ [الزخرف: ٥١] أي: بين يدي، وقيل: ﴿تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ﴾ أي: بأمرهم.
قوله: «فِي جَنَّاتِ» يجوز أن يتعلَّق ب «تَجْري»، وأن يكون حالاً من «الأَنْهَار»، وأن يكون خبراً بعد خبر ل «إنَّ»، وأن يكون متعلِّقا ب «يَهْدِي».
قوله: «دَعْوَاهُمْ» مبتدأ، و «سُبْحانَكَ» معمول لفعل مقدَّر لا يجوز إظهاره هو الخبر، والخبرُ هنا هو نفسُ المبتدأ، والمعنى: أن دعاؤهم هذا اللفظ، ف «دَعْوَى» يجوزُ أن يكون بمعنى الدعاء، ويدلُّ عليه «اللَّهُمَّ» ؛ لأنَّه نداء في معنى يا الله، يقال: «دَعَا يَدْعُو دُعَاء ودَعْوَى»، كما يقال: «شكى يَشْكُو شِكَايةً وشَكْوى»، ويجوز أن يكون الدُّعاء هنا بمعنى العبادة، نظيره قوله تعالى: ﴿وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله﴾ [مريم: ٤٨] أي: وما تعبدون، ف «دَعْوَى» : مصدرٌ مضاف للفاعل، ثم إن شئتَ أن تجعل هذا من باب الإسناد اللفظي، أي: دعاؤهُم في الجنَّة هذا اللفظُ بعينه، فيكون نفسُ «سُبْحانَكَ» هو الخبر، وجاء به مَحْكيّاً على نصبه بذلك الفعل، وإن شئتَ جعلتهُ من باب الإسناد المعنوي؛ فلا يلزمُ أن يقولوا هذا اللفظ فقط، بل يقولونه وما يؤدِّي معناه من جَميع صفات التنزيه والتَّقديس، وقد تقدَّم نظير هذا عند قوله تعالى:
﴿وَقُولُواْ حِطَّةٌ﴾ [البقرة: ٥٨].
وقيل: المراد من الدَّعْوَى: نفس الدَّعوى التي تكون للخَصْمِ على خَصْمِه.
والمعنى: أنَّ أهل الجنَّة يعون في الدُّنيا وفي اآخرة تنزيه الله عن كل المعايب، والإقرار له بالإلهيَّة.
قال القفال: وأصل ذلك من الدُّعاء، لأن الخصم يدعُو خصمهُ إلى من يحكم بينهما.
قال أبو مسلم: «دَعْوَاهُمْ» أي: فعلهم وإقرارهم، ونداؤهُم هو قولهم «سُبْحَانَكَ اللهم» قال القاضي: «دَعْواهُمْ» أي: طريقتهم في تمجيد الله وتقديسه وشأنهم وسنَّتهم؛ لأنَّ قوله «سُبْحَانَكَ اللهم» ليس بدعاءٍ ولا بدعوى، إلاَّ أنَّ المُدَّعي للشيء يكون مواظباً على ذكره، لا جرم جعل لفظ «الدَّعْوى» كناية عن تلك المواظبة والملازمة. فأهلُ الجنَّة لمَّا كانُوا مواظبين على هذا الذكر، أطلق لفظ «الدَّعْوَى» عليهم، وقال القفال: قيل في قوله: ﴿وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ﴾ [يس: ٥٧] أي: ما يتمنونهُ، والعرب تقول: ادع ما شئت عليّ أي: تمنّ ما شِئْتَ.
وقال ابن جريج: أخبرت أن قوله ﴿دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللهم﴾ : هو أنَّه إذا مرَّ بهم طيرٌ يشتهونه، قالوا: سبحانك اللَّهُمَّ، فيأتيهم الملك بذلك المشتهى. قال ابن الخطيب: «وفيه وجه آخر: وهو أن يكون المعنى: أنَّ تمنيهم في الجنَّة أن يسبحوا الله - تعالى -،
271
أي: تمنيهم لما يتمنَّونهُ، ليس إلاَّ في تسبيح الله، وتقديسه، وتنزيهه».
قوله: «سُبْحَانَكَ اللهم» قال بعض المفسِّرين: إنَّ أهل الجنَّة جعلوا هذا الذِّكر علامة على طلب المشتهيات فيؤتَوْنَ بذلك المشتهى فإذا نالوا من شهرتهم، قالوا: ﴿الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين﴾، وضعف ابن الخطيبِ هذا من وجوهٍ:
أحدها: أنَّ حاصل هذا الكلام يرجع إلى أنَّ أهل الجنَّة جعلوا هذا الذِّكر العالي المُقدَّس علامة على طلب المأكول والمنكوح، وهذا في غاية الخساسة.
وثانيها: أنَّه - تعالى - قال في صفة أهل الجنة ﴿وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ﴾ [النحل: ٥٧]، فإذا اشتهوا أكل ذلك الطَّيْر، فلا حاجة بهم إلى الطَّلب، فسقط هذا الكلام.
وثالثها: أنَّ هذا صرف للكلام عن ظاهره الشريف العالي، إلى محل خسيس لا إشعار للفظ به. وإنما المرادُ: أنَّ اشتغالَ أهل الجنَّة بتقديس الله - سبحانه -، وتحميده، والثناء عليه؛ لأنَّ سعادتهم، وابتهاجهم، وسرورهم بهذا الذِّكر.
قال القاضي: إنَّه - تعالى - لمَّا وعد المتَّقين بالثَّواب العظيم، في قوله أوَّل السورة:
﴿لِيَجْزِيَ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات بالقسط﴾ [يونس: ٤]، فإذا دخل أهلُ الجنَّة الجنَّة، ووجدوا تلك النعم العظيمة، عرفوا أن الله - تعالى - كان صادقاً في وعده إياهم بتلك النعم، فعند هذا قالوا: «سُبْحَانَكَ اللهم» أي: سبحانك من الخلف في الوعد، والكذب في القول.
قوله: «وَتَحِيَّتُهُمْ» مبتدأ، و «سَلاَمٌ» خبره، وهو كالذي قبله، والمصدر هنا يحتمل أن يكون مضافاً لفاعله، أي: تحيَّتهم التي يُحيُّون بها بعضهم سلامٌ.
ويحتمل أن يكون مضافاً لمفعوله، أي: تحيَّتهُم التي تُحَيِّيهم بها الملائكةُ سلامٌ؛ ويدلُّ له قوله: ﴿وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم﴾ [الرعد: ٢٣، ٢٤]، و «فيهَا» في الموضعين متعلقٌ بالمصدر قبله. وقيل: يجوز أن يكون حالاً ممَّا بعده، فيتعلَّق بمحذوفٍ، وليس بذاك، وقال بعضهم: يُحَيِّي بعضهم بعضاً، ويكون كقوله - تعالى -: ﴿وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ﴾ [الأنبياء: ٧٨]، حيث أضافهُ ل «داود وسليمان»، وهما الحاكما، وإلى المحكوم عليه، وهذا مبنيٌّ على مسألة أخرى، وهي أنَّه: هل يجوز الجمع بين الحقيقة والمجاز أم لا؟.
فإن قلنا: نعم، جاز ذلك، لأنَّ إضافة المصدر لفاعله حقيقةٌ، ولمفعوله مجاز، ومنْ منعَ ذلك، أجاب: بأنَّ أقلَّ الجمع اثنان، فلذلك قال: «لِحُكْمِهِمْ».
قوله: «وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ» مبتدأ، و «أنْ» : هي المخففة من الثَّقيلة، واسمها ضمير الأمر والشَّأن حذف، والجملةُ الاسمية بعدها في محلِّ الرفع خبراً لها؛ كقول الشَّاعر: [البسيط]
272
٢٨٧٩ - فِي فِتْيَةٍ كسُيُوفِ الهِنْدِ قَدْ علمُوا أنْ هالكٌ كُلٌّ منْ يَحْفَى وينْتَعِلُ
و «أن» واسمها وخبرها في محلِّ رفع خبراً للمبتدأ الأول، وزعم الجرجانيُّ: أن «أنْ» هنا زائدةٌ، والتقدير: وآخرُ دعواهم الحمدُ الله، وهي دعوى لا دليل عليها، مخالفةٌ لنص سيبويه والنحويِّين، وزعم المبرِّد أيضاً: أنَّ «أنْ» المخففة يجُوز إعمالها مخففة، كهي مشدَّدةً، وقد تقدَّم ذلك.
وتخفيفُ «أنْ»، ورفع «الحَمْدُ» هي قراءةُ العامة، وقرأ عكرمة، وأبو مجلز، وأبو حيوة، وقتادة، ومجاهد، وابن يعمر، وبلال بن أبي بردة، وابن محيصن ويعقوب بتشديدها، ونصب «الحَمْد» على أنَّهُ اسمها؛ وهذه تُؤيِّدُ أنَّها المخففةُ في قراءة العامَّة، وتردُّ على الجُرجاني، ومعنى الآية: أنَّ أهل الجنَّة يفتتحُون كلامهم بالتَّسبيحِ، ويختمُونَهُ بالتَّحْميدِ.
273
قوله :" دَعْوَاهُمْ " مبتدأ، و " سُبْحانَكَ " معمول لفعل مقدَّر لا يجوز إظهاره هو الخبر، والخبرُ هنا هو نفسُ المبتدأ، والمعنى : أن دعاؤهم هذا اللفظ، ف " دَعْوَى " يجوزُ أن يكون بمعنى الدعاء، ويدلُّ عليه " اللَّهُمَّ " ؛ لأنَّه نداء في معنى يا الله، يقال :" دَعَا يَدْعُو دُعَاء ودَعْوَى "، كما يقال :" شكى يَشْكُو شِكَايةً وشَكْوى "، ويجوز أن يكون الدُّعاء هنا بمعنى العبادة، نظيره قوله تعالى :﴿ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله ﴾ [ مريم : ٤٨ ] أي : وما تعبدون، ف " دَعْوَى " : مصدرٌ مضاف للفاعل، ثم إن شئتَ أن تجعل هذا من باب الإسناد اللفظي، أي : دعاؤهُم في الجنَّة هذا اللفظُ بعينه، فيكون نفسُ " سُبْحانَكَ " هو الخبر، وجاء به مَحْكيّاً على نصبه بذلك الفعل، وإن شئتَ جعلتهُ من باب الإسناد المعنوي ؛ فلا يلزمُ أن يقولوا هذا اللفظ فقط، بل يقولونه وما يؤدِّي معناه من جَميع صفات التنزيه والتَّقديس، وقد تقدَّم نظير هذا عند قوله تعالى :﴿ وَقُولُواْ حِطَّةٌ ﴾ [ البقرة : ٥٨ ].
وقيل : المراد من الدَّعْوَى : نفس الدَّعوى التي تكون للخَصْمِ على خَصْمِه.
والمعنى : أنَّ أهل الجنَّة يدعون في الدُّنيا وفي الآخرة تنزيه الله عن كل المعايب، والإقرار له بالإلهيَّة.
قال القفال : وأصل ذلك من الدُّعاء، لأن الخصم يدعُو خصمهُ إلى من يحكم بينهما.
قال أبو مسلم :" دَعْوَاهُمْ " أي : فعلهم وإقرارهم، ونداؤهُم هو قولهم " سُبْحَانَكَ اللهم " قال القاضي :" دَعْواهُمْ " أي : طريقتهم في تمجيد الله وتقديسه وشأنهم وسنَّتهم ؛ لأنَّ قوله " سُبْحَانَكَ اللهم " ليس بدعاءٍ ولا بدعوى، إلاَّ أنَّ المُدَّعي للشيء يكون مواظباً على ذكره، لا جرم جعل لفظ " الدَّعْوى " كناية عن تلك المواظبة والملازمة. فأهلُ الجنَّة لمَّا كانُوا مواظبين على هذا الذكر، أطلق لفظ " الدَّعْوَى " عليهم، وقال القفال : قيل في قوله :﴿ وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ ﴾ [ يس : ٥٧ ] أي : ما يتمنونهُ، والعرب تقول : ادع ما شئت عليّ أي : تمنّ ما شِئْتَ.
وقال ابن جريج : أخبرت أن قوله ﴿ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللهم ﴾ : هو أنَّه إذا مرَّ بهم طيرٌ يشتهونه، قالوا : سبحانك اللَّهُمَّ، فيأتيهم الملك بذلك المشتهى. قال ابن الخطيب :" وفيه وجه آخر : وهو أن يكون المعنى : أنَّ تمنيهم في الجنَّة أن يسبحوا الله - تعالى -، أي : تمنيهم لما يتمنَّونهُ، ليس إلاَّ في تسبيح الله، وتقديسه، وتنزيهه ".
قوله :" سُبْحَانَكَ اللهم " قال بعض المفسِّرين : إنَّ أهل الجنَّة جعلوا هذا الذِّكر علامة على طلب المشتهيات فيؤتَوْنَ بذلك المشتهى فإذا نالوا من شهرتهم، قالوا :﴿ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين ﴾، وضعف ابن الخطيبِ هذا من وجوهٍ :
أحدها : أنَّ حاصل هذا الكلام يرجع إلى أنَّ أهل الجنَّة جعلوا هذا الذِّكر العالي المُقدَّس علامة على طلب المأكول والمنكوح، وهذا في غاية الخساسة.
وثانيها : أنَّه - تعالى - قال في صفة أهل الجنة ﴿ وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ ﴾ [ النحل : ٥٧ ]، فإذا اشتهوا أكل ذلك الطَّيْر، فلا حاجة بهم إلى الطَّلب، فسقط هذا الكلام.
وثالثها : أنَّ هذا صرف للكلام عن ظاهره الشريف العالي، إلى محل خسيس لا إشعار للفظ به. وإنما المرادُ : أنَّ اشتغالَ أهل الجنَّة بتقديس الله - سبحانه -، وتحميده، والثناء عليه ؛ لأنَّ سعادتهم، وابتهاجهم، وسرورهم بهذا الذِّكر.
قال القاضي١ : إنَّه - تعالى - لمَّا وعد المتَّقين بالثَّواب العظيم، في قوله أوَّل السورة :
﴿ لِيَجْزِيَ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات بالقسط ﴾ [ يونس : ٤ ]، فإذا دخل أهلُ الجنَّة الجنَّة، ووجدوا تلك النعم العظيمة، عرفوا أن الله - تعالى - كان صادقاً في وعده إياهم بتلك النعم، فعند هذا قالوا :" سُبْحَانَكَ اللهم " أي : سبحانك من الخلف في الوعد، والكذب في القول.
قوله :" وَتَحِيَّتُهُمْ " مبتدأ، و " سَلاَمٌ " خبره، وهو كالذي قبله، والمصدر هنا يحتمل أن يكون مضافاً لفاعله، أي : تحيَّتهم التي يُحيُّون بها بعضهم سلامٌ.
ويحتمل أن يكون مضافاً لمفعوله، أي : تحيَّتهُم التي تُحَيِّيهم بها الملائكةُ سلامٌ ؛ ويدلُّ له قوله :﴿ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم ﴾ [ الرعد : ٢٣، ٢٤ ]، و " فيهَا " في الموضعين متعلقٌ بالمصدر قبله. وقيل : يجوز أن يكون حالاً ممَّا بعده، فيتعلَّق بمحذوفٍ، وليس بذاك، وقال بعضهم : يُحَيِّي بعضهم بعضاً، ويكون كقوله - تعالى - :﴿ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ ﴾ [ الأنبياء : ٧٨ ]، حيث أضافهُ ل " داود وسليمان "، وهما الحاكمان، وإلى المحكوم عليه، وهذا مبنيٌّ على مسألة أخرى، وهي أنَّه : هل يجوز الجمع بين الحقيقة والمجاز أم لا ؟.
فإن قلنا : نعم، جاز ذلك، لأنَّ إضافة المصدر لفاعله حقيقةٌ، ولمفعوله مجاز، ومنْ منعَ ذلك، أجاب : بأنَّ أقلَّ الجمع اثنان، فلذلك قال :" لِحُكْمِهِمْ ".
قوله :" وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ " مبتدأ، و " أنْ " : هي المخففة من الثَّقيلة، واسمها ضمير الأمر والشَّأن حذف، والجملةُ الاسمية بعدها في محلِّ الرفع خبراً لها ؛ كقول الشَّاعر :[ البسيط ]
فِي فِتْيَةٍ كسُيُوفِ الهِنْدِ قَدْ علمُوا أنْ هالكٌ كُلٌّ منْ يَحْفَى وينْتَعِلُ٢
و " أن " واسمها وخبرها في محلِّ رفع خبراً للمبتدأ الأول، وزعم الجرجانيُّ : أن " أنْ " هنا زائدةٌ، والتقدير : وآخرُ دعواهم الحمدُ لله، وهي دعوى لا دليل عليها، مخالفةٌ لنص سيبويه والنحويِّين، وزعم المبرِّد أيضاً : أنَّ " أنْ " المخففة يجُوز إعمالها مخففة، كهي مشدَّدةً، وقد تقدَّم ذلك.
وتخفيفُ " أنْ "، ورفع " الحَمْدُ " هي قراءةُ العامة، وقرأ عكرمة٣، وأبو مجلز، وأبو حيوة، وقتادة، ومجاهد، وابن يعمر، وبلال بن أبي بردة، وابن محيصن ويعقوب بتشديدها، ونصب " الحَمْد " على أنَّهُ اسمها ؛ وهذه تُؤيِّدُ أنَّها المخففةُ في قراءة العامَّة، وتردُّ على الجُرجاني، ومعنى الآية : أنَّ أهل الجنَّة يفتتحُون كلامهم بالتَّسبيحِ، ويختمُونَهُ بالتَّحْميدِ.
١ ينظر: تفسير الفخر الرازي ١٧/٣٧..
٢ تقدم..
٣ ينظر: إتحاف ٢/١٠٤-١٠٥، الكشاف ٢/٧٣٣١ المحرر الوجيز ٣/١٠٨، البحر المحيط ٥/١٣٢، الدر المصون ٤/١٠..
قوله تعالى: ﴿وَلَوْ يُعَجِّلُ الله... ﴾ الآية.
هذا الامتناعُ نفيٌ في المعنى، تقديره: لا يُعَجِّلُ الله لهم الشَّر، قال الزمخشري: «فإن قلت: كيف اتَّصل به قوله: ﴿فَنَذَرُ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا﴾، وما معناها؟ قلت: قوله» وَلَوْ يُعَجِّلْ «متضمِّن معنى نفي التَّعجيلِ، كأنَّه قيل: ولا نُعَجِّل لهم بالشَّرِّ، ولا نقضي إليهم أجلهم».
قوله «استعجالهم» فيه أوجهٌ:
أحدها: أنَّه منصوبٌ على المصدر التَّشبيهيِّ، تقديره: استعجالاً مثل استعجالهم، ثُمَّ حذف الموصوف، وهو «اسْتِعْجَال»، وأقام صفته مقامه، وهي «مِثل»، فبقي: ولو يعجِّل الله مثل استعجالهم، ثم حذف المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه، قال مكِّي: «وهذا مذهبُ سيبويه»، وقد تقدَّم مراراً أنَّ مذهب سيبويه في هذا، أنَّه منصوبٌ على الحالِ من ذلك المصدرِ المُقدَّرِ، وإن كان مشهورُ أقوالِ المُعْربين غيره، ففي نسبةِ ما ذكرناه أولاً لسيبويه نظرٌ.
273
والثاني: أن تقديره: تعجيلاً مثل استعجالهم، ثم فعل به ما تقدَّم قبله، وهذا تقديرُ أبي البقاء، فقدَّر المحذوف مطابقاً للفعل الذي قبلهُ؛ فإنَّ «تَعْجِيلاً» مصدر ل «عَجّلَ»، وما ذكره مكِّي موافقٌ للمصدر الذي بعده.
والذي يظهر؛ ما قدَّره أبو البقاء؛ لأنَّ موافقة الفعل أولى، ويكون قد شبَّه تعجيله تعالى باستعجالهم، بخلاف ما قدَّره مكِّ]، فإنَّه لا يظهر؛ إذ ليس «اسْتِعْجَال» مصدراً ل «عَجَّل»، وقال الزمخشري: «أصله: ولو يعجِّل الله للنَّاس الشرَّ تعجيله لهم الخير، فوضع» اسْتِعْجَالهُم بالخَيْرِ «موضع تعجيله لهم الخبرَ؛ إشعاراً بسُرعةِ إجابته لهُمْ وإسعافه بطلبهم، كأنَّ استعجالهُم بالخير تعجيلٌ لهُم»، قال أبو حيَّان: «ومدلُولُ» عَجَّل «غير مدلول» اسْتَعْجَل «؛ لأنَّ» عَجَّل «يدلُّ على الوقوع، و» اسْتَعْجَل «يدلُّ على طلب التَّعجيل، وذلك واقعٌ من الله - تعالى -، وهذا مضافٌ إليهم، فلا يكون التقدير على ما قاله الزمخشري، فيحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون التقدير: تَعْجِيلاً مثل استعجالهم بالخير، فشبَّه التَّعجيل بالاستعجالِ؛ لأنَّ طلبهم للخَيْر، ووقوع تعجيله مقدَّمٌ عندهم على كلِّ شيء.
والثاني: أن يكون ثمَّ محذوفٌ يدلُّ عليه المصدر تقديره: ولو يُعَجِّل اللهُ للنَّاسِ الشرَّ، إذا استعجلوا به اسْتعْجَالهُم بالخير؛ لأنَّهم كانوا يَسْتَعْجِلُون بالشرِّ ووقوعه على سبيل التَّهكم، كما كانُوا يَسْتعجلُون بالخير»
.
الثالث: أنَّه منصوبٌ على إسقاط الخافض، وهو كاف التَّشبيه، والتقدير: كاستعجالهم.
قال أبُو البقاء: «وهو بعيدٌ؛ إذ لو جاز ذلك، لجاز» زيدٌ غلام عمرو «أي: كغلام عمرو». وبهذا ضعَّفهُ جماعةٌ، وليس بتضعيفٍ صحيحٍ؛ إذ ليس في المثال الذي ذكر فعلٌ يتعدَّى بنفسه عند حذف الجارِّ، وفي الآية فعلٌ يَصِحُّ فيه ذلك، وهو قوله: «يُعَجل»، وقال مكِّي: «ويَلزَمُ مَنْ يجُوِّز حذفَ حرفِ الجر منه، أن يُجيز» زيدٌ الأسدُ «، أي: كالأسد».
قال شهابُ الدِّين: «قوله: ويَلْزَمُ.. إلى آخره»، لا رَدَّ فيه على هذا القائل، إذ يلتزمه، وهو التزامٌ صحيحٌ سائغٌ؛ إذ لا يُنكِرُ أحَدٌ «زيدٌ الأسد»، على معنى: كالأسَد، وعلى تقدير التَّسليم، فالفرقُ ما ذكره أبو البقاء، أي: إنَّ الفعل يطلب مصدراً مُشَبَّهاً، فصار مدلُولاً عليه.
وقال بعضهم: تقديره: في استعجالهم؛ نقله مكِّي، فلمَّا حذفت «في» انتصبَ، وهذا لا معنى له، وقال البغوي: المعنى «ولو يُعَجِّل الله إجابة دعائهم في الشرِّ والمكروه استعجالهم بالخير، أي: كما يحبُّون استعجالهم بالخير».
274
وقال القرطبي: قال العلماء: التَّعجيلُ من الله، والاستعجال من العبدِ، وقال أبو عليّ: هُمَا من الله.

فصل


في كيفية النَّظم وجوه:
أحدها: قال ابن الخطيب: «إنَّه ابتدَأ السورة بذكر شُبُهَاتِ المنكرينَ للنُّبوَّة مع الجواب عنها:
فالشبهة الأولى: أنَّ القوم تعجَّبُوا من تخصيص الله محمداً بالنُّبوة، فأزال الله ذلك التعجُّب بقوله: ﴿أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إلى رَجُلٍ مِّنْهُمْ﴾ [يونس: ٢]، ثم ذكر دلائل التَّوحيد، ودلائل صحَّة المعاد.
وحاصل الجواب أن يقول: إنِّي ما جئتُكُم إلاَّ بالتوحيد، والإقرار بالمعاد، وقد دَلَّلنا على صحتهما، فلمْ يَبْقَ للتعجُّب من نبوَّتِي معنى.
والشبهة الثانية: أنَّهم كانوا يقولون: اللَّهُمَّ إن كان ما يقول محمدٌ حقاً في ادِّعاء النُّبوَّة والرٍِّسالة، فأمطر علينا حجارة من السَّماء، أو ائتِنَا بعذابٍ أليمٍ، فأجاب الله - تعالى - عن هذه الشبهة بهذه الآية.
وثانيها: قال القاضي:»
لمَّا بيَّن الله - تعالى - الوعْد والوعِيدَ، أتبعهُ بما يدلُّ على أن من حقِّهما، أن يتأخَّرا عن ههذ الحياة الدُّنيويَّة؛ لأنَّ حصولهما في الدُّنيا، كالمانع من بقاءِ التَّكليف.
وثالثها: قال القفال: إنَّه لمَّا وصف الكفار بأنهم لا يرجون لقاء الله، ورضوا بالحياةِ الدُّنيا، واطمأنوا بها، وكانُوا عن آيات الله غافلين، بيَّن أنَّ من غفلتهم، أنَّ الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - متى أنذرهم استعجلوا العذاب جهلاً منهم وسفهاً.

فصل


أخبر - تعالى - في آيات كثيرة: أنَّ هؤلاء المشركين متى خُوفوا بنزول العذاب في الدُّنيا، استعجلوا ذلك العذاب، كقولهم: ﴿اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الأنفال: ٣٢]، وقوله تعالى: ﴿سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ﴾ [المعارج: ١] الآية، ثم إنهم لما توعدوا بعذاب الآخرة في هذه الآية، بقوله ﴿أولئك مَأْوَاهُمُ النار بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾ [يونس: ٨]، استعجلوا ذلك العذاب، وقالوا متى يحصل ذلك؟ كما قال - تعالى -: ﴿يَسْتَعْجِلُ بِهَا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا﴾
[الشورى: ١٨]، وقال بعد هذه الآية، في هذه السورة: ﴿وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ [يونس: ٤٨] ؛ إلى قوله ﴿الآنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ﴾ [يونس: ٥١] وقال - تعالى - في
275
سورة الرعد: ﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالسيئة قَبْلَ الحسنة وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ المثلات﴾ [الرعد: ٦].
فبيَّن - تعالى - أنه لا مصلحة في تعجيل إيصال الشرّ إليهم؛ لأنه - تعالى - لو أوصل ذلك إليهم لماتوا، لأن تركيبهم في الدنيا لا يحتمل ذلك ولا صلاح في إماتتهم، فربما آمنُوا بعد ذلك، أو خرج من صلبهم من يؤمن، وذلك يقتضي ألاَّ يُعَاجلهُم الله بإيصال الشرِّ إليهم.
وسمى العذاب شرّاً؛ لأنه أذى في حقِّ المعاقب، كما سماه سيئة في قوله: ﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالسيئة قَبْلَ الحسنة﴾ [الرعد: ٦]، وفي قوله: ﴿وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا﴾ [الشورى: ٤٠].
والمراد من استعجالهم الخير: أنَّهم كانوا عند نزول الشدائد يدعون الله بكشفها؛ لقوله: ﴿إِذَا مَسَّكُمُ الضر فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ﴾ [النحل: ٥٣]، ﴿فَإِذَا مَسَّ الإنسان ضُرٌّ دَعَانَا﴾ [الزمر: ٤٩].
قوله: «لقُضِيَ» قرأ ابنُ عامر: «لقَضَى» بفتح القاف مبنياً للفاعل، «أجلهم» بالنصب مفعولاً، والباقون: بالضمِّ والكسر مبنياً للمفعول، «أجلهم» رفعاً لقيامه مقام الفاعل، وقرأ الأعمش، ويعقوب، وعبد الله: «لقَضَيْنَا» مسنداً لضمير المُعَظِّم نفسه، وهي مؤيِّدةٌ لقراءةِ ابنِ عامرِ.

فصل


معنى ﴿لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ﴾ أي: لفرغ من هلاكهم ولماتُوا جميعاً، وقيل: إنَّها نزلت في النَّضر بن الحارث، حين قال: ﴿اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ﴾ [الأنفال: ٣٢] الآية. قوله: ﴿فَنَذَرُ الذين لاَ يَرْجُونَ﴾ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنَّه معطوفٌ على قوله: «ولوْ يُعجل اللهُ»، على معنى أنَّه في قُوَّة النَّفي، وقد تقدَّم تحقيقه في سؤال الزمخشري، وجوابه فيه، إلاَّ أنَّ أبا البقاء ردَّ عطفه على «يُعَجِّلُ»، فقال: «ولا يجُوزُ أن يكون معطوفاً على» يُعَجِّلُ «؛ إذ لو كان كذلك لدخل في الامتناع الذي تقتضيه» لَوْ «، وليس كذلك؛ لأنَّ التعجيل لم يقع، وتركهم في طغيانهم وقع».
قال شهاب الدِّين: «إنَّما يتمُّ هذا الرَّدُّ، لو كان معطوفاً على» يُعَجِّلُ «فقط، باقياً على معناه، وقد تقدَّم أنَّ الكلام صار في قُوَّة: لا نُعجل لهم الشَّرَّ: فنذرهم، فيكون» فَنَذَرُهُم «معطوفاً على جملة النَّفي، لا على الفعل الممتنع وحده، حتَّى يلزم ما قال».
والثاني: أنَّه معطوفٌ على جملةٍ مقدَّرة: أي: ولكن نمهلهم فنذر، قالهُ أبو البقاء.
276
والثالث: أن تكون جملة مستأنفة، أي: فنحنُ نذر الذين؛ قاله الحوفي.

فصل


المعنى: ﴿فَنَذَرُ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا﴾ : لا يخافون البعث، والحساب ﴿فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾.
قال أهل السنة: إنَّه - تعالى - لمَّا حكم عليهم بالطُّغيان والعمه، امتنع أن لا يكونوا كذلك، وإلا لزم أن يَنْقَلِبَ خبر الله تعالى الصِّدق كذباً، وعلمهُ جهلاً، وحكمه باطلاً، وكلّ ذلك محالٌ.
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضر﴾ : الجهد والشدة ﴿دَعَانَا لِجَنبِهِ﴾ أي: على جنبه مضطجعاً ﴿أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً﴾ يريد في جميع حالاته؛ لأنَّ الإنسان لا يعدُو إحدى هذه الحالات، وفي كيفية النظم وجهان:
الأول: أنه تعالى لمَّا بيَّن في الآية الأولى أنَّه لو أنزل العذاب على العبد في الدُّنيا، لهلك ولقُضِيَ عليه؛ فبيَّن في هذه الآية ما يدُلُّ على ضعفه، ونهاية عجزه؛ ليكون ذلك مؤكداً لما ذكره، من أنَّه لو أنزل عليه العذاب لمات.
الثاني: أنه - تعالى - حكى عنهم: أنَّهُم يستعجلُون نُزُول العذاب، فبيَّن في هذه الآية، أنَّهم كاذبُون في ذلك الاستعجال؛ لأنَّه لو نزل بالإنسان أدنى شيء يُؤذيه، فإنَّه يتضرَّعُ في إزالته عنه، فدلَّ على أنَّهُ ليس صادقاً في هذا الطَّلب.
قوله: «لِجَنْبِهِ» في محلِّ نصبٍ على الحال؛ ولذلك عطف الحال الصَّريحة عليه، والتقدير: دعانا مضطجعاً لجنبه، أو مُلْقياً لجنبه، واللاَّمُ على بابها عند البصريين، وزعم بعضهم: أنَّها بمعنى: «عَلَى»، ولا حاجة إليه، واختلف في صاحب الحال: فقيل: الإنسان والعامل فيها «مسَّ»، قاله ابن عطية، ونقله أبو البقاء عن غيره، واستضعفه من وجهين:
أحدهما: أنَّ الحال على هذا واقعةٌ بعد جواب «إذا»، وليس بالوجه، كأنه يعني: أنَّه ينبغي ألاَّ يجاب الشَّرطُ، إلاَّ إذا استوفى معمولاته، وهذه الحال معمولةٌ للشرط، وهو «مسَّ»، وقد أجيب قبل أن يستوفي معموله.
ثم قال: «والثاني: أن المعنى: كثرةُ دعائه في كلِّ أحواله، لا على أن الضُّرَّ يُصيبُهُ في كل أحواله، وعليه جاءت آياتٌ كثيرةٌ في القرآن»، وقال أبو حيَّان: «وهذا الثاني يلزم فيه من مسِّه الضُّرَّ، دعاؤه في هذه الأحوال؛ لأنَّه جوابُ ما ذكرت فيه هذه الأحوال، فالقَيْدُ في الشرط قيدٌ في الجواب، كما تقول: إذا جاءنا زيدٌ فقيراً أحْسَنَّا إليه، فالمعنى، أحْسَنَّا إليه في حال فَقْرِه».
وقيل: صاحبُ الحال هو الضمير الفاعل في «دعانا»، وهو واضحٌ، أي: دعانا في
277
جميع أحواله؛ لأنَّ هذه الأحوال الثلاثة لا يخلو الإنسان عن واحدةٍ منها.

فصل


قيل: المراد ب «الإنسان» هنا: الكَافِر.
وقيل: أبو حذيفة بن المغيرة، تصيبه البأساء والشدة والجهد، ﴿دَعَانَا لِجَنبِهِ﴾ أي: على جنبه مضطجعاً ﴿أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً﴾ وإنَّما أرادَ تسمية حالاته؛ لأنَّ الإنسانَ لا يعدُو هذه الحالات.
وقيل: وإنَّما بدأ بالمضطجع؛ لأنَّه بالضُّر أشدّ في غالب الأمْرِ، فهو يدعُو أكثر، والاجتهاد فيه أشدّ، ثمَّ القاعد ثم القَائم.
وقيل: المراد بالإنسان: الجنسُ، وهذه الأحوال بالنسبة إلى المجموع، أي: مِنْهم من يدعُو مُسْتلقياً، ومنهم مَنْ يدعُو قَائِماً، أو يرادُ به شخصٌ واحدٌ، جمع بين هذه الأحوال الثلاثة بحسب الأوقات، فيدعو في وقت على هذه الحال، وفي وقت على أخرى، والصحيحُ أنَّ المراد ب «الإنسان» : الجنس، وقال آخرون: كل موضع في القرآن ورد فيه ذكر الإنسان فالمراد به: الكافر، وهذا باطل؛ لقوله:
﴿يا أيها الإنسان إِنَّكَ كَادِحٌ إلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ﴾ [الإنشقاق: ٦، ٧] لا شبهة في أنَّ المؤمنَ داخلٌ، وكذا قوله: ﴿هَلْ أتى عَلَى الإنسان حِينٌ مِّنَ الدهر﴾ [الإنسان: ١]، وقوله: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ﴾ [المؤمنون: ١٢]، ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ﴾ [ق: ١٩]، والحقُّ: أنَّ اللفظ المفرد، المحلَّى بالألف واللام، إن حصل معهودٌ سابقٌ، صرف إليه، وإن لم يحصل معهودٌ سابقٌ، حمل على الاستغراق صوناً له عن الإجمال والتَّعطيل، وقال صاحبُ النَّظْم: قوله ﴿وَإِذَا مَسَّ الإنسان﴾ وضعهُ للمستقبل، وقوله: ﴿فَلَمَّا كَشَفْنَا﴾ للماضي، فهذا النَّظْمُ يدلُّ على أنَّ معنى الآية يدل: على أنَّهُ كان هكذا فيما مضى، وهكذا يكون في المستقبل، فدل ما في الآية من الفعل المستقبل على ما فيه من المعنى المستقبل، وما فيه من الماضي، على الماضي «.
قوله: ﴿كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ﴾ قد تقدَّم الكلامُ على مثل هذا، عند قوله: ﴿كَأَن لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ﴾ [النساء: ٧٣]، تقديره: كأنَّه لم يدعنا، ثم أسقط الضمير تخفيفاً، كقوله تعالى ﴿كَأَن لَّمْ يلبثوا﴾ [يونس: ٤٥] قال الزمخشري:»
فحذف ضمير الشَّأن؛ كقوله: [الهزج]
٢٨٨٠ -.............................. كأنْ ثَدْيَاهُ حُقَّانِ «
يعني: على رواية من رواه»
ثَدْيَاهُ «بالألف، ويروى:» كأن ثَدْيَيه «بالياء، على أنها أعملت في الظَّاهر، وهو شاذٌّ، وهذا البيت صدره: [الهزج]
278
٢٨٨١ - وَوجهٍ مُشْرقِ النَّحْرِ كَأنْ ثدْيَاهُ حقَّانِ
وهذه الجملةُ التَّشبيهيَّةُ: في محلِّ نصبٍ على الحال من فاعل» مرَّ «، أي: مضى على طريقته، مشبهاً من لم يدعُ إلى كشف ضُرٍّ، و» مسَّهُ «صفةً ل» ضُرّ «، وقيل:» مَرَّ «عن موقف الابتهال والتضرُّع لا يرجع إليه، ونسي ما كان فيه من الجهدِ والبلاء، كأن لم يدعنا، ولم يطلُب منَّا كشف ضُرِّه.
قوله: ﴿كذلك زُيِّنَ﴾ الكاف من»
كذلِكَ «في موضع نصب على المصدر، أي: مثل ذلك التَّزيين والإعراض عن الابتهال، وفاعل» زُيِّنَ «المحذوف: إمَّا الله - تعالى -، وإمَّا الشيطان، و ﴿مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ في محل رفع لقيامه مقام الفاعل، و» مَا «يجوز أن تكون مصدريَّة، وأن تكون بمعنى» الذي «.

فصل


قال أبو بكر الأصم: سُمّي الكافرُ مُسْرفاً؛ لأنَّه ضيَّع ماله ونفسه، أمَّا النَّفس، فإنه جعلها عبداً للوثن؛ وأمَّا المالُ؛ فلأنهم كانوا يُضَيِّعُون أموالهم في البحيرة، والسَّائبة، والوصيلة والحامِ.
وقيل: من كانت عادتُه كثرة التضرُّع والدعاء، عند نزول البلاء، وعند زوال البلاء بعرضُ عن ذكرِ الله وعن شكره، يكون مُسْرِفاً في أمر دينه، وقال ابن الخطيب:»
المُسرفُ هو الذي ينفقُ المال الكثير؛ لأجل الغرضِ الخسيس، ومعلومٌ أنَّ لذَّاتِ الدنيا وطيباتها خسيسةٌ جداً، في مقابلة سعادات الآخرة، والله - تعالى - أعطى الحواسَّ، والعقل والفهم، والقدرة، لاكتساب السعادات العظيمة الأخرويَّة، فمن بذل هذه الآلات العظيمة الشريفة؛ ليفوز بالسعادات الخسيسة، كان قد أنفق أشياء عظيمة؛ ليفوز بأشياء حقيرة؛ فوجب أن يكون من المسرفين «.
279
قوله تعالى :﴿ وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضر ﴾ : الجهد والشدة ﴿ دَعَانَا لِجَنبِهِ ﴾ أي : على جنبه مضطجعاً ﴿ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً ﴾ يريد في جميع حالاته ؛ لأنَّ الإنسان لا يعدُو إحدى هذه الحالات، وفي كيفية النظم وجهان :
الأول : أنه تعالى لمَّا بيَّن في الآية الأولى أنَّه لو أنزل العذاب على العبد في الدُّنيا، لهلك ولقُضِيَ عليه ؛ فبيَّن في هذه الآية ما يدُلُّ على ضعفه، ونهاية عجزه ؛ ليكون ذلك مؤكداً لما ذكره، من أنَّه لو أنزل عليه العذاب لمات.
الثاني : أنه - تعالى - حكى عنهم : أنَّهُم يستعجلُون نُزُول العذاب، فبيَّن في هذه الآية، أنَّهم كاذبُون في ذلك الاستعجال ؛ لأنَّه لو نزل بالإنسان أدنى شيء يُؤذيه، فإنَّه يتضرَّعُ في إزالته عنه، فدلَّ على أنَّهُ ليس صادقاً في هذا الطَّلب.
قوله :" لِجَنْبِهِ " في محلِّ نصبٍ على الحال ؛ ولذلك عطف الحال الصَّريحة عليه، والتقدير : دعانا مضطجعاً لجنبه، أو مُلْقياً لجنبه، واللاَّمُ على بابها عند البصريين، وزعم بعضهم : أنَّها بمعنى :" عَلَى "، ولا حاجة إليه، واختلف في صاحب الحال : فقيل : الإنسان والعامل فيها " مسَّ "، قاله ابن عطية، ونقله أبو البقاء عن غيره، واستضعفه من وجهين :
أحدهما : أنَّ الحال على هذا واقعةٌ بعد جواب " إذا "، وليس بالوجه، كأنه يعني : أنَّه ينبغي ألاَّ يجاب الشَّرطُ، إلاَّ إذا استوفى معمولاته، وهذه الحال معمولةٌ للشرط، وهو " مسَّ "، وقد أجيب قبل أن يستوفي معموله.
ثم قال :" والثاني : أن المعنى : كثرةُ دعائه في كلِّ أحواله، لا على أن الضُّرَّ يُصيبُهُ في كل أحواله، وعليه جاءت آياتٌ كثيرةٌ في القرآن "، وقال أبو حيَّان :" وهذا الثاني يلزم فيه من مسِّه الضُّرَّ، دعاؤه في هذه الأحوال ؛ لأنَّه جوابُ ما ذكرت فيه هذه الأحوال، فالقَيْدُ في الشرط قيدٌ في الجواب، كما تقول : إذا جاءنا زيدٌ فقيراً أحْسَنَّا إليه، فالمعنى، أحْسَنَّا إليه في حال فَقْرِه ".
وقيل : صاحبُ الحال هو الضمير الفاعل في " دعانا "، وهو واضحٌ، أي : دعانا في جميع أحواله ؛ لأنَّ هذه الأحوال الثلاثة لا يخلو الإنسان عن واحدةٍ منها.

فصل


قيل : المراد ب " الإنسان " هنا : الكَافِر.
وقيل : أبو حذيفة بن المغيرة، تصيبه البأساء والشدة والجهد، ﴿ دَعَانَا لِجَنبِهِ ﴾ أي : على جنبه مضطجعاً ﴿ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً ﴾ وإنَّما أرادَ تسمية حالاته ؛ لأنَّ الإنسانَ لا يعدُو هذه الحالات.
وقيل : وإنَّما بدأ بالمضطجع ؛ لأنَّه بالضُّر أشدّ في غالب الأمْرِ، فهو يدعُو أكثر، والاجتهاد فيه أشدّ، ثمَّ القاعد ثم القَائم.
وقيل : المراد بالإنسان : الجنسُ، وهذه الأحوال بالنسبة إلى المجموع، أي : مِنْهم من يدعُو مُسْتلقياً، ومنهم مَنْ يدعُو قَائِماً، أو يرادُ به شخصٌ واحدٌ، جمع بين هذه الأحوال الثلاثة بحسب الأوقات، فيدعو في وقت على هذه الحال، وفي وقت على أخرى، والصحيحُ أنَّ المراد ب " الإنسان " : الجنس، وقال آخرون : كل موضع في القرآن ورد فيه ذكر الإنسان فالمراد به : الكافر، وهذا باطل ؛ لقوله :﴿ يا أيها الإنسان إِنَّكَ كَادِحٌ إلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ﴾ [ الانشقاق : ٦، ٧ ] لا شبهة في أنَّ المؤمنَ داخلٌ، وكذا قوله :﴿ هَلْ أتى عَلَى الإنسان حِينٌ مِّنَ الدهر ﴾ [ الإنسان : ١ ]، وقوله :﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ ﴾ [ المؤمنون : ١٢ ]، ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ﴾ [ ق : ١٩ ]، والحقُّ : أنَّ اللفظ المفرد، المحلَّى بالألف واللام، إن حصل معهودٌ سابقٌ، صرف إليه، وإن لم يحصل معهودٌ سابقٌ، حمل على الاستغراق صوناً له عن الإجمال والتَّعطيل، وقال صاحبُ النَّظْم : قوله ﴿ وَإِذَا مَسَّ الإنسان ﴾ وضعهُ للمستقبل، وقوله :﴿ فَلَمَّا كَشَفْنَا ﴾ للماضي، فهذا النَّظْمُ يدلُّ على أنَّ معنى الآية يدل : على أنَّهُ كان هكذا فيما مضى، وهكذا يكون في المستقبل، فدل ما في الآية من الفعل المستقبل على ما فيه من المعنى المستقبل، وما فيه من الماضي، على الماضي ".
قوله :﴿ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ ﴾ قد تقدَّم الكلامُ على مثل هذا، عند قوله :﴿ كَأَن لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ ﴾ [ النساء : ٧٣ ]، تقديره : كأنَّه لم يدعنا، ثم أسقط الضمير تخفيفاً، كقوله تعالى ﴿ كَأَن لَّمْ يلبثوا ﴾ [ يونس : ٤٥ ] قال الزمخشري :" فحذف ضمير الشَّأن ؛ كقوله :[ الهزج ]
. . . *** كأنْ ثَدْيَاهُ حُقَّانِ " ١
يعني : على رواية من رواه " ثَدْيَاهُ " بالألف، ويروى :" كأن ثَدْيَيه " بالياء، على أنها أعملت في الظَّاهر، وهو شاذٌّ، وهذا البيت صدره :[ الهزج ]
وَوجهٍ مُشْرقِ النَّحْرِ *** كَأنْ ثدْيَاهُ حقَّانِ٢
وهذه الجملةُ التَّشبيهيَّةُ : في محلِّ نصبٍ على الحال من فاعل " مرَّ "، أي : مضى على طريقته، مشبهاً من لم يدعُ إلى كشف ضُرٍّ، و " مسَّهُ " صفةً ل " ضُرّ "، وقيل :" مَرَّ " عن موقف الابتهال والتضرُّع لا يرجع إليه، ونسي ما كان فيه من الجهدِ والبلاء، كأن لم يدعنا، ولم يطلُب منَّا كشف ضُرِّه.
قوله :﴿ كذلك زُيِّنَ ﴾ الكاف من " كذلِكَ " في موضع نصب على المصدر، أي : مثل ذلك التَّزيين والإعراض عن الابتهال، وفاعل " زُيِّنَ " المحذوف : إمَّا الله - تعالى -، وإمَّا الشيطان، و﴿ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ في محل رفع لقيامه مقام الفاعل، و " مَا " يجوز أن تكون مصدريَّة، وأن تكون بمعنى " الذي ".

فصل


قال أبو بكر الأصم : سُمّي الكافرُ مُسْرفاً ؛ لأنَّه ضيَّع ماله ونفسه، أمَّا النَّفس، فإنه جعلها عبداً للوثن ؛ وأمَّا المالُ ؛ فلأنهم كانوا يُضَيِّعُون أموالهم في البحيرة، والسَّائبة، والوصيلة والحامِ.
وقيل : من كانت عادتُه كثرة التضرُّع والدعاء، عند نزول البلاء، وعند زوال البلاء بعرضُ عن ذكرِ الله وعن شكره، يكون مُسْرِفاً في أمر دينه، وقال ابن الخطيب٣ :" المُسرفُ هو الذي ينفقُ المال الكثير ؛ لأجل الغرضِ الخسيس، ومعلومٌ أنَّ لذَّاتِ الدنيا وطيباتها خسيسةٌ جداً، في مقابلة سعادات الآخرة، والله - تعالى - أعطى الحواسَّ، والعقل والفهم، والقدرة، لاكتساب السعادات العظيمة الأخرويَّة، فمن بذل هذه الآلات العظيمة الشريفة ؛ ليفوز بالسعادات الخسيسة، كان قد أنفق أشياء عظيمة ؛ ليفوز بأشياء حقيرة ؛ فوجب أن يكون من المسرفين ".
١ تقدم..
٢ تقدم..
٣ ينظر: تفسير الفخر الرازي ١٧/٤٣..
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا القرون مِن قَبْلِكُمْ﴾ الآية.
279
لما حكى عنهم أنَّهم كانوا يقولون: ﴿اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً﴾ [الأنفال: ٣٢] الآية.
وأجاب بأن ذكر أنَّه: لا صلاح في إجابة دعائهم، ثم بيَّن أنَّهم كانوا كاذبين في هذا الطلب؛ لأنَّه لو نزلت بهم آفةٌ، تضرَّعُوا إلى الله تعالى في إزالتها، بيَّن ههنا ما يجري مجرى التهديد: وهو أنَّه تعالى قد أنزل بهم عذاب الاستئصال ولا يزيله عنهم؛ ليكون ذلك رَادعاً لهم عن قولهم: ﴿إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ﴾ [الأنفال: ٣٢] ؛ لأنَّهم متى سمعُوا أنَّ الله قد يجيبُ دعاءهم، وينزل بهم عذاب الاستئصال، ثم سمعوا من اليهُود والنَّصارى، أنَّ ذلك قد وقع مراراً كثيرة، صار ذلك رَادِعاً عن ذكر هذا الكلام.
قوله: «مِن قَبْلِكُمْ» متعلقٌ ب «أهْلَكْنَا»، ولا يجوز أن يكون حالاً من «القُرُون» ؛ لأنَّه ظرف زمانٍ، فلا يقعُ حالاً عن الجثَّة، كما لا يقع خبراً عنها، وقد تقدَّم تحقيقُ هذا أوَّل البقرة [البقرة: ٢١]، وتقدم الكلامُ على «لمَّا» [البقرة: ١٧]، قال الزمخشري: «لما» ظرف ل «أهْلَكْنَا»، و «وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم» يجوز أن يكون معطوفاً على «ظَلَمُوا»، فلا محلَّ له عند سيبويه، ومحلُّه الجر عند غيره؛ لأنَّه عطف على ما هو في محلِّ جرِّ بإضافة الظرف إليه، ويجوز أن يكون في محلِّ نصب على الحال، أي: ظلمُوا بالتَّكذيب، وقد جاءتهُم رُسُلُهم بالحُجَجِ والشَّوَاهدِ على صدقهم. و «بالبَيِّنَاتِ» يجوز أن يتعلَّق ب «جَاءتْهُم»، ويجوزُ أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ، على أنَّه حالٌ من «رُسلهُمْ»، أي: جاءُوا مُلتبسِين بالبيِّناتِ، مُصاحبين لها.
قوله: «وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ» يجوز عطفه على «ظَلَمُوا»، وهو الظَّاهرُ، وجوَّز الزمخشري أن يكون اعتراضاً قال: واللامُ لتأكيد نفي إيمانهم، ويعني بالاعتراض: كونه وقع بين الفعل، ومصدره التشبيهي في قوله: «كذلِكَ نَجْزِي» والضميرُ في «كانُوا» عائد على «القُرُون»، وجوَّز مقاتلٌ: أن يكون ضمير أهل مكة، وعلى هذا يكونُ التفاتاً، إذ فيه خُرُوجٌ من ضمير الخطابِ في قوله: «قَبْلِكُمْ»، إلى الغيبة، والمعنى: وما كنتم لتُؤمِنُوا.
و «كذلِكَ» نعتٌ لمصدرٍ محذوف، أي: مثل ذلك الجزاء نجزي. وقرىء «يَجْزِي» بياء الغيبة؛ وهو التفاتٌ من التكلُّم في قوله: «أهْلَكْنَا»، إلى الغيبةِ.
قوله: «ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ» أي: خلفاء «فِي الأرض مِن بَعْدِهِم» أي: من بعد القرون التي أهلكناهم، وهذا خطابٌ للذين بعث إليهم محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
قوله: «لِنَنظُرَ» متعلق بالجعل، وقرأ يحيى الذماري بنون واحدة، وتشديد الظَّاء، وقال يحيى: «هكذا رأيتُه في مصحف عثمان»، يعني: أنَّه رآها بنُون واحدة، ولا يعني أنَّهُ رآها مشددة؛ لأنَّ هذا الشَّكل الخاصَّ إنَّما حدث بعد عثمان، وخرجوها على إدغامِ النُّونِ
280
الثانية في الظَّاء، وهو رَدِيءٌ جداً، وأحسنُ ما يقال هنا: إنَّه بالغ في إخفاءِ غُنَّة النُّون السَّاكنة، فظنَّه السَّامع إدغاماً، ورؤيته له بنُونٍ واحدةٍ، لا يدلُّ على قراءته إيَّاه مشددة الظَّاءِ، ولا مُخَفَّفها.
قال أبو حيان: «ولا يدلُّ على حذف النُّون من اللفظِ» وفيه نظرٌ؛ لأنه كيف يقرأ ما لم يكن مكتوباً في المصحف الذي رآه؟ وقوله: «كَيْفَ» منصوبٌ ب «تَعْملُون» على المصدر، أي: أيَّ عملٍ تعملُون، وهي معلِّقة للنَّظر.
فإن قيل: كيف جاز النَّظرُ إلى الله تعالى وفيه معنى المقابلة؟
فالجواب: أنَّه استعير لفظُ النظرِ للعلم الحقيقيِّ، الذي لا يتطرَّقُ إليه الشَّكُّ، وشبه هذا العلم بنظرِ النظر، وعيان العاين.
فإن قيل: قوله: «لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ» مُشْعرٌ بأنَّ الله - تعالى - ما كان عالماً بأحوالهم قبل وجودهم.
فالجواب: أنَّه - تعالى - يعامل العباد معاملة من يطلب العلم بما يكون منهم؛ ليُجازيهُم بجنسه، كقوله: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾ [هود: ٧]، قال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «إنَّ الدُّنْيَا خضرةٌ حُلوةٌ وإنَّ الله مُستخْلفُكُمْ فيهَا فنَاظِرٌ كيف تعمَلُون»، قال الزجاج: «موضع» كيف «نصب بقوله:» تَعْمَلُون «؛ لأنَّها حرف استفهام، والاستفهام لا يعمل فيه ما قبله».
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ﴾ الآية.
روي عن ابن عبَّاس: أن خمسة من الكفار كانوا يستهزءون بالرَّسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وبالقرآن: الوليدُ بن المغيرة المخزومي، والعاص بن وائل السهمي، والأسود بن المطلب، والأسود بن عبد يغوث، والحارث بن حنظلة، فقتل الله - تعالى - كل واحدٍ منهم بطريقٍ، كما قال: ﴿إِنَّا كَفَيْنَاكَ المستهزئين﴾ [الحجر: ٩٥].
281
وقال مقاتل: هم خمسة: عبد الله بن أميَّة المخزومي، والوليد بن المغيرة، ومكرز بن حفص، وعمرو بن عبد الله بن أبي قيس العامري، والعاص بن عامر بن هشام، قالوا للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إن كنت تريد أن نؤمن بك، فأتِ بقرآنٍ ليس فيه تركُ عبادة اللاَّتِ، والعُزَّى، ومناة، وليسَ فيه عيبها، وإنْ لَمْ يُنْزلهُ الله، فقُلْ أنت من عند نفسك، أو بدله، فاجعل مكان آيةٍ عذابٍ آية رحمة، ومكان حرامٍ حلالاً، وحلال حراماً.
فإن قيل: إذا بدَّل هذا القرآن فقد أتى بغير هذا القرآن، وإذا كان كذلك، كان كلُّ واحدٍ من هذين الأمرين هو نفس الآخر، وممَّا يدلُّ على أنَّ كلَّ واحدٍ منهما عين الآخر: أنَّه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - اقتصر على الجواب بنفي أحدهما، فقال:
«ما يكونُ لِي أنْ أبدِّلهُ مِنْ تِلْقاءِ نفْسِي إنْ أتَّبعُ إلاَّ ما يُوحَى إليَّ»، فيكون التَّرديد فيه والتخيير باطلاً.
فالجواب: أنَّ أحد الأمرين غيرُ الآخر، فالإتيان بكتاب آخر، لا على ترتيب هذا القرآن ولا على نظمه، يكون إتياناً بقرآن آخر، وأمَّا إذا أتى بهذا القرآن، إلاَّ أنَّه وضع مكان ذمِّ بعض الأشياء مدحها، ومكان آية رحمةٍ آية عذابٍ، كان هذا تبديلاً، أو تقول: الإتيان بقُرآن غير هذا، هو أن يأتيهم بكتاب آخر سوى هذا الكتاب، والتبديل: هو أن يُغيِّر هذا الكتاب، مع بقاء هذا الكتاب.
وقوله: إنَّه اكتفى في الجواب بنفي أحد القسمين:
قلنا: إنَّ الجواب المذكُور عن أحد القسمين، هو عينُ الجواب عن القسم الثاني، فاكتفى بذكر أحدهما عن الآخر؛ لأنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - بيَّن، أنَّه لا يجُوز أن يُبدِّله من تلقاءِ نفسه؛ لأنَّه واردٌ من الله - تعالى -، ولا يقدر على مثله، كما لا يقدر على مثله سائر العرب؛ لأنَّ ذلك كان مُتقرراً عندهم، لمَّا تحدَّاهُم بالإتيانِ بمثله.
واعلم: أنَّ التماسهُم لهذا يحتمل أن يكون سُخْريةً واستهزاءً، ويحتمل أن يكوّن ذلك على سبيل الجدِّ، ويكون غرضهم: أنه إن فعل ذلك، علمُوا كذبه في قوله: إنَّ هذا القرآن منزَّلٌ عليه من عند الله، ويحتمل أن يكون التماسهم كتاباً آخر؛ لأن هذا القرآن مشتملٌ على ذم آلهتهم، والطَّعن في طرائقهم، فطلبُوا كتاباً آخر ليس فيه ذلك، أو يكونوا قد جوَّزُوا كون القرآن من عند الله، لكنَّهُم التمسُوا منه نسخَ هذا القرآن، وتبديله بقرآن آخر.
قوله: «تِلْقاءِ» مصدرٌ على تِفْعَال، ولم يجيءْ مصدر بكسر التَّاء، إلاَّ هذا والتِّبيان، وقُرِىء شاذّاً بفتح التَّاء، وهو قياسُ المصادر الدَّالة على التَّكرار، كالتَّطْواف، والتَّجوال، وقد يستعمل التِّلقاء بمعنى قُبالتُكَ، فينتصبُ انتصابَ الظُّرُوف المكانيَّة.
قوله: ﴿إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَيَّ﴾ لمَّا أمرهُ أن يقول: {مَا يَكُونُ لي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ
282
نفسي}، أمرهُ بأن يقُول: ﴿إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَيَّ﴾ فيما آمركم به، وأنهاكم عنه، وهذا يدلُّ على أنَّه لم يحكم قط بالاجتهاد.
وتمسَّك نفاة القياس بهذه الآية؛ لأنَّها تدلَّ على أنَّه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، ما حكم إلاَّ بالنَّصِّ. ثم قال: ﴿إني أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ قالت المعتزلة: هذا مشروطٌ بعدم التوبة.
قوله تعالى: ﴿قُل لَّوْ شَآءَ الله مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ﴾ الآية.
لمَّا اتَّهمُوه بأنَّه أتى بهذا الكتاب من عند نفسه، احتجَّ عليهم بهذه الآية؛ وذلك بأنَّهم كانُوا عالمين بأحواله، وأنَّه ما طالع كتاباً، ولا تتلمَذ لأستاذ، ثم بعد أربعين سنة، أتى بهذا الكتاب العظيم المُشتَمل على نفائس علم الأصُول، ودقائق علم الأحكام، ولطائف علم الأخلاق، وأسرار قصص الأوَّلين، وعجز عن معارضته العلماء، والفُصحاء، والبُلغاء، فكل من له عقلٌ سليمٌ يعرف أنَّ مثل هذا، لا يحصُل إلاَّ بالوحْي، والإلهام من الله - تعالى -، والمعنى: لو شاء الله ما أنزل القرآن عليَّ.
قوله: «وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ» أي ولا أعلمكم الله به، من دَريْتُ، أي: عَلِمْتُ.
ويقال: دَرَيْتُ بكذا وأدْرَيْتُكَ بكذا، أي: أحطت به بطريق الدِّراية، وكذلك في «عَلِمْتُ به» ؛ فتضمَّن العلمُ معنى الإحاطة، فتعَدَّى تعْديتَهَا.
وقرأ ابن كثير - بخلاف عن البزِّيِّ - «ولأدْرَاكم»، بلام داخلة على «أدْرَاكم» مُثبتاً، والمعنى: ولأعْلِمكُم به من غير وساطتي: إمَّا بواسطة ملكٍ، أو رسولٍ غيري من البشر، ولكنَّه خَصَّنِي بهذه الفضيلةِ، وقراءةُ الجمهور «لا» فيها مُؤكَّدَةٌ؛ لأنَّ المعطوف على المنفيِّ منفيٌّ، وليست «لا» هذه هي التي يُنفى بها الفعلُ؛ لأنَّه لا يصحُّ نفي الفعل بها إذا وقع جواباً، والمعطوفُ على الجواب جوابٌ، ولو قلت: «ول كان كذا لا كان كذا» لم يجُزْ، بل تقول «ما كَانَ كذا»، وقرأ ابنُ عبَّاس، والحسن، وابن سيرين، وأبو رجاء: «ولاَ أدْرَأكم» بهمزةٍ ساكنةٍ بعد الرَّاء، وفي هذه القراءة تخريجان:
أحدهما: أنها مبدلةٌ من ألف، والألفُ منقلبةٌ عن ياءٍ، لانفتاحِ ما قبلها وهي لغةٌ لعقيلٍ حكاها قطرب، يقولون في أعطيتُك: أعطأتُك.
وقال أبو حاتم: «قلب الحسنُ الياء ألفاً، كما في لغة بني الحرث، يقولون: علاكَ وإلاكَ، ثمَّ همز على لغة من قال في العالم: العألم».
283
وقيل: أبدلتِ الهمزة من نفس الياء، نحو: لَبَأتُ بالحجِّ، ورثَأتُ فلاناً، أي: لَبَّيْتُ ورَثَيْتُ.
والثاني: أنَّ الهمزة أصليَّة، وأنَّ اشتقاقه من الدَّرْء وهو الدَّفْع، كقوله: ﴿وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا العذاب﴾ [النور: ٨]، ويقال: أدْرَأته، أي: جعلته دَارئاً، والمعنى: ولأجعلنَّكم بتلاوته خُصماء تَدْرَؤونني بالجدال، قال أبُو البقاء: «وقيل هو غلط؛ لأنَّ قارئها ظَنَّ أنَّها من الدَّرْءِ وهو الدَّفْعُ؛ وقيل: ليس بغلطٍ، والمعنى: لو شاء اللهُ لدفعكم عن الإيمان به».
وقرأ شهر بن حوشب، والأعمش: «وَلاَأنذَرْتكُم» من الإنذار، وكذلك هي في مصحف عبد الله. قوله: «فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً» أي: حِيناً، وهو أربعون سنة، «مِّن قَبْلِهِ» أي: من قبل نُزُول القرآن، فقيل: الضَّمير في «قبلِه» يعود على النُّزول، وقيل: على القرآن، وقيل: على وقت النُّزُول، و «عُمُراً» مشبَّهٌ بظرف الزَّمان، فانتصب انتصابه، أي: مدة متطاولة، وقيل: هو على حذف مضافٍ، أي: مقدار عُمُر، وقرأ الأعمشُ: «عُمْراً» بسكون الميم، كقولهم «عَضْد» في «عَضُد».
ثم قال: «أَفَلاَ تَعْقِلُون» أنَّهُ ليس من قبلي، قال المفسِّرون: لبث النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشرَّف وكرَّم ومجدَّ وعظَّم فيهم قبل الوحْي أربعين سنة، ثم أوحي إليه، فأقام بمكَّة بعد الوحْي ثلاثة عشرة سنة، ثم هاجر إلى المدينة، فأقام بها عشر سنين، ثم تُوفي، وهو ابن ثلاث وستِّين سنة.
وروى أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: أنه أقام بمكَّة بعد الوحي عشر سنين، وبالمدينة عشر سنين، وتُوُفِّي وهو ابن ستين سنة، والأول أشهر وأظهر.
قوله تعالى: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً﴾ الآية.
قال القرطبي: «هذا استفهامٌ بمعنى الجحد، أي: لا أحد أظلم ممَّن افترى على الله الكذب، وبدّل وأضاف شيئاً إليه ممَّا لم ينزل»، والمعنى: أنَّ هذا القرآن لوْ لَمْ يكُن من عند الله، لما كان أحدٌ في الدُّنيا أظلم على نفسه منِّي، حيث افتريتُه على الله، ولمَّا أقمتُ الدَّليلَ على أنَّه ليس الأمر كذلك، بل هُو وحيٌ من الله - تعالى -، وجب أن يقال: إنَّه ليس في الدُّنيا أحد أجهل، ولا أظلم على نفسه منكم.
والمقصود: نَفْي الكذب عن نفسه.
وقوله: «... أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ» فالمراد: إلحاق الوعيد الشديد بهم؛ حيث أنكروا
284
دلائل الله - تعالى -، وكذَّبوا بآيات الله، وبمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وبالقرآن، ثم قال: «إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ المجرمون» أي: لا يَنْجُو المشركُون، وهذا تأكيدٌ لما سبق من هذين الكلامين.
285
قوله :" ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ " أي : خلفاء " فِي الأرض مِن بَعْدِهِم " أي : من بعد القرون التي أهلكناهم، وهذا خطابٌ للذين بعث إليهم محمد صلى الله عليه وسلم.
قوله :" لِنَنظُرَ " متعلق بالجعل، وقرأ يحيى١ الذماري بنون واحدة، وتشديد الظَّاء، وقال يحيى :" هكذا رأيتُه في مصحف عثمان "، يعني : أنَّه رآها بنُون واحدة، ولا يعني أنَّهُ رآها مشددة ؛ لأنَّ هذا الشَّكل الخاصَّ إنَّما حدث بعد عثمان، وخرجوها على إدغامِ النُّونِ الثانية في الظَّاء، وهو رَدِيءٌ جداً، وأحسنُ ما يقال هنا : إنَّه بالغ في إخفاءِ غُنَّة النُّون السَّاكنة، فظنَّه السَّامع إدغاماً، ورؤيته له بنُونٍ واحدةٍ، لا يدلُّ على قراءته إيَّاه مشددة الظَّاءِ، ولا مُخَفَّفها.
قال أبو حيان٢ :" ولا يدلُّ على حذف النُّون من اللفظِ " وفيه نظرٌ ؛ لأنه كيف يقرأ ما لم يكن مكتوباً في المصحف الذي رآه ؟ وقوله :" كَيْفَ " منصوبٌ ب " تَعْملُون " على المصدر، أي : أيَّ عملٍ تعملُون، وهي معلِّقة للنَّظر.
فإن قيل : كيف جاز النَّظرُ إلى الله تعالى وفيه معنى المقابلة ؟
فالجواب : أنَّه استعير لفظُ النظرِ للعلم الحقيقيِّ، الذي لا يتطرَّقُ إليه الشَّكُّ، وشبه هذا العلم بنظرِ النظر، وعيان العاين.
فإن قيل : قوله :" لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ " مُشْعرٌ بأنَّ الله - تعالى - ما كان عالماً بأحوالهم قبل وجودهم.
فالجواب : أنَّه - تعالى - يعامل العباد معاملة من يطلب العلم بما يكون منهم ؛ ليُجازيهُم بجنسه، كقوله :﴿ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ﴾ [ هود : ٧ ]، قال - عليه الصلاة والسلام - :" إنَّ الدُّنْيَا خضرةٌ حُلوةٌ وإنَّ الله مُستخْلفُكُمْ فيهَا فنَاظِرٌ كيف تعمَلُون " ٣، قال الزجاج :" موضع " كيف " نصب بقوله :" تَعْمَلُون " ؛ لأنَّها حرف استفهام، والاستفهام لا يعمل فيه ما قبله ".
١ ينظر: المحرر الوجيز ٣/١١٠، البحر المحيط ٥/١٣٥، الدر المصون ٤/١٣..
٢ ينظر: البحر المحيط ٥/١٣٥..
٣ أخرجه مسلم (٤/٢٠٩٨) كتاب الذكر والدعاء: باب أكثر أهل الجنة الفقراء حديث (٩٩/٢٧٤٢) وأحمد (٣/٤٦) والترمذي (٤/٤١٩) حديث (٢١٩١) وابن ماجه (٤٠٠٠) من طرق عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري.
وأخرجه البخاري (٣/٣٩٣) كتاب الزكاة: باب الاستعفاف عن المسألة حديث (١٤٧٢) من حديث حكيم بن حزام.
وأخرجه أبو يعلى (١١/٤٨٧) رقم (٦٦٠٦) من حديث أبي هريرة وقال الهيثمي (٣/١٠٢) وفيه داود بن العطار وفيه كلام.
وأخرجه أبو يعلى (١٣/١٩) رقم (٧٠٩٩) والطبراني في" "الكير" (٢٤/٢٤) رقم (٥٨) من حديث ميمونة.
وقال الهيثمي (١٠/٢٤٩- ٢٥٠): وفيه المثنى بن الصباح وهو ضعيف..

قوله تعالى :﴿ وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ ﴾ الآية.
روي عن ابن عبَّاس : أن خمسة من الكفار كانوا يستهزءون بالرَّسول - عليه الصلاة والسلام - وبالقرآن : الوليدُ بن المغيرة المخزومي، والعاص بن وائل السهمي، والأسود بن المطلب، والأسود بن عبد يغوث، والحارث بن حنظلة، فقتل الله - تعالى - كل واحدٍ منهم بطريقٍ، كما قال :﴿ إِنَّا كَفَيْنَاكَ المستهزئين ﴾ [ الحجر : ٩٥ ]١.
وقال مقاتل : هم خمسة : عبد الله بن أميَّة المخزومي، والوليد بن المغيرة، ومكرز بن حفص، وعمرو بن عبد الله بن أبي قيس العامري، والعاص بن عامر بن هشام، قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم إن كنت تريد أن نؤمن بك، فأتِ بقرآنٍ ليس فيه تركُ عبادة اللاَّتِ، والعُزَّى، ومناة، وليسَ فيه عيبها، وإنْ لَمْ يُنْزلهُ الله، فقُلْ أنت من عند نفسك، أو بدله، فاجعل مكان آيةٍ عذابٍ آية رحمة، ومكان حرامٍ حلالاً، وحلال حراماً٢.
فإن قيل : إذا بدَّل هذا القرآن فقد أتى بغير هذا القرآن، وإذا كان كذلك، كان كلُّ واحدٍ من هذين الأمرين هو نفس الآخر، وممَّا يدلُّ على أنَّ كلَّ واحدٍ منهما عين الآخر : أنَّه - عليه الصلاة والسلام - اقتصر على الجواب بنفي أحدهما، فقال :
" ما يكونُ لِي أنْ أبدِّلهُ مِنْ تِلْقاءِ نفْسِي إنْ أتَّبعُ إلاَّ ما يُوحَى إليَّ "، فيكون التَّرديد فيه والتخيير باطلاً.
فالجواب : أنَّ أحد الأمرين غيرُ الآخر، فالإتيان بكتاب آخر، لا على ترتيب هذا القرآن ولا على نظمه، يكون إتياناً بقرآن آخر، وأمَّا إذا أتى بهذا القرآن، إلاَّ أنَّه وضع مكان ذمِّ بعض الأشياء مدحها، ومكان آية رحمةٍ آية عذابٍ، كان هذا تبديلاً، أو تقول : الإتيان بقُرآن غير هذا، هو أن يأتيهم بكتاب آخر سوى هذا الكتاب، والتبديل : هو أن يُغيِّر هذا الكتاب، مع بقاء هذا الكتاب.
وقوله : إنَّه اكتفى في الجواب بنفي أحد القسمين :
قلنا : إنَّ الجواب المذكُور عن أحد القسمين، هو عينُ الجواب عن القسم الثاني، فاكتفى بذكر أحدهما عن الآخر ؛ لأنَّهُ - عليه الصلاة والسلام - بيَّن، أنَّه لا يجُوز أن يُبدِّله من تلقاءِ نفسه ؛ لأنَّه واردٌ من الله - تعالى -، ولا يقدر على مثله، كما لا يقدر على مثله سائر العرب ؛ لأنَّ ذلك كان مُتقرراً عندهم، لمَّا تحدَّاهُم بالإتيانِ بمثله.
واعلم : أنَّ التماسهُم لهذا يحتمل أن يكون سُخْريةً واستهزاءً، ويحتمل أن يكوّن ذلك على سبيل الجدِّ، ويكون غرضهم : أنه إن فعل ذلك، علمُوا كذبه في قوله : إنَّ هذا القرآن منزَّلٌ عليه من عند الله، ويحتمل أن يكون التماسهم كتاباً آخر ؛ لأن هذا القرآن مشتملٌ على ذم آلهتهم، والطَّعن في طرائقهم، فطلبُوا كتاباً آخر ليس فيه ذلك، أو يكونوا قد جوَّزُوا كون القرآن من عند الله، لكنَّهُم التمسُوا منه نسخَ هذا القرآن، وتبديله بقرآن آخر.
قوله :" تِلْقاءِ " مصدرٌ على تِفْعَال، ولم يجيءْ مصدر بكسر التَّاء، إلاَّ هذا والتِّبيان، وقرئ شاذّاً بفتح التَّاء، وهو قياسُ المصادر الدَّالة على التَّكرار، كالتَّطْواف، والتَّجوال، وقد يستعمل التِّلقاء بمعنى قُبالتُكَ، فينتصبُ انتصابَ الظُّرُوف المكانيَّة.
قوله :﴿ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَيَّ ﴾ لمَّا أمرهُ أن يقول :﴿ مَا يَكُونُ لي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ نفسي ﴾، أمرهُ بأن يقُول :﴿ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَيَّ ﴾ فيما آمركم به، وأنهاكم عنه، وهذا يدلُّ على أنَّه لم يحكم قط بالاجتهاد.
وتمسَّك نفاة القياس بهذه الآية ؛ لأنَّها تدلَّ على أنَّه - عليه الصلاة والسلام -، ما حكم إلاَّ بالنَّصِّ. ثم قال :﴿ إني أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾ قالت المعتزلة : هذا مشروطٌ بعدم التوبة.
١ ذكره الرازي في "تفسيره" (١٧/٤٥) عن ابن عباس..
٢ ذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٣٤٧)..
قوله تعالى :﴿ قُل لَّوْ شَآءَ الله مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ ﴾ الآية.
لمَّا اتَّهمُوه بأنَّه أتى بهذا الكتاب من عند نفسه، احتجَّ عليهم بهذه الآية ؛ وذلك بأنَّهم كانُوا عالمين بأحواله، وأنَّه ما طالع كتاباً، ولا تتلمَذ لأستاذ، ثم بعد أربعين سنة، أتى بهذا الكتاب العظيم المُشتَمل على نفائس علم الأصُول، ودقائق علم الأحكام، ولطائف علم الأخلاق، وأسرار قصص الأوَّلين، وعجز عن معارضته العلماء، والفُصحاء، والبُلغاء، فكل من له عقلٌ سليمٌ يعرف أنَّ مثل هذا، لا يحصُل إلاَّ بالوحْي، والإلهام من الله - تعالى -، والمعنى : لو شاء الله ما أنزل القرآن عليَّ.
قوله :" وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ " أي ولا أعلمكم الله به، من دَريْتُ، أي : عَلِمْتُ.
ويقال : دَرَيْتُ بكذا وأدْرَيْتُكَ بكذا، أي : أحطت به بطريق الدِّراية، وكذلك في " عَلِمْتُ به " ؛ فتضمَّن العلمُ معنى الإحاطة، فتعَدَّى تعْديتَهَا.
وقرأ١ ابن كثير - بخلاف عن البزِّيِّ - " ولأدْرَاكم "، بلام داخلة على " أدْرَاكم " مُثبتاً، والمعنى : ولأعْلِمكُم به من غير وساطتي : إمَّا بواسطة ملكٍ، أو رسولٍ غيري من البشر، ولكنَّه خَصَّنِي بهذه الفضيلةِ، وقراءةُ الجمهور " لا " فيها مُؤكَّدَةٌ ؛ لأنَّ المعطوف على المنفيِّ منفيٌّ، وليست " لا " هذه هي التي يُنفى بها الفعلُ ؛ لأنَّه لا يصحُّ نفي الفعل بها إذا وقع جواباً، والمعطوفُ على الجواب جوابٌ، ولو قلت :" ولو كان كذا لا كان كذا " لم يجُزْ، بل تقول " ما كَانَ كذا "، وقرأ ابنُ عبَّاس٢، والحسن، وابن سيرين، وأبو رجاء :" ولاَ أدْرَأكم " بهمزةٍ ساكنةٍ بعد الرَّاء، وفي هذه القراءة تخريجان :
أحدهما : أنها مبدلةٌ من ألف، والألفُ منقلبةٌ عن ياءٍ، لانفتاحِ ما قبلها وهي لغةٌ لعقيلٍ حكاها قطرب، يقولون في أعطيتُك : أعطأتُك.
وقال أبو حاتم :" قلب الحسنُ الياء ألفاً، كما في لغة بني الحرث، يقولون : علاكَ وإلاكَ، ثمَّ همز على لغة من قال في العالم : العألم ".
وقيل : أبدلتِ الهمزة من نفس الياء، نحو : لَبَأتُ بالحجِّ، ورثَأتُ فلاناً، أي : لَبَّيْتُ ورَثَيْتُ.
والثاني : أنَّ الهمزة أصليَّة، وأنَّ اشتقاقه من الدَّرْء وهو الدَّفْع، كقوله :﴿ وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا العذاب ﴾ [ النور : ٨ ]، ويقال : أدْرَأته، أي : جعلته دَارئاً، والمعنى : ولأجعلنَّكم بتلاوته خُصماء تَدْرَؤونني بالجدال، قال أبُو البقاء :" وقيل هو غلط ؛ لأنَّ قارئها ظَنَّ أنَّها من الدَّرْءِ وهو الدَّفْعُ ؛ وقيل : ليس بغلطٍ، والمعنى : لو شاء اللهُ لدفعكم عن الإيمان به ".
وقرأ شهر٣ بن حوشب، والأعمش :" وَلاَ أنذَرْتكُم " من الإنذار، وكذلك هي في مصحف عبد الله. قوله :" فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً " أي : حِيناً، وهو أربعون سنة، " مِّن قَبْلِهِ " أي : من قبل نُزُول القرآن، فقيل : الضَّمير في " قبلِه " يعود على النُّزول، وقيل : على القرآن، وقيل : على وقت النُّزُول، و " عُمُراً " ٤ مشبَّهٌ بظرف الزَّمان، فانتصب انتصابه، أي : مدة متطاولة، وقيل : هو على حذف مضافٍ، أي : مقدار عُمُر، وقرأ الأعمشُ :" عُمْراً " بسكون الميم، كقولهم " عَضْد " في " عَضُد ".
ثم قال :" أَفَلاَ تَعْقِلُون " أنَّهُ ليس من قبلي، قال المفسِّرون : لبث النبيُّ صلى الله عليه وسلم وشرَّف وكرَّم ومجدَّ وعظَّم فيهم قبل الوحْي أربعين سنة، ثم أوحي إليه، فأقام بمكَّة بعد الوحْي ثلاثة عشرة سنة، ثم هاجر إلى المدينة، فأقام بها عشر سنين، ثم تُوفي، وهو ابن ثلاث وستِّين سنة.
وروى أنس - رضي الله عنه - : أنه أقام بمكَّة بعد الوحي عشر سنين، وبالمدينة عشر سنين، وتُوُفِّي وهو ابن ستين سنة٥، والأول أشهر وأظهر.
١ ينظر: السبعة ص (٣٢٤)، الحجة ٤/٢٥٩، حجة القراءات ص (٣٢٨)، إعراب القراءات ١/٢٦٣، إتحاف ٢/١٠٥..
٢ ينظر: إتحاف ٢/١٠٦، الكشاف ٢/٣٣٥، المحرر الوجيز ٣/١١٠، البحر المحيط ٥/١٣٧، الدر المصون ٤/١٤..
٣ ينظر: السابق..
٤ ينظر: الكشاف ٢/٣٣٥، البحر المحيط ٥/١٣٧، الدر المصون ٤/١٤..
٥ أخرجه البخاري (٣٥٤٧، ٣٥٤٨، ٥٩٠٠) ومسلم رقم (١١٣/٢٣٤٧) والترمذي (٣٦٢٣) وفي الشمائل (٣٨٤) وعبد الرزاق (٦٧٨٦) ومالك (٢/٩١٩) وأحمد (٣/٢٤٠) وأبو يعلى (٣٥٧٢، ٢٥٩٠، ٣٦٣٧، ٣٦٣٨، ٣٦٤٠) والطبراني في "الصغير" (١/١١٨) وابن حبان (٨/١٠١) رقم (٦٣٥٣) والبيهقي في "دلائل النبوة" (٧/٢٣٦) من طرق عن أنس بن مالك..
قوله تعالى :﴿ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً ﴾ الآية.
قال القرطبي١ :" هذا استفهامٌ بمعنى الجحد، أي : لا أحد أظلم ممَّن افترى على الله الكذب، وبدّل وأضاف شيئاً إليه ممَّا لم ينزل "، والمعنى : أنَّ هذا القرآن لوْ لَمْ يكُن من عند الله، لما كان أحدٌ في الدُّنيا أظلم على نفسه منِّي، حيث افتريتُه على الله، ولمَّا أقمتُ الدَّليلَ على أنَّه ليس الأمر كذلك، بل هُو وحيٌ من الله - تعالى -، وجب أن يقال : إنَّه ليس في الدُّنيا أحد أجهل، ولا أظلم على نفسه منكم.
والمقصود : نَفْي الكذب عن نفسه.
وقوله :". . . أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ " فالمراد : إلحاق الوعيد الشديد بهم ؛ حيث أنكروا دلائل الله - تعالى -، وكذَّبوا بآيات الله، وبمحمد صلى الله عليه وسلم، وبالقرآن، ثم قال :" إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ المجرمون " أي : لا يَنْجُو المشركُون، وهذا تأكيدٌ لما سبق من هذين الكلامين.
١ ينظر: تفسير القرطبي ٨/٢٠٥..
قوله تعالى: ﴿وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَضُرُّهُمْ﴾ الآية.
لمَّا طلبُوا تبديل القرآن؛ لأنَّه مشتملٌ على ذمِّ الأصنامِ التي اتَّخذُوها آلهةً، ذكر في هذا الموضع قبح عبادة الأصنام، ليُبيِّنَ تحقيرَها.
قوله: «مَا لاَ يَضُرُّهُمْ» :«ما» موصولةٌ، أو نكرةٌ موصوفةٌ، وهي واقعةٌ على الأصنامِ، ولذلك راعى لفظها، فأفرد في قوله «مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ»، وراعى معناها فجمع في قوله: «هؤلاء شُفَعَاؤُنَا».

فصل


المعنى: ما لا يضُرُّهُمْ إن عصوه، وتركُوا عبادته، ولا ينفعهم إن عبدوه، يعني: الأصنام ﴿وَيَقُولُونَ هؤلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ الله﴾، فقيل: إنَّهم اعتقدُوا أنَّ المُتولِّي لكل إقليم، روح معيَّن من أرواح الأفلاك، فعيَّنُوا لذلك الرُّوح صنماً معيَّناً، واشتغلوا بعبادة ذلك الصَّنَم، ومقصودهم عبادةُ ذلك الرُّوح، ثم اعتقدُوا أن ذلك الرُّوح، يكون عبداً للإله الأعظم، ومشتغلاً بعبوديَّته.
وقيل: إنَّهم كانُوا يعبدُون الكواكب، فوضعُوا لها أصناماً مُعَيَّنة واشتغلوا بعبادتها، ومقصودُهُم عبادةُ الكواكبِ، وقيل: إنَّهم وضعُوا طلَّسْمَاتٍ معينةً على تلك الأوثان والأصنام، ثم تقرَّبوا إليها.
وقيل: إنَّهُم وضعوا هذه الأوثان والأصنام، على صور أنبيائهم، وأكابرهم، وزعمُوا أنَّهُم متى اشتغلُوا بعبادةِ هذه التماثيل، فإنَّ أولئك الأكابر تكون شفعاء لهم عند الله.
قوله: «قُلْ أَتُنَبِّئُونَ» قرأ بعضهم: «أتُنْبِئُونَ» مخففاً من «أنْبَأ»، يقال: أنْبَأ ونَبَّأ كأخْبرَ وخبَّرَ، وقوله: «بِمَا لاَ يَعْلَمُ» «مَا» موصولةٌ، أو نكرة موصوفة كالتي تقدَّمت، وعلى كلا التقديرين: فالعائدُ محذوفٌ، أي: يعلمُهُ، والفاعلُ هو ضمير الباري - تعالى -، والمعنى: أتُنَبِّئُونَ الله بالمعنى الذي لا يعلمُهُ إلاَّ الله، وإذا لم يعلم الله شيئاً، استحال وجودُ ذلك الشيء؛
285
لأنَّه - تعالى - لا يغربُ عن علمه شيءٌ، وذلك الشيء هو الشَّفاعة، ف «مَا» عبارة عن الشفاعة.
والمعنى: أنَّ الشَّفاعة لو كانت لعلمها الباري - تعالى -، ومثل هذا الكلام مشهورٌ في العرف، فإنَّ الإنسان إذا أراد نفي شيء عن نفسه، يقول: ما علم الله هذا منِّي، ومقصوده: أنَّ ذلكَ ما حصل أصلاً.
وقوله: ﴿فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض﴾ تأكيدٌ لنفيه؛ لأنَّ كلَّ موجودٍ لا يخرج عنهما. ويجوز أن تكون «مَا» عبارة عن الأصنام، وفاعل «يَعْلَمُ» : ضميرٌ عائدٌ عليها.
والمعنى: أتُعلمون الله بالأصنامِ، التي لا تعلم شيئاً في السموات ولا في الأرض، وإذا ثبت أنها لا تعلم، فكيف تشفع؟ والشافع لا بدَّ وأن يعرف الشمفوع عنده، والمشفوع له؛ هكذا أعربه أبو حيَّان، فجعل «مَا» عبارة عن الأصنام، لا عن الشَّفاعة، والأول أظهر، و «مَا» في «عمَّا يُشْركُونَ» يحتمل أن تكون بمعنى: «الَّذي» أي: عن شركائهم الذين يشركونهم به في العبادة، أو مصدريةٌ، أي: عن إشراكهم به غيرهم، وقرأ الأخوان هنا «عمَّا يُشْرِكُونَ»، وفي النَّحْل موضعين:
الأول:
﴿عَمَّا يُشْرِكُونَ يُنَزِّلُ الملاائكة﴾ [النحل: ١، ٢].
الثاني: ﴿بالحق تعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [النحل: ٣].
وفي الروم: ﴿هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ مِّن شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [الروم: ٤٠] بتاء الخطاب، والباقون بالغيبة في الجميع، وهما واضحتان، وأتى هنا ب «يَشْرِكثونَ» مضارعاً دون الماضي، تنبيهاً على استمرار حالهم كما جاءُوا يعبدون، وتنبيهاً أيضاً على أنَّهم على الشرك في المستقبل، كما كانوا عليه في الماضي.
قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ الناس إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ الآية.
لمَّا أقامَ الدَّلالة على فسادِ القول بعبادة الأصنام؛ بيَّن السَّبب في كيفية حدوث هذه المسألة الباطلة، فقال: ﴿وَمَا كَانَ الناس إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ أي: على الدِّين الحقِّ؛ لأن المقصود من هذه الآية، بيان كون الكفر باطلاً؛ لأنَّ قوله: ﴿كَانَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ [البقرة: ٢١٣] في الإسلام أو في الكفر، ولا يجوزُ أن يكونوا أمَّةً واحدة في الكفر، فبقي أنَّهُم كانوا أمَّة واحدة في الإسلام، لقوله - تعالى -: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ﴾ [النساء: ٤١]، وشهيدُ الله لا بدَّ وأن يكون مُؤمناً، فثبت أنَّهُ لم تخل أمَّة من الأممِ، إلا وفيهم مؤمنٌ.
وقد وردت الأحاديث، بأنَّ الأرض لا تخلُو عمَّن يعبد الله - عزَّ وجلَّ -، وعن أقوام بهم يمطرُ أهل الأرض، فثبت أنَّهُم ما كانُوا أمَّة واحدة في الكفر، فيكونوا أمَّة
286
واحدة في الإيمان، ثم اختلفوا أنهم متى كانوا كذلك؟ فقال ابن عباس، ومجاهد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: كانوا على عهد آدمَ وولده صلوات الله البرِّ الرحيم والملائكة المقربين عليهما وسلامه دائماً، واختلفوا عند قتل أحد ابنيه للآخر.
وقيل إنَّهم بقُوا على الإيمان إلى زمن نوح - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، ثم اختلفوا على عهد نوح، فبعث الله إليهم نُوحاً.
وقيل: كانُوا على الإيمان من زمن نُوح بعد الغرق، إلى أن ظهر الكفر فيهم.
وقيل: كانُوا على الإسلام من عهد إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - إلى أن غيَّره عمرو بن لحيّ.
وهذا القائل قال: إنَّ المراد بالنَّاس: العرب خاصَّة، والغرض منه: أنَّ العرب إذا علمُوا أنَّ عبادة الأصنام ما كانت أصلاً فيهم، وإنَّما هي حادثةٌ، لم يتأذوا من تزييفِ الطريقة، ولم تنفُر طباعهم من إبطال هذا المذهب الفاسد.
وقال قوم: كانوا أمَّةً واحدة في الكفر، قالوا: وفائدة هذا الكلام: أنَّه - سبحانه وتعالى - جل ذكره - بيَّن للرسول - صلوات الله وسلامه عليه -، أنَّه لا تطمع في أن يصير كلُّ من تدعُوه إلى الدِّين مجيباً له، فإنَّ الناس كانُوا على الكفر، وإنَّما حدث الإسلام في بعضهم بعد ذلك، فيكف تطمعُ في اتِّفاق الكلِّ على الإيمان؟.
وقيل: المرادُ بكونهم أمَّةً واحدةً: أنَّهم خلقوا على فطرة الإسلام، ثم اختلفوا في الأديان، وإليه الإشارة بقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - «كلّ مولُودٍ يُولَدُ على فِطْرَةِ الإسلام، فأبَواهُ يُهَوِّدَانهِ أو يُنَصِّرانِهِ أو يُمَجِّسَانِهِ».
ثم قال: ﴿وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ﴾ مضت في حكمه، أنَّه لا يقضي بينهم فيما اختلفُوا فيه بالثَّواب والعقاب دون القيامة، «لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ» في الدنيا، فأدخل
287
المُؤمن الجنَّة، والكافر النَّار، ولكن سبق من الله الأجل، فجعل موعدهم يوم القيامة.
288
قوله تعالى :﴿ وَمَا كَانَ الناس إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾ الآية.
لمَّا أقامَ الدَّلالة على فسادِ القول بعبادة الأصنام ؛ بيَّن السَّبب في كيفية حدوث هذه المسألة الباطلة، فقال :﴿ وَمَا كَانَ الناس إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾ أي : على الدِّين الحقِّ ؛ لأن المقصود من هذه الآية، بيان كون الكفر باطلاً ؛ لأنَّ قوله :﴿ كَانَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾ [ البقرة : ٢١٣ ] في الإسلام أو في الكفر، ولا يجوزُ أن يكونوا أمَّةً واحدة في الكفر، فبقي أنَّهُم كانوا أمَّة واحدة في الإسلام، لقوله - تعالى - :﴿ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ ﴾ [ النساء : ٤١ ]، وشهيدُ الله لا بدَّ وأن يكون مُؤمناً، فثبت أنَّهُ لم تخل أمَّة من الأممِ، إلا وفيهم مؤمنٌ.
وقد وردت الأحاديث، بأنَّ الأرض لا تخلُو عمَّن يعبد الله - عزَّ وجلَّ -، وعن أقوام بهم يمطرُ أهل الأرض، فثبت أنَّهُم ما كانُوا أمَّة واحدة في الكفر، فيكونوا أمَّة واحدة في الإيمان، ثم اختلفوا أنهم متى كانوا كذلك ؟ فقال ابن عباس، ومجاهد - رضي الله عنهما - : كانوا على عهد آدمَ وولده صلوات الله البرِّ الرحيم والملائكة المقربين عليهما وسلامه دائماً، واختلفوا عند قتل أحد ابنيه للآخر.
وقيل إنَّهم بقُوا على الإيمان إلى زمن نوح - عليه الصلاة والسلام -، ثم اختلفوا على عهد نوح، فبعث الله إليهم نُوحاً١.
وقيل : كانُوا على الإيمان من زمن نُوح بعد الغرق، إلى أن ظهر الكفر فيهم.
وقيل : كانُوا على الإسلام من عهد إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - إلى أن غيَّره عمرو بن لحيّ.
وهذا القائل قال : إنَّ المراد بالنَّاس : العرب خاصَّة، والغرض منه : أنَّ العرب إذا علمُوا أنَّ عبادة الأصنام ما كانت أصلاً فيهم، وإنَّما هي حادثةٌ، لم يتأذوا من تزييفِ الطريقة، ولم تنفُر طباعهم من إبطال هذا المذهب الفاسد.
وقال قوم : كانوا أمَّةً واحدة في الكفر، قالوا : وفائدة هذا الكلام : أنَّه - سبحانه وتعالى - جل ذكره - بيَّن للرسول - صلوات الله وسلامه عليه -، أنَّه لا تطمع في أن يصير كلُّ من تدعُوه إلى الدِّين مجيباً له، فإنَّ الناس كانُوا على الكفر، وإنَّما حدث الإسلام في بعضهم بعد ذلك، فيكف تطمعُ في اتِّفاق الكلِّ على الإيمان ؟.
وقيل : المرادُ بكونهم أمَّةً واحدةً : أنَّهم خلقوا على فطرة الإسلام، ثم اختلفوا في الأديان، وإليه الإشارة بقوله - عليه الصلاة والسلام - " كلّ مولُودٍ يُولَدُ على فِطْرَةِ الإسلام، فأبَواهُ يُهَوِّدَانهِ أو يُنَصِّرانِهِ أو يُمَجِّسَانِهِ " ٢.
ثم قال :﴿ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ ﴾ بأن جعل لكل أمة أجلا، وقال الكلبي : هي إمهال هذه الأمة، وأنه لا يهلكهم بالعذاب في الدنيا٣، " لقضي بينهم " بنزول العذاب، وتعجيل العقوبة للمكذبين، وكان ذلك فصلا بينهم، " فيما فيه يختلفون ".
وقال الحسن-رحمه الله- " لولا كلمة سبقت من ربك " مضت في حكمه، أنَّه لا يقضي بينهم فيما اختلفُوا فيه بالثَّواب والعقاب دون القيامة٤، " لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ " في الدنيا، فأدخل المُؤمن الجنَّة، والكافر النَّار، ولكن سبق من الله الأجل، فجعل موعدهم يوم القيامة.
١ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٦/٥٤٢) عن مجاهد وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٥٤٢) وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ..
٢ أخرجه مالك (١/٢٤١) رقم (٥٢) والبخاري (١١/٤٩٣) كتاب القدر: باب الله أعلم بما كانوا عاملين رقم (٦٥٩٩) ومسلم (٤/٢٠٤٨) كتاب القدر: باب معنى كل مولود يولد على الفطرة رقم (٢٥/٢٦٥٨) وأحمد (٢/٢٣٣) وأبو داود كتاب السنة: باب في ذراري المشركين حديث (٤٧١٤) والترمذي كتاب القدر: باب كل مولود يولد على الفطرة حديث (٢٢٢٣) من حديث أبي هريرة..
٣ ذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٣٤٨) والقرطبي في "تفسيره" (٨/٢٠٦)..
٤ انظر المصدر السابق..
قوله: «وَيَقُولُونَ» أي: كفَّار مكَّة، «لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ» أي: على محمَّد «آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ» على ما نقترحُه، وذلك أنَّهم قالوا: القرآن الذي جئنا به كتابٌ مشتملٌ على أنواع من الكلمات، والكتاب لا يكون معجزاً، كما أنَّ كتابَ موسى، وعيسى ما كان معجزاً لهما، بل كان لهما أنواع من المعجزات، دلَّت على نُبُوَّتهما سوى الكتاب، وكان في أهْل مكَّة من يدَّعي إمكان المعارضة، كما أخبر الله - تعالى - عنهم في قوله: ﴿لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هذا إِنْ هاذآ﴾ [الأنفال: ٣١].
فلذلك طلبُوا منه شيئاً آخر سوى القرآن؛ ليكون معجزاً، فأمر الله - تبارك وتعالى رسوله - صلوات الله وسلامه عليه - بأن يجيبهم بقوله: ﴿إِنَّمَا الغيب للَّهِ فانتظروا إِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ المنتظرين﴾ [يونس: ٢٠].
وتقريرُ هذا الجواب: أنه أقام الدلالة القاهرة على أنَّ القرآن معجزةٌ قاهرةٌ؛ لأنَّه - صلوات الله وسلامه عليه - نشأ بينهُم، وعلموا أنَّهُ لم يُطالِعْ كتاباً، ولا تتلمذ لأستاذ، مدَّة أربعين سنة مُخالطاً لهُم، ولم يشتغل بالفِكْرِ والتَّعلم قط، ثم إنَّه أظهر هذا القرآن العظيم، وظهورُ مثل هذا الكتاب على مثل ذلك الإنسان، لا يكونُ إلاَّ بالوحي، وإذا كان كذلك، فطلب آية أخرى سوى القرآن يكون اقتراحاً لا حاجة إليه وعناداً، ومثل هذا يكون مُفَوَّضاً إلى مشيئة الله - تعالى -، فإن شاء أظهر، وإن شاء لم يظهر، فيكون من باب الغيب، فيجبُ على كلِّ أحدٍ أن ينتظر، هل يفعله الله أم لا؟ ولكن سواء فعل أم لم يفعل فقد ثبت نُبُوَّتُه، وظهر صدقُه، وهذا المقصُود لا يختلف بحُصُول تلك الزِّيادة وعدمها.
قوله تعالى: ﴿وَإِذَآ أَذَقْنَا الناس رَحْمَةً﴾ الآية.
وهذا جوابٌ آخر لسُؤالهم، وطلبهم المعجزة، وذلك من وجهين:
الأول: أنَّ عادتهُم العناد، والمكر، وعدم الإنصاف، فبتقدير أن يعطوا ما سألوه، فإنهم لا يُؤمنون، بل يبقون على كفرهم، وعنادهم؛ وبيانه أنَّ الله - تعالى - سلَّط القَحْط على أهل مكَّة سبع سنين، ثمَّ رحمهم، وأنزل المطر على أراضيهم، ثم إنَّهم أضافُوا المنافع إلى الأنواء والكواكب.
الوجه الثاني: أنَّه لو أنزل عليهم المعجز لم يقبلُوه؛ لأنَّه ليس غرضهم من هذه الاقتراحات التَّشدد في الدِّين، وإنما غرضُهُم الدَّفع، والمبالغة في صون مناصبهم الدنيويَّة؛ لأنَّه - تعالى - لمَّا سلَّط البلاء عليهم، ثم أزالهُ عنهم، فهم مع ذلك استمرُّوا على الكُفْر.
288
قوله: «وَإِذَآ أَذَقْنَا» شرطيَّةٌ؛ جوابها «إذا» الفُجائيَّةُ في قوله: «إذا لهُم مكرٌ»، والعاملُ في «إذَا» الفُجائيَّة؛ الاستقرارُ الذي في «لَهُمْ»، وقد تقدَّم الخلافُ في «إذَا» هذه، هَلْ هِيَ حرفٌ أو ظرفُ زمان على بابها، أو ظرفُ مكان؟ قال أبو البقاءِ: «وقيل:» إذا «الثانية زمانيَّة أيضاً، والثانية وما بعدها جواب الأولى»، وهذا الذي حكاهُ قولٌ ساقطٌ لا يفهم معناه.

فصل


معنى الآية: ﴿وَإِذَآ أَذَقْنَا الناس﴾ يعني: الكفار ﴿رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُمْ﴾ أي: راحة ورخاء من بعد شدة وبلاء.
وقيل: القطر بعد القحط، «مَسَّتْهُمْ» أي: أصابتهُم.
واعلم: أنَّ رحمة الله لا تُذاق بالفَمِ، وإنَّما تُذاق بالعقْلِ.
وقوله ﴿إِذَا لَهُمْ مَّكْرٌ في آيَاتِنَا﴾ قال مجاهد: تكذيب واستهزاء، وسُمِّي التكذيبُ مكراً؛ لأنَّ المكر عبارةٌ عن صرف الشَّيءِ عن ظاهره بطريق الحيلة، وهؤلاء يحتالُون لدفع آيات الله - سبحانه وتعالى - بكل ما يقدرون عليه من إلقاء الشُّبْهَة، أو التَّخْليط في المناظرة، أو غير ذلك من الأمور الفاسدة.
وقال مقاتل: لا يقولون هذا من رزق الله، إنَّما يقولون سُقِينَا بِنَوء كذا، وهو كقوله: ﴿وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ﴾ [الواقعة: ٨٢].
وقوله: «في آيَاتِنَا» متعلقٌ ب «مَكْرٌ»، جعل الآيات محلاًّ للمكر مبالغة، ويضعف أن يكون الجارُّ صفةً ل «مَكْرٌ».
قوله: ﴿قُلِ الله أَسْرَعُ مَكْراً﴾ «أسرَعُ» مأخوذٌ من «سَرُعَ» ثلاثياً؛ حكاه الفارسي.
وقيل: بل مِنْ «أسْرَع» وفي بناء أفعل وفِعْلى التعجُّب من «أفعل» ثلاثةُ مذاهب:
الجواز مطلقاً.
المنع مطلقاً.
التَّفصيلُ: بين أن تكون الهمزةُ للتَّعدية فيمتنع، أو لا فيجوز. وقال بعضهم: «أسْرَعُ» هنا ليست للتفضيل. وهذا ليس بشيءٍ، إذ السِّياق يردُّه، وجعله ابن عطيَّة - أعني كون أسرع للتَّفضيل - نظير قوله: «لَهِي أسودُ مِنَ»
قال أبو حيَّان: «وأما تنظيرُهُ» «أسود من القَار» ب «أسْرَع» ففاسد؛ لأنَّ «أسْوَد» ليس
289
فعلهُ على وزن «أفْعَل»، وإنما هو على وزن «فَعِل» نحو: سَوِد فهو أسْود، ولم يمتنع التَّعجُّب، ولا بناء أفعل التفضيل عند البصريين من نحو: سَوِدَ، وحَمِرَ، وأدِمَ، إلاَّ لكونه لوناًن وقد أجاز ذلك بعضُ الكوفيين في الألوان مطلقاً، وبعضهم في السَّواد والبياض فقط «.
قال شهاب الدِّين: تنظيره به ليس بفاسدٍ؛ لأنَّ مراده بناءُ أفعل ممَّا زاد على ثلاثة أحرُف، وإن لم يكن على وزن»
أفْعَل «، و» سَوِد «وإن كان على ثلاثةٍ، لكنه في معنى الزَّائد على ثلاثة، إذ هو في معنى» أسْوَد «، و» حَمِرَ «في معنى أحْمَر؛ نصَّ على ذلك النحويُّون، وجعلوه هو العلَّة المانعة من التعجُّب في الألوان.
و»
مَكْراً «نصبٌ على التَّمييز، وهو واجبُ النَّصب؛ لأنَّكَ لو صُغْتَ من» أفْعَل «فعلاً، وأسندته إلى تمييزه فاعلاً، لصحَّ أن يقال:» سَرُع مَكْرُه «، وأيضاً فإنَّ شرط جواز الخفضِ، صِدْقُ التمييز على موصوفِ أفعل التَّفضيل، نحو:» زيدٌ أحسنُ فقيهٍ «، ومعنى» أسْرَعُ مَكْراً «: أعجل عُقُوبة، وأشدُّ أخذاً، وأقدر على الجزاء، أي: عذابه أسرع إليكم ممَّا يأتي منكم في دفع الحقِّ.
قوله: ﴿إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ﴾ قرأ الحسن، وقتادة، ومجاهد، والأعرج، ويعقوب، ونافع - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - في رواية: «يَمْكُرُوْنَ»
بياء الغيبة جرياً على ما سبق، والباقون بالخطاب: مبالغة في الإعلام بمكرهم، والتفاتاً لقوله: «قُلِ اللهُ» ؛ إذ التقدير: قُلْ لهُمْ، فناسب الخطاب، وقوله: «إنَّ رُسُلنَا» التفاتٌ أيضاً، إذ لو جرى على قوله: «قُلِ اللهُ»، لقيل: إنَّ رسله، والمراد بالرُّسل: الحفظة.
290
قوله تعالى :﴿ وَإِذَآ أَذَقْنَا الناس رَحْمَةً ﴾ الآية.
وهذا جوابٌ آخر لسُؤالهم، وطلبهم المعجزة، وذلك من وجهين :
الأول : أنَّ عادتهُم العناد، والمكر، وعدم الإنصاف، فبتقدير أن يعطوا ما سألوه، فإنهم لا يُؤمنون، بل يبقون على كفرهم، وعنادهم ؛ وبيانه أنَّ الله - تعالى - سلَّط القَحْط على أهل مكَّة سبع سنين، ثمَّ رحمهم، وأنزل المطر على أراضيهم، ثم إنَّهم أضافُوا المنافع إلى الأنواء والكواكب.
الوجه الثاني : أنَّه لو أنزل عليهم المعجز لم يقبلُوه ؛ لأنَّه ليس غرضهم من هذه الاقتراحات التَّشدد في الدِّين، وإنما غرضُهُم الدَّفع، والمبالغة في صون مناصبهم الدنيويَّة ؛ لأنَّه - تعالى - لمَّا سلَّط البلاء عليهم، ثم أزالهُ عنهم، فهم مع ذلك استمرُّوا على الكُفْر.
قوله :" وَإِذَآ أَذَقْنَا " شرطيَّةٌ ؛ جوابها " إذا " الفُجائيَّةُ في قوله :" إذا لهُم مكرٌ "، والعاملُ في " إذَا " الفُجائيَّة ؛ الاستقرارُ الذي في " لَهُمْ "، وقد تقدَّم الخلافُ في " إذَا " هذه، هَلْ هِيَ حرفٌ أو ظرفُ زمان على بابها، أو ظرفُ مكان ؟ قال أبو البقاءِ١ :" وقيل :" إذا " الثانية زمانيَّة أيضاً، والثانية وما بعدها جواب الأولى "، وهذا الذي حكاهُ قولٌ ساقطٌ لا يفهم معناه.

فصل


معنى الآية :﴿ وَإِذَآ أَذَقْنَا الناس ﴾ يعني : الكفار ﴿ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُمْ ﴾ أي : راحة ورخاء من بعد شدة وبلاء.
وقيل : القطر بعد القحط، " مَسَّتْهُمْ " أي : أصابتهُم.
واعلم : أنَّ رحمة الله لا تُذاق بالفَمِ، وإنَّما تُذاق بالعقْلِ.
وقوله ﴿ إِذَا لَهُمْ مَّكْرٌ في آيَاتِنَا ﴾ قال مجاهد : تكذيب واستهزاء٢، وسُمِّي التكذيبُ مكراً ؛ لأنَّ المكر عبارةٌ عن صرف الشَّيءِ عن ظاهره بطريق الحيلة، وهؤلاء يحتالُون لدفع آيات الله - سبحانه وتعالى - بكل ما يقدرون عليه من إلقاء الشُّبْهَة، أو التَّخْليط في المناظرة، أو غير ذلك من الأمور الفاسدة.
وقال مقاتل : لا يقولون هذا من رزق الله، إنَّما يقولون سُقِينَا بِنَوء كذا، وهو كقوله :﴿ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ ﴾٣ [ الواقعة : ٨٢ ].
وقوله :" في آيَاتِنَا " متعلقٌ ب " مَكْرٌ "، جعل الآيات محلاًّ للمكر مبالغة، ويضعف أن يكون الجارُّ صفةً ل " مَكْرٌ ".
قوله :﴿ قُلِ الله أَسْرَعُ مَكْراً ﴾ " أسرَعُ " مأخوذٌ من " سَرُعَ " ثلاثياً ؛ حكاه الفارسي.
وقيل : بل مِنْ " أسْرَع " وفي بناء أفعل وفِعْلى التعجُّب من " أفعل " ثلاثةُ مذاهب :
الجواز مطلقاً.
المنع مطلقاً.
التَّفصيلُ : بين أن تكون الهمزةُ للتَّعدية فيمتنع، أو لا فيجوز. وقال بعضهم :" أسْرَعُ " هنا ليست للتفضيل. وهذا ليس بشيءٍ، إذ السِّياق يردُّه، وجعله ابن عطيَّة - أعني كون أسرع للتَّفضيل - نظير قوله :" لَهِي أسودُ مِنَ ".
قال أبو حيَّان٤ :" وأما تنظيرُهُ " " أسود من القَار " ب " أسْرَع " ففاسد ؛ لأنَّ " أسْوَد " ليس فعلهُ على وزن " أفْعَل "، وإنما هو على وزن " فَعِل " نحو : سَوِد فهو أسْود، ولم يمتنع التَّعجُّب، ولا بناء أفعل التفضيل عند البصريين من نحو : سَوِدَ، وحَمِرَ، وأدِمَ، إلاَّ لكونه لوناً، وقد أجاز ذلك بعضُ الكوفيين في الألوان مطلقاً، وبعضهم في السَّواد والبياض فقط ".
قال شهاب الدِّين : تنظيره به ليس بفاسدٍ ؛ لأنَّ مراده بناءُ أفعل ممَّا زاد على ثلاثة أحرُف، وإن لم يكن على وزن " أفْعَل "، و " سَوِد " وإن كان على ثلاثةٍ، لكنه في معنى الزَّائد على ثلاثة، إذ هو في معنى " أسْوَد "، و " حَمِرَ " في معنى أحْمَر ؛ نصَّ على ذلك النحويُّون، وجعلوه هو العلَّة المانعة من التعجُّب في الألوان.
و " مَكْراً " نصبٌ على التَّمييز، وهو واجبُ النَّصب ؛ لأنَّكَ لو صُغْتَ من " أفْعَل " فعلاً، وأسندته إلى تمييزه فاعلاً، لصحَّ أن يقال :" سَرُع مَكْرُه "، وأيضاً فإنَّ شرط جواز الخفضِ، صِدْقُ التمييز على موصوفِ أفعل التَّفضيل، نحو :" زيدٌ أحسنُ فقيهٍ "، ومعنى " أسْرَعُ مَكْراً " : أعجل عُقُوبة، وأشدُّ أخذاً، وأقدر على الجزاء، أي : عذابه أسرع إليكم ممَّا يأتي منكم في دفع الحقِّ.
قوله :﴿ إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ ﴾ قرأ الحسن، وقتادة، ومجاهد٥، والأعرج، ويعقوب، ونافع - رضي الله عنهم - في رواية :" يَمْكُرُوْنَ " بياء الغيبة جرياً على ما سبق، والباقون بالخطاب : مبالغة في الإعلام بمكرهم، والتفاتاً لقوله :" قُلِ اللهُ " ؛ إذ التقدير : قُلْ لهُمْ، فناسب الخطاب، وقوله :" إنَّ رُسُلنَا " التفاتٌ أيضاً، إذ لو جرى على قوله :" قُلِ اللهُ "، لقيل : إنَّ رسله، والمراد بالرُّسل : الحفظة.
١ ينظر: الإملاء لأبي البقاء ٢/٢٦..
٢ أخرجه الطبري (٦/٥٤٣-٥٤٤) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٥٤٢) وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ..
٣ ذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٣٤٩)..
٤ ينظر: البحر المحيط ٥/١٤٠..
٥ ينظر: إتحاف فضلاء البشر ٢/١٠٧، الكشاف ٢/٣٣٧، المحرر الوجيز ٣/١١٢، البحر المحيط ٥/١٤٠، الدر المصون ٤/١٦..
قوله تعالى: ﴿هُوَ الذي يُسَيِّرُكُمْ فِي البر والبحر﴾ الآية.
لمَّا ذكر في الآيةِ الأولى، مجيء الرَّحمة بعد الضرِّ، أو الرَّخاء بعد الشدَّة، ذكر في هذه الآية مثالاً لذلك، وبياناً لنقل الإنسان من الضرِّ إلى الرحمة، وذلك أنَّ الإنسان إذا ركب السَّفينة، ووجد الرِّيح الطيبة الموافقة لمقصوده، حصل له المسرَّة القويَّة، والنَّفْع التَّام، ثم قد تظهرُ علامات الهلاك؛ بأنْ تجيئهم الرِّياح العاصفة، أو تأتيهم الأمواج
290
العظيمة من كل جانبٍ، أو يغلب على ظنونهم أنَّ الهلاكَ واقعٌ بالانتقال من تلك الأحوال الطيِّبة، إلى هذه الأحوال الشديدة، فوجب الخوفُ العظيمُ، والإنسان في هذه الحالة، لا يطمعُ إلا في فضْلِ الله - سبحانه وتعالى -، ويقطع طعمهُ عن جيمع الخلق، ويصير بجميع أجزائه مُتضرِّعاً إلى الله - تعالى -، ثُمَّ إذا نجَّاهُ الله - تعالى - من هذه البليَّة العظيمة، نسي النِّعمة، ورجع إلى ما ألفهُ من العقائد الباطلةِ.
قوله: «يَنْشُركم» قراءةُ ابن عامر من النَّشْرِ ضدَّ الطيّ، والمعنى: يُفَرِّقكم ويَبُثُّكُم، وقرأ الحسن: «يَنْشِركُم» من «أنْشَر»، أي: أحْيَا، وهي قراءةُ ابن مسعودٍ أيضاً، وقرأ بعضُ الشَّاميين: «يُنَشِّركم» بالتشديد؛ للتَّكثير من النَّشْر الذي هو مطاوع الانتشار، وقرأ الباقون: «يُسَيِّركُم» من التَّسْييرِ، والتَّضعيفُ فيه للتعدية، تقول: سَارَ الرَّجُل، وسيَّرْتُهُ أنَا.
وقال الفارسيُّ: «هو تَضْعيفُ مُبَالغةٍ لا تضعيفُ تعديةٍ؛ لأنَّ العرب تقول: سِرْتُ الرَّجُلَ وسيَّرته».
ومنه قول الهُذليِّ: [الطويل]
٢٨٨٢ - فَلا تَجْزَعَنْ مِنْ سُنَّةٍ أنْتَ سِرْتَهَا فأوَّلُ رَاضٍ سُنَّةً مَنْ يَسِيرُهَا
وهذا الذي قالهُ أبو علي غير ظاهر؛ لأنَّ الأكثر في لسان العرب، أنَّ «سار» قاصرٌ، فجعلُ المضعف مأخوذاً من الكثير أولى.
وقال ابن عطيَّة: «وَعَلى هذا البيت اعتراضٌ، حتَّى لا يكون شاهداً في هذا؛ وهو أن يكون الضَّمير كالظرف كما تقول: سِرْتُ الطريق».
قال أبو حيَّان: «وأمَّا جعلُ ابن عطيَّة الضَّميرَ كالظَّرفِ كما تقول: سِرْتُ الطَّريقَ. فهذا لا يجوزُ عند الجمهور؛ لأنَّ» الطَّريق «عندهم ظرفٌ مختصٌّ كالدَّار، فلا يصلُ إليها الفعلُ غير» دَخَلتُ «عند سيبويه، و» انطلقتُ «و» ذَهَبْتُ «عند الفرَّاء - إلاَّ بوساطة» في «، إلاَّ في ضرورة، وإن كان كذلك فضميرهُ أحرى أن لا يتعدَّى إليه الفعل».
وزعم ابنُ الطَّراوةِ أنَّ «الطَّريقَ» ظرفٌ غيرُ مختصٍّ، فيصلُ إليه الفعلُ بنفسه، وأباهُ النُّحَاة «.
قوله:»
حتى إِذَا «» حتَّى «متعلقةٌ ب» يُسَيِّركم «، وقد تقدَّم الكلامُ على» حتَّى «هذه
291
الداخلة على» إذَا « [النساء: ٦]، قال الزمخشري:» كيف جعل الكونَ في الفُلكِ غاية التَّسيير في البَحْر، والتَّسييرُ في البَحْر، إنَّما هو بالكون في الفلك؟ قلت: لَمْ يجعلِ الكون في الفلكِ غاية التَّسيير، ولكنَّ مضمونَ الجملةِ الشرطيةِ الواقعةِ بعد «حتَّى» بما في حيِّزها، كأنَّه قال: يُسَيِّركُم حتَّى إذا وقعت هذه الحادثةُ، فكان كيت وكيت من مجيء الرِّيح العاصفِ، وتراكُم الأمواج، والظَّن للهلاك، والدُّعاء بالإنجاء «، وقرأ أبو الدَّرْدَاء وأمُّ الدرداء:» في الفُلْكِيّ «بياء النَّسب، وتخريجها يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يراد به الماءُ الغَمْرُ الكثيرُ، الذي لا يجري الفلكُ إلاَّ فيه، كأنَّه قيل: كنتم في اللُّجِّ الفلكيِّ، ويكون الضمير في»
جَرَيْنَ «عائداً على الفلك؛ لدلالةِ» الفُلْكي «عليه لفظاً، ولزوماً.
والثاني: أن يكون من باب النِّسبةِ، كقولهم: «أحْمَرِيٌّ»
، كقوله: [الرجز]
٢٨٨٣ - أطَرَباً وأنتَ قِنَّسْرِيُّ والدَّهْرُ بالإنسَانِ دَوَّارِيُّ
وكنسبتهم إلى العلم، في قولهم: «الصَّلتَانيّ»، كقوله: [الطويل]
٢٨٨٤ - أنَا الصَّلتانِيُّ الذي قَدْ عَلِمْتُمُ...........................
فزاد ياء النَّسب في اسمه.
قوله: «وجَريْنَ» يجُوزُ أن يكون نسقاً على «كُنْتُم»، وأن يكون حالاً على إضمار «قَدْ»، والضمير عائدٌ على «الفُلْكِ»، والمراد به هنا: الجمع، وقد تقدَّم أنه تكسير، وأنَّ تغييره تقديريٌّ [البقرة: ١٦٤]، فضمَّتُه كضمَّةِ «بُدْن»، وأنَّهُ ليس باسم جمع كما زعم الأخفشُ.
وقوله: «بِهِمْ» فيه التفاتٌ من الخطاب إلى الغيبة.
قال الزمخشري: «فإن قلت ما فائدةُ صرف الكلامِ، عن الخطابِ إلى الغيبةِ؟ قلت: المبالغةُ؛ كأنه يذكُرُ لغيرهم حالهُ ليُعَجِّبَهم منها، ويستدعي منهم الإنكارَ والتَّقبيحَ»، وقال ابنُ عطيَّة: «بِهِمْ: خروجٌ من الخطاب إلى الغَيْبَة، وحسُنَ ذلك؛ لأنَّ قوله:» كُنتُمْ في الفُلْكِ «هو بالمعنى المعقُول، حتى إذا حصل بعضكم في السُّفُن». انتهى، فقدَّر اسماً غائباً، وهو ذلك المضافُ المحذوف، فالضميرُ الغائب يعود عليه، ومثله {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي
292
بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ} [النور: ٤٠]، تقديره: أو كذي ظُلُمات، وعلى هذا فليس من الالتفات في شيءٍ.
وقال أبو حيَّان: «والذي يظهر أنَّ حكمةَ الالتفاتِ هنا: هي أنَّ قوله ﴿هُوَ الذي يُسَيِّرُكُمْ﴾ خطابٌ فيه امتنانٌ، وإظهارُ نعمةٍ للمخاطبين، والمُسَيَّرون في البَرِّ والبَحْر مؤمنون وكُفَّار، والخطابُ شاملٌ، فحسُنَ خطابُهُم بذلك، ليستديمَ الصَّالحُ على الشُّكْر، ولعلَّ الطَّالحَ يتذكَّرُ هذه النّعْمَة.
ولمَّا كان في آخر الآية ما يقتضي أنَّهم إذا نجوا بغَوا في الأرض، عدلَ عن خطابهم بذلك إلى الغَيْبة؛ لئلاَّ يخاطب المؤمنين بما لا يليقُ صُدُورُه منهم، وهو البغيُ بغير الحقِّ»
.
قوله: «بريحٍ» متعلِّقٌ ب «جَرَيْنَ»، فيقال: كيف يتعدَّى فعلٌ واحدٌ، إلى معمولين بحرف جرٍّ متحدٍ لفظاً ومعنًى؟ فالجوابُ: أنَّ الياءَ الأولى للتَّعدية، كهي في «مَرَرْتُ بزَيْدٍ»، والثانية للحالِ، فتتعلق بمحذُوف، والتقدير: جريْنَ بهم مُلتبسةً بريحٍ، فتكونُ الحالُ من ضميرِ الفُلْكِ.
قوله: «وَفَرِحُواْ بِهَا» يجُوزُ أن تكون هذه الجملةُ نسقاً على «جَرَيْنَ»، وأن تكُون حالاً، و «قد» معها مُضْمَرةٌ عند بعضهم، أي: وقد فَرِحَوا، وصاحبُ الحَالِ الضَّمير في «بِهِمْ».
قوله: «جَآءَتْهَا» الظَّاهرُ أنَّ هذه الجملة الفعليَّة جواب «إِذَا»، وأنَّ الضمير في «جَاءَتْهَا» ضميرُ الرِّيح الطيِّبة، أي: جاءتِ الريحَ الطَّيبةَ ريحٌ عاصفٌ، أي: خَلَفْتْهَا، وبهذا بدأ الزمخشري، وسبقه إليه الفرَّاء وجوَّز أن يكون الضميرُ للفلك، ورجَّح هذا بأنَّ الفلك هو المُحَدَّث عنه.
قوله: «وظَنُّوا» يجُوزُ أن يكون معطوفاً على «جَاءَتْهَا»، الذي هو جوابُ «إذَا»، ويجوز أن يكون معطوفاً على «كُنتُمْ»، وهو قولُ الطبري؛ ولذلك قال: وظَنُّوا جوابه «دعوُا الله».
قال أبو حيَّان: «ظاهرُه العطفُ على جواب» إذَا «، لا أنَّه معطوفٌ على كُنتُمْ، لكنَّه محتمل، كما تقول:» إذا زَارك فلان أكرمهُ، وجاءكَ خالدٌ فأحسن إليه «، وكأنَّ أداةَ الشَّرطِ مذكورةٌ».
وقرأ زيد بن علي: «حِيطَ» ثلاثيّاً.
قوله: «دَعَوُاْ الله» قال أبو البقاء: «هو جوابُ ما اشتمل عليه المعنى من معنى الشَّرطِ، تقديره: لمَّا ظنُّوا أنَّهُم أحيط بهم دعوُا الله»، وهذا كلامٌ فارغٌ، وقال الزمخشري: «هي بدلٌ من» ظَنُّوا «؛ لأنَّ دعاءهم من لوازم ظنِّهم الهلاكَ، فهو مُتلبسٌ به»،
293
ونقل أبو حيَّان عن شيخه أبي جعفر: «أنَّه جوابٌ لسُؤال مقدَّر، كأنَّه قيل: فماذا كان حالهم إذ ذاك؟ فقيل: دَعَوا الله»، وهذا نقله ابنُ الخطيب عن بعضهم، و «مُخْلِصينَ» حال، و «لَهُ» متعلِّقٌ به، و «الدِّينَ» مفعوله.
قوله: «لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا» : اللاَّمُ: موطئةٌ للقسم المحذوف، و «لنَكُونَنَّ» : جوابه، والقسمُ وجوابُهُ: في محلِّ نصب بقول مقدَّر، وذلك القولُ المقدَّر: في محلِّ نصبٍ على الحالِ، والتقديرُ: دعوا قائلين: لَئِن أنْجَيتنَا من هذه لنكُوننَّ، ويجوزُ أن يجرى «دعَوا» مجرى «قالُوا» لأنَّ الدُّعَاء والقول بمعنى؛ إذ هو نوعٌ من أنواعه، وهو مذهبٌ كوفيٌّ.
قوله: «إِذَا هُمْ يَبْغُونَ» : جوابُ «لمَّا»، وهي «إذَا» الفُجائيَّة، وقوله: «بِغَيْرِ الحق» : حالٌ، أي: ملتبسين بغير الحقِّ، قال الزمخشري: «فإن قلت: ما معنى قوله:» بِغَيْرِ الحقِّ «والبغيُ لا يكون بحقٍّ؟ قلت: بلى، وهو استيلاءُ المسلمين على أرض الكُفَّار، وهدْمُ دُورهم، وإحراقُ زُرُوعهم، وقطع أشجارهم، كما فعل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ببني قريظة»، وكان قد فسَّر البغي بالفساد، والإمعان فيه، مِن «بَغَى الجرحُ: إذا ترامى للفساد».
ولذلك قال الزجاج: «إنّه الترقِّي في الفساد»، وقال الأصمعي أيضاً: «بَغَى الجرحُ: ترقَّى إلى الفساد، وبغتِ المرأةُ: فجرت».
قال أبو حيَّان: «ولا يصِحُّ أن يقال في المسلمين، إنَّهُم باغُون على الكفرة، إلاَّ إن ذكر أنَّ أصل البغي، هو الطلبُ مطلقاً، ولا يتضمَّن الفساد، فيحينئذٍ ينقسم إلى: طلبٍ بحقٍّ، وطلبٍ بغير حقٍّ».
قال الواحدي: «وأصلُ البغي: الطلب»، وقد تقدم أنَّ هذه الآي، ترُدُّ على الفارسي، أنَّ «لمَّا» ظرف بمعنى «حين» ؛ لأنَّ ما بعد «إذَا» الفُجائيَّة، لا يعمل فيما قبلها، وإذا قد فرض كون «لمَّا» ظرفاً لزم أن يكون لها عاملٌ «.

فصل


دلَّت هذه الآية: على أن فعل العبد خلق لله - تعالى -؛ لأنَّه قال:»
يُسَيِّركُمْ «، وقال: ﴿قُلْ سِيرُواْ﴾ [الأنعام: ١١] وهذا يدل على أن سيرهم منهم، ومن الله، فيكون كسباً لهم وخلقاً لله. ونظيره قوله - تعالى -: ﴿كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بالحق﴾ [الأنفال: ٥] وقال في آيةٍ أخرى: ﴿إِذْ أَخْرَجَهُ الذين كَفَرُواْ﴾ [التوبة: ٤٠]، وقوله ﴿وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وأبكى﴾ [النجم: ٤٣]، مع قوله: ﴿فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً﴾ [التوبة: ٨٢]، قال القفال:» هو الذي يسيركم في البرِّ والبحْرِ؛ أي: هو الهادي لكم إلى السَّيْرِ في البحر والبر، طلباً للمعاش، وهو المسير لكم؛ لأنَّه هيَّأ لكم أسباب ذلك السَّيْر «، والجواب: لا شك أنَّ المسيِّر في
294
البحر هو الله - تعالى جلَّ ذكره -؛ لأنَّه هو المحدث لتلك الحركات في أجزاء السَّفينة، وإضافة الفعل إلى الفاعل هو الحقيقة، فيجبُ أن يكون مسيراً لهم في البرِّ والبحر، إذ لو كان مسيّراً لهم في البرِّ بمعنى إعطاء الآلات والأدوات، لكان مجازاً، فيلزم كون اللفظ الواحد حقيقة ومجازاً دفعةً واحدةً، وذلك باطلٌ، على ما تقرر في أصول الفقه، قال أبو هاشم:» لايبعُد أن يقال: إن الله تعالى تكلَّم به مرَّتين «، وهذا باطلٌ؛ لأن هذا القول لم يقل به أحدٌ من الأئمَّة، ممَّن كانوا قبله، فكان خلافاً للإجماع، فيكون باطلاً.

فصل


معنى الآية: ﴿هُوَ الذي يُسَيِّرُكُمْ فِي البر﴾ على ظهور الدَّوابِّ، وفي البحر على الفلك، ﴿حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك﴾ أي: في السفن. والفلك: تكون واحداً، وجمعاً،»
وَجَرَيْنَ بِهِم «أي: جرت الفلك بالنَّاس، رجع من الخطاب إلى الغيبة.
والفائدة فيه من وجوه:
أحدها: ما تقدم عن الزمخشري، وهو المبالغةُ بذكر حالهم لغيرهم؛ ليعجبوا منها، ويستدعي منهم مزيد الإنكار والتَّقبيح.
وثانيها: قال الجُبَّائي: «إنَّ مخاطبته - سبحانه جلَّ ذكره - لعباده، على لسان الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - بمنزلة الخبر عن الغائب، وكل من أقام الغائب مقام المخاطب، حسن منه أن يردَّه مرة أخرى إلى الغائب»
.
وثالثها: قال ابن الخطيب: «إن الانتقال من لفظ الغيبة، إلى لفظِ الحضور، يدلُّ على مزيد التقريب، والإكرام، وأمَّا الانتقال من لفظ الحضور، إلى لفظ الغيبة، فإنه يدلُّ على المقتِ، والتعذيب، وهو اللاَّئق بحال هؤلاء، لأنَّ من كان صفته، أنَّه يقابل إحسان الله إليه بالكفر، أن يكون اللاَّئقُ به ذلك». والأول كما في الفاتحة، فإن قوله: ﴿بسم الله الرحمن الرَّحِيمِ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين الرحمن الرحيم﴾ [الفاتحة: ١ - ٣] خطاب غيبة، ثم قال: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: ٥] : وهذا يدل على أن العبد، كأنه انتقل من مقام الغيبة إلى مقام الحضور، وهو يوجب عُلُو الدرجة، وكمال القرب.
ثم قال: «بريحٍ طيبةٍ» : لينة، «وفَرِحُوا بها» أي: بالرِّيح، «جَاءَتْهَا» أي: جاءت الفلك، أو جاءت الريح اللينة كما تقدَّم، «ريح عاصف» شديدة، ولم يقل عاصفة؛ لاختصاص الرِّيح بالعُصُوف، وقيل: «الرِّيح» يُذكَّر ويؤنث.
قال الفراء، والزجاج: يقال: ريحٌ عاصفٌ، وعاصفةٌ، وقد عصفتْ عُصُوفاً وأعْصَفَتْ فهي مُعْصِف ومُعْصِفَة، وعصفت الريح: اشتدتْ وأصلُ العَصْف: السُّرعة، يقال: ناقةٌ عاصفٌ، وعصُوفٌ؛ سريعة، وإنما قيل: «ريحٌ عاصفٌ» لأنَّه يُراد ذات عُصُوف، كما قيل: لابنٌ وتامرٌ؛ أو لأنه لفظ يذكَّر ويؤنَّث.
295
فإن قيل: الضميرُ في «جَاءتْهَا» يعودُ على الفلك، وهو ضمير الواحد، والضمير في قوله: «وجَريْنَ بهمْ» عائد على الفلك، وهو ضميرُ الجمع، فما السببُ فيه؟.
فالجواب من وجهين:
الأول: لا نُسَلِّم أن الضمير في «جَاءتْهَا»، عائدٌ إلى الفلك، بل يعُود على الرِّيح الطيِّبة.
الثاني: لو سلَّمنا ذلك، إلاَّ أنّض لفظ الفكل يصلح للواحد والجمع. ثم قال: «وجَاءَهُم» أي: ركَّاب السفينة «الموج مِن كُلِّ مكانٍ» وهو حركةُ الماءِ واختلاطهُن وقيل: المَوْج ما ارتفع من الماء فوق البحر، «وظَنُّوا» : أيْقَنُوا «أنَّهُم أحيطَ بهم» أي: ظنُّوا القرب من الهلاك، وأصله: أنَّ العدوَّ إذا أحاط بقوم أو بلدٍ، فقد دنوا من الهلاك، ﴿دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين﴾ أي: أخلصُوا لله في الدعاء، ولم يدعُوا أحداً سواه، قال ابنُ عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: يريد: ترك الشرك، ولم يشركوا به من آلهتهم شيئاً، وقال الحسن - رَحِمَهُ اللَّهُ: «دَعَوُا اللهُ مُخْلصينَ؛ جارياً مُجْرَى الإيمان الاضطراري»، وقال ابن زيد: «هؤلاء المشركون يدعون مع الله ما يدعون، فإذا جاء الضُّرُّ والبلاء لم يدعُوا إلاَّ الله» وعن أبي عبيدة: أنَّ المراد من ذلك الدعاء قولهم: أهْيَا شر هَيَا، أي: يا حيُّ يا قيُّوم، وقالوا: لَئِنْ أنْجيتنا يا رب من هذه الريح العاصف، أو من هذه الأمواج، أو من هذه الشدائد، وهذه الألفاظ، وإن لم يسبق ذكرها؛ إلا أنه سبق ما يدلُّ عليها، ﴿لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين﴾ لك بالإيمان والطَّاعة.
واعلم: أنَّه يمكن أن يقدَّر في الآية إضمار، تقديره: دعوا اللهَ مخلصين لهُ الدِّ] ن، مريدين أن يقولوا: لَئِنْ أنْجَيْتَنا، ويمكن أن يقال: لا حاجة إلى الإضمار؛ لأنَّ قوله: «دعَوُا اللهَ» يصير مُفَسَّراً بقوله: ﴿أَنْجَيْتَنَا مِنْ هذه لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين﴾ فهم في الحقيقة، ما قالُوا إلاَّ هذا القول.
ولمَّا حكى عنهم التَّضرع الكامل، ذكر أنَّهُم بعد الخلاص من تلك البليَّة، أقدموا في الحالِ على البغي في الأرض بغير الحقِّ، قال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: يريد: بالفسادِ والتَّكذيب والجُرْأة على الله - عزَّ وجلَّ -.
قوله: ﴿يا أيها الناس إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ﴾ أي: وباله راجعٌ إليها، وقيل: المرادُ: بغي بعضكم على بعض، كقوله: ﴿اقتلوا أَنْفُسَكُمْ﴾ [النساء: ٦٦]، ﴿وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ﴾ [النساء: ٢٩]، ﴿وَلاَ تلمزوا أَنفُسَكُمْ﴾ [الحجرات: ١١] والمعنى: أنَّ بغي بعضهم على
296
بعض، منفعة الحياة الدنيا، ولا بقاء لها، والبغي من منكرات المعاصي، قال: صلوات الله وسلامه عليه -: «أسْرَعُ الخَيْرِ ثواباً صلةُ الرَّحم، وأعجلُ الشَّرِّ عقاباً البغي، واليمين الفاجرة»، وروي: «ثنتان يعجلهما الله - تعالى - في الدنيا: البَغْي، وعقُوقُ الوالدين» وعن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: «لو بغى جَبَلٌ على جبلٍ، لاندَكَّ الباغِي».
وقال محمد بن كعب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - ثلاثٌ من كنَّ فيه كنَّ عليه: البغيُ، والنَّكْثُ، والمَكْرُ، قال - تعالى -: ﴿إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ﴾، ﴿وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [الأنعام: ١٢٣]، ﴿فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ على نَفْسِهِ﴾ [الفتح: ١٠].
قوله: ﴿مَّتَاعَ الحياة الدنيا﴾ قرأ حفص: «مَتَاعَ» بالنصب، ونصبُه على خمسة أوجه:
أحدها: أنَّهُ منصوب على الظرف الزمانيُّ، نحو: «مَقْدمَ الحجَّاج»، اي: زمن متاع الحياة.
والثاني: أنَّه منصوبٌ على المصدرِ الواقع موقع الحالِ، أي: مَتَمتِّعينَ، والعاملُ فِي هذا الظرف، وهذه الحال: الاستقرارُ الذي في الخبر، وهو «عليكم»، ولا يجوزُ أن يكونا منصوبين بالمصدر؛ لأنَّه يلزمُ منه الفصلُ بين المصدر، ومعموله بالخبر، وقد تقدَّم أنَّه لا يخبرُ عن الموصول إلاَّ بعد تمام صلته.
والثالث: نصبه على المصدر المؤكَّد بفعلٍ مقدرٍ، أي: يتمتَّعُون متاع الحياة الدُّنْيا.
الرابع: أنه منصوبٌ على المفعول به، بفعلٍ مقدر يدلُّ عليه المصدر، أي: يَبْغُون متاع الحياةِ الدُّنيا، ولا جائزٌ أن ينتصب بالمصدر؛ لما تقدَّم.
الخامس: أن ينتصب على المفعول من أجله، أي: لأجل متاع، والعامل فيه: إمَّا الاستقرارُ المقدَّرُ في «عَلَيْكُم»، وإمَّا فعلٌ مقدَّرٌ، ويجوز أن يكون النَّاصبُ له، حال جعله ظرفاً، أو حالاً، أو مفعولاً من أجله: نفس البغي، لا على جعل «عَلَى أنْفُسِكُم» خبراً، بل على جعله متعلِّقاً بنفس البغي، والخبرُ محذوفٌ؛ لطول الكلام، والتقدير: إنَّما بغيكم على أنفسكم، متاع الحياة مذمومٌ، أو مكروهٌ، أو مَنْهيٌّ عنه.
وقرأ باقي السبعة «مَتَاعُ» بالرفع - وفيه أوجه:
أظهرها: أنَّه خبرُ «بَغْيُكُمْ»، و «عَلَى أنفُسِكُمْ» : متعلقٌ بالبغي.
ويجُوزُ أن يكون «عليكم» خبراً، و «مَتَاعُ» خبراً ثانياً.
ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوفٍ، أي: هو متاع كقوله: ﴿لَمْ يلبثوا إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلاَغٌ﴾ [الأحقاف: ٣٥]. أي: هذا بلاغٌ.
297
وقرأ ابن أبي إسحاق، «مَتَاعاً الحياةَ» بنصب «مَتَاعاً» و «الحَيَاة»، ف «مَتَاعاً» : على ما تقدَّم، وأمَّا «الحَيَاة» : فيجُوزُ أن تكون مفعولاً بها، والنَّاصِبُ لها المصدر، ولا يجوزُ والحالةُ هذه، أن يكون «مَتَاعاً» مصدراً مؤكداً؛ لأنّض المؤكِّد لا يعمل. ويجُوزُ أن تنتصب «الحَيَاة» على البدل من «مَتَاعاً» لأنها مشتملةٌ عليه، وقرىء أيضاً: «مَتاعِ الحياة»، بجرِّ «متاع»، وخُرِّجت على النَّعت لأنفسكم، ولا بُدَّ من حذف مضافٍ حينئذٍ، تقديره: على أنفسكم ذوات متاع الحياة، كذا خرَّجهُ بعضهم، ويجُوزُ أن يكون ممَّا حذف منه حرفُ الجَرّ، وبقي عمله، أي: إنَّما بَغْيُكم على أنفسكم؛ لأجل متاع، ويدلُّ على ذلك؛ قراءةُ النَّصْب في وجه من يجعله مفعولاً من أجله، وحذفُ حرف الجرِّ، وإبقاءُ عمله قليلٌ، وهذه القراءةُ لا تتباعَدُ عنه.
وقال أبُو البقاء: «ويجوزُ أن يكون المصدر، بمعنى اسم الفاعل، أي: مُتَمتِّعات»، يعني: أنَّهُ يجعلُ المصدر نعتاً ل «أنْفُسِكُم»، من غير حذف مضافٍ، بل على المبالغة، أو على جعل المصدر بمعنى: اسم الفاعل، ثم قال: «ويضعُف أن يكون بدلاً إذا أمكن أن يجعل صفة».
قال شهابُ الدِّين: «وإذا جعل بدلاً على ضعفه، فمنْ أيِّ قبيل البدلِ يجعل؟ والظاهر: أنَّه من بدلِ الاشتمال، ولا بُدَّ من ضميرٍ محذوفٍ حينئذٍ، أي: متاع الحياة الدُّنيا لها». ثم قال: «ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ» أي: ما وعدنا من المُجازاة على أعمالكم ﴿فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ والإنبَاءُ: الإخبار، وهو هُنَا وعيدٌ بالعذابِ، كقول الرَّجُل لغيره: سأخْبِرُكَ بما فعلتَ.
298
قوله :" إِذَا هُمْ يَبْغُونَ " : جوابُ " لمَّا "، وهي " إذَا " الفُجائيَّة، وقوله :" بِغَيْرِ الحق " : حالٌ، أي : ملتبسين بغير الحقِّ، قال الزمخشري١ :" فإن قلت : ما معنى قوله :" بِغَيْرِ الحقِّ " والبغيُ لا يكون بحقٍّ ؟ قلت : بلى، وهو استيلاءُ المسلمين على أرض الكُفَّار، وهدْمُ دُورهم، وإحراقُ زُرُوعهم، وقطع أشجارهم، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ببني قريظة "، وكان قد فسَّر البغي بالفساد، والإمعان فيه، مِن " بَغَى الجرحُ : إذا ترامى للفساد ".
ولذلك قال الزجاج :" إنّه الترقِّي في الفساد "، وقال الأصمعي أيضاً :" بَغَى الجرحُ : ترقَّى إلى الفساد، وبغتِ المرأةُ : فجرت ".
قال أبو حيَّان :" ولا يصِحُّ أن يقال في المسلمين، إنَّهُم باغُون على الكفرة، إلاَّ إن ذكر أنَّ أصل البغي، هو الطلبُ مطلقاً، ولا يتضمَّن الفساد، فحينئذٍ ينقسم إلى : طلبٍ بحقٍّ، وطلبٍ بغير حقٍّ ".
قال الواحدي :" وأصلُ البغي : الطلب "، وقد تقدم أنَّ هذه الآي، ترُدُّ على الفارسي، أنَّ " لمَّا " ظرف بمعنى " حين " ؛ لأنَّ ما بعد " إذَا " الفُجائيَّة، لا يعمل فيما قبلها، وإذا قد فرض كون " لمَّا " ظرفاً لزم أن يكون لها عاملٌ ".

فصل


دلَّت هذه الآية : على أن فعل العبد خلق لله - تعالى - ؛ لأنَّه قال :" يُسَيِّركُمْ "، وقال :﴿ قُلْ سِيرُواْ ﴾ [ الأنعام : ١١ ] وهذا يدل على أن سيرهم منهم، ومن الله، فيكون كسباً لهم وخلقاً لله. ونظيره قوله - تعالى - :﴿ كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بالحق ﴾ [ الأنفال : ٥ ] وقال في آيةٍ أخرى :﴿ إِذْ أَخْرَجَهُ الذين كَفَرُواْ ﴾ [ التوبة : ٤٠ ]، وقوله ﴿ وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وأبكى ﴾ [ النجم : ٤٣ ]، مع قوله :﴿ فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً ﴾ [ التوبة : ٨٢ ]، قال القفال :" هو الذي يسيركم في البرِّ والبحْرِ ؛ أي : هو الهادي لكم إلى السَّيْرِ في البحر والبر، طلباً للمعاش، وهو المسير لكم ؛ لأنَّه هيَّأ لكم أسباب ذلك السَّيْر "، والجواب : لا شك أنَّ المسيِّر في البحر هو الله - تعالى جلَّ ذكره - ؛ لأنَّه هو المحدث لتلك الحركات في أجزاء السَّفينة، وإضافة الفعل إلى الفاعل هو الحقيقة، فيجبُ أن يكون مسيراً لهم في البرِّ والبحر، إذ لو كان مسيّراً لهم في البرِّ بمعنى إعطاء الآلات والأدوات، لكان مجازاً، فيلزم كون اللفظ الواحد حقيقة ومجازاً دفعةً واحدةً، وذلك باطلٌ، على ما تقرر في أصول الفقه، قال أبو هاشم :" لا يبعُد أن يقال : إن الله تعالى تكلَّم به مرَّتين "، وهذا باطلٌ ؛ لأن هذا القول لم يقل به أحدٌ من الأئمَّة، ممَّن كانوا قبله، فكان خلافاً للإجماع، فيكون باطلاً.

فصل


معنى الآية :﴿ هُوَ الذي يُسَيِّرُكُمْ فِي البر ﴾ على ظهور الدَّوابِّ، وفي البحر على الفلك، ﴿ حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك ﴾ أي : في السفن. والفلك : تكون واحداً، وجمعاً، " وَجَرَيْنَ بِهِم " أي : جرت الفلك بالنَّاس، رجع من الخطاب إلى الغيبة.
والفائدة فيه من وجوه :
أحدها : ما تقدم عن الزمخشري، وهو المبالغةُ بذكر حالهم لغيرهم ؛ ليعجبوا منها، ويستدعي منهم مزيد الإنكار والتَّقبيح.
وثانيها : قال الجُبَّائي :" إنَّ مخاطبته - سبحانه جلَّ ذكره - لعباده، على لسان الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - بمنزلة الخبر عن الغائب، وكل من أقام الغائب مقام المخاطب، حسن منه أن يردَّه مرة أخرى إلى الغائب ".
وثالثها : قال ابن الخطيب :" إن الانتقال من لفظ الغيبة، إلى لفظِ الحضور، يدلُّ على مزيد التقريب، والإكرام، وأمَّا الانتقال من لفظ الحضور، إلى لفظ الغيبة، فإنه يدلُّ على المقتِ، والتعذيب، وهو اللاَّئق بحال هؤلاء، لأنَّ من كان صفته، أنَّه يقابل إحسان الله إليه بالكفر، أن يكون اللاَّئقُ به ذلك ". والأول كما في الفاتحة، فإن قوله :﴿ بسم الله الرحمن الرَّحِيمِ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين الرحمن الرحيم ﴾ [ الفاتحة : ١-٣ ] خطاب غيبة، ثم قال :﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ [ الفاتحة : ٥ ] : وهذا يدل على أن العبد، كأنه انتقل من مقام الغيبة إلى مقام الحضور، وهو يوجب عُلُو الدرجة، وكمال القرب.
ثم قال :" بريحٍ طيبةٍ " : لينة، " وفَرِحُوا بها " أي : بالرِّيح، " جَاءَتْهَا " أي : جاءت الفلك، أو جاءت الريح اللينة كما تقدَّم، " ريح عاصف " شديدة، ولم يقل عاصفة ؛ لاختصاص الرِّيح بالعُصُوف، وقيل :" الرِّيح " يُذكَّر ويؤنث.
قال الفراء، والزجاج : يقال : ريحٌ عاصفٌ، وعاصفةٌ، وقد عصفتْ عُصُوفاً وأعْصَفَتْ فهي مُعْصِف ومُعْصِفَة، وعصفت الريح : اشتدتْ وأصلُ العَصْف : السُّرعة، يقال : ناقةٌ عاصفٌ، وعصُوفٌ ؛ سريعة، وإنما قيل :" ريحٌ عاصفٌ " لأنَّه يُراد ذات عُصُوف، كما قيل : لابنٌ وتامرٌ ؛ أو لأنه لفظ يذكَّر ويؤنَّث.
فإن قيل : الضميرُ في " جَاءتْهَا " يعودُ على الفلك، وهو ضمير الواحد، والضمير في قوله :" وجَريْنَ بهمْ " عائد على الفلك، وهو ضميرُ الجمع، فما السببُ فيه ؟.
فالجواب من وجهين :
الأول : لا نُسَلِّم أن الضمير في " جَاءتْهَا "، عائدٌ إلى الفلك، بل يعُود على الرِّيح الطيِّبة.
الثاني : لو سلَّمنا ذلك، إلاَّ أنّ لفظ الفلك يصلح للواحد والجمع. ثم قال :" وجَاءَهُم " أي : ركَّاب السفينة " الموج مِن كُلِّ مكانٍ " وهو حركةُ الماءِ واختلاطهُ، وقيل : المَوْج ما ارتفع من الماء فوق البحر، " وظَنُّوا " : أيْقَنُوا " أنَّهُم أحيطَ بهم " أي : ظنُّوا القرب من الهلاك، وأصله : أنَّ العدوَّ إذا أحاط بقوم أو بلدٍ، فقد دنوا من الهلاك، ﴿ دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين ﴾ أي : أخلصُوا لله في الدعاء، ولم يدعُوا أحداً سواه، قال ابنُ عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - : يريد : ترك الشرك، ولم يشركوا به من آلهتهم شيئاً٢، وقال الحسن - رحمه الله- :" دَعَوُا اللهُ مُخْلصينَ ؛ جارياً مُجْرَى الإيمان الاضطراري٣ "، وقال ابن زيد :" هؤلاء المشركون يدعون مع الله ما يدعون، فإذا جاء الضُّرُّ والبلاء لم يدعُوا إلاَّ الله " ٤ وعن أبي عبيدة : أنَّ المراد من ذلك الدعاء قولهم : أهْيَا شر هَيَا، أي : يا حيُّ يا قيُّوم٥، وقالوا : لَئِنْ أنْجيتنا يا رب من هذه الريح العاصف، أو من هذه الأمواج، أو من هذه الشدائد، وهذه الألفاظ، وإن لم يسبق ذكرها ؛ إلا أنه سبق ما يدلُّ عليها، ﴿ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين ﴾ لك بالإيمان والطَّاعة.
واعلم : أنَّه يمكن أن يقدَّر في الآية إضمار، تقديره : دعوا اللهَ مخلصين لهُ الدِّ ] ن، مريدين أن يقولوا : لَئِنْ أنْجَيْتَنا، ويمكن أن يقال : لا حاجة إلى الإضمار ؛ لأنَّ قوله :" دعَوُا اللهَ " يصير مُفَسَّراً بقوله :﴿ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هذه لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين ﴾ فهم في الحقيقة، ما قالُوا إلاَّ هذا القول.
ولمَّا حكى عنهم التَّضرع الكامل، ذكر أنَّهُم بعد الخلاص من تلك البليَّة، أقدموا في الحالِ على البغي في الأرض بغير الحقِّ، قال ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - : يريد : بالفسادِ والتَّكذيب والجُرْأة على الله - عزَّ وجلَّ -.
قوله :﴿ يا أيها الناس إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ ﴾ أي : وباله راجعٌ إليها، وقيل : المرادُ : بغي بعضكم على بعض، كقوله :﴿ اقتلوا أَنْفُسَكُمْ ﴾ [ النساء : ٦٦ ]، ﴿ وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ ﴾ [ النساء : ٢٩ ]، ﴿ وَلاَ تلمزوا أَنفُسَكُمْ ﴾ [ الحجرات : ١١ ] والمعنى : أنَّ بغي بعضهم على بعض، منفعة الحياة الدنيا، ولا بقاء لها، والبغي من منكرات المعاصي، قال : صلوات الله وسلامه عليه - :" أسْرَعُ الخَيْرِ ثواباً صلةُ الرَّحم، وأعجلُ الشَّرِّ عقاباً البغي، واليمين الفاجرة "، وروي :" ثنتان يعجلهما الله - تعالى - في الدنيا : البَغْي، وعقُوقُ الوالدين " وعن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - :" لو بغى جَبَلٌ على جبلٍ، لاندَكَّ الباغِي ".
وقال محمد بن كعب - رضي الله عنه - ثلاثٌ من كنَّ فيه كنَّ عليه : البغيُ، والنَّكْثُ، والمَكْرُ، قال - تعالى - :﴿ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ ﴾، ﴿ وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [ الأنعام : ١٢٣ ]، ﴿ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ على نَفْسِهِ ﴾ [ الفتح : ١٠ ].
قوله :﴿ مَّتَاعَ الحياة الدنيا ﴾ قرأ٦ حفص :" مَتَاعَ " بالنصب، ونصبُه على خمسة أوجه :
أحدها : أنَّهُ منصوب على الظرف الزمانيُّ، نحو :" مَقْدمَ الحجَّاج "، أي : زمن متاع الحياة.
والثاني : أنَّه منصوبٌ على المصدرِ الواقع موقع الحالِ، أي : مَتَمتِّعينَ، والعاملُ فِي هذا الظرف، وهذه الحال : الاستقرارُ الذي في الخبر، وهو " عليكم "، ولا يجوزُ أن يكونا منصوبين بالمصدر ؛ لأنَّه يلزمُ منه الفصلُ بين المصدر، ومعموله بالخبر، وقد تقدَّم أنَّه لا يخبرُ عن الموصول إلاَّ بعد تمام صلته.
والثالث : نصبه على المصدر المؤكَّد بفعلٍ مقدرٍ، أي : يتمتَّعُون متاع الحياة الدُّنْيا.
الرابع : أنه منصوبٌ على المفعول به، بفعلٍ مقدر يدلُّ عليه المصدر، أي : يَبْغُون متاع الحياةِ الدُّنيا، ولا جائزٌ أن ينتصب بالمصدر ؛ لما تقدَّم.
الخامس : أن ينتصب على المفعول من أجله، أي : لأجل متاع، والعامل فيه : إمَّا الاستقرارُ المقدَّرُ في " عَلَيْكُم "، وإمَّا فعلٌ مقدَّرٌ، ويجوز أن يكون النَّاصبُ له، حال جعله ظرفاً، أو حالاً، أو مفعولاً من أجله : نفس البغي، لا على جعل " عَلَى أنْفُسِكُم " خبراً، بل على جعله متعلِّقاً بنفس البغي، والخبرُ محذوفٌ ؛ لطول الكلام، والتقدير : إنَّما بغيكم على أنفسكم، متاع الحياة مذمومٌ، أو مكروهٌ، أو مَنْهيٌّ عنه.
وقرأ باقي السبعة " مَتَاعُ " بالرفع - وفيه أوجه :
أظهرها : أنَّه خبرُ " بَغْيُكُمْ "، و " عَلَى أنفُسِكُمْ " : متعلقٌ بالبغي.
ويجُوزُ أن يكون " عليكم " خبراً، و " مَتَاعُ " خبراً ثانياً.
ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوفٍ، أي : هو متاع كقوله :﴿ لَمْ يلبثوا إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلاَغٌ ﴾ [ الأحقاف : ٣٥ ]. أي : هذا بلاغٌ.
وقرأ ابن أبي إسحاق٧، " مَتَاعاً الحياةَ " بنصب " مَتَاعاً " و " الحَيَاة "، ف " مَتَاعاً " : على ما تقدَّم، وأمَّا " الحَيَاة " : فيجُوزُ أن تكون مفعولاً بها، والنَّاصِبُ لها المصدر، ولا يجوزُ والحالةُ هذه، أن يكون " مَتَاعاً " مصدراً مؤكداً ؛ لأنّ المؤكِّد لا يعمل. ويجُوزُ أن تنتصب " الحَيَاة " على البدل من " مَتَاعاً " لأنها مشتملةٌ عليه، وقرئ٨ أيضاً :" مَتاعِ الحياة "، بجرِّ " متاع "، وخُرِّجت على النَّعت لأنفسكم، ولا بُدَّ من حذف مضافٍ حينئذٍ، تقديره : على أنفسكم ذوات متاع الحياة، كذا خرَّجهُ بعضهم، ويجُوزُ أن يكون ممَّا حذف منه حرفُ الجَرّ، وبقي عمله، أي : إنَّما بَغْيُكم على أنفسكم ؛ لأجل متاع، ويدلُّ على ذلك ؛ قراءةُ النَّصْب في وجه من يجعله مفعولاً من أ
١ ذكره الرازي في "تفسيره" (١٧/٥٧)..
٢ انظر المصدر السابق..
٣ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٦/٥٤٥)..
٤ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٦/٥٤٥)..
٥ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٥٥٤) وعزاه إلى أبي الشيخ عن مكحول..
٦ ينظر: السبعة ص (٣٣٥)، الحجة ٤/٢٢٦، حجة القراءات ص (٣٣٠)، إعراب القراءات ١/٢٦٦، إتحاف فضلاء البشر ٢/١٠٧..
٧ ينظر: المحرر الوجيز ٣/١١٣، البحر المحيط ٥/١٤٣، الدر المصون ٤/١٩..
٨ ينظر: البحر المحيط ٥/١٤٣، الدر المصون ٤/١٩..
قوله - تعالى - ﴿إِنَّمَا مَثَلُ الحياة الدنيا﴾ الآية.
لمَّا قال - تعالى -: ﴿إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ مَّتَاعَ الحياة الدنيا﴾ [يونس: ٢٣] ضرب هذا المثل لمن اغترَّ بالحياةِ الدُّنيا، واشتد تمسُّكه بها، وأعرض عن التأهُّبِ للآخرة، فقال: ﴿إِنَّمَا مَثَلُ الحياة الدنيا﴾ وهذه الجملةُ سيقتْ؛ لتشبيه الدُّنْيَا بنباتِ الأرض، وقد شرح الله وجه الشَّبه بما ذكر.
قال الزمخشري: «هذا من التَّشبيه المُركَّب، شُبِّهتْ حال الدُّنيا، في سرعةِ تقضِّيهَا،
298
وانقراضِ نعيمها بعد الإقبالِ، بحالِ نباتِ الأرض في جفافه، وذهابه حطاماً بعدما التفَّ، وتكاثف، وزيَّن الأرض بخُضْرته، ورونقه»، التَّشبيهُ المركبُ في اصطلاح البيانيِّين: إمَّا أن يكون طرفاهُ مركَّبين، أي: تشبيهُ مركَّبٍ بمركَّبٍ؛ كقول بشَّار بن بُردٍ: [الطويل]
٢٨٨٥ - كَأن مُثارَ النَّقْعِ فَوْقَ رُءُوسِنَا وأسْيَافَنَا لَيْلٌ تَهَاوَى كواكِبُه
وذلك أنَّه يُشبِّه الهيئة الحاصلة، من هُوِيِّ أجرام مشرقة، مستطيلة متناسبةِ المقدارِ، متفرقةٍ في جوانب شيءٍ مُظْلم، بليلٍ سقطتْ كواكبُه، وإمَّا أن يكون طرفاهُ مُخْتلفين بالإفرادِ والتَّركيب، وتقسيماتُه في غير هذا الموضوع.
قوله: «كَمَآءٍ» : هو خبرُ المبتدأ، و «أَنزَلْنَاهُ» : صفة ل «مَاءٍ»، و «مِنَ السَّمَاءِ» : متعلِّقٌ ب «أنزَلنَاهُ»، ويضعفُ جعله حالاً من الضَّمير المنصوب، وقوله: «فاختلط بِهِ» في هذه الباءِ وجهان:
أحدهما: أنها سببيَّةٌ، قال الزمخشري: «فاشْتبكَ بسببهِ، حتى خالط بعضه بعضاً».
قال ابن عطيَّة: «وصَلَتْ فِرْقَةٌ» النَّبات «، بقوله:» فاخْتَلَطَ «، أي: اختلط النَّبَاتُ بعضه ببعضٍ بسبب الماء».
والثاني: أنَّها للمُصاحبة، بمعنى: أنَّ الماء يجري مجرى الغذاء له، فهو مُصاحبه، وزعم بعضُهم: أنَّ الوقف على قوله: «فاختلط»، على أنَّ الفاعِلَ ضميرٌ عائدٌ على الماءِ، وتبتدىءُ «بِهِ نَبَاتُ الأرض» على الابتداء والخبر، والضمير في «بِهِ» على هذا، يجُوزُ عودُه على الماءِ، وأن يعُود على الاختلاط الذي تضمَّنَهُ الفعل، قاله ابن عطيَّة، وقال أبو حيَّان: «الوقْفُ على قوله:» فاخْتلَطَ «لا يجُوزُ، وخاصَّةً في القرآن؛ لأنَّه تفكيكٌ للكلام المتَّصل الصحيح، والمعنى الفصيحِ، وذهابٌ إلى اللُّغْزِ، والتَّعقيد».
قوله «مِمَّا يَأْكُلُ» فيه وجهان:
أحدهما: أنَّه متعلِّقٌ ب «اخْتَلَطَ»، وبه قال الحُوفيُّ.
والثاني: أنَّه حالٌ من «النَّبات»، قاله أبو البقاء، وهو الظاهرُ، والعاملُ فيه محذوفٌ على القاعدة المُستقرَّة، أي: كائناً أو مُسْتقرّاً ممَّا يأكل.
ولو قيل: إنَّ «مِنْ» لبيان الجنسِ، لجاز، وقوله: «حتَّى» غايةٌ فلا بُدَّ لها من شيءٍ مُغَيّاً، والفعلُ الذي قبلها - وهو «اخْتَلَطَ» - لا يصح أن يكون مُغَيّاً، لقصر زمنهِ، فقيل: ثمَّ فعل محذوفٌ، أي: لم يزلِ النباتُ ينمُو حتى كان كَيْتَ وكَيْتَ وقيل: يجوز «فاخْتَلَطَ»
299
بمعنى: فدام اختلاطه، حتى كان كَيْتَ وكَيْتَ، و «إذَا» بعد «حتَّى» هذه تقدَّم التَّنبيه عليها، قوله: «وازينت» بوصل الهمزة، وتشديد الزاي والياء، والأصلُ «وتزَيَّنَتْ» فلمَّا أريدَ إدغامُ التَّاء في الزَّاي بعدها، قُلبت زاياً، وسُكِّنَت فاجتُلِبَت همزة الوصْل؛ لتعذُّر الابتداء بالسَّاكن، فصار «ازَّيَّنت»، وتقدَّم تحريرُ هذا عند قوله - تعالى -:
﴿فادارأتم
فِيهَا﴾
[البقرة: ٧٢].
وقرأ أبيّ بن كعب وعبد الله وزيد بن علي، والأعمش: «وتَزيَّنَتْ» على تفعَّلَتْ، وهو الأصلُ المُشَار إليه، وقرأ سعد بن أبي وقَّاص، والسُّلمي، وابنُ يعمُر، والحسن، والشَّعبي، وأبُو العالية، ونصر بن عاصم، وابنُ هرمز، وعيسى الثقفي: «وَأزْيَنَتْ» على وزن أفعَلَتْ، وأفعل هنا بمعنى: صار ذا كذا، كأحْصَدَ الزَّرعُ وأغدَّ البعيرُ، والمعنى: صارت ذا زينة، أي: حضرت زينتها وحانَتْ، وكان من حقِّ الياءِ على هذه القراءة، أن تُقْلبَ ألفاً، فيقال: أزَانَتْ، كأنَابَت فتُعَلُّ بنقلِ حركتها إلى السَّاكِن قبلها، فتتحرَّك حينئذٍ، وينفتح ما قبلها، فتقلب ألفاً كما تقدَّم في نحو: أقامَ وأنابَ، إلاَّ أنَّها صحَّتْ شذُوذاً؛ كقوله: «أغْيَمت السماء، وأغْيَلَت المرأة»، وقد ورد ذلك في القرآن، نحو: ﴿استحوذ﴾ [المجادلة: ١٩] وقياسه: اسْتَحَاذَ؛ كاستقام.
وقرأ أبو عثمان النَّهديُّ - وعزاه ابن عطيَّة لفرقةٍ غير مُعيَّنة -: «وازْيأنَّتْ» بهمزة وصل، بعدها زايٌ ساكنةٌ، بعدها ياءٌ مفتوحةٌ خفيفةٌ، بعدها همزةٌ مفتوحةٌ، بعدها نونٌ مشددةٌ، قالوا: وأصلها: «وازْيَانَّتْ» بوزن «احْمَارَّتْ» بألف صريحة، ولكنَّهُم كرهُوا الجمع بين السَّاكنين، فقُلبتَ الألفُ همزة، كقراءة ﴿الضآلين﴾ [الفاتحة: ٧]، و ﴿جَآنٌّ﴾ [الرحمن: ٣٩]، وعليه قولهم: «احْمأرَّت» بالهمز، وأنشد: [الطويل]
٢٨٨٦ -........................... إذَا مَا احْمَأرَّتْ بالعَبيطِ العَوامِلُ
وقد تقدَّم هذا مُشْبَعاً في آخر الفاتحة.
وقرأ أشياخ عوف بن أبي جميلة: «وَازْيَأنَّت» بالأصل المشار إليه، وعزاها ابن
300
عطيَّة لأبي عثمان النَّهْدي، وقرىء: «وازَّايَنَتْ»، والأصلُ: تزاينت، فأدغم.
وقوله: «أهْلُهَا» أي: أهل نباتها. و «أتَاهَا» : هو جوابُ «إذَا»، فهو العاملُ فيها.
وقيل: الضَّميرُ عائدٌ على الزِّينة.
وقيل: على الغَلَّةِ، أي: القُوت فلا حذفَ حينئذٍ، و «لَيْلاً ونَهَاراً» ظرفان؛ للإتيان، أو للأمر، والجعل هنا تصْييرٌ، وحصيد: فَعِيل بمعنى: مفعول، ولذلك لم يؤنث بالتاء، وإن كان عبارة عن مُؤنَّث، كقوله: أمْرَأة جريحٌ. قوله: «كَأَن لَّمْ تَغْنَ» هذه الجملة يجُوزُ أن تكون حالاً من مفعول «جَعَلْنَاها» الأوَّل، وأن تكون مستأنفةٌ جواباً لسُؤالٍ مقدَّرٍ، وقرأ هارون بن الحكم «تتغَنَّ»، بتاءين بنزنة تتفعَّل؛ كقول الأعشى: [المتقارب]
٢٨٨٧ -........................... طَويلَ الثَّواءِ طويلَ التَّغَنْ
وهو بمعنى: الإقامة، وقد تقدَّم في الأعراف، وقرأ الحسن، وقتادة: «كأنْ لم يَغْنَ» بياء الغيبة، وفي هذا الضمير ثلاثة أوجه:
أجودها: أن يعود على الحصيد؛ لأنَّه أقرب مذكور.
وقيل: يعودُ على الزخرف، أي: كأن لم يَقُم الزُّخْرُف.
وقيل: يعودُ على النَّبات أو الزَّرع الذي قدَّرته مضافاً، أي: كأن لم يَغْنَ زَرْعُها ونَبَاتُهَا.
و «بالأمْسِ» : المرادُ به: الزَّمن الماضي، لا اليوم الذي قبل يومك؛ كقول زهير: [الطويل]
٢٨٨٨ - وأعْلَمُ عِلْمَ اليومِ والأمْسِ قبلهُ ولكنَّنِي عَنْ عِلْمِ ما فِي غَدٍ عَمِ
لمْ يقْصِدْ بها حقائقها، والفرقُ بين الأمسيْن: أنَّ الذي يُرَاد به قبل يومك مبنيٌّ؛ لتضمُّنه معنى الألف واللاَّم، وهذا مُعْرَبٌ تدخل عليه «ألْ» ويضافُ، وقوله: «كَذلِكَ نُفَصِّلُ» نعت مصدرٍ محذُوف، أي: مثل هذا التَّفصيل الذي فصَّلناه في الماضي، نُفَصِّل في المستقبل.
301

فصل


معنى الآية: ﴿إِنَّمَا مَثَلُ الحياة الدنيا﴾ في فنائها، وزوالها ﴿كَمَآءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السمآء فاختلط بِهِ﴾ أي: بالمطر ﴿نَبَاتُ الأرض﴾ قال ابن عباسٍ: نبت بالماءِ من كل لون ﴿مِمَّا يَأْكُلُ الناس﴾ : من الحُبُوبِ والثِّمار، «والأنعام» من الحشيش ﴿حتى إِذَآ أَخَذَتِ الأرض زُخْرُفَهَا﴾ : حسنها، وبهجتها، وظهر الزهْرُ أخضرُ، وأحمرُ، وأصفرُ، وأبيضُ، «وازينت» شبهها بالعروس، إذا لبست الثياب الفاخرة من كل لون ﴿وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ﴾ على جذاذها وقطافها وحصادها، ردَّ الكناية إلى الأرض، والمراد: النبات إذ كان مفهوماً، وقيل: إلى الغلَّة، وقيل: إلى الزِّينَة «أَتَاهَآ أَمْرُنَا» : قضاؤنا بالهلاك ﴿لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً﴾ أي: محصودة مقطوعة، وقال أبو عبيدة: «الحصيد: المستأصل»، ﴿كَأَن لَّمْ تَغْنَ بالأمس﴾ من غني بالمكان: إذا أقام به.
قال الليث «يقال للشيء إذا فني: كأن لم يَغنَ بالأمْسِ، أي: كأنْ لمْ يَكُنْ».

فصل


اعلم: أن تشبيهَ الحياة الدنيا بالنبات يحتملُ وجوهاً، لخَّصها القاضي.
أحدها: أنَّ عاقبةَ هذه الحياة التي يُنفقُهَا المرء في هذه الدنيا، كعاقبة هذا النَّبات، الذي حين عظُم الرَّجَاء في الانتفاع به، وقع اليأس منه؛ لأنَّ المُتَمسِّك بالدنيا، إذا عظمت رغبتُه فيها، يأتيه الموت، وهو معنى قوله: ﴿حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أوتوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً﴾ [الأنعام: ٤٤].
وثانيها: أنَّه - تعالى - بيَّن أنَّه كما لم يحصل لذلك الزَّرْع عاقبةٌ تُحْمد، فكذلك المُغترُّ بالدُّنْيَا المُحبُّ لها، لا يحصل له عاقبة تحمد.
وثالثها: أنَّ هذا التشبيه، كقوله - تعالى -: ﴿وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً﴾ [الفرقان: ٢٣] أي: لمَّا صار سعي هذا الزَّرع باطلاً، بسببِ حدوث المهلك، فكذلك سعي المغترَّ بالدُّنْيَا.
ورابعها: أنَّ مالكَ هذا البستان لمَّا أتْعَبَ نفسه في عمارته، وكذلك الرُّوحَ، وعلَّق قلبه بالانتفاع به، فإذا حدث السببُ المهلكُ، صار العناءُ الشديد، الذي تحملُه في الماضي، سبباً لحصول الشقاء الشَّديد لهُ في المستقبل، وهو ما يحصُل في قلبه من الحشرات.
فكذلك حالُ من أحبَّ الدنيا، وأتعب نفسه في تحصيلها، فإذا مات، وفاتهُ كلُّ ما نال، صار العناء الذي تحمَّله في تحصيل الدنيا، سبباً لحُصُول الشقاء العظيم له في الآخرة.
302
وخامسها: لعلَّه - تعالى - إنَّما ضرب هذا المثل لمنْ لا يُؤمن بالمعاد؛ لأنَّا نرى الزَّرْع الذي انتهى إلى الغايةِ في الحسن، ثمَّ إنَّ ذلك الحسنَ يزول بالكلِّيَّة، ثم تصير تلك الأرضُ موصوفة بتلك الزينة مرة أخرى، فذكر - تعالى - هذا المثال؛ ليدلَّ على أنَّ مَنْ قَدَر على ذلك، كان قادراً على إعادة الأحياء في الآخرة؛ ليَجَازيَهُم على أعمالهم.
قوله تعالى: ﴿والله يدعوا إلى دَارِ السلام﴾ الآية.
لمَّا نفر العقلاء عن الميل إلى الدُّنيا، رغَّبهُم في الآخرة بهذه الآية، قال قتادة: «السَّلام هو الله، وداره الجنَّة».
وسمِّي الله - تعالى - بالسَّلام لوجوه:
أحدها: أنَّه لمَّا كان واجب الوُجُودِ لذاته، فقد سَلِمَ من الفناء والتَّغيير، وسلم في ذاته وصفاته من الافتقار إلى الغير، وهذه الصِّفةُ ليست إلاَّ له - سبحانه.
وثانيها: وصف بالسلام، أي: أنَّ الخَلْق سَلِمُوا من ظُلْمِهِ؛ ولأنَّ كل ما سواه فهو مُلْكُه ومِلْكُه، وتصرُّفُ المالك في ملك نفسه لا يكون ظُلْماً.
وثالثها: قال المُبَرِّد: «وصف بالسلام، أي: لا يقدر على السَّلام إلاَّ هو، والسَّلام: عبارة عن تخليص العاجزين عن الآفات، وهو المنتصف للمظلُومين من الظالمين» وعلى هذا التقدير: السَّلام مصدر «سَلِمَ».
وقيل: سُمِّيت الجنَّة دارَ السلام؛ لأنَّ من دخلها سلم من الآفات، وقيل: المرادُ بالسَّلام: التَّحية؛ لأنَّه - تعالى - يُسَلِّم على أهلها، قال - تعالى -: ﴿سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ﴾ [يس: ٥٨]، والملائكةُ يُسلِّمُون عليهم أيضاً، قال - تعالى -: ﴿وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ﴾ [الرعد: ٢٣ - ٢٤]، وهم يُحيُّون بعضهم بعضاً بالسَّلام، قال - تعالى -: ﴿وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ﴾ [يونس: ١٠].
وروى جابرٌ، قال: «جاءت ملائكةُ إلى النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو نائمٌ، فقالوا: إنَّ لصاحبكُم هذا مثلاً، مثله كمثل رجُل بنى داراً، وجعل فيها مأدُبَةً، وبعثَ داعياً فمنْ أجاب الدَّاعِي، دخل الدَّار، وأكل من المَأدبة، ومنْ لمْ يُجبِ الدَّاعي، لم يدخُل الدَّار، ولمْ يأكلْ من المأدُبةِ، فالدَّارُ الجنَّة، والدَّاعي محمَّدٌ، فمن أطاع محمداً، فقد أطاعَ اللهَ، ومنْ عَصَى مُحمداً، فقد عصى الله».
303

فصل


قال ابن عبَّاسٍ: «الجِنان سبعٌ: دار الجلال، ودار السَّلام، وجنَّة عدن، وجنَّةُ المأوى، وجنَّة الخُلْدِ، وجنَّة الفردوس، وجنَّة النَّعيم».
ثم قال تعالى: ﴿وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ : وهو الإسلام.
وروي عن عليِّ بن أبي طالب - كرَّم الله وجهه - قال: سمعت رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: الصِّراط المستقيم: كتابُ الله.
وقال قتادة، ومجاهد: هو الحق.
وقيل: رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وأبو بكر، وعمر.
واحتجَّ أهلُ السُّنَّة: على أنَّ الكفر والإيمان بقضاء الله - تعالى -؛ لأنَّه - تعالى - بيَّن في هذه الآيةِ، أنَّه دعا جميع الخلق إلى دارالسَّلام، ثم بيَّن أنَّه ما هدى إلاَّ بعضهم، فهذه الهدايةُ الخاصَّةُ، يجبُ أن تكون مغايرة لتلك الدعوة العامَّة، ولا شكَّ أنَّ الإقدار، والتمكين، وإرسال الرُّسُل، وإنزال الكُتُب أمورٌ عامَّة، فوجب أن تكون الهداية الخاصَّة مغايرة لكلِّ هذه الأشياء، وما ذاك إلاَّ أنَّه - تعالى - خصَّه بالعلم والمعرفة، دُون غيره.
وأجاب القاضي بوجهين:
الأول: أن المراد: ويهدي الله من يشاء، إلى إجابة تلك الدَّعوة، أي: أنَّ من أجاب الدُّعاء، وأطاع واتَّقَى، فإنَّ الله يهديه إليها.
والثاني: أن المراد بهذه الهداية الألطافُ، وأجيب عن هذين الوجهين، بأنَّ عندكم يجب على الله فعل هذه الهداية، وما يكون واجباً، لا يكون معلَّقاً بالمشيئةِ، فامتنع حمله على ما ذكرتم.
304
قوله تعالى :﴿ والله يدعوا إلى دَارِ السلام ﴾ الآية.
لمَّا نفر العقلاء عن الميل إلى الدُّنيا، رغَّبهُم في الآخرة بهذه الآية، قال قتادة :" السَّلام هو الله، وداره الجنَّة " ١.
وسمِّي الله - تعالى - بالسَّلام لوجوه :
أحدها : أنَّه لمَّا كان واجب الوُجُودِ لذاته، فقد سَلِمَ من الفناء والتَّغيير، وسلم في ذاته وصفاته من الافتقار إلى الغير، وهذه الصِّفةُ ليست إلاَّ له - سبحانه.
وثانيها : وصف بالسلام، أي : أنَّ الخَلْق سَلِمُوا من ظُلْمِهِ ؛ ولأنَّ كل ما سواه فهو مُلْكُه ومِلْكُه، وتصرُّفُ المالك في ملك نفسه لا يكون ظُلْماً.
وثالثها : قال المُبَرِّد :" وصف بالسلام، أي : لا يقدر على السَّلام إلاَّ هو، والسَّلام : عبارة عن تخليص العاجزين عن الآفات، وهو المنتصف للمظلُومين من الظالمين " وعلى هذا التقدير : السَّلام مصدر " سَلِمَ ".
وقيل : سُمِّيت الجنَّة دارَ السلام ؛ لأنَّ من دخلها سلم من الآفات، وقيل : المرادُ بالسَّلام : التَّحية ؛ لأنَّه - تعالى - يُسَلِّم على أهلها، قال - تعالى - :﴿ سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ ﴾ [ يس : ٥٨ ]، والملائكةُ يُسلِّمُون عليهم أيضاً، قال - تعالى - :﴿ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ ﴾ [ الرعد : ٢٣-٢٤ ]، وهم يُحيُّون بعضهم بعضاً بالسَّلام، قال - تعالى - :﴿ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ ﴾ [ يونس : ١٠ ].
وروى جابرٌ، قال :" جاءت ملائكةُ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم وهو نائمٌ، فقالوا : إنَّ لصاحبكُم هذا مثلاً، مثله كمثل رجُل بنى داراً، وجعل فيها مأدُبَةً، وبعثَ داعياً فمنْ أجاب الدَّاعِي، دخل الدَّار، وأكل من المَأدبة، ومنْ لمْ يُجبِ الدَّاعي، لم يدخُل الدَّار، ولمْ يأكلْ من المأدُبةِ، فالدَّارُ الجنَّة، والدَّاعي محمَّدٌ، فمن أطاع محمداً، فقد أطاعَ اللهَ، ومنْ عَصَى مُحمداً، فقد عصى الله " ٢.

فصل


قال ابن عبَّاسٍ :" الجِنان سبعٌ : دار الجلال، ودار السَّلام، وجنَّة عدن، وجنَّةُ المأوى، وجنَّة الخُلْدِ، وجنَّة الفردوس، وجنَّة النَّعيم " ٣.
ثم قال تعالى :﴿ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ : وهو الإسلام.
وروي عن عليِّ بن أبي طالب - كرَّم الله وجهه - قال : سمعت رسُول الله صلى الله عليه وسلم يقول : الصِّراط المستقيم : كتابُ الله٤.
وقال قتادة، ومجاهد : هو الحق٥.
وقيل : رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمر٦.
واحتجَّ أهلُ السُّنَّة : على أنَّ الكفر والإيمان بقضاء الله - تعالى - ؛ لأنَّه - تعالى - بيَّن في هذه الآيةِ، أنَّه دعا جميع الخلق إلى دار السَّلام، ثم بيَّن أنَّه ما هدى إلاَّ بعضهم، فهذه الهدايةُ الخاصَّةُ، يجبُ أن تكون مغايرة لتلك الدعوة العامَّة، ولا شكَّ أنَّ الإقدار، والتمكين، وإرسال الرُّسُل، وإنزال الكُتُب أمورٌ عامَّة، فوجب أن تكون الهداية الخاصَّة مغايرة لكلِّ هذه الأشياء، وما ذاك إلاَّ أنَّه - تعالى - خصَّه بالعلم والمعرفة، دُون غيره.
وأجاب القاضي بوجهين :
الأول : أن المراد : ويهدي الله من يشاء، إلى إجابة تلك الدَّعوة، أي : أنَّ من أجاب الدُّعاء، وأطاع واتَّقَى، فإنَّ الله يهديه إليها.
والثاني : أن المراد بهذه الهداية الألطافُ، وأجيب عن هذين الوجهين، بأنَّ عندكم يجب على الله فعل هذه الهداية، وما يكون واجباً، لا يكون معلَّقاً بالمشيئةِ، فامتنع حمله على ما ذكرتم.
١ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٦/٥٤٨) عن قتادة وذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٣٥٠).
وورد مثله عن ابن عباس ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٥٤٥) وعزاه إلى أبي نعيم والدمياطي في "معجمه" من طريق الكلبي عن أبي صالح عنه بلفظ..... والله السلام والجنة داره..

٢ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٦/٥٤٩) والحاكم (٢/٣٣٩) من حديث جابر وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي..
٣ ذكره القرطبي في "تفسيره" (٨/٢١٠)..
٤ انظر: المصدر السابق..
٥ انظر: المصدر السابق..
٦ انظر: المصدر السابق..
قوله تعالى: ﴿لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ﴾ الآية.
لمَّا دعا عبادهُ إلى دار السَّلام، ذكر السَّعادات الحاصلة لهم فيها، فقال: ﴿لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى﴾ أي: أحسنوا العمل في الدُّنيا، فأتوا المأمورات، واجتنبوا المنهيات.
304
وقال ابن عبَّاسٍ: للذين ذكرُوا كلمة لا إله إلاَّ الله، فأمَّا الحُسْنَى: فهي الجنَّة وأمَّا الزيادة: فقال أبو بكر الصِّدِّيق، وحذيفة، وأبو موسى، وعبادة بن الصامت: هي النَّظرُ إلى وجه الله الكريم، وبه قال الحسن، وعكرمة، وعطاء، ومقاتل، والضحاك، والسدي.
روى ابن أبي ليلى، عن صهيبٍ قال: «قرأ رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هذه الآية: ﴿لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ﴾ قال: إذا دخل أهلُ الجنَّةِ الجنَّة، وأهلُ النَّارِ النَّارَ، نادى منادٍ: يا أهل الجنَّة: إنَّ لكم عند الله موعداً، قالوا: ما هذا الموعدُ، ألمْ يُثقِّل موازِيننا، ويُبيض وُوجوهنا، ويدخِلْنَا الجنَّة، ويُنْجِنَا من النَّارِ؟ قال: فيرفعُ الحجابَ فينظرون إلى وجهِ الله - عزَّ وجلَّ -، قال:» فما أعْطُوا شَيْئاً أحَبَّ إليهم من النَّظر إليْهِ «ويؤيد هذا قوله تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ [القيامة: ٢٢، ٢٣].
وقالت المعتزلةُ: لا يجوزُ حملُ الزِّيادة على الرؤية، لوجوه:
أحدها: أنَّ الدلائل العقليَّة دلَّت على أنَّ رؤية الله - تعالى - ممتنعةٌ.
وثانيها: أنَّ الزيادة يجبُ أن تكون من جنس المزيد عليه، ورؤيةُ الله - تعالى - ليست من جنس نعيم الجنَّة.
وثالثها: أنَّ الحديث المرويَّ يوجب التشبيه؛ لأنَّ النظر: عبارةٌ عن تقليب الحدقة، إلى جهة المرئيِّ، وذلك يقتضي كون المرئيِّ في الجهة؛ لأنَّ الوجه اسم للعضو المخصوص، وذلك يوجبُ التشبيه، فثبت أنَّ هذا اللفظ، لا يمكن حملُه على الرُّؤية، فوجب حملهُ على شيء آخر. قال الجبائي: الحُسْنَى: هي الثَّواب المستحق، والزِّيادة:
305
ما يزيده الله على ذلك الثَّواب من التفضُّل، كقوله - تعالى -: ﴿لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ﴾ [فاطر: ٣٠]، ونقل عن عليٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -، أنه قال:» الزِّيادة: غرفة من لُؤلؤة واحدة «.
وعن ابن عبَّاسٍ:»
الحُسْنَى: هي الحسنة، والزِّيادة عشرُ أمثالها «، وعن الحسن:» عشُر أمثالها إلى سبْعمائة ضعف «، وعن مجاهد:» الزيادة: مغفرة من الله ورضوان «.
وعن يزيد بن سمرة:»
الزِّيادة: أن تمُرَّ السَّحابة بأهْلِ الجنَّة، فتقول: ما تُرِيدُون أن أمطركُم، فلا يُريدُون شيئاً إلاَّ أمطرتهم «.
وأجاب أهل السُّنَّة عن هذه الوجوه، فقالوا: أمَّا قولهم: إنَّ الدلائل العقليَّة دلَّت على امتناع رؤية الله - تعالى -، فهذا ممنوع؛ لأنَّا بيَّنا في كتب الأصُول: أن تلك الدلائل في غاية الفُتُور، وثبت بالأخبارِ الصحيحة إثبات الرُّؤية، كقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -:»
هل تُمَارُونَ في رُؤْيةِ الشَّمْسِ ليس دُونهَا سَحَاب؟ «
حين سألوه عن رؤية الله - تعالى -، وقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «هل تُمارُونَ في رُؤيةِ القمرِ ليلة البدر؟»
فوجب إجراؤها على ظواهرها.
وقولهم: «الزِّيادة يجبُ أن تكُون من جنْسِ المزيد عليه»، فنقول: المزيد عليه إذا كان مقدراً بمقدار معيَّن، كانت الزِّيادةُ من جنسها، وإذا كان مقدراً بمقدار غير معيَّن، وجب أن تكون الزِّيادة مخالفة له، مثال الأول: قول الرَّجُل لغيره: أعطْتُك عشرة أمدادٍ من الحنطة وزيادة، فتكون تلك الزيادة من الحنطة، ومثال الثاني: قوله أعطيتك الحنطة وزيادة، فيجبُ أن تكون الزِّيادة غير الحنطة.
فلفظ: «الحُسْنَى» : وهي الجنَّة، مطلقة، وهي غير مقدَّرة بقدر معيَّن، فتكون الزِّيادة شيئاً مغايراً لما في الجنة.
306
وقولهم: «الحديثُ يدلُّ على إثبات الوجه، وذلك يوجب التشبيه»، فنقولُ: قام الدَّليل على أنَّه - تعالى - ليس بجسم، ولم يقم الدَّليلُ على امتناع الرُّؤية، فوجب ترك العمل بما قام الدَّليل على فساده.

فصل


قال أبو العبَّاس المقري: وردت الحُسْنَى على أربعة معان:
الأول: بمعنى الجنَّة، قال - تعالى -: ﴿لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ﴾ [يونس: ٢٦].
الثاني: الحسنى: الصَّلاح، قال - تعالى -: ﴿وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الحسنى﴾ [التوبة: ١٠٧] أي: الصَّلاح.
الثالث: البنون، قال - تعالى -: ﴿وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الكذب أَنَّ لَهُمُ الحسنى﴾ [النحل: ٦٢] أي: البنُون.
الرابع: الخلف في النفقة، قال - تعالى -: ﴿فَأَمَّا مَنْ أعطى واتقى وَصَدَّقَ بالحسنى﴾ [الليل: ٥ - ٦] أي: بالخلف، ومثله ﴿وَكَذَّبَ بالحسنى﴾ [الليل: ٩].
قوله: «وَلاَ يَرْهَقُ» فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها مستأنفةٌ.
والثاني: أنها في محل نصب على الحال، والعامل في هذه الحال: الاستقرار الذي تضمَّنَهُ الجارُّ، وهو «للَّذين» لوقوعه خبراً عن «الحُسْنَى»، قاله أبو البقاء، وقدَّره بقوله: «استقرَّ لهم الحسنى، مضموناً لهم السَّلامة»، وهذا ليس بجائزٍ؛ لأنَّ المضارع متى وقع حالاً منْفيَّا ب «لا»، امتنع دخولُ واو الحال عليه كالمثبت، وإن ورد ما يُوهم ذلك، يُؤوَّل بإضمار مبتدأ، وقد تقدَّم تحقيقه مراراً [المائدة: ٥٤].
والثالث: أنها في محلِّ رفع نسقاً على «الحُسْنَى»، ولا بدَّ حينئذٍ من إضمار حرفٍ مصدريٍّ، يصحُّ جعلُه معه مخبراً عنه بالجارِّ، والتقدير: للذين أحسنوا الحسنى، وأنْ لا يرهق، أي: وعدم رهقهم، فلمَّا حذفت «أنْ» رفع الفعلُ المضارع؛ لأنَّه ليس من مواضع إضمار «أن» الناصبة، وهذا كقوله - تعالى -: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ﴾ [الروم: ٢٤] أي: أن يريكم، وقوله: «تسْمَع بالمُعَيدي، خيرٌ من أن تراه».
وقوله: [الطويل]
٢٨٨٩ - ألاَ أيُّهَا الزَّاجري أحْضُرُ الوغَى..........................
أي. أن أحضر، روي برفع «أحْضُر» ونصبه، ومنع أبو البقاء هذا الوجه، وقال: «ولا يجوز أن يكون معطوفاً على» الحُسْنَى «؛ لأنَّ الفعل إذا عطف على المصدر، احتاج
307
إلى» أنْ «ذكراً، أو تقديراً، و» أنْ «غير مقدَّرة؛ لأن الفعل مرفوعٌ».
فقوله: «وأنْ غيرُ مقدَّرةٍ؛ لأنَّ الفعل» مرفوع «ليس بجيِّد؛ لأن قوله - تعالى -: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ﴾ [الروم: ٢٤] معه» أنْ «مقدَّرة، مع أنه مرفوع، ولا يلزم من إضمار» أنْ «نصب المضارع، بل المشهور أنَّهُ: إذا أضمرت» أنْ «في غير المواضع التي نصَّ النحويُّون على إضمارها فيها ناصبة، ارتفع الفعلُ، والنصب] قليلٌ جدّاً.

فصل


والرَّهق: الغشيان، يقال: رَهِقَهُ يَرْهقُه رَهَقاً، أي: غشيهُ بسرعة، ومنه ﴿وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي﴾ [الكهف: ٧٣]، ﴿فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً﴾ [الجن: ١٣]. يقال: رَهِقْتُه وأرْهَقْتُه نحو: رَدِفْتُه وأرْدَفْتُه، ففعل وأفعل بمعنًى، ومنه:»
أرْهَقْت الصَّلاة «، إذا أخَّرْتَها، حتى غَشِي وقتُ الأخرى، ورجلٌ مُرْهقٌ، أي: يغشاه الأضياف.
وقال الأزهريُّ:»
الرَّهَقُ: اسم من الإرهاق، وهو أن يحمل الإنسان على نفسه ما لا يطيقُ، ويقال: أرْهَقْتُهُ عن الصَّلاةِ، أي: أعْجَلْتُه عنها «.
وقال بعضهم: أصل الرَّهقِ، المقاربةُ، ومنه غلامٌ مراهقٌ، أي: قارب الحلم، ومنه الحديث»
ارْهَقُوا القبلة «، أي: أقربُوا منها، ومنه: رهقت الكلابُ الصَّيدَ، أي: لحقته، والقَتَر والقَتَرة، الغُبَارُ معه سوادٌ؛ وأنشدوا للفرزدق: [البسيط]
٢٨٩٠ - مُتَوَّجٌ بِرِدَاءِ المُلْكِ يتْبَعُهُ مَوْجٌ تَرَى فوقَهُ الرَّاياتِ والقَتَرَا
أي: غبار العسكر، وقيل: القَتَرُ: الدُّخان، ومنه: قُتارُ القِدْر، وقيل: القَتْر: التَّقليل، ومنه ﴿لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ﴾ [الفرقان: ٦٧]، ويقال: قَتَرْتُ الشَّيء وأقْتَرْتُهُ وقتَّرته، أي: قَلَّلتُه، ومنه ﴿وَعَلَى المقتر قَدْرُهُ﴾ [البقرة: ٢٣٦] وقد تقدَّم، والقترة، نامُوس الصَّائد، وقيل: الحفرة، ومنه قول امرىء القيس: [المديد]
٢٨٩١ - رُبَّ رامٍ بَنِي ثُعلٍ مُتْلِجٍ كَفَّيْهِ في قُتَرِه
أي: في حُفرتهِ التي يحفُرها، وقرأ الحسن، وعيسى بن عمر، وأبو رجاء، والأعمش:»
قَتْرٌ «، بسكون التاء، وهما لغتان: قَتْر وقَتَر، كقَدْر وقَدَر.
308

فصل


المعنى: لا يَغْشَى وجوههم قتر: غبار، جمع قترة، وقال ابن عبَّاس، وقتادة: سواد الوُجُوه،» ولا ذلَّةٌ «: هوان، وقال قتادة:» كآبة «قال ابن أبي ليلى:» هذا بعد نظرهم إلى ربِّهم «، ﴿أولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ إشارة إلى كونها دائمة، آمنة من الانقطاع.
قوله تعالى: ﴿والذين كَسَبُواْ السيئات﴾ الآية.
لمَّا شرح حال المسلمين، شرح بعدهُ حال المُسيئين.
قوله: ﴿والذين كَسَبُواْ﴾ : فيه سبعةُ أوجه:
أحدها: أن يكون»
والذين «: نسقاً على» لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ «، أي: لِلَّذينَ أحْسَنُوا الحُسْنَى، والذين كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جزاءُ سيِّئةٍ بمثلها، فيتعادل التَّقسيم، كقولك: في الدَّار زيدق، والحجرة عمرٌو، وهذا يسمِّيه النحويُّون: عطفاً على معمولي عاملين، وفيه ثلاثة مذاهب:
أحدها: الجواز مطلقاً، وهو قول الفرَّاء.
والثاني: المنعُ مطلقاً، وهو مذهبُ سيبويه.
والثالث: التفصيل بين أن يتقدَّم الجارُّ نحو: في الدَّار زيدٌ، والحجرة عمرو، فيجوز، أو لا، فيمتنع نحو: إن زيداً في الدَّار، وعمراً في القصر، أي: وإنَّ عمراً في القصر، وسيبويه وأتباعهُ يُخَرِّجُون ما ورد منه على إضمار الجارِّ، كقوله - تعالى -: ﴿واختلاف الليل والنهار وَمَآ أَنَزَلَ الله مِنَ السمآء مَّن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرياح آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [الجاثية: ٥] بنصب «آيَات»
في قراءة الأخوين، على ما سيأتي؛ كقوله: [المتقارب]
٢٨٩٢ - أكُلَّ امرىءٍ تَحْسَبينَ امْرَأ ونَارٍ توقَّدُ باللَّيْلِ نَارَا
وقول الآخر: [الرجز]
309
وسيأتي لهذا مزيد بيان - إن شاء الله -، وممَّن ذهب إلى أنَّ هذا الموصول مجرورٌ عطفاً على الموصول قبله: ابن عطيَّة، وأبو القاسم الزمخشري.
الثاني: أن «الَّذينَ» مبتدأ، و «جَزَآءُ سَيِّئَةٍ» مبتدأ ثانٍ، وخبره «بمثلها»، والباء فيه زائدةٌ، أي: وجزاءُ سيئةٍ مثلها، كقوله - تعالى -: ﴿وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا﴾ [الشورى: ٤٠] كما زيدتْ في الخبرِ، كقوله: [الوافر]
٢٨٩٣ - أوْصَيْتَ مَنْ تَوَّه قَلْباً حُرّاً بالكَلْبِ خَيْراً والحَمَاةِ شَرًّا
٢٨٩٤ - فَلاَ تَطْمَعْ - أبَيْتَ اللَّعنَ - فيها ومنْعُكُهَا بشيءٍ يُسْتَطَاعُ
أي: شيء يُستطاع.
وكقول امرىء القيس: [الطويل]
٢٨٩٥ - أ - فإنْ عنْهَا حِقْبَةً لا تُلاقِهَا فإنَّكَ ممَّا أحْدَثَتْ بالمُجَرِّبِ
أي: المُجرِّب، وهذا قولُ ابن كيسان في الآية.
الثالث: أنَّ الباء ليست بزائدةٍ، والتقدير: مقدَّر بمثلها، والمبتدأ الثاني وخبرُهُ خَبَرٌ عن الأول.
والرابع: أنَّ خبر «جزاء سيَّئةٍ» محذوفٌ، فقدَّرهُ الحُوفيُّ بقوله: «لهم جزاءُ سيئة»، قال: ودلَّ على تقدير «لَهُمْ»، قوله: ﴿لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى﴾ حتى تتشاكل هذه بهذه، وقدَّرهُ أبو البقاء: جزاءُ سيِّئة مثلها واقع، وهُو وخبرُهُ أيضاً خبرٌ عن الأول، وعلى هذين التقديرين، فالباء متعلقةٌ بنفس «جزاءُ» ؛ لأنَّ هذه المادَّة تتعدَّى بالباءِ، قال - تعالى -: ﴿جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ﴾ [سبأ: ١٧]، ﴿وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ﴾ [الإنسان: ١٢] إلى غير ذلك.
فإن قلت: أين الرَّابطُ بين هذه الجملة، والموصول الذي هو المبتدأ.
قلت: على تقدير الحوفيُّ، هو الضمرُ المجرور باللاَّم المقدَّر خبراً، وعلى تقدير أبي البقاء: هو محذوفٌ، تقديره: جزاءُ سيئة بمثلها منهُم واقعٌ، نحو: «السَّمْنُ منوانِ بدرهم»، وهو حذفٌ مُطَّرِد، لما عرف.
الخامس: أن يكون الخبرُ، الجملة المنفيَّة من قوله: ﴿مَّا لَهُمْ مِّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ﴾، ويكون «مِنْ عَاصمٍ» إمَّا فاعلاً بالجارِّ قبله؛ لاعتماده على النَّفي، وإمَّا مبتدأ، وخبرُه الجارُّ مقدماً عليه، و «مِنْ» مزيدة فيه على كلا القولين، و «مِنَ الله» متعلِّق ب «عَاصِم»، وعلى
310
كون هذه الجملة خبر الموصول يكون قد فصل بين المبتدأ وخبره بجملتي اعتراضٍ، وفي ذلك خلافٌ عن الفارسيِّ تقدَّم التنبيهُ عليه، وما استدلَّ به عليه.
السادس: أنَّ الخبر هو الجملةُ التشبيهيَّة، من قوله: ﴿كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ﴾، و «كأنَّما» حرف مكفوف، و «مَا» هذه زائدة، تُسمَّى كافَّة ومُهيئة، وتقدَّم ذلك [البقرة: ١١]. وعلى هذا الوجه، فيكون قد فصل بين المبتدأ وخبره بثلاث جمل اعتراضٍ.
السابع: أنَّ الخبر هو الجملة من قوله: ﴿أولئك أَصْحَابُ النار﴾، وعلى هذا القول، فيكون قد فصل بأربع جمل معترضة.
وهي: ﴿جَزَآءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا﴾.
والثانية: ﴿وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ﴾.
والثالثة: ﴿مَّا لَهُمْ مِّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ﴾.
الرابعة: ﴿كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ﴾، وينبغي أن لا يجُوزَ الفصل بثلاث جُمل فضلاً عن أربع.
قوله: «وَتَرْهَقُهمْ» فيها وجهان:
أحدهما: أنَّها في محلِّ نصب على الحال، ولم يُبيِّنْ أبو البقاء صاحبها، وصاحبها هو الموصولُ أو ضميره، وفيه ضعفٌ؛ لمباشرته الواو، إلاَّ أنْ يجعل خبر مبتدأ محذوف.
الثاني: أنَّها معطوفةٌ على «كَسَبُوا».
قال أبو البقاء: وهو ضعيفٌ؛ لأنَّ المستقبل لا يعطفُ على الماضي، فإن قيل: هو بمعنى الماضي فضعيفٌ جداً، وقرىء: «ويرْهَقُهمْ» بالياء من تحت؛ لأنَّ تأنيثها مجازيٌّ.
قوله: «قطعاً» قرأ ابنُ كثير، والكسائي، «قِطْعاً» بسكون الطاء، والباقون بفتحها: «فأمَّا القراءة الأولى فاختلفت عبارات النَّاس فيها: فقال أهل اللغة:» القِطْع «: ظُلْمَة آخر الليل.
وقال الأخفش في قوله: ﴿بِقِطْعٍ مِّنَ الليل﴾ [الحجر: ٦٥] بسواد من الليل، وقال بعضهم:»
طائف من الليل «، وأنشد الأخفش:
٢٨٩٥ - ب - افتحي الباب فانظري في النجومِ كم علينا من قطعِ ليلٍ بهيم
وأمَّا قراءةُ الباقين فجمعُ»
قطعة «نحو: دِمْنة ودِمَن، وكِسْرة وكِسَر وعلى القراءتين يختلف إعراب» مظلماً «، فإنه على قراءة الكسائي وابن كثير يجوز أن يكون نعتاً ل»
311
قِطْعاً «، ووصف بذلك مبالغة في وصف وجوههم بالسواد، ويجوز أن يكون حالاً ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه حالٌ من»
قِطْعاً «، ووصف بذلك مبالغة في وصف وجوههم بالسواد، ويجوز أن يكون حالاً ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه حالٌ من»
قِطْعاً «، وجاز ذلك لتخصُّصه بالوصف بالجارِّ بعده وهو» من الليل «.
والثاني: أنه حالٌ من»
الليل «.
والثالث: أنه حالٌ من الضمير المستتر في الجارِّ لوقوعه صفة.
قال الزمخشري: فإن قلت: إذا جعلت»
مظلماً «حالاً من» الليل «فما العاملُ فيه؟ قلت: لا يخلو: إما أن يكون» أغْشِيَتْ «من قبل أنَّ» من الليل «صفةٌ لقوله:» قِطْعاً «، وكان إفضاؤه إلى الموصوف كإفضائه إلى الصفة، وإما أن يكون معنى الفعل في» من الليل «. قال أبو حيان:» أمَّا الوجه الأول فهو بعيدٌ لأنَّ الأصل أن يكون العاملُ في الحال هو العامل في ذي الحال، والعاملُ في «من الليل» هو الاستقرار، و «أغْشِيَتْ» عاملٌ في قوله: «قطعاً» الموصوف بقوله: «من الليل» فاختلفا، فلذلك كان الوجهُ الأخير أولى، أي: قطعاً مستقرة من الليل، أو كائنة من الليل في حال إظلامه «.
وقال شهاب الدِّين: ولا يعني الزمخشري بقوله: «إنَّ العامل أغْشِيَتْ»
، إلاَّ أن الموصوف، وهو «قِطْعاً» معمول ل «أغْشِيَتْ»، والعامل في الموصوف هو عاملٌ في الصِّفة.
قال شهاب الدين: والصِّفةُ هي «مِنَ الليل» فهي معمولةٌ ل «أغْشِيَتْ»، وهي صاحبةُ الحال، والعامل في الحالِ هو العاملُ في ذي الحال، فجاء من ذلك أنَّ العامل في احال هو العاملُ في صاحبها بهذه الطريقة، ويجوز أن يكون «قِطْعاً» : جمع قِطْعَة، أي: اسم جنسٍ لها، فيجُوزُ حينئذٍ وصفُه بالتَّذكير، نحو: ﴿نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ﴾ [القمر: ٢٠]، والتأنيث، نحو: ﴿نَخْلٍ خَاوِيَةٍ﴾ [الحاقة: ٧].
وأمَّا قراءة الباقين، فقال مكِّي، وغيره: إنَّ «مظلماً» حالٌ من «اللَّيْلِ» فقط، ولا يجوز أن يكون صفة ل «قِطعاً»، ولا حالاً منه، ولا من الضمير في «مِنَ اللَّيل» ؛ لأنَّه كان يجبُ أن يقال فيه: مظلمةٌ، يعنُون: أنَّ الموصوف حينئذ جمعٌ، وكذا صاحب الحال، فتجب المطابقةُ. وأجاز بعضهم ما منعهُ هؤلاء، وقالوا: جَازَ ذلك؛ لأنَّه في معنى الكثير، وهذا فيه تعسُّفٌ.
وقرأ أبيٌّ «يَغْشَى وجوههم قطع» بالرفع، و «مُظْلمٌ»، وقرأ ابن أبي عبلة كذلك، إلاَّ أنَّه فتح الطَّاء. وإذا جعلتَ «مُظْلماً»، نعتاً ل «قِطْعاً»، فتكون قد قدَّمتَ النَّعْتَ غير الصَّريح على الصَّريح.
312
قال ابن عطيَّة: فإذا كان نعتاً - يعني: مُظلماً: نعتاً لقطع - فكان حقه أن يكون قبل الجملة، ولكن قد يجيء بعد هذا، وتقدير الجملة: قطعاً استقرَّ مظلماً، على نحو قوله: ﴿وهذا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ﴾ [الأنعام: ٩٢].
قال أبو حيَّان: «ولا يتعيَّن تقدير العامل في المجرور بالفعل، فيكون جملة، بل الظاهرُ تقديره باسم الفاعل، فيكون من قبيل الوصف بالمفرد، والتقدير: قطعاً كائناً من اللَّيل مُظْلِماً».
قال شهاب الدِّين: «المحذُورُ تقديمُ غير الصَّريح على الصَّريح، ولو كان مُقدَّراً بمفرد»، و «قِطَعاً» : منصوبٌ ب «أغْشِيتْ»، مفعولاً ثانياً.

فصل


المعنى: ﴿والذين كَسَبُواْ السيئات جَزَآءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا﴾ ؛ لقوله: ﴿وَمَن جَآءَ بالسيئة فَلاَ يجزى إِلاَّ مِثْلَهَا﴾ [الأنعام: ١٦٠].
والفرق بين الحسنات والسيئات: أنَّه إذا زاد في الحسنات يكون تفضُّلاً، وذلك حسن، وفيه ترغيبٌ في الطَّاعة، وأمَّا الزِّيادة على قدر الاستحقاق على السيئات، فهو ظلمٌ، والله منزله عنه، ثم قال: ﴿وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ﴾ أي: هوانٌ وتحقير ﴿مَّا لَهُمْ مِّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ﴾ أي: ما لهم عاصمٌ من الله في الدُّنيا، ولا في الآخرة، ﴿كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ﴾ أي: أُلْبِسَتْ وجوههم، ﴿قِطَعاً مِّنَ الليل مُظْلِماً﴾ والمراد: سوادُ الوجه.
وقال حكماء الإسلام: المرادُ من هذا السَّواد، سوادُ الجَهْل، وظلمةُ الضَّلالة، فإنَّ العلم طبعه طبع النُّور، والجهل طبعُه طبع الظُّلْمَة.
قيل: المراد بقوله: ﴿والذين كَسَبُواْ السيئات﴾ : الكفار؛ لأن سواد الوجه من علامات الكفر، قال تعالى: ﴿مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا﴾ [آل عمران: ١٦٠] وقال: ﴿وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أولئك هُمُ الكفرة الفجرة﴾ [عبس: ٤٠ - ٤٢].
وقال القاضي: ﴿والذين كَسَبُواْ السيئات﴾ عامٌّ يتناول الكافر، والفاسق، وأجيبُ: بأن الصيغة وإن كانت عامَّة، إلاَّ أن الدلائل التي ذكرناها مخصِّصة، ثم قال: ﴿أولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾
313
قوله تعالى :﴿ والذين كَسَبُواْ السيئات ﴾ الآية.
لمَّا شرح حال المسلمين، شرح بعدهُ حال المُسيئين.
قوله :﴿ والذين كَسَبُواْ ﴾ : فيه سبعةُ أوجه :
أحدها : أن يكون " والذين " : نسقاً على " لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ "، أي : لِلَّذينَ أحْسَنُوا الحُسْنَى، والذين كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جزاءُ سيِّئةٍ بمثلها، فيتعادل التَّقسيم، كقولك : في الدَّار زيد، والحجرة عمرٌو، وهذا يسمِّيه النحويُّون : عطفاً على معمولي عاملين، وفيه ثلاثة مذاهب :
أحدها : الجواز مطلقاً، وهو قول الفرَّاء.
والثاني : المنعُ مطلقاً، وهو مذهبُ سيبويه.
الثالث : التفصيل بين أن يتقدَّم الجارُّ نحو : في الدَّار زيدٌ، والحجرة عمرو، فيجوز، أو لا، فيمتنع نحو : إن زيداً في الدَّار، وعمراً في القصر، أي : وإنَّ عمراً في القصر، وسيبويه وأتباعهُ يُخَرِّجُون ما ورد منه على إضمار الجارِّ، كقوله - تعالى - :﴿ واختلاف الليل والنهار وَمَآ أَنَزَلَ الله مِنَ السمآء مَّن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرياح آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ [ الجاثية : ٥ ] بنصب " آيَات " في قراءة الأخوين، على ما سيأتي ؛ كقوله :[ المتقارب ]
أكُلَّ امرىءٍ تَحْسَبينَ امْرَأ ونَارٍ توقَّدُ باللَّيْلِ نَارَا١
وقول الآخر :[ الرجز ]
أوْصَيْتَ مَنْ تَوَّه قَلْباً حُرّاً بالكَلْبِ خَيْراً والحَمَاةِ شَرًّا٢
وسيأتي لهذا مزيد بيان - إن شاء الله -، وممَّن ذهب إلى أنَّ هذا الموصول مجرورٌ عطفاً على الموصول قبله : ابن عطيَّة، وأبو القاسم الزمخشري.
الثاني : أن " الَّذينَ " مبتدأ، و " جَزَآءُ سَيِّئَةٍ " مبتدأ ثانٍ، وخبره " بمثلها "، والباء فيه زائدةٌ، أي : وجزاءُ سيئةٍ مثلها، كقوله - تعالى - :﴿ وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ﴾ [ الشورى : ٤٠ ] كما زيدتْ في الخبرِ، كقوله :[ الوافر ]
فَلاَ تَطْمَعْ - أبَيْتَ اللَّعنَ - فيها ومنْعُكُهَا بشيءٍ يُسْتَطَاعُ٣
أي : شيء يُستطاع.
وكقول امرئ القيس :[ الطويل ]
فإنْ عنْهَا حِقْبَةً لا تُلاقِهَا فإنَّكَ ممَّا أحْدَثَتْ بالمُجَرِّبِ٤
أي : المُجرِّب، وهذا قولُ ابن كيسان في الآية.
الثالث : أنَّ الباء ليست بزائدةٍ، والتقدير : مقدَّر بمثلها، والمبتدأ الثاني وخبرُهُ خَبَرٌ عن الأول.
والرابع : أنَّ خبر " جزاء سيَّئةٍ " محذوفٌ، فقدَّرهُ الحُوفيُّ بقوله :" لهم جزاءُ سيئة "، قال : ودلَّ على تقدير " لَهُمْ "، قوله :﴿ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى ﴾ حتى تتشاكل هذه بهذه، وقدَّرهُ أبو البقاء : جزاءُ سيِّئة مثلها واقع، وهُو وخبرُهُ أيضاً خبرٌ عن الأول، وعلى هذين التقديرين، فالباء متعلقةٌ بنفس " جزاءُ " ؛ لأنَّ هذه المادَّة تتعدَّى بالباءِ، قال - تعالى - :﴿ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ ﴾ [ سبأ : ١٧ ]، ﴿ وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ ﴾ [ الإنسان : ١٢ ] إلى غير ذلك.
فإن قلت : أين الرَّابطُ بين هذه الجملة، والموصول الذي هو المبتدأ.
قلت : على تقدير الحوفيُّ، هو الضمرُ المجرور باللاَّم المقدَّر خبراً، وعلى تقدير أبي البقاء : هو محذوفٌ، تقديره : جزاءُ سيئة بمثلها منهُم واقعٌ، نحو :" السَّمْنُ منوانِ بدرهم "، وهو حذفٌ مُطَّرِد، لما عرف.
الخامس : أن يكون الخبرُ، الجملة المنفيَّة من قوله :﴿ مَّا لَهُمْ مِّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ ﴾، ويكون " مِنْ عَاصمٍ " إمَّا فاعلاً بالجارِّ قبله ؛ لاعتماده على النَّفي، وإمَّا مبتدأ، وخبرُه الجارُّ مقدماً عليه، و " مِنْ " مزيدة فيه على كلا القولين، و " مِنَ الله " متعلِّق ب " عَاصِم "، وعلى كون هذه الجملة خبر الموصول يكون قد فصل بين المبتدأ وخبره بجملتي اعتراضٍ، وفي ذلك خلافٌ عن الفارسيِّ تقدَّم التنبيهُ عليه، وما استدلَّ به عليه.
السادس : أنَّ الخبر هو الجملةُ التشبيهيَّة، من قوله :﴿ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ ﴾، و " كأنَّما " حرف مكفوف، و " مَا " هذه زائدة، تُسمَّى كافَّة ومُهيئة، وتقدَّم ذلك [ البقرة : ١١ ]. وعلى هذا الوجه، فيكون قد فصل بين المبتدأ وخبره بثلاث جمل اعتراضٍ.
السابع : أنَّ الخبر هو الجملة من قوله :﴿ أولئك أَصْحَابُ النار ﴾، وعلى هذا القول، فيكون قد فصل بأربع جمل معترضة.
وهي :﴿ جَزَآءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا ﴾.
والثانية :﴿ وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ﴾.
والثالثة :﴿ مَّا لَهُمْ مِّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ ﴾.
الرابعة :﴿ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ ﴾، وينبغي أن لا يجُوزَ الفصل بثلاث جُمل فضلاً عن أربع.
قوله :" وَتَرْهَقُهمْ " فيها وجهان :
أحدهما : أنَّها في محلِّ نصب على الحال، ولم يُبيِّنْ أبو البقاء صاحبها، وصاحبها هو الموصولُ أو ضميره، وفيه ضعفٌ ؛ لمباشرته الواو، إلاَّ أنْ يجعل خبر مبتدأ محذوف.
الثاني : أنَّها معطوفةٌ على " كَسَبُوا ".
قال أبو البقاء : وهو ضعيفٌ ؛ لأنَّ المستقبل لا يعطفُ على الماضي، فإن قيل : هو بمعنى الماضي فضعيفٌ جداً، وقرئ٥ :" ويرْهَقُهمْ " بالياء من تحت ؛ لأنَّ تأنيثها مجازيٌّ.
قوله :" قطعاً " قرأ ابنُ كثير٦، والكسائي، " قِطْعاً " بسكون الطاء، والباقون بفتحها :" فأمَّا القراءة الأولى فاختلفت عبارات النَّاس فيها : فقال أهل اللغة :" القِطْع " : ظُلْمَة آخر الليل.
وقال الأخفش في قوله :﴿ بِقِطْعٍ مِّنَ الليل ﴾ [ الحجر : ٦٥ ] بسواد من الليل، وقال بعضهم :" طائف من الليل "، وأنشد الأخفش :
افتحي الباب فانظري في النجومِ كم علينا من قطعِ ليلٍ بهيم
وأمَّا قراءةُ الباقين فجمعُ " قطعة " نحو : دِمْنة ودِمَن، وكِسْرة وكِسَر وعلى القراءتين يختلف إعراب " مظلماً "، فإنه على قراءة الكسائي وابن كثير يجوز أن يكون نعتاً ل " قِطْعاً "، ووصف بذلك مبالغة في وصف وجوههم بالسواد، ويجوز أن يكون حالاً ففيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه حالٌ من " قِطْعاً "، وجاز ذلك لتخصُّصه بالوصف بالجارِّ بعده وهو " من الليل ".
والثاني : أنه حالٌ من " الليل ".
والثالث : أنه حالٌ من الضمير المستتر في الجارِّ لوقوعه صفة.
قال الزمخشري : فإن قلت : إذا جعلت " مظلماً " حالاً من " الليل " فما العاملُ فيه ؟ قلت : لا يخلو : إما أن يكون " أغْشِيَتْ " من قبل أنَّ " من الليل " صفةٌ لقوله :" قِطْعاً "، وكان إفضاؤه إلى الموصوف كإفضائه إلى الصفة، وإما أن يكون معنى الفعل في " من الليل ". قال أبو حيان :" أمَّا الوجه الأول فهو بعيدٌ لأنَّ الأصل أن يكون العاملُ في الحال هو العامل في ذي الحال، والعاملُ في " من الليل " هو الاستقرار، و " أغْشِيَتْ " عاملٌ في قوله :" قطعاً " الموصوف بقوله :" من الليل " فاختلفا، فلذلك كان الوجهُ الأخير أولى، أي : قطعاً مستقرة من الليل، أو كائنة من الليل في حال إظلامه ".
وقال شهاب الدِّين : ولا يعني الزمخشري بقوله :" إنَّ العامل أغْشِيَتْ "، إلاَّ أن الموصوف، وهو " قِطْعاً " معمول ل " أغْشِيَتْ "، والعامل في الموصوف هو عاملٌ في الصِّفة.
قال شهاب الدين : والصِّفةُ هي " مِنَ الليل " فهي معمولةٌ ل " أغْشِيَتْ "، وهي صاحبةُ الحال، والعامل في الحالِ هو العاملُ في ذي الحال، فجاء من ذلك أنَّ العامل في الحال هو العاملُ في صاحبها بهذه الطريقة، ويجوز أن يكون " قِطْعاً " : جمع قِطْعَة، أي : اسم جنسٍ لها، فيجُوزُ حينئذٍ وصفُه بالتَّذكير، نحو :﴿ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ ﴾ [ القمر : ٢٠ ]، والتأنيث، نحو :﴿ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ ﴾ [ الحاقة : ٧ ].
وأمَّا قراءة الباقين، فقال مكِّي، وغيره : إنَّ " مظلماً " حالٌ من " اللَّيْلِ " فقط، ولا يجوز أن يكون صفة ل " قِطعاً "، ولا حالاً منه، ولا من الضمير في " مِنَ اللَّيل " ؛ لأنَّه كان يجبُ أن يقال فيه : مظلمةٌ، يعنُون : أنَّ الموصوف حينئذ جمعٌ، وكذا صاحب الحال، فتجب المطابقةُ. وأجاز بعضهم ما منعهُ هؤلاء، وقالوا : جَازَ ذلك ؛ لأنَّه في معنى الكثير، وهذا فيه تعسُّفٌ.
وقرأ أبيٌّ٧ " يَغْشَى وجوههم قطع " بالرفع، و " مُظْلمٌ "، وقرأ ابن أبي٨ عبلة كذلك، إلاَّ أنَّه فتح الطَّاء. وإذا جعلتَ " مُظْلماً "، نعتاً ل " قِطْعاً "، فتكون قد قدَّمتَ النَّعْتَ غير الصَّريح على الصَّريح.
قال ابن عطيَّة٩ : فإذا كان نعتاً - يعني : مُظلماً : نعتاً لقطع - فكان حقه أن يكون قبل الجملة، ولكن قد يجيء بعد هذا، وتقدير الجملة : قطعاً استقرَّ مظلماً، على نحو قوله :﴿ وهذا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ ﴾ [ الأنعام : ٩٢ ].
قال أبو حيَّان١٠ :" ولا يتعيَّن تقدير العامل في المجرور بالفعل، فيكون جملة، بل الظاهرُ تقديره باسم الفاعل، فيكون من قبيل الوصف بالمفرد، والتقدير : قطعاً كائناً من اللَّيل مُظْلِماً ".
قال شهاب الدِّين١١ :" المحذُورُ تقديمُ غير الصَّريح على الصَّريح، ولو كان مُقدَّراً بمفرد "، و " قِطَعاً " : منصوبٌ ب " أغْشِيتْ "، مفعولاً ثانياً.

فصل


المعنى :﴿ والذين كَسَبُواْ السيئات جَزَآءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا ﴾ ؛ لقوله :﴿ وَمَن جَآءَ بالسيئة فَلاَ يجزى إِلاَّ مِثْلَهَا ﴾ [ الأنعام : ١٦٠ ].
والفرق بين الحسنات والسيئات : أنَّه إذا زاد في الحسنات يكون تفضُّلاً، وذلك حسن، وفيه ترغيبٌ في الطَّاعة، وأمَّا الزِّيادة على قدر الاستحقاق على السيئات، فهو ظلمٌ، والله منزله عنه، ثم قال :﴿ وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ﴾ أي : هوانٌ وتحقير ﴿ مَّا لَهُمْ مِّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ ﴾ أي : ما لهم عاصمٌ من الله في الدُّنيا، ولا في الآخرة، ﴿ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ ﴾ أي : أُلْبِسَتْ وجوههم، ﴿ قِطَعاً مِّنَ الليل مُظْلِماً ﴾ والمراد : سوادُ الوجه.
وقال حكماء الإسلام : المرادُ من هذا السَّواد، سوادُ الجَهْل، وظلمةُ الضَّلالة، فإنَّ العلم طبعه طبع النُّور، والجهل طبعُه طبع الظُّلْمَة.
قيل : المراد بقوله :﴿ والذين كَسَبُواْ السيئات ﴾ : الكفار ؛ لأن سواد الوجه من علامات الكفر، قال تعالى :﴿ فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم ﴾ [ آل عمران : ١٠٦ ] وقال :﴿ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أولئك هُمُ الكفرة الفجرة ﴾ [ عبس : ٤٠-٤٢ ].
وقال القاضي :﴿ والذين كَسَبُواْ السيئات ﴾ عامٌّ يتناول الكافر، والفاسق، وأجيبُ : بأن الصيغة وإن كانت عامَّة، إلاَّ أن الدلائل التي ذكرناها مخصِّصة، ثم قال :﴿ أولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾.
١ تقدم..
٢ البيتان لأبي النجم العجلي. ينظر: معاهد التنصيص ١/٢٢ والعقد الفريد ٣١٩ والمسائل العسكرية ١٦٣ والدر المصون ٤/٢٤..
٣ البيت لعبيدة بن ربيعة في شرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص٢١١ ولرجل من تميم في تخليص الشواهد ص ٨٩ وشرح ديوان الحماسة ٣/١٤٦٨ والأشموني ١/١١٨ والدر المصون ٤/٢٤ وله أو لعبيدة بن ربيعة في خزانة الأدب ٥/٢٦٧، ٢٩٩ ولرجل من تميم أو لقحيف العجلي في شرح شواهد المغني ١/٣٣٨ والمقاصد النحوية ١/٣٠٢ وبلا نسبة في الجنى الداني ص ٥٥ ورصف المباني ص ١٥٠ والمغني ١/١١٠..
٤ تقدم..
٥ ينظر: الدر المصون ٤/٢٥..
٦ ينظر: السبعة ص (٣٢٥)، الحجة ٤/٢٦٨-٢٦٩، حجة القراءات ص(٣٣٠)، إعراب القراءات ١/٢٦٧، إتحاف ٢/١٠٨..
٧ ينظر: الكشاف ٢/٣٤٣، المحرر الوجيز ٣/١١٦، البحر المحيط ٥/١٥٢، الدر المصون ٤/٢٥..
٨ ينظر: المحرر الوجيز ٣/١١٦، البحر المحيط ٥/١٥٢، الدر المصون ٤/٢٥..
٩ ينظر: المحرر الوجيز ٣/١١٦..
١٠ ينظر: البحر المحيط ٥/١٥٢..
١١ ينظر: الدر المصون ٤/٢٦..
قوله - تعالى -: ﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً﴾ الآية.
«يَوْمَ» منصوب بفعلٍ مقدَّر، أي: خوَّفهم، أو ذكرهم يوم، والضميرُ عائد على الفريقين أي: الذين أحسنوا، والذين كسبوا. و «جَمِيعاً» : حال، ويجُوزُ أن يكون تأكيداً، عند من عدَّها من ألفاظ التَّأكيد.
قوله: «مَكَانكُمْ» اسمٌ فعل، ففسَّره النحويُّون ب «اثبُتُوا» فيحمل ضميراً، ولذلك أكَّد بقوله: «أنْتُم»، وعطف عليه «شُرَكاؤكُم» ؛ ومنه قول الشاعر: [الوافر]
٢٨٩٦ - وقَولِي كُلَّمَا جَشَأتْ وجاشَتْ مكانكِ تُحْمَدِي أوْ تَسْتَرِيحي
أي: اثبتي، ويدلُّ على ذلك جزمُ جوابه، وهو «تُحْمَدي»، وفسَّره الزمخشري: ب «الزمُوا» قال: مكانكُم، أي: الزموا مكانكُم، لا تبرَحُوا حتى تنظروا ما يفعل بكم «.
قال أبو حيَّان: وتقديره له ب»
الزمُوا «ليس بجيِّد، إذ لو كان كذلك؛ لتعدَّى كما يتعدَّى ما ناب هذا عنهُ، فإنَّ اسمَ الفعل يُعَامل معاملة مُسمَّاة، ولذلك لمَّا قدَّرُوا» عليك «، بمعنى:» الزم «عدَّوْه تعديته نحو: عليْكَ زيداً.
قال شهابُ الدِّين»
فالزمخشري قد سبق التَّفسير، والعُذرُ لمن فسَّرهُ بذلك، أنه قصد تفسير المعنى «، قال الحوفي:» مكانكُم نُصب بإضمار فعل، أي: الزمُوا مكانَكُم أو اثبُتوا «. وكذلك فسرهُ أبو البقاء، فقال:» مَكَانَكُمْ «ظرفٌ مبنيٌّ؛ لوقوعه موقع الأمر، أي:» الزمُوا «.
وهذا الذي ذكره من كونه مبنيّاً، فيه خلاف للنحويين: منهم من ذهب إلى ما ذكر، ومنهم من ذهب إلى أنَّه حركةُ إعراب، وهذان الوجهان مبنيان على خلاف في أسماء الأفعال هل لها محلٌّ من الإعراب أو لا؟ فإن قلنا لها محلٌّ، كانت حركاتُ الظرفِ حركاتِ إعراب، وإن قلنا لا موضع لها، كانت حركاتِ بناءٍ، وأمَّا تقديره: ب»
الزَمُوا «، فقد تقدَّم جوابه. قوله:» أنْتُم «فيه وجهان:
314
أحدهما: أنَّه تأكيدٌ للضمير المستتر في الظرف، لقيامه مقام الفاعل، كما تقدَّم التنبيه عليه.
والثاني: أجازهُ ابن عطيَّة، وهو أن يكون مبتدأ، و» شُرَكاؤُكُم «معطوفٌ عليه، وخبرُهُ محذوفٌ، قال:» تقديره: أنتم وشركاؤكم مهانون، أو معذبون «، وعلى هذا فيوقفُ على قوله:» مَكَانَكُم «ثم يبتدأ بقوله:» أنتُم «، وهذا لا ينبغي أن يقال، لأنَّ فيه تفكيكاً لأفصحِ كلام، وتبتيراً لنظمه، من غير داعيةٍ إلى ذلك؛ ولأنَّ قراءة من قرأ» وشُرَكاءكُمْ «نصباً، تدل على ضعفه، إذ لا تكونُ إلاَّ من الوجه الأوَّل؛ ولقوله:» فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ «، فهذا يدلُّ على أنَّهم أمروا هُم وشُركاؤهم بالثّبات في مكانٍ واحدٍ، حتى يحصل التَّنزيل بينهم.
وقال ابن عطية أيضاً: «ويجوزُ أن يكون»
أنتُمْ «تأكيداً للضمير الذي في الفعل المقدَّر الذي هو» قفوا «ونحوه».
قال أبُو حيَّان: وهذا ليس بجيّدٍ، إذ لو كان تأكيداً لذلك الضمير المتصل بالفعل، لجاز تقديمُه على الظَّرفِ، إذ الظرفُ لم يتحمَّل ضميراً على هذا القول، فيلزمُ تأخيره عنهُ، وهو غير جائزٍ، لا تقول: «أنت مكانك» ولا يحفظ من كلامهم.
والأصحُّ: أنَّه لا يجوز حذفُ المؤكِّد في التَّأكيد المعنويِّ، فكذا هذا؛ لأنَّ التأكيد ينافي الحذف، وليس من كلامهم: «أنت زيداً» لمن رأيته قد شهر سيفاً، وأنت تُريد «اضرب أنت زيداً»، إنَّما كلامُ العرب: «زيداً» تُريدُ: اضرب زيداً.
قال شهاب الدِّين: «لَمْ يَعْنِ ابنُ عطيَّة، أنَّ» أنْتَ «تأكيد لذلك الضمير في» قِفُوا «من حيث إنَّ الفعل مرادٌ غير منُوبٍ عنهُ؛ بل لأنَّه ناب عنه هذا الظرفُ، فهو تأكيدٌ له في الأصل؛ قبل النِّيابة عنه بالظرف، وإنَّما قال: الذي هو» قفوا «تفسيراً للمعنى المقدر». وقرأ فرقة «وشُرَكاءكُمْ» نصباً على المعيَّة، والنَّاصب له اسم الفعل.
قوله: «فَزَيَّلْنَا»، أي: فرَّقنا وميَّزنا؛ كقوله - تعالى -: ﴿لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا﴾ [الفتح: ٢٥].
واختلفوا في «زيَّل» هل وزنه فعَّل أو فيعل؟.
والظاهر الأول، والتضعيفُ فيه للتَّكثيرِ، لا للتَّعدية، لأنَّ ثلاثية مُتعدِّ بنفسه، حكى الفراء: «زِلْتُ الضَّأن من المعز، فلم تَزِل» ويقال زلتُ الشَّيء من مكانه أزيلُهُ، وهو على هذا من ذوات الياء.
والثاني: أنه فَيْعَل كبيطر وبيقر، وهو من زالَ يزولُ، والأصل: «زَيْوَلْنَا»، فاجتمعت الياء والواو، وسبقت إحداهما بالسُّكون، فأعلت بقلب الواو ياء، وإدغام الياء فيها، ك «
315
مَيِّت وسيِّد» في: ميوت سَيْود، وعلى هذا فهو من مادة الواو، وإلى هذا ذهب ابنُ قتيبة، وتبعه أبو البقاء.
وقال مكِّي: «ولا يجوز أن يكون فعَّلنا من زال يزول؛ لأنَّه يلزم في الواو فيكون زَوَّلنا». وهذا صحيحٌ، وقد تقدَّم تحرير ذلك في قوله: ﴿أَوْ مُتَحَيِّزاً إلى فِئَةٍ﴾ [الأنفال: ١٦].
وردَّ أبو حيَّان كونه «فَيْعَل»، بأنَّ «فَعَّلَ» أكثر من «فَيْعَل» ؛ ولأنَّ مصدره التَّنزيل، ولو كان «فَيْعل»، لكان مصدره «فَيْعلة» كبيطرة؛ لأن «فَيْعَل» ملحقٌ «بفَعْلَلَ»، ولقولهم في معناه: «زَايَل»، ولم يقولوا: «زاول»، بمعنى: «فارق»، إنَّما قالوه بمعنى: «حَاول وخالط»، وحكى الفرَّاء: «فَزايَلْنا»، وبها قرأت فرقة، قال الزمخشري: «مثل صَاعَرَ خدَّه، وصعَّره، وكالمتُه وكلَّمتُه».
يعني: أنَّ «فاعل» بمعنى: «فعَّل»، و «زَايلَ» بمعنى: «فَارَقَ».
قال: [الطويل]
٢٨٩٧ - وقَالَ العَذَارَى:
إنَّما أنْتَ عَمُّنَا وكَانَ الشَّبَابُ كالخَليطِ يُزايلُهْ
وقال آخر: [الطويل]
٢٨٩٨ - لعَمْري لمَوْتٌ لا عُقُوبةَ بعدَهُ لِذي البَثِّ أشْفَى من هَوًى لا يُزايلهْ
أي: يفارقه.
وقوله - تعالى -: «فَزيَّلْنا»، و «قال» هذان الفعلان ماضيان لفظاً، مستقبلان معنًى؛ لعطفهما على مستقبل، وهو «ويَوْمَ نَحْشُرهُمْ»، وهما نظيرُ قوله - تعالى -: ﴿يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة فَأَوْرَدَهُمُ﴾ [هود: ٩٨]. و «إِيَّانَا» : مفعولٌ مقدمٌ، قُدِّم للاهتمام به والاختصاص، وهو واجبُ التَّقديم على ناصبه؛ لأنَّه ضميرٌ منفصلٌ، لو تأخَّر عنه، لزم اتِّصاله، وقد تقدَّم الكلامُ على ما بعد هذا من «كَفَى» المخففة، واللاَّم التي بعدها، بما يُغْنِي عن الإعادة. [البقرة١٩٨].

فصل


المعنى «ويَوْمَ نَحْشُرهُمْ» العابد والمعبُود، ثمَّ إن المعبود يتبرَّأ من العابد، ويتبيَّن لهُ أنَّه ما فعل ذلك بعلمه وإرادته، ونظيرهُ قوله - تعالى -: ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الذين اتبعوا مِنَ الذين اتبعوا﴾ [البقرة: ١٦٦]، وقوله: ﴿ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ أهؤلاء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ﴾ [سبأ: ٤٠].
و «الحَشْر» : الجمع من كل جانبٍ إلى موقفٍ واحدٍ ﴿ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ﴾ أي: الزَمُوا مكانكم «وشُرَكاؤكُم» يعني: الأوثان، حتَّى تسألوا، «فزيَّلْنَا بَيْنَهُم»
316
أي: ميَّزنا وفرَّقنا بينهم، وجاءت هذه الكلمة على لفظ الماضي، بعد قوله: «ثُمَّ نقُولُ» وهو مستقبل؛ لأنَّ ما جاءكم الله بِهِ، سيكون صار كالكائن الآن، كقوله: ﴿ونادى أَصْحَابُ الجنة﴾ [الأعراف: ٤٤].
وأضاف الشُّركاء إليهم؛ لأنَّهم جعلُوا لهم نصيباً من أموالهم.
وقيل: لأنَّ الإضافة يكفي فيها أدنى تعليق، فلمَّا كان الكُفَّار هُم الذين أثبتُوا هذه الشَّركة، حسنت إضافة الشركاءِ إليهم، وقيل: لمَّا خاطب العابدين والمعبودين بقوله «مَكانَكُم» صارُوا شُركاء في هذا الخطاب.
قال بعض المُفسِّرين: المراد بهؤلاء الشُّركاء: الملائكة، واستشهدُوا بقوله - تعالى -: ﴿ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ أهؤلاء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ﴾ [سبأ: ٤٠]، وقيل: هم الأصنام، ثم اختلف هؤلاء كيف ذكرت الأصنام هذا الكلام؟ فقيل: إن الله - تعالى - يخلقُ فيها الحياة والعقل والنُّطق، وقيل: يخلق فيهم الرُّوح من غير حياةٍ، حتَّى يسمعُوا منهم ذلك.
فإن قيل: إذا أحياهُم الله هل يبقيهم أو يفنيهم؟.
فالجوابُ: أنَّ الكلَّ محتملٌ، ولا اعتراض على الله في أفعاله، وأحوال القيامة غير معلومة، إلاَّ القليل، ولا شك أن هذا خطاب تهديدٍ في حق العابدين، فهل يكُون تهديداً في حق المعبودين؟ قالت المعتزلة: لا يجُوزُ ذلك؛ لأنَّه لا ذنب للمعبود، ومن لا ذنب له، لم يصحَّ تهديده، وتخويفه، وقال أهلُ السُّنَّة: لا يسأل عما يفعل.
فإن قيل: قول الشركاء: ﴿مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ﴾ وهم كانوا قد عبدوهم، يكون كذباً، وقد تقدَّم في سورة الأنعام، اختلاف الناس في أنَّ أهل القيامة هل يكذبون أم لا؟.
والجواب ههنا: أنَّ منهم من قال: المراد من قولهم: «مَا كُنتُمْ إيَّانَا تَعْبُدُونَ» : هو أنَّكُم ما عبدْتُمُونَا بأمرنا وإرادتنا؛ لأنَّهم استشهدوا بالله في ذلك بقولهم: ﴿فكفى بالله شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ﴾، وبقولهم: ﴿إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ﴾، ومن النَّاس من أجْرَى الآية على ظاهرها، وقالوا: إنَّ الشُّركاء أخبروا أنَّ الكفار ما عبدوها لوجوه:
الأول: أنَّ ذلك الموقف موقفُ دهشة وحيرة، فذلك الكذبُ جارٍ مجرى كذب الصبيان، والمجانين والمدهوشين.
الثاني: أنَّهم ما أقامُوا لأعمال الكُفَّار وزناً، وجعلوها لبطلانها كالعدم، فلهذا قالوا: ما عبدونا.
الثالث: أنهم تخيَّلوا في الأصنام التي عبدوها صفات كثيرة، فهم في الحقيقة إنَّما عبدوا ذواتاً موصوفة بتلك الصفات، ولمَّا كانت ذواتها خالية عن تلك الصفات، فهم ما عبدوها، وإنما عبدوا أموراً تخيَّلُوها ولا وجود لها في الأعيان، وتلك الصِّفات التي تخيَّلوها في الأصنام: أنها تضرُّ، وتنفع، وتشفع عند الله.
317
قوله تعالى: ﴿هُنَالِكَ تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ مَّآ أَسْلَفَتْ﴾ الآية.
في «هُنالِكَ» وجهان:
أظهرهما: بقاؤه على أصله، من دلالته على ظرف المكان، أي: في ذلك الموقف الدَّحض، والمكان الدَّهش. وقيل: هو هنا ظرف زمان على سبيل الاستعارة، ومثله ﴿هُنَالِكَ ابتلي المؤمنون﴾ [الأحزاب: ١١]، أي: في ذلك الوقت؛ وكقوله: [الكامل]
٢٨٩٩ - وإذَا الأمُورُ تَعاظَمَتْ وتَشاكَلَتْ فهُناكَ يَعْترِفُون أيْنَ المفْزعُ
وإذا أمكن بقاء الشيء على موضوعه، فهو أولى.
وقرأ الأخوان «تَتْلُو» بتاءين منقوطتين من فوق، أي: تطلب وتتبع ما أسلفته من أعمالها، ومن هذا قوله: [الرجز]
٢٩٠٠ - إنَّ المُريبَ يتْبَعُ المُرِيبَا كَمَا رَأيْتَ الذِّيبَ يتلُو الذِّيبَا
أي: يتبعه ويتطلَّبه، ويجوز أن يكون من التلاوة المتعارفة، أي: تقرأ كلُّ نفس ما عملته مسطَّراً في صحف الحفظة، لقوله - تعالى -: ﴿ياويلتنا مَا لهذا الكتاب لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا﴾ [الكهف: ٤٩]، وقوله: ﴿وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القيامة كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً﴾ [الإسراء: ١٣].
وقرأ الباقون: «تَبْلُوا» من البلاء، وهو الاختبار، أي: يعرف عملها: أخيرٌ هو أم شر، وقرأ عاصم في رواية «نَبلو» بالنُّون والباء الموحَّدة، أي: نَخْتَبر نحنُ، و «كُلَّ» منصُوب على المفعول به، وقوله «مَا أسْلفَتْ» على هذا القراءة يحتمل أن يكون في محلِّ نصبٍ، على إسقاطِ الخافض، أي: بما أسْلفَتْ، فلمَّا سقط الخافض، انتصب مَجْرُوره؛ كقوله: [الوافر]
٢٩٠١ - تَمُرُّونَ الدِّيارَ فَلَمْ تَعُوجُوا كلامُكُمُ عليَّ إذنْ حَرَامُ
ويحتمل أن يكون منصوباً على البدل من «كُلُّ نَفْسٍ» ويكون من بدل الاشتمال. ويجُوزُ أن يكون «نَبْلُو» من البلاء، وهو العذاب. أي: نُعَذبها بسبب ما أسلفت، و «مَا» يجوز أن تكون موصولةً اسمية، أو حرفية، أو نكرة موصوفة، والعائدُ محذوفٌ على التقدير الأول، والآخر دون الثاني على المَشْهُور.
318
وقرأ ابنُ وثَّاب: «وَرِدُّوا» بكسر الرَّاء، تشبيهاً للعين المضعفة بالمعتلَّة، نحو: «قيل» و «بيع»، ومثله: [الطويل]
٢٩٠٢ - ومَا حِلَّ مِنْ جَهْلٍ حُبَا حُلمائِنَا...................................
بكسر الحاء، وقد تقدَّم بيانُ ذلك [البقرة: ١١].
قوله: «إِلَى الله» لا بُدَّ من مضاف، أي: إلى جزاءِ الله، أو موقف جزائه.
والجمهور على «الحقِّ» جرًّا، وقرئ منصوباً على أحد وجهين:
إمَّا القطع، وأصله أنَّه تابعٌ، فقطع بإضمار «أمدح»، كقولهم: الحمدُ لله أهل الحمد.
وإمَّا أنَّه مصدرٌ مؤكِّدٌ لمضمونِ الجملة المتقدمة، وهو «رُدُّوا إلى الله» وإليه نحا الزمخشريُّ. قال: كقولك: «هذا عبدُ الله الحَقُّ، لا الباطل» على التَّأكيد؛ لقوله: «رُدُّوا إلى اللهِ».
وقال مكِّي: «ويجوزُ نصبهُ على المصدر، ولم يُقرأ به»، وكأنَّه لم يطلع على هذه القراءة، وقوله: «مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ» «مَا» تحتمل الأوجُه الثلاثة.
المعنى: «هُنالِكَ» : في ذلك الوقت، «نَبْلُو» أي: نختبر، والمعنى: يفعلُ بها فعل المختبر، وعلى القراءة الأخرى: أنَّ كلَّ نفس نختبر أعمالها، في ذلك الوقت.
﴿وردوا إِلَى الله﴾ أي: رُدُّوا إلى جزاءِ الله، قال ابن عبَّاسٍ: «مولاهُمُ الحقّ» أي: الذي يجازيهم بالحق، وقيل: جعلوا ملجئين إلى الإقرار بإلاهيته، ﴿مَوْلاَهُمُ الحق﴾ [الأنعام: ٦٢] في الأنعام. «وضلَّ عَنْهُم» : زال وبطل، «مَّا كانُوا يفْتَرون» أي: يعبدون، ويعتقدُون أنهم شفعاء، فإن قيل: قد قال: ﴿وَأَنَّ الكافرين لاَ مولى لَهُمْ﴾ [محمد: ١١]، قيل: المولى هناك هو الناصر، وههنا بمعنى الملك.
319
﴿ فكفى بالله شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ ﴾، وبقولهم :﴿ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ ﴾، ومن النَّاس من أجْرَى الآية على ظاهرها، وقالوا : إنَّ الشُّركاء أخبروا أنَّ الكفار ما عبدوها لوجوه :
الأول : أنَّ ذلك الموقف موقفُ دهشة وحيرة، فذلك الكذبُ جارٍ مجرى كذب الصبيان، والمجانين والمدهوشين.
الثاني : أنَّهم ما أقامُوا لأعمال الكُفَّار وزناً، وجعلوها لبطلانها كالعدم، فلهذا قالوا : ما عبدونا.
الثالث : أنهم تخيَّلوا في الأصنام التي عبدوها صفات كثيرة، فهم في الحقيقة إنَّما عبدوا ذواتاً موصوفة بتلك الصفات، ولمَّا كانت ذواتها خالية عن تلك الصفات، فهم ما عبدوها، وإنما عبدوا أموراً تخيَّلُوها ولا وجود لها في الأعيان، وتلك الصِّفات التي تخيَّلوها في الأصنام : أنها تضرُّ، وتنفع، وتشفع عند الله.
قوله تعالى :﴿ هُنَالِكَ تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ مَّآ أَسْلَفَتْ ﴾ الآية.
في " هُنالِكَ " وجهان :
أظهرهما : بقاؤه على أصله، من دلالته على ظرف المكان، أي : في ذلك الموقف الدَّحض، والمكان الدَّهش. وقيل : هو هنا ظرف زمان على سبيل الاستعارة، ومثله ﴿ هُنَالِكَ ابتلي المؤمنون ﴾ [ الأحزاب : ١١ ]، أي : في ذلك الوقت ؛ وكقوله :[ الكامل ]
وإذَا الأمُورُ تَعاظَمَتْ وتَشاكَلَتْ *** فهُناكَ يَعْترِفُون أيْنَ المفْزعُ١
وإذا أمكن بقاء الشيء على موضوعه، فهو أولى.
وقرأ الأخوان٢ " تَتْلُو " بتاءين منقوطتين من فوق، أي : تطلب وتتبع ما أسلفته من أعمالها، ومن هذا قوله :[ الرجز ]
إنَّ المُريبَ يتْبَعُ المُرِيبَا *** كَمَا رَأيْتَ الذِّيبَ يتلُو الذِّيبَا٣
أي : يتبعه ويتطلَّبه، ويجوز أن يكون من التلاوة المتعارفة، أي : تقرأ كلُّ نفس ما عملته مسطَّراً في صحف الحفظة، لقوله - تعالى - :﴿ يا ويلتنا مَا لهذا الكتاب لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا ﴾ [ الكهف : ٤٩ ]، وقوله :﴿ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القيامة كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً ﴾ [ الإسراء : ١٣ ].
وقرأ الباقون :" تَبْلُوا " من البلاء، وهو الاختبار، أي : يعرف عملها : أخيرٌ هو أم شر، وقرأ عاصم في رواية " نَبلو " ٤ بالنُّون والباء الموحَّدة، أي : نَخْتَبر نحنُ، و " كُلَّ " منصُوب على المفعول به، وقوله " مَا أسْلفَتْ " على هذا القراءة يحتمل أن يكون في محلِّ نصبٍ، على إسقاطِ الخافض، أي : بما أسْلفَتْ، فلمَّا سقط الخافض، انتصب مَجْرُوره ؛ كقوله :[ الوافر ]
تَمُرُّونَ الدِّيارَ فَلَمْ تَعُوجُوا *** كلامُكُمُ عليَّ إذنْ حَرَامُ٥
ويحتمل أن يكون منصوباً على البدل من " كُلُّ نَفْسٍ " ويكون من بدل الاشتمال. ويجُوزُ أن يكون " نَبْلُو " من البلاء، وهو العذاب. أي : نُعَذبها بسبب ما أسلفت، و " مَا " يجوز أن تكون موصولةً اسمية، أو حرفية، أو نكرة موصوفة، والعائدُ محذوفٌ على التقدير الأول، والآخر دون الثاني على المَشْهُور.
وقرأ ابنُ٦ وثَّاب :" وَرِدُّوا " بكسر الرَّاء، تشبيهاً للعين المضعفة بالمعتلَّة، نحو :" قيل " و " بيع "، ومثله :[ الطويل ]
ومَا حِلَّ مِنْ جَهْلٍ حُبَا حُلمائِنَا ***. . . ٧
بكسر الحاء، وقد تقدَّم بيانُ ذلك [ البقرة : ١١ ].
قوله :" إِلَى الله " لا بُدَّ من مضاف، أي : إلى جزاءِ الله، أو موقف جزائه.
والجمهور على " الحقِّ " جرًّا، وقرئ٨ منصوباً على أحد وجهين :
إمَّا القطع، وأصله أنَّه تابعٌ، فقطع بإضمار " أمدح "، كقولهم : الحمدُ لله أهل الحمد.
وإمَّا أنَّه مصدرٌ مؤكِّدٌ لمضمونِ الجملة المتقدمة، وهو " رُدُّوا إلى الله " وإليه نحا الزمخشريُّ. قال : كقولك :" هذا عبدُ الله الحَقُّ، لا الباطل " على التَّأكيد ؛ لقوله :" رُدُّوا إلى اللهِ ".
وقال مكِّي :" ويجوزُ نصبهُ على المصدر، ولم يُقرأ به "، وكأنَّه لم يطلع على هذه القراءة، وقوله :" مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ " " مَا " تحتمل الأوجُه الثلاثة.
المعنى :" هُنالِكَ " : في ذلك الوقت، " نَبْلُو " أي : نختبر، والمعنى : يفعلُ بها فعل المختبر، وعلى القراءة الأخرى : أنَّ كلَّ نفس نختبر أعمالها، في ذلك الوقت.
﴿ وردوا إِلَى الله ﴾ أي : رُدُّوا إلى جزاءِ الله، قال ابن عبَّاسٍ :" مولاهُمُ الحقّ " أي : الذي يجازيهم بالحق، وقيل : جعلوا ملجئين إلى الإقرار بإلاهيته، ﴿ مَوْلاَهُمُ الحق ﴾ أي أعرضوا عن المولى الباطل، ورجعوا إلى المولى الحق، وقد تم تفسير ﴿ مولاهم الحق ﴾ [ الأنعام : ٦٢ ] في الأنعام. " وضلَّ عَنْهُم " : زال وبطل، " مَّا كانُوا يفْتَرون " أي : يعبدون، ويعتقدُون أنهم شفعاء، فإن قيل : قد قال :﴿ وَأَنَّ الكافرين لاَ مولى لَهُمْ ﴾ [ محمد : ١١ ]، قيل : المولى هناك هو الناصر، وههنا بمعنى الملك.
١ تقدم..
٢ ينظر: السبعة ص (٣٢٥)، الحجة ٤/٢٧١، حجة القراءات ص (٣٣١)، إعراب القراءات ١/٢٦٧، إتحاف فضلاء البشر ٢/١٠٨-١٠٩..
٣ ينظر البيتان في البحر المحيط ٥/١٥٥، القرطبي ٨/٢١٣، والدر المصون ٤/٢٨..
٤ ينظر: البحر المحيط ٥/١٥٥، الدر المصون ٤/٢٩..
٥ تقدم..
٦ ينظر: المحرر الوجيز ٣/١١٧، البحر المحيط ٥/١٥٥، الدر المصون ٤/٢٩..
٧ تقدم..
٨ ينظر: الكشاف ٢/٣٤٤، البحر المحيط ٥/١٥٥، الدر المصون ٤/٢٩..
قوله تعالى: ﴿قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السمآء والأرض﴾ الآية.
لمَّا ذكر فضائح عبدة الأوثان، أتبعها بذكر الدَّلائل الدَّالَّة على فسادِ هذا المذهب: وهي أحوال الرزق، وأحوال الحواس، وأحوال الموْتِ والحياة: أمَّا الرزقُ، فإنَّه إنَّما
319
يحصل من السماء والأرض: أمَّا من السَّماء، فبنُزُول المطر الموافق، وأمَّا من الأرض، فلأنَّ الغذاء إمَّا أن يكون نباتاً، أو حيواناً: أمَّا النبات فلأنَّ الأرض تُنبتُه، وأمَّا الحيوانُ، فهو محتاجٌ أيضاً إلى الغذاء، ولا يمكن أن يكون غذاء كل حيوانٍ، حيواناً آخر، وإلا لزم التَّسلسل، وهو محالٌ، فثبت أنَّ غذاء الحيوان، يجب انتهاؤه إلى النَّبات، والنبات إنما يتولَّد من الأرض، فثبت أنَّ الرزق إنما يحصلُ من السَّماء والأرض، ولا مُدَبِّر لهما إلاَّ الله - تعالى -، وأمَّا أحوال الحواسِّ فكذلك، قال عليٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: سبحان من بصر بشحم، وأسمع بعظمٍ، وأنْطَق بلحم.
قوله: «مِّنَ السمآء» :«مِنْ» يجُوزُ أن تكون لا بتداء الغاية، وأن تكون للتبعيض، وأن تكون لبيان الجنس، ولا بُدَّ على هذين الوجهين من مضاف محذوف، أي: من أهل السَّماء، قوله: «أمْ» المنقطعة؛ لأنَّهُ لم تتقدَّمها همزةُ استفهام ولا تسوية، ولكن إنَّما تُقدَّر هنا ب «بل» وحدها، دون الهمزة، وقد تقرَّر أنَّ المنقطعة عند الجمهور تُقدَّر بهما، وإنما لم تتقدَّر هنا ب «بل» والهمزة؛ لأنَّها وقع بعدها اسم استفهام صريح، وهو «مَنْ»، فهو كقوله - تعالى -: ﴿أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [النمل: ٨٤]، والإضرابُ هنا على القاعدةِ المقررة في القرآن، أنه إضرابُ انتقالٍ، لا إضرابُ إبطالٍ.
قوله: ﴿وَمَن يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَيُخْرِجُ الميت مِنَ الحي﴾.
قيل: يخرج الإنسان من النطفة، والطائر من البيضة، ﴿وَيُخْرِجُ الميت مِنَ الحي﴾ : يخرج النُّطفة والبيضة من الإنسان، والطَّار، وقيل: يخرج المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن، ثم قال: ﴿وَمَن يُدَبِّرُ الأمر﴾ وهذا كلام كليٌّ؛ لأنَّ تدبير أقسام الله في العالم العُلويِّ، والسُّفلي أمور لا نهاية لها، وذكرها كالمُتعذِّر، فلمَّا ذكر بعض تلك التفاصيل؛ عقَّبها بالكلام الكلِّي ليدلَّ على الباقي، ثم بيَّن أنَّ الرَّسُول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، إذا سألهم عن مُدَبِّر هذه الأمور، فسيقولون هو الله، وهذا يدلُّ على أنَّ المخاطبين بهذا الكلام، كانُوا يعرفون الله تعالى، ويقرون به، وهم الذين قالوا في عبادتهم الأصنام: إنَّها تُقربنا إلى الله زُلْفَى، وأنَّهم شفعاؤنا عند الله، وكانوا يعلمُون أنَّ هذه الأصنام، لا تنفع ولا تضرُّ، فعند ذلك قال لرسلوه: ﴿فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ﴾ الشرك مع هذا الإقرار، وقيل: أفلا تخافون عقابه في شِرْكِكُم؟.
قوله: ﴿فَذَلِكُمُ الله رَبُّكُمُ﴾ الذي يفعل هذه الأشياء، هو ربُّكم الحقُّ.
قوله: ﴿فَمَاذَا بَعْدَ﴾ يجوز أن يكون «مَاذَا» كلُّه اسماً واحداً؛ لتركُّبهما، وغُلِّب الاستفهامُ على اسم الإشارة، وصار معنى الاستفهام هنا النَّفْيَ، ولذلك أوجب بعده ب «إلاَّ»، ويجوز أن يكون «ذَا» موصولاً بمعنى: «الَّذي»، والاستفهام أيضاً بمعنى: النَّفْي؛ والتقدير: ما الذي بعد الحقِّ إلاَّ الضَّلال؟.
وإذا ثبت أنَّ الله هو الحقُّ، وجب أن يكون ما سواه ضلالاً، أي: باطلاً؛ لأنَّ
320
النَّقيضين يمتنع أن يكونا حقَّين، وأن يكونا باطلين، فإذا كان أحدهما حقّاً، وجب كون ما سواه باطلاً، ثم قال ﴿فأنى تُصْرَفُونَ﴾ أي: كيف تَعْدلُون عن عبادته، وأنتُم مُقِرُّون بذلك.
قال الجُبَّائي: دلَّت هذه الآية على بطلان قول المُجبِّرة: أنَّه - تعالى - يصرف الكُفَّار عن الإيمان؛ لأنَّه لو كان كذلك، لما جاز أن يقول ﴿فأنى تُصْرَفُونَ﴾ كما لا يقول إذا عمي أحدهم إني عميتُ، وسيأتي جوابه.

فصل


المعنى: أنَّ الذي يفعل هذه الأشياء، هو ربُّكم الحقُّ، لا ما أشركتُم معه.
قال بعضُ المتقدِّمين: ظاهرُ هذه الآية، يدلُّ على أنَّ ما بعد الله، هو الضلالُ؛ لأنَّ أوَّلها ﴿فَذَلِكُمُ الله رَبُّكُمُ الحق﴾، وآخرها ﴿فَمَاذَا بَعْدَ الحق إِلاَّ الضلال﴾ فهذا في الإيمان، والكفر ليس في الأعمال، وقال بعضهم: إنَّ الكفر تغطية الحقِّ، وكل ما كان غير الحقِّ، جرى هذا المجرى، فالحرام ضلالٌ، والمُبَاحُ هُدًى، فإن الله هو المبيحُ، والمحرِّم.

فصل


قال القرطبي: «رُوي عن مالك، في قوله تعالى: ﴿فَمَاذَا بَعْدَ الحق إِلاَّ الضلال﴾ قال اللَّعبُ بالشطرنج والنَّرد من الضلال، وسئل مالكٌ: عن الرَّجُل يلعبُ في بيته، مع امرأته بأربعة عشرة، فقال: ما يُعْجِبني، ليس من شأن المُؤمن، قال - تعالى -: ﴿فَمَاذَا بَعْدَ الحق إِلاَّ الضلال﴾، وسئل مالكٌ: عن اللَّعبِ بالشطرنج، فقال: لا خَيْرَ فيه وهو من الباطل، واللَّعبُ كلُّه من الباطل».
وقال الشَّافعيُّ: «لاعب الشطرنج، وغيره - إذا لم يكن على وجه القمار - لا تُرَدّ شهادتهُ إذا كان عدْلاً، ولمْ تظهرْ منه ريبةٌ، ولا كبيرةٌ، فإن لعب بها قُماراً، وكان معروفاً بذلك، سقطت عدالتُهُ، لأكله المال بالباطل، وقال أبُو حنيفة:» يُكرَه اللعب بالشطرنج، والنَّرد، والأربعة عشر، وكل اللَّهْو فإن لم تظهر من اللاَّعب بها كبيرةٌ، وكانت مساوئه قليلة، قُبلتْ شهادته «.
قال ابن العربي:»
قال الشَّافعية: إنَّ الشطرنج يخالف النَّرد، لأنَّ فيه إكدار الفكر، واستعمال القريحة، وأمَّا النَّرْد: فلا يعلم ما يخرجُ له، فهو كالاستقسام بالأزلام «. وأنَّ النَّرد هو الذي يعرفُ بالباطل، ويعرف في الجاهليَّة بالأزلام، ويعرف أيضاً بالنَّردشير، وروي أنَّ ابن عمر، مرَّ بغلمان يعلبُون بالكجَّة، وهي حُفَر فيها حصى، يلعبُون بها، فسدَّها ابنُ عمر، ونهاهم عنها.
ذكر الهروي في باب الكاف مع الجيم، في حديث ابن عبَّاس: في كل شيءٍ قمار،
321
حتى في لعب الصبيان بالكُجَّةِ، وقال ابن الأعرابي:» الكجَّة هي: أنْ يأخذ الصبيُّ خرقةً، فيدورها كأنَّها كُرةً ثم يتقامرُون بها «.
قوله: «كَذَلِكَ حَقَّتْ»
: الكافُ في محلِّ نصبٍ، نعتاً لمصدرٍ محذوف، والإشارةُ بذلك إلى المصدر المفهوم من «تُصْرَفُون»، أي: مثل صَرْفِهم عن الحقِّ، بعد الإقرار به، في قوله - تعالى -: ﴿فَسَيَقُولُونَ الله﴾، وقيل إشارةٌ إلى الحقِّ. قال الزمخشري: «كذلك: مثل ذلك الحقِّ حقَّت كلمةُ ربِّك». قوله: ﴿أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ فيه أربعة أوجه:
أحدها: أنَّها في محلِّ رفع؛ بدلاً من «كَلِمةُ»، أي: حقَّ عليهم انتفاءُ الإيمان.
الثاني: أنَّها في محلِّ رفعٍ، خبراً لمبتدأ محذوف، أي: الأمر عدمُ إيمانهم.
الثالث: أنَّها في محلِّ نصب، بعد إسقاطِ الحرف الجارِّ.
الرابع: أنَّها في محلِّ جرٍّ، على إعماله محذوفاً، إذ الأصل: لأنَّهم لا يُؤمِنُون.
قال الزمخشري: «أو أراد بالكلمة، العِدَة بالعذاب، و ﴿أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ تعليلٌ، أي: لأنَّهم»، وهذا إنباء على مذهبهم. وقرأ أبو عمرو، وابن كثير، والكوفيون: «كَلِمَات» بالجمع، وكذا في آخر السورة [يونس: ٩٦]، وتقدَّم ذلك في الأنعام، وقرأ ابنُ أبي عيلة: «إَِنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ» بكسر «إنَّ» على الاستئناف، وفيها معنى التَّعليل، وهذا يُقَوِّي الوجه الصَّائر إلى التَّعليل.

فصل


احتجَّ أهل السنة بهذه الآية: على أنَّ الكفر بقضاء الله، وإرادته، لأنه - تعالى - أخبر عنهم قطعاً أنَّهم لا يؤمنون، فلو آمنوا، لكان إمَّا أن يبقى ذلك الخبر صدقاً، أو لا، والأوَّل باطلٍ؛ لأنَّ الخبر بأنَّه لا يؤمن، يمتنع أن يبقى صدقاً حال ما يُوجد الإيمان. والثاني باطلٌ؛ لأنَّ انقلاب خبر الله - تعالى - كذباً محالٌ، فثبت أنَّ صدور الإيمان منهم محالٌ، والمحالُ لا يكون مراداً، فثبت أنَّه - تعالى - ما أراد الإيمان من هذا الكافر، وأنَّه أرادَ الكُفْر منه.
ثم نقول إن كان قوله: ﴿فأنى تُصْرَفُونَ﴾ يدلُّ على صحَّة مذهب القدريَّة، فهذه الآيةُ الموضوعة بجنبه تدلُّ على فساده، وقد كان الواجبُ على الجُبَّائيِّ مع قوة خاطره، حين استدلَّ بتلك الآية على صحَّة قوله، أن يذكُر هذه الحجَّة، ويجيب عنها حتى يحصل مقصوده، والمراد ب «الكلمة» : حكمةُ السَّابق على الذينَ فَسَقُوا، أي: كفرُوا.
322
قوله :﴿ فَذَلِكُمُ الله رَبُّكُمُ ﴾ الذي يفعل هذه الأشياء، هو ربُّكم الحقُّ.
قوله :﴿ فَمَاذَا بَعْدَ ﴾ يجوز أن يكون " مَاذَا " كلُّه اسماً واحداً ؛ لتركُّبهما، وغُلِّب الاستفهامُ على اسم الإشارة، وصار معنى الاستفهام هنا النَّفْيَ، ولذلك أوجب بعده ب " إلاَّ "، ويجوز أن يكون " ذَا " موصولاً بمعنى :" الَّذي "، والاستفهام أيضاً بمعنى : النَّفْي ؛ والتقدير : ما الذي بعد الحقِّ إلاَّ الضَّلال ؟.
وإذا ثبت أنَّ الله هو الحقُّ، وجب أن يكون ما سواه ضلالاً، أي : باطلاً ؛ لأنَّ النَّقيضين يمتنع أن يكونا حقَّين، وأن يكونا باطلين، فإذا كان أحدهما حقّاً، وجب كون ما سواه باطلاً، ثم قال ﴿ فأنى تُصْرَفُونَ ﴾ أي : كيف تَعْدلُون عن عبادته، وأنتُم مُقِرُّون بذلك.
قال الجُبَّائي : دلَّت هذه الآية على بطلان قول المُجبِّرة : أنَّه - تعالى - يصرف الكُفَّار عن الإيمان ؛ لأنَّه لو كان كذلك، لما جاز أن يقول ﴿ فأنى تُصْرَفُونَ ﴾ كما لا يقول إذا عمي أحدهم إني عميتُ، وسيأتي جوابه.

فصل


المعنى : أنَّ الذي يفعل هذه الأشياء، هو ربُّكم الحقُّ، لا ما أشركتُم معه.
قال بعضُ المتقدِّمين : ظاهرُ هذه الآية، يدلُّ على أنَّ ما بعد الله، هو الضلالُ ؛ لأنَّ أوَّلها ﴿ فَذَلِكُمُ الله رَبُّكُمُ الحق ﴾، وآخرها ﴿ فَمَاذَا بَعْدَ الحق إِلاَّ الضلال ﴾ فهذا في الإيمان، والكفر ليس في الأعمال، وقال بعضهم : إنَّ الكفر تغطية الحقِّ، وكل ما كان غير الحقِّ، جرى هذا المجرى، فالحرام ضلالٌ، والمُبَاحُ هُدًى، فإن الله هو المبيحُ، والمحرِّم.

فصل


قال القرطبي :" رُوي عن مالك، في قوله تعالى :﴿ فَمَاذَا بَعْدَ الحق إِلاَّ الضلال ﴾ قال اللَّعبُ بالشطرنج والنَّرد من الضلال، وسئل مالكٌ : عن الرَّجُل يلعبُ في بيته، مع امرأته بأربعة عشرة، فقال : ما يُعْجِبني، ليس من شأن المُؤمن، قال - تعالى - :﴿ فَمَاذَا بَعْدَ الحق إِلاَّ الضلال ﴾، وسئل مالكٌ : عن اللَّعبِ بالشطرنج، فقال : لا خَيْرَ فيه وهو من الباطل، واللَّعبُ كلُّه من الباطل ".
وقال الشَّافعيُّ :" لاعب الشطرنج، وغيره - إذا لم يكن على وجه القمار - لا تُرَدّ شهادتهُ إذا كان عدْلاً، ولمْ تظهرْ منه ريبةٌ، ولا كبيرةٌ، فإن لعب بها قُماراً، وكان معروفاً بذلك، سقطت عدالتُهُ، لأكله المال بالباطل، وقال أبُو حنيفة :" يُكرَه اللعب بالشطرنج، والنَّرد، والأربعة عشر، وكل اللَّهْو فإن لم تظهر من اللاَّعب بها كبيرةٌ، وكانت مساوئه قليلة، قُبلتْ شهادته ".
قال ابن العربي :" قال الشَّافعية : إنَّ الشطرنج يخالف النَّرد، لأنَّ فيه إكدار الفكر، واستعمال القريحة، وأمَّا النَّرْد : فلا يعلم ما يخرجُ له، فهو كالاستقسام بالأزلام ". وأنَّ النَّرد هو الذي يعرفُ بالباطل، ويعرف في الجاهليَّة بالأزلام، ويعرف أيضاً بالنَّردشير، وروي أنَّ ابن عمر، مرَّ بغلمان يلعبُون بالكجَّة، وهي حُفَر فيها حصى، يلعبُون بها، فسدَّها ابنُ عمر، ونهاهم عنها١.
ذكر الهروي في باب الكاف مع الجيم، في حديث ابن عبَّاس : في كل شيءٍ قمار، حتى في لعب الصبيان بالكُجَّةِ، وقال ابن الأعرابي :" الكجَّة هي : أنْ يأخذ الصبيُّ خرقةً، فيدورها كأنَّها كُرةً ثم يتقامرُون بها ".
١ ذكره القرطبي في "تفسيره" (٨/٢١٧)..
قوله :" كَذَلِكَ حَقَّتْ " : الكافُ في محلِّ نصبٍ، نعتاً لمصدرٍ محذوف، والإشارةُ بذلك إلى المصدر المفهوم من " تُصْرَفُون "، أي : مثل صَرْفِهم عن الحقِّ، بعد الإقرار به، في قوله - تعالى - :﴿ فَسَيَقُولُونَ الله ﴾، وقيل إشارةٌ إلى الحقِّ. قال الزمخشري :" كذلك : مثل ذلك الحقِّ حقَّت كلمةُ ربِّك ". قوله :﴿ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ فيه أربعة أ وجه :
أحدها : أنَّها في محلِّ رفع ؛ بدلاً من " كَلِمةُ "، أي : حقَّ عليهم انتفاءُ الإيمان.
الثاني : أنَّها في محلِّ رفعٍ، خبراً لمبتدأ محذوف، أي : الأمر عدمُ إيمانهم.
الثالث : أنَّها في محلِّ نصب، بعد إسقاطِ الحرف الجارِّ.
الرابع : أنَّها في محلِّ جرٍّ، على إعماله محذوفاً، إذ الأصل : لأنَّهم لا يُؤمِنُون.
قال الزمخشري :" أو أراد بالكلمة، العِدَة بالعذاب، و﴿ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ تعليلٌ، أي : لأنَّهم "، وهذا إنباء على مذهبهم. وقرأ أبو عمرو١، وابن كثير، والكوفيون :" كَلِمَات " بالجمع، وكذا في آخر السورة [ يونس : ٩٦ ]، وتقدَّم ذلك في الأنعام، وقرأ ابنُ أبي عبلة٢ :" إَِنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ " بكسر " إنَّ " على الاستئناف، وفيها معنى التَّعليل، وهذا يُقَوِّي الوجه الصَّائر إلى التَّعليل.

فصل


احتجَّ أهل السنة بهذه الآية : على أنَّ الكفر بقضاء الله، وإرادته، لأنه - تعالى - أخبر عنهم قطعاً أنَّهم لا يؤمنون، فلو آمنوا، لكان إمَّا أن يبقى ذلك الخبر صدقاً، أو لا، والأوَّل باطلٍ ؛ لأنَّ الخبر بأنَّه لا يؤمن، يمتنع أن يبقى صدقاً حال ما يُوجد الإيمان. والثاني باطلٌ ؛ لأنَّ انقلاب خبر الله - تعالى - كذباً محالٌ، فثبت أنَّ صدور الإيمان منهم محالٌ، والمحالُ لا يكون مراداً، فثبت أنَّه - تعالى - ما أراد الإيمان من هذا الكافر، وأنَّه أرادَ الكُفْر منه.
ثم نقول إن كان قوله :﴿ فأنى تُصْرَفُونَ ﴾ يدلُّ على صحَّة مذهب القدريَّة، فهذه الآيةُ الموضوعة بجنبه تدلُّ على فساده، وقد كان الواجبُ على الجُبَّائيِّ مع قوة خاطره، حين استدلَّ بتلك الآية على صحَّة قوله، أن يذكُر هذه الحجَّة، ويجيب عنها حتى يحصل مقصوده، والمراد ب " الكلمة " : حكمةُ السَّابق على الذينَ فَسَقُوا، أي : كفرُوا.
١ ينظر: السبعة ص (٣٢٦)، الحجة ٤/٢٧٢-٢٧٣، حجة القراءات ص (٣٣١)، إعراب القراءات ١/٢٦٧، إتحاف ٢/١٠٩..
٢ ينظر: المحرر الوجيز ٣/١١٨، البحر المحيط ٥/١٥٦، الدر المصون ٤/٣٠..
قوله - تعالى - ﴿قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾ الآية. هذه هي الحجَّة الثانية عليهم.
فإن قيل: القوم كانوا منكرين الإعادة، والحشر، والنشر، فكيف احتجَّ عليهم بذلك؟
فالجواب: أنَّه - تعالى - قدَّم في هذه السورة ما يدلُّ عليه، وهو وجوب التمييز بين المُحْسِن والمُسيءِ، وهذه الدَّلالة دلالةٌ ظاهرةٌ قويَّة، لا يمكن للعاقل دفعها؛ فلأجْلِ قُوَّتها، وظهورها تمسَّك بها، سواء الخَصْم عليها، أو لا.
فإن قيل: لِمَ أمر رسوله أن يعترف بذلك، والإلزام إنَّما يحصلُ لو اعترف الخصمُ به؟.
فالجوابُ: أنَّ الدَّليل لمَّا كان ظاهراً جليّاً، فإذا أورد على الخَصْم في معرض الاستفهام، كأنَّه بنفسه يقول: الأمر كذلك، فكان هذا تنبيهاً، على أنَّ هذا الكلام بلغ في الوُضوح، إلى حيث لا حاجة فيه إلى إقرار الخصم به، وأنَّه سواء أقرَّ، أو أنكَرَ، فالأمرُ متقرِّر ظاهرٌ.
قوله: ﴿قُلِ الله يَبْدَأُ الخلق﴾ : هذه الجملةُ جوابٌ لقوله: ﴿قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾، وإنَّما أتى بالجواب جملة اسمية، مصرَّحاً يجزأيها، مُعَاداً فيها الخبر، مطابقاً لخبر اسم الاستفهام؛ للتأكيد، والتَّثبيتِ، ولمَّا كان الاستفهام قبل هذا، لا مندوحة لهُم عن الاعتراف به، جاء الجملةُ محذوفاً منها أحدُ جزأيها، في قوله: ﴿فَسَيَقُولُونَ الله﴾ [يونس: ٣١]، ولم يَحْتَجْ إلى التَّأكيد بتصريح جزأيها.

فصل


قال القرطبيُّ: ومعنى الآية: ﴿قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَبْدَأُ الخلق﴾ ينشئه من غير أصل، ولا سبق مثال: «ثُمَّ يُعِيدُهُ» : يُحْييه بعد الموت كهَيْئتِهِ، فإن أجابُوك، وإلاَّ ف ﴿قُلِ الله يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾، ثم قال: ﴿فأنى تُؤْفَكُونَ﴾ أي: تصرفون عن قصد السَّبيل، والمُراد: التَّعجُّب منهم في الدُّنْيَا من هذا الأمر الواضح الذي دعاهُم الهوى والتَّقليد إلى مخالفته؛ لأنَّ الإخبار عن كون الأوثان آلهةً كذب، وإفكٌ الاشتغال بعبادتها، مع أنَّها لا تستحق العبادة أيضاً إفكٌ.
قوله تعالى: ﴿قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يهدي إِلَى الحق﴾ الآية.
323
وهذه حجَّة ثالثة. واعلم أنَّ الاستدلالَ على وجودِ الصَّانع بالخلق أولاً، ثم بالهداية ثانياً، عادة مُطَّردة في القرآن، قال - تعالى - حكاية عن الخليلي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: ﴿الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ﴾ [الشعراء: ٧٨]، وحكى عن موسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - في جواب لفرعون: ﴿رَبُّنَا الذي أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى﴾ [طه: ٥٠]، وأمر محمَّداً - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - فقال: ﴿سَبِّحِ اسم رَبِّكَ الأعلى الذي خَلَقَ فسوى والذي قَدَّرَ فهدى﴾ [الأعلى: ١ - ٣].
واعلم أنَّ الإنسان له جسدٌ وروحٌ، فالاستدلال على وجود الصَّانع بأحوال الجسد، هو الخلق، والاستدلال بأحوال الرُّوح، هو الهدايةُ.
والمقصودُ من خلق الجسدِ: حصول الهداية للرُّوح، كما قال - تعالى -: ﴿والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾
[النحل: ٧٨]، وهذا كالتَّصريح بأنَّه تعالى إنَّما خلق الجسد، وأعطى الحواسّ؛ لتكون آلة في اكتساب المعارف، والعلم.
قوله: ﴿يهدي إِلَى الحق﴾، قد تقدَّم في أول الكتاب: أنَّ «هَدَى» يتعدَّى إلى اثنين ثانيهما: إمَّا باللاَّم أو بإلى، وقد يحذفُ الحرفُ تخفيفاً [الفاتحة: ٦]، وقد جمع بين التعديتين هنا بحرف الجر، فعدَّى الأول والثالث ب «إلى»، والثاني باللاَّم، وحذف المعفول الأول من الأفعال الثلاثة، والتقدير: هل من شركائكم من يهدي غيره إلى الحق، قل الله يهدي من يشاء للحقِّ، أفمنْ يهدي غيره إلى الحقِّ، وزعم الكسائي، والفرَّاء، وتبعهما الزمخشري: أنَّ «يَهْدِي» الأول قاصرٌ، وأنَّه بمعنى: اهتدى، وفيه نظر؛ لأنَّ مقابله، وهو ﴿قُلِ الله يَهْدِي لِلْحَقِّ﴾ متعدٍّ، وقد أنكر المبرِّدُ أيضاً مقالة الكسائي، والفراء، وقال: لا نَعْرِفُ «هَدَى» بمعنى: «اهتدى».
قال شهاب الدِّين «الكسائي والفرَّاء أثبتاه بما نقلاه، ولكن إنَّما ضعف ذلك هنا؛ لما ذكرتُ لك من مقابلته بالمتعدِّي، وقد تقدَّم أنَّ التعدية ب» إلى «أو اللاَّم، من باب التَّمن في البلاغة، ولذلك قال الزمخشري:» يقال: هداه للحقِّ وإلى الحقِّ، فجمع بين اللغتين «، وقال غيره:» إنَّما عدَّى المسند إلى الله باللاَّم؛ لأنَّها أدلُّ في بابها على المعنى المراد من «إلى» ؛ إذ أصلها لإفادة الملك، فكأنَّ الهداية مملوكةٌ لله - تعالى - «. وفيه نظر؛ لأنَّ المراد بقوله: ﴿أَفَمَن يهدي إِلَى الحق﴾ هو الله - تعالى -، مع تعدِّي الفعل المسند إليه ب» إلى «.
قوله: ﴿أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ﴾ : خبرٌ لقوله:»
أَفَنْ يهدي «، و» أنْ «في موضع نصبٍ، أو جرٍّ بعد حذف الخافض، والمفضَّلُ عليه محذوفٌ، وتقدير هذا كلّه: أفمن يهدي إلى الحقِّ أحقُّ بأن يُتَّبَع ممَّن لا يهدي. ذكر ذلك مكِّي بن أبي طالب، فجعل» أحَقُّ «هنا على بابها من كونها للتفضيل، وقد منع أبو حيَّان كونها للتَّفضيل، فقال: و» أحَقُّ «ليست للتفضيل، بل المعنى:» حَقيقٌ بأن يُتَّبع «، وجوَّز مكِّي أيضاً في المسألة وجهين آخرين:
324
أحدهما: أن تكون» مَنْ «مبتدأ أيضاً، و» أنْ «في محلِّ رفعٍ، بدلاً منها بدل اشتمال، و» أحَقُّ «خبرٌ على ما كان.
والثاني: أن يكون»
أنْ يُتَّبَع «في محلِّ رفعٍ بالابتداء، و» أحَقُّ «خبره مقدَّمٌ عليه. وهذه الجملة خبر ل» مَنْ يَهْدِي «، فتحصَّل في المسألة ثلاثة أوجُه.
قوله: ﴿أَمَّن لاَّ يهدي﴾ : نسقٌ على»
أفَمَنْ «، وجاء هنا على الأفصح، مِنْ حيث إنَّهُ قد فصل بين» أمْ «وما عُطفتْ عليه بالخبر، كقولك: أزَيْدٌ قائمٌ أم عمرو، ومثله:
﴿أذلك
خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الخلد﴾
[الفرقان: ١٥]، وهذا بخلاف قوله - تعالى -: ﴿أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ﴾ [الأنبياء: ١٠٩] وسيأتي هذا في موضعه، وقرأ أبو بكر عن عاصم: بكسر ياء «يهدِّي»
وهائه، وحفص بكسر الهاء دون الياء، فأما كسر الهاء؛ فلالتقاء الساكنين، وذلك أنَّ أصله «يَهْتَدِي»، فلمَّا قُصِدَ إدغامُه سكنتِ التاء، والهاءُ قبلها ساكنة، فكسرت الهاءُ لالتقاء الساكنين، وأبو بكر أتبع الياء للهاء في الكسر، وقال أبو حاتم: في قراءة حفصٍ «هي لغة سُفْلَى مُضَرَ».
ونقل عن سيبويه: أنَّه لا يجيز «يِهْدِي»، ويجيز «تِهْدِي، وإهْدِي»، قال: «لأنَّ الكسرة تثقلُ في الياء»، يعني: يُجيز كسر حرفِ المضارعة من هذا النَّحو، نحو: تِهْدِي ونِهْدِي وإِهْدِي، إذ لا ثقل في ذلك، ولم يجزهُ في الياء؛ لثقل الحركة المجانسةِ لها عليها، وهذا فيه غضٌّ من قراءة أبي بكرٍ، لكنه قد تواتر قراءة، فهو مقبولٌ، وقرأ أبو عمرو وقالون، عن نافع: بفتح الياء، واختلاس فتحة الهاء، وتشديد الدَّال، وذلك أنَّهُمَا لمَّا ثقَّلا الفتحة للإدغام، اختلسا الفتحة؛ تنبيهاً على أنَّ الهاءَ ليس أصلها الحركة، بل السُّكون، وقرأ ابن كثير، وابن عامر، وورش: بإكمال فتحة الهاء على أصل النقل، وقد رُوي عن أبي عمرو، وقالوا: اختلاسُ كسرةِ الهاءِ، على أصل التقاء الساكنين، والاختلاسُ للتنبيه على أنَّ أصل الهاءِ السُّكون كما تقدَّم، وقرأ أهلُ المدينة - خلا ورشاً - بفتح الياء وسكون الهاء وتشديد الدَّال، وهذه القراءةُ استشكلها جماعةٌ من حيث الجمع بين السَّاكنين، قال المبرد: «مَنْ رَامَ هذا، لا بد أن يحرك حركة خفيَّة» قال أبو
325
جعفر النَّحاس: لا يقدر أحدٌ أن ينطقَ به. قال شهاب الدِّين: «وقد قال في التيسير:» والنَّصُّ عن قالون بالإسكان «، قلت: ولا بعد في ذلك؛ فقد تقدَّم أنَّ بعض القُرَّاء يَقْرَأ ﴿نِعْمَّا﴾ [النساء: ٥٨] و ﴿لاَ تَعْدُواْ﴾ [النساء: ١٥٤] بالجمع بين الساكنين، وتقدَّمت لك قراءاتٌ كثيرة، في قوله ﴿يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ﴾ [البقرة: ٢٠]، وسيأتي مثل هذا في ﴿يَخِصِّمُونَ﴾ [يس: ٤٩].
وقرأ الأخوان»
يَهْدِي «بفتح الياء، وسكون الهاء، وتخفيف الدال، من هدى يَهْدي، وفيه قولان:
أحدهما: أنَّ»
هَدَى «بمعنى: اهتدى.
والثاني: أنَّه متعدٍّ، ومفعوله محذوفٌ كما تقدَّم، وتقدم في قول الكسائي، والفرَّاء في ذلك، وردُّ المبرد عليهما.
وقال ابن عطيَّة:»
والذي أقول: قراءةُ حمزة، والكسائيُّ؛ تحتمل أن يكون المعنى: أمْ مَنْ لا يهدي أحداً، إلاَّ أنْ يهدي ذلك الأحدُ بهداية الله، وأمَّا على غيرها من القراءات التي مقتضاها: أمْ مَنْ لا يهتدي، إلاَّ أنْ يُهْدَى. فيتجه المعنى على ما تقدَّم «، ثم قال:» وقيل: تمَّ الكلامُ عند قوله: «أمْ مَنْ لا يَهَدِّي»، أيك لا يهدِّي غيره «، ثم قال:» إلاَّ أنَّ يَهْدَى: استثناءٌ منقطع، أي: لكنه يحتاجُ إلى أن يُهْدَى، كما تقول: فلانُ لا يسمع غيره، إلاَّ أنْ يسمع، أي: لكنَّه يحتاجُ إلى أن يسمع «.
انتهى، ويجوز أن يكون استثناءً متصلاً؛ لأنَّه إذ ذاك يكون فيهم قابليَّةُ الهداية، بخلافِ الأصنام، ويجوز أن يكون استثناء من تمامِ المفعول له، أي: لا يهدي لشيءٍ من الأشياء، إلاَّ لأجْل أن يُهْدَى بغيره.
قوله: «فَمَا لَكُمْ»
: مبتدأ وخبر، ومعنى الاستفهام هنا: الإنكارُ والتعجُّبُ، أي: أيُّ شيءٍ لكم في اتِّخاذ هؤلاء؛ إذا كانوا عاجزين عن هداية أنفسهم، فكيف يمكن أن يهدوا غيرهم؟ وقد تقدَّم: أنَّ بعض النحويين نصَّ على أنَّ مثل هذا التركيب، لا يتمُّ إلاَّ بحالٍ بعده، نحو: ﴿فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ﴾ [المدثر: ٤٩]، ﴿وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ﴾ [المائدة: ٨٤] إلى غير ذلك، وهنا لا يمكن أن تقدَّر الجملةُ بعد هذا التركيب حالاً؛ لأنَّها استفهاميَّة، والاستفهاميَّة لا تقع حالاً.
وقوله: ﴿كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ : استفهامٌ آخر، أي: كيْفَ تحكمُونَ بالباطل، وتجعلُون لله أنْداداً، وشُركاء؟.
326

فصل


المعنى: ﴿هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يهدي﴾ : يرشد، «إِلَى الحق» فإذا قالوا: لا، ولا بدَّ لهم من ذلك ﴿قُلِ الله يَهْدِي لِلْحَقِّ﴾ أي: إلى الحقِّ ﴿أَفَمَن يهدي إِلَى الحق أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يهدي إِلاَّ أَن يهدى﴾ أي: الله الذي يهدي إلى الحقِّ أحق بالاتِّباع، أم الصَّنم الذي لا يهتدي، إلاَّ أنْ يُهْدَى؟ فإن قيل: الأصنام جمادات لا تقبل الهداية، فكيف قال: ﴿إِلاَّ أَن يهدى﴾، والصَّنَمُ لا يتصوَّر أن يهتدي، ولا أنْ يُهْدَى؟
فالجواب من وجوه:
أحدها: أنَّ المراد من قوله: ﴿هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾ الأصنام، والمراد من قوله: ﴿هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يهدي إِلَى الحق﴾ : رؤساء الكفر، والضلال، والدعاة إليهما؛ لقوله - تعالى -: ﴿اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله﴾ [التوبة: ٣١] إلى قوله: ﴿سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [التوبة: ٣١] أي: أن الله - تعالى - هدى الخلق إلى الدِّين، بالدَّلائل العقليَّة، والنقليَّة، وهؤلاء الدُّعاة لا يقدرون أن يهدُوا غيرهم، إلاَّ إذا هداهم الله، فكان التَّمسك بدين الله، أولى من قُبُول قول هؤلاء الجهال.
وثانيها: أن معنى الهداية في حقِّ الأصنامِ: الانتقال، والهدى: عبارة عن النَّقل والحركة، يقال: أهديت المرأة إلى زوجها، إذا انتقلت إليها، والهَدْيُ: ما يُهْدى إلى الحرم من النَّعَم، وسميت الهديَّةُ هديَّة؛ لانتقالها من شخص إلى غيره، وجاء فلان يهادى بين رجلين، إذا كان يمشي مُعْتمداً عليهما؛ لضعفه وتمايله. وإذا ثبت ذلك فالمرادُ: أنَّه لا ينتقل من مكان إلى مكان، إلاَّ أن يحمل وينقل بين عجز الأصنام.
وثالثها: أنه ذكر الهداية على وجه المجاز؛ لأنَّ المشركينَ لمَّا اتَّخذُوا الأصنام آلهةً، وأنَّها لا تشفع لهم في الآخرة، وأنَّهم نزَّلُوها منزلة من يعقل، فلذلك عبَّر عنها كما يُعبَّر عمَّن يعلم ويعقل.
ورابعها: أنْ يُحْمل على التقدير، أي: أنَّها لو كانت بحيث يمكنها أن تهدي، فإنَّها لا تهدي غيرها، إلاَّ بعد أن يهديها غيرها، ثم قال: ﴿فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ أي: تَقضُون، حين زعمتُم: أنَّ للهَ شريكاً.
قوله: ﴿وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً﴾ الآية.
أي: يقولون إنَّ الأصنامَ آلهة، وأنَّها تشفع لهم في الآخرة، «ظَنّاً» : لمْ يردْ به كتابٌ ولا رسولٌ. وأراد بالأكثر، جميع من يقول ذلك.
وقيل: وما يتبع أكثرهم في إقرارهم بالله إلاَّ ظنّاً؛ لأنَّه قولٌ غير مسندٍ إلى برهانٍ عندهم، بل سمعُوه من أسلافهم، وهذا القول أولى؛ لأنَّا في الأول نحتاج إلى أن نُفَسِّر الأكثر بالكُلِّ.
327
قوله: «لاَ يُغْنِي» : خبرُ «إنَّ»، و «شيئاً» منصوبٌ على المصدر، أي: شيئاً من الإغناء، و «منَ الحقِّ» نصبٌ على الحالِ من «شَيْئاً» ؛ لأنَّهُ في الأصل صفةٌ له، ويجُوزُ أن تكون «مِن» بمعنى «بدل»، اي: لا يُغْنِي بدل الحقِّ، وقرأ الجمهور: «يَفْعلُون» على الغيبة، وقرأ عبد الله: «تَفْعَلون» خطاباً، وهو التفاتٌ بليغٌ، ومعنى الآية: إنَّ الظَّنَّ لا يدفع عنهم من عذَابِ الله شيئاً، وقيل: لا يقوم مقام العلم.

فصل


تمسَّك نُفاةُ القياس بهذه الآية، فقالوا: العملُ بالقياس عمل بالظَّنِّ، فوجب أن لا يجوز لهذه الآية، وأجيبوا: بأنَّ الدَّليل الذي دلَّ على وجوب العمل بالقياس، دليلٌ قاطعٌ، فكان وجوبُ العمل بالقياس معلوماً، فلم يكن العملُ بالقياس مظنوناً، فأجابوا: بأنَّه لو كان الحكم المستفاد من القياس معلوماً، فلم يكن العملُ بالقياس مظنوناً، فأجابوا: بأنَّه لو كان الحكم المستفاد من القياس يعلم كونه حكماً لله - تعالى -، لكان ترك العمل به كُفْراً؛ لقوله - تعالى -: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الكافرون﴾ [المائدة: ٤٤] ولمَّا لمْ يكُن كذلك، بطل العمل به، ثم عبَّرُوا عن هذه الحُجَّة، فقالوا: الحكم المستفاد من القياس: إمَّا أن يعلم كونه حكماً لله - تعالى -، أو يظن، أو لا يعلم ولا يظن.
والأرض باطل، وإلاَّ لكان من لم يَحْكُم به كافراً؛ لقوله - تعالى -: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الكافرون﴾ [المائدة: ٤٤]، وبالاتِّفاق ليس كذلك.
والثاني: باطلٌ؛ لأنَّ الحكم بالظَّنِّ لا يجوز؛ لقوله - تعالى -: ﴿إَنَّ الظن لاَ يُغْنِي مِنَ الحق شَيْئاً﴾.
والثالث: باطلٌ؛ لأنه إذا لم يكن كذلك الحكم معلوماً، ولا مظنوناً، كان مجرد التَّشهي، فكان باطلاً؛ لقوله - تعالى -: ﴿فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصلاة واتبعوا الشهوات﴾
[مريم: ٥٩].
وأجاب مثبتُو القياس: بأنَّ حاصل هذا الدَّليل، يرجع إلى التَّمسك بالعمومات، والتَّمسُّك بالعمومات لا يفيد إلاَّ الظن، فإذا دلَّت العمومات، على المنع من التَّمسُّك بالظنِّ، لزم كونها دالَّة على المنع من التَّمسُّك بالظنِّ، وما أفْضَى ثُبُوته إلى نفيه، كان مَتْرُوكاً.
دلَّت هذه الآيةُ: على أنَّ كلَّ من كان ظانّاً في مسائل الأصول، ولم يكُن قاطعاً؛ فإنَّه لا يكون مؤمناً.
فإن قيل: فقول أهل السُّنَّة: أنَا مؤمنٌ - إن شاء اللهُ -، يمنع من القطع، فوجب أن يلزمَهُم الكفر.
328
فالجواب من وجوه:
الأول: مذهب الشافعي: أنَّ الإيمان عبارةٌ عن مجموع الاعتقادِ، والإقرارِ، والعمل، والشَّك إنَّما هو ي هذه الأعمال، هل هي موافقةٌ لأمر الله - تعالى -؟ والشَّك في أحد أجزاء الماهيَّة، لا يوجب الشَّك في تمام الماهيَّة.
الثاني: أنَّ الغرضَ من قوله: إن شاء اللهُ، بقاء الإيمان عند الخاتمة.
الثالث: الغرض منه هضم النَّفْس وكسرُها.
329
قوله تعالى :﴿ قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يهدي إِلَى الحق ﴾ الآية.
وهذه حجَّة ثالثة. واعلم أنَّ الاستدلالَ على وجودِ الصَّانع بالخلق أولاً، ثم بالهداية ثانياً، عادة مُطَّردة في القرآن، قال - تعالى - حكاية عن الخليل عليه الصلاة والسلام :﴿ الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ﴾ [ الشعراء : ٧٨ ]، وحكى عن موسى - عليه الصلاة والسلام - في جوابه لفرعون :﴿ رَبُّنَا الذي أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى ﴾ [ طه : ٥٠ ]، وأمر محمَّداً - عليه الصلاة والسلام - فقال :﴿ سَبِّحِ اسم رَبِّكَ الأعلى الذي خَلَقَ فسوى والذي قَدَّرَ فهدى ﴾ [ الأعلى : ١-٣ ].
واعلم أنَّ الإنسان له جسدٌ وروحٌ، فالاستدلال على وجود الصَّانع بأحوال الجسد، هو الخلق، والاستدلال بأحوال الرُّوح، هو الهدايةُ.
والمقصودُ من خلق الجسدِ : حصول الهداية للرُّوح، كما قال - تعالى - :﴿ والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [ النحل : ٧٨ ]، وهذا كالتَّصريح بأنَّه تعالى إنَّما خلق الجسد، وأعطى الحواسّ ؛ لتكون آلة في اكتساب المعارف، والعلم.
قوله :﴿ يهدي إِلَى الحق ﴾، قد تقدَّم في أول الكتاب : أنَّ " هَدَى " يتعدَّى إلى اثنين ثانيهما : إمَّا باللاَّم أو بإلى، وقد يحذفُ الحرفُ تخفيفاً [ الفاتحة : ٦ ]، وقد جمع بين التعديتين هنا بحرف الجر، فعدَّى الأول والثالث ب " إلى "، والثاني باللاَّم، وحذف المفعول الأول من الأفعال الثلاثة، والتقدير : هل من شركائكم من يهدي غيره إلى الحق، قل الله يهدي من يشاء للحقِّ، أفمنْ يهدي غيره إلى الحقِّ، وزعم الكسائي، والفرَّاء، وتبعهما الزمخشري : أنَّ " يَهْدِي " الأول قاصرٌ، وأنَّه بمعنى : اهتدى، وفيه نظر ؛ لأنَّ مقابله، وهو ﴿ قُلِ الله يَهْدِي لِلْحَقِّ ﴾ متعدٍّ، وقد أنكر المبرِّدُ أيضاً مقالة الكسائي، والفراء، وقال : لا نَعْرِفُ " هَدَى " بمعنى :" اهتدى ".
قال شهاب الدِّين " الكسائي والفرَّاء أثبتاه بما نقلاه، ولكن إنَّما ضعف ذلك هنا ؛ لما ذكرتُ لك من مقابلته بالمتعدِّي، وقد تقدَّم أنَّ التعدية ب " إلى " أو اللاَّم، من باب التَّمن في البلاغة، ولذلك قال الزمخشري :" يقال : هداه للحقِّ وإلى الحقِّ، فجمع بين اللغتين "، وقال غيره :" إنَّما عدَّى المسند إلى الله باللاَّم ؛ لأنَّها أدلُّ في بابها على المعنى المراد من " إلى " ؛ إذ أصلها لإفادة الملك، فكأنَّ الهداية مملوكةٌ لله - تعالى - ". وفيه نظر ؛ لأنَّ المراد بقوله :﴿ أَفَمَن يهدي إِلَى الحق ﴾ هو الله - تعالى -، مع تعدِّي الفعل المسند إليه ب " إلى ".
قوله :﴿ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ ﴾ : خبرٌ لقوله :" أَفَنْ يهدي "، و " أنْ " في موضع نصبٍ، أو جرٍّ بعد حذف الخافض، والمفضَّلُ عليه محذوفٌ، وتقدير هذا كلّه : أفمن يهدي إلى الحقِّ أحقُّ بأن يُتَّبَع ممَّن لا يهدي. ذكر ذلك مكِّي بن أبي طالب، فجعل " أحَقُّ " هنا على بابها من كونها للتفضيل، وقد منع أبو حيَّان كونها للتَّفضيل، فقال : و " أحَقُّ " ليست للتفضيل، بل المعنى :" حَقيقٌ بأن يُتَّبع "، وجوَّز مكِّي أيضاً في المسألة وجهين آخرين :
أحدهما : أن تكون " مَنْ " مبتدأ أيضاً، و " أنْ " في محلِّ رفعٍ، بدلاً منها بدل اشتمال، و " أحَقُّ " خبرٌ على ما كان.
والثاني : أن يكون " أنْ يُتَّبَع " في محلِّ رفعٍ بالابتداء، و " أحَقُّ " خبره مقدَّمٌ عليه. وهذه الجملة خبر ل " مَنْ يَهْدِي "، فتحصَّل في المسألة ثلاثة أوجُه.
قوله :﴿ أَمَّن لاَّ يهدي ﴾ : نسقٌ على " أفَمَنْ "، وجاء هنا على الأفصح، مِنْ حيث إنَّهُ قد فصل بين " أمْ " وما عُطفتْ عليه بالخبر، كقولك : أزَيْدٌ قائمٌ أم عمرو، ومثله :﴿ أذلك خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الخلد ﴾ [ الفرقان : ١٥ ]، وهذا بخلاف قوله - تعالى - :﴿ أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ ﴾ [ الأنبياء : ١٠٩ ] وسيأتي هذا في موضعه، وقرأ أبو بكر عن عاصم١ : بكسر ياء " يهدِّي " وهائه، وحفص٢ بكسر الهاء دون الياء، فأما كسر الهاء ؛ فلالتقاء الساكنين، وذلك أنَّ أصله " يَهْتَدِي "، فلمَّا قُصِدَ إدغامُه سكنتِ التاء، والهاءُ قبلها ساكنة، فكسرت الهاءُ لالتقاء الساكنين، وأبو بكر أتبع الياء للهاء في الكسر، وقال أبو حاتم : في قراءة حفصٍ " هي لغة سُفْلَى مُضَرَ ".
ونقل عن سيبويه : أنَّه لا يجيز " يِهْدِي "، ويجيز " تِهْدِي، وإهْدِي "، قال :" لأنَّ الكسرة تثقلُ في الياء "، يعني : يُجيز كسر حرفِ المضارعة من هذا النَّحو، نحو : تِهْدِي ونِهْدِي وإِهْدِي، إذ لا ثقل في ذلك، ولم يجزهُ في الياء ؛ لثقل الحركة المجانسةِ لها عليها، وهذا فيه غضٌّ من قراءة أبي بكرٍ، لكنه قد تواتر قراءة، فهو مقبولٌ، وقرأ٣ أبو عمرو وقالون، عن نافع : بفتح الياء، واختلاس فتحة الهاء، وتشديد الدَّال، وذلك أنَّهُمَا لمَّا ثقَّلا الفتحة للإدغام، اختلسا الفتحة ؛ تنبيهاً على أنَّ الهاءَ ليس أصلها الحركة، بل السُّكون، وقرأ ابن كثير، وابن عامر٤، وورش : بإكمال فتحة الهاء على أصل النقل، وقد رُوي عن أبي عمرو، وقالوا : اختلاسُ كسرةِ الهاءِ، على أصل التقاء الساكنين، والاختلاسُ للتنبيه على أنَّ أصل الهاءِ السُّكون كما تقدَّم، وقرأ أهلُ المدينة٥ - خلا ورشاً - بفتح الياء وسكون الهاء وتشديد الدَّال، وهذه القراءةُ استشكلها جماعةٌ من حيث الجمع بين السَّاكنين، قال المبرد :" مَنْ رَامَ هذا، لا بد أن يحرك حركة خفيَّة " قال أبو جعفر النَّحاس : لا يقدر أحدٌ أن ينطقَ به. قال شهاب الدِّين٦ :" وقد قال في التيسير :" والنَّصُّ عن قالون بالإسكان "، قلت : ولا بعد في ذلك ؛ فقد تقدَّم أنَّ بعض القُرَّاء يَقْرَأ ﴿ نِعْمَّا ﴾ [ النساء : ٥٨ ] و﴿ لاَ تَعْدُواْ ﴾ [ النساء : ١٥٤ ] بالجمع بين الساكنين، وتقدَّمت لك قراءاتٌ كثيرة، في قوله ﴿ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ ﴾ [ البقرة : ٢٠ ]، وسيأتي مثل هذا في ﴿ يَخِصِّمُونَ ﴾ [ يس : ٤٩ ].
وقرأ الأخوان٧ " يَهْدِي " بفتح الياء، وسكون الهاء، وتخفيف الدال، من هدى يَهْدي، وفيه قولان :
أحدهما : أنَّ " هَدَى " بمعنى : اهتدى.
والثاني : أنَّه متعدٍّ، ومفعوله محذوفٌ كما تقدَّم، وتقدم في قول الكسائي، والفرَّاء في ذلك، وردُّ المبرد عليهما.
وقال ابن عطيَّة :" والذي أقول : قراءةُ حمزة، والكسائيُّ ؛ تحتمل أن يكون المعنى : أمْ مَنْ لا يهدي أحداً، إلاَّ أنْ يهدي ذلك الأحدُ بهداية الله، وأمَّا على غيرها من القراءات التي مقتضاها : أمْ مَنْ لا يهتدي، إلاَّ أنْ يُهْدَى. فيتجه المعنى على ما تقدَّم "، ثم قال :" وقيل : تمَّ الكلامُ عند قوله :" أمْ مَنْ لا يَهَدِّي "، أي : لا يهدِّي غيره "، ثم قال :" إلاَّ أنَّ يَهْدَى : استثناءٌ منقطع، أي : لكنه يحتاجُ إلى أن يُهْدَى، كما تقول : فلانُ لا يسمع غيره، إلاَّ أنْ يسمع، أي : لكنَّه يحتاجُ إلى أن يسمع ". انتهى، ويجوز أن يكون استثناءً متصلاً ؛ لأنَّه إذ ذاك يكون فيهم قابليَّةُ الهداية، بخلافِ الأصنام، ويجوز أن يكون استثناء من تمامِ المفعول له، أي : لا يهدي لشيءٍ من الأشياء، إلاَّ لأجْل أن يُهْدَى بغيره.
قوله :" فَمَا لَكُمْ " : مبتدأ وخبر، ومعنى الاستفهام هنا : الإنكارُ والتعجُّبُ، أي : أيُّ شيءٍ لكم في اتِّخاذ هؤلاء ؛ إذا كانوا عاجزين عن هداية أنفسهم، فكيف يمكن أن يهدوا غيرهم ؟ وقد تقدَّم : أنَّ بعض النحويين نصَّ على أنَّ مثل هذا التركيب، لا يتمُّ إلاَّ بحالٍ بعده، نحو :﴿ فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ ﴾ [ المدثر : ٤٩ ]، ﴿ وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ ﴾ [ المائدة : ٨٤ ] إلى غير ذلك، وهنا لا يمكن أن تقدَّر الجملةُ بعد هذا التركيب حالاً ؛ لأنَّها استفهاميَّة، والاستفهاميَّة لا تقع حالاً.
وقوله :﴿ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ﴾ : استفهامٌ آخر، أي : كيْفَ تحكمُونَ بالباطل، وتجعلُون لله أنْداداً، وشُركاء ؟.

فصل


المعنى :﴿ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يهدي ﴾ : يرشد، " إِلَى الحق " فإذا قالوا : لا، ولا بدَّ لهم من ذلك ﴿ قُلِ الله يَهْدِي لِلْحَقِّ ﴾ أي : إلى الحقِّ ﴿ أَفَمَن يهدي إِلَى الحق أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يهدي إِلاَّ أَن يهدى ﴾ أي : الله الذي يهدي إلى الحقِّ أحق بالاتِّباع، أم الصَّنم الذي لا يهتدي، إلاَّ أنْ يُهْدَى ؟ فإن قيل : الأصنام جمادات لا تقبل الهداية، فكيف قال :﴿ إِلاَّ أَن يهدى ﴾، والصَّنَمُ لا يتصوَّر أن يهتدي، ولا أنْ يُهْدَى ؟
فالجواب من وجوه :
أحدها : أنَّ المراد من قوله :﴿ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ ﴾ الأصنام، والمراد من قوله :﴿ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يهدي إِلَى الحق ﴾ : رؤساء الكفر، والضلال، والدعاة إليهما ؛ لقوله - تعالى - :﴿ اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله ﴾ [ التوبة : ٣١ ] إلى قوله :﴿ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [ التوبة : ٣١ ] أي : أن الله - تعالى - هدى الخلق إلى الدِّين، بالدَّلائل العقليَّة، والنقليَّة، وهؤلاء الدُّعاة لا يقدرون أن يهدُوا غيرهم، إلاَّ إذا هداهم الله، فكان التَّمسك بدين الله، أولى من قُبُول قول هؤلاء الجهال.
وثانيها : أن معنى الهداية في حقِّ الأصنامِ : الانتقال، والهدى : عبارة عن النَّقل والحركة، يقال : أهديت المرأة إلى زوجها، إذا انتقلت إليها، والهَدْيُ : ما يُهْدى إلى الحرم من النَّعَم، وسميت الهديَّةُ هديَّة ؛ لانتقالها من شخص إلى غيره، وجاء فلان يهادى بين رجلين، إذا كان يمشي مُعْتمداً عليهما ؛ لضعفه وتمايله. وإذا ثبت ذلك فالمرادُ : أنَّه لا ينتقل من مكان إلى مكان، إلاَّ أن يحمل وينقل بين عجز الأصنام.
وثالثها : أنه ذكر الهداية على وجه المجاز ؛ لأنَّ المشركينَ لمَّا اتَّخذُوا الأصنام آلهةً، وأنَّها لا تشفع لهم في الآخرة، وأنَّهم نزَّلُوها منزلة من يعقل، فلذلك عبَّر عنها كما يُعبَّر عمَّن يعلم ويعقل.
ورابعها : أنْ يُحْمل على التقدير، أي : أنَّها لو كانت بحيث يمكنها أن تهدي، فإنَّها لا تهدي غيرها، إلاَّ بعد أن يهديها غيرها، ثم قال :﴿ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ﴾ أي : تَقضُون، حين زعمتُم : أنَّ للهَ شريكاً.
١ ينظر: السبعة ص (٣٢٦)، الحجة ٤/٢٧٤-٢٧٥، حجة القراءات ص (٣٣١-٣٣٢)، إعراب القراءات ١/٢٦٨، إتحاف ٢/١٠٩..
٢ ينظر: السابق..
٣ وقرأ بها شيبة والأعرج وأبو جعفر.
ينظر: المحرر الوجيز ٣/١١٩، البحر المحيط ٥/١٥٧، الدر المصون ٤/٣١..

٤ ينظر: السبعة ص (٣٢٦)، الحجة ٤/٢٧٤-٢٧٥، حجة القراءات ص (٣٣١-٣٣٢)، إعراب القراءات ١/٢٦٨، إتحاف ٢/١٠٩-١١٠..
٥ ينظر: المحرر الوجيز ٣/١١٩، البحر المحيط ٥/١٥٧، الدر المصون ٤/٣١..
٦ ينظر: الدر المصون ٤/٣١..
٧ ينظر: السبعة ص (٣٢٦)، الحجة ٤/٧٥، حجة القراءات ص (٣٣٢)، إعراب القراءات ١/٢٦٨، إتحاف ٢/١٠٩-١١٠..
قوله :﴿ وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً ﴾ الآية.
أي : يقولون إنَّ الأصنامَ آلهة، وأنَّها تشفع لهم في الآخرة، " ظَنّاً " : لمْ يردْ به كتابٌ ولا رسولٌ. وأراد بالأكثر، جميع من يقول ذلك.
وقيل : وما يتبع أكثرهم في إقرارهم بالله إلاَّ ظنّاً ؛ لأنَّه قولٌ غير مسندٍ إلى برهانٍ عندهم، بل سمعُوه من أسلافهم، وهذا القول أولى ؛ لأنَّا في الأول نحتاج إلى أن نُفَسِّر الأكثر بالكُلِّ.
قوله :" لاَ يُغْنِي " : خبرُ " إنَّ "، و " شيئاً " منصوبٌ على المصدر، أي : شيئاً من الإغناء، و " منَ الحقِّ " نصبٌ على الحالِ من " شَيْئاً " ؛ لأنَّهُ في الأصل صفةٌ له، ويجُوزُ أن تكون " مِن " بمعنى " بدل "، أي : لا يُغْنِي بدل الحقِّ، وقرأ الجمهور :" يَفْعلُون " على الغيبة، وقرأ عبد الله١ :" تَفْعَلون " خطاباً، وهو التفاتٌ بليغٌ، ومعنى الآية : إنَّ الظَّنَّ لا يدفع عنهم من عذَابِ الله شيئاً، وقيل : لا يقوم مقام العلم.

فصل


تمسَّك نُفاةُ القياس بهذه الآية، فقالوا : العملُ بالقياس عمل بالظَّنِّ، فوجب أن لا يجوز لهذه الآية، وأجيبوا : بأنَّ الدَّليل الذي دلَّ على وجوب العمل بالقياس، دليلٌ قاطعٌ، فكان وجوبُ العمل بالقياس معلوماً، فلم يكن العملُ بالقياس مظنوناً، فأجابوا : بأنَّه لو كان الحكم المستفاد من القياس يعلم كونه حكماً لله - تعالى -، لكان ترك العمل به كُفْراً ؛ لقوله - تعالى - :﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الكافرون ﴾ [ المائدة : ٤٤ ] ولمَّا لمْ يكُن كذلك، بطل العمل به، ثم عبَّرُوا عن هذه الحُجَّة، فقالوا : الحكم المستفاد من القياس : إمَّا أن يعلم كونه حكماً لله - تعالى -، أو يظن، أو لا يعلم ولا يظن.
والأرض باطل، وإلاَّ لكان من لم يَحْكُم به كافراً ؛ لقوله - تعالى - :﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الكافرون ﴾ [ المائدة : ٤٤ ]، وبالاتِّفاق ليس كذلك.
والثاني : باطلٌ ؛ لأنَّ الحكم بالظَّنِّ لا يجوز ؛ لقوله - تعالى - :﴿ إَنَّ الظن لاَ يُغْنِي مِنَ الحق شَيْئاً ﴾.
والثالث : باطلٌ ؛ لأنه إذا لم يكن كذلك الحكم معلوماً، ولا مظنوناً، كان مجرد التَّشهي، فكان باطلاً ؛ لقوله - تعالى - :﴿ فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصلاة واتبعوا الشهوات ﴾ [ مريم : ٥٩ ].
وأجاب مثبتُو القياس : بأنَّ حاصل هذا الدَّليل، يرجع إلى التَّمسك بالعمومات، والتَّمسُّك بالعمومات لا يفيد إلاَّ الظن، فإذا دلَّت العمومات، على المنع من التَّمسُّك بالظنِّ، لزم كونها دالَّة على المنع من التَّمسُّك بالظنِّ، وما أفْضَى ثُبُوته إلى نفيه، كان مَتْرُوكاً.
دلَّت هذه الآيةُ : على أنَّ كلَّ من كان ظانّاً في مسائل الأصول، ولم يكُن قاطعاً ؛ فإنَّه لا يكون مؤمناً.
فإن قيل : فقول أهل السُّنَّة : أنَا مؤمنٌ - إن شاء اللهُ -، يمنع من القطع، فوجب أن يلزمَهُم الكفر.
فالجواب من وجوه :
الأول : مذهب الشافعي : أنَّ الإيمان عبارةٌ عن مجموع الاعتقادِ، والإقرارِ، والعمل، والشَّك إنَّما هو ي هذه الأعمال، هل هي موافقةٌ لأمر الله - تعالى - ؟ والشَّك في أحد أجزاء الماهيَّة، لا يوجب الشَّك في تمام الماهيَّة.
الثاني : أنَّ الغرضَ من قوله : إن شاء اللهُ، بقاء الإيمان عند الخاتمة.
الثالث : الغرض منه هضم النَّفْس وكسرُها.
١ ينظر: الكشاف ٢/٣٤٦، المحرر الوجيز ٣/١١٩، البحر المحيط ٥/١٥٨، الدر المصون ٤/٣٢..
قوله - تعالى -: ﴿وَمَا كَانَ هذا القرآن أَن يفترى مِن دُونِ الله﴾ الآية.
لمَّا تقدَّم قول القوم: ﴿وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ﴾ [يونس: ٢٠]، وذكروا ذلك؛ لاعتقادهم؛ أنَّ القرآن ليس بمعجز، وأنَّ محمداً أنَّما أتَى به من عند نفسه؛ افتعالاً، واختلافاً، وذكر - تعالى - هنا: أنَّ إتيان محمَّد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - بهذا القرآن، ليس هو افتراءٌ على الله - تعالى -، وإنَّما هو وحي نازل عليه من عند الله، وأنَّه مُبَرَّأ عن الافتعال، والافتراء، ثم احتجَّ على صحَّة هذا الكلام، بقوله: ﴿قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ﴾ [يونس: ٣٨].
قوله: «أن يفترى» : فيه وجهان:
أحدهما: أنَّه خبرُ «كان»، تقديره: وما كان هذا القرآن افتراء، أي: ذا افتراء، إذ جعل نفس المصدر مبالغةً، أو يكون بمعنى: مُفْتَرى.
والثاني: زعم بعضهم: أنَّ «أنْ» هذه هي المضمرة بعد لام الجُحُودِ، والأصل: وما كان هذا القرآنُ ليفترى، فلمَّا حذفتْ لامُ الجحود، ظهرت «أنْ»، وزعم: أنَّ اللاَّم، و «أنْ» يتعاقبان، فتحذف هذه تارة، وتَثْبُت الأخرى، وهذا قولٌ مرغوبٌ عنه، وعلى هذا
329
القول، يكون خبر «كان» محذُوفاً، و «أنْ» وما في حيِّزها، متعلقةٌ بذلك الخبر، وقد تقدَّم تحريرُ ذلك [البقرة١٤٣]، و «مِن دُون اللهِ» متعلِّق ب «يُفْتَرَى» والقائمُ مقامَ الفاعل ضميرٌ عائدٌ على القرآن.
قوله: ﴿ولكن تَصْدِيقَ﴾ : عطف على خبر «كانَ» ووقعت «لكن» هنا أحسن موقع؛ إذ هي بين نقيضين: وهُما التكذيبُ، والتَّصْديقُ المتضِّمن للصدق. وقرأ الجمهور: «تَصْدِيقَ» و «تَفْصِيلَ» بالنصب، وفيه أوجهٌ:.
أحدها: العطفُ على خبر «كَانَ» كما تقدَّم، ومثله: ﴿مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ ولكن رَّسُولَ الله﴾ [الأحزاب: ٤٠].
والثاني: أنَّه خبر «كَانَط مضمرةٌ، تقديره: ولكن كان تصديقَ، وإليه ذهب الكسائيُّ، والفرَّاء، وابن سعدان، والزجاج، وهذا كالذي قبله في المعنى.
والثالث: أنَّه منصوبٌ على المفعول من أجله لفعل مقدَّر، أي: وما كان هذا القرآنُ أن يفترى، ولكن أُنزل للتَّصديق.
والرابع: أنه منصوبٌ على المصدر بفعل مقدَّر أيضاً، والتقدير: ولكن يُصدِّق تصديقَ الذي بين يديه من الكتب.
وقرأ عيسى بن عمر»
تَصْدِيقُ «بالرفع، وكذلك التي في يوسف، ووجه الرَّفْعُ على خبر مبتدأ محذوفٍ، أي: ولكن هو تصديقُ؛ ومثله قول الشاعر: [الوافر]
٢٩٠٣ - ولَسْتُ الشَّاعِرَ السَّفْسَافَ فِيهِمْ ولكِنْ مِدْرَهُ الحَرْبِ العَوانِ
برفع»
مِدْرَةُ «، على تقدير: أنَا مِدْرَهُ.
وقال مكي:»
ويجوز عندهما - أي الكسائي والفرَّاء -. الرَّفعُ على تقدير: ولكن هو تصديقُ «، وكأنَّه لم يطَّلِعْ على أنَّها قراءةٌ، وقد ورد في قراءات السَّبعة: التَّخفيفُ، والتَّشديدُ في» لكن «، نحو:
﴿ولكن
الشياطين
[البقرة
: ١٠٢]، ﴿ولكن
الله رمى﴾
[الأنفال: ١٧].
قوله: «لاَ رَيْبَ فِيهِ»
: فيه أوجه:
أحدها: أن يكون حالاً من «الكتاب» وجاز مجيءُ الحال من المُضاف إليه؛ لأنَّه مفعولٌ في المعنى، والمعنى: وتفصيل الكتاب مُنْتفياً عنه الرَّيْب.
والثاني: أنَّه مستأنفٌ فلا محلَّ لهُ من الإعراب.
330
والثالث: أنَّه معترضٌ بين «تَصْديقَ»، وبين «من ربِّ العالمينَ».
قال الزمخشري: «فإن قلت: بِمَ اتَّصلَ قوله: ﴿لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ العالمين﴾ ؟.
قلت: هو داخلٌ في حيِّز الاستدراك، كأنَّه قيل: ولكن تصديقاً، وتفصيلاً منتفياً عنه الريبُ، كائناً من ربِّ العالمينَ، ويجُوزُ أن يراد به: ولكن كان تصديقاً من ربِّ العالمين، وتفصيلاً منه، لا ريب في ذلك، فيكون»
من ربِّ العالمينَ «: متعلِّقاً ب» تَصْديقَ «، و» تَفْصِيلَ «، ويكون» لا رَيْبَ فيهِ «: اعتراضاً، كما تقول: زيدٌ - لا شكَّ فيه - كريمٌ». انتهى.
قوله: «مِن ربِّ» : يجوز فيه أوجهٌ:
أحدها: أن يكن متعلِّقاً ب «تَصْدِيقَ» أو ب «تَفْصِيلَ» وتكون المسألة من باب التنازع، إذ يصحُّ أن يتعلَّق بكلِّ من العاملين، من جهة المعنى، وهذا هو الذي أراد الزمخشري، بقوله: فيكون «من ربِّ» : متعلقاً ب «تَصْدِيقَ»، و «تَفْصِيلَ»، يعني: أنه متعلِّقٌ بكلٍ منهما، من حيث المعنى، وأمَّا من حيث الإعرابُ، فلا يتعلَّق إلاَّ بأحدهما، وأمَّا الآخرُ فيعملُ في ضميره، كما تقدَّم تحريره، والإعمالُ هنا حينئذٍ إنَّما هو للثَّاني، بدليل الحذف من الأول.
والوجه الثاني: أنَّ «مِن ربِّ» حال ثانية.
والثالث: أنَّه متعلِّقٌ بذلك الفعل المقدَّر، أي: أنزل للتَّصديق من ربِّ العالمين.

فصل


المعنى: وما ينبغي لمثل هذا القرآن، أن يُفْتَرَى من دون الله، كقوله: ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ﴾ [آل عمران: ١٦١]، وقيل: «أنْ» بمعنى: اللاَّم، أي: وما كان هذا القرآنُ ليُفْتَرَى، كقوله: ﴿وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً﴾ [التوبة: ١٢٢]، و ﴿مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ المؤمنين﴾ [آل عمران: ١٧٩]، و ﴿وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغيب﴾ [آل عمران: ١٧٩] أي: ليس وصفه هذا القرآن وصف شيء يمكن أن يفترى على الله، والافتراءُ: الافتعال، من أفريتُ الأديم: إذا قدَّرته للقطع، ثم استعمل في الكذب، كما استعمل قولهم: اختلق فلان الحديث في الكذب، ثم إنَّهُ - تعالى - احتجَّ على صحَّةِ الدَّعوى بأمور:
الأول: قوله: ﴿ولكن تَصْدِيقَ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ أي: إنَّ محمَّداً - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كان رجُلاً أمِّيًّا، لم يتعلَّم العِلْمَ، وما كانت مكَّةُ بلدة العلماء، وليس فيها شيء من كتب العلم، ثم إنَّه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أتى بهذا القرآن المشتمل على أقاصيص الأولين، والقومُ كانوا في غاية العداوة لهُ، فلوْ لمْ تكُن ههذ الأقاصيص موافقة لما في التَّوراة، والإنجيل، لقدحوا فيه وبالغُوا في الطَّعن، فلمَّا لم يقُل أحدٌ ذلك، مع شدَّة حرصهم على
331
الطَّعن فيه، علمنا أنَّه أتى بتلك الأقاصيص، مطابقة للتوراة والإنجيل، مع أنَّه ما طالعهما، ولا تتلمذ لأحدٍ فيهما، فدلَّ ذلك: على أنَّه إنما أتى بهذه الأشياء من قبل الوحي.
الحجة الثانية: أنَّ كتب الله المنزَّلة، دلَّت على مقدم محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كما تقدم في تفسير قوله: ﴿وَأَوْفُواْ بعهدي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ [البقرة: ٤٠] فكان مجيءُ محمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ موافقاً لهما في تلك الكتب، ومصدقاً لما فيها من الباشرة بمجيئه، فكان هذا عبارة عن تصديق الذي بين يديه.
والدليل الثاني: قوله تعالى: ﴿وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [يوسف: ١١١] واعلم: أنَّ العُلُوم: إمَّا أن تكون دينيَّة، أو ليست دينيَّة.
والقسم الأول أرفع حالاً، وأعظم شأناً من القسم الثاني، والدينيَّة: إمَّا أن تكون علم العقائد والأديان، أو علم الأعمال.
فأما علم العقائد والأديان: فهو عبارةٌ عن معرفة ذاته، ومعرفة صفات جلاله، وصفات أفعاله، وأحكامه، وأسمائه، والقرآن مشتمل على دلائل هذه المسائل، وتفاريعها، وتفاصيلها على وجه لا يساويه شيءٌ من الكتب، ولا يقرب منه.
وأمَّا علم الأعمال فهو:
إمَّا عبارة عن علم التكاليف الظاهرة، وهو علم الفقه، ومعلوم أنَّ جميع الفقهاء إنما استنبطوا مباحثم من القرآن.
وإمَّا عبارةٌ عن علم الباطن ورياضة القلوب، ففي القرآن من مباحث هذا العلم، ما لا يكادُ يوجدُ في غيره، كقوله: ﴿خُذِ العفو وَأْمُرْ بالعرف وَأَعْرِضْ عَنِ الجاهلين﴾ [الأعراف: ١٩٩]، وقوله: ﴿إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان﴾ [النحل: ٩٠] الآية، إلى غير ذلك.
فثبت أنَّ القرآن مشتملٌ على تفاصيل جميع العُلُوم الشريفة؛ فكان ذلك مُعْجِزاً.
ثم قال: ﴿لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ العالمين﴾ وذلك لأنَّ الكتاب الطويل المشتمل على العلوم الكثيرة؛ لا بُدَّ وأن يقع فيه نوع من التناقض، وحيثُ خلا هذا الكتاب عنه، علمنا أنَّه من عند الله، قال - تعالى -: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً﴾ [النساء: ٨٢].
قوله تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افتراه﴾ الآية.
لمَّا أقام الدَّلائل على أنَّ هذا القرآن، لا يليقُ بحاله أن يكون مفترى، أعاد مرَّةً أخرى بلفظ الاستفهام، على سبيل الإنكار، إبطال هذا القول، فقال: «أم يقولون افتراه»، وقد تقدَّم تقرير هذه الحجَّة في البقرة، عند قوله: ﴿وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا﴾ [البقرة: ٢٣].
قوله: «أم يقُولُونَ» : في «أمْ» هذه وجهان:
332
أحدهما: أنَّها منقطعةٌ، فتقدَّر ب «بَلْ»، والهمزة عند سيبويه، وأتباعه، والتقدير: بل أتقُولُون، انتقل عن الكلامِ الأول، وأخذ في إنكار قولٍ آخر.
واثاني: أنَّها متصلةٌ، ولا بُدَّ حينئذٍ من حذف جملةٍ؛ ليصحَّ التعادلُ، والتقدير: أيقرون به، أم يقولون افتراهُ، وقال بعضهم: «أمْ» هذه بمنزلة الهمزة فقط، وعبَّر بعضهم عن ذلك، فقال: «الميمُ زائدة على الهمزة» وهذا قولٌ ساقطٌ؛ إذ زيادة الميم قليلةٌ جدّاً، ولا سيَّما هنا، وزعم أبو عبيدة: «أنها بمعنى: الواو، والتقدير: ويقولون افتراه».
قوله: «قُلْ فَأْتُواْ» : جواب شرطٍ مقدَّر، قال الزمخشري: «قُلْ: إنْ كان الأمرُ كما تزعمون، فأتُوا أنتم على وجْهِ الافتراءِ بسورةٍ مثله، فأنتم مثلي في العربيَّة، والفصاحة، والأبلغيَّة».
وقرأ عمرو بن فائد: «بسُورَةِ مثلِهِ» بإضافة «سُورة» إلى «مِثلِهِ» على حذف الموصول، وإقامة الصِّفة مقامه، والتقدير: بسورة كتاب مثله، أو بسُورة كلام مثله، ويجُوز أن يكون التقديرُ: فأتُوا بسورةِ بشر مثله، فالضَّمير يجوز أنْ يعُود في هذه القراءةِ على القرآنِ، وأن يعود على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وأمَّا في قراءة العامَّة؛ فالضمير للقرآن فقط.
فإن قيل: لِمَ قال في البقرة: ﴿فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ﴾ [البقرة: ٢٣]، وقال هنا: «فأتُوا بسُورةٍ مثلهِ» ؟.
فالجواب: أنَّ محمداً - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كان أمِّيّاً، لم يتلمذْ لأحدٍ، ولم يُطالع كتاباً فقال في سورة البقرة: «مِن مثله» أي: فلْيَأتِ إنسان يساوي محمَّداص في هذه الصِّفات، وعدم الاشتعال بالعُلُوم، بسورة تُسَاوي هذه السُّورة، وحيث لا يقدرُون على ذلك؛ فظهور مثل هذه السُّورة من إنسان مثل محمَّد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، في عدم التتلمذ والتَّعلم، يكون معجزاً.
وهُنا بيَّن أن السُّورة في نفسها مُعجزةٌ في نفسها؛ فإنَّ الخلق وإن تتلمذُوا وتعلَّمُوا؛ فإنَّه لا يمكنهم الإتيان بمعارضة سُورة واحدة من هذه السور؛ فلذلك قال - تعالى - ههنا: «فأتُوا بسُورةٍ مثلِهِ».

فصل


تمسَّك المعتزلة بهذه الآية: على أنَّ القرآن مخلوقٌ؛ قالوا: إنَّه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - تحدَّى العرب بالقرآن؛ والمراد بالتَّحدِّي: أنَّه يطلب الإتيان بمثله منهم؛ فإذا عجزوا عنه، ظهر كونه حجَّة من عند الله - تعالى -، دالَّة على صدقه، وهذا إنَّما يمكن، إذا كان الإتيان بمثله صحيح الوجود في الجملة، ولو كان القرآنُ قديماً؛ لكان الإتيان
333
بمثل القديم محالاً في نفس الأمر؛ فوجب ألا يصحَّ التَّحدِّي به.
وأجيبُوا: بأنَّ القرآنَ اسمٌ يقال بالاشتراك على الصِّفة القديمة، القائمة بذات الله - تعالى -، وعلى هذه الحروف والأصوات، ولا نزاع في أنَّ هذه الكلمات المركَّبَة من هذه الحروف والأصوات، محدثة مخلوقة، والتَّحدي إنما وقع بها لا بالصِّفة القديمة.
ثم قال تعالى: ﴿وادعوا مَنِ استطعتم﴾ : ممَّنْ تعبدُون ﴿من دُونِ اللهِ﴾ ليُعينُوكُم على ذلك، ﴿إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ في أنَّ محمداً افتراه، والمراد منه: كيف يمكن الإتيان بهذه المعارضة، لو كانوا قادرين عليها وتقريره: أنَّ الجماعة إذا تعاونت، وتعاضدت، صارت تلك العقول الكثيرة، كالعقل الواحد، فإذا توجَّهُوا نحو شيءٍ واحدٍ، قدر مجموعهم على ما يعجز عنه كل واحد عند انفراده، فكأنَّه - تعالى - يقول: هَبْ أنَّ عقل الواحد، والاثنين منكم، لا يفي باستخراج معارضة القرآن، فاجتمعوا، وليعن بعضكم بعضاً في هذه المعارضة، فإذا عرفتُم عجزم حالة الاجتماع، وحالة الانفراد عن هذه المعارضة، فحينئذٍ: يظهر أنَّ تعذر هذه المعارضة، إنما كان لأنَّ قدرة البشرِ عاجزةٌ عنها؛ فحينئذٍ يظهر أنَّ ذلك فعل الله، لا فعل البشر.
فظهر بما تقرَّر: أنَّ مراتب تحدِّي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالقرآن ستٌّ:
أولها: أنَّهُ تحدَّاهُم بكلِّ القرآن، في قوله: ﴿قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرآن لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً﴾ [الإسراء: ٨٨].
وثانيها: أنَّه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - تحدَّاهم بعشر سورٍ، في قوله: ﴿فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ﴾ [هود: ١٣].
وثالثها: أنَّه تحدَّاهم بسورة واحدة، في قوله: ﴿فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ﴾ [يونس: ٣٨].
ورابعها: تحدَّاهم بحديث مثله، في قوله ﴿فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ﴾ [الطور: ٣٤].
وخامسها: أنَّ في تلك المراتب الأربع، كان يطلب منهم أن يأتي بالمعارضة رجُلٌ، يساوي رسول الله في عدم التتلمذ والتعليم، ثُمَّ في سورة يونس: طلب منهم معارضة سورة واحدة من أي إنسان، سواء تعلَّم العلوم، أو لم يتعلَّمها.
وسادساً: أنَّ في المراتب المتقدِّمة تحدَّى كل واحد من الخلق، وفي هذه المرتبة تحدَّى مجموعهم، وجوَّز أن يستعين البعضُ بالبعض في الإتيان بهذه المعارضة، كما قال: ﴿فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ﴾ [يونس: ٣٨]، فهذا مجموع الدَّلائل التي ذكرها الله - تعالى - في إثبات أنَّ القرآن معجزٌ، ثُمَّ إنَّه - تعالى - ذكر السبب الذي لأجله كذَّبُوا القرآن.
فقال: ﴿بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ﴾ يعني: كذَّبُوا بالقرآن، ولم يحيطوا بعلمه.
قوله: ﴿وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ﴾ : جملةٌ حاليةٌ من الموصول، أي: سارعُوا إلى تكذيبه
334
حال عدم إتيان التأويل، قال الزمخشري: «فإن قلت: ما معنى التوقُّع في قوله - تعالى -: ﴿وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ﴾ ؟ قلت: معناه: كذَّبُوا به على البديهة، قبل التَّدبرُّر، ومعرفة التأويل»، ثمَّ قال أيضاً: «ويجُوزُ أن يكون المعنى: ولم يأتهم بعدُ تأويلُ ما فيه من الإخبار بالغيوب، أي: عاقبته حتى يتبيَّن لهم: أكذبٌ هو، أم صدقٌ». انتهى.
وفي وضعه «لَمْ» موضع «لمَّا» نظرٌ لما عرفت ما بينهما من الفرق، ونُفيتْ جملةُ الإحاطة ب «لم»، وجملة إتيانِ التأويل ب «لمَّا» ؛ لأنَّ «لَمْ» للنَّفْي «المطلق على الصَّحيح، و» لمَّا «لنفي الفعل المُتَّصل بزمنِ الحالِ، فالمعنى: أنَّ عدمَ التَّأويلِ متَّصل بزمن الإخبار.

فصل


قيل المعنى: بل كذَّبُوا بالقرآن ﴿وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ﴾ أي: عاقبةُ ما وعد الله في القرآن؛ أنَّه يئول إليه أمرهم من العقوبة، يريد: أنَّهم لم يعلمُوا ما يئول إليه عاقبة أمرهم.
وقيل: كُلَّما سمعُوا شيئاً من القصص، قالوا: ليس في هذا الكتاب، إلاَّ أساطير الأولين، ولم يعرفُوا أنَّ المقصود منها، ليس هو نفس الحكاية، بل أمور أخرى، وهي: بيانُ قدرة الله - تعالى - على التصرُّفِ في هذا العالم، ونقل أهله من العزِّ إلى الذُّل، ومن الذُّلِّ إلى العِزِّ، وذلك دليلٌ على القدرة الكاملة، وأيضاً: تدلُّ على أنَّ الدنيا فانيةٌ غير باقية؛ كما قال - تعالى -: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الألباب مَا كَانَ حَدِيثاً يفترى﴾ [يوسف: ١١١]، وأيضاً فهي دلالة على العجز؛ لكون النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لم يتعلَّم، ولم يتتلمذ لأحدٍ؛ فدلَّ ذلك على أنَّه وحيٌ من الله - تعالى -، كما قال في الشعراء بعد ذكر القصص: ﴿وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ العالمين نَزَلَ بِهِ الروح الأمين على قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المنذرين﴾ [الشعراء: ١٩٢ - ١٩٤]، وقيل: إنَّهم كانُوا كُلَّما سمعوا حروف التَّهجِّي في أوائل السور، ولم يفهموها، ساء ظنُّهم بالقرآن؛ فأجاب - تعالى - بقوله: ﴿هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ﴾ [آل عمران: ٧]، وقيل: إنَّهم لمَّا سمعُوا القرآن ينزل شيئاً فشيئاً، ساء ظنهم، وقالوا: لو أنزل عليه القرآن جملة واحدة؛ فأجاب - تعالى -: ﴿كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ﴾ [الفرقان: ٣٢]، وقيل: إنَّ القرآن لمَّا كان مملوءاً من إثبات الحشر والنشر، وكانوا ألفُوا الحياة، فاستبعدُوا حصول الحياةِ بعد الموت، فكذَّبُوا بالقرآن، وقيل: إنَّ القرآن لمَّا كان مملوءاً بالصَّلاة، والزكاة، والعبادات، قال القوم: إن إله العالمين غنيٌّ عنَّا، وعن طاعتنا، وأنَّه - تعالى - أجلُّ من أن يأمرنا بشيء لا فائدة فيه، فأجاب الله عنه، بقوله: ﴿إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا﴾ [الإسراء: ٧]، وبالجملة: فشبهات الكفارة كثيرة؛ فهم لما رأوا القرآن مشتملاً على أمورٍ عرفوا حقيقتها، ولم يطلعُوا على وجه الحكمة فيها، لا جرم كذَّبوا بالقرآن.
قوله: «كذلِكَ»
: نعتٌ لمصدر محذوفٍ، أي: مثل ذلك التَّكذيب، كذَّب الذين من قبلهم، أي: قبل النظر، والتدبُّر.
335
وقوله: ﴿فانظر كَيْفَ كَانَ﴾ كَيْفَ خبر ل «كَانَ»، والاستفهام معلِّقٌ للنَّظر.
قال ابن عطيَّة: «قال الزجاج:» كَيْفَ «في موضع نصبٍ على خبر» كان «، ولا يجوز أن يعمل فيها» انظر «؛ لأنَّ ما قبل الاستفهام لا يعمل فيه، هذا قانونُ النحويِّين؛ لأنَّهم عاملُوا» كَيْفَ «في كلِّ مكان معاملة الاستفهام المحض، في قولك» كيف زيد «، ول» كيف «تصرفاتٌ أخرى؛ فتحلُّ محلَّ المصدر الذي هو» كيفيَّة «، وتخلعُ معنى الاستفهام، ويحتمل هذا الموضعُ أن يكون منها. ومن تصرُّفاتها قولهم:» كُنْ كيفَ شِئْتَ «، وانظر قول البخاريِّ:» كيف كان بدءُ الوحي؛ فإنه لم يستفهم «.
انتهى.
فقول الزجاج: لا يجوز أن تعمل «انظر»
في «كيف»، يعني: لا تتسلَّط عليها، ولكن هو متسلِّطٌ على الجملة المنسحب عليها حكمُ الاستفهام، وهكذا سبيلُ كُلِّ تعليقٍ.
قال أبو حيَّان: «وقولُ ابن عطيَّة: هذا قانونُ النَّحويين.. إلى آخره، ليس كما ذكر، بل ل» كيف «معنيان:
أحدهما: الاستفهامُ المحض، وهو سؤال عن الهيئة، إلاَّ أن يعلَّق عنها العامل، فمعناها معنى الأسماء التي يستفهمُ بها إذا علِّق عنها العاملُ.
والثاني: الشرط؛ كقول العرب:»
كيف تكونُ أكونُ «، وقوله: ول» كيف «تصرفات إلى آخرة ليس» كيف «تحلُّ محلَّ المصدر، ولا لفظ» كيفية «هو مصدرٌ؛ إنَّما ذلك نسبةٌ إلى» كَيْف «، وقوله:» ويحتمل أن يكون هذا الموضعُ منها، ومن تصرُّفاتهم قولهم: كن كيْفَ شِئْتَ «لا يحتمل أن يكون منها؛ لأنَّه لم يَثْبُتْ لها المعنى الذي ذكر، من كون» كيف «بمعنى:» كيفية «، وادِّعاءُ مصدرية» كيفية «.
وأمَّا»
كُنْ كيف شِئْتَ «: ف» كَيْفَ «ليست بمعنى:» كيفية «؛ وإنَّما هي شرطيَّةٌ، وهو المعنى الثاني الذي لها، وجوابها محذوفٌ، التقدير: كيف شئت فكن؛ كما تقول:» قُمْ مَتَى شِئْتَ «، ف» متى «اسمُ شرطٍ ظرفٌ لا يعمل فيه» قُمْ «، والجواب محذوف، تقديره: متى شئت فقم، وحذف الجوابُ؛ لدلالةِ ما قبله عليه؛ كقولهم:» اضربْ زَيْداً إنْ أسَاءَ إليْكَ «، التقدير: إن أساءَ إليك فاضْرِبْه، وحذف» فاضْرِبه «لدلالة» اضرِبْ «المتقدِّم عليه، وأمَّا قول البخاريُّ:» كيف كَانَ بَدْءُ الوحي «؛ فهو استفهامٌ محضٌ:
إمَّا على سبيل الحكاية؛ كأنَّ سَائِلاً سأله، فقال: كيف كان بدءُ الوحي.
وإمَّا أن يكون من قوله هو، كأنَّه سَألَ نفسه: كيف كان بدء الوحي، فأجاب بالحديث الذي فيه كيفيَّة ذلك»
.
وقوله: «الظالمين» من وضع الظَّاهر موضع المُضْمَر، ويجوز: أن يراد به ضميرُ من
336
عَادَ عليه ضمير «بَلْ كذَّبُوا»، وأن يُرادَ به ﴿الذين مِن قَبْلِهِمْ﴾.
ومعنى الآية: أنَّهم طلبُوا الدُّنْيَا، وتركُوا الآخرة، فبقُوا في الخسارِ العظيمِ، وقيل: المراد: عذاب الاستئصال الذي نزل بالأممِ السَّابقة.
قوله تعالى: ﴿وَمِنهُمْ مَّن يُؤْمِنُ بِهِ﴾ لأنَّ «يُؤمِنُ» يصلح للحالِ، والاستقبال، فحمله بعضهم على الحال، أي: ومنهم من يُؤمِنُ بالقرآن باطناً؛ لكنَّه يتعمد الجحد. ومنهم من باطنه كظاهره.
وقيل: المراد: الاستقبال، أي: ومنهم من يؤمنُ به في المستقبل؛ بأنْ يتوب عن الكفر، ومنهم من يُصِرُّ على الكفر.
﴿وَرَبُّكَ
أَعْلَمُ
بالمفسدين
أي: بأحوالهم، أي: هل يبقُوا على الكفر أو يتُوبُوا.
ثم قال: ﴿وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي﴾، وجزاؤه «ولكُم عملُكُم»، وجزاؤه ﴿أَنتُمْ بريائون مِمَّآ أَعْمَلُ وَأَنَاْ برياء مِّمَّا تَعْمَلُونَ﴾ [يونس: ٤١]، هذا كقوله - تعالى -: ﴿لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ﴾ [الشورى: ١٥]، ومعنى الكلام: الردع والزجر، وقيل: معناه: استمالة قلوبهم، قال مقاتلٌ والكلبيُّ: «هذه الآية منسوخة بآية السيف»، وهذا بعيدٌ؛ لأنَّ شرط النَّاسخ أن يكون رافعاً لحكم المنسوخِ، ومدلُول هذه الآية: اختصاص كلِّ واحد بأفعاله، وثمراتها من الثواب والعقاب، وذلك لا يقتضي حرمة القتال، فآية القتال ما رفعت شيئاً من مدلولات هذه الآية، فكان القولُ بالنسخ باطلاً.
قوله تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ﴾ الآية.
لمَّا قسَّم الكفار في الآية الأولى إلى: «مَنْ يُؤمن، ومن لا يُؤمن، قسَّم من لا يؤمن ههنا إلى قسمين: منهم من يكُون في نهاية البغض والعداوة، ومنهم من لا يكون كذلك، فوصف ههنا القسم الأوَّل، فقال: ﴿وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ﴾ مع أنَّه يكون كالأصمِّ، من حيثُ إنَّه لا ينتفع ألبتَّة بذلك الكلام، فإنَّ الإنسانَ إذا قوي بغضه لإنسانٍ آخر، كان مُعرضاً عن سماع كلامه، ولا يلتفتُ إليه، كما أنَّ الصَّمَمَ في الأذن يمنع إدراك الصوت، والعمى في العين يمنع إدراك البصر، فكذا البغضُ الشديد يمنع من الوُقُوف على محاسن كلامه، ويمنع الوقوف على محاسن من يعاديه.
قوله:»
مَّن يَسْتمِعُونَ «: مبتدأ، وخبره الجارُّ قبله، وأعاد الضمير جمعاً؛ مراعاة لمعنى» مَنْ «، والأكثر مراعاة لفظه، كقوله: ﴿وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ﴾ [يونس: ٤٣].
337
قال ابن عطيَّة:» جاء ينظرُ على لفظ «مَنْ»، وإذا جاء على لفظها، فجائزٌ أن يعطف عليه آخرٌ على المعنى، وإذا جاء أولاً على معناها، فلا يجوز أن يعطف بآخر على اللفظ؛ لأنَّ الكلام يُلبسُ حينئذٍ «.
قال أبو حيَّان:»
وليس كما قال، بل يجُوزُ أن تراعي المعنى أولاً، فتعيدَ الضَّميرَ على حسبِ ما تريد به من المعنى: من تأنيثٍ، وتثنيةٍ، وجمع، ثم تراعي اللفظ فتعيد الضمير مفرداً مذكراً، وفي ذلك تفصيل تقدم أول البقرة [البقرة٨].

فصل


أخبر - تعالى - في الآية أنَّ الإيمان، والتَّوفيق به لا بغيره، فقال: ﴿وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ﴾ بأسماعهم الظاهرة، ولا ينفعهم، ﴿أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصم﴾ يريد: صمم القلب ﴿وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ﴾ : بعينه الظاهرة ولا ينفعه، ﴿أَفَأَنْتَ تَهْدِي العمي﴾ يريد: عَمَى القلب، ﴿وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ﴾ وهذه التَّسلية من الله - عزَّ وجلَّ - لنبيِّه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - يقول: إنَّك لا تقدر أن تسمع من سلبته السَّمع، ولا أن تَهْدِي من سلبته البصر، ولا أن توفق للإيمان من حكمتُ عليه بأنَّه لا يُؤمن.
والمقصُود: إعلامُ الرَّسُول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: بأنهم قد بلغُوا في معرض العقل، إلى حيث لا يقبلُون العلاج، فالطَّبيبُ إذا رأى مريضاً لا يقبل العلاج، أعرض عنهُ، ولم يستوحشْ من عدم قُبُولهِ للعلاج، فكذلك أنت لا تستوحش من حالِ هؤلاءِ الكُفَّار.

فصل


احتج أهلُ السُّنَّة بهذه الآية: على أنَّ أفعالَ العباد من الله؛ لأنَّ الآية دلَّت على: أنَّ قلوب الكفار بالنسبة إلى الإيمان، كالأصمِّ بالنسبة إلى استماع الكلام. وكالأعْمَى بالنسبة إلى نظر الأشياء، فكما أنَّ هذا ممتنعٌ؛ فكذلك حصول الإيمان في القلب ليس باختيارِ الإنسان، واحتجَّ المعتزلةُ على صحَّة قولهم، بقوله - تعالى - بعدها: ﴿إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ الناس شَيْئاً ولكن الناس أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [يونس: ٤٤] فدلَّ ذلك على: أنَّه - تعالى ما ألْجَأ أحداً إلى فِعْل القبائح، ولكنَّهم يقدمُون عليها باختيارهم، وأجاب الواحدي: «بأنَّه - تعالى - إنَّما نفى الظلم عن نفسه؛ لأنَّه يتصرف في ملك نفسه، ومن كان كذلك، لم يكن ظالماً، وإنَّما قال: ﴿ولكن الناس أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ لأنَّ الفعل منسوبٌ إليهم بسبب الكسب».

فصل


احتجَّ ابن قتيبة بهذه الآية، على أنَّ السَّمع أفضلُ من البصر؛ لأنَّه - تعالى - قرن بذهاب السَّمع، ذهاب العقل، ولم يقرن بذهاب النَّظَر، إلاَّ ذهاب البصر، فكان السَّمْع
338
أفضل من البصر، وردَّه ابن الأنباري: بأنَّ الذي نفاهُ اللهُ من السَّمْع، بمنزلة ما نفاهُ من البصر؛ لأنَّه - تعالى - أراد إبصار القلوب، ولم يُرِدْ إبصار العُيُون، والذي يُبْصِره القلب، هو الذي يعقله.
واحتجَّ ابن قتيبة بحجة أخرى، فقال: كُلَّما ذكر الله السَّمع في القرآن، فإنَّه غالباً يقدم السَّمع على البصر، فدل على أنَّ السَّمع أفضلُ من البصر، وذكر بعضُ النَّاس في تفضيل السمع على البصر وجوهاً أخر.
أحدها: أنَّ العمى قد وقع في حقِّ الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -، وأمَّا الصَّمم فغير جائز عليهم؛ لأنَّه يخلُّ بأداء الرِّسالة؛ لأنَّه إذا لم يسمع كلام السائلين، تعذَّر عليه الجواب، فيعجزُ عن تبليغ الشَّرائع.
وثانيها: أنَّ القوة السامعة تدرك المسموع من جميع الجهات، والقوة الباصرة لا تدرك المرئي إلاَّ من الجهة المقابلة وحدها.
وثالثها: أنَّ الإنسانَ إنَّما يستفيد العلم من أستاذه، وذلك لا يمكن إلاَّ بقوَّة السمع، ولا يتوقفُ على قوَّة البصر، فكان السَّمعُ أفضل.
ورابعها: أنَّه - تعالى - قال: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السمع وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ [ق: ٣٧]، والمراد بالقلب ههنا: العقل، فجعل السَّمع قريناً للعقل، ويؤيِّده قوله - تعالى -: ﴿وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا في أَصْحَابِ السعير﴾ [الملك: ١٠] فجعلوا السَّمع سبباً للخلاص من عذاب السَّعير.
وخامسها: أنَّ المعنى الذي به يمتاز الإنسان عن سائر الحيوانات؛ هو النُّطق والكلام، وإنما ينتفع بذلك القوَّة السَّامعة، فمتعلق السمع: النطق الذي شرف الإنسان به، ومتعلَّق البصر: إدراك الألوان والأشكال، وذلك أمر يشترك فيه النَّاس، وسائر الحيوانات؛ فوجب أن يكون السمع أفضل من البصر.
وسادسها: أنَّ الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - يراهم النَّاس، ويسمعُون كلامهم؛ فنُبوَّتهم ما حصلت بما معهم من الصِّفات المرئيةَّة، وإنما حصلت بما معهم من الأقوال المسموعة، وهو تبليغ الشرائع والأحكام؛ فوجب أن يكون المسموع أفضل من المرئيِّ؛ فلزم كون السمع أفضل من البصر.
وقال آخرون: البصر أفضلُ من السَّمع لوجوه:
الأول: قولهم في المثل: «ليس ورَاءَ العيانِ بيان»، فدلَّ على: أنَّ أكمل وجوه الإدراك هو البصر.
الثاني: أنَّ آلة القوَّة الباصرة، هو النُّور، وآلة القوة السَّامعة هي الهواء، والنُّور أشرف من الهواء، فالقوَّة الباصرة أشرف من القوة السَّامعة.
339
الثالث: أنَّ عجائب حكمة الله - تعالى -، في تخليق العين التي هي محل الإبصار؛ أكثر من عجائب خلقته في الأذن، التي هي محل السماع، فإنَّه - تعالى - جعل تمام روح واحد من الأرواح السَّبعة الدِّماغيَّة من العصب، آلة للإبصار، وركَّب العين من سبع طبقات، وثلاث رطوبات، وجعل لحركات العين عضلات كثيرة على صور مختلفة. والأذنُ ليس كذلك، وكثرة العناية في تخليق الشيء، يدل على أنَّه أفضل من غيره.
الرابع: أن البصر يرى ما حصل فوق سبع سماوات، والسمع لا يدرك ما بعد منه على فرسخ؛ فكان البصرُ أقوى وأفضل، وبهذا البيان يدفع قولهم: إنَّ السَّمع يدرك من كل الجوانب، والبصر لا يدرك إلاَّ من الجانب الواحد.
الخامس: أنَّ كثيراً من الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - سمع كلام الله في الدُّنيا، واختلفوا: هل رآه أحدٌ في الدُّنْيَا أم لا؟ وأيضاً: فإنَّ موسى أسمعه كلامه من غير سبق سؤال، ولمَّا سأل الرُّؤية، قال: ﴿لَن تَرَانِي﴾ [الأعراف: ١٤٣] فدل على أنَّ حال الرُّؤية أعلى من حال السَّمْع.
السادس: قال ابن الأنباري: كيف يكون السَّمعُ أفضل من البصر، وبالبصر يحصل جمال الوجه، وبذهابه عيبه، وذهاب السمع لا يورث الإنسان عيباً، والعربُ تسمي العينين الكريمتين، ولا تصف السمع بمثل هذا، ومنه الحديث؛ يقول الله: «من أذهبت كريمتيه، فصبر واحتسب، لم أرض له ثواباً دون الجنة».
قوله تعالى: ﴿لاَ يَظْلِمُ الناس شَيْئاً﴾ يجوز أن ينتصب «شَيْئاً» على المصدر، أي: شيئاً من الظلم، قليلاً ولا كثيراً، وأن ينتصبَ مفعولاً ثانياً ل «يَظْلِمُ»، بمعنى: لا ينقص النَّاس شيئاً من أعمالهم.
قوله: ﴿ولكن الناس﴾ قرأ الأخوان: بتخفيف «لكن» ومن ضرورة ذلك: كسرُ النُّونِ؛ لالتقاءِ الساكنين وصلاً، ورفع «النَّاس»، والبقاون بالتشديد ونصب «النَّاس»، وتقدم توجيه ذلك في البقرة [١٠٢]، ومعنى ﴿لاَ يَظْلِمُ الناس شَيْئاً﴾ ؛ لأنَّه في جميع أفعاله مُتفضل، وعادل، ﴿ولكن الناس أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ : بالكفر والمعصية.
340
قوله تعالى :﴿ أَمْ يَقُولُونَ افتراه ﴾ الآية.
لمَّا أقام الدَّلائل على أنَّ هذا القرآن، لا يليقُ بحاله أن يكون مفترى، أعاد مرَّةً أخرى بلفظ الاستفهام، على سبيل الإنكار، إبطال هذا القول، فقال :" أم يقولون افتراه "، وقد تقدَّم تقرير هذه الحجَّة في البقرة، عند قوله :﴿ وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا ﴾ [ البقرة : ٢٣ ].
قوله :" أم يقُولُونَ " : في " أمْ " هذه وجهان :
أحدهما : أنَّها منقطعةٌ، فتقدَّر ب " بَلْ "، والهمزة عند سيبويه، وأتباعه، والتقدير : بل أتقُولُون، انتقل عن الكلامِ الأول، وأخذ في إنكار قولٍ آخر.
واثاني : أنَّها متصلةٌ، ولا بُدَّ حينئذٍ من حذف جملةٍ ؛ ليصحَّ التعادلُ، والتقدير : أيقرون به، أم يقولون افتراهُ، وقال بعضهم :" أمْ " هذه بمنزلة الهمزة فقط، وعبَّر بعضهم عن ذلك، فقال :" الميمُ زائدة على الهمزة " وهذا قولٌ ساقطٌ ؛ إذ زيادة الميم قليلةٌ جدّاً، ولا سيَّما هنا، وزعم أبو عبيدة :" أنها بمعنى : الواو، والتقدير : ويقولون افتراه ".
قوله :" قُلْ فَأْتُواْ " : جواب شرطٍ مقدَّر، قال الزمخشري :" قُلْ : إنْ كان الأمرُ كما تزعمون، فأتُوا أنتم على وجْهِ الافتراءِ بسورةٍ مثله، فأنتم مثلي في العربيَّة، والفصاحة، والأبلغيَّة ".
وقرأ١ عمرو بن فائد :" بسُورَةِ مثلِهِ " بإضافة " سُورة " إلى " مِثلِهِ " على حذف الموصول، وإقامة الصِّفة مقامه، والتقدير : بسورة كتاب مثله، أو بسُورة كلام مثله، ويجُوز أن يكون التقديرُ : فأتُوا بسورةِ بشر مثله، فالضَّمير يجوز أنْ يعُود في هذه القراءةِ على ا لقرآنِ، وأن يعود على النبي صلى الله عليه وسلم، وأمَّا في قراءة العامَّة ؛ فالضمير للقرآن فقط.
فإن قيل : لِمَ قال في البقرة :﴿ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ ﴾ [ البقرة : ٢٣ ]، وقال هنا :" فأتُوا بسُورةٍ مثلهِ " ؟.
فالجواب : أنَّ محمداً - عليه الصلاة والسلام - كان أمِّيّاً، لم يتلمذْ لأحدٍ، ولم يُطالع كتاباً فقال في سورة البقرة :" مِن مثله " أي : فلْيَأتِ إنسان يساوي محمَّدا في هذه الصِّفات، وعدم الاشتعال بالعُلُوم، بسورة تُسَاوي هذه السُّورة، وحيث لا يقدرُون على ذلك ؛ فظهور مثل هذه السُّورة من إنسان مثل محمَّد - عليه الصلاة والسلام -، في عدم التتلمذ والتَّعلم، يكون معجزاً.
وهُنا بيَّن أن السُّورة في نفسها مُعجزةٌ في نفسها ؛ فإنَّ الخلق وإن تتلمذُوا وتعلَّمُوا ؛ فإنَّه لا يمكنهم الإتيان بمعارضة سُورة واحدة من هذه السور ؛ فلذلك قال - تعالى - ههنا :" فأتُوا بسُورةٍ مثلِهِ ".

فصل


تمسَّك المعتزلة بهذه الآية : على أنَّ القرآن مخلوقٌ ؛ قالوا : إنَّه - عليه الصلاة والسلام - تحدَّى العرب بالقرآن ؛ والمراد بالتَّحدِّي : أنَّه يطلب الإتيان بمثله منهم ؛ فإذا عجزوا عنه، ظهر كونه حجَّة من عند الله - تعالى -، دالَّة على صدقه، وهذا إنَّما يمكن، إذا كان الإتيان بمثله صحيح الوجود في الجملة، ولو كان القرآنُ قديماً ؛ لكان الإتيان بمثل القديم محالاً في نفس الأمر ؛ فوجب ألا يصحَّ التَّحدِّي به.
وأجيبُوا : بأنَّ القرآنَ اسمٌ يقال بالاشتراك على الصِّفة القديمة، القائمة بذات الله - تعالى -، وعلى هذه الحروف والأصوات، ولا نزاع في أنَّ هذه الكلمات المركَّبَة من هذه الحروف والأصوات، محدثة مخلوقة، والتَّحدي إنما وقع بها لا بالصِّفة القديمة.
ثم قال تعالى :﴿ وادعوا مَنِ استطعتم ﴾ : ممَّنْ تعبدُون ﴿ من دُونِ اللهِ ﴾ ليُعينُوكُم على ذلك، ﴿ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ في أنَّ محمداً افتراه، والمراد منه : كيف يمكن الإتيان بهذه المعارضة، لو كانوا قادرين عليها وتقريره : أنَّ الجماعة إذا تعاونت، وتعاضدت، صارت تلك العقول الكثيرة، كالعقل الواحد، فإذا توجَّهُوا نحو شيءٍ واحدٍ، قدر مجموعهم على ما يعجز عنه كل واحد عند انفراده، فكأنَّه - تعالى - يقول : هَبْ أنَّ عقل الواحد، والاثنين منكم، لا يفي باستخراج معارضة القرآن، فاجتمعوا، وليعن بعضكم بعضاً في هذه المعارضة، فإذا عرفتُم عجزكم حالة الاجتماع، وحالة الانفراد عن هذه المعارضة، فحينئذٍ : يظهر أنَّ تعذر هذه المعارضة، إنما كان لأنَّ قدرة البشرِ عاجزةٌ عنها ؛ فحينئذٍ يظهر أنَّ ذلك فعل الله، لا فعل البشر.
فظهر بما تقرَّر : أنَّ مراتب تحدِّي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقرآن ستٌّ :
أولها : أنَّهُ تحدَّاهُم بكلِّ القرآن، في قوله :﴿ قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرآن لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ﴾ [ الإسراء : ٨٨ ].
وثانيها : أنَّه - عليه الصلاة والسلام - تحدَّاهم بعشر سورٍ، في قوله :﴿ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ ﴾ [ هود : ١٣ ].
وثالثها : أنَّه تحدَّاهم بسورة واحدة، في قوله :﴿ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ ﴾ [ يونس : ٣٨ ].
ورابعها : تحدَّاهم بحديث مثله، في قوله ﴿ فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ ﴾ [ الطور : ٣٤ ].
وخامسها : أنَّ في تلك المراتب الأربع، كان يطلب منهم أن يأتي بالمعارضة رجُلٌ، يساوي رسول الله في عدم التتلمذ والتعليم، ثُمَّ في سورة يونس : طلب منهم معارضة سورة واحدة من أي إنسان، سواء تعلَّم العلوم، أو لم يتعلَّمها.
وسادساً : أنَّ في المراتب المتقدِّمة تحدَّى كل واحد من الخلق، وفي هذه المرتبة تحدَّى مجموعهم، وجوَّز أن يستعين البعضُ بالبعض في الإتيان بهذه المعارضة، كما قال :﴿ وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين ﴾ [ يونس : ٣٨ ]، فهذا مجموع الدَّلائل التي ذكرها الله - تعالى - في إثبات أنَّ القرآن معجزٌ، ثُمَّ إنَّه - تعالى - ذكر السبب الذي لأجله كذَّبُوا القرآن.
١ قال أبو حاتم: أمر عبد الله الأسود أن يسأل عمر عن إضافة "سورة" أو تنوينها؛ فقال له عمر: كيف شئت.
ينظر: الكشاف ٢/٣٤٧، المحرر الوجيز ٣/١٢١، البحر المحيط ٥/١٥٩، الدر المصون ٤/٣٤..

فقال :﴿ بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ ﴾ يعني : كذَّبُوا بالقرآن، ولم يحيطوا بعلمه.
قوله :﴿ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ﴾ : جملةٌ حاليةٌ من الموصول، أي : سارعُوا إلى تكذيبه حال عدم إتيان التأويل، قال الزمخشري :" فإن قلت : ما معنى التوقُّع في قوله - تعالى - :﴿ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ﴾ ؟ قلت : معناه : كذَّبُوا به على البديهة، قبل التَّدبر، ومعرفة التأويل "، ثمَّ قال أيضاً :" ويجُوزُ أن يكون المعنى : ولم يأتهم بعدُ تأويلُ ما فيه من الإخبار بالغيوب، أي : عاقبته حتى يتبيَّن لهم : أكذبٌ هو، أم صدقٌ ". انتهى.
وفي وضعه " لَمْ " موضع " لمَّا " نظرٌ لما عرفت ما بينهما من الفرق، ونُفيتْ جملةُ الإحاطة ب " لم "، وجملة إتيانِ التأويل ب " لمَّا " ؛ لأنَّ " لَمْ " للنَّفْي " المطلق على الصَّحيح، و " لمَّا " لنفي الفعل المُتَّصل بزمنِ الحالِ، فالمعنى : أنَّ عدمَ التَّأويلِ متَّصل بزمن الإخبار.

فصل


قيل المعنى : بل كذَّبُوا بالقرآن ﴿ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ﴾ أي : عاقبةُ ما وعد الله في القرآن ؛ أنَّه يئول إليه أمرهم من العقوبة، يريد : أنَّهم لم يعلمُوا ما يئول إليه عاقبة أمرهم.
وقيل : كُلَّما سمعُوا شيئاً من القصص، قالوا : ليس في هذا الكتاب، إلاَّ أساطير الأولين، ولم يعرفُوا أنَّ المقصود منها، ليس هو نفس الحكاية، بل أمور أخرى، وهي : بيانُ قدرة الله - تعالى - على التصرُّفِ في هذا العالم، ونقل أهله من العزِّ إلى الذُّل، ومن الذُّلِّ إلى العِزِّ، وذلك دليلٌ على القدرة الكاملة، وأيضاً : تدلُّ على أنَّ الدنيا فانيةٌ غير باقية ؛ كما قال - تعالى - :﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الألباب مَا كَانَ حَدِيثاً يفترى ﴾ [ يوسف : ١١١ ]، وأيضاً فهي دلالة على العجز ؛ لكون النبي - عليه الصلاة والسلام - لم يتعلَّم، ولم يتتلمذ لأحدٍ ؛ فدلَّ ذلك على أنَّه وحيٌ من الله - تعالى -، كما قال في الشعراء بعد ذكر القصص :﴿ وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ العالمين نَزَلَ بِهِ الروح الأمين على قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المنذرين ﴾ [ الشعراء : ١٩٢-١٩٤ ]، وقيل : إنَّهم كانُوا كُلَّما سمعوا حروف التَّهجِّي في أوائل السور، ولم يفهموها، ساء ظنُّهم بالقرآن ؛ فأجاب - تعالى - بقوله :﴿ هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ ﴾ [ آل عمران : ٧ ]، وقيل : إنَّهم لمَّا سمعُوا القرآن ينزل شيئاً فشيئاً، ساء ظنهم، وقالوا : لو أنزل عليه القرآن جملة واحدة ؛ فأجاب - تعالى - :﴿ كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ﴾ [ الفرقان : ٣٢ ]، وقيل : إنَّ القرآن لمَّا كان مملوءاً من إثبات الحشر والنشر، وكانوا ألفُوا الحياة، فاستبعدُوا حصول الحياةِ بعد الموت، فكذَّبُوا بالقرآن، وقيل : إنَّ القرآن لمَّا كان مملوءاً بالصَّلاة، والزكاة، والعبادات، قال القوم : إن إله العالمين غنيٌّ عنَّا، وعن طاعتنا، وأنَّه - تعالى - أجلُّ من أن يأمرنا بشيء لا فائدة فيه، فأجاب الله عنه، بقوله :﴿ إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ﴾ [ الإسراء : ٧ ]، وبالجملة : فشبهات الكفارة كثيرة ؛ فهم لما رأوا القرآن مشتملاً على أمورٍ عرفوا حقيقتها، ولم يطلعُوا على وجه الحكمة فيها، لا جرم كذَّبوا بالقرآن.
قوله :" كذلِكَ " : نعتٌ لمصدر محذوفٍ، أي : مثل ذلك التَّكذيب، كذَّب الذين من قبلهم، أي : قبل النظر، والتدبُّر.
وقوله :﴿ فانظر كَيْفَ كَانَ ﴾ كَيْفَ خبر ل " كَانَ "، والاستفهام معلِّقٌ للنَّظر.
قال ابن عطيَّة :" قال الزجاج :" كَيْفَ " في موضع نصبٍ على خبر " كان "، ولا يجوز أن يعمل فيها " انظر " ؛ لأنَّ ما قبل الاستفهام لا يعمل فيه، هذا قانونُ النحويِّين ؛ لأنَّهم عاملُوا " كَيْفَ " في كلِّ مكان معاملة الاستفهام المحض، في قولك " كيف زيد "، ول " كيف " تصرفاتٌ أخرى ؛ فتحلُّ محلَّ المصدر الذي هو " كيفيَّة "، وتخلعُ معنى الاستفهام، ويحتمل هذا الموضعُ أن يكون منها. ومن تصرُّفاتها قولهم :" كُنْ كيفَ شِئْتَ "، وانظر قول البخاريِّ :" كيف كان بدءُ الوحي ؛ فإنه لم يستفهم ". انتهى.
فقول الزجاج : لا يجوز أن تعمل " انظر " في " كيف "، يعني : لا تتسلَّط عليها، ولكن هو متسلِّطٌ على الجملة المنسحب عليها حكمُ الاستفهام، وهكذا سبيلُ كُلِّ تعليقٍ.
قال أبو حيَّان :" وقولُ ابن عطيَّة١ : هذا قانونُ النَّحويين. . إلى آخره، ليس كما ذكر، بل ل " كيف " معنيان :
أحدهما : الاستفهامُ المحض، وهو سؤال عن الهيئة، إلاَّ أن يعلَّق عنها العامل، فمعناها معنى الأسماء التي يستفهمُ بها إذا علِّق عنها العاملُ.
والثاني : الشرط ؛ كقول العرب :" كيف تكونُ أكونُ "، وقوله : ول " كيف " تصرفات إلى آخرة ليس " كيف " تحلُّ محلَّ المصدر، ولا لفظ " كيفية " هو مصدرٌ ؛ إنَّما ذلك نسبةٌ إلى " كَيْف "، وقوله :" ويحتمل أن يكون هذا الموضعُ منها، ومن تصرُّفاتهم قولهم : كن كيْفَ شِئْتَ " لا يحتمل أن يكون منها ؛ لأنَّه لم يَثْبُتْ لها المعنى الذي ذكر، من كون " كيف " بمعنى :" كيفية "، وادِّعاءُ مصدرية " كيفية ".
وأمَّا " كُنْ كيف شِئْتَ " : ف " كَيْفَ " ليست بمعنى :" كيفية " ؛ وإنَّما هي شرطيَّةٌ، وهو المعنى الثاني الذي لها، وجوابها محذوفٌ، التقدير : كيف شئت فكن ؛ كما تقول :" قُمْ مَتَى شِئْتَ "، ف " متى " اسمُ شرطٍ ظرفٌ لا يعمل فيه " قُمْ "، والجواب محذوف، تقديره : متى شئت فقم، وحذف الجوابُ ؛ لدلالةِ ما قبله عليه ؛ كقولهم :" اضربْ زَيْداً إنْ أسَاءَ إليْكَ "، التقدير : إن أساءَ إليك فاضْرِبْه، وحذف " فاضْرِبه " لدلالة " اضرِبْ " المتقدِّم عليه، وأمَّا قول البخاريُّ :" كيف كَانَ بَدْءُ الوحي " ؛ فهو استفهامٌ محضٌ :
إمَّا على سبيل الحكاية ؛ كأنَّ سَائِلاً سأله، فقال : كيف كان بدءُ الوحي.
وإمَّا أن يكون من قوله هو، كأنَّه سَألَ نفسه : كيف كان بدء الوحي، فأجاب بالحديث الذي فيه كيفيَّة ذلك ".
وقوله :" الظالمين " من وضع الظَّاهر موضع المُضْمَر، ويجوز : أن يراد به ضميرُ من عَادَ عليه ضمير " بَلْ كذَّبُوا "، وأن يُرادَ به ﴿ الذين مِن قَبْلِهِمْ ﴾.
ومعنى الآية : أنَّهم طلبُوا الدُّنْيَا، وتركُوا الآخرة، فبقُوا في الخسارِ العظيمِ، وقيل : المراد : عذاب الاستئصال الذي نزل بالأممِ السَّابقة.
١ ينظر: المحرر الوجيز ٣/١٢١..
قوله تعالى :﴿ وَمِنهُمْ مَّن يُؤْمِنُ بِهِ ﴾ الآية.
لما قال :﴿ فانظر كيف كان عاقبة الظالمين ﴾ والمراد منه : تسليط العذاب عليهم في الدنيا، أتبعه بقوله :" ومنهم من يؤمن به " تنبيها على أن الصلاح عنده –تعالى- كان في هذه الطائفة، والأقرب : أن الضمير في قوله :" به " يرجع إلى " العذاب " ؛ لأنه المذكور من قبل، وقيل إلى : القرآن، واختلفوا في قوله :﴿ ومنهم من يؤمن به ﴾ لأن " يؤمن " يصلح للحال، والاستقبال، فحمله بعضهم على الحال، أي : ومنهم من يؤمن بالقرآن باطنا ؛ لكنه يتعمد الجحد. ومنهم من باطنه كظاهره.
وقيل : المراد : الاستقبال، أي : ومنهم من يؤمنُ به في المستقبل ؛ بأنْ يتوب عن الكفر، ومنهم من يُصِرُّ على الكفر.
﴿ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بالمفسدين ﴾ أي : بأحوالهم، أي : هل يبقُوا على الكفر أو يتُوبُوا.
ثم قال :﴿ وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي ﴾، وجزاؤه " ولكُم عملُكُم "، وجزاؤه ﴿ أَنتُمْ بريئون مِمَّآ أَعْمَلُ وَأَنَاْ برياء مِّمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [ يونس : ٤١ ]، هذا كقوله - تعالى - :﴿ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ ﴾ [ الشورى : ١٥ ]، ومعنى الكلام : الردع والزجر، وقيل : معناه : استمالة قلوبهم، قال مقاتلٌ والكلبيُّ :" هذه الآية منسوخة بآية السيف "، وهذا بعيدٌ ؛ لأنَّ شرط النَّاسخ أن يكون رافعاً لحكم المنسوخِ، ومدلُول هذه الآية : اختصاص كلِّ واحد بأفعاله، وثمراتها من الثواب والعقاب، وذلك لا يقتضي حرمة القتال، فآية القتال ما رفعت شيئاً من مدلولات هذه الآية، فكان القولُ بالنسخ باطلاً.
قوله تعالى :﴿ وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ ﴾ الآية.
لمَّا قسَّم الكفار في الآية الأولى إلى :" مَنْ يُؤمن، ومن لا يُؤمن، قسَّم من لا يؤمن ههنا إلى قسمين : منهم من يكُون في نهاية البغض والعداوة، ومنهم من لا يكون كذلك، فوصف ههنا القسم الأوَّل، فقال :﴿ وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ ﴾ مع أنَّه يكون كالأصمِّ، من حيثُ إنَّه لا ينتفع ألبتَّة بذلك الكلام، فإنَّ الإنسانَ إذا قوي بغضه لإنسانٍ آخر، كان مُعرضاً عن سماع كلامه، ولا يلتفتُ إليه، كما أنَّ الصَّمَمَ في الأذن يمنع إدراك الصوت، والعمى في العين يمنع إدراك البصر، فكذا البغضُ الشديد يمنع من الوُقُوف على محاسن كلامه، ويمنع الوقوف على محاسن من يعاديه.
قوله :" مَّن يَسْتمِعُونَ " : مبتدأ، وخبره الجارُّ قبله، وأعاد الضمير جمعاً ؛ مراعاة لمعنى " مَنْ "، والأكثر مراعاة لفظه، كقوله :﴿ وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ ﴾ [ يونس : ٤٣ ].
قال ابن عطيَّة :" جاء ينظرُ على لفظ " مَنْ "، وإذا جاء على لفظها، فجائزٌ أن يعطف عليه آخرٌ على المعنى، وإذا جاء أولاً على معناها، فلا يجوز أن يعطف بآخر على اللفظ ؛ لأنَّ الكلام يُلبسُ حينئذٍ ".
قال أبو حيَّان١ :" وليس كما قال، بل يجُوزُ أن تراعي المعنى أولاً، فتعيدَ الضَّميرَ على حسبِ ما تريد به من المعنى : من تأنيثٍ، وتثنيةٍ، وجمع، ثم تراعي اللفظ فتعيد الضمير مفرداً مذكراً، وفي ذلك تفصيل تقدم أول البقرة [ البقرة٨ ].

فصل


أخبر - تعالى - في الآية أنَّ الإيمان، والتَّوفيق به لا بغيره، فقال :﴿ وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ ﴾ بأسماعهم الظاهرة، ولا ينفعهم، ﴿ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصم ﴾ يريد : صمم القلب ﴿ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ ﴾ : بعينه الظاهرة ولا ينفعه، ﴿ أَفَأَنْتَ تَهْدِي العمي ﴾ يريد : عَمَى القلب، ﴿ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ ﴾ وهذه التَّسلية من الله - عزَّ وجلَّ - لنبيِّه - عليه الصلاة والسلام - يقول : إنَّك لا تقدر أن تسمع من سلبته السَّمع، ولا أن تَهْدِي من سلبته البصر، ولا أن توفق للإيمان من حكمتُ عليه بأنَّه لا يُؤمن. والمقصُود : إعلامُ الرَّسُول - عليه الصلاة والسلام - : بأنهم قد بلغُوا في معرض العقل، إلى حيث لا يقبلُون العلاج، فالطَّبيبُ إذا رأى مريضاً لا يقبل العلاج، أعرض عنهُ، ولم يستوحشْ من عدم قُبُولهِ للعلاج، فكذلك أنت لا تستوحش من حالِ هؤلاءِ الكُفَّار.

فصل


احتج أهلُ السُّنَّة بهذه الآية : على أنَّ أفعالَ العباد من الله ؛ لأنَّ الآية دلَّت على : أنَّ قلوب الكفار بالنسبة إلى الإيمان، كالأصمِّ بالنسبة إلى استماع الكلام. وكالأعْمَى بالنسبة إلى نظر الأشياء، فكما أنَّ هذا ممتنعٌ ؛ فكذلك حصول الإيمان في القلب ليس باختيارِ الإنسان، واحتجَّ المعتزلةُ على صحَّة قولهم، بقوله - تعالى - بعدها :﴿ إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ الناس شَيْئاً ولكن الناس أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ [ يونس : ٤٤ ] فدلَّ ذلك على : أنَّه - تعالى ما ألْجَأ أحداً إلى فِعْل القبائح، ولكنَّهم يقدمُون عليها باختيارهم، وأجاب الواحدي :" بأنَّه - تعالى - إنَّما نفى الظلم عن نفسه ؛ لأنَّه يتصرف في ملك نفسه، ومن كان كذلك، لم يكن ظالماً، وإنَّما قال :﴿ ولكن الناس أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ لأنَّ الفعل منسوبٌ إليهم بسبب الكسب ".

فصل


احتجَّ ابن قتيبة بهذه الآية، على أنَّ السَّمع أفضلُ من البصر ؛ لأنَّه - تعالى - قرن بذهاب السَّمع، ذهاب العقل، ولم يقرن بذهاب النَّظَر، إلاَّ ذهاب البصر، فكان السَّمْع أفضل من البصر، وردَّه ابن الأنباري : بأنَّ الذي نفاهُ اللهُ من السَّمْع، بمنزلة ما نفاهُ من البصر ؛ لأنَّه - تعالى - أراد إبصار القلوب، ولم يُرِدْ إبصار العُيُون، والذي يُبْصِره القلب، هو الذي يعقله.
واحتجَّ ابن قتيبة بحجة أخرى، فقال : كُلَّما ذكر الله السَّمع في القرآن، فإنَّه غالباً يقدم السَّمع على البصر، فدل على أنَّ السَّمع أفضلُ من البصر، وذكر بعضُ النَّاس في تفضيل السمع على البصر وجوهاً أخر.
أحدها : أنَّ العمى قد وقع في حقِّ الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -، وأمَّا الصَّمم فغير جائز عليهم ؛ لأنَّه يخلُّ بأداء الرِّسالة ؛ لأنَّه إذا لم يسمع كلام السائلين، تعذَّر عليه الجواب، فيعجزُ عن تبليغ الشَّرائع.
وثانيها : أنَّ القوة السامعة تدرك المسموع من جميع الجهات، والقوة الباصرة لا تدرك المرئي إلاَّ من الجهة المقابلة وحدها.
وثالثها : أنَّ الإنسانَ إنَّما يستفيد العلم من أستاذه، وذلك لا يمكن إلاَّ بقوَّة السمع، ولا يتوقفُ على قوَّة البصر، فكان السَّمعُ أفضل.
ورابعها : أنَّه - تعالى - قال :﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السمع وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾ [ ق : ٣٧ ]، والمراد بالقلب ههنا : العقل، فجعل السَّمع قريناً للعقل، ويؤيِّده قوله - تعالى - :﴿ وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا في أَصْحَابِ السعير ﴾ [ الملك : ١٠ ] فجعلوا السَّمع سبباً للخلاص من عذاب السَّعير.
وخامسها : أنَّ المعنى الذي به يمتاز الإنسان عن سائر الحيوانات ؛ هو النُّطق والكلام، وإنما ينتفع بذلك القوَّة السَّامعة، فمتعلق السمع : النطق الذي شرف الإنسان به، ومتعلَّق البصر : إدراك الألوان والأشكال، وذلك أمر يشترك فيه النَّاس، وسائر الحيوانات ؛ فوجب أن يكون السمع أفضل من البصر.
وسادسها : أنَّ الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - يراهم النَّاس، ويسمعُون كلامهم ؛ فنُبوَّتهم ما حصلت بما معهم من الصِّفات المرئيةَّ، وإنما حصلت بما معهم من الأقوال المسموعة، وهو تبليغ الشرائع والأحكام ؛ فوجب أن يكون المسموع أفضل من المرئيِّ ؛ فلزم كون السمع أفضل من البصر.
١ ينظر: البحر المحيط ٥/١٦٢..
وقال آخرون : البصر أفضلُ من السَّمع لوجوه :
الأول : قولهم في المثل :" ليس ورَاءَ العيانِ بيان "، فدلَّ على : أنَّ أكمل وجوه الإدراك هو البصر.
الثاني : أنَّ آلة القوَّة الباصرة، هو النُّور، وآلة القوة السَّامعة هي الهواء، والنُّور أشرف من الهواء، فالقوَّة الباصرة أشرف من القوة السَّامعة.
الثالث : أنَّ عجائب حكمة الله - تعالى -، في تخليق العين التي هي محل الإبصار ؛ أكثر من عجائب خلقته في الأذن، التي هي محل السماع، فإنَّه - تعالى - جعل تمام روح واحد من الأرواح السَّبعة الدِّماغيَّة من العصب، آلة للإبصار، وركَّب العين من سبع طبقات، وثلاث رطوبات، وجعل لحركات العين عضلات كثيرة على صور مختلفة. والأذنُ ليس كذلك، وكثرة العناية في تخليق الشيء، يدل على أنَّه أفضل من غيره.
الرابع : أن البصر يرى ما حصل فوق سبع سماوات، والسمع لا يدرك ما بعد منه على فرسخ ؛ فكان البصرُ أقوى وأفضل، وبهذا البيان يدفع قولهم : إنَّ السَّمع يدرك من كل الجوانب، والبصر لا يدرك إلاَّ من الجانب الواحد.
الخامس : أنَّ كثيراً من الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - سمع كلام الله في الدُّنيا، واختلفوا : هل رآه أحدٌ في الدُّنْيَا أم لا ؟ وأيضاً : فإنَّ موسى أسمعه كلامه من غير سبق سؤال، ولمَّا سأل الرُّؤية، قال :﴿ لَن تَرَانِي ﴾ [ الأعراف : ١٤٣ ] فدل على أنَّ حال الرُّؤية أعلى من حال السَّمْع.
السادس : قال ابن الأنباري : كيف يكون السَّمعُ أفضل من البصر، وبالبصر يحصل جمال الوجه، وبذهابه عيبه، وذهاب السمع لا يورث الإنسان عيباً، والعربُ تسمي العينين الكريمتين، ولا تصف السمع بمثل هذا، ومنه الحديث ؛ يقول الله :" من أذهبت كريمتيه، فصبر واحتسب، لم أرض له ثواباً دون الجنة " ١.
١ أخرجه الترمذي (٤/٥٢١) كتاب الزهد: باب ما جاء في ذهاب البصر رقم (٢٤٠١) وأحمد (٢/٢٦٥) والدارمي (٢/٣٢٣) من حديث أبي هريرة..
قوله تعالى :﴿ لاَ يَظْلِمُ الناس شَيْئاً ﴾ يجوز أن ينتصب " شَيْئاً " على المصدر، أي : شيئاً من الظلم، قليلاً ولا كثيراً، وأن ينتصبَ مفعولاً ثانياً ل " يَظْلِمُ "، بمعنى : لا ينقص النَّاس شيئاً من أعمالهم.
قوله :﴿ ولكن الناس ﴾ قرأ الأخوان١ : بتخفيف " لكن " ومن ضرورة ذلك : كسرُ النُّونِ ؛ لالتقاءِ الساكنين وصلاً، ورفع " النَّاس "، والباقون بالتشديد ونصب " النَّاس "، وتقدم توجيه ذلك في البقرة [ ١٠٢ ]، ومعنى ﴿ لاَ يَظْلِمُ الناس شَيْئاً ﴾ ؛ لأنَّه في جميع أفعاله مُتفضل، وعادل، ﴿ ولكن الناس أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ : بالكفر والمعصية.
١ وقرأ بها خلف.
ينظر: إتحاف فضلاء البشر ٢/١١١، المحرر الوجيز ٣/١٢٢، البحر المحيط ٥/١٦٢، الدر المصون ٤/٣٦..

قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ﴾ الآية.
340
لمَّا وصف الكفار بقلة الإصغاء، وترك التدبُّر؛ أتبعه بالوعيد، فقال: ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ﴾. «يَوْمَ» منصوب على الظرف، وفي ناصبه أوجه:
أحدها: أنَّه منصوبٌ بالفعل الذي تضمَّنه قوله: ﴿كَأَن لَّمْ يلبثوا﴾.
الثاني: أنَّه منصوبٌ ب «يتعَارَفُون».
الثالث: أنَّه منصوبٌ بمقدرٍ، أي: اذكر يوم.
وقرأ الأعمش، وحفص عن عاصم: «يَحْشُرهُم» بياء الغيبة، والضمير لله تعالى لتقدم اسمه في قوله: ﴿إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ﴾ [يونس: ٤٤].
قوله: ﴿كَأَن لَّمْ يلبثوا﴾ تقدَّم الكلامُ على «كأن» هذه، وهي المخفَّفة من الثَّقيلة، والتقدير: كأنَّهُم لم يلبثُوا؛ فخفَّفَ، كقوله: وكأن قد، ولكن اختلفُوا في محلِّ هذه الجملة على أوجه:
أحدها: أنها في محلِّ نصبٍ صفةً للظرف، وهو «يوم»، قاله ابن عطية.
قال أبو حيان: «لا يصحُّ؛ لأن يوم يَحْشُرهُم معرفةٌ والجمل نكرات، ولا تنعتُ المعرفةُ بالنَّكرة، لا يقال: إنَّ الجمل التي يُضاف إليها أسماءُ الزَّمان نكرةٌ على الإطلاق؛ لأنَّها إنْ كانت في التقدير تنحَلُّ إلى معرفة، فإنَّ ما أضيف إليها يتعرَّفُ، وإن كانت تنحَلُّ إلى نكرة، كان ما أضيف إليها نكرةً، تقول:» مَرَرْتُ في يوم قدم زيدٌ الماضي «، فتصِفُ» يوم «بالمعرفة، و» جئت ليلة قدم زيدٌ المباركة علينا «، وأيضاً: فكأنْ لمْ يلبثُوا، لا يمكن أن يكون صفة لليوم من جهة المعنى، لأنَّ ذلك من وصف المحشورين، لا من وصف يوم حشرهم. وقد تكلَّف بعضهم تقدير رابطٍ يربطهُ، فقدره:» كأنْ لَمْ يلبثُوا قبله «، فحذف» قبله «، أي: قبل اليوم، وحذفُ مثل هذا الرَّابط لا يجوز».
قال شهاب الدِّين: قوله: «بعضهم»، وهو مكِّي بن أبي طالب؛ فإنَّه قال: «الكافُ وما بعدها من» كأن «صفةٌ لليوم، وفي الكلام حذفُ ضميرٍ يعودُ على الموصوفِ، تقديره: كأْ لم يَلْبثُوا قبله؛ فحذف» قبله «، فصارت الهاءُ متَّصلةً ب» يَلْبثُوا «، فحذفتْ لطُولِ الاسم كما تحذفُ من الصِّلات»، ونقل هذا التقدير أيضاً: أبو البقاء، ولمْ يُسَمِّ قائله، فقال: «وقيل»، فذكره.
والوجه الثاني: أن تكون الجملةُ في محلِّ نصب على الحال، من مفعول «يَحْشُرهُم» أي: يَحْشُرهم مُشبهين بمن لم يلبث إلاَّ ساعةً، هذا تقديرُ الزمخشري، وممَّن جوَّز أيضاً الحاليَّة: ابنُ عطيَّة، ومكِّيٌّ، وأبو البقاءِ، وجعله بعضهم هو الظَّاهر.
الوجه الثالث: أن تكون الجملةُ نعتاً لمصدر محذوف، والتقدير: يَحْشُرهم حَشْراً،
341
كأنْ لمْ يلبثُوا، ذكر ذلك ابن عطيَّة، وأبو البقاء، ومكِّي، وقدَّر مكِّي، وأبو البقاء: العائد محذوفاً، كما قدَّراه حال جعلهما الجملة صفة لليَوْمِ، وقد تقدَّم ما في ذلك.
الرابع: قال ابنُ عطيَّة: «ويَصِحُّ أن يكون قوله: ﴿كَأَن لَّمْ يلبثوا﴾ كلاماً مجملاً» ولم يُبَيِّنْ الفعل الذي يتضمَّنهُ ﴿كَأَن لَّمْ يلبثوا﴾، قال أبو حيَّان: «ولعَلَّهُ أراد ما قاله الحوفيُّ؛ مِنْ أنَّ الكافَ في موضع نصبٍ، بما تضمَّنتهُ من معنى الكلام، وهو السُّرْعَة». انتهى.
قال: «فيكونُ التقدير: ويوم يَحْشُرهم يُسْرعون كأنْ لَمْ يَلْبَثُوا»، فيكون «يسرعون» : حالاً من مفعول «يَحْشُرهُم»، ويكون «كأن لمْ يَلْبَثُوا» : حالاً من فاعل «يُسْرعون»، ويجُوز أن تكون «كَأنْ لَمْ» : مفسِّرة ل «يُسْرعون» المقدَّرة.

فصل


قال الضحَّاك: كَأنْ لَمْ يَلْبثُوا في الدنيا، إلاَّ ساعة من النَّهار، وقال ابن عبَّاس: كأن لم يلبثوا في قبورهم، إلاَّ قدر ساعة من النَّهار، قال القاضي: الأولُ أولَى، لوجهين:
أحدهما: أنَّ حال المؤمنين كحالِ الكافرين: في أنَّهم لا يعرفون مقدار لبثهم بعد الموت إلى وقتِ الحشر؛ فيجبُ أن يحمل ذلك على أمْر يختصُّ به الكُفار؛ وهو أنَّهم لمَّا لم ينتفعُوا بعُمْرِهم استقلُّوه، والمؤمِنُ لمَّا انتفع بعمره؛ فكأنَّه لا يستقلُّه.
الثاني: أنَّه قال: ﴿يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ﴾ والتَّعارف إنَّما يضاف إلى حال الحياةِ، لا إلى حال المَوْت، وفي سبب هذا الاستقلال وجوهٌ:
الأول: قال أبو مسلم: إنَّهم لمَّا ضيَّعُوا أعمارهم في طلب الدنيا، والحِرْص على لذَّاتها؛ لم ينتفعُوا بعمرهم ألبتَّة، فكان وجودُ ذلك العمر كالعدم كما تقدَّم؛ فلهذا استقلوه، ونظيره قوله - تعالى -: ﴿وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ العذاب أَن يُعَمَّرَ﴾ [البقرة: ٩٦].
الثاني: قال الأصمُّ: إنَّهم لمَّا شاهدُوا أهوال الآخرة وعظمها، عظم خوفُهُم، فنسُوا أمور الدُّنيا، والإنسان إذا عظم خوفهُ، نسي الأمور الظَّاهرة.
الثالث: قلَّ عندهم مقامهم في الدُّنيا، في جنب مقامهم في الآخرة.
الرابع: قلَّ عندهم في الدنيا؛ لطولِ وقوفهم في الحَشْرِ.
قوله: «يتعَارفُونَ» فيه أوجهٌ:
أحدها: أنَّ الجملة في محلِّ نصبٍ على الحالِ من فاعل «يَلْبَثُوا».
قال الحوفيُّ: «يتعارفُونَ» : فعلٌ مستقبلٌ في موضع الحال من الضَّمير في «يَلْبَثُوا»،
342
وهو العامل، كأنَّه قال: متعارفين، والمعنى: اجتمعوا متعارفين.
والثاني: أنها حالٌ من مفعول «يَحْشُرهم» أي: يَحْشُرهم متعارفين، والعاملُ فعلُ الحشر، وعلى هذا فمنْ جوَّز تعدُّدَ الحالِ، جوَّز أن تكون «كأنْ لَمْ» : حالاً أولى، وهذه حالٌ ثانيةٌ، ومن منع ذلك، جعل «كأنْ لَمْ» على ما تقدم من غير الحاليَّة.
قال أبُو البقاء: «وهي حالٌ مقدرة؛ لأنَّ التعارف لا يكُونُ حال الحَشْرِ».
والثالث: أنَّها مستأنفةٌ؛ أخبر - تعالى - عنهم بذلك.
قال الزمخشري: «فإن قلت: كأنْ لمْ يلبثُوا إلاَّ ساعة»، و «يتَعارفُونَ» كيف موقعهما؟
قلت: أمَّا الأولى: فحالٌ منهم، أي: يَحْشُرهم مُشبهين بمنء لَمْ يَلْبَثْ إلاَّ ساعة.
وأمَّا الثانية: فإمَّا أن تتعلَّق بالظرف - يعني فتكون حالاً -، وإمَّا أن تكون مُبينة لقوله: ﴿كَأَن لَّمْ يلبثوا إِلاَّ سَاعَةً﴾ ؛ لأنَّ التَّعارفَ لا يَبْقَى مع طُولِ العهدِ، وينقلب تَنَاكُراً «.

فصل


في هذا التَّعارف وجوه:
الأول: يعرف بعضهم بعضاً كما كانوا في الدُّنْيَا.
الثاني: يعرف بعضهم بعضاً بما كانوا عليه من الخطأ والكفر، ثم تنقطع المعرفةُ إذا عاينُوا العذابَ، وتبرَّأ بعضهم من بعض.
فإن قيل: كيف توافق هذه الأشياء قوله: ﴿وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً﴾ [المعارج: ١٠].
فالجواب من وجهين:
أحدهما: أنَّهم يتعارفون بينهم بتوبيخ بعضهم بعضاً؛ فيقول كل فريق للآخر: أنت أضللتني يوم كذا، وزيَّنتَ لي الفعل القبيح الفُلاني، فهو تعارفُ توبيخٍ، وتباعدٍ، وتقاطع، لا تعارف عطفٍ، وشفقة.
وأما قوله: ﴿وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً﴾ [المعارج: ١٠] فهو سؤال رحمة، وعطف.
والثاني: أنَّ تحمل هاتين الآيتين على حالتين؛ وهو أنَّهم يتعارفُون إذا بعثوا ثم تنقطع المعرفة؛ فلذلك لا يسأل حميمٌ حميماً.
قوله:»
قَدْ خَسِرَ «فيها وجهان:
أحدهما: أنَّها مستأنفةٌ، أخبر - تعالى - بأنَّ المكذِّبينَ بلقائِهِ خاسرون لا محالة؛ ولذلك أتى بحرفِ التَّحقيق، ويكون هذا شهادة عليهم من الله بالخُسْرَان، والمعنى: أنَّه من باع آخرته بدنياه، فقد خسر؛ لأنَّه أعطى الشَّريف الباقي، في أخْذِ الخسيسِ الفانِي.
343
والثاني: أن يكون في محلِّ نصبٍ بإضمار قولٍ، أي: قائلين قد خَسِر الذين. ثُمَّ لكَ في هذا القول المقدَّر وجهان:
أحدهما: أنه حالٌ من مفعول» يَحْشُرهُم «أي: يحشرهم قائلين ذلك.
والثاني: أنَّه حالٌ من فاعل»
يتعَارفُونَ «، وقد ذهب إلى الاستئناف والحاليَّة من فاعل» يَتَعارفُونَ «: الزمخشريُّ؛ فإنَّه قال:» هو استئنافٌ فيه معنى التَّعجُّب، كأنَّه قيل: «ما أحْشرهُمْ»، ثم قال: «قَدْ خَسِرَ» على إرادة القولِ، أي: يَتَعَارفُونَ بينهم قائلين ذلك «، وذهب إلى أنَّها حالٌ من مفعُول» يَحْشُرهُم «: ابنُ عطيَّة.
قوله: ﴿وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ﴾ يجوزُ فيها وجهان:
أحدهما: أن تكون معطوفةً على قوله:»
قَدْ خَسِرَ «، فيكون حكمه حكمَهُ.
والثاني: أن تكون معطوفةً على صلةِ»
الذينَ «، وهي كالتَّوكيد للجملة التي وقعتْ صلةً؛ لأنَّ من كذَّب بلقاء الله، غيرُ مُهْتَدٍ، والمراد بالخسران: خُسْران النفس ولا شيء أعظم منه.
قوله: ﴿وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ﴾ تقدَّم الكلامُ على»
إِمَّا «هذه [البقرة٣٨]، وقال ابن عطيَّة:» ولأجلها، أي: لأجلِ زيادةِ «ما»، جاز دخولُ النون الثقيلة، ولو كانت «إِنْ» وحدها لم يَجُزْ «أي: إنَّ توكيد الفعل بالنُّونِ مشروطٌ بزيادة» ما «بعد» إنْ «، وهو مخالفٌ لظاهرِ كلام سيبويه، وقد جاء التَّوكيد في الشَّرط بغير» إنْ «؛ كقوله: [الكامل]
٢٩٠٤ - مَنْ نَثْقَفَنْ مِنهُمْ فليْسَ بآيبٍ أبَداً وقَتْلُ بَنِي قُتَيبةَ شَافِي
قال ابن خروف: أجاز سيبويه: الإتيان ب «ما»، وألاَّ يؤتى بها، والإتيانُ بالنون مع «ما»، وألاَّ يؤتى بها، والإراءَةُ هنا بصريَّة؛ ولذلك تعدَّى الفعلُ إلى اثنينِ بالهمزة، أي: نجعلك رائياً بعض الموعُودين، أو بمعنى: الذي نعدُهم من العذاب، أو نتوفَّيَنَّكَ قبل أن نُريكَ ذلك، فإنَّك ستراه في الآخرة.
قال مجاهد: فكان البعضُ الذي رآه قتلهم ببدر، وسائر أنواع العذاب بعد موته.
قوله: ﴿فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ﴾ مبتدأ وخبر، وفيه وجهان:
أظهرهما: أنَّه جوابٌ للشَّرطِ، وما عُطِفَ عليه، إذ معناه صالحٌ لذلك، وإلى هذا ذهب الحوفيُّ، وابنُ عطيَّة.
والثاني: أنَّهُ جوابٌ لقوله: «أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ»، وجواب الأول محذُوف.
قال الزمخشري: «كأنَّه قيل: وإمَّا نُرينَّكَ بعضَ الذي نعدهُم فذاك، أو نتوفَّينَّك قبل أن نُريك، فنحن نُريك في الآخرة».
344
قال أبو حيَّان: «فجعل الزمخشريُّ في الكلام شرطين لهما جوابان، ولا حاجة إلى تقدير جواب محذوف؛ لأنَّ قوله: ﴿فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ﴾ صالحٌ لأن يكون جواباً للشَّرطِ، والمعطوف عليه، وأيضاً: فقول الزمخشريّ:» فذاك «هو اسمٌ مفردٌ، لا ينعقدُ منه جوابُ شرطٍ، فكان ينبغي أن يأتي بجملة يصح منها جواب الشرط، إذ لا يفهمُ من قوله:» فَذَاكَ «الجزء الذي حذف، وهو الذي تحصل به فائدة الإسناد».
قال شهاب الدِّين: «قد تقرَّر: أنَّ اسم الإشارة قد يُشار به إلى شيئين فأكثر، وهو بلفظِ الإفراد؛ فكأ، َّ ذاكَ واقعٌ موقع الجملة الواقعة جواباً، ويجُوزُ أن يكون قد حُذف الخبرُ؛ لدلالةِ المعنى عليه، إذ التَّقديرُ: فذاك المرادُ، أو المتمنَّى، أو نحوه».
وقوله: «إذْ لا يُفْهم الجزء الذي حذف» إلى آخره، ممنوعٌ، بل هو مفهومٌ كما بينا؛ وهو شيءٌ يتبادر إلى الذِّهن.
قوله: ﴿ثُمَّ الله شَهِيدٌ﴾ «ثم» ليست هنا للتَّرتيب الزَّماني، بل هي لترتيب الأخبار، لا لترتيب القصص في أنفسها، قال أبو البقاء: «كقولك: زيدٌ عالمٌ، ثم هو كريم».
وقال الزمخشريُّ: «فإن قلت: الله شهيدٌ على ما يفعلُون في الدَّاريْن، فما معنى» ثم «؟.
قلت: ذكرت الشهادة، والمراد: مقتضاها، ونيتجتها، وهو العقاب؛ كأنَّه قيل: ثم الله معاقبٌ على ما يفعلون»
.
وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة: «ثَمَّ» بفتح الثاء، جعله ظرفاً لشهادة الله؛ فيكون «ثَمَّ» منصوباً ب «شَهِيدٌ» أي: اللهُ شهيدٌ عليهم في ذلك المكان، وهو مكانُ حشرهم، ويجوز أن يكون ظرفاً لِ «مَرْجعُهم» أي: فإليْنَا مرْجِعُهم، يعني: رجوعهم في ذلك المكانِ، الذي يُثَاب فيه المُحْسِن، ويعاقبُ فيه المُسيء.
345
قوله :﴿ وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ ﴾ تقدَّم الكلامُ على " إِمَّا " هذه [ البقرة٣٨ ]، وقال ابن عطيَّة١ :" ولأجلها، أي : لأجلِ زيادةِ " ما "، جاز دخولُ النون الثقيلة، ولو كانت " إِنْ " وحدها لم يَجُزْ " أي : إنَّ توكيد الفعل بالنُّونِ مشروطٌ بزيادة " ما " بعد " إنْ "، وهو مخالفٌ لظاهرِ كلام سيبويه، وقد جاء التَّوكيد في الشَّرط بغير " إنْ " ؛ كقوله :[ الكامل ]
مَنْ نَثْقَفَنْ مِنهُمْ فليْسَ بآيبٍ أبَداً وقَتْلُ بَنِي قُتَيبةَ شَافِي٢
قال ابن خروف : أجاز سيبويه : الإتيان ب " ما "، وألاَّ يؤتى بها، والإتيانُ بالنون مع " ما "، وألاَّ يؤتى بها، والإراءَةُ هنا بصريَّة ؛ ولذلك تعدَّى الفعلُ إلى اثنينِ بالهمزة، أي : نجعلك رائياً بعض الموعُودين، أو بمعنى : الذي نعدُهم من العذاب، أو نتوفَّيَنَّكَ قبل أن نُريكَ ذلك، فإنَّك ستراه في الآخرة.
قال مجاهد : فكان البعضُ الذي رآه قتلهم ببدر، وسائر أنواع العذاب بعد موته٣.
قوله :﴿ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ﴾ مبتدأ وخبر، وفيه وجهان :
أظهرهما : أنَّه جوابٌ للشَّرطِ، وما عُطِفَ عليه، إذ معناه صالحٌ لذلك، وإلى هذا ذهب الحوفيُّ، وابنُ عطيَّة.
والثاني : أنَّهُ جوابٌ لقوله :" أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ "، وجواب الأول محذُوف.
قال الزمخشري :" كأنَّه قيل : وإمَّا نُرينَّكَ بعضَ الذي نعدهُم فذاك، أو نتوفَّينَّك قبل أن نُريك، فنحن نُريك في الآخرة ".
قال أبو حيَّان :" فجعل الزمخشريُّ في الكلام شرطين لهما جوابان، ولا حاجة إلى تقدير جواب محذوف ؛ لأنَّ قوله :﴿ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ﴾ صالحٌ لأن يكون جواباً للشَّرطِ، والمعطوف عليه، وأيضاً : فقول الزمخشريّ :" فذاك " هو اسمٌ مفردٌ، لا ينعقدُ منه جوابُ شرطٍ، فكان ينبغي أن يأتي بجملة يصح منها جواب الشرط، إذ لا يفهمُ من قوله :" فَذَاكَ " الجزء الذي حذف، وهو الذي تحصل به فائدة الإسناد ".
قال شهاب الدِّين :" قد تقرَّر : أنَّ اسم الإشارة قد يُشار به إلى شيئين فأكثر، وهو بلفظِ الإفراد ؛ فكأنَّ، ذاكَ واقعٌ موقع الجملة الواقعة جواباً، ويجُوزُ أن يكون قد حُذف الخبرُ ؛ لدلالةِ المعنى عليه، إذ التَّقديرُ : فذاك المرادُ، أو المتمنَّى، أو نحوه ".
وقوله :" إذْ لا يُفْهم الجزء الذي حذف " إلى آخره، ممنوعٌ، بل هو مفهومٌ كما بينا ؛ وهو شيءٌ يتبادر إلى الذِّهن.
قوله :﴿ ثُمَّ الله شَهِيدٌ ﴾ " ثم " ليست هنا للتَّرتيب الزَّماني، بل هي لترتيب الأخبار، لا لترتيب القصص في أنفسها، قال أبو البقاء :" كقولك : زيدٌ عالمٌ، ثم هو كريم ".
وقال الزمخشريُّ :" فإن قلت : الله شهيدٌ على ما يفعلُون في الدَّاريْن، فما معنى " ثم " ؟.
قلت : ذكرت الشهادة، والمراد : مقتضاها، ونتيجتها، وهو العقاب ؛ كأنَّه قيل : ثم الله معاقبٌ على ما يفعلون ".
وقرأ إبراهيم٤ بن أبي عبلة :" ثَمَّ " بفتح الثاء، جعله ظرفاً لشهادة الله ؛ فيكون " ثَمَّ " منصوباً ب " شَهِيدٌ " أي : اللهُ شهيدٌ عليهم في ذلك المكان، وهو مكانُ حشرهم، ويجوز أن يكون ظرفاً لِ " مَرْجعُهم " أي : فإليْنَا مرْجِعُهم، يعني : رجوعهم في ذلك المكانِ، الذي يُثَاب فيه المُحْسِن، ويعاقبُ فيه المُسيء.
١ ينظر: المحرر الوجيز ٣/١٢٣..
٢ تقدم..
٣ ذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٣٥٦)..
٤ ينظر: الكشاف ٢/٣٥٠، البحر المحيط ٥/١٦٤، الدر المصون ٤/٣٩..
قوله - تعالى -: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ﴾ الآية.
لمَّا بيَّن حال محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - في قومه، بيَّن أنَّ حال كل الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - مع أقوامهم كذلك.
والآية تدلُّ على أنَّ كلَّ جماعة ممَّن تقدَّم، قد بعث الله إليهم رسُولاً، ولم يهمل أمَّة من الأمم ويؤيِّده قوله - تعالى -: ﴿وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ﴾ [فاطر: ٢٤].
345
فإن قيل: كيف يصحُّ هذا مع ما يعلمُه من أحْوالِ الفترة؟.
فالجواب: أنَّ الدَّليل الذي ذكرناه، لا يوجب أن يكون الرَّسُول حاضراً مع القوم؛ لأنَّ تقدم الرسول لا يمنع من كونه رسُولاً إليهم، كما لا يمنع تقدُّم رسولنا، من كونه مبعوثاً إلينا إلى آخر الأبد.
وفي الكلام إضمار تقديره: فإذا جاء رسُولهُم وبلَّغ، وكذَّبه قوم وصدقه آخرون، قُضِيَ بَيْنَهُم، أي: حُكِمَ وفُصِلَ.
والمراد من الآية:
إمَّا بيان: أنَّ الرسول إذا بعث إلى كلِّ أمَّة، فإنَّه بالتبليغ، وإقامةِ الحُجَّةِ يزيح عللهم، ولم يبق لهم عُذْر؛ فيكون ما يُعَذَّبُونَ به في الآخرة عدلاً لا ظُلْماً، ويدُلُّ عليه قوله: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ [الإسراء: ١٥]، وقوله: ﴿رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل﴾ [النساء: ١٦٥].
وإمَّا أن يكون المرادُ: أنَّ القوم إذا اجتمعوا في الآخرة، جمع الله بينهم وبين رسلهم وقت المحاسبة، وبيان الفصل بين المُطِيعِ والعَاصِي؛ ليشهد عليهم بما شاهد منهم؛ وليقع منهم الاعتراف بأنَّه بلغ رسالات ربِّه، ويدل عليه قوله - تعالى -: ﴿لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً﴾ [البقرة: ١٤٣].
قوله تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد﴾ الآية.
هذه شبهة خامسة من شبهات مُنْكِري النبوة؛ فإنَّه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كُلَّما هدَّدهُم بنُزُول العذاب، ومرَّ زمان ولم يظهر ذلك العذاب، قالوا: متى هذا الوعد، فاحتجُّوا بعدم ظهوره، على القدح في نُبُوته، واعلم: أنَّهم قالوا ذلك على وجه التَّكذيبِ للرَّسُولِ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لمَّا أخبرهم بنُزُول العذاب على الأعداء، وبنُصْرَة الأولياء - أو على وجه الاستبعاد، وتدلُّ الآية على أنَّ كلَّ أمَّة قالت لرسُولها مثل ذلك القول؛ بدليل قوله - تعالى - ﴿إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ لأنَّه جمع، وهو موافقٌ لقوله: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ﴾.
ثم إنَّه - تعالى - أمره بأن يجيبَ عن هذه الشُّبهةِ بجواب يحسم المادَّة، وهو قوله: ﴿قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً إِلاَّ مَا شَآءَ الله﴾ والمعنى: أنَّ إنزال العذاب على الأعداء، وإظهار النُّصرة للأولياء لا يقدر عليه إلاَّ الله - سبحانه -، وأنَّه - تعالى - ما عيَّن لذلك وقتاً معيناً، بل تعيين الوقت مُفوَّض إلى الله - سبحانه - بحسب مشيئته.
قوله: ﴿إِلاَّ مَا شَآءَ الله﴾ فيه وجهان:
أحدهما: أنَّه استثناءٌ متَّصل، تقديره: إلاَّ ما شاءَ الله أن أملكه، وأقدر عليه.
والثاني: أنَّهُ منقطعٌ، قال الزمخشري: «هو استثناءٌ منقطعٌ، أي: ولكن ما شاء اللهُ
346
من ذلك كائن، فكيف أملك لكم الضَّرر وجَلْبَ العذابِ؟».

فصل


احتجَّ المعتزلة بقوله: ﴿قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً إِلاَّ مَا شَآءَ الله﴾ بأن هذا الاستثناء، يدلُّ على أنَّ العبد لا يملك لنفسه ضرّاً ولا نفعاً، إلاَّ الطَّاعة والمعصية، فهذا الاستثناء يدل على كون العبد مستقبلاً بهما.
وأجيبوا: بأنَّ هذه الاستثناء منقطعٌ، والتقدير: ولكن ما شاء الله من ذلك كائنٌ.
قوله: ﴿لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ﴾ أي: مدَّة مضروبة ﴿إِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ﴾ : وقت فناء أعمارهم، قرأ ابن سيرين: «إذا جَاءَ آجالهم فلا يستأخِرُون ساعةً ولا يسْتقدِمُونَ» أي: لا يتأخَّرُون، ولا يتقدمون، وهذه الآية تدلُّ على أنَّ أحداً لا يموت إلا بانقضاء أجله.

فصل


قوله: ﴿إِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ﴾ شرط، وقوله: ﴿فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ﴾ أي: لا يتأخَّرون ولا يتقدمون، وهذه الآية تدل على جزاء، و «الفاء» حرف الجزاء؛ فوجب إدخاله على الجزاء، فدلَّت الآيةُ على أنَّ الجزاء يحصل مع حُصُول الشَّرطِ لا يتأخَّر عنه، وأنَّ حرف الفاء لا يدلُّ على التَّراخي؛ وإنَّما يدلُّ على كونه جزاء.
وإذا ثبت هذا، فنقولُ: إذا قال الرجُل لامرأة أجنبيَّة: إن تزوجتك، فأنت طالقٌ؛ قال بعضهم: لا يصح هذا التعليق؛ لأنَّ هذه الآية دلَّت على أنَّ الجزاءَ إنَّما يحصل بحُصُول الشَّرط، فلو صحَّ هذا التعليق، لوجب أن يحصل الطلاق مقارناً للنِّكاح، لما ثبت أنَّ الجزاء يجبُ حصولهُ مع حصول الشرط، وذلك يوجبُ الجمع بين الضِّدَّين، ولمَّا بطل هذا اللاَّزم، وجب ألاَّ يصحَّ التعليق، وقال أبو حنيفة: يَصِحُّ.
347
قوله تعالى :﴿ وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد ﴾ الآية.
هذه شبهة خامسة من شبهات مُنْكِري النبوة ؛ فإنَّه - عليه الصلاة والسلام - كُلَّما هدَّدهُم بنُزُول العذاب، ومرَّ زمان ولم يظهر ذلك العذاب، قالوا : متى هذا الوعد، فاحتجُّوا بعدم ظهوره، على القدح في نُبُوته، واعلم : أنَّهم قالوا ذلك على وجه التَّكذيبِ للرَّسُولِ - عليه الصلاة والسلام - لمَّا أخبرهم بنُزُول العذاب على الأعداء، وبنُصْرَة الأولياء - أو على وجه الاستبعاد، وتدلُّ الآية على أنَّ كلَّ أمَّة قالت لرسُولها مثل ذلك القول ؛ بدليل قوله - تعالى - ﴿ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ لأنَّه جمع، وهو موافقٌ لقوله :﴿ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ ﴾.
ثم إنَّه - تعالى - أمره بأن يجيبَ عن هذه الشُّبهةِ بجواب يحسم المادَّة، وهو قوله :﴿ قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً إِلاَّ مَا شَآءَ الله ﴾ والمعنى : أنَّ إنزال العذاب على الأعداء، وإظهار النُّصرة للأولياء لا يقدر عليه إلاَّ الله - سبحانه -، وأنَّه - تعالى - ما عيَّن لذلك وقتاً معيناً، بل تعيين الوقت مُفوَّض إلى الله - سبحانه - بحسب مشيئته.
قوله :﴿ إِلاَّ مَا شَآءَ الله ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أنَّه استثناءٌ متَّصل، تقديره : إلاَّ ما شاءَ الله أن أملكه، وأقدر عليه.
والثاني : أنَّهُ منقطعٌ، قال الزمخشري :" هو استثناءٌ منقطعٌ، أي : ولكن ما شاء اللهُ من ذلك كائن، فكيف أملك لكم الضَّرر وجَلْبَ العذابِ ؟ ".

فصل


احتجَّ المعتزلة بقوله :﴿ قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً إِلاَّ مَا شَآءَ الله ﴾ بأن هذا الاستثناء، يدلُّ على أنَّ العبد لا يملك لنفسه ضرّاً ولا نفعاً، إلاَّ الطَّاعة والمعصية، فهذا الاستثناء يدل على كون العبد مستقبلاً بهما.
وأجيبوا : بأنَّ هذا الاستثناء منقطعٌ، والتقدير : ولكن ما شاء الله من ذلك كائنٌ.
قوله :﴿ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ﴾ أي : مدَّة مضروبة ﴿ إِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ ﴾ : وقت فناء أعمارهم، قرأ ابن١ سيرين :" إذا جَاءَ آجالهم فلا يستأخِرُون ساعةً ولا يسْتقدِمُونَ " أي : لا يتأخَّرُون، ولا يتقدمون، وهذه الآية تدلُّ على أنَّ أحداً لا يموت إلا بانقضاء أجله.

فصل


قوله :﴿ إِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ ﴾ شرط، وقوله :﴿ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ ﴾ أي : لا يتأخَّرون ولا يتقدمون، وهذه الآية تدل على جزاء، و " الفاء " حرف الجزاء ؛ فوجب إدخاله على الجزاء، فدلَّت الآيةُ على أنَّ الجزاء يحصل مع حُصُول الشَّرطِ لا يتأخَّر عنه، وأنَّ حرف الفاء لا يدلُّ على التَّراخي ؛ وإنَّما يدلُّ على كونه جزاء.
وإذا ثبت هذا، فنقولُ : إذا قال الرجُل لامرأة أجنبيَّة : إن تزوجتك، فأنت طالقٌ ؛ قال بعضهم : لا يصح هذا التعليق ؛ لأنَّ هذه الآية دلَّت على أنَّ الجزاءَ إنَّما يحصل بحُصُول الشَّرط، فلو صحَّ هذا التعليق، لوجب أن يحصل الطلاق مقارناً للنِّكاح، لما ثبت أنَّ الجزاء يجبُ حصولهُ مع حصول الشرط، وذلك يوجبُ الجمع بين الضِّدَّين، ولمَّا بطل هذا اللاَّزم، وجب ألاَّ يصحَّ التعليق، وقال أبو حنيفة : يَصِحُّ.
١ ينظر: الكشاف ٢/٣٥٠، المحرر الوجيز ٣/١٢٤، البحر المحيط ٥/١٦٥..
قوله - تعالى -: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً﴾ الآية.
هذا جواب ثانٍ عن قولهم: ﴿متى هذا الوعد﴾ [يونس: ٤٨] وقد تقدَّم الكلام على «أرَأيْتَ» هذه، وأنَّها تتضمَّن معنى: أخبرني، فتتعدَّى إلى اثنين، ثانيهما غالباً جملةٌ استفهاميَّة، فينعقد منها مع ما قبلها مبتدأٌ وخبرٌ، كقولهم: «أرأيتكَ زيداً ما صنع» وتقدَّم مذاهبُ النَّاسِ فيها في «عذاب»، والمسألةُ من إعمال الثاني؛ إذ هو المختار عند البصريِّين، ولمَّا أَعمله
347
أضمر في الأول وحذفه؛ لأنَّ إبقاءه مخصوصٌ بالضَّرورة، أو جائزُ الذِّكْرِ على قلَّةٍ عند آخرين، ولو أعمل الأول، لأضمر في الثاني إذ الحذف منهُ لا يكونُ إلاَّ في ضرورة، أو في قليلٍ من الكلام.
ومعنى الكلام: قل لهم يا محمد: أخبروني عن عذاب الله، إن أتاكم أيُّ شيءٍ تستعجلون منه، وليس شيءٌ من العذاب يستعجل به؛ لمرارته، وشدَّة إصابته، فهو مُقْتَضٍ لنُفُورِ الطبع منه.
قال الزمخشري: «فإن قلت: بم يتعلَّق الاستفهامُ، وأين جوابُ الشَّرط؟ قلت: تعلَّق ب» أرَأيْتُمْ «لأنَّ المعنى: أخبروني ماذا يستعجل منه المجرمون، وجوابُ الشَّرط محذوفٌ، وهو: تندمُوا على الاستعجَال، أو تعرفُوا الخطأ فيه».
قال أبو حيَّان: «وما قدَّره غيرُ سائغ؛ لأنَّه لا يقدَّر الجوابُ إلاَّ ممَّا تقدَّمه لفظاً أو تقديراً، تقول:» أنت ظالمٌ إن فعلت «التقدير: إن فعلت، فأنت ظالمٌ، وكذلك ﴿وَإِنَّآ إِن شَآءَ الله لَمُهْتَدُونَ﴾ [البقرة: ٧٠] التقدير: إن شاء الله نَهْتَدِ، فالذي يُسَوِّغ أن يقدر: إن أتاكم عذابه، فأخبروني ماذا يستعجلُ منهُ المجرمُونَ.
وقال الزمخشريُّ أيضاً:»
ويجوز أن يكون ﴿مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ المجرمون﴾ جواباً للشرط كقولك: إن أتيتُك ما تُطْعمني؟ ثم تتعلَّق الجملةُ ب «أرأيْتُمْ»، وأن يكون «أثمَّ إذا ما وقع آمنتُم به» جواباً للشَّرْطِ، و ﴿مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ المجرمون﴾ اعتراضاً، والمعنى: إن أتاكم عذابه، آمنتم به بعد وقوع حين لا ينفعكم الإيمان.
قال أبو حيَّان: «وأمَّا تجويزهُ أن يكون» مَاذَا «جواباً للشَّرط فلا يصحُّ؛ لأنَّ جواب الشَّرط إذا كان استفهاماً، فلا بُدَّ فيه من الفاءِ تقول: إنْ زارنا فلانٌ، فأيُّ رجلٍ هو، وإن زارنا فلانٌ، فأيُّ يدٍ لهُ بذلك، ولا يجوزُ حذفها إلاَّ إن كان في ضرورةٍ، والمثالُ الذي ذكره وهو» إنْ أتَيْتُكَ ما تُطعمني؟ «هو من تمثيله، لا من كلام العرب.
وأمَّا قوله: ثُمَّ تتعلَّق الجملةُ ب»
أرَأيْتُم «إن عنى بالجملة» مَاذَا يَسْتعجِلُ «فلا يصح ذلك؛ لأنَّه قد جعلها جواباً للشَّرْطِ، وإن عنى بالجملةِ جملة الشَّرطِ، فقد فسَّر هو» أرَأيْتُمْ «بمعنى: أخبرُوني، و» أخبرني «يطلب متعلِّقاً مفعولاً، ولا تقع جملةُ الشَّرطِ موقع مفعول» أخبرني «، وأمَّا تجويزه أن يكون:» أثُمَّ إذا ما وقعَ آمنتُم بِهِ «جواباً للشَّرطِ، و ﴿مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ المجرمون﴾ اعتراضاً، فلا يصحُّ أيضاً لما ذكرناه: من أن جملة الاستفهام لا تقع جواباً للشَّرط إلاَّ ومعها فاءُ الجواب، وأيضاً: ف» ثُمَّ «هنا حرف عطفٍ تعطفُ الجملة التي بعدها على التي قبلها، فالجملةُ الاستفهاميَّة معطوفة، وإذا كانت معطوفة، لم يصحَّ أن تقع جواب الشَّرط، وأيضاً: ف» أرَأيْتُمْ «بمعنى:» أخبروني «يحتاج إلى مفعول، ولا تقع جملة شرطٍ موقعه».
وكون «أرأيتم» بمعنى «أخبروني» هو الظاهر المشهور، وقال الحوفيُّ: «الرؤية من
348
رؤية القلب التي بمعنى العلم؛ لأنَّها داخلةٌ على الجملة من الاستفهام التي معناها: التقرير، وجواب الشرط محذوفٌ، وتقدير الكلام: أرأيتم ما يستعجل من العذاب المجرمون، إن أتاكم عذابه» انتهى. فهذا ظاهرٌ في أنَّ «أرأيتم» غير مضمنةٍ معنى الإخبار، وأنَّ الجملة الاستفهاميَّة سدَّت مسدَّ المفعولين، ولكنَّ المشهور الأول. قوله: «مَاذَا يَسْتَعجلُ» قد تقدَّم الكلامُ على هذه الكلمة، ومذاهب النَّاس فيها [البقرة: ٢٦]، وجوَّز بعضهم هنا أن تكون «ما» مبتدأ، و «ذا» خبره، وهو موصولٌ بمعنى: «الَّذي»، و «يَسْتَعْجِل» صلته، وعائده محذوفٌ تقديره: أيُّ شيء الذي يستعجله منه، أي: من العذاب، أو من الله - تعالى -.
وجوَّز مكي، وغيره: أن يكون «مَاذَا» كلُّه مبتدأ، أي: يجعل الاسمان بمنزلةِ اسمٍ واحدٍ، والجملة بعده خبر، قال أبو عليٍّ: «وهو ضعيفٌ: لخلوِّ الجملة من ضمير يعُود على المبتدأ».
وقد أجاب أبو البقاء عن هذا، فقال: «ورُدَّ هذا القول بأنَّ الهاء في» مِنْهُ «تعودُ على المبتدأ؛ كقولك: زيدٌ أخذتُ منه درهماً».
قال شهاب الدِّين: «ومثلُ أبي علي لا يخفى عليه مثل ذلك، إلاَّ أنَّه لا يرى عود الهاء على الموصول؛ لأنَّ الظاهر عودها على العذاب».
قال أبو حيَّان: «والظَّاهرُ عودُ الضمير في» مِنْه «على العذاب، وبه يحصل الرَّبْطُ لجملة الاستفهام بمعفول» أرأيتم «المحذوف الذي هو مبتدأ في الأصل».
وقال مكي: «وإن شئت جعلت» ما «، و» ذا «بمنزلة اسمٍ واحدٍ في موضع رفع بالابتداء، والجملة التي بعدهُ الخبر، والهاءُ في» منهُ «تعود أيضاً على العذاب».
قال شهابُ الدِّين: «فقد ترك المبتدأ بلا رابطٍ لفظي، حيث جعل الهاءَ عائدةً على غير المبتدأ، فيكون العائدُ عنده محذوفاً، لكنَّه قال بعد ذلك:» فإن جعلت الهاء في «منهُ» تعود على الله - جلَّ ذكره -، و «ما» و «ذا» اسماً واحداً، كانت «ما» في موضع نصبٍ ب «يستعجل» والمعنى: أيَّ شيء يستعجلُ المجرمون من الله «فقوله هذا يؤذن بأنَّ الضمير لمَّا عاد على غير المبتدأ، جعله مفعولاً مقدماً، وهذا الوجه بعينه جائزٌ فيما إذا جعل الضمير عائداً على العذاب.
ووجه الرَّفع على الابتداء جائزٌ، فيما إذا جعل الضمير عائداً على الله - تعالى -، إذ العائدُ الرَّابطُ مقدرٌ، كما تقدم التنبيهُ عليه «.
حاصل الجواب: أن يقال لأولئك الكفار الذين يطلبون نزول العذاب: بتقدير أن يحصل هذا المطلوبُ، ما الفائدة لكم فيه؟ فإن قلتم نؤمن عنده، فذلك باطل؛ لأنَّ
349
الإيمان في ذلك الوقت لا يفيد نفعاً ألبتَّة؛ لأنَّه إيمان في وقت انحباس النفس؛ فثبت أنَّ الذي تطلبونه لو أتاكم، لم يحصل منه إلاَّ العذاب في الدنيا، ثم يحصل عقيبة يوم القيام عذابٌ آخر أشدُّ منه، ثم يقرون ذلك العذاب بكلام يدل على الإهانةِ، وهو قوله: ﴿هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ﴾.
فالحاصل: أنَّ هذا الذي تطلبونه محضُ الضَّرر العادي من جهات النفع، والعاقل لا يفعل ذلك.
وقوله:» بَيَاتاً «أي: ليلاً يقال: بت ليلتي أفعل كذا؛ لأنَّ الظاهر أنَّ الإنسان يكون في البيت بالليل؛ فجعل هذا اللفظ كناية عن الليل، والبيات: مصدر مثل التَّبييت؛ كالوداع، والسراح، ويقال في النهار ظللت أفعل كذا؛ لأنَّ الظاهر أن الإنسان يكون في النهار في الظِّلِّ، وانتصب» بياتاً «على الظرف أي: وقت بيات.
قوله:»
أثُمَّ «قد تقدَّم خلافُ الزمخشري للجمهور في ذلك، حيث يقدِّر جملة بين همزة الاستفهام، وحرف العطف، و» ثمَّ «: حرفُ عطف.
واعلم: أنَّ دخول حرف الاستفهام على»
ثُمَّ «كدخوله على» الواوِ «و» الفاء «في قوله: ﴿أَوَ أَمِنَ أَهْلُ القرى﴾ [الأعراف: ٩٨]، ﴿أَهْلُ القرى﴾ [الأعراف: ٩٧] وهو يفيد التَّقريع والتَّوبيخ، وقال الطبري:» أثُمَّ «هذه بضمِّ الثاء ليست التي بمعنى: العطف، وإنَّما هي بمعنى:» هنالك «وهذا لا يوافقُ عليه؛ لأنَّ هذا المعنى لا يعرفُ في» ثُمَّ «بضم» الثاء «، إلاَّ أنَّه قد قرأ طلحة بن مصرِّف:» أثَمَّ «بفتح الثاء، وحينئذ يصحُّ تفسيرها بمعنى: هنالك.
قوله:»
ألآن «قد تقدَّم الكلام في ﴿الآن﴾ [البقرة: ٧٢]، وقرأ الجمهور:» ألآن «بهمزة الاستفهام داخله على» الآن «وقد تقدَّم مذاهبُ الفراء في ذلك، و» الآن «نصب بمضمر تقديره: الآن آمنتم، ودلَّ على هذا الفعل المقدَّر الفعلُ الذي تقدمهُ، وهو قوله: ﴿أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ﴾ ولا يجوز أن يعمل فيه» آمنتُم «الظَّاهرُ؛ لأنَّ ما قبل الاستفهام لا يعمل فيما بعده، كما أنَّ ما بعده لا يعملُ فيما قبله؛ لأنَّ له صدر الكلام، وهذا الفعلُ المقدَّرُ ومعمولُه على إضمار قول، أي: قيل لهم إذ آمنوا بعد وقوع العذابِ: آمنتُم الآن به، وقرأ عيسى، وطلحة:» آمنتم به الآن «بوصل الهمزة من غير استفهامٍ، وعلى هذه القراءة ف» الآن «منصوبٌ ب» آمنتم «هذا الظَّاهر.
قوله: ﴿وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ﴾ «وقَدْ كُنتُم»
جملةٌ حاليةٌ، قال الزمخشري: «وقد
350
كُنتُم به تَستعجلُون؛ يعني: تُكذِّبُونَ؛ لأنَّ استعجالهم كان على جهةِ التَّكذيب، والإنكار».
فجعله من باب الكناية؛ لأنَّه دلالةٌ على الشَّيء بلازمه، نحو «هو طويلُ النَّجاد» كنيت به عن طُول قامته؛ لأنَّ طولَ نجاده لازمٌ لطول قامته، وهو باب بليغٌ.
وقوله: ﴿ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ﴾ هذه الجملةُ على قراءة العامَّة؛ عطفٌ على ذلك الفعل المقدَّر الناصب ل «الآن» وعلى قراءة طلحة هو استئناف إخبار عمَّا يقال لهم يوم القيامة، و «ذُوقُوا» و «هَلْ تُجزَونَ» كلُّه في محلِّ نصبٍ بالقول، وقوله: «إلاَّ بِمَا» هو المفعولُ الثاني ل «تُجْزَون»، والأولُ قائمٌ مقام الفاعلِ، وهو استثناءٌ مفرَّغٌ.

فصل


دلَّت الآية على أنَّ الجزاء يوجب العمل، أمَّا عند الفلاسفة: فهو أثر العمل، وأمَّا عند المعتزلة: فإنَّ العمل الصَّالح يوجب استحقاق الثَّواب على الله - تعالى -، وأما عند أهل السنة؛ فلأنَّ ذلك الجزاء واجب بحكم الوعد المحض.
قالت المعتزلةُ: ودلَّت الآية على كون العبد مكتسباً، وعند أهل السُّنَّة معناها: أنَّ مجموع القُدْرَة مع الدَّاعية الحاصلة يوجب الفعل.
351
قوله :" أثُمَّ " قد تقدَّم خلافُ الزمخشري للجمهور في ذلك، حيث يقدِّر جملة بين همزة الاستفهام، وحرف العطف، و " ثمَّ " : حرفُ عطف.
واعلم : أنَّ دخول حرف الاستفهام على " ثُمَّ " كدخوله على " الواوِ " و " الفاء " في قوله :﴿ أَوَ أَمِنَ أَهْلُ القرى ﴾ [ الأعراف : ٩٨ ]، ﴿ أفأمن أَهْلُ القرى ﴾ [ الأعراف : ٩٧ ] وهو يفيد التَّقريع والتَّوبيخ، وقال الطبري :" أثُمَّ " هذه بضمِّ الثاء ليست التي بمعنى : العطف، وإنَّما هي بمعنى :" هنالك " وهذا لا يوافقُ عليه ؛ لأنَّ هذا المعنى لا يعرفُ في " ثُمَّ " بضم " الثاء "، إلاَّ أنَّه قد قرأ طلحة١ بن مصرِّف :" أثَمَّ " بفتح الثاء، وحينئذ يصحُّ تفسيرها بمعنى : هنالك.
قوله :" ألآن " قد تقدَّم الكلام في ﴿ الآن ﴾ [ البقرة : ٧٢ ]، وقرأ الجمهور :" ألآن " بهمزة الاستفهام داخله على " الآن " وقد تقدَّم مذاهبُ الفراء في ذلك، و " الآن " نصب بمضمر تقديره : الآن آمنتم، ودلَّ على هذا الفعل المقدَّر الفعلُ الذي تقدمهُ، وهو قوله :﴿ أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ ﴾ ولا يجوز أن يعمل فيه " آمنتُم " الظَّاهرُ ؛ لأنَّ ما قبل الاستفهام لا يعمل فيما بعده، كما أنَّ ما بعده لا يعملُ فيما قبله ؛ لأنَّ له صدر الكلام، وهذا الفعلُ المقدَّرُ ومعمولُه على إضمار قول، أي : قيل لهم إذ آمنوا بعد وقوع العذابِ : آمنتُم الآن به، وقرأ عيسى، وطلحة :" آمنتم به الآن " بوصل الهمزة من غير استفهامٍ، وعلى هذه القراءة ف " الآن " منصوبٌ ب " آمنتم " هذا الظَّاهر.
قوله :﴿ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ﴾ " وقَدْ كُنتُم " جملةٌ حاليةٌ، قال الزمخشري :" وقد كُنتُم به تَستعجلُون ؛ يعني : تُكذِّبُونَ ؛ لأنَّ استعجالهم كان على جهةِ التَّكذيب، والإنكار ".
فجعله من باب الكناية ؛ لأنَّه دلالةٌ على الشَّيء بلازمه، نحو " هو طويلُ النَّجاد " كنيت به عن طُول قامته ؛ لأنَّ طولَ نجاده لازمٌ لطول قامته، وهو باب بليغٌ.
١ ينظر: المحرر الوجيز ٣/١٢٤، البحر المحيط ٥/١٦٦، الدر المصون ٤/٤١، إتحاف فضلاء البشر ٢/١١٢..
وقوله :﴿ ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ﴾ هذه الجملةُ على قراءة العامَّة ؛ عطفٌ على ذلك الفعل المقدَّر الناصب ل " الآن " وعلى قراءة طلحة هو استئناف إخبار عمَّا يقال لهم يوم القيامة، و " ذُوقُوا " و " هَلْ تُجزَونَ " كلُّه في محلِّ نصبٍ بالقول، وقوله :" إلاَّ بِمَا " هو المفعولُ الثاني ل " تُجْزَون "، والأولُ قائمٌ مقام الفاعلِ، وهو استثناءٌ مفرَّغٌ.

فصل


دلَّت الآية على أنَّ الجزاء يوجب العمل، أمَّا عند الفلاسفة : فهو أثر العمل، وأمَّا عند المعتزلة : فإنَّ العمل الصَّالح يوجب استحقاق الثَّواب على الله - تعالى -، وأما عند أهل السنة ؛ فلأنَّ ذلك الجزاء واجب بحكم الوعد المحض.
قالت المعتزلةُ : ودلَّت الآية على كون العبد مكتسباً، وعند أهل السُّنَّة معناها : أنَّ مجموع القُدْرَة مع الدَّاعية الحاصلة يوجب الفعل.
قوله تعالى: ﴿وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ﴾ الآية.
لمَّا أخبر - تعالى - عن الكفَّار، بأنهم يقولون: ﴿متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ وأجاب عنه بما تقدَّم، حكى عنهم: أنهم رجعُوا إلى الرَّسُول مرَّة أخرى في هذه الواقعة، وسألوه عن ذلك السُّؤال مرَّة أخرى، وقالوا: أحقٌّ هو؟ واعلم: أنهم سالوا أولاً عن زمانِ وقوعه، وههنا سألوا عن تحقُّقه في نفسه، ولهذا اختلف جوابهما.
فأجاب عن الأول، وهو السؤال عن الزمان، بقوله ﴿لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ﴾ [يونس: ٤٩].
وأجاب عن الثاني: بتحققه بالقسم، بقوله ﴿إِي وربي إِنَّهُ لَحَقٌّ﴾ وفائدته أن يستميلهم ويتكلم معهم بالكلام المعتاد؛ لأنَّ الظاهر أنَّ من أخبر عن شيء، وأكَّده بالقسم، فقد أخرجه عن الهَزل إلى الجدِّ، وأيضاً: فإنَّ النَّاس طبقات: فمنهم من لا يُقِرّ بشيءٍ إلاَّ بالبرهان الحقيقيِّ، ومنهم من ينتفع بالأشياء الإقناعيَّة، نحو القسم.
قوله: «أحَقٌّ هُوَ» يجوز أن يكون «حَقٌّ» مبتدأ، و «هو» مرفوعاً بالفاعليَّة سدَّ مسدَّ
351
الخبر، و «حَقَّ» وإن كان في الأصل مصدراً ليس بمعنى اسم فاعل ولا مفعول؛ لكنَّه في قوَّة «ثابت» فلذلك رفع الظَّاهر، ويجوز أن يكون «حقٌّ» خبراً مقدَّماً، و «هو» مبتدأ مؤخراً، واختلف في «يَسْتَنبئُونَك» هذه: هل هي متعدِّيةٌ إلى واحدٍ، أو إلى اثنين، أو إلى ثلاثة؟.
فقال الزمخشري: «ويَسْتنْبِئُونك»، فيقولون: أحقٌّ هو فظاهرُ هذه العبارة أنَّها متعدية لواحدٍ، وأن الجملة الاستفهايمة في محلِّ نصب بذلك القول المضمر المعطوف على «يَسْتنبئُونَك» وكذلك فهم عنه أبو حيَّان، أعني: تعدِّيها لواحدٍ.
وقال مكِّي: «أحقٌّ هو ابتداءٌ وخبرٌ في موضع المفعُولِ الثاني، إذا جعلْتَ» يستنبئونك «بمعنى: يَسْتخْبِرُونكَ، فإذا جعلتَ» يَسْتَنْبِئُونَ «بمعنى: يَسْتعْلِمُونك، كان» أحقٌّ هُوَ «ابتداء وخبراً في موضع المفعولين؛ لأنَّ» أنْبَأ «إذا كان بمعنى: أعلم، وكان متعدِّياً إلى ثلاثةِ مفاعيل، يجوزُ الاكتفاءُ بواحدٍ، ولا يجوز الاكتفاء باثنين دون الثالث، وإذا كانت» أنبأ «بمعنى: أخْبَر، تعدَّت إلى مفعولين، ولا يجوزُ الاكتفاءُ بواحد دون الثاني، وأنبأ ونبَّأ في التعدِّي سواءٌ».
وقال ابن عطيَّة: «معناه: يَسْتخبرونك، وهو على هذا يتعدَّى إلى مفعولين أحدهما الكافُ، والآخرُ في الابتداء والخبر» فعلى ما قال، تكون «يَسْتَنْبِئُونكَ» معلَّقة بالاستفهام، وأصل استنبأ: أن يتعدَّى إلى مقعولين أحدهما ب «عَنْ» تقول: اسْتَنْبَأتُ زيداً عن عمور، أي: طلبت منه أن يُنِْئَني عن عمرو، ثمَّ قال: «والظَّاهر أنَّها تحتاج إلى ثلاثة مفاعيل أحدها الكاف، والابتداء والخبر سدَّ مسدَّ المفعولين».
قال أبو حيَّان: «وليس كما ذكر؛ لأنَّ استعلم لا يحفظ كونها متعدِّيةٌ إلى مفاعيل ثلاثةٍ، لا يحفظ» استعملتُ زيداص عمراً قائماً «فتكون جملةُ الاستفهام سدَّت مسدَّ المفعولين، ولا يلزمُ من كونها بمعنى» يَسْتعْلمونك «أن تتعدَّى إلى ثلاثة؛ لأنَّ» استعْلَم «لا يتعدَّى إلى ثلاثةٍ، كما ذكرنا».
وقد سبق ابن عطية إلى هذا مكِّيٌّ، كما تقدَّم عنه والظاهرُ جوازُ ذلك، ويكون التَّعدِّي إلى ثالثٍ قد حصل بالسِّين؛ لأنَّهم نصُّوا على أنَّ السِّين تعدي، فيكون الأصل: «عَلِمَ زيدٌ عمراً قائماً» ثم تقول: «اسْتعلمْتُ زيداً عمراً قائماً» إلاَّ أنَّ النحويِّين نصُّوا على أنَّه لا يتعدَّى إلى ثلاثةٍ إلاَّ «عَلِمَ» و «رأى» المنقولين بخصوصية همزةِ التعدِّي إلى ثالثٍ، وأنْبَأ، ونَبَّأ، وأخبر، وخبَّر وحدَّث، وقرأ الأعمش: «آلحقُّ» بلام التعريف، قال الزمخشري: «وهو أدخَلُ في الاستهزاء، لتضمُّنه معنى التعريض، فإنه باطلٌ؛ وذلك لأنَّ
352
اللاًَّم للجنس، فكأنه قال: أهُو الحق لا الباطلُ، أو: أو الذي سمَّيتُمُوه الحق» والضمير، أعني: «هو» عائدٌ إمَّا على العذاب، أو على الشَّرع، أو على القرآن، أو على الوعيد، أو على أمر السَّاعة.
قوله: «إي وربِّي» «إي» حرف جوابٍ بمعنى «نعم» ولكنَّها تختصُّ بالقسم، أي: لا تُستعمل إلاَّ في القسم بخلافِ «نعم».
قال الزمخشري: «وإي: بمعنى نعم في القسم خاصةً؛ كما كان» هَلْ «بمعنى» قَدْ «في الاستفهام خاصَّة، وسمِعْتُهُم يقولون في التَّصديق» إيْوَ «فيَصِلُونَه بواو القسم، ولا ينْطِقُون به وحده».
قال أبو حيَّان: «لا حُجَّة فيما سمعه لعدمِ الحُجَّة في كلام من سمعهُ؛ لفسادِ كلامه وكلام من قبله بأزمانٍ كثيرة».
وقال ابن عطيَّة: «هي لفظةٌ تتقدَّم القسم بمعنى: نعم، ويجيءُ بعدها حرفُ القسم وقد لا يجيءُ، تقول: إي وربِّي وإي رَبِّي».
قوله: ﴿وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾ يجوزُ أن تكون الحجازيَّة وأن تكون التميميَّة؛ لخفاء النَّصْبِ، أو الرفع في الخبر.
وهذا عند غير الفارسي، وأتباعه، أعني: جواز زيادة الباء في خبر التميمية، وهذه الجملة تحتمل وجهين:
أحدهما: أن تكون معطوفة على جواب القسم؛ فيكون قد أجاب القسم بجملتين؛ إحداهما: مثبتةٌ مؤكَّدةٌ ب «إنَّ واللاَّم، والأخرى: منفيةٌ مؤكَّدةٌ بزيادة الباءِ.
والثاني: أنَّها مستأنفةٌ، سيقت للإخبار بعجزهم عن التَّعجيز، و»
مُعْجَِز «من أعجز، فهو متعدِّ لواحدٍ، كقوله - تعالى -: ﴿وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً﴾ [الجن: ١٢] فالمعفول هنا محذوفٌ، أي: بمعجزين الله، وقال الزجاج:» أي: أنتم ممَّن يُعْجِزُ من يُعذِّبُكم «، ويجوز أن يكون استعمل استعمال اللازم؛ لأنَّه قد كثر فيه حذفُ المفعول، حتَّى قالت العرب:» أعْجَزَ فلانٌ «إذا ذهب في الأرض فلمْ يُقدر عليه، قال بعض المُفَسِّرين: المعنى: ما أنتم بمُعْجزين، أي: بفَائتينَ من العذاب؛ لأنَّ من عجز عن شيءٍ، فقد فاتهُ.
قوله - تعالى -: ﴿وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأرض﴾ الآية.
أي: أشركت ما في الأرض، ﴿لاَفْتَدَتْ بِهِ﴾ إلاَّ أنَّ ذلك يتعذر؛ لأنه في القيامةِ لا يملك شيئاً؛ لقوله - تعالى -: ﴿وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ القيامة فَرْداً﴾ [مريم: ٩٥] وبتقدير: أن يملك خزائن الأرض لا يقبل منه الفداء؛ لقوله - تعالى -: ﴿وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ﴾ [البقرة: ٤٨]
353
وقوله: «ظَلَمَتْ» في محل جرِّ صفةٍ ل «نَفْسٍ» أي: لكلِّ نفس ظالمة، و «ما فِي الأرض» اسمُ «أنَّ» و «لكلِّ» هو الخبر.
قوله: ﴿لاَفْتَدَتْ بِهِ﴾ :«افتدى» يجوز أن يكون متعدياً، وأن يكون قاصراً، فإذا كان مطاوعاً ل «فَدَى» كان قاصراً، تقول: فَدَيتُهُ فافْتَدَى، ويكُون بمعنى: فَدَى «فيتعدَّى لواحدٍ، والفعلُ هنا يحتملُ الوجهين: فإن جعلناه مُتعدِّياً، فمفعوله محذوفٌ تقديره: لافتدت به نفسها، وهو في المجاز، كقوله: ﴿كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا﴾ [النحل: ١١١].
قوله:»
وَأَسَرُّواْ «قيل:» أسرَّ «من الأضداد، يستعمل بمعنى: أظهر؛ كقول الفرزدق: [الطويل]
٢٩٠٥ - وَلَمَّا رَأَى الحَجَّاجَ جَرَّدَ سَيْفَهُ أَسَرَّ الحَرُورِيُّ الَّذِي كَانَ أَضْمَرَا
وقول الآخر: [الوافر]
٢٩٠٦ - فأسْررتُ النَّدامَةَ يَوْمَ نَادَى بِرَدِّ جمالِ غاضِرَةَ المُنَادِي
ويستعمل بمعنى:»
أخْفَى «وهو المشهورُ في اللُّغةِ، كقوله - تعالى -: ﴿يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ [البقرة: ٧٧]. وهو في الآية يحتمل الوجهين، وقيل إنَّه ماض على بابه قد وقع، وقيل: بمعنى: المستقبل؛ لأنَّها لمَّا كانت واجبة الوقوع جعل مستقبلها كالماضي، وقد أبعد بعضهم، فقال: ﴿وَأَسَرُّواْ الندامة﴾ أي: بدتْ بالنَّدامة أسِرَّةُ وجوههم، أي: تكاسيرُ جباههم. قوله:» لَمَّا رَأَوُاْ «يجوزُ أن تكون حرفاً، وجوابها محذوفٌ لدلالة ما تقدَّم عليه، أو هو المتقدِّم عند من يرى تقديم جواب الشَّرطِ جائزاً، ويجوز أن تكون بمعنى:» حين «والنَّاصبُ لها:» أسَرُّوا «.

فصل


إذا فسرنا الإسْرار بالإخفاء ففيه وجوهٌ:
الأول: أنهم لمَّا رَأوا العذابَ الشَّديد، صارُوا مبهُوتين، لم يطيقُوا بكاء ولا صراخاً سوى إسرار النَّدامة، كمن يذهبُ به ليُصلب، فإنَّه يبقى مبهُوتاً لا ينطق بكلمة.
الثاني: أنَّهم أسرُّوا النَّدامة من سفلتهم، وأتباعهم، حياء منهم، وخوفاً من توبيخهم.
فإن قيل: إنَّ مهابة ذلك الوقت تمنع الإنسان من هذا التَّدبير، فكيف أقدمُوا عليه؟.
فالجواب: أنَّ هذا الكتمان قبل الاحتراق، فإذا احترقوا، تركوا هذا الإخفاء
354
وأظهروه؛ لقوله - تعالى -: ﴿رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا﴾ [المؤمنون: ١٠٦].
الثالث: أنَّهم أسرُّوا النَّدامة؛ لأنَّهم أخلصُوا لله في تلك الندامة، ومن أخلص في الدعاء أسرَّهُ، وفيه تهكُّمٌ بهم وبإخلاصهم، أي: أنَّهم إنَّما أتوا بهذا الإخلاص في غير وقته.
ومن فسَّر الإسرار بالإظهار، فإنَّهم إنَّما أخفُوا النَّدامة على الكفر والفسق في الدُّنيا؛ لأجْلِ حفظ الرِّياسة، وفي القيامة يبطل هذا الغرض؛ فوجب الإظهار.
قوله «وَقُضِيَ» يجوزُ أن يكون مستأنفاً، وهو الظاهر، ويجوز أن يكون معطوفاً على «رَأوْا» فيكون داخلاً في حيَّز «لمَّا» والضَّميرُ في «بينهُم» يعودُ على «كُلِّ نفسٍ» في المعنى، وقال الزمخشري: «بين الظَّالمين والمظلومين، دلَّ على ذلك ذكرُ الظُّلْمِ».
وقيل: يعود على الرؤساء والأتباع، و «بِالقِسْطِ» يجوز أن تكون الباءُ للمصاحبةِ، وأن تكون للآلة، وقوله: «وإليه تُرْجعُون» قدَّم الجارَّ للاختصاص، أي: إليه لا إلى غيره ترجعُون؛ ولأجْل الفواصل، وقرأ العامَّةُ: «تُرجعُون» بالخطاب، وقرأ الحسن، وعيسى بن عمر: «يُرْجعُون» بياء الغيبة.
قوله تعالى: ﴿ألاا إِنَّ للَّهِ مَن فِي السماوات وَمَنْ فِي الأرض﴾ [يونس: ٦٦].
قيل: تعلُّق هذه الآية بما قبلها، هو أنَّه - تعالى - لمَّا قال: ﴿وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأرض لاَفْتَدَتْ بِهِ﴾ قال ههنا: ليس للظَّالم شيء يفتدى به؛ فإنَّ الأشياء كلَّها ملكُ الله.
وقيل: إنَّه - تعالى - لمَّا قال: ﴿وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ﴾ ثم قال لهُ: ﴿قُلْ إِي وربي إِنَّهُ لَحَقٌّ﴾ أتبعهُ بهذا البرهان القاطع على إثبات الإله القادر الحكيم، وهو قوله: ﴿ألاا إِنَّ للَّهِ مَن فِي السماوات وَمَنْ فِي الأرض﴾ [يونس: ٦٦] فدلَّ على أنَّ ما سواه فهو مِلْكُه ومُلْكُه، ولم يذكر الدَّليل على ذلك؛ لأنَّه قد استقصى تقريرهُ في أول السورة، في قوله: ﴿إِنَّ فِي اختلاف الليل والنهار﴾ [يونس: ٦] الآية، وقوله: ﴿هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً والقمر نُوراً﴾ [يونس: ٥] فاكتفى بذكره هناك، وإذا كان الأمر كذلك، كان قادراً على كلِّ المُمْكناتِ، عالماً بكلِّ المعلومات، غنيّاً عن جميع الحاجات، فيكون قادراً على صحَّة الميعاد، وعلى إنزال العذاب على الكُفَّار في الدُّنيا والآخرة، وعلى إيصال الرَّحْمَة للأولياء في الدُّنيا والآخرة، ويكُون قادراً على تأييدِ رسوله بالدَّلائل القاطعة، والمعجزات الباهرة، وكان كل ما وعد به، فهو حقٌّ لا بُدَّ وأن يقع، وأنَّه منزَّهٌ عن الخلف في وعده، فلمَّا أخبر عن نُزول العذاب بهؤلاء الكُفَّار، وبحصول الحشر والنشر، وجب القطع بوقوعه، فثبت بهذا البيان أن قوله: ﴿ألاا إِنَّ للَّهِ مَا فِي السماوات والأرض﴾ يوجب الجزم بصحَّة قوله: ﴿أَلاَ إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ﴾ ثم قال: ﴿ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ أي: غافلُون عن هذه الدَّلائل، ثُمَّ
355
أكد هذا الدليل بقوله: ﴿هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ أي: إنه لمَّا قدر على الإحياء في المرَّة الأولى، فإذا أماته، وجب أن يبقى قادراً على إحيائه ثانياً؛ فظهر أمرهُ لنبيه بأن يقول: ﴿إِي وربي إِنَّهُ لَحَقٌّ﴾.
قوله
356
قوله - تعالى - :﴿ وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأرض ﴾ الآية.
أي : أشركت ما في الأرض، ﴿ لاَفْتَدَتْ بِهِ ﴾ إلاَّ أنَّ ذلك يتعذر ؛ لأنه في القيامةِ لا يملك شيئاً ؛ لقوله - تعالى - :﴿ وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ القيامة فَرْداً ﴾ [ مريم : ٩٥ ] وبتقدير : أن يملك خزائن الأرض لا يقبل منه الفداء ؛ لقوله - تعالى - :﴿ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ ﴾ [ البقرة : ٤٨ ] وقوله :" ظَلَمَتْ " في محل جرِّ صفةٍ ل " نَفْسٍ " أي : لكلِّ نفس ظالمة، و " ما فِي الأرض " اسمُ " أنَّ " و " لكلِّ " هو الخبر.
قوله :﴿ لاَفْتَدَتْ بِهِ ﴾ :" افتدى " يجوز أن يكون متعدياً، وأن يكون قاصراً، فإذا كان مطاوعاً ل " فَدَى " كان قاصراً، تقول : فَدَيتُهُ فافْتَدَى، ويكُون بمعنى : فَدَى " فيتعدَّى لواحدٍ، والفعلُ هنا يحتملُ الوجهين : فإن جعلناه مُتعدِّياً، فمفعوله محذوفٌ تقديره : لافتدت به نفسها، وهو في المجاز، كقوله :﴿ كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا ﴾ [ النحل : ١١١ ].
قوله :" وَأَسَرُّواْ " قيل :" أسرَّ " من الأضداد، يستعمل بمعنى : أظهر ؛ كقول الفرزدق :[ الطويل ]
وَلَمَّا رَأَى الحَجَّاجَ جَرَّدَ سَيْفَهُ أَسَرَّ الحَرُورِيُّ الَّذِي كَانَ أَضْمَرَا١
وقول الآخر :[ الوافر ]
فأسْررتُ النَّدامَةَ يَوْمَ نَادَى بِرَدِّ جمالِ غاضِرَةَ المُنَادِي٢
ويستعمل بمعنى :" أخْفَى " وهو المشهورُ في اللُّغةِ، كقوله - تعالى - :﴿ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ﴾ [ البقرة : ٧٧ ]. وهو في الآية يحتمل الوجهين، وقيل إنَّه ماض على بابه قد وقع، وقيل : بمعنى : المستقبل ؛ لأنَّها لمَّا كانت واجبة الوقوع جعل مستقبلها كالماضي، وقد أبعد بعضهم، فقال :﴿ وَأَسَرُّواْ الندامة ﴾ أي : بدتْ بالنَّدامة أسِرَّةُ وجوههم، أي : تكاسيرُ جباههم. قوله :" لَمَّا رَأَوُاْ " يجوزُ أن تكون حرفاً، وجوابها محذوفٌ لدلالة ما تقدَّم عليه، أو هو المتقدِّم عند من يرى تقديم جواب الشَّرطِ جائزاً، ويجوز أن تكون بمعنى :" حين " والنَّاصبُ لها :" أسَرُّوا ".

فصل


إذا فسرنا الإسْرار بالإخفاء ففيه وجوهٌ :
الأول : أنهم لمَّا رَأوا العذابَ الشَّديد، صارُوا مبهُوتين، لم يطيقُوا بكاء ولا صراخاً سوى إسرار النَّدامة، كمن يذهبُ به ليُصلب، فإنَّه يبقى مبهُوتاً لا ينطق بكلمة.
الثاني : أنَّهم أسرُّوا النَّدامة من سفلتهم، وأتباعهم، حياء منهم، وخوفاً من توبيخهم.
فإن قيل : إنَّ مهابة ذلك الوقت تمنع الإنسان من هذا التَّدبير، فكيف أقدمُوا عليه ؟.
فالجواب : أنَّ هذا الكتمان قبل الاحتراق، فإذا احترقوا، تركوا هذا الإخفاء وأظهروه ؛ لقوله - تعالى - :﴿ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا ﴾ [ المؤمنون : ١٠٦ ].
الثالث : أنَّهم أسرُّوا النَّدامة ؛ لأنَّهم أخلصُوا لله في تلك الندامة، ومن أخلص في الدعاء أسرَّهُ، وفيه تهكُّمٌ بهم وبإخلاصهم، أي : أنَّهم إنَّما أتوا بهذا الإخلاص في غير وقته.
ومن فسَّر الإسرار بالإظهار، فإنَّهم إنَّما أخفُوا النَّدامة على الكفر والفسق في الدُّنيا ؛ لأجْلِ حفظ الرِّياسة، وفي القيامة يبطل هذا الغرض ؛ فوجب الإظهار.
قوله " وَقُضِيَ " يجوزُ أن يكون مستأنفاً، وهو الظاهر، ويجوز أن يكون معطوفاً على " رَأوْا " فيكون داخلاً في حيَّز " لمَّا " والضَّميرُ في " بينهُم " يعودُ على " كُلِّ نفسٍ " في المعنى، وقال الزمخشري :" بين الظَّالمين والمظلومين، دلَّ على ذلك ذكرُ الظُّلْمِ ".
وقيل : يعود على الرؤساء والأتباع، و " بِالقِسْطِ " يجوز أن تكون الباءُ للمصاحبةِ، وأن تكون للآلة، وقوله :" وإليه تُرْجعُون " قدَّم الجارَّ للاختصاص، أي : إليه لا إلى غيره ترجعُون ؛ ولأجْل الفواصل، وقرأ العامَّةُ :" تُرجعُون " بالخطاب، وقرأ الحسن، وعيسى بن عمر٣ :" يُرْجعُون " بياء الغيبة.
١ البيت ليس في ديوان الفرزدق. ينظر: البحر المحيط ٥/١٦٧ واللسان (سرر) والأضداد للأصمعي، والأضداد للأنباري ٣٧ وزاد المسير ٤/٣٩ وشرح القصائد الجاهليات ٤٩ والدر المصون ٤/٤٣..
٢ البيت لكثير عزة. ينظر: ديوانه (٢٢١) والبحر المحيط ٥/١٦٧ والقرطبي ٨/٢٢٥ والدر المصون ٤/٤٣..
٣ ينظر: إتحاف فضلاء البشر ٢/١١٦، المحرر الوجيز ٣/١٢٥، البحر المحيط ٥/١٦٨، الدر المصون ٤/٤٤..
قوله تعالى :﴿ ألا إِنَّ للَّهِ مَن فِي السماوات وَمَنْ فِي الأرض ﴾ [ يونس : ٦٦ ].
قيل : تعلُّق هذه الآية بما قبلها، هو أنَّه - تعالى - لمَّا قال :﴿ وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأرض لاَفْتَدَتْ بِهِ ﴾ قال ههنا : ليس للظَّالم شيء يفتدى به ؛ فإنَّ الأشياء كلَّها ملكُ الله.
وقيل : إنَّه - تعالى - لمَّا قال :﴿ وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ ﴾ ثم قال لهُ :﴿ قُلْ إِي وربي إِنَّهُ لَحَقٌّ ﴾ أتبعهُ بهذا البرهان القاطع على إثبات الإله القادر الحكيم، وهو قوله :﴿ ألا إِنَّ للَّهِ مَن فِي السماوات وَمَنْ فِي الأرض ﴾ [ يونس : ٦٦ ] فدلَّ على أنَّ ما سواه فهو مِلْكُه ومُلْكُه، ولم يذكر الدَّليل على ذلك ؛ لأنَّه قد استقصى تقريرهُ في أول السورة، في قوله :﴿ إِنَّ فِي اختلاف الليل والنهار ﴾ [ يونس : ٦ ] الآية، وقوله :﴿ هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً والقمر نُوراً ﴾ [ يونس : ٥ ] فاكتفى بذكره هناك، وإذا كان الأمر كذلك، كان قادراً على كلِّ المُمْكناتِ، عالماً بكلِّ المعلومات، غنيّاً عن جميع الحاجات، فيكون قادراً على صحَّة الميعاد، وعلى إنزال العذاب على الكُفَّار في الدُّنيا والآخرة، وعلى إيصال الرَّحْمَة للأولياء في الدُّنيا والآخرة، ويكُون قادراً على تأييدِ رسوله بالدَّلائل القاطعة، والمعجزات الباهرة، وكان كل ما وعد به، فهو حقٌّ لا بُدَّ وأن يقع، وأنَّه منزَّهٌ عن الخلف في وعده، فلمَّا أخبر عن نُزول العذاب بهؤلاء الكُفَّار، وبحصول الحشر والنشر، وجب القطع بوقوعه، فثبت بهذا البيان أن قوله :﴿ ألا إِنَّ للَّهِ مَا فِي السماوات والأرض ﴾ يوجب الجزم بصحَّة قوله :﴿ أَلاَ إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ ﴾ ثم قال :﴿ ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ أي : غافلُون عن هذه الدَّلائل، ثُمَّ أكد هذا الدليل بقوله :
﴿ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ أي : إنه لمَّا قدر على الإحياء في المرَّة الأولى، فإذا أماته، وجب أن يبقى قادراً على إحيائه ثانياً ؛ فظهر أمرهُ لنبيه بأن يقول :﴿ إِي وربي إِنَّهُ لَحَقٌّ ﴾.
- تعالى
-: ﴿يا
أيها الناس قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ﴾
الآية.
اعلم: أنَّه - تعالى - لمَّا بيَّن أنَّ الرسول حقٌّ وصدقٌ بظهور المعجزات على يديه، في قوله: ﴿وَمَا كَانَ هذا القرآن أَن يفترى مِن دُونِ الله﴾ [يونس: ٣٧] إلى قوله ﴿إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ [يونس: ٣٨] وصف القرآن هنا بصفاتٍ أربع:
أولها: كونه موعظة.
وثانيها: كوه شفاءً لما في الصُّدُور.
وثالثها: كونه هُدًى.
ورابعها: كونه رحمة للعالمين.
قوله: «مِّن رَّبِّكُمْ» يجوز أن تكون «مِنْ» لابتداء الغاية، فتتعلَّق حينئذٍ ب «جَآءَتْكُمْ»، وابتداءُ الغايةِ مجازٌ، ويجوز أن تكون للتَّبعيض، فتتعلق بمحذوف على أنَّها صفةٌ ل «موعظة» أي: موعظةٌ كائنةٌ من مواعظ ربِّكُم.
وقوله: ﴿مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَآءٌ لِّمَا فِي الصدور وَهُدًى وَرَحْمَةٌ﴾ من باب ما عطف فيه الصِّفات بعضها على بعضٍ، أي: قد جاءتكم موعظةٌ جامعةٌ لهذه الأشياء كلِّها، و «شِفَاءٌ» في الأصل مصدرٌ جعل وصفاً مبالغة، أو هو اسمٌ لما يُشْفَى به، أي: يُداوى، فهو كالدَّواءِ لما يُدَاوى، و «لِمَا في الصُّدورِ» يجوز أن يكون صفةً ل «شِفَاء» فيتعلق بمحذوفٍ، وأن تكون اللامُ زائدةً في المفعول؛ لأنَّ العامل فرعٌ إذا قلنا بأنَّه مصدرٌ.
وقوله: «لِلْمؤمنينَ» محتملٌ لهذين الوجهين، وهو من التَّنازُع؛ لأنَّ كلاًّ من الهُدَى والرحمة يطلبُه.

فصل


أمَّا كون القرآن موعظةً؛ فلاشتماله على المواعظِ والقصص، وكونه شفاءً، أي: دواءً، لجهل ما في الصُّدورِ، أي: شفاء لعمى القُلُوب، والصُّدُور موضعُ القلب، وهو أعز موضع في الإنسان لجواز القلب، قال - تعالى -: ﴿فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي فِي الصدور﴾ [الحج: ٤٦] وكونه هُدًى، أي: من الضَّلالة، ﴿وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ﴾، والرَّحْمَة: هي النعمة على المحتاج؛ فإنَّه لو أهدى ملكٌ إلى ملك شيئاً، فإنَّه لا يقال رحمة وإن كان ذلك نعمة؛ فإنَّه لم يصنعها إلى المحتاج.
356
قوله: ﴿قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ﴾ : في تعلٌُّ هذا الجارِّ أوجهٌ:
أحدها: أنَّ «بِفَضْلِ» و «بِرَحْمتهِ» متعلقٌ بمحذوفٍ، تقديره: بفضل الله وبرحمته ليفرحُوا، فبذلك فليَفْرَحُوا، فحذف الفعل الأول؛ لدلالة الثاني عليه، فهما جملتان.
ويدلُّ على ذلك قول الزمخشري: «أصلُ الكلام: بفَضْلِ الله وبرحمته، فليفرحوا، فبذلك فليفرحوا، والتَّكرير للتَّأكيد، والتَّقرير، وإيجاب اختصاص الفضل والرحمة بالفرح دون ما عداهما من فوائد الدنيا، فحذف أحدُ الفعلين؛ لدلالةِ المذكور عليه، والفاءُ داخلةٌ لمعنى الشَّرطِ، كأنَّه قيل: إن فرحُوا بشيءٍ، فليَخُصُّوهُمَا بالفرح، فإنَّه لا مفروح به أحق منهما».
الثاني: أنَّ الجارَّ الأول متعلِّقٌ أيضاً بمحذوفٍ دلَّ عليه السِّياقُ والمعنى، لا نفس الفعل الملفوظ به، والتقديرُ: بفضل الله وبرحمته، فليعتنُوا، فبذلك فليَفْرَحُوا، قاله الزمخشري.
الثالث: أن يتعلَّق الجارُّ الأوَّل ب «جَاءَتكُم» قال الزمخشري: «ويجوز أن يراد: قد جاءتكم موعظةٌ بفضلِ الله وبرحمتهِ، فبذلك فليفرحوا، أي: فَبِمجِيئهما فليَفْرَحُوا».
قال أبو حيَّان: «أمَّا إضمار» فليَعْتنُوا «فلا دليل عليه». قال شهاب الدِّين: «الدَّلالةُ عليه من السِّياق واضحةٌ، وليس شرطُ الدَّلالةِ أن تكون لفظيَّة».
وقال أبو حيَّان: وأمَّا تعلُّقُه بقوله: «قَدْ جَاءتُكم» فينبغي أن يُقدَّرَ محذوفاً بعد «قُلْ»، ولا يكونهُ متعلِّقاً ب «جَاءَتْكُم» الأولى؛ للفَصْل بينهما ب «قُلْ»، وهذا إيراد واضحٌ، ويجُوزُ أن يكون «بِفَضْلِ اللهِ» صفةً ل «مَوْعِظَة» أي: موعظةٌ مصاحبةٌ، أو ملتبسةٌ بفضل اللهِ.
الرابع: قال الحوفيُّ: «الباءُ متعلِّقةٌ بما دلَّ عليه المعنى، أي: قد جاءتكم الموعظة بفضل الله».
الخامس: أنَّ الفاء الأولى زائدةٌ، وأنَّ قوله: «بذلك» بدلٌ ممَّا قبله، وهو «بِفَضْلِ الله وبرحمتهِ» وأُشير بذلك إلى اثنين؛ كقوله: ﴿لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذلك﴾ [البقرة: ٦٨].
وقوله: [الرمل]
٢٩٠٧ - إنَّ للخَيْرِ وللشَّرِّ مدًى وكِلاَ ذلكَ وجْهٌ وقَبَلْ
وفي هاتين الفاءين أوجهٌ:
أحدها: أنَّ الأولى زائدةٌ، وقد تقدَّم في الوجه الخامس.
357
الثاني: أنَّ الفاء الثانية مكررةٌ للتَّوكيد، فعلى هذا لا تكونُ الأولى زائدةً، ويكون أصل التَّركيب: فبذلك ليفرحوا، وعلى القول الأول قبلهُ يكون أصلُ التَّركيب: بذلك فليَفْرَحُوا.
الثالث: قال أبو البقاء: الفاءُ الأولى مرتبطةٌ بما قبلها، والثانيةُ بفعلٍ محذوفٍ، تقديره: فليَعْجَبُوا بذلك فليَفْرَحُوا؛ كقولهم: زيداً فاضربه، أي: تعمَّد زيداً فاضربه والجمهورُ على «فَلْيَفْرَحُوا» بياء الغيبة.
وقرأ عثمان بن عفان، وأبيُّ، وأنس، والحسن، وأبو جراء، وابن هرمز، وابن سيرين: بتاء الخطاب، وهي قراءةُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، قال الزمخشري: «وهو الأصلُ والقياسُ».
قال أبو حيَّان: «إنَّها لغةٌ قليلة».
يعنى أنَّ القياسَ أن يُؤمَرَ المخاطب بصيغةِ «افعل»، وبهذا الأصل قرأ أبيُّ: «فَافْرَحُوا» وهي في مصحفه كذلك، وهذه قاعدةٌ كُلِّيَّةٌ: وهي أنَّ الأمر باللاَّم يكثر في الغائب، والمخاطب المبنيِّ للمفعول، مثال الأول: «لِيقم زيدٌ» وكالآية الكريمة في قراءة الجمهور، ومثال الثاني: لِتُعْنَ بحاجتي، ولتضرب يا زيد، فإن كان مبنياً للفاعل، كان قليلاً؛ كقراءة عثمان، ومن معه، وفي الحديث: «لتأخُذُوا مصافَّكُم» بل الكثير في هذا النَّوْع الأمرُ بصيغة «افْعَلْ» نحو: قُمْ يا زيد، وقوموا، وكذلك يضعف الأمر باللاَّم للمتكلم وحدهُ، أو معه غيره، فالأول نحو: «لأقُمْ» تأمر نفسك بالقيام، ومنه قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - «قُومُوا فلأصَلَّ لكُم» ومثال الثاني: لِنَقُمْ، أي: نحن، وكذلك النَّهْي؛ ومنه قول الشَّاعر: [الكامل]
٢٩٠٨ - إذَا ما خَرَجْنَا مِنْ «دِمشْقَ» فلا نَعُدْ لهَا أبَداً ما دَامَ فِيهَا الجُرَاضِمُ
ونقل ابنُ عطيَّة، عن ابن عامر: أنَّه قرأ: «فَلتَفْرَحُوا» خطاباً، وهذه ليست مشهورة عنه. وقرأ الحسن، وأبو التياح: «فَليَفْرَحُوا» بكسر اللام، وهو الأصل.
قوله: ﴿هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾ «هو» عائدٌ على الفضل والرَّحْمَةِ، وإن كانا شيئين؛ لأنَّهُمَا بمعنى شيء واحد، عُبِّر عنه بلفظتين على سبيل التأكيد؛ ولذلك أشير إليهما بإشارة واحدةٍ.
وقرأ ابن عامر: «تَجْمَعُون» بتاء الخطاب، وهو يحتمل وجهين:
358
أحدهما: أن يكون من باب الالتفات، فيكون في المعنى كقراءة الجماعة، فإنَّ الضَّمير يُراد من يُرادُ بالضَّمير في قوله: «فَلْيَفْرَحُوا».
والثاني: أنَّه خطاب لقوله: ﴿يا أيها الناس قَدْ جَآءَتْكُمْ﴾ وهذه القراءةُ تناسبُ قراءة الخطاب في قوله «فَلْيَفْرَحُوا» كما نقلها ابنُ عطيَّة عنه أيضاً.

فصل


قال مجاهد وقتادةُ: فضل الله: الإيمان، ورحمته: القرآن. وقال أبو سعيدٍ الخُدريُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: فضل الله: القرآن، ورحمته أن جعلنا من أهله.
وقال ابن عمر: فضلُ الله: الإسلام، ورحمته: تزيينهُ في القلب، وقال خالدُ بن معدان: فضلُ الله: الإسلام، ورحمته: السُّنَن.
وقيل: فضل الله: الإيمان، ورحمته: الجنَّة، ﴿فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ﴾ أي: لِيَفْرَحِ المؤمنون أن جعلهم من أهله، ﴿هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾ أي: خير ممَّا يجمعه الكُفَّار من الأموالِ؛ لأنَّ الآخرة خيرٌ وأبْقَى، وما كان عند الله، فهو أولى بالطَّلب.
359
قوله :﴿ قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ ﴾ : في تعلٌُّ هذا الجارِّ أوجهٌ :
أحدها : أنَّ " بِفَضْلِ " و " بِرَحْمتهِ " متعلقٌ بمحذوفٍ، تقديره : بفضل الله وبرحمته ليفرحُوا، فبذلك فليَفْرَحُوا، فحذف الفعل الأول ؛ لدلالة الثاني عليه، فهما جملتان.
ويدلُّ على ذلك قول الزمخشري :" أصلُ الكلام : بفَضْلِ الله وبرحمته، فليفرحوا، فبذلك فليفرحوا، والتَّكرير للتَّأكيد، والتَّقرير، وإيجاب اختصاص الفضل والرحمة بالفرح دون ما عداهما من فوائد الدنيا، فحذف أحدُ الفعلين ؛ لدلالةِ المذكور عليه، والفاءُ داخلةٌ لمعنى الشَّرطِ، كأنَّه قيل : إن فرحُوا بشيءٍ، فليَخُصُّوهُمَا بالفرح، فإنَّه لا مفروح به أحق منهما ".
الثاني : أنَّ الجارَّ الأول متعلِّقٌ أيضاً بمحذوفٍ دلَّ عليه السِّياقُ والمعنى، لا نفس الفعل الملفوظ به، والتقديرُ : بفضل الله وبرحمته، فليعتنُوا، فبذلك فليَفْرَحُوا، قاله الزمخشري.
الثالث : أن يتعلَّق الجارُّ الأوَّل ب " جَاءَتكُم " قال الزمخشري :" ويجوز أن يراد : قد جاءتكم موعظةٌ بفضلِ الله وبرحمتهِ، فبذلك فليفرحوا، أي : فَبِمجِيئهما فليَفْرَحُوا ".
قال أبو حيَّان١ :" أمَّا إضمار " فليَعْتنُوا " فلا دليل عليه ". قال شهاب الدِّين٢ :" الدَّلالةُ عليه من السِّياق واضحةٌ، وليس شرطُ الدَّلالةِ أن تكون لفظيَّة ".
وقال أبو حيَّان٣ : وأمَّا تعلُّقُه بقوله :" قَدْ جَاءتُكم " فينبغي أن يُقدَّرَ محذوفاً بعد " قُلْ "، ولا يكونهُ متعلِّقاً ب " جَاءَتْكُم " الأولى ؛ للفَصْل بينهما ب " قُلْ "، وهذا إيراد واضحٌ، ويجُوزُ أن يكون " بِفَضْلِ اللهِ " صفةً ل " مَوْعِظَة " أي : موعظةٌ مصاحبةٌ، أو ملتبسةٌ بفضل اللهِ.
الرابع : قال الحوفيُّ :" الباءُ متعلِّقةٌ بما دلَّ عليه المعنى، أي : قد جاءتكم الموعظة بفضل الله ".
الخامس : أنَّ الفاء الأولى زائدةٌ، وأنَّ قوله :" بذلك " بدلٌ ممَّا قبله، وهو " بِفَضْلِ الله وبرحمتهِ " وأُشير بذلك إلى اثنين ؛ كقوله :﴿ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذلك ﴾ [ البقرة : ٦٨ ].
وقوله :[ الرمل ]
إنَّ للخَيْرِ وللشَّرِّ مدًى وكِلاَ ذلكَ وجْهٌ وقَبَلْ٤
وفي هاتين الفاءين أوجهٌ :
أحدها : أنَّ الأولى زائدةٌ، وقد تقدَّم في الوجه الخامس.
الثاني : أنَّ الفاء الثانية مكررةٌ للتَّوكيد، فعلى هذا لا تكونُ الأولى زائدةً، ويكون أصل التَّركيب : فبذلك ليفرحوا، وعلى القول الأول قبلهُ يكون أصلُ التَّركيب : بذلك فليَفْرَحُوا.
الثالث : قال أبو البقاء : الفاءُ الأولى مرتبطةٌ بما قبلها، والثانيةُ بفعلٍ محذوفٍ، تقديره : فليَعْجَبُوا بذلك فليَفْرَحُوا ؛ كقولهم : زيداً فاضربه، أي : تعمَّد زيداً فاضربه والجمهورُ على " فَلْيَفْرَحُوا " بياء الغيبة.
وقرأ عثمان٥ بن عفان، وأبيُّ، وأنس، والحسن، وأبو رجاء، وابن هرمز، وابن سيرين : بتاء الخطاب، وهي قراءةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الزمخشري :" وهو الأصلُ والقياسُ ".
قال أبو حيَّان :" إنَّها لغةٌ قليلة ".
يعنى أنَّ القياسَ أن يُؤمَرَ المخاطب بصيغةِ " افعل "، وبهذا الأصل قرأ أبيُّ٦ :" فَافْرَحُوا " وهي في مصحفه كذلك، وهذه قاعدةٌ كُلِّيَّةٌ : وهي أنَّ الأمر باللاَّم يكثر في الغائب، والمخاطب المبنيِّ للمفعول، مثال الأول :" لِيقم زيدٌ " وكالآية الكريمة في قراءة الجمهور، ومثال الثاني : لِتُعْنَ بحاجتي، ولتضرب يا زيد، فإن كان مبنياً للفاعل، كان قليلاً ؛ كقراءة عثمان، ومن معه، وفي الحديث :" لتأخُذُوا مصافَّكُم " بل الكثير في هذا النَّوْع الأمرُ بصيغة " افْعَلْ " نحو : قُمْ يا زيد، وقوموا، وكذلك يضعف الأمر باللاَّم للمتكلم وحدهُ، أو معه غيره، فالأول نحو :" لأقُمْ " تأمر نفسك بالقيام، ومنه قوله - عليه الصلاة والسلام - " قُومُوا فلأصَلَّ لكُم " ومثال الثاني : لِنَقُمْ، أي : نحن، وكذلك النَّهْي ؛ ومنه قول الشَّاعر :[ الكامل ]
إذَا ما خَرَجْنَا مِنْ " دِمشْقَ " فلا نَعُدْ لهَا أبَداً ما دَامَ فِيهَا الجُرَاضِمُ٧
ونقل ابنُ عطيَّة، عن ابن عامر : أنَّه قرأ٨ :" فَلتَفْرَحُوا " خطاباً، وهذه ليست مشهورة عنه. وقرأ الحسن٩، وأبو التياح :" فَليَفْرَحُوا " بكسر اللام، وهو الأصل.
قوله :﴿ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ " هو " عائدٌ على الفضل والرَّحْمَةِ، وإن كانا شيئين ؛ لأنَّهُمَا بمعنى شيء واحد، عُبِّر عنه بلفظتين على سبيل التأكيد ؛ ولذلك أشير إليهما بإشارة واحدةٍ.
وقرأ ابن١٠ عامر :" تَجْمَعُون " بتاء الخطاب، وهو يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون من باب الالتفات، فيكون في المعنى كقراءة الجماعة، فإنَّ الضَّمير يُراد من يُرادُ بالضَّمير في قوله :" فَلْيَفْرَحُوا ".
والثاني : أنَّه خطاب لقوله :﴿ يا أيها الناس قَدْ جَآءَتْكُمْ ﴾ وهذه القراءةُ تناسبُ قراءة الخطاب في قوله " فَلْيَفْرَحُوا " كما نقلها ابنُ عطيَّة عنه أيضاً.

فصل


قال مجاهد وقتادةُ : فضل الله : الإيمان، ورحمته : القرآن١١. وقال أبو سعيدٍ الخُدريُّ - رضي الله عنه - : فضل الله : القرآن، ورحمته أن جعلنا من أهله١٢.
وقال ابن عمر : فضلُ الله : الإسلام، ورحمته : تزيينهُ في القلب١٣، وقال خالدُ بن معدان : فضلُ الله : الإسلام، ورحمته : السُّنَن١٤.
وقيل : فضل الله : الإيمان، ورحمته : الجنَّة، ﴿ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ ﴾ أي : لِيَفْرَحِ المؤمنون أن جعلهم من أهله، ﴿ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ أي : خير ممَّا يجمعه الكُفَّار من الأموالِ ؛ لأنَّ الآخرة خيرٌ وأبْقَى، وما كان عند الله، فهو أولى بالطَّلب.
١ ينظر: البحر المحيط ٥/١٦٩-١٧٠..
٢ ينظر: الدر المصون ٤/٤٤..
٣ ينظر: البحر المحيط ٥/١٧٠..
٤ تقدم..
٥ ينظر: حجة القراءات لأبي زرعة ص (٣٣٣)، إعراب القراءات ١/٢٦٩، إتحاف فضلاء البشر ٢/١١٦..
٦ ينظر: الكشاف ٢/٣٥٣، المحرر الوجيز ٣/١٢٦، البحر المحيط ٥/١٧٠، الدر المصون ٤/٤٥..
٧ تقدم..
٨ ينظر: الكشاف ٢/٣٥٣، المحرر الوجيز ٣/١٢٦، البحر المحيط ٥/١٧٠، والدر المصون ٤/٤٥..
٩ ينظر: السابق..
١٠ ينظر: السبعة ص (٣٢٧-٣٢٨)، الحجة ٤/٢٨٠، حجة القراءات لأبي زرعة ص (٣٣٣)، إعراب القراءات ١/٢٦٩، إتحاف فضلاء البشر ٢/١١٦..
١١ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٦/٥٦٩) عن ابن عباس ومجاهد وقتادة وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٥٥٤) عن ابن عباس وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي.
وذكره أيضا عن مجاهد (٣/٥٥٤) وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة..

١٢ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٦/٥٦٨) عن أبي سعيد الخدري وابن عباس.
وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٥٥٤) عن ابن عباس وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم والبيهقي.
وله شاهد عن أنس ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٥٥٤) وعزاه إلى أبي الشيخ وابن مردويه.
وذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٣٥٨) عن أبي سعيد الخدري..

١٣ ذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٣٥٨)..
١٤ انظر المصدر السابق..
قوله - تعالى - ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ الله لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ﴾ الآية.
قال ابن الخطيب: ذكر النَّاسُ في تعلُّقِ هذه الآية بما قبلها وجوهاً، ولا أستحسن واحداً منها. والذي يخطر بالبال وجهان:
الأول: أنَّ المقصود من هذا الكلام ذكر طريق ثالث في إثبات النبوة، وذلك أنَّه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - قال للقوم: «إنَّكُم تحكُمُون بحلِّ بعض الأشياء، وحرمة بعضها،
359
فهذا الحكم تقولونه افتراءً على الله، أم تعلمُون أنَّهُ حكمٌ حَكَمَ اللهُ به» ؛ والأول باطلٌ بالاتِّفاق، فلم يبقَ إلاَّ الثَّاني، ومن المعلُوم أنَّه - تعالى - ما خاطبكم به من غير واسطةٍ، ولمَّا بطل هذا، ثبتَ أنَّ هذه الأحكام إنَّما وصلتْ إليكم بقول رسولٍ أرسله الله إليكم، ونبيِّ بعثهُ الله إليكم، وذلك يدلُّ على اعترافكم بصحَّةِ النبوة والرِّسالة، فكيف تُبالغُوا هذه المبالغاتِ العظيمةِ في إنكار النبوة؟.
الوجه الثاني: أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لمَّا ذكر الدَّلائل الكثيرة على صحَّة نبوَّة نفسه، وبيَّن فساد سؤالاتهم، وشبهاتهم في إنكارها، أتبع ذلك ببيان فساد طريقتهم في شرائعهم وأحكامهم، وبيَّن أنَّ التمييز بين هذه الأشياء بالحلِّ والحرمةِ، مع أنَّه لم يشهد بذلك لا عقلٌ ولا نقلٌ، فدل على أنَّه طريق باطلٌ، وأنَّهم ليسُوا على شيءٍ.
قوله: «أَرَأَيْتُمْ» : هذه بمعنى: «أخْبرُوني». وقوله: «ما أنزلَ» يجُوز أن تكُون «مَا» موصولةً بمعنى: «الَّذي»، والعائد محذوفٌ، أي: ما أنزله، وهي في محلِّ نصبٍ مفعولاً أولاً، والثاني هو الجملة من قوله: ﴿ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ﴾ ؟ والعائدُ من هذه الجملة على المفعول الأولِ محذوفٌ، تقديره: آلله أذن لكم فيه؛ واعترض على هذا: بأنَّ قولهُ «قُلْ» يمنع من وقوع الجملة بعده مفعولاً ثانياً.
وأجيب عنه: بأنَّه كُرِّرَ توكيداً، ويجوز أن تكون «مَا» استفهاميَّة منصوبة المحلِّ ب «أنزل» وهي حينئذٍ معلَّقةٌ ل «أرأيْتُم» وإلى هذا ذهب الحوفيُّ، والزمخشريُّ، ويجوز أن تكون «ما» الاستفهاميَّةُ في محلِّ رفع بالابتداء، والجملةُ من قوله: ﴿ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ﴾ خبره، والعائدُ محذوفٌ كما تقدَّم، أي: أذن لكم فيه، وهذه الجملة الاستفهاميةُ معلِّقةٌ ل «أرَأيْتُم»، والظاهرُ من هذه الأوجه هو الأول؛ لأنَّ فيه إبقاءاً ل «أرَأيْتَ» على بابها من تعدِّيها إلى اثنين، وأنَّها مؤثِّرةٌ في أولهما بخلاف جعل «ما» استفهامية، فإنَّها مُعلِّقةٌ ل «أرأيت» وسادَّةٌ مسدَّ المفعولين.
قوله: «مِنْ رزقٍ» : يجوز أن يكون حالاً من الموصولٍ، وأن تكون «مِنْ» : لبيان الجنس، و «أنْزَلَ» على بابها، وهو على حذف مضافٍ، أي: أنزله من سبب رزقٍ وهو المطرُ، وقيل: تُجوِّز بالإنزال علن الخلق، كقوله:
﴿وَأَنزْلْنَا الحديد﴾ [الحديد: ٢٥] ﴿وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ الأنعام﴾ [الزمر: ٦].
قوله: ﴿أَمْ عَلَى الله تَفْتَرُونَ﴾ في «أم» هذه وجهان:
أحدهما: أنها متصلةٌ عاطفةٌ، تقديره: أخبروني: آللهُ أذِنَ لكم في التحليل والتحريم، فإنكم تفعلون ذلك بإذنه، أم تكذبُون على الله في نسبة ذلك إليه.
والثاني: أن تكون منقطعةً.
360
قال الزمخشري: «ويجوز أن تكون الهمزةُ للإنكارِ، و» أمْ «منقطعةٌ بمعنى: بل أتَفْتَرُونَ على الله، تقريراً للافتراء» والظَّاهرُ هو الأولُ؛ إذ المعادلةُ بين الجملتين اللتين بمعنى المفرد واضحةٌ، إذ التقدير: أيُّ الأمرين وقع إذن الله لكم في ذلك، أم افتراؤكم عليه؟.

فصل


المراد بالشَّيء الذي جعلوه حراماً: ما ذكروه من تحريم السائبة، والوصيلة، والحام، وقولهم ﴿هذه أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ﴾ [الأنعام: ١٣٨] ﴿وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الحرث والأنعام نَصِيباً﴾ [الأنعام: ٣٦]، وقولهم: ﴿مَا فِي بُطُونِ هذه الأنعام خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ على أَزْوَاجِنَا﴾ [الأنعام: ١٣٩] وقولهم: ﴿ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مَّنَ الضأن اثنين﴾ [الأنعام: ١٤٣] ويدلُّ على ذلك: أنَّ قوله: ﴿فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً﴾ إشارة إلى أمر تقدَّم منهم، ولمْ يحكِ الله - تعالى - عنهم إلاَّ هذا؛ فوجب توجيه الكلام إليه، ثم لمَّا حكى تعالى ذلك عنهم، قال لرسوله: ﴿قُلْءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى الله تَفْتَرُونَ﴾ وهذه قسمةٌ صحيحةٌ؛ لأنَّ هذه الأحكام: إمَّا أن تكون من الله - تعالى -، أو لم تكن، فإن كانت من الله فهو المراد بقوله: ﴿ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ﴾ وإنْ كانت ليست من الله، فهو المراد بقوله: ﴿أَمْ عَلَى الله تَفْتَرُونَ﴾.

فصل


استدلَّ نفاةُ القياس بهذه الآية على بُطلان القياس.
قال القرطبيُّ: «وهو بعيدٌ؛ لأنَّ القياس دليلُ قول الله - تعالى -؛ فيكون التَّحْليل والتَّحريم من الله - تعالى -، عند وجود دلالة نصبها الله تعالى على الحكم، فإن خالف في كون القياس دليلاً لله - تعالى -، فهو خروجٌ عن هذا الغرض، ورجوعٌ إلى غيره».
قوله: ﴿وَمَا ظَنُّ الذين يَفْتَرُونَ﴾ :«ما» مبتدأة استفهامية، و «ظَنَّ» خبرها، و «يَوْمَط منصوبٌ بنفس الظنِّ، والمصدر مضافٌ لفاعله، ومفعولا الظن محذوفان، والمعنى: وأيُّ شيءٍ يظُنُّ الذين يفترون يوم القيامة أنِّي فاعلٌ بهم: أأنجيهم من العذاب، أم أنتقمُ منهم؟ وقيل: أيحْسَبُون أنَّ الله لا يؤاخذهم به، ولا يعاقبهم عليه، والمراد منه: تعظيم وعيد من يفتري، وقرأ عيسى بن عمر:» وما طَنَّ الذين «جعله فعلاً ماضياً، والموصولُ فاعله، و» ما «على هذه القراءة استفهاميَّة أيضاً في محلِّ نصب على المصدر، وقُدِّمتْ لأنَّ الاستفهام لهُ صدرُ الكلام، والتقدير: أيَّ ظنَّ المفترون، و» مَا «الاستفهاميَّةُ قد تنُوبُ عن المصدرِ؛ ومنه قول الشاعر: [البسيط]
361
وتقول:» ما تَضْرب زَيْداً «، تريد: أيَّ ضربٍ تضربه، قال الزمخشريُّ:» أتى به فعلاً ماضياً؛ لأنَّه واقعٌ لا محالة، فكأنَّهُ قد وقع وانقضى «. وهذا لا يستقيم هنا؛ لأنَّه صار نصّاً في الاستقبال لعمله في الظرف المستقبل، وهو يومُ القيامة، وإن كان بلفظ الماضي، ثم قال: ﴿إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس﴾ بإعطاء العقل، وإرسال الرُّسُل، ﴿ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ﴾ لا يستعملُون العقل في تأمل دلائل الله، ولا يقبلون دعوة أنبياءِ الله، ولا ينتفعُون باستماع كلام الله.
362
قوله :﴿ وَمَا ظَنُّ الذين يَفْتَرُونَ ﴾ :" ما " مبتدأة استفهامية، و " ظَنَّ " خبرها، و " يَوْمَ " منصوبٌ بنفس الظنِّ، والمصدر مضافٌ لفاعله، ومفعولا الظن محذوفان، والمعنى : وأيُّ شيءٍ يظُنُّ الذين يفترون يوم القيامة أنِّي فاعلٌ بهم : أأنجيهم من العذاب، أم أنتقمُ منهم ؟ وقيل : أيحْسَبُون أنَّ الله لا يؤاخذهم به، ولا يعاقبهم عليه، والمراد منه : تعظيم وعيد من يفتري، وقرأ عيسى بن١ عمر :" وما ظَنَّ الذين " جعله فعلاً ماضياً، والموصولُ فاعله، و " ما " على هذه القراءة استفهاميَّة أيضاً في محلِّ نصب على المصدر، وقُدِّمتْ لأنَّ الاستفهام لهُ صدرُ الكلام، والتقدير : أيَّ ظنَّ ظَنَّ المفترون، و " مَا " الاستفهاميَّةُ قد تنُوبُ عن المصدرِ ؛ ومنه قول الشاعر :[ البسيط ]
٢٩٠٩ - مَاذَا يَغِيرُ ابْنَتَيْ رَبْعٍ عوِيلُهُمَا لا تَرْقُدان ولا بُؤسى لِمَنْ رَقَدَا
مَاذَا يَغِيرُ ابْنَتَيْ رَبْعٍ عوِيلُهُمَا لا تَرْقُدان ولا بُؤسى لِمَنْ رَقَدَا٢
وتقول :" ما تَضْرب زَيْداً "، تريد : أيَّ ضربٍ تضربه، قال الزمخشريُّ :" أتى به فعلاً ماضياً ؛ لأنَّه واقعٌ لا محالة، فكأنَّهُ قد وقع وانقضى ". وهذا لا يستقيم هنا ؛ لأنَّه صار نصّاً في الاستقبال لعمله في الظرف المستقبل، وهو يومُ القيامة، وإن كان بلفظ الماضي، ثم قال :﴿ إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس ﴾ بإعطاء العقل، وإرسال الرُّسُل، ﴿ ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ ﴾ لا يستعملُون العقل في تأمل دلائل الله، ولا يقبلون دعوة أنبياءِ الله، ولا ينتفعُون باستماع كلام الله.
١ ينظر: الكشاف ٢/٣٥٤، البحر المحيط ٥/١٧١، الدر المصون ٤/٤٧..
٢ تقدم..
قوله: ﴿وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ﴾ الآية.
لمَّا أورد الدلائل على فساد مذاهب الكُفَّار، وأمر الرسول بالجواب عن شبهاتهم، وتحمُّل أذاهُم، والرِّفْقِ بهم، ذكر هذا الكلام ليحصل به تمامُ السُّرور للمُطيعين، وتمامُ الخوف للمذنبين، وهو كونه تعالى عالماً بعمل كل واحدٍ، وما في قلبه من الدَّواعي والصَّوارف.
قوله: ﴿وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ﴾ «ما» نافية في الموضعين؛ ولذلك عطف بإعادة «ما» النَّافية، وأوجب ب «إلا» بعد الأفعال؛ لكونها منفيةٌ، و «فِي شَأنٍ» خبر «تكُون» والضميرُ في «منه» عائدٌ على «شأن» و «مِن قُرآنٍ» تفسيرٌ للضَّمير، وخُصَّ من العموم؛ لأنَّ القرآنَ هو أعظمُ شئونه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ وقيل: يعود على التنزيل، وفُسِّر بالقرآن؛ لأنَّ كلَّ جزء منه قرآن، وقال أبو البقاء: «من الشَّأن» أي: مِنْ أجْلِهِ، و «مِنْ قُرآن» مفعول «تَتْلُوا» و «مِنْ» زائدةٌ. يعنى: أنَّها زيدتْ في المفعول به، و «مِنْ» الأولى جارَّةٌ للمفعول من أجله، تقديره: وما تتلُو من أجل الشَّأنِ قُرآناً، وزيدَتْ لأنَّ الكلامَ غير موجبٍ، والمجرور نكرةٌ.
وقال مكِّي: «منه» الهاء عند الفرَّاء تعُود على الشَّأن على تقدير حذف مضافٍ، تقديره: وما تتلو من أجْلِ الشَّأنِ، أي: يحدثُ لك شأنٌ، فتتلُوا القرآن من أجله.
والشَّأنُ: مصدر شَأنَ يَشْأنُ شأنَهُ، أي: قصد يَقْصِدُ قَصْدَهُ، وأصله الهمز، ويجوز تخفيفه، والشأن أيضاً: الأمرُ، ويجمعُ على شئون، والشأنُ: الحال، تقول العرب: ما شأن فلان؟ أي: ما حاله، قال الأخفش: وتقول العرب: ما شأنْتُ شأنهُ، أي: ما عملت
362
عمله، قال ابن عبَّاس: وما تكونُ يا محمَّدُ في شأن، أي: في عملٍ من أعمالِ البِرِّ، وقال الحسن: في شأن من شأن الدُّنْيَا.
قوله: ﴿وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ﴾ هذا خطابٌ للنبي وأمَّتِهِ، وخُصَّ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالخطاب أوَّلاً، ثم عُمِّمَ الخطاب مع الكلِّ؛ لأنَّ تخصيصهُ وإن كان في الظَّاهر مُخْتَصّاً بالرسول، إلاَّ أنَّ الأمَّة داخلُون فيه؛ لأنَّ رئيس القوم إذا خُوطب دخل قومُهُ في ذلك الخطاب؛ كقوله: ﴿يا أيها النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ﴾ [الطلاق: ١].
قوله: «إِلاَّ كُنَّا» هذه الجملةُ حاليةٌ، وهو استثناء مفرَّغ، ووليَ «إلا» هنا الفعلُ الماضي دون «قَدْ» لأنَّه قد تقدَّمها فعلٌ، وهو مُجَوِّزٌ لذلك، وقوله: «إذْ» هذا الظرفُ معمول ل «شُهُوداً» ولمَّا كانت الأفعالُ السَّابقةُ المرادُ بها الحالةُ الدَّائمةُ، وتنسحبُ على الأفعالِ الماضيةِ، كان الظَّرفُ ماضياً، وكان المعنى: وما كنت، وما تكون، وما عملتم، إلاَّ كُنَّا عليكم شُهُوداً، إلاَّ أفضتُم فيه، و «إذا» تُخَلِّصُ المضارع لمعنى الماضي، ومعنى «تُفِيضُونَ» أي: تدخلون فيه وتفيضون، والإفاضة: الدُّخُول في العملِ، يقال: أفاض القوم في الحديث؛ إذا اندفعُوا فيه، وقد أفَاضُوا من عرفة؛ إذا دفعوا منها بكثرتهم.
فإن قيل: «إذ» ههنا بمعنى: «حين»، فيصير التقدير: إلاَّ كُنَّا عليكم شُهُوداً حين تفيضون فيه، وشهادة الله - تعالى - عبارة عن علمه؛ فيلزم منه أنَّه - تعالى - ما علم الأشياءَ إلاَّ عند وجودها، وذلك باطلٌ.
فالجواب: أنَّ هذا السُّؤال بناءً على أن شهادة الله عبارةٌ عن علمه، وهذا ممنوعٌ؛ فإنَّ الشهادة لا تكون إلاَّ عند المشهود عليه، أمَّا العلم فلا يمتنع تقدُّمه على الشَّيءِ، ويدلُّ على ذلك أنَّ الرسول لو أخبرنا عن زيدٍ أنَّهُ يأكل غداً، كنا من قبل حُصُول تلك الحالةِ عالمين بها، ولا نُوصفُ بكوننا شاهدين بها.
قوله - تعالى -: ﴿وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ﴾ قرأ الكسائيُّ هنا، وفي سبأ [سبأ ٣] :«يَعْزِب» بكسر الزَّاي، والباقون بضمها، وهما لغتان في مضارع «عَزَبَ»، يقال: عَزَب يَعْزِب ويَعْزُب. أي: غَابَ حَتَّى خَفِي، ومنه الروض العازبُ؛ قال أبو تمام: [الطويل]
٢٩١٠ - وقَلْقلَ نأيٌ مِنْ خُراسانَ جَأشهَا... فقُلْتُ: اطمئنِّي، أنْضَرُ الرَّوضِ عازبُهْ
وقيل للغائب عن أهله: «عازِب»، حتَّى قالوا لِمَنْ لا زوج له: عازب. وقال الرَّاغب: «العازِبُ: المُتباعدُ في طلب الكلأ، ويقال: رجل عزبٌ وامرأة عزبةٌ، وعزبَ
363
عنه حلمه، أي: غاب، وقوم مُعزَّبُون، أي: عَزبتْ عنهم إبلُهُم» وفي الحديث: «مَنْ قرأ القرآن في أربعين يوماً، فقد عزَّب»، أي: فقد بعُد عهدُه بالختمة، وقال قريباً منه الهرويُّ، فإنَّه قال: «أي: بعد عهده بما ابتدأ منه، وأبْطَأ في تلاوته، وفي حديث أم معبد:» والشَّاءُ عازبٌ حيال «.
قال: والعَازِبُ: البعيدُ الذهابِ في المَرْعَى، والحَائِلُ: التي ضربها الفَحْلُ، فلمْ تَحْمل لِجُدوبَةِ السَّنة، وفي الحديث أيضاً:»
أصْبَحْنَا بأرضٍ عزوبَةٍ صَحْراءَ «، أي: بعيدةِ المرعى. ويقال للمالِ الغائب: عازِب، وللحاضر: عاهن، والمعنى في الآية: وما يَبْعُد، أو ما يَخْفَى، أو ما يغيبُ عن ربِّك.
و»
مِن مِّثْقَالِ «فاعل، و» مِنْ «: مزيدةٌ فيه، أي: ما يبعد عنه مثقالُ، والمثقالُ هنا: اسمٌ لا صفةٌ، والمعنيُّ به الوزنُ، أي: وزن ذرَّة، ومثقال الشَّيءِ: ما يُساويهِ في الثِّقل، والمعنى: ما يساوي ذرَّة، والذرُّ: صغارُ النَّملِ واحدها ذرَّة، وهي تكون خفيفة الوزن جدَّاً.
فإن قيل: لِمَ قدَّم الله ذكر الأرض هنا على ذكر السماء، مع أنَّهُ قال في سبأ: ﴿لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض﴾ [سبأ: ٣] ؟
فالجواب: حقُّ السَّماءِ أن تقدَّم على الأرض، إلاَّ أنه - تعالى - لمَّا ذكر في هذه الآية شهادته على أحوال أهل الأرض وأعمالهم، ثم وصل بذلك قوله: لا يعزُب عنه؛ ناسب أن تقدم الأرض على السَّماء في هذا الموضع.
قوله: ﴿وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذلك ولاا أَكْبَرَ﴾ قرأ حمزة: برفع راء «أصغر»
و «أكبر»، والباقون: بفتحها.
فأما الفتحُ ففيه وجهان:
أحدهما: - وعليه أكثر المعربين - أنَّهُ جرٌّ، وإنما كان بالفتحةِ؛ لأنَّه لا ينصرف للوزن والوصف، والجرُّ لأجْلِ عطفه على المجرور، وهو: إمَّا «مِثْقَالُ»، أو «ذَرَّةٍ».
وأمَّا الوجه الثاني: فهو أنَّ «لا» نافيةٌ للجنس، و «أصْغَرَ» و «أكْبَرَ» اسمها، فهما مبنيَّان على الفتح.
وأمَّا الرَّفْعُ فمن وجهين:
أشهرهما عند المعربين: العطفُ على محلِّ «مثقال» إذ هو مرفوعٌ بالفاعليَّة، و «مِنْ» مزيدة فيه؛ كقولك: «مَا قَامَ مِنْ رجُلٍ ولا امرأةٍ» بجرِّ «امرأة» ورفعها.
364
والثاني: أنَّهُ مبتدأ، قال الزمخشري: والوجهُ النَّصْبُ على نفي الجنس، والرَّفعُ على الابتداء ليكون كلاماً برأسه، وفي العطف على محلِّ «مثقالُ ذرَّةٍ»، أو على لفظ «مِثقال ذرَّةٍ» فتحاً في موضع الجرِّ؛ لامتناع الصَّرف إشكالٌ؛ لأنَّ قولك: «لا يعزُب عنه شيءٌ إلاَّ في كتاب» مشكل؛ لأنَّه يلزم منه أن يكون ذلك الشيء الذي في الكتاب خارجاً عن علم الله، ويصير التقدير: إلا في كتاب مبينٍ فيعزبُ، وهو باطلٌ، وهذان الوجهان اختيار الزَّجَّاج.
وقد يزول هذا الإشكالُ بما ذكره أبو البقاءِ: وهو أن يكون «إلاَّ في كتابٍ» استثناءً منقطعاً، قال: «إلاَّ في كتابٍ؛ أي: إلاَّ هو في كتابٍ، والاستثناءُ منقطع».
قال ابن الخطيب: «أجاب بعضُ المحقِّقين من وجهين:
أحدهما: أن الاستثناء منقطع.
والآخر: أن العُزُوب عبارةٌ عن مطلق البعد، والمخلوقات قسمان:
أحدهما: قسمٌ أوجده الله ابتداءً من غير واسطةٍ، كالملائكةِ، والسمواتِ، والأرضِ.
وقسمُ أوجدهُ بواسطةِ القسم الأوَّلِ، مثل الحوادث الحادثة في عالم الكون والفساد، وهذا قد يتباعدُ في سلسلة العلِّية والمعلُوليَّة عن مرتبة وجود واجب الوجود، فالمعنى: لا يبعد عن مرتبة وجوده مثقالُ ذرَّة في الأرض، ولا في السماء، إلا وهو في كتاب مبين كتبه الله، وأثبت فيه صور تلك المعلومات»
.
قال شهاب الدين: «فقد آل الأمرُ إلى أنَّهُ جعله استثناء مفرَّغاً، وهو حالٌ من» أصْغَرَ «و» أكبر «، وهو في قوَّة الاستثناء المتَّصل، ولا يقال في هذا: إنَّه متَّصلٌ ولا منقطع إذ المُفرَّغُ لا يقال فيه ذلك.
وقال الجرجانيُّ:»
إلاَّ «بمعنى:» الواو «، والتقدير:» وما يعزُب عن ربِّك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السَّماء ولا أصْغر من ذلك ولا أكبر «وههنا تمَّ الكلام وانقطع، ثم ابتدأ بقوله: ﴿إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾ أي: وهو في كتاب مبين، والعربُ تضعُ» إلاًَّ «موضع واو النَّسق؛ كقوله:
﴿إِلاَّ مَن ظُلِمَ﴾ [النساء: ١٤٨] ﴿إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ﴾ [البقرة: ١٥٠]. وهذا الذي قاله الجرجانيُّ ضعيفٌ جداً، وقد تقدَّم الكلامُ في هذه المسألة في البقرة، وأنَّهُ شيءٌ قال به الأخفش، ولم يثبُتْ ذلك بدليلٍ صحيح.
وقال أبو شامة: ويزيل الإشكال أن تُقدَّر قبل قوله: «إلاَّ في كتاب»
«ليس شيء من ذلك إلاَّ في كتاب» وكذا تقدر في آية الأنعام [الأنعام: ٥٩].
ولم يقرأ في سبأ إلا بالرفع، وهو يقوي قول من يقول: إنَّه معطوفٌ على «مِثْقَال»،
365
ويُبَيِّنه أن «مثال» فيها بالرَّفع؛ إذ ليس قبله حرفُ جرٍّ. وقد تقدَّم الكلامُ على نظير هذه المسألة في سورة الأنعام، في قوله: ﴿وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ﴾ [الأنعام: ٥٩] إلى قوله: ﴿إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾ [الأنعام: ٥٩] وأنَّ صاحب النَّظم الجرجانيَّ أحال الكلام فيها على الكلامِ في هذه السورة، وأنَّ أبا البقاء قال: «لوْ جعَلْنَاهُ كذا، لفسد المعنى». وتقدَّم بيانُ فساده، والجواب عنه هناك، فالتفت إيله [الأنعام: ٥٩].
قوله: ﴿ألاا إِنَّ أَوْلِيَآءَ الله﴾ الآية.
اختلفوا فيمن يستحقُّ هذا الاسم.
فقال بعضهم: هم الذين ذكرهم اللهُ في كتابه، بقوله ﴿الذين آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ﴾.
وقال قوم: هم المتحابُّون في الله، لما روى أبو مالك الأشعري، قال: كنتُ عند النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: «إنَّ للهِ عباداً ليْسُوا بأنبياء ولا شهداء، يغبطُهُم النبيون والشُّهداء بقربهم ومقعدهم من الله يوم القيامةِ»، قال: وفي ناحية المسجدِ أعربي، فجثا على ركبتيه، ورمى بيديه، ثم قال: حدِّثنا يا رسول الله عنهم، قال: فرأيتُ في وجهِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ البشر؛ فقال: «هُم عبادٌ من عبادِ اللهِ، من بلدانٍ شتَّى، وقبائل شتَّى لَمْ يكُنْ بينهُمْ أرحامٌ يتواصلون بها، ولا دُنْيَا يتباذلُون بها، يتحابُّون برُوحِ اللهِ، يجعل الله وجُوههُم نُوراً، ويجعل لهم منابر من لؤلؤٍ قدَّام الرحمن، يفزع الناسُ ولا يفزعُون، ويخافُ النَّاسُ ولا يخافُون».
قال أبو بكر الأصم: أولياء الله: هم الذين تولَّى الله هدايتهم بالبرهان وتولَّوُا القيامَ بحق العُبُوديَّةِ لله، والدَّعوة إليه.
واعلم: أنَّ تركيب الواو، واللاَّم، والياءِ يدل على معنى القرب، فوليُّ كلِّ شيء هو الذي كون قريباً منه، والقُرْب من الله - تعالى - بالمكان والجهة محالٌ؛ فالقرب منه إنَّما يكونُ، إذا كان القلبُ مُسْتَغْرقاً في نُور معرفة الله - تعالى -، فإنْ رأى، رأى دلائلَ قُدْرَةِ الله، وإن سمع، سمع آيات الله، وإن نطقَ، نطقَ بالثناء على الله، وإن تحرَّك، تحرَّك في خدمة الله، وإن اجتهد، اجتهد في طاعةِ الله، فهنالك يكون في غاية القرب من الله؛ فحينئذ يكون وليّاً.
قوله تعالى: ﴿الذين آمَنُواْ﴾ في محلِّه أوجهٌ:
أحدها: أنَّه مرفوعٌ خبر مبتدأ مضمر، أي: هم الذي آمنوا، أو خبر ثان ل «إنَّ» ن أو مبتدأ، والخبر الجملةُ منق وله: ﴿لَهُمُ البشرى﴾، أو على النَّعْت على موضع «أوْليَاء»
366
لأنَّ موضعه رفعٌ بالابتداء قبل دخول «إنَّ»، أو بدل من الموضع أيضاً، ذكرهما مكِّي، وهذان الوجهان على مذهب الكوفيين؛ لأنَّهم يجرُون التَّوابع كلَّها مجرى عطف النَّسق في اعتبار المحلِّ.
وقيل: محله الجرُّ بدلاً من الهاءِ، والميم في «عليهم».
وقيل: منصوبُ المحلِّ نعتاً ل «أولياء»، أو بدلاً منهم على اللفظِ، أو على إضمار فعلٍ لائقٍ وهو «أمدحُ»، فقد تحصَّل فيه تسعةُ أوجهٍ: الرفعُ من خمسة، والجرُّ من وجه واحد، والنَّصبُ من ثلاثة، وإذا لم تجعل الجملة من قوله: «لهُمُ البُشْرَى» خبراً ل «الَّذين» جاز فيها الاستئنافُ، وأن تكون خبراً ثانياً ل «إنَّ» أو ثالثاً.
قوله: ﴿لَهُمُ البشرى﴾ روى عبادة بن الصَّامت، قال: سألتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن قوله - تعالى -: ﴿لَهُمُ البشرى فِي الحياة الدنيا وَفِي الآخرة﴾ قال: هي الرُّؤيا الصَّالحةُ، يراها المسلمُ أو تُرى لهُ. وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «الرُّؤيا الصَّالحة جزءٌ من ستَّةٍ وأربعين جزءاً من النُّبوَّةِ.»
وقيل: البُشْرَى في الدُّنيا هي: الثَّناءُ الحسن، وفي الآخرة: الجنَّة؛ لما روى أبو ذرٍّ، قال: قلت يا رسُول الله: الرَّجل يعمل لنفسه، ويحبُّه الناس، قال: تلك عاجلُ بُشْرَى المؤمِن. وقال الزهريُّ، وقتادة: هي نزول الملائكة بالبشارة من الله - تعالى عند
367
الموت، قال - تعالى -: ﴿تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملائكة أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بالجنة﴾ [فصلت: ٣٠]. وروى عطاء نحوه، عن ابن عباسٍ.
وقال الحسن: هي ما بشَّر الله المؤمنين في كتابه من جنَّته، وكريم ثوابه، كقوله: ﴿وَبَشِّرِ الذين آمَنُواْ﴾ [البقرة: ٢٥] ﴿وَبَشِّرِ المؤمنين﴾ [البقرة: ٢٢٣] ﴿وَأَبْشِرُواْ بالجنة﴾ [فصلت: ٣٠].
وقيل: بشَّرهم في الدُّنيا بالكتاب والرسُول أنهم أولياء الله، وبشَّرهم في القبور، وفي كتب أعمالهم بالجنَّة.
قوله: ﴿فِي الحياة الدنيا﴾ : يجوز فيه وجهان:
أظهرهما: أنَّه متعلقٌ بالبشرى، أي: البشرى تقع في الدُّنيا، كما فُسِّرت بالرُّؤيا الصَّالحة.
والثاني: أنَّها حالٌ من «البُشْرَى» فتتعلق بمحذوف، والعاملُ في الحال الاستقرارُ في «لهم» لوقوعه خبراً.
قوله: «لا تبْديلَ» جملةٌ مستأنفةٌ، أي: لا تغيير لقوله، ولا خلف لوعده.
وقوله: «ذَلِكَ» إشارةٌ للبُشْرَى، وإن كانت مؤنَّثةً؛ لأنَّها في معنى التَّبشير، وقال ابن عطيَّة: إشارةٌ إلى النَّعيم، وقال الزمخشري: «ذَلِكَ إشارةٌ إلى كونهم مُبشِّرين في الدَّارين».
قوله: ﴿وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ﴾ وههنا تمَّ الكلام، واعلم أنَّ الله لمَّا حكى عن الكُفار شبهاتهم المتقدمة، وأجاب عنها عدلُوا إلى طريقٍ آخر، وهو أنَّهُم هدَّدُوه، وخوَّفُوه بأنهم أصحاب أموالٍ وأتباع؛ فنسعى في قهرك، وفي إبطالِ أمرك، فأجاب - تعالى - عن هذا الطريق بقوله: ﴿وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ﴾.
فإن قيل: كيف آمنهُ من ذلك، ولم يزل خائفاً حتى هاجر، ثم بعد ذلك يخاف حالاً بعد حالٍ.
فالجواب: أنَّ الله وعدهُ بالنَّصر والظَّفر مطلقاً، والوقت ما كان معيَّناً، فهو في كُلِّ وقت كان يخاف من أن لا يكون هذا الوقتُ المعيَّنُ ذلك الوقت؛ فحينئذٍ يحصل الانكسارُ في هذا الوقت، وقوله: «قَوْلهُم» قيل: حذفت صفته؛ لفهم المعنى، إذا التقدير: ولا يحزنك قولهم
368
الدَّال على تكذيبك، وحذف الصِّفة، وإبقاء الموصوف قليلٌ، بخلاف عكسه.
وقيل: بل هو عامٌّ أريد به الخاصُّ.
ثم ابتدأ فقال: ﴿إِنَّ العزة للَّهِ﴾ العامَّةُ على كسر «إنَّ»، استئنافاً، وهو مُشْعِرٌ بالعلِّيَّة.
وقيل: هو جوابُ سؤال مقدَّر؛ كأنَّ قائلاً قال: لِمَ لا يُحْزِنُه قولهم، وهو ممَّا يُحْزِن؟ فأجيب بقوله: ﴿إِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً﴾، ليس لهم منها شيءٌ، فكيف تبالي بقولهم؟
والوقف على قوله: «قولهم» ينبغي أن يُعتمد، ثم يبتدأ بقوله: «إنَّ العزَّة» وإن كان من المستحيل أن يتوهَّم أحَدٌ أنَّ هذا من مقولهم، إلاَّ من لا يعتبرُ بفهمه، وقرأ أبو حيوة «أنَّ العزَّة» بفتح «أنَّ» وفيها تخريجان:
أحدهما: أنَّها على حذف لام العلَّة، أي: لا يحزنك قولهم؛ لأجل أنَّ العزة لله جميعاً.
الثاني: أنَّ «إنَّ» وما في حيِّزها بدلٌ من «قولهم» كأنَّه قيل: ولا يحزُنك أنَّ العزَّة لله، وكيف يظهرُ هذا التَّوجيهُ، أو يجوز القولُ به، وكيف ينهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن ذلك في المعنى، وهو لمْ يتعاطَ شيئاً من تلك الأسباب؟ وأيضاً؛ فمنْ أيِّ قبيلٍ الإبدالُ هذا؟ قال الزمخشريُّ: «ومنْ جعله بدلاً من» قولهم «ثم أنكره، فالمنكر هو تخريجه، لا ما أنكره من القراءة به». يعني: أنَّ إنكارهُ للقراءة منكرٌ؛ لأنَّ معناها صحيحٌ على ما ذكر من التَّعليل، وإنَّما المنكر هذا التَّخريجُ، وقد أنكر جماعةٌ هذه القراءة، ونسبُوها للغلط ولأكثر منه.
قال القاضي: «فتحُها شاذٌّ يقاربُ الكفر، وإذا كسرت كان استئنافاً، وهذا يدلُّ على فضيلة علم الإعراب».
وقال ابن قتيبة: لا يجوز فتح «إنَّ» في هذا الموضع وهو كفرٌ وغلوٌّ.
قال أبو حيَّان: وإنَّما قالا ذلك بناءً منهما على أنَّ «أنَّ» معمولةٌ ل «قولهم».
قال شهاب الدين كيف تكون معمولة ل «قَوْلهُم» وهي واجبةُ الكسر بعد القول إذا حكيت به، فكيف يتوهَّم ذلك؟ وكما لا يتوهَّم هذا المعنى مع كسرها، لا يتوهَّم أيضاً مع فتحها ما دام له وجهٌ صحيحٌ.
و «جَمِيعاً» حالٌ من العِزَّة، ويجوز أن يكون توكيداً ولمْ يُؤنَّثْ بالتَّاء؛ لأنَّ فعيلاً يستوي فيه المذكر والمؤنَّثُ، لشبهه بالمصادر، وقد تقدَّم تحريره في قوله: ﴿إِنَّ رَحْمَةَ الله قَرِيبٌ مِّنَ المحسنين﴾ [الأعراف: ٥٦].
369
قوله :﴿ ألا إِنَّ أَوْلِيَآءَ الله ﴾ الآية.
اختلفوا فيمن يستحقُّ هذا الاسم.
فقال بعضهم : هم الذين ذكرهم اللهُ في كتابه، بقوله ﴿ الذين آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ ﴾.
وقال قوم : هم المتحابُّون في الله، لما روى أبو مالك الأشعري، قال : كنتُ عند النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال :" إنَّ للهِ عباداً ليْسُوا بأنبياء ولا شهداء، يغبطُهُم النبيون والشُّهداء بقربهم ومقعدهم من الله يوم القيامةِ "، قال : وفي ناحية المسجدِ أعرابي، فجثا على ركبتيه، ورمى بيديه، ثم قال : حدِّثنا يا رسول الله عنهم، قال : فرأيتُ في وجهِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم البشر ؛ فقال :" هُم عبادٌ من عبادِ اللهِ، من بلدانٍ شتَّى، وقبائل شتَّى لَمْ يكُنْ بينهُمْ أرحامٌ يتواصلون بها، ولا دُنْيَا يتباذلُون بها، يتحابُّون برُوحِ اللهِ، يجعل الله وجُوههُم نُوراً، ويجعل لهم منابر من لؤلؤٍ قدَّام الرحمن، يفزع الناسُ ولا يفزعُون، ويخافُ النَّاسُ ولا يخافُون " ١.
قال أبو بكر الأصم : أولياء الله : هم الذين تولَّى الله هدايتهم بالبرهان وتولَّوُا القيامَ بحق العُبُوديَّةِ لله، والدَّعوة إليه.
واعلم : أنَّ تركيب الواو، واللاَّم، والياءِ يدل على معنى القرب، فوليُّ كلِّ شيء هو الذي كون قريباً منه، والقُرْب من الله - تعالى - بالمكان والجهة محالٌ ؛ فالقرب منه إنَّما يكونُ، إذا كان القلبُ مُسْتَغْرقاً في نُور معرفة الله - تعالى -، فإنْ رأى، رأى دلائلَ قُدْرَةِ الله، وإن سمع، سمع آيات الله، وإن نطقَ، نطقَ بالثناء على الله، وإن تحرَّك، تحرَّك في خدمة الله، وإن اجتهد، اجتهد في طاعةِ الله، فهنالك يكون في غاية القرب من الله ؛ فحينئذ يكون وليّاً.
١ أخرجه أحمد (٥/٢٣١، ٣٤٣)، والطبراني في "الكير" (٣/٣٢٩) والبغوي في شرح السنة (٦/٤٥٦) وابن المبارك في "الزهد" (٢٤٨) من طريق شهر بن حوشب عن أبي مالك الأشعري.
وذكره الهيثمي في "المجمع" (١٠/٢٧٩) وقال: رواه أحمد والطبراني بنحوه ورجاله وثقوا..

قوله تعالى :﴿ الذين آمَنُواْ ﴾ في محلِّه أوجهٌ :
أحدها : أنَّه مرفوعٌ خبر مبتدأ مضمر، أي : هم الذي آمنوا، أو خبر ثان ل " إنَّ "، أو مبتدأ، والخبر الجملةُ من قوله :﴿ لَهُمُ البشرى ﴾، أو على النَّعْت على موضع " أوْليَاء " لأنَّ موضعه رفعٌ بالابتداء قبل دخول " إنَّ "، أو بدل من الموضع أيضاً، ذكرهما مكِّي، وهذان الوجهان على مذهب الكوفيين ؛ لأنَّهم يجرُون التَّوابع كلَّها مجرى عطف النَّسق في اعتبار المحلِّ.
وقيل : محله الجرُّ بدلاً من الهاءِ، والميم في " عليهم ".
وقيل : منصوبُ المحلِّ نعتاً ل " أولياء "، أو بدلاً منهم على اللفظِ، أو على إضمار فعلٍ لائقٍ وهو " أمدحُ "، فقد تحصَّل فيه تسعةُ أوجهٍ : الرفعُ من خمسة، والجرُّ من وجه واحد، والنَّصبُ من ثلاثة، وإذا لم تجعل الجملة من قوله :" لهُمُ البُشْرَى " خبراً ل " الَّذين " جاز فيها الاستئنافُ، وأن تكون خبراً ثانياً ل " إنَّ " أو ثالثاً.
قوله :﴿ لَهُمُ البشرى ﴾ روى عبادة بن الصَّامت، قال : سألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله - تعالى - :﴿ لَهُمُ البشرى فِي الحياة الدنيا وَفِي الآخرة ﴾ قال : هي الرُّؤيا الصَّالحةُ، يراها المسلمُ أو تُرى لهُ١.
وروى أبو هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" لم يبق من النبوة إلا المبشرات " قالوا : وما المبشرات ؟ قال :" الرؤيا الصالحة " ٢.
وقال - عليه الصلاة والسلام - :" الرُّؤيا الصَّالحة جزءٌ من ستَّةٍ وأربعين جزءاً من النُّبوَّةِ٣. "
وقيل : البُشْرَى في الدُّنيا هي : الثَّناءُ الحسن، وفي الآخرة : الجنَّة ؛ لما روى أبو ذرٍّ، قال : قلت يا رسُول الله : الرَّجل يعمل لنفسه، ويحبُّه الناس، قال : تلك عاجلُ بُشْرَى المؤمِن٤. وقال الزهريُّ، وقتادة : هي نزول الملائكة بالبشارة من الله - تعالى عند الموت، قال - تعالى - :﴿ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملائكة أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بالجنة ﴾٥ [ فصلت : ٣٠ ]. وروى عطاء نحوه، عن ابن عباسٍ.
وقال الحسن : هي ما بشَّر الله المؤمنين في كتابه من جنَّته، وكريم ثوابه، كقوله :﴿ وَبَشِّرِ الذين آمَنُواْ ﴾ [ البقرة : ٢٥ ] ﴿ وَبَشِّرِ المؤمنين ﴾ [ البقرة : ٢٢٣ ] ﴿ وَأَبْشِرُواْ بالجنة ﴾٦ [ فصلت : ٣٠ ].
وقيل : بشَّرهم في الدُّنيا بالكتاب والرسُول أنهم أولياء الله، وبشَّرهم في القبور، وفي كتب أعمالهم بالجنَّة.
قوله :﴿ فِي الحياة الدنيا ﴾ : يجوز فيه وجهان :
أظهرهما : أنَّه متعلقٌ بالبشرى، أي : البشرى تقع في الدُّنيا، كما فُسِّرت بالرُّؤيا الصَّالحة.
والثاني : أنَّها حالٌ من " البُشْرَى " فتتعلق بمحذوف، والعاملُ في الحال الاستقرارُ في " لهم " لوقوعه خبراً.
قوله :" لا تبْديلَ " جملةٌ مستأنفةٌ، أي : لا تغيير لقوله، ولا خلف لوعده.
وقوله :" ذَلِكَ " إشارةٌ للبُشْرَى، وإن كانت مؤنَّثةً ؛ لأنَّها في معنى التَّبشير، وقال ابن عطيَّة : إشارةٌ إلى النَّعيم، وقال الزمخشري٧ :" ذَلِكَ إشارةٌ إلى كونهم مُبشِّرين في الدَّارين ".
١ أخرجه الترمذي (٤/٤٦٣) كتاب الرؤيا: باب قوله: لهم البشرى في الحياة الدنيا... حديث (٢٢٧٥) وابن ماجه (٣٨٩٨) والحاكم (٤/٣٩١) وأحمد (٥/٣١٥) والدارمي (٢/١٢٣) عن عبادة بن الصامت وقال الترمذي: هذا حديث حسن.
وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٥٥٩) وزاد نسبته إلى الطيالسي والهيثم بن كليب والحكيم الترمذي وابن المنذر والطبري وأبي الشيخ وابن مردويه..

٢ أخرجه البخاري ١٢/٣٧٥، في التعبير: باب المبشرات (٦٩٩٠)، والبيهقي في السنن الكبرى ٢/٨٨ وذكره السيوطي في "الدر المنثور"..
٣ أخرجه مالك في الموطأ ٢/٩٥٦، في الرؤيا: باب ما جاء في الرؤيا (١) وأخرجه البخاري ١٢/٣٦١، في كتاب التعبير: باب الرؤيا الصالحة (٦٩٨٣)، ومسلم ٤/١٧٧٤ في كتاب الرؤيا: باب عقب حديث (٧/٢٢٦٤)، ومن رواية أبي هريرة البخاري في كتاب التعبير باب الرؤيا الصالحة (٦٩٨٨)، ومسلم ٤/١٧٧٤ في كتاب الرؤيا: (٨/٢٢٦٣) ومن رواية عبادة بن الصامت رضي الله عنه البخاري (٦٩٨٧)، ومسلم (٧/٢٢٦٤) ومن رواية أبي سعيد الخدري البخاري (٦٩٨٩)..
٤ أخرجه مسلم ٤/٢٠٣٤، كتاب البر والصلة: باب إذا أثني على الصالح (١٦٦-٢٦٤٢) وابن ماجه ٢/١٤١٢، كتاب الزهد: باب في الثناء الحسن (٤٢٢٥)..
٥ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٦/٥٨١) عن الزهري وقتادة وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٥٦٢) وعزاه إلى عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم عنهما.
وذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٣٦٠)..

٦ ذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٣٦٠)..
٧ ينظر: الكشاف ٢/٣٥٧..
قوله :﴿ وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ ﴾ وههنا تمَّ الكلام، واعلم أنَّ الله لمَّا حكى عن الكُفار شبهاتهم المتقدمة، وأجاب عنها عدلُوا إلى طريقٍ آخر، وهو أنَّهُم هدَّدُوه، وخوَّفُوه بأنهم أصحاب أموالٍ وأتباع ؛ فنسعى في قهرك، وفي إبطالِ أمرك، فأجاب - تعالى - عن هذا الطريق بقوله :﴿ وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ ﴾.
فإن قيل : كيف آمنهُ من ذلك، ولم يزل خائفاً حتى هاجر، ثم بعد ذلك يخاف حالاً بعد حالٍ.
فالجواب : أنَّ الله وعدهُ بالنَّصر والظَّفر مطلقاً، والوقت ما كان معيَّناً، فهو في كُلِّ وقت كان يخاف من أن لا يكون هذا الوقتُ المعيَّنُ ذلك الوقت ؛ فحينئذٍ يحصل الانكسارُ في هذا الوقت، وقوله :" قَوْلهُم " قيل : حذفت صفته ؛ لفهم المعنى، إذا التقدير : ولا يحزنك قولهم الدَّال على تكذيبك، وحذف الصِّفة، وإبقاء الموصوف قليلٌ، بخلاف عكسه.
وقيل : بل هو عامٌّ أريد به الخاصُّ.
ثم ابتدأ فقال :﴿ إِنَّ العزة للَّهِ ﴾ العامَّةُ على كسر " إنَّ "، استئنافاً، وهو مُشْعِرٌ بالعلِّيَّة.
وقيل : هو جوابُ سؤال مقدَّر ؛ كأنَّ قائلاً قال : لِمَ لا يُحْزِنُه قولهم، وهو ممَّا يُحْزِن ؟ فأجيب بقوله :﴿ إِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً ﴾، ليس لهم منها شيءٌ، فكيف تبالي بقولهم ؟
والوقف على قوله :" قولهم " ينبغي أن يُعتمد، ثم يبتدأ بقوله :" إنَّ العزَّة " وإن كان من المستحيل أن يتوهَّم أحَدٌ أنَّ هذا من مقولهم، إلاَّ من لا يعتبرُ بفهمه، وقرأ أبو١ حيوة " أنَّ العزَّة " بفتح " أنَّ " وفيها تخريجان :
أحدهما : أنَّها على حذف لام العلَّة، أي : لا يحزنك قولهم ؛ لأجل أنَّ العزة لله جميعاً.
الثاني : أنَّ " إنَّ " وما في حيِّزها بدلٌ من " قولهم " كأنَّه قيل : ولا يحزُنك أنَّ العزَّة لله، وكيف يظهرُ هذا التَّوجيهُ، أو يجوز القولُ به، وكيف ينهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك في المعنى، وهو لمْ يتعاطَ شيئاً من تلك الأسباب ؟ وأيضاً ؛ فمنْ أيِّ قبيلٍ الإبدالُ هذا ؟ قال الزمخشريُّ :" ومنْ جعله بدلاً من " قولهم " ثم أنكره، فالمنكر هو تخريجه، لا ما أنكره من القراءة به ". يعني : أنَّ إنكارهُ للقراءة منكرٌ ؛ لأنَّ معناها صحيحٌ على ما ذكر من التَّعليل، وإنَّما المنكر هذا التَّخريجُ، وقد أنكر جماعةٌ هذه القراءة، ونسبُوها للغلط ولأكثر منه.
قال القاضي :" فتحُها شاذٌّ يقاربُ الكفر، وإذا كسرت كان استئنافاً، وهذا يدلُّ على فضيلة علم الإعراب ".
وقال ابن قتيبة : لا يجوز فتح " إنَّ " في هذا الموضع وهو كفرٌ وغلوٌّ.
قال أبو حيَّان : وإنَّما قالا ذلك بناءً منهما على أنَّ " أنَّ " معمولةٌ ل " قولهم ".
قال شهاب الدين كيف تكون معمولة ل " قَوْلهُم " وهي واجبةُ الكسر بعد القول إذا حكيت به، فكيف يتوهَّم ذلك ؟ وكما لا يتوهَّم هذا المعنى مع كسرها، لا يتوهَّم أيضاً مع فتحها ما دام له وجهٌ صحيحٌ.
و " جَمِيعاً " حالٌ من العِزَّة، ويجوز أن يكون توكيداً ولمْ يُؤنَّثْ بالتَّاء ؛ لأنَّ فعيلاً يستوي فيه المذكر والمؤنَّثُ، لشبهه بالمصادر، وقد تقدَّم تحريره في قوله :﴿ إِنَّ رَحْمَةَ الله قَرِيبٌ مِّنَ المحسنين ﴾ [ الأعراف : ٥٦ ].

فصل


قيل : المعنى : إنَّ جميع العزَّة والقدرة لله - تعالى -، يعطي ما يشاء لعباده، والغرضُ منه : أنه لا يعطي الكفَّار قدرة عليه، بل يعطيه القدرة عليهم حتى يكون هو أعز منهم، ونظيره :﴿ كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي ﴾ [ المجادلة : ٢١ ] ﴿ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا ﴾ [ غافر : ٥١ ].
قال الأصمُّ : المراد : أن المشركين يتعزَّزُون بكثرة خدمهم وأموالهم، ويخوفونك بها، وتلك الأشياء كلها لله - تعالى -، فهو - تعالى - قادرٌ على أن يسلب منهم كل تلك الأشياء، وينصرك، وينقل أموالهم وديارهم إليك.
فإن قيل : قوله :﴿ إِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً ﴾ كالمُضادَّة لقوله :﴿ وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [ المنافقون : ٨ ].
فالجواب : لا مضادَّة ؛ لأنَّ عزَّة الرسول والمؤمنين كلها بالله، فهي لله.
﴿ هُوَ السميع العليم ﴾ أي : يسمع ما يقولون، ويعلمُ ما يعزمون، فيُكافئهم على ذلك.
١ ينظر: الكشاف ٢/٣٥٧، المحرر الوجيز ٣/١٢٩، البحر المحيط ٥/١٧٤، الدر المصون ٤/٥٠..

فصل


قيل: المعنى: إنَّ جميع العزَّة والقدرة لله - تعالى -، يعطي ما يشاء لعباده، والغرضُ منه: أنه لا يعطي الكفَّار قدرة عليه، بل يعطيه القدرة عليهم حتى يكون هو أعز منهم، ونظيره: ﴿كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي﴾ [المجادلة: ٢١] ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا﴾ [غافر: ٥١].
قال الأصمُّ: المراد: أن المشركين يتعزَّزُون بكثرة خدمهم وأموالهم، ويخوفونك بها، وتلك الأشياء كلها لله - تعالى -، فهو - تعالى - قادرٌ على أن يسلب منهم كل تلك الأشياء، وينصرك، وينقل أموالهم وديارهم إليك.
فإن قيل: قوله: ﴿إِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً﴾ كالمُضادَّة لقوله: ﴿وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [المنافقون: ٨].
فالجواب: لا مضادَّة؛ لأنَّ عزَّة الرسول والمؤمنين كلها بالله، فهي لله.
﴿هُوَ السميع العليم﴾ أي: يسمع ما يقولون، ويعلمُ ما يعزمون، فيُكافئهم على ذلك.
قوله
تعالى
: ﴿ألاا
إِنَّ للَّهِ مَن فِي السماوات وَمَنْ فِي الأرض﴾
الآية.
لمَّا ذكر في الآية المتقدمة: ﴿ألاا إِنَّ للَّهِ مَا فِي السماوات والأرض﴾ [يونس: ٥٥] دل على أنَّ كلَّ ما لا يعقلُ، فهو مُلْكٌ لله - تعالى -، ومِلْكٌ لهُ، وههنا أتى بكلمة «مِنْ» وهي مختصَّة بالعقلاء؛ فدلَّ على أنَّ كلَّ العقلاء داخلون تحت ملك الله وملكه، فدلَّ مجموعُ الآيتين على أنَّ الكُلَّ مُلْكُه ومِلْكُه. وقيل: المراد ب «من في السَّمواتِ» : العقلاء المُمَيَّزُون، وهم الملائكة والثقلان، وخصَّهم بالذِّكر؛ ليدل على أن هؤلاء إذا كانوا له وفي ملكه، فالجمادات أولى بهذه العُبُوديَّة، فيكون ذلك قدحاً في جعل الأصنام شُركاء لله - تعالى -، فيكون ذلك من بابِ التنبيه بالأعلى على الأدنى، ويجوز أن يراد العموم، وغلب العاقل على غيره.
قوله: «وَمَا يَتَّبِعُ» يجوز في «ما» هذه أن تكون نافية، وهو الظاهر، و «شُرَكَاء» مفعولُ «
370
يتَّبعُ» ومفعول «يَدْعُون» محذوفٌ لفهم المعنى، والتقدير: وما يتَّبعُ الذين يدعُون من دُون اللهِ آلهةً شُركَاءَ، فآلهة: مفعول «يَدْعُونَ» و «شركاء» : مفعول «يتبع»، وهو قول الزَّمخشريّ.
قال: «ومعنى وما يتَّبعون شركاء: وما يتَّبعون حقيقة الشُّركاء، وإن كانُوا يُسَمُّونها شركاء؛ لأنَّ شركة الله في الربوبية محال، إن يتَّبعُون إلاَّ ظنَّهم أنهم شركاءُ ثم قال:» ويجوز أن تكون «ما» استفهاماً، يعني: وأيَّ شيءٍ يتَّبعون، و «شركاء» على هذا نصب ب «يَدْعُونَ»، وعلى الأوَّل ب «يتَّبع» وكان حقُّه: «وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء شركاء» فاقتصر على أحدهما للدلالة «. وهذا الذي ذكرهُ الزمخشريُّ قد ردَّه مكِّي وأبو البقاء.
أما مكي، فقال: انتصب»
شركاء «ب» يَدْعُون «ومفعول» يتَّبع «قام مقامه ﴿إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن﴾ لأنَّهُ هو، ولا ينتصبُ الشُّركاء ب» يتَّبع «لأنَّك تنفي عنهم ذلك، والله قد أخبر عنهم بذلك.
وقال أبو البقاء:»
وشركاء مفعولُ «يَدْعُونَ» ولا يجوزُ أن يكون مفعُول «يتَّبعون» لأنَّ المعنى يصير إلى أنَّهم لم يتَّبعوا شركاء، وليس كذلك «.
قال شهاب الدِّين:»
معنى كلامهما: أنَّه يئول المعنى إلى نفي اتِّباعهم الشركاء، والواقع أنَّهُم قد اتَّبَعُوا الشركاء «. وجوابه ما تقدَّم من أنَّ المعنى: أنهم وإن اتَّبعُوا شركاء، فليْسُوا بشركاءَ في الحقيقةِ، بل في تسميتهم هم لهم بذلك، فكأنَّهم لم يتَّخذوا شركاء، ولا اتبعوهم لسلب الصِّفة الحقيقيَّة عنهم، ومثله قولك:» ما رأيتُ رجلاً «، أي: مَنْ يستحقُّ أن يسمَّى رجلاً، وإن كنت قد رأيت الذَّكر من بني آدم، ويجوز أن تكون» ما «استفهاميَّة، وتكون حينئذٍ منصوبةً بما بعدها، وقد تقدَّم قولُ الزمخشري في ذلك.
وقال مكِّي: لو جعلت «ما» استفهاماً بمعنى: الإنكار والتَّوبيخ، كانت اسماً في موضع نصبٍ ب «يتَّبع».
وقال أبو البقاء نحوه. ويجوز أن تكون «ما» موصولة بمعنى «الذي» نسقاً على «مَنْ» في قوله: ﴿ألاا إِنَّ للَّهِ مَن فِي السماوات﴾.
قال الزمخشري: ويجوز أن تكون «ما» موصولة معطوفة على «مَنْ» كأنَّهُ قيل: ولله ما يتَّبعه الذين يدعُون من دون الله شركاء، أي: وله شركاؤهُم.
ويجوز أن تكون «ما» هذه الموصولة في محلِّ رفع بالابتداء، والخبرُ محذوفٌ تقديره: والذي يتَّبعه المشركون باطلٌ، فهذه أربعة أوجهٍ.
وقرأ السلمي: «تَدعُون» بالخطاب، وعزاها الزمخشريُّ لعليّ بن أبي طالب.
371
قال ابنُ عطيَّة: وهي قراءةٌ غيرُ متَّجهة.
قال شهاب الدِّين: قد ذكر توجيهها الزمخشريُّ، فقال: ووجهه أن يحمل «وما يتَّبع» على الاستفهام، أي: وأيُّ شيء يتَّبع الذين تدعُونهُم شركاء من الملائكة والنبيين، يعني: أنَّهم يتَّبعُون الله - تعالى - ويطيعُونه، فما لكم لا تفعلُون مثل فعلهم؛ كقوله: ﴿أولئك الذين يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبِّهِمُ الوسيلة أَيُّهُمْ أَقْرَبُ﴾ [الإسراء: ٥٧].
قوله: «إن يتَّبِعُون» «إنْ» نافية، و «الظَّن» مفعولٌ به، فهو استثناءٌ مفرَّغ، ومفعولُ الظَّن محذوفٌ، تقديره: إن يتَّبعُون إلاَّ الظَّنَّ أنَّهُم شركاءُ، وعند الكوفيين: تكون «أل» عوضاً من الضمير، تقديره: إن يتَّبعُون إلاَّ ظنَّهُم أنهم شركاءُ، والأحسنُ أن لا يقدر للظَّنِّ معمولٌ؛ إذ المعنى: إن يتبعون إلا الظن، لا اليقين.
وقوله: «إن يتَّبعُون» من قرأ «يَدْعُون» بياء الغيبة، فقد جاء ب «يتَّبِعُونَ» مطابقاً له، ومن رأ «تَدْعُونَ» بالخطاب، فيكون «يتَّبِعُون» : التفاتاً؛ إذ هو خروجٌ من خطابٍ إلى غيبة، والمعنى: إن يتَّبِعُون إلاَّ ظنونهم الباطلة، ﴿وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ﴾ : يكذبون، وقد تقدَّم في الأنعام.
قوله تعالى: ﴿هُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ الليل﴾ الآية.
لمَّا ذكر أنَّ العزة لله جميعاً، احتجَّ عليه بهذه الآية، وانظر إلى فصاحتهم، حيث حذف من كل جملةٍ ما ثبت في الأخرى؛ وذلك أنَّه ذكر علَّة جعل الليل لنا، وهي قوله: «لِتَسْكُنُوا» وحذفها من جعل النهار، وذكر صفة النَّهار، وهي قوله: «مُبْصِراً» وحذفها من الليل، لدلالة المقابل عليه، والتقدير: هو الذي جعل لكم الليل مُظْلماً لتسْكُنُوا فيه، والنهار مُبْصِراً لتتحرَّكُوا فيه لمعاشكم، فحذف «مُظْلماً» لدلالة «مُبْصِراً» عليه، وحذف «لتتحرَّكُوا» لدلالة «لتسكنوا» وهذا أفصحُ كلامٍ.
وقوله: «مُبْصِراً» أسند الإبصارَ إلى الظَّرف مجازاً كقولهم: «نهارُهُ صائم، وليله قائم ونائم».
قال: [الطويل]
٢٩١١ -............................... ونِمْتُ وما لَيْلُ المطِيِّ بِنَائِمِ
372
وقال قطرب: يقال: أظلم اللَّيْلُ: صار ذا ظلمة، وأضاء النَّهار: صار ذا ضياء؛ فيكون هذا من باب النسب؛ كقولهم: لابنُ وتامرٌ، وقوله - تعالى -: ﴿عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ﴾ [الحاقة: ٢١]، إلاَّ أنَّ ذلك إنما جاء في الثلاثيِّ، وفي «فعَّال» بالتضعيف عند بعضهم في قوله - تعالى -: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ﴾ [فصلت: ٤٦] في أحد الأوجه.
ثم قال: ﴿إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ﴾ أي: يتدبَّرُون ما يسمعُون، ويعتَبِرُون.
فإن قيل: قوله: ﴿جَعَلَ لَكُمُ الليل لِتَسْكُنُواْ فِيهِ﴾ يدل على أنَّه - تعالى - ما جعلهُ إلا لهذا الوجه، وقوله ﴿إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ﴾ يدلُّ على أنَّه - تعالى - أراد بتخليقِ الليل والنهار أنواعاً كثيرة من الدلائل.
فالجواب: أن قوله - تعالى -: «لِتسكُنوا» لا يدلُّ على أنَّه لا حكمة فيه إلاَّ ذلك، بل ذلك يقتضي حصول تلك الحكمة.
قوله تعالى: ﴿قَالُواْ اتخذ الله وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الغني﴾ الآية.
هذا نوع آخر من أباطيلهم التي حكاها الله عنهم، «قالوا» يعني المشركين: الملائكة بنات الله، وقيل: قولهم: الأوثان أولاد الله، ويحتمل أن يكون قد كان فيهم قومٌ من النصارى قالوا ذلك، ثم استنكر هذا القول، فقال بعده: ﴿هُوَ الغني لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض﴾ فكونه - تعالى - غنيّاً مالكاً لكلِّ ما في السموات والأرض، يدلُّ على أنه سبحانه يستحيل أن يكون لهُ ولد، وبيانه من وجوه:
الأول: أنَّه لو كان محتاجاً، لافتقر إلى صانعٍ آخر، وهو محال، وكل من كان غنيّاً فلا بد أن يكون فرداً منزَّهاً عن الأعضاء والأبعاض، ومن كان كذلك يمتنع أن ينفصل عنه جزءٌ من أجزائه، والولد عبارةٌ عن انفصال جزء من أجزاء الإنسان، ثم يتولَّد من ذلك الجزء مثله، وإذا كان هذا محالاً، ثبت أنَّ كونه - تعالى - غنيّاً يمنع من ثُبُوت الولد لهُ.
الثاني: أن من كان غنيّاً، كان قديماً أزليّاً باقياً سرمديّاً، وكل من كان كذلك امتنع عليه الانقراض، والولدُ إنما يحصل للشَّيءِ الذي ينقضي وينقرض، فيكون ولده قائماً مقامه؛ فثبت أنَّ كونه - تعالى - غنيّاً، يدل على أنه يمتنع أن يكون له ولد.
الثالث: أنَّ كلَّ من كان غنيّاً يمتنع أن يكون موصوفاً بالشهوة واللذة، وإذا امتنع ذلك، امتنع أن يكون له صاحبةٌ وولد. وباقي الوجوه يطول ذكرها. ثم قال: ﴿لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض﴾ وهذا نظيرُ قوله: ﴿إِن كُلُّ مَن فِي السماوات والأرض إِلاَّ آتِي الرحمن عَبْداً﴾
[مريم: ٩٣] ولمَّا بيَّن بالدليل الواضح امتناع ما أضافُوا إليه، عطف عليهم بالإنكار والتوبيخ، فقال: ﴿إِنْ عِندَكُمْ مِّن سُلْطَانٍ﴾ :«إنْ» نافية و «عندكُم» يجوز أن يكون خبراً مقدَّماً، و «مِنْ سلطانٍ» مبتدأ مُؤخَّراً، ويجوز أن يكون «من سلطان» مرفوعاً بالفاعليَّة بالظرف قبله؛ لاعتماده على النفي، و «مِنْ» مزيدةٌ على كلا التقديرين، وبهذا يجوز أن يتعلق ب «سُلْطان» لأنَّه بمعنى الحُجَّة والبرهان، وأن يتعلَّق بمحذوف صفة له؛ فيحكم
373
قوله تعالى :﴿ هُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ الليل ﴾ الآية.
لمَّا ذكر أنَّ العزة لله جميعاً، احتجَّ عليه بهذه الآية، وانظر إلى فصاحتهم، حيث حذف من كل جملةٍ ما ثبت في الأخرى ؛ وذلك أنَّه ذكر علَّة جعل الليل لنا، وهي قوله :" لِتَسْكُنُوا " وحذفها من جعل النهار، وذكر صفة النَّهار، وهي قوله :" مُبْصِراً " وحذفها من الليل، لدلالة المقابل عليه، والتقدير : هو الذي جعل لكم الليل مُظْلماً لتسْكُنُوا فيه، والنهار مُبْصِراً لتتحرَّكُوا فيه لمعاشكم، فحذف " مُظْلماً " لدلالة " مُبْصِراً " عليه، وحذف " لتتحرَّكُوا " لدلالة " لتسكنوا " وهذا أفصحُ كلامٍ.
وقوله :" مُبْصِراً " أسند الإبصارَ إلى الظَّرف مجازاً كقولهم :" نهارُهُ صائم، وليله قائم ونائم ".
قال :[ الطويل ]
. . . *** ونِمْتُ وما لَيْلُ المطِيِّ بِنَائِمِ١
وقال قطرب : يقال : أظلم اللَّيْلُ : صار ذا ظلمة، وأضاء النَّهار : صار ذا ضياء ؛ فيكون هذا من باب النسب ؛ كقولهم : لابنُ وتامرٌ، وقوله - تعالى - :﴿ عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ ﴾ [ الحاقة : ٢١ ]، إلاَّ أنَّ ذلك إنما جاء في الثلاثيِّ، وفي " فعَّال " بالتضعيف عند بعضهم في قوله - تعالى - :﴿ وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ ﴾ [ فصلت : ٤٦ ] في أحد الأوجه.
ثم قال :﴿ إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ﴾ أي : يتدبَّرُون ما يسمعُون، ويعتَبِرُون.
فإن قيل : قوله :﴿ جَعَلَ لَكُمُ الليل لِتَسْكُنُواْ فِيهِ ﴾ يدل على أنَّه - تعالى - ما جعلهُ إلا لهذا الوجه، وقوله ﴿ إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ ﴾ يدلُّ على أنَّه - تعالى - أراد بتخليقِ الليل والنهار أنواعاً كثيرة من الدلائل.
فالجواب : أن قوله - تعالى - :" لِتسكُنوا " لا يدلُّ على أنَّه لا حكمة فيه إلاَّ ذلك، بل ذلك يقتضي حصول تلك الحكمة.
١ عجز بيت لجرير وصدره:
لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى ***...
ينظر: ديوانه ٥٥٣ والكتاب ١/٨٠ والمقتضب ٣/١٠٥ والمحتسب ٢/١٨٤ وأمالي ابن الشجري ١/٣٦ ومجاز القرآن ١/٢٧٩ والخزانة ١/٤٦٥ والإنصاف ١/٤٣ والقرطبي ٨/٢٤٠ والبحر ٥/١٧٥ والإيضاح ٣٠١، والدر المصون ٤/٥٢..

قوله تعالى :﴿ قَالُواْ اتخذ الله وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الغني ﴾ الآية.
هذا نوع آخر من أباطيلهم التي حكاها الله عنهم، " قالوا " يعني المشركين : الملائكة بنات الله، وقيل : قولهم : الأوثان أولاد الله، ويحتمل أن يكون قد كان فيهم قومٌ من النصارى قالوا ذلك، ثم استنكر هذا القول، فقال بعده :﴿ هُوَ الغني لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض ﴾ فكونه - تعالى - غنيّاً مالكاً لكلِّ ما في السماوات والأرض، يدلُّ على أنه سبحانه يستحيل أن يكون لهُ ولد، وبيانه من وجوه :
الأول : أنَّه لو كان محتاجاً، لافتقر إلى صانعٍ آخر، وهو محال، وكل من كان غنيّاً فلا بد أن يكون فرداً منزَّهاً عن الأعضاء والأبعاض، ومن كان كذلك يمتنع أن ينفصل عنه جزءٌ من أجزائه، والولد عبارةٌ عن انفصال جزء من أجزاء الإنسان، ثم يتولَّد من ذلك الجزء مثله، وإذا كان هذا محالاً، ثبت أنَّ كونه - تعالى - غنيّاً يمنع من ثُبُوت الولد لهُ.
الثاني : أن من كان غنيّاً، كان قديماً أزليّاً باقياً سرمديّاً، وكل من كان كذلك امتنع عليه الانقراض، والولدُ إنما يحصل للشَّيءِ الذي ينقضي وينقرض، فيكون ولده قائماً مقامه ؛ فثبت أنَّ كونه - تعالى - غنيّاً، يدل على أنه يمتنع أن يكون له ولد.
الثالث : أنَّ كلَّ من كان غنيّاً يمتنع أن يكون موصوفاً بالشهوة واللذة، وإذا امتنع ذلك، امتنع أن يكون له صاحبةٌ وولد. وباقي الوجوه يطول ذكرها. ثم قال :﴿ لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض ﴾ وهذا نظيرُ قوله :﴿ إِن كُلُّ مَن فِي السماوات والأرض إِلاَّ آتِي الرحمن عَبْداً ﴾
[ مريم : ٩٣ ] ولمَّا بيَّن بالدليل الواضح امتناع ما أضافُوا إليه، عطف عليهم بالإنكار والتوبيخ، فقال :﴿ إِنْ عِندَكُمْ مِّن سُلْطَانٍ ﴾ :" إنْ " نافية و " عندكُم " يجوز أن يكون خبراً مقدَّماً، و " مِنْ سلطانٍ " مبتدأ مُؤخَّراً، ويجوز أن يكون " من سلطان " مرفوعاً بالفاعليَّة بالظرف قبله ؛ لاعتماده على النفي، و " مِنْ " مزيدةٌ على كلا التقديرين، وبهذا يجوز أن يتعلق ب " سُلْطان " لأنَّه بمعنى الحُجَّة والبرهان، وأن يتعلَّق بمحذوف صفة له ؛ فيحكم على موضعه بالجرِّ على اللفظ، وبالرفع على المحلِّ ؛ لأنَّ موصوفه مجرور بحرفِ جرٍّ زائدٍ، وأن يتعلَّق بالاستقرار.
قال الزمخشريُّ : الباءُ حقُّها أن تتعلَّق بقوله :" إنْ عندكُم " على أن يجعل القولُ مكاناً للسُّلطان ؛ كقوله " ما عندكم بأرضكم موزٌ " كأنه قيل : إن عندكم بما تقولون سلطانٌ وقال الحوفيُّ : بهذا متعلقٌ بمعنى الاستقرار. يعنى : الذي تعلَّق به الظرف.
ثم قال :﴿ أَتقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ وقد تقدَّم أنَّ الآية يحتجُّ بها نُفاة القياس في إبطال التقليد.
قوله - تعالى - :﴿ قُلْ إِنَّ الذين يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب ﴾ الآية.
لمَّا بيَّن بالدليل القاطع أنَّ إثبات الولد لله قول باطلٌ، ثم بيَّن أنه ليس لهذا القائل دليلٌ على صحة قوله، ظهر أن ذلك المذهب افتراء على الله - تعالى -، فبيَّن أنَّ من هذا حاله، فإنَّه لا يفلحُ ألبتَّة، أي : لا ينجح في سعيه، ولا يفوز بمطلُوبه، بل خاب وخسر.
قوله :﴿ مَتَاعٌ فِي الدنيا ﴾ يجوز رفع " متاع " من وجهين :
أحدهما : أنه خبرُ مبتدأ محذوف، والجملة جوابٌ لسؤالٍ مقدَّر، فهي استئنافيةٌ، كأنَّ قائلاً قال : كيف لا يفلحُون، وهم في الدنيا مفلحون بأنواع ممَّا يتلذّذون به ؟ فقيل : ذلك متاع.
والثاني : أنه مبتدأ، والخبر محذوفٌ تقديره : لهُم متاعٌ، و " فِي الدُّنيا " يجوز أن يتعلق بنفس " متاع " أي : تمتُّعٌ في الدنيا، ويجوز أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنَّه نعت ل " متاع " فهو في محلِّ رفعٍ، ولم يقرأ بنصبه هنا، بخلاف قوله :﴿ مَّتَاعَ الحياة ﴾ [ يونس : ٢٣ ] في أول السُّورة.
وقوله :﴿ بِمَا كَانُواْ ﴾ الباءُ للسببية، و " ما " مصدريةٌ "، أي : بسبب كونهم كافرين.
على موضعه بالجرِّ على اللفظ، وبالرفع على المحلِّ؛ لأنَّ موصوفه مجرور بحرفِ جرٍّ زائدٍ، وأن يتعلَّق بالاستقرار.
قال الزمخشريُّ: الباءُ حقُّها أن تتعلَّق بقوله: «إنْ عندكُم» على أن يجعل القولُ مكاناً للسُّلطان؛ كقوله «ما عندكم بأرضكم موزٌ» كأنه قيل: إن عندكم بما تقولون سلطانٌ وقال الخوفيُّ: بهذا متعلقٌ بمعنى الاستقرار. يعنى: الذي تعلَّق به الظرف.
ثم قال: ﴿أَتقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ وقد تقدَّم أنَّ الآية يحتجُّ بها نُفاة القياس في إبطال التقليد.
قوله - تعالى -: ﴿قُلْ إِنَّ الذين يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب﴾ الآية.
لمَّا بيَّن بالدليل القاطع أنَّ إثبات الولد لله قول باطلٌ، ثم بيَّن أنه ليس لهذا القائل دليلٌ على صحة قوله، ظهر أن ذلك المذهب افتراء على الله - تعالى -، فبيَّن أنَّ من هذا حاله، فإنَّه لا يفلحُ ألبتَّة، أي: لا ينجح في سعيه، ولا يفوز بمطلُوبه، بل خاب وخسر.
قوله: ﴿مَتَاعٌ فِي الدنيا﴾ يجوز رفع «متاع» من وجهين:
أحدهما: أنه خبرُ مبتدأ محذوف، والجملة جوابٌ لسؤالٍ مقدَّر، فهي استئنافيةٌ، كأنَّ قائلاً قال: كيف لا يفلحُون، وهم في الدنيا مفلحون بأنواع ممَّا يتلذّذون به؟ فقيل: ذلك متاع.
والثاني: أنه مبتدأ، والخبر محذوفٌ تقديره: لهُم متاعٌ، و «فِي الدُّنيا» يجوز أن يتعلق بنفس «متاع» أي: تمتُّعٌ في الدنيا، ويجوز أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنَّه نعت ل «متاع» فهو في محلِّ رفعٍ، ولم يقرأ بنصبه هنا، بخلاف قوله: ﴿مَّتَاعَ الحياة﴾ [يونس: ٢٣] في أول السُّورة.
وقوله: ﴿بِمَا كَانُواْ﴾ الباءُ للسببية، و «ما» مصدريةٌ «، أي: بسبب كونهم كافرين.
قوله
تعالى
: ﴿واتل
عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ﴾
الآية.
لمَّا بالغ في تقرير الدَّلائل، والجواب عن الشُّبه، شرع في بيان قصص الأنبياء؛ لوجوه:
374
الأول: أنَّ الكلام إذا طال في تقرير نوع من أنواع العُلُوم؛ فربَّما حصل نوع من الملالة، فإذا انتقل الإنسان من ذلك الفنِّ إلى فنٍّ آخر، انشرح، ووجد في نفسه رغبةً شديدةً.
الثاني: ليتأسَّى الرسول وأصحابه بمن سلف من الأنبياء؛ فإنَّ الرسول إذا سمع أن معاملة هؤلاء الكُفَّار مع الرسل ما كانت إلا على هذا الوجه، خفَّ ذلك على قلبه، كما يقال: إن المصيبة إذا عمَّتْ خفَّتْ.
الثالث: أنَّ الكُفَّار إذا سمعُوا هذه القصص، وعلموا أنَّ الجُهَّال وإن بالغُوا في إيذاء الأنبياء المتقدِّمين، إلاَّ أنَّ الله - تعالى - أعانهم بالآخرة، ونصرهم، وأيَّدهُم، وقهر أعداءهم، كان سماع هؤلاء الكُفَّار لهذه القصص، سبباً لانكسار قلوبهم، ووقوعِ الخوف في صدورهم؛ فحينئذٍ يُقَلِّلُون من الأذى والسَّفاهة.
الرابع: أنَّ محمَّداً - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لمَّا لمْ يتعلَّم علماً، ولم يطالع كتاباً، ثم ذكر هذه القصص من غير تفاوُتٍ، ومن غير زيادة ولا نقصان، دلَّ ذلك على أنَّه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - إنَّما عرفها بالوحْي والتنزيل، وحذفت الواو من «اتْلُ» لأنه أمر. قوله: «إذْ قال» يجوز أن تكون «إذْ» معمولةً ل «نَبَأ» ويجوز أن تكون بدلاً من «نَبَأ» بدل اشتمال، وجوَّز أبو البقاء: أن تكون حالاً من «نَبَأ» وليس بظاهر، ولا يجوزُ أن يكون منصوباً ب «اتلُ» لفساده؛ إذ «اتْلُ» مستقبلٌ، و «إذ» ماضٍ، و «لِقوْمِهِ» اللام: إمَّا للتبليغ، وهو الظاهرُ، وإمَّا للعِلَّة، وليس بظاهرٍ.
قال المفسرون: «قون نُوح هم: ولد قابيل».
قوله: ﴿كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَّقَامِي﴾ من باب الإسناد المجازيِّ؛ كقولهم: «ثَقُلَ عليَّ ظلُّه».
وقرأ أبو رجاء، وأبو مجلز، وأبو الجوزاء: «مُقَامِي» بضمِّ الميم، و «المقام» بالفتح: مكان القيام، وبالضم: مكان الإقامة، أو الإقامة نفسها.
وقال ابن عطيَّة: «ولم يُقْرَأ هنا بضمِّ الميم». كأنَّه لم يطَّلع على قراءة هؤلاء.
قال الواحدي: يقال: كَبُرَ يَكبُرُ كِبراً في السِّنِّ، وكَبُرَ الأمرُ والشيء، إذا عظم، يَكْبُرُ كِبَراً وكُبَّارة، قال ابن عبَّاس: «ثقُل عليكم، وشقَّ عليكم» وأراد بالمقام ههنا: مُكْثَهُ.
وسبب هذا الثِّقل أمران:
الأول: أنَّه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - مكث فيهم ألف سنةٍ إلاَّ خمسين عاماً.
والثاني: أنَّ أولئك الكُفَّار كانوا قد ألفوا تلك المذاهب الفاسدة، ومن ألف طريقة
375
في الدِّين؛ فإنه يثقل عليه أن يدعي إلى خلافها؛ فإن اقترن بذلك طول مُدَّة الدُّعاءِ، كان أثقل، وأشدّ كراهية، وقوله ﴿وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ الله﴾ : بحُجَجِه وبيناته.
قوله: ﴿فَعَلَى الله﴾ جواب الشَّرط، وقوله ﴿فأجمعوا﴾ عطف على الجواب، ولم يذكر أبُو البقاء غيره، واستُشْكِل عليه أنَّه متوكلٌ على الله دائماً، كبُر عليهم مقامُه أوْ لمْ يَكْبُرْ.
وقيل: جوابُ الشَّرط قوله: «فأجْمِعُوا» وقوله: ﴿فَعَلَى الله تَوَكَّلْتُ﴾ : جملةٌ اعتراضية بين الشَّرطِ وجوابه؛ وهو كقول الشاعر: [الكامل]
٢٩١٢ - إمَّا تَرَيْنِي قَد نَحَلٍْتُ ومَنْ يكُنْ غَرضاً لأطْرَافِ الأسنَّةِ يَنْحَلِ
فلرُبَّ أبْلَجَ مثلِ ثِقْلِكِ بَادِنٍ ضَخْمٍ على ظَهْرِ الجَوَادِ مُهَيَّلِ
وقيل: الجوابُ محذوفٌ، أي: فافْعَلُوا ما شِئْتُم.
وقرأ العامَّة «» فأجْمِعُوا «أمْراً من» أجْمَع «بهزة القطع، يقال: أجمع في المعاني، وجمع في الأعيان، فيقال: أجْمَعْتُ أمري، وجمعتُ الجيشَ، هذا هو الأكثر. قال الحارثُ بن حلِّزة: [الخفيف]
٢٩١٣ - أجْمَعُوا أمْرَهُمْ بِليْلٍ فلمَّا أصْبَحُوا أصْبَحَتْ لَهُمْ ضَوْضَاءُ
وقال آخر: [الرجز]
٢٩١٤ - يَا لَيْتَ شِعْرِي والمُنَى لا تَنْفَعُ هَلْ أغْدُوَنْ يَوْماً وأمْرِي مُجْمَعُ؟
وهل أجمع متعدِّ بنفسه، أو بحرف جر ثم حذف اتساعاً؟
فقال أبو البقاء: من قولك أجمعتُ على الأمْرِ: إذا عزمتَ عليه؛ إلاَّ أنَّه حُذفَ حرفُ الجر فوصل الفعل إليه، وقيل: هو متعدٍّ بنفسه، وأنشد قول الحارث.
وقال أبو فيد السَّدُوسي: أجمعت الأمر، أفصحُ من أجمعت عليه.
وقال أبو الهيثم: أجمع أمرهُ جعلهُ مجموعاً بعد ما كان متفرقاً، قال: وتفرقته أن يقول مرَّة افعل كذا، ومرَّة افعل كذا، وإذا عزم على أمرٍ واحدٍ، فقد جمعه أي: جعله جميعاً، فهذا هو الأصلُ في الإجماع، ثم صار بمعنى: العزْم، حتى وصل ب»
عَلَى «فقيل: أجمعتُ على الأمر؛ أي: عَزَمْتُ عليه، والأصلُ: أجمعتُ الأمرَ.
376
وقرأ العامَّةُ:» وشُركَاءَكُم «نصباً وفيه أوجه:
أحدها: أنَّه معطوفٌ على»
أمركُم «بتقدير حذف مضافٍ، أي: وأمر شركائكم؛ كقوله: ﴿واسأل القرية﴾ [يوسف: ٨٢]، ودلَّ على ذلك ما تقدَّم من أنَّ» أجمع «للمعاني.
الثاني: أنَّه عطفٌ عليه من غير تقدير حذف مضافٍ، قيل: لأنَّه يقال أيضاً: أجمعت شركائي.
الثالث: أنَّه منصوبٌ بإضمار فعلٍ لائق، واجمعُوا شركاءكم بوصل الهمزة، وقيل: تقديره: وادعوا، وكذلك هي في مصحف أبيِّ»
وادعوا «فأضمر فعلاً لائقاً؛ كقوله - تعالى -: ﴿والذين تَبَوَّءُوا الدار والإيمان﴾ [الحشر: ٩]، أي: واعتقدوا الإيمان.
ومثله قول الآخر: [الرجز]
٢٩١٥ - عَلفتُهَا تِبْناً ومَاءً بَارِداً حتَّى شَتَتْ همَّالةً عَيْنَاهَا
أي: وسقيتها ماءً؛ وكقوله: [مجزوء الكامل]
٢٩١٦ - يا لَيْتَ زَوْجَكش قَدْ غَدَا مُتَقَلِّداً سَيْفاً ورُمْحَا
وقول الآخر: [الوافر]
٢٩١٧ - إذَا مَا الغَانِيَاتُ يَرَزْنَ يَوْماً وزجَّجْنَ الحَواجِبَ والعُيُونَا
يريد: ومُعْتَقِلاً رمحاً، وكحَّلنَ العُيُونا، وقد تقدَّم أنَّ في هذه الأماكن غير هذا التخريج.
الرابع: أنه مفعولٌ معه، أي:»
مع شُركائكم «.
قال الفارسيُّ: وقد يُنْصَب الشُّرَكاء بواو»
مع «، كما قالوا: جاء البرد والطَّيالسة، ولم يذكر الزَّمخشريُّ غير قول أبي علي.
قال الزَّجَّاج: «معناه: فأجمعُوا أمركم مع شُركائِكُم، فلما ترك انتصب»
.
قال أبو حيَّان: «وينبغي أن يكون هذا التخريجُ على أنَّه مفعولٌ معه من الفاعل، وهو الضمير في» فأجْمِعُوا «لا من المفعول الذي هو» أمْرَكُمْ «وذلك ‘لى أشهر الاستعمالين؛ لأنَّه يقال:» أجمع الشركاءُ أمرهم «ولا يقال:» جمع الشركاء أمرهم «إلا قليلاً».
قال شهاب الدين: يعني: أنَّهُ إذا جعلناه مفعولاً معه من الفاعل، كان جائزاً بلا خلافٍ، وذلك لأنَّ من النَّحويين من اشترط في صحَّة نصب المفعول معه: أن يصلح عطفُه على ما قبله، فإنْ لَمْ يصلح عطفه، لم يصحَّ نصبُه مفعولاً معه، فلو جعلناه من
377
المفعول لم يجز على المشهور، إذ لا يصلح عطفه على ما قبله؛ إذ لا يقال: أجمعت شركائي، بل جمعت.
وقرأ الزهري، والأعمش، والأعرج، والجحدري، وأبو رجاء، ويعقوب، والأصمعي عن نافع: «فاجْمَعُوا» بوصل الألف، وفتح الميم من جمع يجْمَعُ، و «شُرَكاءكُمْ» على هذه القراءةِ يتضح نصبه نسقاً على ما قبله، ويجوز فيه ما تقدَّم في القراءة الأولى من الأوجه.
قال صاحبُ اللوامح: أجمعت الأمر: أي: جعلته جميعاً، وجمعتُ الأموال جمعاً، فكان الإجماع في الأحداث، والجمعُ في الأعيان، وقد يستعمل كلُّ واحدٍ مكان الآخر، وفي التنزيل: ﴿فَجَمَعَ كَيْدَهُ﴾ [طه: ٦٠] وقد اختلف القراء في قوله: ﴿فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ﴾ [طه: ٦٤].
فقرأ الستَّة: بقطع الهمزة، جعلوه من «أجْمع» وهو موافق لما قيل: إنَّ «أجْمَع» في المعاني.
وقرأ أبو عمرو وحدهُ «فاجْمَعُوا» بوصل الألف، وقد اتفقوا على قوله ﴿فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أتى﴾ [طه: ٦٠]، فإنَّه من الثلاثي، مع أنَّه متسلِّطٌ على معنًى، لا عينٍ.
ومنهم من جعل للثلاثي معنى غير معنى الرُّباعي؛ فقال في قراءة أبي عمرو: من جمع يَجْمع ضد فرَّق يفرق، وجعل قراءة الباقين من: أجمع أمرهُ إذا أحكمه وعزم عليه، ومنه قول الشاعر: [الرجز]
٢٩١٨ - يَا ليتَتْ شِعْرِي والمُنَى لا تَنْفَعُ هَلْ أغْذُونْ يوماً وأمْرِي مُجْمَع؟
وقيل: المعنى: فاجمعوا على كيدكم؛ فحذف حرف الجرِّ.
وقرأ الحسن، والسلمي، وعيسى بن عمر، وابن أبي إسحاق، وسلام، ويعقوب: «وشُرَكاؤكُمْ» رفعاً، وفيه تخريجان:
أحدهما: أنَّه نسقٌ على الضَّمير المرفوع ب «أجْمِعُوا» قبله، وجاز ذلك؛ إذ الفصل بالمفعول سوَّغ العطف.
والثاني: أنه مبتدأ محذوف الخبر، تقديره: وشُركاؤكُم فليُجْمِعُوا أمرهم، وشذَّتْ
378
فرقةٌ فقرأت: «وشُرَكائِكُمْ» بالخفضِ، ووُجِّهَتْ على حذف المضاف، وإبقاء المضاف إليه مجرُوراً على حاله؛ كقول الشاعر:
٢٩١٩ - أكُلَّ امرِىءٍ تَحْسِبينَ امْرَءًا ونَارٍ توقَّدُ باللَّيْل نَارَا
أي: وكُلَّ نار، فتقدير الآية: وأمر شركائكم؛ فحذف الأمر، وأبقى ما بعده على حاله، ومن رأى برأي الكوفيين جوَّزَ عطفه على الضَّمير في «أمركم» من غير تأويل، وقد تقدَّم ما فيه من المذاهب، أعني: العطف على الضَّمير المجرور من غير إعادة الجارِّ في سُورة البقرة.
قوله: «غُمَّةً» يقال: غمٌّ وغُمَّةٌ، نحو كَرْبٌ وكُربَةٌ.
قال أبو الهيثم: هو من قولهم: غمَّ علينا الهلالُ، فهو مغمومٌ إذا التمسَ، فلم يُرَ؛ قال طرفةُ بن العبد: [الطويل]
٢٩٢٠ - لعَمْرُكَ ما أمْرِي عليَّ بغُمَّةٍ نَهَاري ولا لَيْلِي عليَّ بِسرمَدِ
وقال اللَّيث: يقال: هُو في غُمَّةٍ من أمره، إذا لَمْ يتبيَّنْ لهُ.
قوله: ﴿ثُمَّ اقضوا﴾ مفعول «اقضوا» محذوف، أي: اقضُوا إليَّ ذلك الأمر الذي تريدون إيقاعه بي؛ كقوله: ﴿وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمر﴾ [الحجر: ٦٦] فعدَّاه لمفعول صريح.
وقرأ السَّري: «ثُمَّ أفْضُوا» بقطع الهمزة والفاء، من أفْضى يُفضِي إذا انتهى، يقال: أفضَيْتُ إليك، قال تعالى: ﴿وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ﴾ [النساء: ٢١]، فالمعنى: ثُمَّ أفضُوا إليَّ سرَّكم، أي: انتهوا به إليَّ، وقيل: معناه: أسْرِعُوا به إليَّ، وقيل: هو مِنْ أفْضَى، أي: خَرَجَ إلى الفضاءِ، أي: فأصْحِرُوا به إليَّ، وأبرزُوه لي؛ كقوله: [الطويل]
٢٩٢١ - أبَى الضَّيْمَ والنُّعْمَانُ يَحْرِقُ نابهُ عليه فأفْضَى والسُّيُوفُ معاقِلُه
ولامُ الفضاءِ واوٌ؛ لأنَّه من فضا يَفْضُو، أي: اتَّسعَ، والمعنى: فأحكمُوا أمركُم، واعزِمُوا وادعُوا شُركَاءَكُم، أي: آلهتكُم، فاستعينوا بها لتجتمع.
وروى الأصمعي، عن نافع: «فأجمعُوا ذوي الأمر منكم» فحذف المضاف، وجرى على المضاف إليه ما كان يجري على المضاف لو ثبت.
379
قال ابن الأنباري: المرادُ من الأمر هنا: وجوه كيدهم، ومكرهم، والتقدير: لا تتركوا مِن أمركُم شيئاً إلا أحضرتُمُوه. والمراد من الشركاء: إما الأوثان؛ لأنَّهم كانوا يعتقدون أنَّها تَضُرُّ وتنفعُ، وإمَّا أن يكون المرادُ: من كان على مثل دينهم.
﴿ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً﴾ أي: خفيًّا مبهماً، من قولهم: غَمَّ الهلالُ على النَّاسِ، أي: أشْكل عليهم، فهو مغمومٌ إذا خفي. «ثُمَّ اقضُوا» أي: امضُوا، «إليَّ» : بما في أنفسكم من مكروه وافرغوا منه، يقال: قضى فلان: إذا مات، وقضى دينه: إذا فرغ منه، وقيل معناه: توجَّهُوا إليَّ بالقتل والمكروه، وقيل: «فاقْضُوا ما أنتم قاضُون» كقول السَّحرة لفرعون « ﴿فاقض مَآ أَنتَ قَاضٍ﴾ [طه: ٧٢].
قال القفال: ومجاز دُخُول كلمة»
إلى «في هذا الموضع من قولهم: برئت إليك، وخرجت إليك من العهد، وفيه معنى الإخبار؛ فكأنَّه - تعالى - قال: ثم اقضُوا إليَّ ما يستقرُّ رأيكم عليه محكماً مفروغاً منه، ثم لا تنظرون أي: لا تمهلون ولا تُؤخِّرُون.
وقد نظَّم القاضي هذا الكلام على أحسن الوجوه، فقال: إنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - قال في أول الأمر: فعلى الله توكلت؛ فإنِّي واثقٌ بوعد الله، جازم بأنَّه لا يخلفُ الميعاد، فلا تظُنُّوا أنَّ تهديدكم إيَّاي بالقتلِ والإيذاء يمنعني من الدُّعاء إلى الله ثم إنَّه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أورد عليهم ما يدل على صحة دعواهُ، فقال: ﴿فأجمعوا أَمْرَكُمْ﴾ كأنَّهُ يقول: اجمعوا ما تقدرُون عليه من الأشياء التي توجبُ حُصُول مطلوبكم، ثم لم يقتصر على ذلك، بل أمرهم أن يضُمُّوا إلى أنفسهم شركاءهم الذين كانوا يزعمون أنَّ حالهم يقوى بمكانتهم وبالتَّقَرُّب إليهم، ثم لم يقتصر على هذين، بل ضمَّ إليهما ثالثاً، وهو قوله: ﴿ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً﴾ أراد أن يبلغوا فيه كل غايةٍ في المكاشفةِ والمجاهرة، ثم لم يقتصر على ذلك، بل ضمَّ إليها رابعاً، فقال: ﴿ثُمَّ اقضوا إِلَيَّ﴾ والمراد: أن وجهوا كلَّ تلك الشُّرُور إليَّ، ثم ضمَّ إلى ذلك خامساً، وهو قوله: ﴿لاَ تُنظِرُونَ﴾ أي: عجِّلُوا ذلك بأشد ما تقدرون عليه من غير انتظار، ومعلومٌ أنَّ مثل هذا الكلام يدل على أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كان قد بلغ الغاية في التوكل على الله، وأنَّه كان قاطعاً بأنَّ كيدهم لا يضرُّه، ولا يصل إليه، ومكرهم لا ينفذُ فيه.
قوله: ﴿فَإِن تَوَلَّيْتُمْ﴾ أعرضتم عن قولي، وقُبُول نُصْحِي، ﴿فَمَا سَأَلْتُكُمْ﴾ على تبليغ الرِّسالة والدَّعوة ﴿مِّنْ أَجْرٍ﴾ جعل وعوض، ﴿إِنْ أَجْرِيَ﴾ : ما أجري وثوابي، ﴿إِلاَّ عَلَى الله﴾.
قال المفسِّرُون: وهذا إشارةٌ إلى أنَّه ما أخذ منهم مالاً على دعواهُم إلى دين الله، وكُلَّما كان الإنسانُ فارغاً من الطَّمع، كان قوله أقوى تأثيراً في القلب.
قال ابن الخطيب: وعندي فيه وجه آخر: وهو أنَّه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - بيَّن أنه لا يخافُ منهم بوجهٍ من الوجوه، وذلك لأنَّ الخوف إنَّما يحصل بأحد شيئين: إمَّا بإيصال الشَّر،
380
أو بقطع المنافع، فبيَّن فيما تقدَّم أنه لا يخافُ شرَّهُم، وبيَّن في هذه الآية أنَّه لا يخاف منهم بسبب أن يقطعُوا عنه خيراً؛ لأنَّه ما أخذ منهم شيئاً، فكان يخافُ أن يقطعوا منه خيراً، ثم قال: ﴿إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الله وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين﴾ وفيه قولان:
الأول: أنكم سواء قبلتم دين الإسلام، أو لم تقبلوا، فأنا مأمورٌ بأن أكون على دين الإسلام.
الثاني: أنِّي مأمورٌ بالاستسلام لكلِّ ما يصل إليَّ لأجل هذه الدَّعوة، وهذا الوجهُ أليق بهذا الموضع؛ لأنَّه لمَّا قال اقضُوا إليَّ بيَّن أنَّه مأمورٌ بالاستسلام لكلِّ ما يصل إليه.
قوله: ﴿فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الفلك﴾.
لمَّا حكى كلام نُوحٍ مع الكُفَّار، ذكر - تعالى - ما آل أمرهم إليه: أمَّا في حقِّ نُوح وأصحابه، فنجَّاهم وجعلهم خلائف، أي: يخلفون من هلك بالغرق، وأمَّا في حق الكفار فإنَّه - تعالى - أهلكهم وأغرقهم، وهذه القصَّة إذا سمعها من صدَّق الرسول ومن كذب به، كانت زجراً للمكذِّبين فإنهم يخافون أن ينزل بهم مثل ما نزل بقوم نُوح، وتكون داعيةً للمؤمنين إلى الثَّبات على الإيمان؛ ليصلوا إلى مثل ما وصل إليه قوم نُوح.
قوله ﴿فِي الفلك﴾ يجوز فيه وجهان:
أحدهما: أن يتعلَّق ب «نجَّيناه»، أي: وقع الإنجاء في هذا المكان.
والثاني: أن يتعلَّق بالاستقرار الذي تعلَّق به الظرفُ، وهو «معهُ» لوقوعه صلة، أي: والذين استقرُّوا معه في الفلك، وقوله: «وجَعلْنَاهُم» أي: صيَّرناهُم، وجمع الضميرُ في «جَعلْنَاهُمْ» حملاً على معنى «مَنْ»، و «خَلائِفَ» جمع خليفة، أي: يخلفُون الغارقين.
قوله: ﴿ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ﴾ أي: من بعد نوحٍ، ﴿رُسُلاً إلى قَوْمِهِمْ﴾ ولمْ يسمِّ الرسل، وقد كان منهم هودٌ، وصالحٌ، وإبراهيمُ، ولوطٌ، وشعيبٌ، ﴿فَجَآءُوهُمْ بالبينات﴾، وهي المعجزات الباهرة، و «بالبيِّنَاتِ» متعلقٌ ب «فَجاءوهُمْ» أو بمحذوف على أنه حال أي: ملتبسين بالبينات، ﴿فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ﴾ أي: أنَّ حالهم بعد بعثةِ الرسل، كحالهم قبلها في كونهم أهل جاهلية.
قال القرطبيُّ: التقدير: بما كذَّب به قوم نُوحٍ من قبل، وقيل «بِمَا كذَّبُوا بهِ» أيْ: من قبل يوم الذرِّ فإنه كان فيهم من كذَّب بقلبه، وإن قال الجميعُ: بلى.
وقال النحاس: أحسن ما قيل في هذا: أنَّه لقوم بأعيانهم، مثل: ﴿أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ [البقرة: ٦]. و «بالبيِّنَاتِ» متعلق ب «جَاءوهُم»، أو بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ، أي: مُلتبسين بالبيِّناتِ.
وقوله: ﴿لِيُؤْمِنُواْ﴾ أتى بلام الجحود توكيداً، والضَّمير في ﴿كَذَّبُواْ﴾ عائدٌ على من عاد عليه الضَّمير في كانُوا، وهم قومُ الرُّسُل.
381
وقال أبُو البقاء ومكِّي: إنَّ الضمير في كانوا يعُود على قوم الرُّسُل، وفي «كَذَّبُوا» يعود على قوم نوح، والمعنى: فما كان قوم الرُّسُل ليؤمنوا بما كذَّب به قوم نُوح، أي: بمثله، ويجوز أن تكون الهاءُ عائدة على نوح نفسه، من غير حذف مضافٍ، والتقدير: فما كان قومُ الرُّسُل بعد نوح ليؤمنوا بنوحٍ؛ إذ لو آمنوا به، لآمنوا بأنبيائهم.
و «مِنْ قَبْلُ» متعلقٌ ب «كَذَّبُوا» أي: من قبل بعثةِ الرُّسُل.
وقيل: الضَّمائرُ كُلُّها تعودُ على قوم الرسل بمعنى آخر: وهو أنَّهم بادرُوا رسلهم بالتكذيب، كُلما جاء رسولٌ، لجُّوا في الكفر، وتمادوا عليه، فلم يكونوا ليؤمنوا بما سبق به تكذيبهم من قبل لجِّهم في الكفر، وتماديهم.
وقال ابن عطية: ويحتمل اللَّفظُ عندي معنى آخر، وهو أن تكون «ما» مصدرية، والمعنى: فكذَّبُوا رسلهم، فكان عقابهم من الله أن لم يكونوا ليُؤمِنُوا بتكذيبهم من قبل، أي: من سببه ومن جرَّائه، ويُؤيِّد هذا التأويل: «كذلِكَ نَطْبَعُ» وهو كلام يحتاجُ إلى تأمُّل.
قال أبو حيان: والظَّاهر أنَّ «ما» موصولةٌ؛ ولذلك عاد الضميرُ عليها في قوله: ﴿بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ﴾ ولو كانت مصدرية، بقي الضمير غير عائدٍ على مذكور؛ فتحتاج أن يُتكلَّفَ ما يعود عليه الضمير.
قال شهاب الدِّين - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «الشيخ بناه على قول جمهور النُّحاة: في عدم كونِ» ما «المصدريَّة اسماً؛ فيعُود عليها ضميرٌ، وقد تقدَّم مراراً، أنَّ مذهب الأخفش، وابن السراج: أنَّها اسمٌ فيعود عليها الضمير».
قرأ العامَّةُ: «نَطْبَع» بالنُّون الدَّالة على تعظيم المتكلِّم. وقرأ العبَّاس بن الفضل: بياء الغيبة، وهو الله - تعالى -؛ ولذلك صرَّح به في موضعٍ آخر: ﴿كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله﴾ [الأعراف: ١٠١]. والكافُ نعتٌ لمصدر محذوف، أو حالٌ من ذلك المصدر على حسب ما عرفته من الخلاف، أي: مثل ذلك الطَّبع المحكم الممتنع زواله، نطبع على قلوب المعتدين على خلق الله.

فصل


احتجَّ أهل السُّنَّة على أنَّه - تعالى - قد يمنع المكلَّلإ عن الإيمان بهذه الآية.
قالت المعتزلة: فقد قال - تعالى -: ﴿بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ [النساء: ١٥٥] ولو كان هذا الطَّبع مانِعاً، لما صحَّ هذا الاستثناء، وقد تقدَّم البحث في ذلك عند قوله - تعالى -: ﴿خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ﴾ [البقرة: ٧].
382
قوله :﴿ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ ﴾ أعرضتم عن قولي، وقُبُول نُصْحِي، ﴿ فَمَا سَأَلْتُكُمْ ﴾ على تبليغ الرِّسالة والدَّعوة ﴿ مِّنْ أَجْرٍ ﴾ جعل وعوض، ﴿ إِنْ أَجْرِيَ ﴾ : ما أجري وثوابي، ﴿ إِلاَّ عَلَى الله ﴾.
قال المفسِّرُون : وهذا إشارةٌ إلى أنَّه ما أخذ منهم مالاً على دعواهُم إلى دين الله، وكُلَّما كان الإنسانُ فارغاً من الطَّمع، كان قوله أقوى تأثيراً في القلب.
قال ابن الخطيب : وعندي فيه وجه آخر : وهو أنَّه - عليه الصلاة والسلام - بيَّن أنه لا يخافُ منهم بوجهٍ من الوجوه، وذلك لأنَّ الخوف إنَّما يحصل بأحد شيئين : إمَّا بإيصال الشَّر، أو بقطع المنافع، فبيَّن فيما تقدَّم أنه لا يخافُ شرَّهُم، وبيَّن في هذه الآية أنَّه لا يخاف منهم بسبب أن يقطعُوا عنه خيراً ؛ لأنَّه ما أخذ منهم شيئاً، فكان يخافُ أن يقطعوا منه خيراً، ثم قال :﴿ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الله وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين ﴾ وفيه قولان :
الأول : أنكم سواء قبلتم دين الإسلام، أو لم تقبلوا، فأنا مأمورٌ بأن أكون على دين الإسلام.
الثاني : أنِّي مأمورٌ بالاستسلام لكلِّ ما يصل إليَّ لأجل هذه الدَّعوة، وهذا الوجهُ أليق بهذا الموضع ؛ لأنَّه لمَّا قال اقضُوا إليَّ بيَّن أنَّه مأمورٌ بالاستسلام لكلِّ ما يصل إليه.
قوله :﴿ فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الفلك ﴾.
لمَّا حكى كلام نُوحٍ مع الكُفَّار، ذكر - تعالى - ما آل أمرهم إليه : أمَّا في حقِّ نُوح وأصحابه، فنجَّاهم وجعلهم خلائف، أي : يخلفون من هلك بالغرق، وأمَّا في حق الكفار فإنَّه - تعالى - أهلكهم وأغرقهم، وهذه القصَّة إذا سمعها من صدَّق الرسول ومن كذب به، كانت زجراً للمكذِّبين فإنهم يخافون أن ينزل بهم مثل ما نزل بقوم نُوح، وتكون داعيةً للمؤمنين إلى الثَّبات على الإيمان ؛ ليصلوا إلى مثل ما وصل إليه قوم نُوح.
قوله ﴿ فِي الفلك ﴾ يجوز فيه وجهان :
أحدهما : أن يتعلَّق ب " نجَّيناه "، أي : وقع الإنجاء في هذا المكان.
والثاني : أن يتعلَّق بالاستقرار الذي تعلَّق به الظرفُ، وهو " معهُ " لوقوعه صلة، أي : والذين استقرُّوا معه في الفلك، وقوله :" وجَعلْنَاهُم " أي : صيَّرناهُم، وجمع الضميرُ في " جَعلْنَاهُمْ " حملاً على معنى " مَنْ "، و " خَلائِفَ " جمع خليفة، أي : يخلفُون الغارقين.
قوله :﴿ ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ ﴾ أي : من بعد نوحٍ، ﴿ رُسُلاً إلى قَوْمِهِمْ ﴾ ولمْ يسمِّ الرسل، وقد كان منهم هودٌ، وصالحٌ، وإبراهيمُ، ولوطٌ، وشعيبٌ، ﴿ فَجَآءُوهُمْ بالبينات ﴾، وهي المعجزات الباهرة، و " بالبيِّنَاتِ " متعلقٌ ب " فَجاءوهُمْ " أو بمحذوف على أنه حال أي : ملتبسين بالبينات، ﴿ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ ﴾ أي : أنَّ حالهم بعد بعثةِ الرسل، كحالهم قبلها في كونهم أهل جاهلية.
قال القرطبيُّ : التقدير : بما كذَّب به قوم نُوحٍ من قبل، وقيل " بِمَا كذَّبُوا بهِ " أيْ : من قبل يوم الذرِّ فإنه كان فيهم من كذَّب بقلبه، وإن قال الجميعُ : بلى.
وقال النحاس : أحسن ما قيل في هذا : أنَّه لقوم بأعيانهم، مثل :﴿ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ [ البقرة : ٦ ]. و " بالبيِّنَاتِ " متعلق ب " جَاءوهُم "، أو بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ، أي : مُلتبسين بالبيِّناتِ.
وقوله :﴿ لِيُؤْمِنُواْ ﴾ أتى بلام الجحود توكيداً، والضَّمير في ﴿ كَذَّبُواْ ﴾ عائدٌ على من عاد عليه الضَّمير في كانُوا، وهم قومُ الرُّسُل.
وقال أبُو البقاء١ ومكِّي٢ : إنَّ الضمير في كانوا يعُود على قوم الرُّسُل، وفي " كَذَّبُوا " يعود على قوم نوح، والمعنى : فما كان قوم الرُّسُل ليؤمنوا بما كذَّب به قوم نُوح، أي : بمثله، ويجوز أن تكون الهاءُ عائدة على نوح نفسه، من غير حذف مضافٍ، والتقدير : فما كان قومُ الرُّسُل بعد نوح ليؤمنوا بنوحٍ ؛ إذ لو آمنوا به، لآمنوا بأنبيائهم.
و " مِنْ قَبْلُ " متعلقٌ ب " كَذَّبُوا " أي : من قبل بعثةِ الرُّسُل.
وقيل : الضَّمائرُ كُلُّها تعودُ على قوم الرسل بمعنى آخر : وهو أنَّهم بادرُوا رسلهم بالتكذيب، كُلما جاء رسولٌ، لجُّوا في الكفر، وتمادوا عليه، فلم يكونوا ليؤمنوا بما سبق به تكذيبهم من قبل لجِّهم في الكفر، وتماديهم.
وقال ابن عطية٣ : ويحتمل اللَّفظُ عندي معنى آخر، وهو أن تكون " ما " مصدرية، والمعنى : فكذَّبُوا رسلهم، فكان عقابهم من الله أن لم يكونوا ليُؤمِنُوا بتكذيبهم من قبل، أي : من سببه ومن جرَّائه، ويُؤيِّد هذا التأويل :" كذلِكَ نَطْبَعُ " وهو كلام يحتاجُ إلى تأمُّل.
قال أبو حيان : والظَّاهر أنَّ " ما " موصولةٌ ؛ ولذلك عاد الضميرُ عليها في قوله :﴿ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ ﴾ ولو كانت مصدرية، بقي الضمير غير عائدٍ على مذكور ؛ فتحتاج أن يُتكلَّفَ ما يعود عليه الضمير.
قال شهاب الدِّين٤ - رحمه الله - :" الشيخ بناه على قول جمهور النُّحاة : في عدم كونِ " ما " المصدريَّة اسماً ؛ فيعُود عليها ضميرٌ، وقد تقدَّم مراراً، أنَّ مذهب الأخفش، وابن السراج : أنَّها اسمٌ فيعود عليها الضمير ".
قرأ العامَّةُ :" نَطْبَع " بالنُّون الدَّالة على تعظيم المتكلِّم. وقرأ العبَّاس٥ بن الفضل : بياء الغيبة، وهو الله - تعالى - ؛ ولذلك صرَّح به في موضعٍ آخر :﴿ كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله ﴾ [ الأعراف : ١٠١ ]. والكافُ نعتٌ لمصدر محذوف، أو حالٌ من ذلك المصدر على حسب ما عرفته من الخلاف، أي : مثل ذلك الطَّبع المحكم الممتنع زواله، نطبع على قلوب المعتدين على خلق الله.

فصل


احتجَّ أهل السُّنَّة على أنَّه - تعالى - قد يمنع المكلَّف عن الإيمان بهذه الآية.
قالت المعتزلة : فقد قال - تعالى - :﴿ بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ [ النساء : ١٥٥ ] ولو كان هذا الطَّبع مانِعاً، لما صحَّ هذا الاستثناء، وقد تقدَّم البحث في ذلك عند قوله - تعالى - :﴿ خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ ﴾ [ البقرة : ٧ ].
١ ينظر: الإملاء ٢/٣١..
٢ ينظر: المشكل ١/٣٨٨..
٣ ينظر: المحرر الوجيز ٣/١٣٣..
٤ ينظر: الدر المصون ٤/٥٦..
٥ ينظر: المحرر الوجيز ٣/١٣٣، البحر المحيط ٥/١٧٩، الدر المصون ٤/٥٦..
قوله - تعالى - ﴿ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِمْ موسى وَهَارُونَ﴾ الآية.
قرأ مجاهد، وابن جبير، والأعمش: «إنَّ هذا لساحِرٌ» اسم فاعل، والإشارةُ ب «هَذَا» حينئذٍ إلى موسى، أشير إليه لتقدم ذكره، وفي قراءةِ الجماعةِ، المشارُ إليه الشَّيءُ الذي جاء به موسى، من قلب العصا حيَّة، وإخراج يده بيضاء كالشمس، ويجوز أن يشار ب «هذا» في قراءة ابن جبير: إلى المعنى الذي جاء به موسى مبالغةً؛ حيث وصفُوا المعاني بصفاتِ الأعيانِ؛ كقولهم: «شِعْرٌ شَاعِرٌ»، و «جَدَّ جَدُّهُ».
فإن قيل: إنَّ القوم لمَّا قالوا: ﴿إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ﴾، فكيف حكى موسى عنهم أنَّهُم قالوا: «أسِحْرٌ هذا» على سبيل الاستفهام؟.
فالجواب من وجهين:
أحدهما: أنَّ معمول «أتقولون» : الجملة من قوله: «أسِحْرٌ هذا» إلى آخره، كأنهم قالوا: أجِئْتُمَا بالسِّحر تطلبان به الفلاح، ولا يفلح السَّاحِرُون؛ كقول موسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - للسحرة: ﴿مَا جِئْتُمْ بِهِ السحر إِنَّ الله سَيُبْطِلُهُ﴾ [يونس: ٨١].
والثاني: أنَّ معمول القول محذوفٌ، مدلولٌ عليه بما تقدم ذكرهُ، وهو ﴿إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ﴾.
ومعمولُ القول يحذف للدَّلالةِ عليه كثيراً، كما يحذف القول كثيراً، ويكون تقدير الآية: إن موسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - قال لهم: ﴿أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَكُمْ﴾ ما
383
تقولون، ثم حذف منه مفعول «أتقولون» لدلالة الحالِ عليه، ثم قال: أسِحْرٌ هذا وهو استفهامٌ على سبيل الإنكار، ثم احتجَّ على أنَّه ليس بسحرٍ، بقوله: ﴿وَلاَ يُفْلِحُ الساحرون﴾ ؛ ومثلُ الآية في حذف المقول قولُ الشاعر: [الطويل]
٢٩٢٢ - لنَحْنُ الألَى قُلْتُمْ فأنَّى مُلِئْتُمُ بِرُؤيتنَا قبْلَ اهتِمَامٍ بكُمْ رُعْبَا
وفي كتاب سيوبيه: «متَى رَأيتَ أو قُلْتَ زيداً مُنْطلقاً» على إعمال الأول، وحذف معمول القول، ويجوز إعمالُ القول بمعنى الحكاية به، فيقال: «متى رايت أو قلت زيد مُنطلقٌ» وقيل: القول في الآية بمعنى: العَيْب والطَّعْن، والمعنى: أتَعِيبُونَ الحقَّ وتطعنُونَ فيه، وكان من حقِّكم تعظيمُه، والإذعانُ له، من قولهم: «فلان يخافُ القالة» و «بين الناس تقاولٌ» إذا قال بعضهم لبعضٍ ما يسوؤه، ونحو القولِ الذَِّكرُ في قوله: ﴿سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ﴾ [الأنبياء: ٦٠] وكلُّ هذا مُلخّص من كلام الزمخشريِّ.
قوله: «قَالُوا» يعني: فرعون وقومه، «أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا» اللاَّمُ متعلقةٌ بالمجيء، أي: أجِئْتَ لهذا الغرضِ، أنكروا عليه مجيئهُ لهذه العلَّة، واللَّفتُ: الليُّ والصَّرْفُ، لفته عن كذا، أي: صرفه ولواه عنه، وقال الأزرهي: «لفَتَ الشَّيء وفتلهُ» : لواه، وهذا من المقلوب.
قال شهاب الدِّين: «ولا يُدَّعى فيه قلبٌ، حتى يرجع أحدُ اللفظين في الاستعمال على الآخر، ولذلك لم يَجْعَلُوا جذبَ وجبذَ، وحَمِدَ ومَدَحَ من هذا القبيل لتساويهما، ومطاوعُ لَفَتَ: التفَت، وقيل: انْفَتَلَ، وكأنَّهُم استغْنَوا بمطاوع» فَتَل «عن مطاوع لَفَتَ، وامرأة لفُوت، أي: تَلْتفتُ لولدها عن زوجها، إذا كان الولد لغيره، واللَّفيتةُ: ما يغلظُ من القصيدة» والمعنى: أنَّهم قالوا: لا نترك الذي نحن عليه؛ لأنَّا وجدنا أباءنا عليه، فتمسكُوا بالتقليد، ودفعُوا الحُجَّة الظاهرة بمجرد الإصرار.
قوله: ﴿وَتَكُونَ لَكُمَا الكبريآء فِي الأرض﴾ الكبرياء: اسمُ «كان»، و «لكم» : الخبر، و «في الأرض» : جوَّز فيها أبو البقاء خمسة أوجه:
أحدها: أن تكون متعلقة بنفس الكبراي.
الثاني: أن يتعلق بنفس «تكون».
الثالث: أن يتعلَّق بالاستقرار في «لكم» لوقوعه خبراً.
الرابع: أن يكون حالاً من «الكبرياء».
الخامس: أن يكون حالاً من الضَّمير في «لَكُمَا» لتحمُّلِه إيَّاهُ «. والكبرياء مصدرٌ على وزن» فِعْلِيَاء «، ومعناها: العظيمة؛ قال عديُّ بن الرِّقَاعِ: [الخفيف]
384
٢٩٢٣ - سُؤدُدٌ غَيْرُ فَاحِشٍ لا يُدَانِي يه تجبَّارةٌ ولا كِبْرياءُ
وقال ابن الرّقيات يمدح مصعب بن الزبير: [الخفيف]
٢٩٢٤ - مُلْكُهُ مُلْكُ رَأفَةٍ ليس فيه جَبَرُوتٌ مِنْهُ ولا كِبْرِيَاءُ
يعني: هو ليس عليه ما عليه المملوكُ من التجبُّر والتَّعظيم.
والجمهور على» تكون «بالتَّأنيث مراعاةً لتأنيث اللفظ.
وقرأ ابن مسعود، والحسن، وإسماعيل وأبو عمرو، وعاصم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - في روايةٍ:»
يكون «بالياء من تحت؛ لأنَّه تأنيثٌ مجازيٌّ.
قال المفسِّرون: والمعنى: ويكون لكُما الملكُ والعزُّ في أرض مصر، والخطابُ لموسى، وهارون - عليهما الصلاة والسلام -.
قال الزَّجَّاج: سمى الملك كبرياء؛ لأنه أكبر ما يطلب من أمر الدنيا، وأيضاً: فالنبيُّ إذا اعترف القوم بصدقه، صارت مقاليدُ أرم أمته إليه؛ فصار أكبر القوم.
واعلم: أنَّ القوم لمَّا ذكروا هذين الشيئين في عدم اتِّباعهم، وهما: التَّقليد، والحرصُ على طلب الرِّياسة، صرَّحُوا بالحكم، فقالوا: ﴿وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ﴾، ثم شرعُوا في معارضةِ معجزات موسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - بأنواعٍ من السحر؛ ليظهر عند الناس أن ما أتى به موسى من باب السِّحْر، فقال فرعون: ﴿ائتوني بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ﴾.
قرأ الأخوان: سحَّار وهي قراءةُ ابن مُصرِّف، وابن وثَّاب، وعيسى بن عمر.
﴿فَلَمَّا جَآءَ السحرة قَالَ لَهُمْ موسى أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ﴾.
فإن قيل: كيف أمرهُم بالسِّحْر، والسِّحر كفر، والأمر بالكفر كُفْرٌ؟.
فالجواب: أنَّه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أمرهم بإلقاء الحِبال والعِصيّ؛ ليظهر للخلق أن ما أتوا به عملٌ فاسدٌ، وسعيٌ باطلٌ، لا أنَّه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أمرهم بالسِّحْرِ؛ فلمَّا ألقوا حبالهم وعصيَّهُم، قال لهم موسى: ما جئتم به هو السِّحْر، والغرض منهُ: أنَّهم لمَّا قالُوا لموسى: إنَّ ما جئتَ به سحر، فقال موسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: إنَّ ما
385
ذكرتمُوه باطلٌ، بل الحقُّ: أنَّ الذي جئتُم به هو السِّحر الذي يظهر بطلانه، ثم أخبرهُم بأن الله يحق الحق، ويبطل الباطل.
قوله: ﴿مَا جِئْتُمْ بِهِ السحر﴾ قرأ أبو عمرو وحده: «آلسِّحر» بهمزة الاستفهام، وبعدها ألف محضةٌ، وهي بدل عن همزة الوصلِ الدَّاخلة على لام التعريف، ويجوز أن تُسَهَّل بين بين، وقد تقدَّم تحقيق هذين الوجهين في قوله: ﴿ءَآلذَّكَرَيْنِ﴾ [الأنعام: ١٤٣] وهي قراءة مجاهد، وأصحابه، وأبي جعفر، وقرأ باقي السبعة: بهمزة وصلٍ تسقُط في الدَّرْج، فأمَّا قراءةُ أبي عمرو، ففيها أوجه:
أحدها: أنَّ «ما» استفهاميَّة في محلِّ رفع بالابتداء، و «جِئْتُمْ بِه» : الخبرُ، والتقدير: أي شيءٍ جِئْتُم، كأنَّه استفهام إنكار، وتقليلٌ للشَّيءِ المُجاء به. و «السِّحْر» بدلٌ من اسم الاستفهام؛ ولذلك أعيد معه أداته؛ لما تقرَّر في كتب النحو، وذلك ليساوي المبدل منه في أنَّه استفهامٌ، كما تقول: كم مالك أعشرون، أم ثلاثون؟ فجعلت: أعشرون بدلاً من كم، ولا يلزم أن يضمر للسِّحر خبر؛ لأنَّك إذا أبدلته من المبتدأ، صار في موضعه، وصار ما كان خبراً عن المبدل منه، خبراً عنه.
الثاني: أن يكون «السِّحْر» خبر مبتدأ محذوف، تقديره: أهُو السِّحْر.
الثالث: أن يكون مبتدأ محذوف الخبر، تقديره: السحر هو، ذكر هذين الوجهين أبو البقاء، وذكر الثاني مكِّي، وفيهما بعد.
الرابع: أن تكون «ما» موصولة بمعنى: الذي، و «جئتم به» صلتها، والموصولُ في محلِّ رفع بالابتداء، والسِّحر على وجهيه من كون خبر مبتدأ محذوف، أو مبتدأ محذوف الخبر، تقديره: الذي جئتم به أهُو السِّحْر؟ أو الذي جئتم به السحر هو؟ وهذا الضميرُ هو الرَّابط، كقولك: الذي جاءك أزيدٌ هو؟ قاله أبو حيَّان.
قال شهاب الدِّ] ن: قد منع مكِّي أن تكون «ما» موصولةً، على قراءة أبي عمرو، فقال: وقد قرأ أبو عمرو «» آلسحرُ «بالمدِّ، فعلى هذه القراءة: تكون» ما «استفهاماً مبتدأ، و» جِئْتُم بِهِ «: الخبر، و» السّحر «خبرُ ابتداءٍ محذوف، أي: أهو السِّحر؟ ولا يجوزُ أن تكون» مَا «بمعنى:» الَّذي «على هذه القراءة؛ إذ لا خبر لها. وليس كما ذكر، بل خبرها: الجملةُ المقدَّرُ أحدُ جُزأيها، وكذلك الزمخشري، وأبو البقاء لمْ يُجِيزَا كونها موصولةً، إلاَّ في قراءة غير أبي عمرو، لكنَّهُمَا لم يتعرَّضَا لعدم جوازه.
الخامس: أن تكون»
ما «استفهامية في محلِّ نصبِ بفعل مقدَّرٍ بعدها؛ لأنَّ لها صدر
386
الكلام، و» جِئْتُم به «مفسِّر لذلك الفعل المقدَّر، وتكون المسألةُ حينئذٍ من باب الاشتغال، والتقدير: أيُّ شيءٍ أتيتُم جِئْتُم به، و» السِّحْر «على ما تقدَّم، ولو قُرىء بنصب» السِّحْر «على أنَّه بدلٌ مِنْ» ما «بهذا التقدير، لكان لهُ وجه، لكنَّه لم يقرأ به فيما علمت، وسيأتي ما حكاه مكِّي عن الفرَّاء من جواز نصبه لمدركٍ آخر، لا على أنَّها قراءةٌ منقولةٌ عن الفرَّاء.
وأمَّا قراءةُ الباقين، ففيها أوجهٌ:
أحدها: أن تكون «ما»
بمعنى: «الذي» في محلِّ رفعٍ بالابتداء، و «جِئْتُم بِه» صلته وعائده، و «السِّحرُ» خبرهُ، والتقدير: الذي جئتم به السحر، ويؤيِّد هذا التقدير، قراءة أبيّ، وما في مصحفه: «ما أتيتم به سِحْرٌ»، وقراءة عبد الله بن مسعود والأعمش: «مَا جِئْتُمْ بِهِ سحْرُ».
الثاني: أن تكون «ما» استفهامية في محلِّ نصبٍ، بإضمار فعل على ما تقرَّر و «السِّحْر» خبر ابتداء مضمر، أو مبتدأ مضمر الخبر.
الثالث: أن تكون «ما» في محلِّ رفع بالابتداء، و «السِّحْر» على ما تقدَّم من كونه مبتدأ، أو خبراً، والجملة خبر «ما» الاستفهامية.
قال أبو حيَّان - بعد ما ذكر الوجه الأول -: «ويجوز عندي أن تكون في هذا الوجه استفهاميَّة في موضع رفع بالابتداء، أو في موضع نصبٍ على الاشتغال، وهو استفهامٌ على سبيل التَّحقير، والتَّقليل لما جاؤوا به، و» السِّحْر «خبرُ مبتدأ محذوفٍ، أي: هو السِّحْر».
قال شهاب الدِّين: ظاهرُ عبارته: أنَّه لم يَرَ غيره، حيث قال وعندي، وهذا قد جوَّزه أبو البقاء ومكِّي.
قال أبو البقاء - لمَّا ذكر قراءة غير أبي عمرو - «ويُقْرَأ بلفظ الخبر، وفيه وجهان»، ثم قال: «ويجوزُ أن تكون» ما «استفهاميَّة، و» السِّحْر «خبر مبتدأ محذوف».
وقال مكِّي - في قراءة غير أبي عمرو، بعد ذكره كون «ما» بمعنى: الذي - ويجوز أن تكون «ما» رفعاً بالابتداء، وهي استفهامٌ، و «جِئْتُم بهِ» : الخبر، و «السِّحْر» خبر مبتدأ محذوف، أي: هو السِّحر، ويجُوزُ أن تكون «ما» في موضع نصبٍ على إضمار فعلٍ بعد «ما» تقديره: أيُّ شيءٍ جئتم به، و «السحرُ» : خبر ابتداء محذوف.
الرابع: أن تكون هذه القراءةُ كقراءة أبي عمرو في المعنى، أي: أنَّها على نيةِ الاستفهامِ، ولكن حذفت أداته للعلم بها.
387
قال أبو البقاء: ويقرأ بلفظِ الخبر، وفيه وجهان:
أحدهما: أنَّه استفهامٌ في المعنى أيضاً، وحذفت الهمزة للعلم بها وعلى هذا الذي ذكره: يكونُ الإعرابُ على ما تقدَّم، واعلم أنَّك إذا جعلت «ما» موصولة بمعنى: الذي، امتنع نصبُها بفعلٍ مقدَّرٍ على الاشتغال.
قال مكِّي: ولا يجُوزُ أن تكون «ما» بمعنى: الذي، في موضع نصْبٍ لأنَّ ما بعدها صلتها، والصلةُ لا تعمل في الموصول، ولا يكون تفسيراً للعامل في الموصول وهو كلامٌ صحيحٌ؛ فتلخَّص من هذا: أنَّها إذا كانت استفهامية، جاز أن تكون في محلِّ رفع أو نصب، وإذا كانت موصولة، تعيَّن أن يكون محلُّها الرفع بالابتداء، وقال مكي: وأجاز الفرَّاءُ نصب «السِّحْر» فجعل «ما» شرطاً، وينصبُ «السِّحْر» على المصدر، وتضمرُ الفاءُ مع ﴿إِنَّ الله سَيُبْطِلُهُ﴾، وتجعل الألف واللام في «السِّحْر زائدتين، وذلك كلُّه بعيدٌ، وقد أجاز عليُّ بن سليمان: حذف الفاءِ من جواب الشَّرط في الكلام، واستدلَّ على جوازه بقوله - تعالى -: ﴿وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ [الشورى: ٣٠]، ولم يجزه غيره إلاَّ في ضرورة شعر.
قال شهاب الدِّين: وإذا مشينَا مع الفرَّاء، فتكون»
ما «شرطاً يُراد بها المصدرُ، تقديره: أيَّ سحر جئتم به، فإنَّ الله سيبطله، ويُبَيِّن أنَّ» ما «يراد بها السحر قوله:» السِّحْر «؛ ولكن يقلقُ قوله:» إنَّ نصب السِّحْر على المصدريَّة «فيكون تأويله: أنَّه منصوبٌ على المصدر الواقع موقع الحال؛ ولذلك قدَّره بالنَّكرة، وجعل» أل «مزيدة فيه.
وقد نُقِلَ عن الفرَّاء: أنَّ هذه الألف واللام للتعريف، وهو تعريف العهد، قال الفرَّاء:»
وإنَّما قال «السِّحر» بالألف واللاَّم؛ لأنَّ النَّكرة إذا أعيدتْ، أعيدت بالألف واللاَّم «يعنى: أنَّ النَّكرة قد تقدَّمت في قوله: ﴿إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ﴾ [يونس: ٧٦]، وبهذا شرحهُ ابنُ عطيَّة.
قال ابن عطيَّة: والتعريف هنا في السحر أرْتَبُ؛ لأنَّه قد تقدَّم منكَّراً في قولهم:»
إنَّ هذا لسحرٌ «، فجاء هنا بلام العهد، كما يقال أوَّل الرسالة:» سلامٌ عليك «.
قال أبو حيَّان»
وما ذكراه هنا في «السِّحْر» ليس من تقدُّم النكرة، ثُمَّ أخبر عنها بعد ذلك؛ لأنَّ شرط هذا أن يكون المعرَّفُ ب «أل» هو المنكر المتقدَّم، ولا يكون غيره، كقوله - تعالى -: ﴿كَمَآ أَرْسَلْنَآ إلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فعصى فِرْعَوْنُ الرسول﴾ [المزمل: ١٥، ١٦].
وتقول: «زارنِي رجلٌ، فأكرمتُ الرَّجُل» لمَّا كان إيَّاه، جاز أن يُؤتَى بضميره بدلهُ، فتقول: «فأكرمته»، و «السِّحْر» هنا: ليس هو السحرَ الذي في قولهم: «إنَّ هذا لسحْرٌ» لأنَّ الذي أخبروا عنه بأنَّه سحرٌ، هو ما ظهر على يدي موسى من معجزة العصا، والسِّحْر الذي في قول موسى، إنَّما هو سحرهُم الذي جاؤوا به، فقد اختلف المدلولان، إذ قالوا هم عن معجزة موسى، وقال موسى عمَّا جاؤوا به؛ ولذلك لا يجُوز أن يؤتى هنا بالضَّمير بدل السِّحْر؛ فيكون عائداً على قولهم: لسحْرٌ «.
388
قال شهاب الدِّين: «والجوابُ: أنَّ الفرَّاء، وبن عطيَّة إنَّما أرَادَا السِّحر المتقدِّم الذكر في اللفظ، وإن كان الثَّاني هو غير عين الأول في المعنى، ولكن لمَّا أطلق عليهما لفظ» السَّحْر «جاز أن يقال ذلك، ويدلُّ على هذا: أنَّهم قالوا في قوله - تعالى -: ﴿والسلام عَلَيَّ﴾ [مريم: ٣٣] إنَّ الألف واللام للعهد؛ لتقدُّم ذكر السَّلام في قوله - تعالى -: ﴿وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ﴾ [مريم: ١٥]، وإن كان السَّلامُ الواقعُ على عيسى، هو غير السلام الواقع على يحيى؛ لاختصاص كلِّ سلام بصاحبه من حيث اختصاصه به، وهذا النَّقْل المذكورُ عن الفرَّاء في الألف واللاَّم، ينافى ما نقلهُ عنه مكِّي فيهما، اللَّهُمَّ إلاَّ أن يقال: يحتمل أن يكون له مقالتان، وليس ببعيدٍ؛ فإنَّه كُلَّما كثر العلمُ، اتَّسعت المقالاتُ».
قوله: ﴿إِنَّ الله سَيُبْطِلُهُ﴾ أي: سيهلكه، ويظهر فضيحة صاحبه، ﴿إِنَّ الله لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ المفسدين﴾ أي: لا يقوِّيه ولا يكمِّله، وقوله: «المُفْسدينَ» من وقوع الظَّاهر موقع ضمير المخاطب؛ إذ الأصلُ: لا يصلح عملكم؛ فأبرزهم في هذه الصِّفة الذَّميمة شهادة عليهم بها، ثم قال: ﴿وَيُحِقُّ الله الحق﴾ أي: يظهره ويقوِّيه، ﴿بِكَلِمَاتِهِ﴾ أي: بوعده موسى، وقيل: بما سبق من قضائه وقدره، وقرىء: «بكَلمتهِ» بالتوحيد، وتقدَّم نظيره [الأنفال: ٧].
قوله: ﴿فَمَآ آمَنَ لموسى﴾ الفاءُ للتَّعقيب، وفيها إشعارٌ بأنَّ إيمانهم لم يتأخَّر عن الإلقاء، بل وقع عقيبهُ؛ لأنَّ الفاء تفيد ذلك، وقد تقدَّم توجيهُ تعدية «آمن» باللاَّم، والضَّمير في «قَوْمِهِ» فيه وجهان:
أظهرهما: أنَّه يعودُ على موسى؛ لأنَّهُ هو المُحدَّث عنه؛ ولأنَّه أقربُ مذكورٍ، ولو عاد على فرعون، لمْ يكرِّرْ لفظه ظاهراً، بل كان التركيب: «على خوفٍ منه» وإلى هذا ذهب ابنُ عبَّاس، وغيره، قال: المراد مؤمني بني إسرائيل الذين كانُوا بمصر، وخرجُوا معه.
قال ابن عبَّاس: لفظ الذُّريَّة يُعَبَّر به عن القوم على وجه التَّحقير والتَّصغير، ولا سبيل لحمله على التقدير على وجه الإهانة ههنا؛ فوجب حمله على التصغير، بمعنى: قلة العدد.
قال مجاهد: كانوا أولاد الذين أرسل إليهم موسى من بني إسرائيل، هلك الآباء، وبقي الأبناء.
وقيل: هم قوم نَجَوْا من قتل فرعون؛ وذلك أنَّ فرعون لما أمر بقتل أبْنَاءِ بني إسرائيل، كانت المرأة في بني إسرائيل، إذا ولدت ابناً وهبته لقبطيَّة، خوفاً عليه من القتل، فنشئُوا بين القبط، وأسلمُوا في اليوم الذي غلب فيه موسى السَّحرة.
389
والثاني: أنَّ الضمير يعُود على فرعون، ويُروى عن ابن عبَّاس أيضاً، ورجَّح ابنُ عطيَّة هذا، وضعف الأول، فقال: وممَّا يضعفُ عود الضَّمير على مُوسى: أنَّ المعروف من أخبار بني إسرائيل، أنهم كانوا قد فشتْ فيهم النبواتُ، وكانُوا قد نالهُم ذلٌّ مفرط، وكانوا يرجُون كشفهُ بظُهُورِ مولُود، فلمَّا جاءهُم موسى أصْفَقُوا عليه وتابعُوه، ولم يُحْفَظْ أنَّ طائفة من بني إسرائيل كفرتْ بمُوسَى، فكيف تُعْطِي هذه الآيةُ أنَّ الأقلَّ منهم كان الذي آمَنَ؟ فالذي يترجَّحُ عودُه على فرعون، ويؤيِّده أيضاً: ما تقدَّم من محاورة موسى وردِّه عليهم وتوبيخهم.
قيل: المراد بالذرية: أقوام كان آباؤهم من قوم فرعون، وأمَّهاتُهُم من بني إسرائيل، فجعل الرَّجُل يتبع أمَّهُ وأخوالهُ.
روي عن ابن عبَّاس: أنَّهم كانوا ستمائة ألفٍ من القبط.
قيل: سُمُّوا ذُرِّيَّة؛ لأنَّ آباءهم كانوا من القبط، وأمهاتهم من بني إسرائيل، كما يقال لأولاد فارس - الذين سقطوا إلى اليمن -: الأبناء؛ لأنَّ أمُّهاتهم من غير جنس آبائهم.
وقيل: المراد بالذُّرِّيَّة من آل فرعون: آسيةُ، ومُؤمنُ آلِ فرعون، وامرأته، وخازنه، وامرأةُ خازنه، وماشطتها.
واعلم: أنَّه - تعالى - إنَّما ذكر ذلك تسلية لمحمَّد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -؛ لأنَّه كان يغتمُّ بسبب إعراض القوم عنه، واستمرارهم على الكُفْر، فبيَّن أنَّ له في هذا الباب أسوة بسائر الأنبياء؛ لأنَّ الذي ظهر من موسى كان في الإعجاز في مرأى العين أعظم، ومع ذلك فما آمن منهم إلا ذرية.
قوله «عَلى خوفٍ» : حالٌ، أي: آمنوا كائنين على خوف، والضَّمير في «ومَلئِهِم» فيه أوجه:
أحدها: أنَّه عائدٌ على الذُّرية، وهذا قولُ أبي الحسن، واختيارُ ابن جرير، أي: خوفٍ من ملأ الذرية، وهم أشراف بني إسرائيل.
الثاني: أنه يعودُ على «قَوْمِهِ» بوجهيه، أي: سواءٌ جعلنا الضمير في «قومِهِ» لمُوسى، أو لفرعون، أي: وملأ قوم موسى، أو ملأ قوم فرعون.
الثالث: أن يعود على فرعون؛ لأنَّهم إنَّما كانُوا خائفين من فرعون، واعترض على هذا؛ بأنَّهُ كيف يعودُ ضميرُ جمعٍ على مفرد؟ واعتذر أبو البقاء بوجهين:
390
أحدهما: أنَّ فرعون لمَّا كان عظيماً عندهم، عاد الضَّمير عليه جمعاً، كما يقول العظيم: نحن نأمُرُ، وهذا فيه نظرٌ؛ لأنَّه لو ورد ذلك من كلامهم محْكِيّاً عنهم، لاحتمل ذلك.
الثاني: أنَّ فرعون صار اسماً لأتباعه، كما أنَّ ثمود اسمٌ للقبيلة كلها. وقال مكِّي وجهين آخرين قريبين من هذين، ولكنَّهما أخلص منهما، قال: إنَّما جمع الضميرُ في مَلَئهم؛ لأنَّه إخبار عن جبَّار، والجبَّار يخبر عنه بلفظ الجمع، وقيل: لمَّا ذكر فرعونُ، عُلِمَ أنَّ معه غيرهُ، فرجع الضَّميرُ عليه، وعلى من معه.
وقد تقدم نحوٌ من هذا عند قوله: ﴿الذين قَالَ لَهُمُ الناس إِنَّ الناس﴾ [آل عمران: ١٧٣] والمراد بالقائل الأول: نعيم بن مسعود؛ لأنَّه لا يخلُو من مساعدٍ لهُ على ذلك القول.
الرابع: أنْ يعود على مضافٍ محذوف وهو آل، تقديره: على خوفٍ من آل فرعون، ومَلئِهم، قاله الفرَّاء، كما حذف في قوله:
﴿واسأل
القرية﴾
[يوسف: ٨٢].
قال أبو البقاء بعد أن حكى هذا ولم يعزُه لأحدٍ: «وهذا عندنا غلطٌ؛ لأنَّ المحذوف لا يعود إليه ضميرٌ، إذ لو جاز ذلك، لجاز أن يقول:» زَيْدٌ قاموا «وأنت تريد: غلمان زيد قامُوا».
قال شهاب الدِّين: قوله: «لأنَّ المحذوف لا يعودُ إليه ضمير» ممنوعٌ، بل إذا حذف مضافٌ، فللعرب فيه مذهبان: الالتفات إليه، وعدمُه وهو الأكثر، ويدلُّ على ذلك: أنَّه قد جمع بين الأمرين في قوله: ﴿وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا﴾ [الأعراف: ٤] أي: أهل قرية، ثم قال: ﴿أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ﴾ [الأعراف: ٤] وقد حققت ذلك في موضعه المشار إليه، وقوله: «لجازَ زيد قاموا» ليس نظيره، فإنَّ فيه حذفاً من غير دليلٍ، بخلاف الآية.
وقال أبو حيان - بعد أن حكى كلام الفرَّاء -: ورُدَّ عليه: بأنَّ الخوف يمكنُ من فرعون، ولا يمكن سؤالُ القرية، فلا يحذفُ إلاَّ ما دلَّ عليه الدَّليلُ، وقد يقال: ويدلُّ على هذا المحذوف جمع الضمير في «ومَلئِهم». يعني أنَّهم ردُّوا على الفراء، بالفرق بين ﴿واسأل القرية﴾ [يوسف: ٨٢] وبين هذه الآية: بأنَّ سؤال القرية غير ممكنٍ، فاضطررنا إلى تقدير المضاف، بخلاف الآية فإنَّ الخوفَ تمكَّن من فرعون، فلا اضطرار بنا يدُلُّنا على مضاف محذوف.
وجواب هذا: أنَّ الحذف قد يكون لدليلٍ عقلي أو لفظي، على أنَّه قيل في ﴿واسأل القرية﴾ [يوسف: ٨٢] إنَّه حقيقةٌ، إذ يمكن النبيُّ أن يسأل القرية؛ فتُجِيبه.
الخامس: أنَّ ثمَّ معطوفاً محذوفاً حذف للدَّلالةِ عليه، والدَّليلُ عليه؛ كونُ الملك لا
391
يكونُ وحده، بل له حاشيةٌ، وعساكرُ، وجندٌ؛ فكان التقدير: على خوفٍ من فرعون، وقومه، وملئِهِم، أي: ملأ فرعون وقومه، وهو منقولٌ عن الفرَّاء أيضاً.
قال شهاب الدِّين: حذف المعطوف قليلٌ في كلامهم، ومنه عند بعضهم، قوله - تعالى -: ﴿تَقِيكُمُ الحر﴾ [النحل: ٨١] أي: والبرد؛ وقول الآخر: [الطويل]
٢٩٢٥ - كأنَّ الحصى من خلفها وأمَامِهَا إذَا حذفتْهُ رِجْلُها حذفُ أعْسَرَا
أي: ويدها.
قوله: «أن يفْتنَهُم» أي: يصرفهم عن دينهم، وفيه ثلاثةُ أوجهٍ:
أحدها: أنَّه في محلِّ جرٍّ على البدل من «فِرْعَون»، وهو بدلُ اشتمالٍ، تقديره: على خوفٍ من فرعون فتنة، كقولك: «أعْجَبني زيد علمُهُ».
الثاني: أنَّه في موضع نصب على المفعول به بالمصدر، أي: خوف فتنته، وإعمالُ المصدر المنوَّن كثيرٌ؛ كقوله: ﴿أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً﴾ [البلد: ١٤، ١٥]، وقول الآخر: [الطويل]
٢٩٢٦ - فَلوْلاَ رَجَاءُ النَّصْرِ منْكَ ورهْبَةٌ عِقابَك قد كانُوا لنا بالمَوارِدِ
الثالث: أنَّه منصوبٌ على المفعول من أجله بعد حذف اللام، ويجري فيها الخلافُ المشهورُ.
وقرأ الحسن، ونبيح: «يُفْتِنَهم» بضمِّ الياءِ من «أفتن» وقد تقدَّم ذلك [النساء: ١٠١].
قوله: ﴿وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأرض﴾ أي: مُتكبِّر، أو ظالمٌ، أو قاهر، و «فِي الأرض» متعلِّقٌ ب «عَالٍ» ؛ كقوله: [الكامل]
٢٩٢٧ - فاعْمَدْ لِمَا تعلُو فما لك بالَّذي لا تَسْتطيعُ مِنَ الأمُورِ يَدَانِ
أي: لِمَا تَقْهَر، ويجوز أن يكون «فِي الأرْضِ» متعلِّقاً بمحذوف؛ لكونه صفة ل «عَالٍ» فيكون مرفوع المحلِّ، ويرجح الأول قوله: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأرض﴾ [القصص: ٤] ثم قال: ﴿وَإِنَّهُ لَمِنَ المسرفين﴾ : المجاوزين الحدَّ؛ لأنه كان عبداً، فادَّعى الرُّبُوبيَّة، وقيل: لأنه كان كثير القتل والتعذيب لمنْ يخالفُه، والغرضُ منهُ: بيان السَّبب في كون أولئك المؤمنين خائفين.
392
قوله تعالى: ﴿وَقَالَ موسى ياقوم إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بالله﴾ الآية.
قوله تعالى: «فَعَليْهِ» جوابُ الشرط، والشرط الثاني - وهو «إن كنتم مُسلمينَ» - شرطٌ في الأول، وذلك أنَّ الشَّرطين متى لمْ يترتَّبا في الوجودِ، فالشَّرطُ الثَّاني شرطٌ في الأول، ولذلك يجب تقدُّمُه على الأول، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك [البقرة: ٣٨].
قال الفقهاء: المتأخر يجب أن يكون متقدماً، والمتقدِّم يجب أن يكون متأخراً، مثاله قول الرَّجُلِ لامرأته: إن دخلت الدار، فأنت طالقٌ إن كلمت زيداً، والمشروط متأخِّر عن الشَّرطِ، وذلك يقتضي أن يكون المتأخِّر في اللفظ، متقدماً في المعنى، وأن يكون المتقدم في اللفظ متأخراً في المعنى، فكأنَّه يقول لامرأته: حال ما كلمت زيداً إن دخلت الدَّار، فأنت طالقٌ، فلو حصل هذا التعليقُ، قيل: إن كلَّمَتْ زيداً لمْ يقع الطلاق.
قوله: ﴿ن كُنتُمْ آمَنتُمْ بالله فَعَلَيْهِ توكلوا إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ﴾ يقتضي أن يكون كونهم مسلمين شرطاً؛ لأن يصيروا مخاطبين بقوله: ﴿إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بالله فَعَلَيْهِ توكلوا﴾ فكأنَّه - تعالى - يقول للمسلم حال إسلامه: إن كنت من المؤمنين بالله فعلى الله توكَّلْ، والأمر كذلك؛ لأنَّ الإسلام عبارة عن الاستسلام، وهو الانقياد لتكاليف الله، وترك التمرد، والإيمان عبارةٌ عن صيرورة القلب، عارفاً بأن واجب الوُجُود لذاته واحدٌ، وأنَّ ما سواه محدث مخلُوق تحت تدبيره، وقهره، وإذا حصلت هاتان الحالتان، فعند ذلك يفوِّض العبدُ جميع أموره إلى الله - تعالى -، ويحصُلُ في القلب نور التَّوكُّل على الله - تعالى -.

فصل


إنما قال: «فعليه توكَّلُوا» ولم يقل: «توكَّلُوا على اللهِ»، لأن الأول يفيد الحصر، كأنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أمرهم بالتَّوكُّل عليه، ونهاهُم عن التوكُّلِ على الغير، ثم بيَّن - تعالى - أنَّ موسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لمَّا أمرهم بذلك قبلوا قوله ﴿فَقَالُواْ على الله تَوَكَّلْنَا﴾ أي: توكُّلُنا عليه واعتمادنا، ولم نلتفت إلى أحد سواه، ثم اشتغلوا بالدعاء، وطلبوا من الله شيئين:
أحدهما: أن قالوا: ﴿رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظالمين﴾.
والثاني: ﴿وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ القوم الكافرين﴾ أما قولهم: ﴿لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظالمين﴾ ففيه وجوه:
الأول: لا تفتن بنا فرعون وقومه؛ لأنك لو سلطَّتهُم علينا، لوقع في قلوبهم أنَّا لو كنَّا على الحقِّ، لما سلَّطتهُم علينا؛ فيصير ذلك شبهةً قويَّةً في إصرارهم على الكفر؛ فيكون ذلك فتنةً لهم.
الثاني: لو سلَّتهُم علينا، لاستوجبُوا العقاب الشَّديد في الآخرة، وذلك يكون فتنة لهم.
393
الثالث: أنَّ المراد بالفتنة المفتُون؛ لأنَّ إطلاق لفظ المصدر على المفعول جائز، كالخلق بمعنى المخلوق والتقدير: لا تَجٍْعلْنا مفْتُونين بأنَّ ييقهَرُونا بالظُّلْمِ على أن ننصرف من هذا الدِّين الذي قبلناهُ، ويؤكِّد هذا قوله: ﴿فَمَآ آمَنَ لموسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ على خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ﴾ [يونس: ٨٣] وأمَّا المطلوبُ الثاني، فهو قوله: ﴿وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ القوم الكافرين﴾.
وهذا يدلُّ على أنَّ اهتمامهم بأمر دينهم كان فوق اهتمامهم بأمر دنياهم؛ لأنَّا إذا حملنا قولهم: ﴿لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظالمين﴾ [يونس: ٨٥]، على تسليط الكفَّار عليهم وصيروة ذلك التسليط شبهة للكفار في أنَّ هذا الدِّين باطلٌ، فتضرعوا إلى الله - تعالى - في صون الكُفَّار عن هذه الشُّبهة، وتقديم هذا الدُّعاء على طلب النَّجاة لأنفسهم، وذلك يدل على أن اهتمامهُم بمصالح أديانهم فوق اهتمامهم بمصالح أبدانهم.
394
فإن قيل : إنَّ القوم لمَّا قالوا :﴿ إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ ﴾، فكيف حكى موسى عنهم أنَّهُم قالوا :" أسِحْرٌ هذا " على سبيل الاستفهام ؟.
فالجواب من وجهين :
أحدهما : أنَّ معمول " أتقولون " : الجملة من قوله :" أسِحْرٌ هذا " إلى آخره، كأنهم قالوا : أجِئْتُمَا بالسِّحر تطلبان به الفلاح، ولا يفلح السَّاحِرُون ؛ كقول موسى - عليه الصلاة والسلام - للسحرة :﴿ مَا جِئْتُمْ بِهِ السحر إِنَّ الله سَيُبْطِلُهُ ﴾ [ يونس : ٨١ ].
والثاني : أنَّ معمول القول محذوفٌ، مدلولٌ عليه بما تقدم ذكرهُ، وهو ﴿ إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ ﴾.
ومعمولُ القول يحذف للدَّلالةِ عليه كثيراً، كما يحذف القول كثيراً، ويكون تقدير الآية : إن موسى - عليه الصلاة والسلام - قال لهم :﴿ أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَكُمْ ﴾ ما تقولون، ثم حذف منه مفعول " أتقولون " لدلالة الحالِ عليه، ثم قال : أسِحْرٌ هذا وهو استفهامٌ على سبيل الإنكار، ثم احتجَّ على أنَّه ليس بسحرٍ، بقوله :﴿ وَلاَ يُفْلِحُ الساحرون ﴾ ؛ ومثلُ الآية في حذف المقول قولُ الشاعر :[ الطويل ]
لنَحْنُ الألَى قُلْتُمْ فأنَّى مُلِئْتُمُ بِرُؤيتنَا قبْلَ اهتِمَامٍ بكُمْ رُعْبَا١
وفي كتاب سيبويه :" متَى رَأيتَ أو قُلْتَ زيداً مُنْطلقاً " على إعمال الأول، وحذف معمول القول، ويجوز إعمالُ القول بمعنى الحكاية به، فيقال :" متى رأيت أو قلت زيد مُنطلقٌ " وقيل : القول في الآية بمعنى : العَيْب والطَّعْن، والمعنى : أتَعِيبُونَ الحقَّ وتطعنُونَ فيه، وكان من حقِّكم تعظيمُه، والإذعانُ له، من قولهم :" فلان يخافُ القالة " و " بين الناس تقاولٌ " إذا قال بعضهم لبعضٍ ما يسوؤه، ونحو القولِ الذَِّكرُ في قوله :﴿ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ ﴾ [ الأنبياء : ٦٠ ] وكلُّ هذا مُلخّص من كلام الزمخشريِّ.
١ ينظر البيت في الهمع ١/٥٧ والدرر ١/١٣٩ والبحر المحيط ٥/١٨٠، والدر المصون ٤/٥٧..
قوله :" قَالُوا " يعني : فرعون وقومه، " أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا " اللاَّمُ متعلقةٌ بالمجيء، أي : أجِئْتَ لهذا الغرضِ، أنكروا عليه مجيئهُ لهذه العلَّة، واللَّفتُ : الليُّ والصَّرْفُ، لفته عن كذا، أي : صرفه ولواه عنه، وقال الأزهري١ :" لفَتَ الشَّيء وفتلهُ " : لواه، وهذا من المقلوب.
قال شهاب الدِّين :" ولا يُدَّعى فيه قلبٌ، حتى يرجع أحدُ اللفظين في الاستعمال على الآخر، ولذلك لم يَجْعَلُوا جذبَ وجبذَ، وحَمِدَ ومَدَحَ من هذا القبيل لتساويهما، ومطاوعُ لَفَتَ : التفَت، وقيل : انْفَتَلَ، وكأنَّهُم استغْنَوا بمطاوع " فَتَل " عن مطاوع لَفَتَ، وامرأة لفُوت، أي : تَلْتفتُ لولدها عن زوجها، إذا كان الولد لغيره، واللَّفيتةُ : ما يغلظُ من القصيدة " والمعنى : أنَّهم قالوا : لا نترك الذي نحن عليه ؛ لأنَّا وجدنا أباءنا عليه، فتمسكُوا بالتقليد، ودفعُوا الحُجَّة الظاهرة بمجرد الإصرار.
قوله :﴿ وَتَكُونَ لَكُمَا الكبريآء فِي الأرض ﴾ الكبرياء : اسمُ " كان "، و " لكم " : الخبر، و " في الأرض " : جوَّز فيها أبو البقاء خمسة أوجه :
أحدها : أن تكون متعلقة بنفس الكبرياء.
الثاني : أن يتعلق بنفس " تكون ".
الثالث : أن يتعلَّق بالاستقرار في " لكم " لوقوعه خبراً.
الرابع : أن يكون حالاً من " الكبرياء ".
الخامس : أن يكون حالاً من الضَّمير في " لَكُمَا " لتحمُّلِه إيَّاهُ ". والكبرياء مصدرٌ على وزن " فِعْلِيَاء "، ومعناها : العظيمة ؛ قال عديُّ بن الرِّقَاعِ :[ الخفيف ]
سُؤدُدٌ غَيْرُ فَاحِشٍ لا يُدَانِي يه تجبَّارةٌ ولا كِبْرياءُ٢
وقال ابن الرّقيات يمدح مصعب بن الزبير :[ الخفيف ]
مُلْكُهُ مُلْكُ رَأفَةٍ ليس فيه جَبَرُوتٌ مِنْهُ ولا كِبْرِيَاءُ٣
يعني : هو ليس عليه ما عليه المملوكُ من التجبُّر والتَّعظيم.
والجمهور على " تكون " بالتَّأنيث مراعاةً لتأنيث اللفظ.
وقرأ ابن مسعود٤، والحسن، وإسماعيل وأبو عمرو، وعاصم - رضي الله عنهم - في روايةٍ :" يكون " بالياء من تحت ؛ لأنَّه تأنيثٌ مجازيٌّ.
قال المفسِّرون : والمعنى : ويكون لكُما الملكُ والعزُّ في أرض مصر، والخطابُ لموسى، وهارون - عليهما الصلاة والسلام -.
قال الزَّجَّاج : سمى الملك كبرياء ؛ لأنه أكبر ما يطلب من أمر الدنيا، وأيضاً : فالنبيُّ إذا اعترف القوم بصدقه، صارت مقاليدُ أرم أمته إليه ؛ فصار أكبر القوم.
واعلم : أنَّ القوم لمَّا ذكروا هذين الشيئين في عدم اتِّباعهم، وهما : التَّقليد، والحرصُ على طلب الرِّياسة، صرَّحُوا بالحكم، فقالوا :﴿ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ ﴾، ثم شرعُوا في معارضةِ معجزات موسى - عليه الصلاة والسلام - بأنواعٍ من السحر ؛ ليظهر عند الناس أن ما أتى به موسى من باب السِّحْر، فقال فرعون :﴿ ائتوني بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ ﴾.
١ ينظر: تهذيب اللغة ١٤/٢٨٥..
٢ ينظر البيت في البحر المحيط ٥/١٨١، وتفسير الطبري ١٥/١٥٨ والدر المصون ٤/٥٨..
٣ ينظر البيت في ديوانه (٩١) برواية:
ملكه ملك قوة ليس فيه جبروت ولا به كبرياء
ينظر: الشعر والشعراء ١/٥٢٤ والبحر المحيط ٥/١٨١ والخزانة ٣/٢٦٩ والكشاف ٢/٣٦٢ والدر المصون ٤/٥٨..

٤ ينظر: إتحاف فضلاء البشر ٢/١١٨، الكشاف ٢/٣٦٢، المحرر الوجيز ٣/١٣٥، الدر المصون ٤/٥٨..
﴿ ائتوني بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ ﴾ قرأ الأخوان١ : سحَّار وهي قراءةُ ابن مُصرِّف، وابن وثَّاب، وعيسى بن عمر.
١ ينظر: حجة القراءات ص (٣٣٥)، إتحاف فضلاء البشر ٢/١١٨، الكشاف ٢/٣٦٣، المحرر الوجيز ٣/١٣٥، البحر المحيط ٥/١٨١، الدر المصون ٤/٥٨..
﴿ فَلَمَّا جَآءَ السحرة قَالَ لَهُمْ موسى أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ ﴾.
فإن قيل : كيف أمرهُم بالسِّحْر، والسِّحر كفر، والأمر بالكفر كُفْرٌ ؟.
فالجواب : أنَّه - عليه الصلاة والسلام - أمرهم بإلقاء الحِبال والعِصيّ ؛ ليظهر للخلق أن ما أتوا به عملٌ فاسدٌ، وسعيٌ باطلٌ، لا أنَّه - عليه الصلاة والسلام - أمرهم بالسِّحْرِ ؛ فلمَّا ألقوا حبالهم وعصيَّهُم، قال لهم موسى : ما جئتم به هو السِّحْر، والغرض منهُ : أنَّهم لمَّا قالُوا لموسى : إنَّ ما جئتَ به سحر، فقال موسى - عليه الصلاة والسلام - : إنَّ ما ذكرتمُوه باطلٌ، بل الحقُّ : أنَّ الذي جئتُم به هو السِّحر الذي يظهر بطلانه، ثم أخبرهُم بأن الله يحق الحق، ويبطل الباطل.
قوله :﴿ مَا جِئْتُمْ بِهِ السحر ﴾ قرأ أبو عمرو١ وحده :" آلسِّحر " بهمزة الاستفهام، وبعدها ألف محضةٌ، وهي بدل عن همزة الوصلِ الدَّاخلة على لام التعريف، ويجوز أن تُسَهَّل بين بين، وقد تقدَّم تحقيق هذين الوجهين في قوله :﴿ ءَآلذَّكَرَيْنِ ﴾ [ الأنعام : ١٤٣ ] وهي قراءة مجاهد، وأصحابه، وأبي جعفر، وقرأ باقي السبعة : بهمزة وصلٍ تسقُط في الدَّرْج، فأمَّا قراءةُ أبي عمرو، ففيها أوجه :
أحدها : أنَّ " ما " استفهاميَّة في محلِّ رفع بالابتداء، و " جِئْتُمْ بِه " : الخبرُ، والتقدير : أي شيءٍ جِئْتُم، كأنَّه استفهام إنكار، وتقليلٌ للشَّيءِ المُجاء به. و " السِّحْر " بدلٌ من اسم الاستفهام ؛ ولذلك أعيد معه أداته ؛ لما تقرَّر في كتب النحو، وذلك ليساوي المبدل منه في أنَّه استفهامٌ، كما تقول : كم مالك أعشرون، أم ثلاثون ؟ فجعلت : أعشرون بدلاً من كم، ولا يلزم أن يضمر للسِّحر خبر ؛ لأنَّك إذا أبدلته من المبتدأ، صار في موضعه، وصار ما كان خبراً عن المبدل منه، خبراً عنه.
الثاني : أن يكون " السِّحْر " خبر مبتدأ محذوف، تقديره : أهُو السِّحْر.
الثالث : أن يكون مبتدأ محذوف الخبر، تقديره : السحر هو، ذكر هذين الوجهين أبو البقاء، وذكر الثاني مكِّي، وفيهما بعد.
الرابع : أن تكون " ما " موصولة بمعنى : الذي، و " جئتم به " صلتها، والموصولُ في محلِّ رفع بالابتداء، والسِّحر على وجهيه من كون خبر مبتدأ محذوف، أو مبتدأ محذوف الخبر، تقديره : الذي جئتم به أهُو السِّحْر ؟ أو الذي جئتم به السحر هو ؟ وهذا الضميرُ هو الرَّابط، كقولك : الذي جاءك أزيدٌ هو ؟ قاله أبو حيَّان.
قال شهاب الدِّين٢ : قد منع مكِّي أن تكون " ما " موصولةً، على قراءة أبي عمرو، فقال : وقد قرأ أبو عمرو " " آلسحرُ " بالمدِّ، فعلى هذه القراءة : تكون " ما " استفهاماً مبتدأ، و " جِئْتُم بِهِ " : الخبر، و " السّحر " خبرُ ابتداءٍ محذوف، أي : أهو السِّحر ؟ ولا يجوزُ أن تكون " مَا " بمعنى :" الَّذي " على هذه القراءة ؛ إذ لا خبر لها. وليس كما ذكر، بل خبرها : الجملةُ المقدَّرُ أحدُ جُزأيها، وكذلك الزمخشري، وأبو البقاء لمْ يُجِيزَا كونها موصولةً، إلاَّ في قراءة غير أبي عمرو، لكنَّهُمَا لم يتعرَّضَا لعدم جوازه.
الخامس : أن تكون " ما " استفهامية في محلِّ نصبِ بفعل مقدَّرٍ بعدها ؛ لأنَّ لها صدر الكلام، و " جِئْتُم به " مفسِّر لذلك الفعل المقدَّر، وتكون المسألةُ حينئذٍ من باب الاشتغال، والتقدير : أيُّ شيءٍ أتيتُم جِئْتُم به، و " السِّحْر " على ما تقدَّم، ولو قُرئ بنصب " السِّحْر " على أنَّه بدلٌ مِنْ " ما " بهذا التقدير، لكان لهُ وجه، لكنَّه لم يقرأ به فيما علمت، وسيأتي ما حكاه مكِّي عن الفرَّاء من جواز نصبه لمدركٍ آخر، لا على أنَّها قراءةٌ منقولةٌ عن الفرَّاء.
وأمَّا قراءةُ الباقين، ففيها أوجهٌ :
أحدها : أن تكون " ما " بمعنى :" الذي " في محلِّ رفعٍ بالابتداء، و " جِئْتُم بِه " صلته وعائده، و " السِّحرُ " خبرهُ، والتقدير : الذي جئتم به السحر، ويؤيِّد هذا التقدير، قراءة أبيّ٣، وما في مصحفه :" ما أتيتم به سِحْرٌ "، وقراءة عبد الله بن مسعود والأعمش :" مَا جِئْتُمْ بِهِ سحْرُ ".
الثاني : أن تكون " ما " استفهامية في محلِّ نصبٍ، بإضمار فعل على ما تقرَّر و " السِّحْر " خبر ابتداء مضمر، أو مبتدأ مضمر الخبر.
الثالث : أن تكون " ما " في محلِّ رفع بالابتداء، و " السِّحْر " على ما تقدَّم من كونه مبتدأ، أو خبراً، والجملة خبر " ما " الاستفهامية.
قال أبو حيَّان - بعد ما ذكر الوجه الأول - :" ويجوز عندي أن تكون في هذا الوجه استفهاميَّة في موضع رفع بالابتداء، أو في موضع نصبٍ على الاشتغال، وهو استفهامٌ على سبيل التَّحقير، والتَّقليل لما جاؤوا به، و " السِّحْر " خبرُ مبتدأ محذوفٍ، أي : هو السِّحْر ".
قال شهاب الدِّين٤ : ظاهرُ عبارته : أنَّه لم يَرَ غيره، حيث قال وعندي، وهذا قد جوَّزه أبو البقاء ومكِّي.
قال أبو البقاء - لمَّا ذكر قراءة غير أبي عمرو - " ويُقْرَأ بلفظ الخبر، وفيه وجهان "، ثم قال :" ويجوزُ أن تكون " ما " استفهاميَّة، و " السِّحْر " خبر مبتدأ محذوف ".
وقال مكِّي - في قراءة غير أبي عمرو، بعد ذكره كون " ما " بمعنى : الذي - ويجوز أن تكون " ما " رفعاً بالابتداء، وهي استفهامٌ، و " جِئْتُم بهِ " : الخبر، و " السِّحْر " خبر مبتدأ محذوف، أي : هو السِّحر، ويجُوزُ أن تكون " ما " في موضع نصبٍ على إضمار فعلٍ بعد " ما " تقديره : أيُّ شيءٍ جئتم به، و " السحرُ " : خبر ابتداء محذوف.
الرابع : أن تكون هذه القراءةُ كقراءة أبي عمرو في المعنى، أي : أنَّها على نيةِ الاستفهامِ، ولكن حذفت أداته للعلم بها.
قال أبو البقاء : ويقرأ بلفظِ الخبر، وفيه وجهان :
أحدهما : أنَّه استفهامٌ في المعنى أيضاً، وحذفت الهمزة للعلم بها وعلى هذا الذي ذكره : يكونُ الإعرابُ على ما تقدَّم، واعلم أنَّك إذا جعلت " ما " موصولة بمعنى : الذي، امتنع نصبُها بفعلٍ مقدَّرٍ على الاشتغال.
قال مكِّي : ولا يجُوزُ أن تكون " ما " بمعنى : الذي، في موضع نصْبٍ لأنَّ ما بعدها صلتها، والصلةُ لا تعمل في الموصول، ولا يكون تفسيراً للعامل في الموصول وهو كلامٌ صحيحٌ ؛ فتلخَّص من هذا : أنَّها إذا كانت استفهامية، جاز أن تكون في محلِّ رفع أو نصب، وإذا كانت موصولة، تعيَّن أن يكون محلُّها الرفع بالابتداء، وقال مكي : وأجاز الفرَّاءُ نصب " السِّحْر " فجعل " ما " شرطاً، وينصبُ " السِّحْر " على المصدر، وتضمرُ الفاءُ مع ﴿ إِنَّ الله سَيُبْطِلُهُ ﴾، وتجعل الألف واللام في " السِّحْر زائدتين، وذلك كلُّه بعيدٌ، وقد أجاز عليُّ بن سليمان : حذف الفاءِ من جواب الشَّرط في الكلام، واستدلَّ على جوازه بقوله - تعالى - :﴿ وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ﴾ [ الشورى : ٣٠ ]، ولم يجزه غيره إلاَّ في ضرورة شعر.
قال شهاب الدِّين : وإذا مشينَا مع الفرَّاء، فتكون " ما " شرطاً يُراد بها المصدرُ، تقديره : أيَّ سحر جئتم به، فإنَّ الله سيبطله، ويُبَيِّن أنَّ " ما " يراد بها السحر قوله :" السِّحْر " ؛ ولكن يقلقُ قوله :" إنَّ نصب السِّحْر على المصدريَّة " فيكون تأويله : أنَّه منصوبٌ على المصدر الواقع موقع الحال ؛ ولذلك قدَّره بالنَّكرة، وجعل " أل " مزيدة فيه.
وقد نُقِلَ عن الفرَّاء : أنَّ هذه الألف واللام للتعريف، وهو تعريف العهد، قال الفرَّاء :" وإنَّما قال " السِّحر " بالألف واللاَّم ؛ لأنَّ النَّكرة إذا أعيدتْ، أعيدت بالألف واللاَّم " يعنى : أنَّ النَّكرة قد تقدَّمت في قوله :﴿ إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ ﴾ [ يونس : ٧٦ ]، وبهذا شرحهُ ابنُ عطيَّة.
قال ابن عطيَّة : والتعريف هنا في السحر أرْتَبُ ؛ لأنَّه قد تقدَّم منكَّراً في قولهم :" إنَّ هذا لسحرٌ "، فجاء هنا بلام العهد، كما يقال أوَّل الرسالة :" سلامٌ عليك ".
قال أبو حيَّان " وما ذكراه هنا في " السِّحْر " ليس من تقدُّم النكرة، ثُمَّ أخبر عنها بعد ذلك ؛ لأنَّ شرط هذا أن يكون المعرَّفُ ب " أل " هو المنكر المتقدَّم، ولا يكون غيره، كقوله - تعالى - :﴿ كَمَآ أَرْسَلْنَآ إلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فعصى فِرْعَوْنُ الرسول ﴾ [ المزمل : ١٥، ١٦ ].
وتقول :" زارنِي رجلٌ، فأكرمتُ الرَّجُل " لمَّا كان إيَّاه، جاز أن يُؤتَى بضميره بدلهُ، فتقول :" فأكرمته "، و " السِّحْر " هنا : ليس هو السحرَ الذي في قولهم :" إنَّ هذا لسحْرٌ " لأنَّ الذي أخبروا عنه بأنَّه سحرٌ، هو ما ظهر على يدي موسى من معجزة العصا، والسِّحْر الذي في قول موسى، إنَّما هو سحرهُم الذي جاؤوا به، فقد اختلف المدلولان، إذ قالوا هم عن معجزة موسى، وقال موسى عمَّا جاؤوا به ؛ ولذلك لا يجُوز أن يؤتى هنا بالضَّمير بدل السِّحْر ؛ فيكون عائداً على قولهم : لسحْرٌ ".
قال شهاب الدِّين :" والجوابُ : أنَّ الفرَّاء، وبن عطيَّة إنَّما أرَادَا السِّحر المتقدِّم الذكر في اللفظ، وإن كان الثَّاني هو غير عين الأول في المعنى، ولكن لمَّا أطلق عليهما لفظ " السَّحْر " جاز أن يقال ذلك، ويدلُّ على هذا : أنَّهم قالوا في قوله - تعالى - :﴿ والسلام عَلَيَّ ﴾ [ مريم : ٣٣ ] إنَّ الألف واللام للعهد ؛ لتقدُّم ذكر السَّلام في قوله - تعالى - :﴿ وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ ﴾ [ مريم : ١٥ ]، وإن كان السَّلامُ الواقعُ على عيسى، هو غير السلام الواقع على يحيى ؛ لاختصاص كلِّ سلام بصاحبه من حيث اختصاصه به، وهذا النَّقْل المذكورُ عن الفرَّاء في الألف واللاَّم، ينافى ما نقلهُ عنه مكِّي فيهما، اللَّهُمَّ إلاَّ أن يقال : يحتمل أن يكون له مقالتان، وليس ببعيدٍ ؛ فإنَّه كُلَّما كثر العلمُ، اتَّسعت المقالاتُ ".
قوله :﴿ إِنَّ الله سَيُبْطِلُهُ ﴾ أي : سيهلكه، ويظهر فضيحة صاحبه، ﴿ إِنَّ الله لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ المفسدين ﴾ أي : لا يقوِّيه ولا يكمِّله، وقوله :" المُفْسدينَ " من وقوع الظَّاهر موقع ضمير المخاطب ؛ إذ الأصلُ : لا يصلح عملكم ؛ فأبرزهم في هذه الصِّفة الذَّميمة شهادة عليهم بها.
١ ينظر: السبعة ص (٣٢٨)، الحجة ٤/٢٨٩-٢٩٠، حجة القراءات ص(٣٣٥)، إعراب القراءات ١/٢٧٢، إتحاف فضلاء البشر ٢/١١٨..
٢ ينظر: الدر المصون ٤/٥٩..
٣ ينظر: إتحاف فضلاء البشر ٢/١١٨، الكشاف ٢/٣٦٣، المحرر الوجيز ٣/١٣٥، البحر المحيط ٥/١٨١، الدر المصون ٤/٥٩..
٤ ينظر: الدر المصون ٤/٥٩..
ثم قال :﴿ وَيُحِقُّ الله الحق ﴾ أي : يظهره ويقوِّيه، ﴿ بِكَلِمَاتِهِ ﴾ أي : بوعده موسى، وقيل : بما سبق من قضائه وقدره، وقرئ :" بكَلمتهِ " بالتوحيد، وتقدَّم نظيره [ الأنفال : ٧ ].
قوله :﴿ فَمَآ آمَنَ لموسى ﴾ الفاءُ للتَّعقيب، وفيها إشعارٌ بأنَّ إيمانهم لم يتأخَّر عن الإلقاء، بل وقع عقيبهُ ؛ لأنَّ الفاء تفيد ذلك، وقد تقدَّم توجيهُ تعدية " آمن " باللاَّم، والضَّمير في " قَوْمِهِ " فيه وجهان :
أظهرهما : أنَّه يعودُ على موسى ؛ لأنَّهُ هو المُحدَّث عنه ؛ ولأنَّه أقربُ مذكورٍ، ولو عاد على فرعون، لمْ يكرِّرْ لفظه ظاهراً، بل كان التركيب :" على خوفٍ منه " وإلى هذا ذهب ابنُ عبَّاس، وغيره، قال : المراد مؤمني بني إسرائيل الذين كانُوا بمصر، وخرجُوا معه١.
قال ابن عبَّاس : لفظ الذُّريَّة يُعَبَّر به عن القوم على وجه التَّحقير والتَّصغير٢، ولا سبيل لحمله على التقدير على وجه الإهانة ههنا ؛ فوجب حمله على التصغير، بمعنى : قلة العدد.
قال مجاهد : كانوا أولاد الذين أرسل إليهم موسى من بني إسرائيل، هلك الآباء، وبقي الأبناء٣.
وقيل : هم قوم نَجَوْا من قتل فرعون ؛ وذلك أنَّ فرعون لما أمر بقتل أبْنَاءِ بني إسرائيل، كانت المرأة في بني إسرائيل، إذا ولدت ابناً وهبته لقبطيَّة، خوفاً عليه من القتل، فنشئُوا بين القبط، وأسلمُوا في اليوم الذي غلب فيه موسى السَّحرة.
والثاني : أنَّ الضمير يعُود على فرعون، ويُروى عن ابن عبَّاس٤ أيضاً، ورجَّح ابنُ عطيَّة هذا، وضعف الأول، فقال : وممَّا يضعفُ عود الضَّمير على مُوسى : أنَّ المعروف من أخبار بني إسرائيل، أنهم كانوا قد فشتْ فيهم النبواتُ، وكانُوا قد نالهُم ذلٌّ مفرط، وكانوا يرجُون كشفهُ بظُهُورِ مولُود، فلمَّا جاءهُم موسى أصْفَقُوا عليه وتابعُوه، ولم يُحْفَظْ أنَّ طائفة من بني إسرائيل كفرتْ بمُوسَى، فكيف تُعْطِي هذه الآيةُ أنَّ الأقلَّ منهم كان الذي آمَنَ ؟ فالذي يترجَّحُ عودُه على فرعون، ويؤيِّده أيضاً : ما تقدَّم من محاورة موسى وردِّه عليهم وتوبيخهم.
قيل : المراد بالذرية : أقوام كان آباؤهم من قوم فرعون، وأمَّهاتُهُم من بني إسرائيل، فجعل الرَّجُل يتبع أمَّهُ وأخوالهُ.
روي عن ابن عبَّاس : أنَّهم كانوا ستمائة ألفٍ من القبط٥.
قيل : سُمُّوا ذُرِّيَّة ؛ لأنَّ آباءهم كانوا من القبط، وأمهاتهم من بني إسرائيل، كما يقال لأولاد فارس - الذين سقطوا إلى اليمن - : الأبناء ؛ لأنَّ أمُّهاتهم من غير جنس آبائهم.
وقيل : المراد بالذُّرِّيَّة من آل فرعون : آسيةُ، ومُؤمنُ آلِ فرعون، وامرأته، وخازنه، وامرأةُ خازنه، وماشطتها.
واعلم : أنَّه - تعالى - إنَّما ذكر ذلك تسلية لمحمَّد - عليه الصلاة والسلام - ؛ لأنَّه كان يغتمُّ بسبب إعراض القوم عنه، واستمرارهم على الكُفْر، فبيَّن أنَّ له في هذا الباب أسوة بسائر الأنبياء ؛ لأنَّ الذي ظهر من موسى كان في الإعجاز في مرأى العين أعظم، ومع ذلك فما آمن منهم إلا ذرية.
قوله " عَلى خوفٍ " : حالٌ، أي : آمنوا كائنين على خوف، والضَّمير في " ومَلئِهِم " فيه أوجه :
أحدها : أنَّه عائدٌ على الذُّرية، وهذا قولُ أبي الحسن، واختيارُ ابن جرير، أي : خوفٍ من ملأ الذرية، وهم أشراف بني إسرائيل.
الثاني : أنه يعودُ على " قَوْمِهِ " بوجهيه، أي : سواءٌ جعلنا الضمير في " قومِهِ " لمُوسى، أو لفرعون، أي : وملأ قوم موسى، أو ملأ قوم فرعون.
الثالث : أن يعود على فرعون ؛ لأنَّهم إنَّما كانُوا خائفين من فرعون، واعترض على هذا ؛ بأنَّهُ كيف يعودُ ضميرُ جمعٍ على مفرد ؟ واعتذر أبو البقاء بوجهين :
أحدهما : أنَّ فرعون لمَّا كان عظيماً عندهم، عاد الضَّمير عليه جمعاً، كما يقول العظيم : نحن نأمُرُ، وهذا فيه نظرٌ ؛ لأنَّه لو ورد ذلك من كلامهم محْكِيّاً عنهم، لاحتمل ذلك.
الثاني : أنَّ فرعون صار اسماً لأتباعه، كما أنَّ ثمود اسمٌ للقبيلة كلها. وقال مكِّي٦ وجهين آخرين قريبين من هذين، ولكنَّهما أخلص منهما، قال : إنَّما جمع الضميرُ في مَلَئهم ؛ لأنَّه إخبار عن جبَّار، والجبَّار يخبر عنه بلفظ الجمع، وقيل : لمَّا ذكر فرعونُ، عُلِمَ أنَّ معه غيرهُ، فرجع الضَّميرُ عليه، وعلى من معه.
وقد تقدم نحوٌ من هذا عند قوله :﴿ الذين قَالَ لَهُمُ الناس إِنَّ الناس ﴾ [ آل عمران : ١٧٣ ] والمراد بالقائل الأول : نعيم بن مسعود ؛ لأنَّه لا يخلُو من مساعدٍ لهُ على ذلك القول.
الرابع : أنْ يعود على مضافٍ محذوف وهو آل، تقديره : على خوفٍ من آل فرعون، ومَلئِهم، قاله الفرَّاء، كما حذف في قوله :﴿ واسأل القرية ﴾ [ يوسف : ٨٢ ].
قال أبو البقاء بعد أن حكى هذا ولم يعزُه لأحدٍ :" وهذا عندنا غلطٌ ؛ لأنَّ المحذوف لا يعود إليه ضميرٌ، إذ لو جاز ذلك، لجاز أن يقول :" زَيْدٌ قاموا " وأنت تريد : غلمان زيد قامُوا ".
قال شهاب الدِّين٧ : قوله :" لأنَّ المحذوف لا يعودُ إليه ضمير " ممنوعٌ، بل إذا حذف مضافٌ، فللعرب فيه مذهبان : الالتفات إليه، وعدمُه وهو الأكثر، ويدلُّ على ذلك : أنَّه قد جمع بين الأمرين في قوله :﴿ وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا ﴾ [ الأعراف : ٤ ] أي : أهل قرية، ثم قال :﴿ أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ ﴾ [ الأعراف : ٤ ] وقد حققت ذلك في موضعه المشار إليه، وقوله :" لجازَ زيد قاموا " ليس نظيره، فإنَّ فيه حذفاً من غير دليلٍ، بخلاف الآية.
وقال أبو حيان - بعد أن حكى كلام الفرَّاء - : ورُدَّ عليه : بأنَّ الخوف يمكنُ من فرعون، ولا يمكن سؤالُ القرية، فلا يحذفُ إلاَّ ما دلَّ عليه الدَّليلُ، وقد يقال : ويدلُّ على هذا المحذوف جمع الضمير في " ومَلئِهم ". يعني أنَّهم ردُّوا على الفراء، بالفرق بين ﴿ واسأل القرية ﴾ [ يوسف : ٨٢ ] وبين هذه الآية : بأنَّ سؤال القرية غير ممكنٍ، فاضطررنا إلى تقدير المضاف، بخلاف الآية فإنَّ الخوفَ تمكَّن من فرعون، فلا اضطرار بنا يدُلُّنا على مضاف محذوف.
وجواب هذا : أنَّ الحذف قد يكون لدليلٍ عقلي أو لفظي، على أنَّه قيل في ﴿ واسأل القرية ﴾ [ يوسف : ٨٢ ] إنَّه حقيقةٌ، إذ يمكن النبيُّ أن يسأل القرية ؛ فتُجِيبه.
الخامس : أنَّ ثمَّ معطوفاً محذوفاً حذف للدَّلالةِ عليه، والدَّليلُ عليه ؛ كونُ الملك لا يكونُ وحده، بل له حاشيةٌ، وعساكرُ، وجندٌ ؛ فكان التقدير : على خوفٍ من فرعون، وقومه، وملئِهِم، أي : ملأ فرعون وقومه، وهو منقولٌ عن الفرَّاء أيضاً.
قال شهاب الدِّين٨ : حذف المعطوف قليلٌ في كلامهم، ومنه عند بعضهم، قوله - تعالى - :﴿ تَقِيكُمُ الحر ﴾ [ النحل : ٨١ ] أي : والبرد ؛ وقول الآخر :[ الطويل ]
كأنَّ الحصى من خلفها وأمَامِهَا إذَا حذفتْهُ رِجْلُها حذفُ أعْسَرَا٩
أي : ويدها.
قوله :" أن يفْتنَهُم " أي : يصرفهم عن دينهم، وفيه ثلاثةُ أوجهٍ :
أحدها : أنَّه في محلِّ جرٍّ على البدل من " فِرْعَون "، وهو بدلُ اشتمالٍ، تقديره : على خوفٍ من فرعون فتنة، كقولك :" أعْجَبني زيد علمُهُ ".
الثاني : أنَّه في موضع نصب على المفعول به بالمصدر، أي : خوف فتنته، وإعمالُ المصدر المنوَّن كثيرٌ ؛ كقوله :﴿ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ﴾ [ البلد : ١٤، ١٥ ]، وقول الآخر :[ الطويل ]
فَلوْلاَ رَجَاءُ النَّصْرِ منْكَ ورهْبَةٌ عِقابَك قد كانُوا لنا بالمَوارِدِ١٠
الثالث : أنَّه منصوبٌ على المفعول من أجله بعد حذف اللام، ويجري فيها الخلافُ المشهورُ.
وقرأ الحسن١١، ونبيح :" يُفْتِنَهم " بضمِّ الياءِ من " أفتن " وقد تقدَّم ذلك [ النساء : ١٠١ ].
قوله :﴿ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأرض ﴾ أي : مُتكبِّر، أو ظالمٌ، أو قاهر، و " فِي الأرض " متعلِّقٌ ب " عَالٍ " ؛ كقوله :[ الكامل ]
فاعْمَدْ لِمَا تعلُو فما لك بالَّذي لا تَسْتطيعُ مِنَ الأمُورِ يَدَانِ١٢
أي : لِمَا تَقْهَر، ويجوز أن يكون " فِي الأرْضِ " متعلِّقاً بمحذوف ؛ لكونه صفة ل " عَالٍ " فيكون مرفوع المحلِّ، ويرجح الأول قوله :﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأرض ﴾ [ القصص : ٤ ] ثم قال :﴿ وَإِنَّهُ لَمِنَ المسرفين ﴾ : المجاوزين الحدَّ ؛ لأنه كان عبداً، فادَّعى الرُّبُوبيَّة، وقيل : لأنه كان كثير القتل والتعذيب لمنْ يخالفُه، والغرضُ منهُ : بيان السَّبب في كون أولئك المؤمنين خائفين.
١ ذكره الرازي في "تفسيره" (١٧/١١٥-١١٦)..
٢ انظر المصدر السابق..
٣ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٦/٥٩٢) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٥٦٥) وعزاه إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وأبي الشيخ..
٤ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٦/٥٩٢) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٥٦٥) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.
وذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٣٦٤)..

٥ ذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٣٦٤)..
٦ ينظر: المشكل ١/٣٩٠..
٧ ينظر: الدر المصون ٤/٦٢..
٨ ينظر: الدر المصون ٤/٦٢..
٩ تقدم..
١٠ تقدم..
١١ وقرأ بها أيضا جراح.
ينظر: المحرر الوجيز ٣/١٣٧، البحر المحيط ٥/١٨٣، الدر المصون ٤/٦٣..

١٢ البيت لكعب بن سعد الغنوي أو لعلي بن عدي الغنوي.
ينظر: البحر المحيط ٥/١٨٣ واللسان (علا) والدر المصون ٤/٦٣..

قوله تعالى :﴿ وَقَالَ موسى يا قوم إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بالله ﴾ الآية.
قوله تعالى :" فَعَليْهِ " جوابُ الشرط، والشرط الثاني - وهو " إن كنتم مُسلمينَ " - شرطٌ في الأول، وذلك أنَّ الشَّرطين متى لمْ يترتَّبا في الوجودِ، فالشَّرطُ الثَّاني شرطٌ في الأول، ولذلك يجب تقدُّمُه على الأول، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك [ البقرة : ٣٨ ].
قال الفقهاء : المتأخر يجب أن يكون متقدماً، والمتقدِّم يجب أن يكون متأخراً، مثاله قول الرَّجُلِ لامرأته : إن دخلت الدار، فأنت طالقٌ إن كلمت زيداً، والمشروط متأخِّر عن الشَّرطِ، وذلك يقتضي أن يكون المتأخِّر في اللفظ، متقدماً في المعنى، وأن يكون المتقدم في اللفظ متأخراً في المعنى، فكأنَّه يقول لامرأته : حال ما كلمت زيداً إن دخلت الدَّار، فأنت طالقٌ، فلو حصل هذا التعليقُ، قيل : إن كلَّمَتْ زيداً لمْ يقع الطلاق.
قوله :﴿ ن كُنتُمْ آمَنتُمْ بالله فَعَلَيْهِ توكلوا إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ ﴾ يقتضي أن يكون كونهم مسلمين شرطاً ؛ لأن يصيروا مخاطبين بقوله :﴿ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بالله فَعَلَيْهِ توكلوا ﴾ فكأنَّه - تعالى - يقول للمسلم حال إسلامه : إن كنت من المؤمنين بالله فعلى الله توكَّلْ، والأمر كذلك ؛ لأنَّ الإسلام عبارة عن الاستسلام، وهو الانقياد لتكاليف الله، وترك التمرد، والإيمان عبارةٌ عن صيرورة القلب، عارفاً بأن واجب الوُجُود لذاته واحدٌ، وأنَّ ما سواه محدث مخلُوق تحت تدبيره، وقهره، وإذا حصلت هاتان الحالتان، فعند ذلك يفوِّض العبدُ جميع أموره إلى الله - تعالى، ويحصُلُ في القلب نور التَّوكُّل على الله - تعالى -.

فصل


إنما قال :" فعليه توكَّلُوا " ولم يقل :" توكَّلُوا على اللهِ "، لأن الأول يفيد الحصر، كأنه - عليه الصلاة والسلام - أمرهم بالتَّوكُّل عليه، ونهاهُم عن التوكُّلِ على الغير.
ثم بيَّن - تعالى - أنَّ موسى - عليه الصلاة والسلام - لمَّا أمرهم بذلك قبلوا قوله ﴿ فَقَالُواْ على الله تَوَكَّلْنَا ﴾ أي : توكُّلُنا عليه واعتمادنا، ولم نلتفت إلى أحد سواه، ثم اشتغلوا بالدعاء، وطلبوا من الله شيئين :
أحدهما : أن قالوا :﴿ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظالمين ﴾.
والثاني :﴿ وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ القوم الكافرين ﴾ أما قولهم :﴿ لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظالمين ﴾ ففيه وجوه :
الأول : لا تفتن بنا فرعون وقومه ؛ لأنك لو سلطَّتهُم علينا، لوقع في قلوبهم أنَّا لو كنَّا على الحقِّ، لما سلَّطتهُم علينا ؛ فيصير ذلك شبهةً قويَّةً في إصرارهم على الكفر ؛ فيكون ذلك فتنةً لهم.
الثاني : لو سلَّطتهُم علينا، لاستوجبُوا العقاب الشَّديد في الآخرة، وذلك يكون فتنة لهم.
الثالث : أنَّ المراد بالفتنة المفتُون ؛ لأنَّ إطلاق لفظ المصدر على المفعول جائز، كالخلق بمعنى المخلوق والتقدير : لا تَجٍْعلْنا مفْتُونين بأنَّ يقهَرُونا بالظُّلْمِ على أن ننصرف من هذا الدِّين الذي قبلناهُ، ويؤكِّد هذا قوله :﴿ فَمَآ آمَنَ لموسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ على خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ ﴾ [ يونس : ٨٣ ].
وأمَّا المطلوبُ الثاني، فهو قوله :﴿ وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ القوم الكافرين ﴾.
وهذا يدلُّ على أنَّ اهتمامهم بأمر دينهم كان فوق اهتمامهم بأمر دنياهم ؛ لأنَّا إذا حملنا قولهم :﴿ لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظالمين ﴾ [ يونس : ٨٥ ]، على تسليط الكفَّار عليهم وصيروة ذلك التسليط شبهة للكفار في أنَّ هذا الدِّين باطلٌ، فتضرعوا إلى الله - تعالى - في صون الكُفَّار عن هذه الشُّبهة، وتقديم هذا الدُّعاء على طلب النَّجاة لأنفسهم، وذلك يدل على أن اهتمامهُم بمصالح أديانهم فوق اهتمامهم بمصالح أبدانهم.
قوله تعالى: ﴿وَأَوْحَيْنَآ إلى موسى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً﴾ الآية.
لمَّا شرح خوف المؤمنين من الكُفَّار، وما ظهر منهم من التَّوكُّل على الله، أتبعه بأن أمر موسى، وهارون باتخاذ المساجد، والإقبال على الصَّلوات.
قوله ﴿أَن تَبَوَّءَا﴾ يجوز في «أنْ» أن تكون المفسِّرة؛ لأنَّه قد تقدَّمها ما هو بمعن القول وهو الإيحاء، ويجوز أن تكون المصدريَّة، فتكون في موضع نصب ب «أوْحَيْنَا» مفعولاً به، أي: أوحينا إليهما التَّبَوُّء.
والجمهور على الهمزة في «تَبَوَّآ» وقرأ حفص «تَبَوَّيَا» بياء خالصة، وهي بدلٌ عن الهمزة، وهو تخفيفٌ غيرُ قياسي، إذ قياسُ تخفيف مثل هذه الهمزة: أن تكون بين الهمزة والألف، وقد أنكر هذه الرِّواية عن حفص جماعةٌ من القُرَّاءِ، وخصَّها بعضهم بحالة الوقف، وهو الذي لم يحكِ أبُو عمرو الدَّاني والشاطبي غيره، وبعضهم يُطلق إبدالها عنه ياء وصلاً ووقفاً، وعلى الجملة فهي قراءةٌ ضعيفةٌ في العربية، وفي الرواية.
والتَّبَوُّؤُ: النزولُ والرجوعُ، يقال: تبوَّأ المكان: أي: اتخذه مُبَوَّأ، وقد تقدَّمت هذه
394
المادة في قوله: ﴿تُبَوِّىءُ المؤمنين﴾ [آل عمران: ١٢١] والمعنى: اجعلا بمصر بيوتاً لقومكما، ومرجعاً ترجعون إليه للعبادة.
قوله: «لِقَوْمِكُما» يجوزُ أن تكون اللاَّمُ زائدة في المفعول الأول، و «بُيُوتاً» مفعول ثان، بمعنى: بوِّآ قومكما بيوتاً، أي: أنزلوهم، وفعَّلَ وتَفَعَّلَ بمعنًى، مثل «عَلَّقَهَا» و «تعلَّقها» قاله أبو البقاء، وفيه ضعفٌ: من حيث إنَّه زيدت اللامُ، والعاملُ غير فرع، ولم يتقدم المعمُولُ.
الثاني: أنَّها غير زائدة، وفيها حينئذٍ وجهان:
أحدهما: أنَّها حالٌ من «البُيُوتِ».
والثاني: أنَّها وما بعدها مفعول «تَبَوَّءا».
قوله «بِمِصْرَ» جوَّز فيه أبو البقاء أوْجُهاً:
أحدها: أنَّه متعلِّق ب «تَبَوَّءا»، وهو الظَّاهرُ.
الثاني: أنَّه حالٌ من ضمير «تَبَوَّءا»، واستضعفهُ، ولمْ يُبَيِّنْ وجه ضعفه لوضوحه.
الثالث: أنَّها حالٌ من «البُيُوت».
الرابع: أنَّهُ حالٌ من: «لِقَوْمِكُما»، وقد ثنَّى الضمير في قوله: «تَبَوَّءَا» وجمع في قوله: «واجْعَلُوا» و «أقِيمُوا» وأفرد في قوله: «وبَشِّر» لأن الأول أمرٌ لهما، والثاني لهما ولقومهما، والثالث لمُوسى فقط؛ لأنَّ أخاهُ تبعٌ لهُ، ولمَّا كان فعلُ البشارة شريفاً خصَّ به موسى، لأنَّه هو الأصل، وقيل: وبشِّر المؤمنين يا محمَّد.

فصل


قال بعضهم: المراد من البُيُوتِ: المساجد؛ لقوله: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ﴾ [النور: ٣٦] وقيل: مطلق البيوت، أمَّا الأوَّلُون ففسَّرُوا القبلة بالجانب، الذي يستقبل في الصلاة، أي: اجعلُوا بيوتكُم مساجداً، تستقبلونها في الصَّلاة.
وقال ابن الأنباريِّ: المعنى: اجعلوا بيوتكم قبلاً، أي: مساجد؛ فأطلق لفظ الواحد، والمراد: الجَمْع، ومن قال: المرادُ: مطلق البيوت ففيه وجهان:
أحدهما: قال الفراء: أي: اجعلوا بيوتكم إلى القبلة.
الثاني: المعنى: اجعلوا بيوتكم متقابلة، والمراد منه: حصول الجمعيَّة، واعتضاد البعض بالبعض.
واختلفوا في هذه القبلة أين كانت؟ ظاهر القرآن لا يدلُّ على تعيينها، وروي عن ابن عبَّاس: كانت الكعبةُ قبلةَ مُوسى، وكان الحسن يقول: الكعبة قبلةَ كلِّ الأنبياء،
395
وإنما وقع العُدُول عنها بأمر الله - تعالى - في أيَّام الرسُول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - بعد الهجرة. وقال آخرون: كانت القبلة: بيت المقدس.

فصل


ذكر المُفَسِّرُون في كيفية هذه الواقعة وجوهاً:
أحدها: أن موسى ومن معه كانوا مأمورين في أول أمرهم، بأن يُصَلُّوا في بيوتهم خُفيةً من الكُفَّار؛ لئلا يظهروا عليهم، فيُؤذُوهُم، ويفتنوهُم عن دينهم، كما كان المؤمنون في أول الإسلام بمكة.
قال مجاهد: خاف موسى ومن معه من فرعون أن يصلُّوا في الكنائس الجامعة، فأمروا أن يجعلوا في بيوتهم مساجد جهة الكعبة، يُصَلُّون فيها سرّاً.
وثانيها: أنَّه لمَّا أرْسِلَ مُوسى إلى فرعون، أمر فرعون بتخريب مساجد بني إسرائيل، ومنعهم من الصلاة، فأمرهُم الله - تعالى - باتِّخاذِ المساجد في بيوتهم، رواه عكرمة، عن ابن عبَّاس. وهو قول إبراهيم.
وثالثها: أنَّه تعالى لمَّا أرسل مُوسى إليهم، وأظهر فرعون لهم العداوة الشديدة، أمر الله - تعالى - موسى، وهارون، وقومهما باتِّخاذِ المساجد على رغم الأعداء، وتكفَّل الله بصونهم عن شرِّ الأعداءِ.
قوله تعالى: ﴿وَقَالَ موسى رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً﴾ الآية.
لمَّا بالغ موسى في إظهار المعجزات، ورأى القوم مُصرِّينَ على الجُحُود والعنادِ؛ دعا عليهم، ومن حقِّ من يدعُو على الغير أن يذكُر سبب جرمه، وجرمهم: كان حُبَّ الدنيا؛ فلأجله تركوا الدِّين؛ فلهذا قال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: ﴿رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الحياة الدنيا﴾ والزينة: عبارة عن الصحَّة، والجمال، واللباس، والدوابِّ، وأثاث البيت، والمال ما يزيد على هذه الأشياء من الصَّامت، والنَّاطق، وقرأ الفضل الرَّقاشي «أئنَّكَ آتيْتَ».
قوله: «ليُضِلُّوا» في هذه اللاَّم ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أنَّها لامُ العلَّة، والمعنى: أنَّك آتيتهُم ما آتَيْتَهم على سبيل الاستدراج، فكان الإيتاءُ لهذه العلة.
396
والثاني: أنَّها لامُ الصَّيرورةِ والعاقبة؛ كقوله: ﴿فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً﴾ [القصص: ٨]، وقوله: [الوافر]
٢٩٢٨ - لِدُوا للمَوْتِ وابنُوا لِلْخَرَابِ...........................
وقوله: [الطويل]
٢٩٢٩ - ولِلْمَوْتِ تَغْذُو الولِدَاتُ سِخالَهَا كمَا لِخرابِ الدُّور تُبْنَى المسَاكِنُ
وقوله: [البسيط]
٢٩٣٠ - ولِلْمنَايَا تُرَبِّي كُلُّ مرضِعَةٍ ولِلْخَرابِ يُجِدُّ النَّاسُ عُمْرَانَا
والثالث: أنَّها للدعاء عليهم بذلك؛ كأنه قال: ليثبتُوا على ما هم عليه من الضلال، وليكونُوا ضُلاَّلاً، وإليه ذهب الحسن البصريُّ، وبدأ به الزمخشريُّ، وقد استُبعدَ هذا التَّأويلُ بقراءة الكوفيين، «لِيُضِلُّوا» بضمِّ الياء، فإنه يبعد أن يدعُو عليهم بأن يُضِلُّوا غيرهم، وقرأ الباقون بفتحها، وقرأ الشعبيُّ بكسرها، فوالى بين ثلاث كسرات إحداها في ياء.
وقال الجبائي: إنَّ «لا» مقدرةٌ بين اللاَّم والفعل، تقديره: لئلاَّ يضلُّوا، ورأي البصريين في مثل هذا تقدير: «كرَاهَةَ»، أي: كراهة أن يضلُّوا.

فصل


احتج أهل السُّنَّة بهذه الآية على أنه - تعالى - يضلُّ الناس من وجهين:
أحدهما: أن اللام في «لِيضلُّوا» لام التَّعليل.
والثاني: قوله: ﴿واشدد على قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ﴾ فقال - تعالى -: ﴿قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا﴾ قال القاضي: لا يجوز أن يكون المرادُ من الآية ما ذكرتُم لوجوه:
الأول: لأنَّه - تعالى - منزَّهٌ عن فعل القبائح، وإرادة الكفر قبيحة.
وثانيها: أنَّه - تعالى - لو أراد ذلك، لكان الكافرُ مطيعاً لله بكفره؛ لأنَّ الطاعة: هي الإتيان بمراد الأمر، ولو كان كذلك، لما استحقُّوا الدُّعاء عليهم.
وثالثها: لو جوَّزْنَا إرادة إضلال العباد، لجوَّزْنَا أن يبعث الأنبياء بالدُّعاء إلى الضَّلالِ، ولجاز أن يقوي الكذَّابين الضَّالين بإظهار المعجزات، وفيه هدم الدِّين.
ورابعها: أنَّه لا يجوز أن يقول لموسى وهارون: {فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ
397
يخشى} [طه: ٤٤]، وأن يقول: ﴿وَلَقَدْ أَخَذْنَآ آلَ فِرْعَونَ بالسنين وَنَقْصٍ مِّن الثمرات لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾ [الأعراف: ١٣٠]، ثم إنَّه - تعالى - إراد الضَّلال منهم، وأعطاهم النِّعم لكي يضلُّوا، وهذا كالمناقضة، فلا بُدّ من حَمْلِ أحدهما على الآخر.
وخامسها: لا يجوز أن يقال: إن مُوسى دعا ربَّهُ بأن يُطْمِسَ على أموالهم؛ لأجل أن لا يؤمنوا، مع تشدده في إرادة الإيمان. وإذا ثبت هذا؛ وجب تأويلُ هذه الكلمة، وذلك من وجوه:
الأول: أنَّ اللاَّم في «لِيُضِلُّوا» : لامُ العاقبة كما تقدَّم، ولما كانت عاقبة قوم فرعون، هو الضَّلال، عبَّر عن هذا المعنى بهذا اللفظ.
الثاني: أنَّ التقدير: لئلاَّ يضلوا، كقوله: ﴿يُبَيِّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ﴾ [النساء: ١٧٦]، فحذف لدلالة المعقُول عليه، كقوله - تعالى -: ﴿بلى شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ القيامة﴾ [الأعراف: ١٧٢]، أي: لئلاَّ تقُولُوا.
الثالث: أن يكون موسى ذكر ذلك على وجه التَّعجُّبِ المقرُون بالإنكار، أي: إنَّك أتيتهُم بذلك لهذا الغرض فإنَّهُم لا ينفقُون هذه الأموال إلاَّ فيه، كأنَّه قال: أتيتهم زينةً وأموالاً لأجْلِ أن يُضلُّوا عن سبيلك، ثم حذف حرف الاستفهام، كما في قوله: [الكامل]
٢٩٣١ - كذَبَتْكَ عَيْنُكَ أمْ رأيْتَ بواسِطٍ غَلَسَ الظَّلامِ منَ الرَّبَابِ خَيَالاَ
والمرادُ: أكذبتك فكذا ههنا.
الرابع: أنَّ هذه لام الدُّعاء، وهي لام مكسورة تجزم المستقبل، ويفتتح بها الكلام، فيقال: ليغفرُ الله للمؤمنين، وليُعذِّب الله الكافرين، والمعنى؛ ربنا ابتليهم بالضَّلال عن سبيلك.
الخامس: سلَّمنا أنَّها لامُ التَّعليل، لكن بحسب ظاهر الأمر، لا في نفس الحقيقة، والمعنى: أنه - تعالى - لمَّا أعطاهم هذه الأموال، وصارت سبباً لبغيهم وكفرهم، أشبهت حال من أعطى المال لأجل الإضلال، فورد هذا الكلامِ بلفظ التَّعليل لهذا المعنى.
السادس: أنَّ الضَّلال قد جاء في القرآن بمعنى: الهلاك، يقال: ضلَّ الماءُ في اللَّبن، أي: هلك، فقوله: «ليضلُّوا عن سبيلك» أي: ليهلكوا ويموتوا، كقوله - تعالى -: ﴿فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الحياة الدنيا﴾ [التوبة: ٥٥].
قال ابن الخطيب: واعلم: أنَّ الجواب قد تقدَّم مراراً، ونُعيد بعضه، فنقول: الذي يدُلُّ على أنَّ الإضلال من الله - تعالى - وجوه:
398
الأول: أنَّ العبد لا يقصدُ إلا حُصُول الهداية، فلمَّا لمْ تحصُل الهداية بل حصل الضَّلال الذي لا يُريده، علمنا أنَّ حصُوله ليس من العَبْدِ، بل من الله - تعالى -.
فإن قالوا: إنَّه ظنَّ هذا الضَّلال هُدًى، فلذلك أوقعه في الوُجُود فنقول: إقدامُه على هذا الجهل، إن كان بجهل سابق، فذلك الجهل السابق يكون حُصُوله لسبق جهل آخر ويلزمُ التسلسل وهو محال؛ فوجب أنَّ هذه الجهالات والضَّلالات لا بُدَّ من انتهائها إلى جهل أوَّلٍ، وضلال أولٍ، وذلك لا يمكن أن يكون بإحداث العبد؛ لأنَّه يكرهُه ويُريد ضدَّهُ؛ فوجب أن يكون من الله - تعالى -.
الثاني: أنَّه تعالى لمَّا خلق الخلق يُحِبُّون المال حُبّاً شديداً، بحيث لا يمكنهُم إزالة هذا الحُبِّ عن النَّفْسِ ألبتَّة، وكان حُصُول هذا الحُبِّ يوجب الإعراض عن خدمة الله وطاعته، ويوجب التَّكبُّر عليه، وترك اللُّزُوم؛ فوجب أن يكون فاعل هذا الكفر، هو الذي خلق الإنسان مجبُولاً على حُبِّ هذا المال والجاه.
الثالث: أنَّ القُدْرة بالنِّسْبَة إلى الضِّدَّين على السَّويَّة، فلا يترجَّحُ أحدُ الطَّرفين على الآخر إلاَّ بمرجِّح، وذلك المُرجِّحُ ليس من العبد، وإلا لعاد الكلام فيه، فلا بُدَّ وأن يكون من الله - تعالى -، وإذا كان كذلك، كانت الهدايةُ والضلال من الله - تعالى -.
وإذا عرفت هذا، فنقول: أما حملهم اللاَّم على لامِ العاقبة فضعيفٌ؛ لأنَّ موسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ما كان عالماً بالعواقب.
فإن قالوا: إنَّ الله تعالى أخبرهُ بذلك.
قلنا: فلمَّا أخبر الله عنهم أنَّهُم لا يُؤمِنُون، كان صدور الإيمان منهم مُحَالاً؛ لأنَّ ذلك يستلزمُ انقلاب خبر الله كذباً، وهو محال، والمفضي إلى المُحال محال.
وأمّا قولهم: يحمل قوله: «لِيُضِلُّوا» على أنَّ المراد: لئلاَّ يُضِلُّوا، كما ذكره الجبائي، فأقول: إنَّه لمَّا فسَّر قوله - تعالى -: ﴿مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ﴾ [النساء: ٧٩] نقل قراءة «فمنْ نفسِك» على سبيل الاستفهام بمعنى الإنكار، ثم إنَّه استبعد هذه القراءة، وقال: إنَّها تَقْتَضِي تحريف القرآن، وتغييرهُ، وتفتحُ تأويلات الباطنيَّة - والباطنية هم الملاحدة، ويقال لهم: القرامِطَة، والإسماعيلية القائلون: بأنَّ محمَّد بن إسماعيل نَسَخَ شريعة محمَّد بن عبد الله - ويقال لهم أيضاً: الناصرية أتباع محمد بن نصير، وكان من غلاة الروافض القائلين بالألوهية على توهُّم الدرزية أتباع بنشكين الدرزي، كان من موالي الحاكم أرسله إلى وادي تيم الله بن ثعلبة، فدعاهم إلى ألوهية الحاكم ويسمونه بالبازي، والغلام، ويحلفون به، ويقال لهم: الحرمية والمحمرة، وهم الآن يعرفون بالتيامنة لإسكانهم وادي التيم، ويقال لهم: الحرمية والمحمرة، وهم الآن يعرفون بالتيامنة لإسكانهم وادي التيم، ويقال لهم أيضاً: الفداوية والرافضة، وهم يحرفون كلام الله - تعالى - ورسوله عن مواضعه، ومقصودهم إنكار الإيمان وشرائع الإسلام، ويظهرون لهذه الأمور حقائق يعرفونها، فيقولون: إن الصلوات الخمس معرفة
399
أسرارهم، والصيام المفروض من كتمان أسرارهم، وحج البيت زيارة شيوخهم، ويدا أبي لهب أبو بكر وعمر، والبناء العظيم والإمام المبين علي بن أبي طالب، فهم لا تحل ذبائحهم لا يناكحونا، وتجب مجاهدتهم؛ لأنهم مرتدون، قاله ابن تيمية، وبالغ في إنكار تلك القراءة.
وهذا الوجه الذي ذكرهُ هنا شرٌّ من ذلك؛ لأنَّه قلب النَّفي إثباتاً، والإثبات نفياً، وتجويزه بفتح باب ألاَّ يعتمد على القرآن لا في نفيه، ولا في إثباته، وحينئذٍ يبطل القرآن بالكُلِّيَّة، وهذا بعينه هو الجواب عن قوله المراد فيه الاستفهام، بمعنى: الإنكار، فإنَّ تجويزهُ يوجبُ تجويز مثله في سائر المواضع، فلعله - تعالى - إنما قال: ﴿وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة﴾ [البقرة: ٤٣] على سبيل الإنكار والتعجُّب، ثم قال: ﴿رَبَّنَا اطمس على أَمْوَالِهِمْ﴾.
قال مجاهد: أهلكها، والطَّمسُ: المَسْخُ.
وقال أكثر المفسرين: مسخها الله وغيَّرها عن هيئتها.
قال ابن عبَّاس: بلغنا أنَّ الدَّراهم والدَّنانير صارت حجارة منقوشة كهيئتها، صحاحاً وأنصافاً، وأثلاثاً، وجعل سكنهم حجارة.
قال محمد بن كعب: «كان الرجل مع أهله في فراشه، فصارا حجرين، والمرأة قائمة تخبز فصارت حجراً» ودعا عمر بن عبد العزيز بخريطة فيها أشياء من بقايا أهل فرعون، فأخرج منها البيضة منقوشة، والجوزة مشقوقة وهي حجارة.
﴿واشدد على قُلُوبِهِمْ﴾ أي: أقسها واطبع عليها حتى لا تلين ولا تنشرح للإيمان.
قال الواحدي: «وهذا دليلٌ على أنَّ الله يفعل ذلك بمن يشاء، ولولا ذلك لما حسن من موسى هذا السُّؤال».
قوله: «فَلاَ يُؤْمِنُواْ» يحتمل النَّصْبَ والجزمَ، فالنَّصْب من وجهين:
أحدهما: عطفهُ على «لِيُضِلُّوا».
والثاني: نصبه على جواب الدُّعاءِ في قوله: «اطْمِسْ»، والجزم على أنَّ «لا» للدُّعاءِ، كقولك: لا تُعذِّبْنِي يا ربِّ، وهو قريبٌ من معنى: «لِيُضلُّوا» في كونه دعاءً، هذا في جانب شبه النَّهي، وذلك في جانب شبه الأمر، و «حتَّى يروا» : غايةٌ لنفي إيمانهم، والأولُ قول الأخفش، والثاني بدأ به الزمخشري، والثالث: قول الكسائي، والفرَّاء؛ وأنشد قول الشاعر: [الطويل]
400
٢٩٣٢ - فلا يَنْبَسِطْ منْ بَيْنِ عَيْنَيْكَ ولا تَلْقَنِي إلاَّ وأنفُكَ راغمُ
وعلى القول بأنه معطوفٌ على «ليُضِلُّوا» يكون ما بينهما اعتراضاً.
قوله: ﴿قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا﴾ : الضمير لمُوسى وهارُون.
قيل: كان موسى يدعو وهارون يُؤمِّن، فنسب الدعاء إليهما؛ لأنَّ المؤمن أيضاً داعٍ؛ لأنَّ قوله: «آمين» أي: استجب.
وقيل: المراد موسى وحده، ولكن كنًى عن الواحد بضمير الاثنين.
وقيل: لا يبعُد أن يكون كلُّ واحدٍ منهما ذكر هذا الدُّعاء؛ غاية ما في الباب أن يقال: إنَّما حَكَى هذا الدعاء عن موسى، بقوله: ﴿وَقَالَ موسى رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً﴾ إلاَّ أنَّ هذا لا ينافي أن يكون هارون ذكر ذلك الدعاء أيضاً.
وقرأ السلمي، والضحاك: «دَعواتُكُما» على الجمع.
وقرأ ابن السَّميفع: «قَدْ أجبتُ دعوتكما» بتاء المتكلم، وهو الباري - تعالى -، «دَعوتَكُمَا» نصب على المفعول به.
وقرأ الرِّبيع: «أجَبْتُ دعوتيكُما» بتاء المتكلم أيضاً، ودعوتيكما تثنيةٌ، وهي تدلُّ لمن قال: إنَّ هارون شارك موسى في الدُّعاء.
قوله: «فاسْتَقِيمَا» أي: على الدَّعوة والرِّسالة، وامضيا لأمري إلى أن يأتيهم العذابُ، قال ابن جريج: لبث فرعون بعد هذا الدُّعاء أربعين سنة.
«وَلاَ تَتَّبِعَانِّ» : قرأ العامَّةُ بتشديد التاء والنون، وقرأ حفص بتخفيف النُّون مكسورة، مع تشديد التَّاء وتخفيفها، وللقُرَّاء في ذلك كلامٌ مضطربٌ بالنِّسبة للنَّقْلِ عنهُ.
فأمَّا قراءةُ العامَّة، ف «لا» فيها للنَّهي، ولذلك أكَّد الفعل بعدها، ويضعفُ أن تكون نافية؛ لأنَّ تأكيد المنفيِّ ضعيفٌ، ولا ضرورة بنا إلى ادِّعائه، وإن كان بعضهم قد ادَّعى ذلك في قوله: ﴿لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ﴾ [الأنفال: ٢٥] لضرورةٍ دعتْ إلى ذلك هناك،
401
وقد تقدَّم تحريره في موضعه، وعلى الصحيح تكون هذه جملة نهيٍ معطوفة على جملة أمرٍ.
قال الزجاج: «ولا تتَّبعانِّ» : موضعه جزم، تقديره: ولاتتَّبِعَا، إلاَّ أنَّ النُّون الشديدة، دخلت على النهي مؤكدة وكسرت لسكونها، وسكون النون التي قبلها، فاختير لها الكسرة، لأنها بعد الألف تشبه نون التثنية.
وأمَّا قراءة حفص، ف «لاَ» : تحتمل أن تكون للنَّفي، وأن تكون للنَّهْي.
فإن كانت للنفي، كانت النون نون رفعٍ، والجملة حينئذٍ فيها أوجه:
أحدها: أنَّها في موضع الحال، أي: فاسْتقيمَا غيرَ مُتَّبِعيْنِ، إلاَّ أنَّ هذا مُعترض بما قدَّمْتُه من أنَّ المضارعَ المفيَّ ب «لا» كالمثبت في كونه لا تباشره واو الحال، إلاَّ أن يقدَّر قبلهُ مبتدأ، فتكون الجملة اسميَّة أي: وأنتما لا تتَّبعَان.
والثاني: أنَّهُ نفيٌ في معنى النَّهي؛ كقوله - تعالى -: ﴿لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ الله﴾ [البقرة: ٨٣].
الثالث: أنَّها خبرٌ محضٌ مستأنف، لا تعلُّق له بما قبله، والمعنى: أنَّهُمَا أخبرا بأنَّهما لا يتَّبعانِ سبيل الذين لا يعلمون.
وإن كانت للنَّهي، كانت النون للتوكيد، وهي الخفيفة، وهذا لا يراه سيبويه، والكسائي، أعني: وقوع النون الخفيفة بعد الألف، سواء كانت الألف ألف تثنية، أو ألف فصلٍ بين نُون الإناث، ونون التوكيد، نحو «هل تضربنانِ يا نسوة» وقد أجاز يونس، والفرَّاء: وقوع الخفيفة بعد الألف وعلى قولهما تتخرَّج القراءةُ، وقيل: أصلها التشديد، وإنَّما خففت للثقل فيها؛ كقولهم: «رُبَ» في «رُبَّ».
وأمَّا تشديدُ التاء وتخفيفها، فلغتان، من اتَّبَع يتَّبع، وتَبع يتْبَع، وقد تقدَّم [الأعراف: ١٧٥] هل هما بمعنى واحد، أو مختلفان في المعنى؟ وملخصه: أنَّ تتبعه بشيءٍ: خلفه، واتَّبعه كذلك، إلاَّ أنه حاذاهُ في المشي واقتدى بِهِ، وأتبعه: لحقهُ.

فصل


المعنى: لا تسلك طريق الجاهلين الذين يظنُّون أنه: متى كان الدعاء مُجاباً، كان المقصُود حاصلاً في الحال، فربما أجاب الله تعالى الإنسان في مطلوبه، إلاَّ أنَّه يوصله إليه في وقته المقدَّر؛ فإنَّ وعد الله لا خلف له، والاستعجال لا يصدر إلا من الجُهَّال؛ كما قال لنُوح - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ﴿إني أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجاهلين﴾ [هود: ٤٦]، وهذا النَّهي لا يدلُّ على صدور ذلك من موسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كما أن قوله: ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ [الزمر: ٦٥] لا يدل على صدور الشرك منه.
402
قوله تعالى :﴿ وَقَالَ موسى رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً ﴾ الآية.
لمَّا بالغ موسى في إظهار المعجزات، ورأى القوم مُصرِّينَ على الجُحُود والعنادِ ؛ دعا عليهم، ومن حقِّ من يدعُو على الغير أن يذكُر سبب جرمه، وجرمهم : كان حُبَّ الدنيا ؛ فلأجله تركوا الدِّين ؛ فلهذا قال - عليه الصلاة والسلام - :﴿ رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الحياة الدنيا ﴾ والزينة : عبارة عن الصحَّة، والجمال، واللباس، والدوابِّ، وأثاث البيت، والمال ما يزيد على هذه الأشياء من الصَّامت، والنَّاطق، وقرأ الفضل الرَّقاشي١ " أئنَّكَ آتيْتَ ".
قوله :" ليُضِلُّوا " في هذه اللاَّم ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : أنَّها لامُ العلَّة، والمعنى : أنَّك آتيتهُم ما آتَيْتَهم على سبيل الاستدراج، فكان الإيتاءُ لهذه العلة.
والثاني : أنَّها لامُ الصَّيرورةِ والعاقبة ؛ كقوله :﴿ فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً ﴾ [ القصص : ٨ ]، وقوله :[ الوافر ]
لِدُوا للمَوْتِ وابنُوا لِلْخَرَابِ ***. . . ٢
وقوله :[ الطويل ]
ولِلْمَوْتِ تَغْذُو الولِدَاتُ سِخالَهَا *** كمَا لِخرابِ الدُّور تُبْنَى المسَاكِنُ٣
وقوله :[ البسيط ]
ولِلْمنَايَا تُرَبِّي كُلُّ مرضِعَةٍ *** ولِلْخَرابِ يُجِدُّ النَّاسُ عُمْرَانَا٤
والثالث : أنَّها للدعاء عليهم بذلك ؛ كأنه قال : ليثبتُوا على ما هم عليه من الضلال، وليكونُوا ضُلاَّلاً، وإليه ذهب الحسن البصريُّ، وبدأ به الزمخشريُّ، وقد استُبعدَ هذا التَّأويلُ بقراءة الكوفيين، " لِيُضِلُّوا " بضمِّ الياء، فإنه يبعد أن يدعُو عليهم بأن يُضِلُّوا غيرهم، وقرأ الباقون بفتحها، وقرأ الشعبيُّ٥ بكسرها، فوالى بين ثلاث كسرات إحداها في ياء.
وقال الجبائي : إنَّ " لا " مقدرةٌ بين اللاَّم والفعل، تقديره : لئلاَّ يضلُّوا، ورأي البصريين في مثل هذا تقدير :" كرَاهَةَ "، أي : كراهة أن يضلُّوا.

فصل


احتج أهل السُّنَّة بهذه الآية على أنه - تعالى - يضلُّ الناس من وجهين :
أحدهما : أن اللام في " لِيضلُّوا " لام التَّعليل.
والثاني : قوله :﴿ واشدد على قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ ﴾ فقال - تعالى - :﴿ قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا ﴾ قال القاضي : لا يجوز أن يكون المرادُ من الآية ما ذكرتُم لوجوه :
الأول : لأنَّه - تعالى - منزَّهٌ عن فعل القبائح، وإرادة الكفر قبيحة.
وثانيها : أنَّه - تعالى - لو أراد ذلك، لكان الكافرُ مطيعاً لله بكفره ؛ لأنَّ الطاعة : هي الإتيان بمراد الأمر، ولو كان كذلك، لما استحقُّوا الدُّعاء عليهم.
وثالثها : لو جوَّزْنَا إرادة إضلال العباد، لجوَّزْنَا أن يبعث الأنبياء بالدُّعاء إلى الضَّلالِ، ولجاز أن يقوي الكذَّابين الضَّالين بإظهار المعجزات، وفيه هدم الدِّين.
ورابعها : أنَّه لا يجوز أن يقول لموسى وهارون :﴿ فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى ﴾ [ طه : ٤٤ ]، وأن يقول :﴿ وَلَقَدْ أَخَذْنَآ آلَ فِرْعَونَ بالسنين وَنَقْصٍ مِّن الثمرات لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴾ [ الأعراف : ١٣٠ ]، ثم إنَّه - تعالى - أراد الضَّلال منهم، وأعطاهم النِّعم لكي يضلُّوا، وهذا كالمناقضة، فلا بُدّ من حَمْلِ أحدهما على الآخر.
وخامسها : لا يجوز أن يقال : إن مُوسى دعا ربَّهُ بأن يُطْمِسَ على أموالهم ؛ لأجل أن لا يؤمنوا، مع تشدده في إرادة الإيمان. وإذا ثبت هذه ؛ وجب تأويلُ هذه الكلمة، وذلك من وجوه :
الأول : أنَّ اللاَّم في " لِيُضِلُّوا " : لامُ العاقبة كما تقدَّم، ولما كانت عاقبة قوم فرعون، هو الضَّلال، عبَّر عن هذا المعنى بهذا اللفظ.
الثاني : أنَّ التقدير : لئلاَّ يضلوا، كقوله :﴿ يُبَيِّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ ﴾ [ النساء : ١٧٦ ]، فحذف لدلالة المعقُول عليه، كقوله - تعالى - :﴿ بلى شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ القيامة ﴾ [ الأعراف : ١٧٢ ]، أي : لئلاَّ تقُولُوا.
الثالث : أن يكون موسى ذكر ذلك على وجه التَّعجُّبِ المقرُون بالإنكار، أي : إنَّك أتيتهُم بذلك لهذا الغرض فإنَّهُم لا ينفقُون هذه الأموال إلاَّ فيه، كأنَّه قال : أتيتهم زينةً وأموالاً لأجْلِ أن يُضلُّوا عن سبيلك، ثم حذف حرف الاستفهام، كما في قوله :[ الكامل ]
كذَبَتْكَ عَيْنُكَ أمْ رأيْتَ بواسِطٍ *** غَلَسَ الظَّلامِ منَ الرَّبَابِ خَيَالاَ٦
والمرادُ : أكذبتك فكذا ههنا.
الرابع : أنَّ هذه لام الدُّعاء، وهي لام مكسورة تجزم المستقبل، ويفتتح بها الكلام، فيقال : ليغفرُ الله للمؤمنين، وليُعذِّب الله الكافرين، والمعنى ؛ ربنا ابتليهم بالضَّلال عن سبيلك.
الخامس : سلَّمنا أنَّها لامُ التَّعليل، لكن بحسب ظاهر الأمر، لا في نفس الحقيقة، والمعنى : أنه - تعالى - لمَّا أعطاهم هذه الأموال، وصارت سبباً لبغيهم وكفرهم، أشبهت حال من أعطى المال لأجل الإضلال، فورد هذا الكلامِ بلفظ التَّعليل لهذا المعنى.
السادس : أنَّ الضَّلال قد جاء في القرآن بمعنى : الهلاك، يقال : ضلَّ الماءُ في اللَّبن، أي : هلك، فقوله :" ليضلُّوا عن سبيلك " أي : ليهلكوا ويموتوا، كقوله - تعالى - :﴿ فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الحياة الدنيا ﴾ [ التوبة : ٥٥ ].
قال ابن الخطيب : واعلم : أنَّ الجواب قد تقدَّم مراراً، ونُعيد بعضه، فنقول : الذي يدُلُّ على أنَّ الإضلال من الله - تعالى - وجوه :
الأول : أنَّ العبد لا يقصدُ إلا حُصُول الهداية، فلمَّا لمْ تحصُل الهداية بل حصل الضَّلال الذي لا يُريده، علمنا أنَّ حصُوله ليس من العَبْدِ، بل من الله - تعالى -.
فإن قالوا : إنَّه ظنَّ هذا الضَّلال هُدًى، فلذلك أوقعه في الوُجُود فنقول : إقدامُه على هذا الجهل، إن كان بجهل سابق، فذلك الجهل السابق يكون حُصُوله لسبق جهل آخر ويلزمُ التسلسل وهو محال ؛ فوجب أنَّ هذه الجهالات والضَّلالات لا بُدَّ من انتهائها إلى جهل أوَّلٍ، وضلال أولٍ، وذلك لا يمكن أن يكون بإحداث العبد ؛ لأنَّه يكرهُه ويُريد ضدَّهُ ؛ فوجب أن يكون من الله - تعالى -.
الثاني : أنَّه تعالى لمَّا خلق الخلق يُحِبُّون المال حُبّاً شديداً، بحيث لا يمكنهُم إزالة هذا الحُبِّ عن النَّفْسِ ألبتَّة، وكان حُصُول هذا الحُبِّ يوجب الإعراض عن خدمة الله وطاعته، ويوجب التَّكبُّر عليه، وترك اللُّزُوم ؛ فوجب أن يكون فاعل هذا الكفر، هو الذي خلق الإنسان مجبُولاً على حُبِّ هذا المال والجاه.
الثالث : أنَّ القُدْرة بالنِّسْبَة إلى الضِّدَّين على السَّويَّة، فلا يترجَّحُ أحدُ الطَّرفين على الآخر إلاَّ بمرجِّح، وذلك المُرجِّحُ ليس من العبد، وإلا لعاد الكلام فيه، فلا بُدَّ وأن يكون من الله - تعالى -، وإذا كان كذلك، كانت الهدايةُ والضلال من الله - تعالى -.
وإذا عرفت هذا، فنقول : أما حملهم اللاَّم على لامِ العاقبة فضعيفٌ ؛ لأنَّ موسى - عليه الصلاة والسلام - ما كان عالماً بالعواقب.
فإن قالوا : إنَّ الله تعالى أخبرهُ بذلك.
قلنا : فلمَّا أخبر الله عنهم أنَّهُم لا يُؤمِنُون، كان صدور الإيمان منهم مُحَالاً ؛ لأنَّ ذلك يستلزمُ انقلاب خبر الله كذباً، وهو محال، والمفضي إلى المُحال محال.
وأمّا قولهم : يحمل قوله :" لِيُضِلُّوا " على أنَّ المراد : لئلاَّ يُضِلُّوا، كما ذكره الجبائي، فأقول : إنَّه لمَّا فسَّر قوله - تعالى - :﴿ مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ ﴾ [ النساء : ٧٩ ] نقل قراءة " فمنْ نفسِك " على سبيل الاستفهام بمعنى الإنكار، ثم إنَّه استبعد هذه القراءة، وقال : إنَّها تَقْتَضِي تحريف القرآن، وتغييرهُ، وتفتحُ تأويلات الباطنيَّة - والباطنية هم الملاحدة، ويقال لهم : القرامِطَة، والإسماعيلية القائلون : بأنَّ محمَّد بن إسماعيل نَسَخَ شريعة محمَّد بن عبد الله - ويقال لهم أيضاً : الناصرية أتباع محمد بن نصير، وكان من غلاة الروافض القائلين بالألوهية على توهُّم الدرزية أتباع بنشكين الدرزي، كان من موالي الحاكم أرسله إلى وادي تيم الله بن ثعلبة، فدعاهم إلى ألوهية الحاكم ويسمونه بالبازي، والغلام، ويحلفون به، ويقال لهم : الحرمية والمحمرة، وهم الآن يعرفون بالتيامنة لإسكانهم وادي التيم، ويقال لهم : الفداوية والرافضة، وهم يحرفون كلام الله - تعالى - ورسوله عن مواضعه، ومقصودهم إنكار الإيمان وشرائع الإسلام، ويظهرون لهذه الأمور حقائق يعرفونها، فيقولون : إن الصلوات الخمس معرفة أسرارهم، والصيام المفروض من كتمان أسرارهم، وحج البيت زيارة شيوخهم، ويدا أبي لهب أبو بكر وعمر، والبناء العظيم والإمام المبين علي بن أبي طالب، فهم لا تحل ذبائحهم لا يناكحونا، وتجب مجاهدتهم ؛ لأنهم مرتدون، قاله ابن تيمية، وبالغ في إنكار تلك القراءة.
وهذا الوجه الذي ذكرهُ هنا شرٌّ من ذلك ؛ لأنَّه قلب النَّفي إثباتاً، والإثبات نفياً، وتجويزه بفتح باب ألاَّ يعتمد على القرآن لا في نفيه، ولا في إثباته، وحينئذٍ يبطل القرآن بالكُلِّيَّة، وهذا بعينه هو الجواب عن قوله المراد فيه الاستفهام، بمعنى : الإنكار، فإنَّ تجويزهُ يوجبُ تجويز مثله في سائر المواضع، فلعله - تعالى - إنما قال :﴿ وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة ﴾ [ البقرة : ٤٣ ] على سبيل الإنكار والتعجُّب، ثم قال :﴿ رَبَّنَا اطمس على أَمْوَالِهِمْ ﴾.
قال مجاهد : أهلكها، والطَّمسُ : المَسْخُ٧.
وقال أكثر المفسرين : مسخها الله وغيَّرها عن هيئتها.
قال ابن عبَّاس : بلغنا أنَّ الدَّراهم والدَّنانير صارت حجارة منقوشة كهيئتها، صحاحاً وأنصافاً، وأثلاثاً، وجعل سكنهم حجارة٨.
قال محمد بن كعب :" كان الرجل مع أهله في فراشه، فصارا حجرين، والمرأة قائمة تخبز فصارت حجراً " ٩ ودعا عمر بن عبد العزيز بخريطة فيها أشياء من بقايا أهل فرعون، فأخرج منها البيضة منقوشة، والجوزة مشقوقة وهي حجارة.
﴿ واشدد على قُلُوبِهِمْ ﴾ أي : أقسها واطبع عليها حتى لا تلين ولا تنشرح للإيمان.
قال الواحدي :" وهذا دليلٌ على أنَّ الله يفعل ذلك بمن يشاء، ولولا ذلك لما حسن من موسى هذا السُّؤال ".
قوله :" فَلاَ يُؤْمِنُواْ " يحتمل النَّصْبَ والجزمَ، فالنَّصْب من وجهين :
أحدهما : عطفهُ على " لِيُضِلُّوا ".
والثاني : نصبه على جواب الدُّعاءِ في قوله :" اطْمِسْ "، والجزم على أنَّ " لا " للدُّعاءِ، كقولك : لا تُعذِّبْنِي يا ربِّ، وهو قريبٌ من معنى :" لِيُضلُّوا " في كونه دعاءً، هذا في جانب شبه النَّهي، وذلك في جانب شبه الأمر، و " حتَّى يروا " : غايةٌ لنفي إيمانهم، والأولُ قول الأخفش، والثاني بدأ به الزمخشري، والثالث : قول الكسائي، والفرَّاء ؛ وأنشد قول الشاعر :[ الطويل ]
فلا يَنْبَسِطْ منْ بَيْنِ عَي
١ ينظر: الكشاف ٢/٣٦٦، البحر المحيط ٥/١٨٥، الدر المصون ٤/٦٥..
٢ تقدم..
٣ تقدم..
٤ ينظر: البيت في البحر المحيط ٥/١٨٥ والدر المصون ٤/٦٤..
٥ ينظر: إتحاف فضلاء البشر ٢/١١٩، المحرر الوجيز ٣/١٣٩، البحر المحيط ٥/١٨٥، الدر المصون ٤/٦٥..
٦ البيت للأخطل ينظر: ديوانه ٢٤٥ والكتاب ٣/١٧٤ والمقتضب ٣/٢٩٥ وشرح الكافية ٢/٣٧٣ والمغني ١/٤٥ والتصريح ٢/١٤٤ والخزانة ١١/١٣١..
٧ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٦/٦٠٠) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٥٦٧) وعزاه إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ..
٨ ذكره القرطبي في "تفسيره" (٨/٢٣٩) عن قتادة..
٩ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٥٦٦) وعزاه إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ..
قوله :﴿ قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا ﴾ : الضمير لمُوسى وهارُون.
قيل : كان موسى يدعو وهارون يُؤمِّن، فنسب الدعاء إليهما ؛ لأنَّ المؤمن أيضاً داعٍ ؛ لأنَّ قوله :" آمين " أي : استجب.
وقيل : المراد موسى وحده، ولكن كنًى عن الواحد بضمير الاثنين.
وقيل : لا يبعُد أن يكون كلُّ واحدٍ منهما ذكر هذا الدُّعاء ؛ غاية ما في الباب أن يقال : إنَّما حَكَى هذا الدعاء عن موسى، بقوله :﴿ وَقَالَ موسى رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً ﴾ إلاَّ أنَّ هذا لا ينافي أن يكون هارون ذكر ذلك الدعاء أيضاً.
وقرأ السلمي١، والضحاك :" دَعواتُكُما " على الجمع.
وقرأ ابن السَّميفع :" قَدْ أجبتُ دعوتكما " ٢ بتاء المتكلم، وهو الباري - تعالى -، " دَعوتَكُمَا " نصب على المفعول به.
وقرأ الرِّبيع :" أجَبْتُ دعوتيكُما " ٣ بتاء المتكلم أيضاً، ودعوتيكما تثنيةٌ، وهي تدلُّ لمن قال : إنَّ هارون شارك موسى في الدُّعاء.
قوله :" فاسْتَقِيمَا " أي : على الدَّعوة والرِّسالة، وامضيا لأمري إلى أن يأتيهم العذابُ، قال ابن جريج : لبث فرعون بعد هذا الدُّعاء أربعين سنة٤.
" وَلاَ تَتَّبِعَانِّ " : قرأ العامَّةُ بتشديد التاء والنون، وقرأ حفص٥ بتخفيف النُّون مكسورة، مع تشديد التَّاء وتخفيفها، وللقُرَّاء في ذلك كلامٌ مضطربٌ بالنِّسبة للنَّقْلِ عنهُ.
فأمَّا قراءةُ العامَّة، ف " لا " فيها للنَّهي، ولذلك أكَّد الفعل بعدها، ويضعفُ أن تكون نافية ؛ لأنَّ تأكيد المنفيِّ ضعيفٌ، ولا ضرورة بنا إلى ادِّعائه، وإن كان بعضهم قد ادَّعى ذلك في قوله :﴿ لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ ﴾ [ الأنفال : ٢٥ ] لضرورةٍ دعتْ إلى ذلك هناك، وقد تقدَّم تحريره في موضعه، وعلى الصحيح تكون هذه جملة نهيٍ معطوفة على جملة أمرٍ.
قال الزجاج :" ولا تتَّبعانِّ " : موضعه جزم، تقديره : و لا تتَّبِعَا، إلاَّ أنَّ النُّون الشديدة، دخلت على النهي مؤكدة وكسرت لسكونها، وسكون النون التي قبلها، فاختير لها الكسرة، لأنها بعد الألف تشبه نون التثنية.
وأمَّا قراءة حفص، ف " لاَ " : تحتمل أن تكون للنَّفي، وأن تكون للنَّهْي.
فإن كانت للنفي، كانت النون نون رفعٍ، والجملة حينئذٍ فيها أوجه :
أحدها : أنَّها في موضع الحال، أي : فاسْتقيمَا غيرَ مُتَّبِعيْنِ، إلاَّ أنَّ هذا مُعترض بما قدَّمْتُه من أنَّ المضارعَ المنفيَّ ب " لا " كالمثبت في كونه لا تباشره واو الحال، إلاَّ أن يقدَّر قبلهُ مبتدأ، فتكون الجملة اسميَّة أي : وأنتما لا تتَّبعَان.
والثاني : أنَّهُ نفيٌ في معنى النَّهي ؛ كقوله - تعالى - :﴿ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ الله ﴾ [ البقرة : ٨٣ ].
الثالث : أنَّها خبرٌ محضٌ مستأنف، لا تعلُّق له بما قبله، والمعنى : أنَّهُمَا أخبرا بأنَّهما لا يتَّبعانِ سبيل الذين لا يعلمون.
وإن كانت للنَّهي، كانت النون للتوكيد، وهي الخفيفة، وهذا لا يراه سيبويه، والكسائي، أعني : وقوع النون الخفيفة بعد الألف، سواء كانت الألف ألف تثنية، أو ألف فصلٍ بين نُون الإناث، ونون التوكيد، نحو " هل تضربنانِ يا نسوة " وقد أجاز يونس، والفرَّاء : وقوع الخفيفة بعد الألف وعلى قولهما تتخرَّج القراءةُ، وقيل : أصلها التشديد، وإنَّما خففت للثقل فيها ؛ كقولهم :" رُبَ " في " رُبَّ ".
وأمَّا تشديدُ التاء وتخفيفها، فلغتان، من اتَّبَع يتَّبع، وتَبع يتْبَع، وقد تقدَّم [ الأعراف : ١٧٥ ] هل هما بمعنى واحد، أو مختلفان في المعنى ؟ وملخصه : أنَّ تتبعه بشيءٍ : خلفه، واتَّبعه كذلك، إلاَّ أنه حاذاهُ في المشي واقتدى بِهِ، وأتبعه : لحقهُ.

فصل


المعنى : لا تسلك طريق الجاهلين الذين يظنُّون أنه : متى كان الدعاء مُجاباً، كان المقصُود حاصلاً في الحال، فربما أجاب الله تعالى الإنسان في مطلوبه، إلاَّ أنَّه يوصله إليه في وقته المقدَّر ؛ فإنَّ وعد الله لا خلف له، والاستعجال لا يصدر إلا من الجُهَّال ؛ كما قال لنُوح - عليه الصلاة والسلام - ﴿ إني أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجاهلين ﴾ [ هود : ٤٦ ]، وهذا النَّهي لا يدلُّ على صدور ذلك من موسى - عليه الصلاة والسلام - كما أن قوله :﴿ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ﴾ [ الزمر : ٦٥ ] لا يدل على صدور الشرك منه.
١ ينظر: الكشاف ٢/٣٦٦، المحرر الوجيز ٣/١٣٩، البحر المحيط ٥/١٨٦، الدر المصون ٤/٦٥..
٢ ينظر: البحر المحيط ٥/١٨٦، الدر المصون ٤/٦٥..
٣ ينظر: المحرر الوجيز ٣/١٣٩، البحر المحيط ٥/١٨٦، الدر المصون ٤/٦٥..
٤ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٦/٦٠٣، ٦٠٤)..
٥ ينظر: السبعة ص (٣٢٩)، الحجة ٤/٢٩٢، حجة القراءات ص (٣٣٦)، إعراب القراءات ١/٢٧٢-٢٧٣، النشر ٢/٢٨٦، إتحاف البشر ٢/١١٩..
قوله تعالى: ﴿وَجَاوَزْنَا ببني إِسْرَائِيلَ البحر﴾ الآية.
قد تقدَّم الكلام في نظير الآية [الأعراف: ١٣٨]، وقرأ الحسن، «وجوَّزْنَا: بتشديد الواو.
قال الزمخشري: وجوَّزْنَا: من أجَازَ المكان، وجَاوَزهُ، وجوَّزَهُ، وليس من»
جَوَّز «الذي في بيت الأعشى: [الكامل]
٢٩٣٣ - وإذَا تُجَوِّزُها حِبَالُ قَبيلَةٍ أخَذَتْ مِنَ الأخْرَى إلَيْكَ حِبَالَهَا
لأنَّه لو كان منه لكان حقَّهُ أن يقال: وجَوَّزْنَا بني إسرائيل في البحر؛ كما قال: [الطويل]
٢٩٣٤ -............................ كمَا جَوَّزَ السَّكِّيَّ في البَابِ فَيْتَقُ
يعني أنَّ فعَّل بمعنى فاعل وأفْعَل، وليس التضعيفُ للتَّعدية، إذ لو كان كذلك لتعدَّى بنفسه كما في البيت المشار إليه دون الباء.
وقرأ الحسن:»
فاتَّبَعَهُمْ «بالتَّشديد، وقد تقدَّم الفرقُ.
قال القرطبيُّ: يقالُ: تَبعَ، وأتْبع بمعنى واحد إذا لحقهُ، واتَّبَع - بالتَّشديد - إذا صار خلفهُ، وقال الأصمعيُّ: يقال: أتبعه - بقطع الألف - إذا لحقه، وأدْرَكَهُ، واتَّبَعَه بوصل الألفِ - إذا اتَّبَع أثره وأدركهُ، أو لم يدركهُ، وكذلك قال أبُو زيدٍ، وقرأ قتادة:»
فأتبعهم «بوصل الألف وقيل: اتبعهُ - بوصل الألف في الأمْرِ - اقتدى به، وأتبعه بقطع خيراً وشرّاً. هذا قولُ أبي عمرو. وقيل: بمعنى واحدٍ.
قوله:»
بَغْياً وَعَدْواً «يجُوزُ أن يكونا مفعولين من أجلهما أي: لأجل البغيْ والعَدْوِ،
403
وشروط النَّصب متوفرةٌ، ويجُوزُ أن يكونا مصدرين في موضع الحال أي: باغين متعدِّين.
وقرأ الحسنُ» وُعدواً «بضمِّ العين، والدَّالِ المشدَّدةِ، وقد تقدَّم ذلك في سُورة الأنعام [الأنعام: ١٠٨]، وقوله:» حتى إِذَآ «: غاية لاتباعه.
قوله:»
آمَنتُ أَنَّهُ «قرأ الأخوان بكسر» إنَّ «وفيها أوجه:
أحدها: أنَّها استئنافُ إخبار؛ فلذلك كسرت لوقوعها ابتداء كلامٍ.
والثاني: أنَّه على إضمار القول أي: فقال إنَّهُن ويكون هذا القول مفسراً لقوله:»
آمنتُ «.
والثالث: أن تكون هذه الجملة بدلاً من قوله:»
آمنتُ «، وإبدالُ الجملة الاسميَّة من الفعليَّة جائزٌ، لأنَّها في معناها، وحينئذٍ تكون مكسورة؛ لأنَّها محكيَّة ب» قَالَ «هذا الظاهرُ.
والرابع: أنَّ»
آمنتُ «ضُمِّنَ معنى القول؛ لأنَّه قولٌ. وقال الزمخشريُّ:» كرَّر المخذولُ المعنى الواحد ثلاث مرَّاتٍ في ثلاثِ عباراتٍ حِرْصاً على القبول «.
يعني أنه قال:»
آمنتُ «فهذه مرَّة، وقال: ﴿أَنَّهُ لاا إله إِلاَّ الذي آمَنَتْ بِهِ بنوا إِسْرَائِيلَ﴾ فهذه مرة ثانية. وقال: ﴿وَأَنَاْ مِنَ المسلمين﴾ فهذه ثالثةٌ، والمعنى واحد.
وهذا جنوحٌ منه إلى الاستئناف في»
إنَّه «. وقرأ الباقون بفتحها وفيها أوجه:
أحدها: أنَّها في محلِّ نصب على المفعول به أي: آمنتُ توحيد الله؛ لأنَّه بمعنى صدَّقْتُ.
الثاني: أنَّها في موضع نصب بعد إسقاط الجارِّ أي: لأنَّه.
الثالث: أنَّها في محلِّ جرٍّ بذلك الجارِّ وقد تقدَّم ما فيه من الخلاف [يونس: ٢].

فصل


لمَّا أجاب الله دعاءهما، أمر بني إسرائيل بالخروج من مصر، وكان فرعونُ غافلاً عن ذلك؛ فلمَّا سمع بخروجهم «أتْبَعَهُمْ»
أي: لحقهُم، «بَغْياً وعَدْواً» أي: ظلماً واعتداءً. وقيل: بَغْياً في القولِ، وعدواً في الفعل، وكان البَحْرُ قد انفلق لموسى وقومه فدخلوا، وخرجوا، وأبقى الله تعالى ذلك الطريق يبساً، ليطمع فرعون، وجنودهُ في العُبُور، فلمَّا دخل مع جمعه، ودخل آخرهم، وهمَّ أوَّلهم بالخروج، انطبق عليهم البحرُ فلمَّا «أدْرَكَهُ الغرقُ» أي: غمره الماء، وقرب هلاكه «قال آمَنْتُ».
404
فإن قيل: إنَّ الإنسان إذا وقع في الغرق لا يمكنه أن يتلفَّظ بهذا اللفظ، فكيف حكى الله عنه أنَّهُ ذكر ذلك؟.
فالجوابُ من وجهين:
الأول: أنَّ الكلام الحقيقيَّ هو كلام النَّفْسِ لا كلام اللسان، فذكر هذا الكلام بالنفس.
الثاني: أن يكون المرادُ بالغرق مقدماته.
فإن قيل: إنَّه آمن ثلاث مرات على ما تقدم عن الزمخشري، فما السَّببُ في عدم القبولِ؟
فالجواب: من وجوهٍ:
أحدها: أنَّهُ إنَّمَا آمن عند نزول العذاب، والإيمان في هذا الوقت غير مقبول، قال تعالى: ﴿فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا﴾ [غافر: ٨٥].
الثاني: إنَّما ذكر هذه الكلمة ليتوسَّل بها إلى دفع تلك البلية الحاضرة، ولم يكن مقصودهُ بالكلمة الإقرار بوحدانية الله تعالى، فلم يَكُنْ مُخْلِصاً.
وثالثها: أنَّ ذلك الإقرار كان تقليداً، فإنهُ قال: ﴿لاا إله إِلاَّ الذي آمَنَتْ بِهِ بنوا إِسْرَائِيلَ﴾ فكأنه اعترف بأنَّه لا يعرفُ الله، وإنَّما سمع من بني إسرائيل أنَّ للعالم إلهاً، فهو أقَرّ بذلك الإله الذي سمع بني إسرائيل يُقرُّونَ بوجوده، وهذا محضُ التَّقليدِ، وفرعون قيل إنَّهُ كان من الدَّهرية المنكرين لوجود الصَّانع، ومثل هذا الاعتقاد الفاحش لا يزولُ إلاَّ بالحُجَّةِ القطعيَّة، لا بالتَّقليد المحضِ.
ورابعها: أنَّ بعض بني إسرائيل لمَّا جاوزوا البحر عبدُوا العجل، فلما قال فرعون: ﴿آمَنتُ أَنَّهُ لاا إله إِلاَّ الذي آمَنَتْ بِهِ بنوا إِسْرَائِيلَ﴾ انصرف ذلك إلى العجلِ الذي آمنوا بعبادته، فكانت هذه الكلمةُ في حقه سبباً لزيادة كُفْره.
وخامسها: أنَّ أكثر اليهُودِ يقولون بالتَّشبيه والتَّجْسِيم، ولهذا اشتغلوا بعبادة العجل لظنِّهم أنَّهُ تعالى في جسد ذلك العجل، فلمَّا قال فرعونُ: ﴿آمَنتُ أَنَّهُ لاا إله إِلاَّ الذي آمَنَتْ بِهِ بنوا إِسْرَائِيلَ﴾ فكأنَّهُ آمن بالله الموصوف بالجسميَّة، والحلول والنُّزول، ومن اعتقد ذلك؛ فهو كافرٌ، فلذلك ما صحَّ إيمانُهُ.
وسادسها: أنَّ الإيمان إنَّما يتمُّ بالإقرارِ بوحدانية الله، والإقرار بنُبُوَّةِ موسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - فلمَّا أقرَّ فرعونُ بالوحدانية، ولمْ يقر بنبوَّةِ موسى لم يصحَّ إيمانه؛ كما لو قال الكافر ألف مرة: أشهد أن لا إله إلاَّ الله لم يصح إيمانه حتى يقول معه: وأشهدُ أنَّ محمداً رسول الله، فكذا ههنا.
وسابعها: روى الزمخشري أنَّ جبريل - عليه السلام - أتى فرعون مُستفتياً: ما قولُ
405
الأمير في عبدٍ نشأ من مالِ مولاهُ ونعمته، فكفر بنعمته وجحد حقَّه، وادَّعَى السِّيادة دونهُ؟ فكتب فرعون يقولك أبو البعاس الوليد بن مصعب: جزاء العبد الخارج على سيده، الكافر بنعمته أن يغرق في البحر، ثمَّ إنَّ فرعون لما غرق؛ رفع جبريل عليه السلام فتياه إليه.
قوله: «الآن» منصوبٌ بمحذوفٍ أي: آمَنْتَ الآن، أو اتُؤمن الآن.
وقوله: «وقَدْ عَصَيْتَ» جملةٌ حالية، تقدَّم نظيرها.
واختلفوا في قائل هذا الكلام، فقيل: هو جبريلُ، وإنَّما قال: ﴿وَكُنتَ مِنَ المفسدين﴾ في مقابلة قوله ﴿وَأَنَاْ مِنَ المسلمين﴾. وقيل: القائلُ هو الله تعالى؛ لأنَّه قال بعدهُ: ﴿فاليوم نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ﴾ إلى أن قال: ﴿وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الناس عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ﴾، وهذا ليس إلاَّ كلام الله تعالى.
فإن قيل: ظاهرُ اللفظ يدلُّ على أنَّه إنَّما لم تقبل التوبة للمعصية المتقدمة، والفساد السَّابق، وهذا التعليلُ لا يمنعُ من قبول التوبةِ.
فالجوابُ من وجهين:
الأول: أنَّ قبول التَّوبةِ غير واجب عقلاً، ويدُلُّ عليه هذه الآيةُ.
الثاني: أنَّ التعليل ما وقع لمجرَّد المعصية السَّابقة، بل بتلك مع كونه من المفسدين.

فصل


روي أن جبريل - عليه السلام - أخذ يملأ فمه بالطِّين لئلاَّ يتوب غضباً عليه والأقربُ أنَّ هذا لا يصحُّ؛ لأنَّه في تلك الحالِ إمَّا أن يقال التكليف كان ثابتاً، أو ما كان ثابتاً، فإن كان ثابتاً لم يجز لجبريل أن يمنعه من التوبة، بل يجبُ عليه أن يعينه على التوبةِ، وعلى كُلِّ الطَّاعات، لقوله تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى البر والتقوى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإثم والعدوان﴾ [المائدة: ٢] وأيضاً، فلو منعه بما ذكر لكانت التَّوبة ممكنةً؛ لأنَّ الأخرس قد يتوبُ بأن يندمَ بقلبه ويعزم على ترك معاودة القبيح، فلا يبقى لما فعله جبريل فائدة، وأيضاً لو منعه من التوبة لكان قد رضي ببقائه على الكفر، والرِّضا بالكفر كفر وأيضاً كيف يليق بالله تعالى أن يقول لموسى وهارون - عليهما الصلاة والسلام - ﴿فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى﴾ [طه: ٤٤] ثُمَّ يأمُرُ جبريل أن يمنعهُ من الإيمان.
فإن قيل: إنَّ جبريل إنَّما فعل ذلك من قبل نفسه لا بأمر الله، فهذا يبطله قول جبريل: ﴿وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ﴾ [مريم: ٦٤] وقوله تعالى في صفة الملائكة: ﴿لاَ يَسْبِقُونَهُ بالقول وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾ [الأنبياء: ٢٧].
وإن قيل إنَّ التكليف كان زائلاً عن فرعون في ذلك الوقت، فلا يبقى للفعل المنسوب لجبريل فائدة أصلاً.
قوله: ﴿فاليوم نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ﴾ في «بِبدنِكَ» وجهان:
406
أحدهما: أنَّها باء المصاحبةِ بمعنى مصاحباً لبدنك، وهي الدَّرْع، فيكونُ «بِبدنِكَ» في موضع الحالِ.
قال المفسِّرُون: لمْ يُصدِّقُوا بغرقه، وكانت لهُ دِرْعٌ تعرفُ فألقي بنجوة من الأرض، وعليه درعهُ ليعرفوهُن والعربُ تطلقُ البدنَ على الدِّرع، قال عمرو بن معد يكرب: [الوافر]
٢٩٣٥ - أعَاذِل شِكَّتِي بَدِنِي وسَيْفِي وكُلُّ مُقلَّصٍ سَلِسِ القِيَادِ
وقال آخرُ: [الوافر]
٢٩٣٦ - تَرَى الأبْدانَ فِيهَا مثسْبَغَاتٍ عَلى الأبْطَالِ واليَلَبَ الحَصِينَا
أراد بالأبدان: الدُّرُوع، واليَلَبُ: الدروع اليمانية كانت تتخذ من الجلود يُخْرَزُ بعضها إلى بعض، وهو اسم جنس، الواحد: يَلَبَةٌ.
وقيل: بِبدنِكَ أيك عُرْيَان لا شيء عليه، وقيل: بَدَناً بلا رُوحٍ.
والثاني: أن تكون سببيَّة على سبيل المجاز؛ لأنَّ بدنهُ سببٌ في تنجيته، وذلك على قراءةِ ابن مسعود وابن السَّمَيْفَع «بِندَائِكَ» من النِّداءِ، وهو الدُّعاء: أي: بما نادى به في قومه من كفرانه في قوله: ﴿ونادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ﴾ [الزخرف: ٥١] ﴿فَحَشَرَ فنادى فَقَالَ أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى﴾ [النازعات: ٢٣، ٢٤] ﴿يا أيها الملأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي﴾ [القصص: ٣٨]. وقرأ يعقوب «نُنْجِيكَ» مخففاً من أنجاه. وقرأ أبو حنيفة: «بأبْدانِكَ» جمعاً: إمَّا على إرادةِ الأدْرَاع، لأنَّهُ كان يلبسُ كثيراً منها خوفاً على نفسه، أو جعل كُلَّ جُزءٍ من بدنه بدناً كقوله: «شَابَتْ مَفارِقُهُ» ؛ قال: [الكامل]
٢٩٣٧ -........................... شَابَ المَفارِقُ واكتَسَيْْنَ قتيرَا وقرأ ابن مسعود، وابن السميفع، ويزيد البربري ننحيك بالحاء المهملة من
407
التَّنْحِيةِ أي: نُلْقيكَ فيما يلي البحر، قال المفسرون: رماه إلى ساحل البحرِ كالثَّور. وهل تُنَجِّيك من النجاة بمعنى نُبْعِدك عمَّا وقع فيه قومُكَ من قَعْرِ البحر، وهو تهكُّم بهم، أو مِنْ ألقاه على نجوة أي: رَبْوة مرتفعة، أو من النَّجاة، وهو التَّرْكُ أو من النَّجاءِ، وهو العلامة، وكلُّ هذه معانٍ لائقة بالقصَّة، والظَّاهرُ أنَّ قولهُ: ﴿فاليوم نُنَجِّيكَ﴾ خبرٌ محض. وزعمَ بعضُهُم أنَّه على نيَّة همزةِ الاستفهامِ، وفيه بعدٌ لحذفها من غير دليلٍ، ولأنَّ التلعليل بقوله «لِتكُون» لا يُناسِبُ الاستفهام. و «لِتَكُونَ» متعلقٌ ب «نُنَجِّيكَ» و «آيَةً» أي: علامة وقيل: عِبْرةً وعِظَةً، و «لِمَنْ خَلْفكَ» في محلِّ نصبٍ على الحالِ من «آيَةً» لأنَّه في الأصل صفةٌ لها.
وقرأ بعضهم «لِمَنْ خلقك» آية كسائر الآيات. وقرئ «لِمَن خلَفكَ» بفتح اللاَّم جعله فعلاً ماضياً، أي: لِمَنْ خلفكَ من الجبابرة ليتَّعظُوا بذلك. وقرىء «لِمَنْ خلقَكْ» بالقاف فعْلاً ماضياً، وهو الله تعالى أي: ليجعلك الله آية له في عباده.

فصل


في كونه «لِمَنْ خلفه آيةً» وجوه:
أحدها: أنَّ الذين اعتقدُوا إلاهيته لمَّا لم يُشَاهدُوا غرقه كذَّبُوا بذلك، وزعموا أنَّ مثله لا يموت، فأخرجه الله تعالى بصورته حتى أبصروه وزالت الشُّبْهةُ عن قلوبهم.
الثاني: أنَّه تعالى أراد أن يشاهده الخلق على ذلك الذل والمهانة بعد ما سمعوا منه قوله: ﴿أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى﴾ [النازعات: ٢٤] ليكون ذلك زَجْراً للخَلْقِ عن مثل طريقته. الثالث: أنه تعالى لمَّا أغرقه مع جميع قومه، ثُمَّ إنَّه تعالى ما أخرج أحداً منهم من قَعْر البَحْرِ، بل خصَّهُ بالإخراج كان تخصيصه بهذه الحالة عجيبة دالة على قدرة الله تعالى، وعلى صدق موسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - في دعوة النبوَّةِ. الرابع: تقدم في قراءة من قرأ لمن خالقك بالقاف أي لتكون لخالقك آية كسائر آياته. ثم قال تعالى ﴿وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الناس عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ﴾ والظَّاهرُ أنَّ هذا الخطاب لأمة محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - زجراً لهم عن الإعراض عن الدَّلائل، وباعثاً لهم على التأمُّلِ فيها والاعتبار بها، كما قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الألباب﴾ [يوسف: ١١١].
408
قوله :" الآن " منصوبٌ بمحذوفٍ أي : آمَنْتَ الآن، أو اتُؤمن الآن.
وقوله :" وقَدْ عَصَيْتَ " جملةٌ حالية، تقدَّم نظيرها.
واختلفوا في قائل هذا الكلام، فقيل : هو جبريلُ، وإنَّما قال :﴿ وَكُنتَ مِنَ المفسدين ﴾ في مقابلة قوله ﴿ وَأَنَاْ مِنَ المسلمين ﴾. وقيل : القائلُ هو الله تعالى ؛ لأنَّه قال بعدهُ :﴿ فاليوم نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ ﴾ إلى أن قال :﴿ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الناس عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ ﴾، وهذا ليس إلاَّ كلام الله تعالى.
فإن قيل : ظاهرُ اللفظ يدلُّ على أنَّه إنَّما لم تقبل التوبة للمعصية المتقدمة، والفساد السَّابق، وهذا التعليلُ لا يمنعُ من قبول التوبةِ.
فالجوابُ من وجهين :
الأول : أنَّ قبول التَّوبةِ غير واجب عقلاً، ويدُلُّ عليه هذه الآيةُ.
الثاني : أنَّ التعليل ما وقع لمجرَّد المعصية السَّابقة، بل بتلك مع كونه من المفسدين.

فصل


روي أن جبريل - عليه السلام - أخذ يملأ فمه بالطِّين لئلاَّ يتوب غضباً عليه والأقربُ أنَّ هذا لا يصحُّ ؛ لأنَّه في تلك الحالِ إمَّا أن يقال التكليف كان ثابتاً، أو ما كان ثابتاً، فإن كان ثابتاً لم يجز لجبريل أن يمنعه من التوبة، بل يجبُ عليه أن يعينه على التوبةِ، وعلى كُلِّ الطَّاعات، لقوله تعالى :﴿ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى البر والتقوى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإثم والعدوان ﴾ [ المائدة : ٢ ] وأيضاً، فلو منعه بما ذكر لكانت التَّوبة ممكنةً ؛ لأنَّ الأخرس قد يتوبُ بأن يندمَ بقلبه ويعزم على ترك معاودة القبيح، فلا يبقى لما فعله جبريل فائدة، وأيضاً لو منعه من التوبة لكان قد رضي ببقائه على الكفر، والرِّضا بالكفر كفر وأيضاً كيف يليق بالله تعالى أن يقول لموسى وهارون - عليهما الصلاة والسلام - ﴿ فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى ﴾ [ طه : ٤٤ ] ثُمَّ يأمُرُ جبريل أن يمنعهُ من الإيمان.
فإن قيل : إنَّ جبريل إنَّما فعل ذلك من قبل نفسه لا بأمر الله، فهذا يبطله قول جبريل :﴿ وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ ﴾ [ مريم : ٦٤ ] وقوله تعالى في صفة الملائكة :﴿ لاَ يَسْبِقُونَهُ بالقول وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ﴾ [ الأنبياء : ٢٧ ].
وإن قيل إنَّ التكليف كان زائلاً عن فرعون في ذلك الوقت، فلا يبقى للفعل المنسوب لجبريل فائدة أصلاً.
قوله :﴿ فاليوم نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ ﴾ في " بِبدنِكَ " وجهان :
أحدهما : أنَّها باء المصاحبةِ بمعنى مصاحباً لبدنك، وهي الدَّرْع، فيكونُ " بِبدنِكَ " في موضع الحالِ.
قال المفسِّرُون : لمْ يُصدِّقُوا بغرقه، وكانت لهُ دِرْعٌ تعرفُ فألقي بنجوة من الأرض، وعليه درعهُ ليعرفوهُ، والعربُ تطلقُ البدنَ على الدِّرع، قال عمرو بن معد يكرب :[ الوافر ]
أعَاذِل شِكَّتِي بَدِنِي وسَيْفِي *** وكُلُّ مُقلَّصٍ سَلِسِ القِيَادِ١
وقال آخرُ :[ الوافر ]
تَرَى الأبْدانَ فِيهَا مسْبَغَاتٍ *** عَلى الأبْطَالِ واليَلَبَ الحَصِينَا٢
أراد بالأبدان : الدُّرُوع، واليَلَبُ : الدروع اليمانية كانت تتخذ من الجلود يُخْرَزُ بعضها إلى بعض، وهو اسم جنس، الواحد : يَلَبَةٌ.
وقيل : بِبدنِكَ أي : عُرْيَان لا شيء عليه، وقيل : بَدَناً بلا رُوحٍ.
والثاني : أن تكون سببيَّة على سبيل المجاز ؛ لأنَّ بدنهُ سببٌ في تنجيته، وذلك على٣ قراءةِ ابن مسعود وابن السَّمَيْفَع " بِندَائِكَ " من النِّداءِ، وهو الدُّعاء : أي : بما نادى به في قومه من كفرانه في قوله :﴿ ونادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ ﴾ [ الزخرف : ٥١ ] ﴿ فَحَشَرَ فنادى فَقَالَ أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى ﴾ [ النازعات : ٢٣، ٢٤ ] ﴿ يا أيها الملأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي ﴾ [ القصص : ٣٨ ]. وقرأ يعقوب٤ " نُنْجِيكَ " مخففاً من أنجاه. وقرأ أبو٥ حنيفة :" بأبْدانِكَ " جمعاً : إمَّا على إرادةِ الأدْرَاع، لأنَّهُ كان يلبسُ كثيراً منها خوفاً على نفسه، أو جعل كُلَّ جُزءٍ من بدنه بدناً كقوله :" شَابَتْ مَفارِقُهُ " ؛ قال :[ الكامل ]
. . . *** شَابَ المَفارِقُ واكتَسَيْْنَ قتيرَا٦
وقرأ ابن مسعود، وابن٧ السميفع، ويزيد البربري ننحيك بالحاء المهملة من التَّنْحِيةِ أي : نُلْقيكَ فيما يلي البحر، قال المفسرون : رماه إلى ساحل البحرِ كالثَّور. وهل ننَجِّيك من النجاة بمعنى نُبْعِدك عمَّا وقع فيه قومُكَ من قَعْرِ البحر، وهو تهكُّم بهم، أو مِنْ ألقاه على نجوة أي : رَبْوة مرتفعة، أو من النَّجاة، وهو التَّرْكُ أو من النَّجاءِ، وهو العلامة، وكلُّ هذه معانٍ لائقة بالقصَّة، والظَّاهرُ أنَّ قولهُ :﴿ فاليوم نُنَجِّيكَ ﴾ خبرٌ محض. وزعمَ بعضُهُم أنَّه على نيَّة همزةِ الاستفهامِ، وفيه بعدٌ لحذفها من غير دليلٍ، ولأنَّ التعليل بقوله " لِتكُون " لا يُناسِبُ الاستفهام.
و " لِتَكُونَ " متعلقٌ ب " نُنَجِّيكَ " و " آيَةً " أي : علامة وقيل : عِبْرةً وعِظَةً، و " لِمَنْ خَلْفكَ " في محلِّ نصبٍ على الحالِ من " آيَةً " لأنَّه في الأصل صفةٌ لها.
وقرأ بعضهم " لِمَنْ خلقك " آية كسائر الآيات. وقرئ٨ " لِمَن خلَفكَ " بفتح اللاَّم جعله فعلاً ماضياً، أي : لِمَنْ خلفكَ من الجبابرة ليتَّعظُوا بذلك. وقرئ٩ " لِمَنْ خلقَكْ " بالقاف فعْلاً ماضياً، وهو الله تعالى أي : ليجعلك الله آية له في عباده.

فصل


في كونه " لِمَنْ خلفه آيةً " وجوه :
أحدها : أنَّ الذين اعتقدُوا إلاهيته لمَّا لم يُشَاهدُوا غرقه كذَّبُوا بذلك، وزعموا أنَّ مثله لا يموت، فأخرجه الله تعالى بصورته حتى أبصروه وزالت الشُّبْهةُ عن قلوبهم.
الثاني : أنَّه تعالى أراد أن يشاهده الخلق على ذلك الذل والمهانة بعد ما سمعوا منه قوله :﴿ أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى ﴾ [ النازعات : ٢٤ ] ليكون ذلك زَجْراً للخَلْقِ عن مثل طريقته.
الثالث : أنه تعالى لمَّا أغرقه مع جميع قومه، ثُمَّ إنَّه تعالى ما أخرج أحداً منهم من قَعْر البَحْرِ، بل خصَّهُ بالإخراج كان تخصيصه بهذه الحالة عجيبة دالة على قدرة الله تعالى، وعلى صدق موسى - عليه الصلاة والسلام - في دعوة النبوَّةِ.
الرابع : تقدم في قراءة من قرأ لمن خالقك بالقاف أي لتكون لخالقك آية كسائر آياته.
ثم قال تعالى ﴿ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الناس عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ ﴾ والظَّاهرُ أنَّ هذا الخطاب لأمة محمد - عليه الصلاة والسلام - زجراً لهم عن الإعراض عن الدَّلائل، وباعثاً لهم على التأمُّلِ فيها والاعتبار بها، كما قال تعالى :﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الألباب ﴾ [ يوسف : ١١١ ].
١ ينظر البيت في ديوانه (٦٠) والبحر المحيط ٥/١٨٨ والكشاف ٢/٣٦٩ والدر المصون ٤/٦٧..
٢ البيت لكعب بن مالك. ورواية الديوان:
ترانا من فضافض سابغات *** كغدران الملا متسربلينا
ينظر: ديوانه (٢٧٩) والبحر المحيط ٥/١٨٨ والقرطبي ٨/٢٤٣ وفتح القدير ٢/٤٧٠ والدر المصون ٤/٦٧..

٣ ينظر: المحرر الوجيز ٣/١٤٢، البحر المحيط ٥/١٨٩، الدر المصون ٤/٦٧..
٤ ينظر: السابق..
٥ ينظر: الكشاف ٢/٣٦٩، المحرر الوجيز ٣/١٤٢، البحر المحيط ٥/١٨٩، الدر المصون ٤/٦٧..
٦ عجز بيت لجرير وصدره:
قال العواذل ما لجهلك بعدها ***...
ينظر: ديوانه ٢٨٩ والكتاب ٣/٤٨٣ والدر المصون ٤/٦٨..

٧ ينظر: الكشاف ٢/٣٦٩، المحرر الوجيز ٣/١٤٢، البحر المحيط ٥/١٨٩، الدر المصون ٤/٦٧..
٨ ينظر: الكشاف ٢/٣٦٩، المحرر الوجيز ٣/١٤٢، البحر المحيط ٥/١٨٩، الدر المصون ٤/٩٨..
٩ ينظر: السابق..
قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بني إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ﴾ الآية.
لمَّا ذكر خاتمة فرعون ذكر خاتمة بني إسرائيل، فقال: «ولقدْ بوَّأنا» أي: أسكنا بني إسرائيل «مُبَوَّأ صِدْقٍ» أي: مكاناً محموداً. ويجُوزُ أن يكون «مُبَوَّأ صِدْقٍ» منصوباً على المصدر، أي: بَوَّأناهم مُبَوَّأ صدقٍ، وأن يكون مكاناً أي: مكان تبوُّء صدقٍ. ويجوز أن ينتصب «مُبَوَّأ» على أنَّه مفعولٌ ثانٍ كقوله تعالى: ﴿لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِّنَ الجنة غُرَفَاً﴾ [العنكبوت: ٥٨] أي: لنُنْزلنَّهُمْ. ووصف المُبَوَّأ بكون صدقاً؛ لأنَّ عادة العربِ أنها إذا مدحتْ شيئاً أضافته إلى الصِّدْقِ، تقولُ: رَجُلٌ صدقٌ، وقدم صدقٍ، قال تعالى: ﴿رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ﴾ [الإسراء: ٨٠]. والمراد بالمبوَّأ الصدق: قيل: «مصر»، وقيل: الأردن وفلسطين وهي الأرض المقدسة ﴿وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطيبات﴾ الحلال «فَمَا اخْتَلَفُوا» يعنى اليهود الذين كانُوا في عَهْدِ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في تصديقه وأنه نبيٌّ حقٌّ «حتَّى جاءَهمُ العِلْمُ» يعنى القرآن، والبيان بأنه رسول الله صدق ودينه حق، وسمى القرآن علماً؛ لأنه سببُ العِلْمِ، وتسمية المُسَبَّبِ باسم السبب مجاز مشهور.
قال ابنُ عباس: هم قريظة والنَّضير وبنو قينقاع أنزلناهم منزل صدق: ما بين المدينة، والشام ورزقناهم من الطيبات، وهو ما في تلك البلادِ من الرطب، والتمر الذي لا يوجد مثله في البلاد وقيل: المراد بني إسرائيل الذين نجوا من فرعون أورثهم الله جميع ما كان تحت أيدي قوم فرعون من الناطق، والصامت، والحرث، والنسل، كما قال: ﴿وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأرض وَمَغَارِبَهَا﴾ [الأعراف: ١٣٧].
409

فصل


في كون القرآن سبباً لحدوث الاختلاف وجهان:
الأول: أنَّ اليهود كانوا يخبرون بمبعث محمدٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ويفتخرون به على سائر النَّاس، فلمَّا بعثه الله تعالى كذَّبوهُ حسداً، وبغياً وإيثارااً لبقاء الرِّياسة، وآمن به طائفةٌ منهم، فبهذا الطريق كان سبباً لحدوث الاختلاف فيهم.
الثاني: أنَّ هذه الطائفة من بني إسرائيل كانوا قبل نزول القرآن كفاراً محضاً بالكلِّيَّة، وبقوا على هذه الحالة حتَّى جاءهم القرآنُ، فعند ذلك اختلفوا فآمن قومٌ وبقي قومٌ كفاراً. ثم قال: ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ أي: أنَّ هذا الاختلاف لا يمكن إزالته في دار الدنيا، وإنَّما يقضى بينهم في الآخرة، فيتميز المحق من المبطل.
قوله: ﴿فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ﴾ الآية.
قال الواحديُّ «الشَّك في اللغةِ، ضمَّ بعض الشَّيءِ إلى بعضٍ، يقال: شَكَكْتُ الصَّيْدَ إذا رميْتَه فنظمْتَ يدهُ إلى أو رجلهُ إلى رجله، والشِّكائِكُ من الهوادج ما شُكَّ بعضها ببعضٍ والشِّكاكُ: البُيوتُ المُصطفَّة، والشَّكائِكُ: الأدْعياءُ؛ لأنَّهم يشكون أنفسهم إلى قوم ليسوا منهم، أي: يضُمُّون، وشكَّ الرَّجُلُ في السِّلاحِ، إذا دخل فيه وضمَّهُ إلى نفسه.
فإذا قالوا: شكَّ فلانٌ في الأمور أرادوا أنَّه وقف نفسه بين شيئين، فيجوزُ هذا ويجوزُ هذا فهو يضم إلى ما يتوهمه شيئاً آخر خلافه «.
ولمَّا ذكر اختلافهم عندما جاءهم العلم ذكر في هذه الآية ما يُقَوِّي قلبه في صحَّة القرآن والنبوة.
وفي» إن «هذه وجهان:
أظهرهما: أنَّها شرطيةٌ، واستشكلوا على ذلك أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يكُن في شكٍّ قط قال الزمخشريُّ:»
فإن قلت: كيف قال لرسوله: «فإن كُنت في شكٍّ» مع قوله للكفرة: ﴿وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ﴾ [هود: ١١٠] ؟ قلت: فرقٌ عظيم بين إثباته والتَّمثيل «. وقال أبو حيان: فإذا كانت شرطية فقالوا: إنَّها تدخلُ على الممكن وجوده أو المحقَّقِ وجوده، المبهم زمن وقوعه، كقوله تعالى: ﴿أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ الخالدون﴾ [الأنبياء: ٣٤] قال:» والذي أقوله إنَّ «إن» الشرطية تقتضي تعليق شيءٍ على شيءٍ، ولا تستلزمُ تحقُّقَ وقوعه ولا إمكانه، بل قد يكونُ ذلك في المستحيل عقلاً كقوله تعالى ﴿إِن كَانَ للرحمن وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين﴾ [الزخرف: ٨١]، ومستحيلٌ أن يكون له ولدٌ فكذلك مستحيلٌ أن يكون في شك، وفي المستحيل عادة كقوله تعالى: ﴿فَإِن استطعت أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأرض﴾ [الأنعام: ٣٥] لكنَّ وقوعها في تعليق المستحيل قليلٌ «.
ثم قال:»
ولمَّا خفي هذا الوجه على أكثر النَّاس؛ اختلفوا في تخريج هذه الآية فقال ابن عطيَّة: الصَّواب أنَّها مخاطبةٌ له، والمرادُ من سواه من أمته ممن يمكنُ أن يشُكَّ
410
أو يعارض؛ كقوله: ﴿ياا أَيُّهَا النبي اتق الله وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين﴾ [الأحزاب: ١] وقوله: ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ [الزمر: ٦٥] ويدلُّ على ذلك قوله في آخر السورة: ﴿يا أيها الناس إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي﴾ [يونس: ١٠٤] وأيضاً لو كان شاكّاً في نبوة نفسه؛ لكان شك غيره في نبوته أولى، وهذا يوجب سقوطُ الشريعة بالكلية، وأيضاً فبتقدير أن يكون شاكّاً في نبوَّةِ نفسه، فكيف يزول هذا الشك بإخبار أهل الكتاب عن نبوته مع أنهم كفار، وإن كان قَدْ حصل فيهم مؤمن إلاَّ أن قوله ليس بحجة، لا سيَّما وقد تقرَّر أنهم حرَّفُوا التوراة، والإنجيل؛ فثبت أنَّ هذا الخطابَ وإن كان في الظَّاهر مع الرسول إلاَّ أنَّ المراد هو الأمة، وعلى هذا فإنَّ الناس في زمانه كانوا فرقاً ثلاثة: المصدقون، والمكذبون، والمتوقفون في أمره الشَّاكون فيه، فخاطبهم الله تعالى بهذا الخطاب فقال: أيُّها الإنسان: ﴿فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ﴾ من الهدى على لسان محمد فاسأل أهل الكتاب ليدلوك على صحَّة نُبوَّته «.
ولمَّا ذكر الله تعالى لهم ما يزيل الشَّك عنهم، حذَّرهم من أن يلحقوا بالقسم الثاني، وهم المكذِّبون، فقال: ﴿وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِ الله﴾ [يونس: ٩٥] الآية.
وقيل: كنى بالشَّك عن الضِّيق.
وقيل: كنى به عن العجب، وجه المجازِ فيه أنَّ كُلاًّ منهما فيه تردُّد، وقال الكسائيُّ: إن كنت في شكٍّ أنَّ هذه عادتُهُم مع الأنبياء؛ فسلهم كيف صبر موسى - عليه السلام -؟.
وقيل: إنه تعالى علم أنَّ الرسول لم يشك في ذلك، إلاَّ أنَّ المقصود منه أنَّهُ متى سمع هذا الكلام فإنَّهُ يصرخ ويقول «يا ربّ لا أشك، ولا أطلب الحجة من قول أهل الكتاب، بل يكفيني ما أنزلته عليَّ من الدلائل الظاهرة»
ونظيره قوله تعالى للملائكة: ﴿أهؤلاء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ﴾ [سبأ: ٤٠] والمقصودُ أن يُصرِّحُوا بالجواب الحق ويقولوا: ﴿سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن﴾ [سبأ: ٤١].
وكقوله لعيسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ﴿أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله﴾ [المائدة: ١١٦] والمقصود منه أن يصرح عيسى بالبراءة عن ذلك. وقيل: التقدير إنَّك لسيت بشاك البتة. ولو كنت شاكاً لكان لك طرق كثيرة في إزالة الشَّك كقوله تعالى ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا﴾ [الأنبياء: ٢٢] أي: أنه لو فرض ذلك الممتنع واقعاً؛ لزم فيه المحال الفلاني، فكذا ههنا، ولو فرضنا وقوع الشَّك فارجع إلى التَّوراةِ، والإنجيل لتعرف بهما أنَّ هذا الشك زائل.
والوجه الثاني من وجهي إنْ أنَّها نافيةٌ. قال الزمخشري: «أي: فما كنتَ في شكٍّ فاسأل، يعنى لا نأمرك بالسُّؤال لكونكَ شاكاً، ولكن لتزداد يَقِيناً كما ازداد إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - بمعاينة إحياء الموتى» وهذا القول سبقه إليه الحسنُ البصريُّ والحسينُ بنُ الفضل، وكأنَّهُ فرارٌ من الإشكال المتقدِّم في جعلها شرطية، وقد تقدَّم جوابه من وجوهٍ.
411
قال القرطبي: قال أبو عمر محمد بن عبد الواحد الزَّاهد: سمعت الإمامين: ثَعْلباً والمبرد يقولان: معنى: «فإن كُنتَ في شكٍّ» أي: قُلْ يا محمَّدُ للكافر: فإن كُنتَ في شكٍّ ﴿فَاسْأَلِ الذين يَقْرَءُونَ الكتاب مِن قَبْلِكَ﴾.
وقال الفراء: أعْلمَ اللهُ أنَّ رسولهُ غير شاكٍّ، لكنَّه ذكره على عادة العرب، يقول الواحدُ لعبده: إن كنت عبدي فأطِعْني، ويقول لولده افعل كذا إن كنت ولدي، ولا يكونُ ذلك شكّاً.
وقال الفقيه: وقال بعضهم: هذا الخطاب لمنْ كان لا يقطعُ بتكذيب محمدٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ولا بتصديقه بل كان في شكٍّ.
وقيل: المراد بالخطاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمعنى: لو كنت ممَّن يلحقك شكٌّ فيما أخبرناك به، فسألت أهل الكتاب لأزالوا عنك الشَّكَّ.
والمراد بالشَّك هنا: ضيق الصدر، أي: إن ضاق صدرك بكفر هؤلاء فاصبر واسأل الذين يقرَؤونَ الكتابَ من قَبْلكَ، يُخْبِرُوكَ صَبْرَ الأنبياء من قبلك على أذى قومهم وكيف كان عاقبة أمرهم. والشَّكُّ في اللغةِ: أصله الضِّيق، يقال: شكَّ الثَّوب، أي: ضمَّهُ بخلال حتى يصير كالوعاء، فالشكُّ يقبض الصدر، ويضمه حتَّى يضيق.

فصل


قال المُحَقِّقُون: المراد بالذين يقرءون الكتاب: المؤمنون من أهْلِ الكتابِ، كعبد الله بن سلام، وعبد الله بن صوريا، وتميم الدارين وكعب الأحبار، لأنَّهُم هم الذين يوثق بأخبارهم.
وقال بعضهم: المراد الكل سواء كانوا من المسلمين أم من الكُفَّار؛ لأنَّهم إذا بلغُوا عدد التواتر، وقرؤوا آية من التَّوراة، والإنجيل، وتلك الآية دالة على البشارة بمقدمِ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقد حصل الغرضُ.
وقرا يحيى، وإبراهيم: الكتب بالجمع، وهي مبنيةٌ أنَّ المراد بالكتاب الجنسٌ لا كتابٌ واحد. فإن قيل: إن كتبهم قد دخلها التَّحريفُ والتَّغييرُ، فكيف يمكنُ التعويلُ عليها؟.
فالجواب: أنهم إنما حرَّفُوها لإخفاء الآيات الدَّالة على نبوَّةِ محمدٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، فإن بقيت فيها آيات دالة على نبوته؛ كان ذلك من أقوى الدَّلائل على صحَّة نبوَّة محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لأنَّها لمَّا بقيت مع توفر دواعيهم على إزالتها دلَّ ذلك على أنَّها كانت في غاية الظهور.
412

فصل


قيل: السؤالُ كان عن القرآن، ومعرفة نُبوَّةِ الرَّسُول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -. وقيل: السؤال راجعٌ إلى قوله ﴿فَمَا اختلفوا حتى جَآءَهُمُ العلم﴾ والأول أولى؛ لأنَّه الأهمُّ. ولمَّا بين هذا الطريق قال: ﴿لَقَدْ جَآءَكَ الحق مِن رَّبِّكَ﴾ أي: ثبت عنده بالآيات والبراهين القاطعة أنَّ ما أتاك هو الحق: «فلا تكُوننَّ من المُمترينَ» أي: لا مدخل للمرية فيه ﴿وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِ الله﴾ أي: اثبت، ودم على ما أنت عليه من انتفاء المرية، وانتفاء التكذيب بآيات الله؟ وروي أنَّه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ قال عند نزوله: «لا أشُكُّ ولا أسْألُ بلْ أشهدُ أنَّهُ الحقُّ».
ثم لمَّا فصَّل تعالى هذا التفصيل، بيَّن أنَّ له عباداً، قضى عليهم بالشَّقاءِ، فلا تتغيَّر، وعباداً قضى لهم بالشَّقاء، فلا تتغيَّر، وعباداً قضى لهم بالكرامة، فلا تتغير، فقال: ﴿إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ﴾.
قرأ نافعٌ وابن عامر كلمات على الجمع، والباقون: بالإفراد. فكلمات بحسب الكثرة النوعية أو الصنفية وكلمة بحسب الجنسية. والمراد بهذه الكلمة: حكمُ الله بذلك، وإخباره عنه، وخلقه في العبد مجموع القدرة، والدَّاعية الموجبة لحصول ذلك الأثر. واحتجُّوا بهذه الآية على صحَّة القول بالقضاءش والقدرِ. ثم قال: ﴿وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم﴾ أي: أنهم لا يؤمنون ألبتَّة، ولو جاءتهم الدَّلائل التي لا حدَّ لها ولا حَصْرَ؛ لأنَّ الدَّليل لا يهدي إلاَّ بإعانة الله، فإذا لم تحصيل الإعانة ضاعت تلك الدَّلائل.
القصة الثالثة
قوله تعالى: ﴿فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ﴾ الآية.
لمَّا بيَّن بقوله: ﴿إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ﴾ أتبعه بهذه الآية؛ لأنَّها دالةٌ على أنَّ قوم يونس آمنوا بعد كفرهم، وانتفعوا بذلك الإيمان، فدلَّ ذلك على أنَّ الكُفَّار فريقان:
فريق ختم له بالإيمان.
وفريق ختم له بالكفر، وكلُّ ما قضى الله به فهو واقعٌ.
قوله: «فلولا» لولا هنا تحضيضيةٌ، وفيها معنى التَّوبيخ؛ كقول الفرزدق: [الطويل]
413
وفي مصحف أبيِّ، وعبد الله - وقرأ كذلك - فَهَلاَّ، وهي نصٌّ في التحضيض وزعم عليُّ بنُ عيسى، والنَّحَّاس أنَّ لولا تأتي بمعنى ما النَّافية، وحملا على ذلك هذه الآية أي: ما كانت قرية نقله ابنُ قاسم، وهو منقولٌ أيضاً عن الهرويِّ، وكانت هنا تامة و «آمنت» صفة ل «قرية»، وفنفعها نسق على الصِّفة.
قوله: «إلاَّ قَوْمَ يُونُسَ» فيه وجهان:
أحدهما: أنَّهُ استثناء منقطع، وإليه ذهب سيبويه، والكسائي، والأخفش، والفراء، ولذلك أدخلهُ سيبويه في باب «ما لا يكون فيه إلاَّ النصب لانقطاعه» وإنما كان منقطعاً؛ لأنَّ ما بعد «إلاَّ» لا يندرجُ تحت لفظ «قرية».
والثاني: أنَّه متصلٌ. قال الزمخشري: «استثناءٌ من القرى، لأنَّ المراد أهاليها وهو استثناء منقطع بمعنى: ولكن قوم يونس، ويجُوزُ أن يكون مُتَّصِلاً، والجملةُ في معنى النَّفي كأنَّه قيل: ما آمنت قريةٌ من القرى الهالكة إلاَّ قوم يونس».
وقال ابنُ عطيَّة: هو بحسب اللفظ استثناءٌ منقطعٌ، وكذلك رسمه النَّحويون، وهو بحسب المعنى متصلٌ لأنَّ تقديره: ما آمن أهل قريةٍ إلاَّ قوم يونس.
قال شهاب الدين: «وتقدير هذا المضاف هو الذي صحَّح كونه استثناء مُتَّصلاً»، وكذلك قال أبو البقاء ومكي وابن عطية وغيرهم. وأمَّا الزَّمخشري فإنَّ ظاهر عبارته أنَّ المُصَحِّحَ لكونه متصلاً كونُ الكلام في معنى النَّفي، وليس كذلك بل المسوِّغ كون القرى يُرادُ بها أهاليها من باب إطلاق المحلِّ على الحال، وهو أحدُ الأوجه المذكورة في قوله ﴿واسأل القرية﴾ [يوسف: ٨٢]. وقرأ فرقة: «إلاَّ قومُ» بالرَّفع. قال الزمخشريُّ: وقُرىء بالرفع على البدل، روي ذلك عن الجرمي، والكسائي.
وقال المهدويُّ: «والرَّفْعُ على البدل من قَرْية». فظاهر هاتين العبارتين أنَّها قراءةٌ منقولةٌ، وظاهرُ قول مكِّي، وأبي البقاء أنَّها ليست قراءة، وإنَّما ذلك من الجائز، وجعلا الرَّفع على وجهٍ آخر غير البدلِ، وهو كون «إلاَّ» بمعنى «غير» في وقوعها صفةً.
قال مكي «ويجوزُ الرَّفعُ على أن تجعل إلا بمعنى» غير «صفة للأهْلِ المحذوفين في المعنى، ثم يُعْرَب ما بعد إلاَّ بإعراب» غير «لو ظهرت في موضع» إلاَّ «. وقال أبو البقاء - وأظنه أخذه منه -: ولو كان قد قُرىء بالرَّفع لكانت إلاَّ فيه بمنزلة غير فيكون صفة، وقد تقدم أن في نون يونس ثلاث لغات وقرئ بها.

فصل


قال البغويُّ: المعنى فلم تكن قرية؛ لأن في الاستفهام ضرباً من الجَحْدِ؛ أي: أهل
414
قرية آمنت عند معاينة العذاب، «فنفعها إيمانها» في حال اليَأسِ «إلاَّ قوم يونس»، فإنَّه نفعهم إيمانهم في ذلك الوقت، و «قوم» نصب على الاستثناء المنقطع، أي: ولكن قوم يونس «لما آمنوا كشفْنَا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدُّنْيَا، ومتعناهم إلى حين»، وهي وقت انقضاء آجالهم، واختلفوا في أنَّهُمْ هل رأوا العذاب عياناً فقال بعضهم: رأوا دليل العذاب. والأكثرون على أنَّهُم رأوا العذاب عياناً لقوله: ﴿كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخزي﴾، والكَشْفُ يكون بعد الوقوع، أو إذا قرب قوله: «ولو شاء ربُّك» يا مُحمَّدُ «لآمن من في الأرض كلهم جميعاً».
واعلم أنَّ هذه السُّورة من أوَّلها إلى هنا في بيان شبهات الكفار في إنكار النبوة، والجواب عنها، وكانت إحدى شبهاتهم؛ أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يُهَدِّدهُم بنزول العذاب على الكُفَّار، وبعد أتباعه أن الله ينصرهم، ويعلي شأنهم، ويقوي جانبهم، ثمَّ إنَّ الكُفَّارَ ما رأوا ذلك؛ فجعلوا ذلك شبهة في الطَّعْنِ في نبوته، وكانوا يبالغون في استعجال العذاب على سبيل السخرية، ثم إن الله تعالى بيَّن أنَّ تأخير الموعود به لا يقدحُ في صحَّة الوعد، ومن ثم ضرب لهذا أمثلة، وهي قصَّة نوح - عليه السلام - وموسى - عليه السلام - إلى هاهنا، ثم في هذه الآية بيَّن أنَّ جدَّ الرسول في دخولهم في الإيمان لا ينفعُ، ومبالغته في تقريرِ الدلائل في الجواب عن الشبهات لا يفيدُ؛ لأن الإيمان لا يحصلُ إلا بخلق الله، ومشيئته وإرشاده، وهدايته، إذا لم يحصل هذا المعنى لم يحصل الإيمانُ.

فصل


استدلُّوا بهذه الآية على أنَّ جميع الكائنات لا تحصلُ إلا بمشيئة الله تعالى؛ لأنَّ كلمة «لَوْ» تفيد انتفاء الشَّيء لانتفاء غيره، فقوله: ﴿وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأرض كُلُّهُمْ جَمِيعاً﴾ يقتضي أنَّه ما حصلت تلك المشيئة، وما حصل إيمانُ أهل الأرض بالكليَّة، فدلَّ هذا على أنَّه تعالى ما أراد الكل، وأجاب الجبائيُّ، والقاضي وغيرهما أنَّ المراد مشيئة الإلجاء، أي: لو شاءس الله أن يُلْجِئهُم إلى الإيمان لقدر عليه، ولكنَّهُ ما فعل ذلك؛ لأنَّ الإيمان الصَّادر من العبد على سبيل الإلجاء لا ينفعه، ولا يفيده فائدة، ثم قال الجبائيُّ: ومعنى إلجاء الله تعالى إيَّاهُم إلى ذلك، أن يُعَرِّفهم أنَّهُمْ لو حاولوا تركه حال الله بينهم وبين ذلك، وعند هذا لا بُدَّ وأن يفعلوا ما ألجئوا إليه.
والجواب من وجوه:
أحدها: أنَّ الكافر لو كان قادراً على الكفر، ولم يقدر على الإيمان، فحينئذٍ تكونُ القدرة على الكفر مستلزمة للكفر، فإذا كان خالق تلك القدرة هو الله تعالى لزم أنْ يقال: إنَّه تعالى خلق فيه قدرة مستلزمة للكفر؛ فوجب أن يقال: أراد منه الكفر، وإن كانت القدرة صالحة للضِّدين، فرجحان أحد الطَّرفين على الآخر - إن لم يتوقف على المرجح - فقد حصل الرجحانُ لا لمرجحٍ، وهو باطلٌ، وإن توقف على مرجح، فذلك المرجحُ إمَّا
415
أن يكون من العبد، أو من الله، فإن كان من العبد عاد التَّقْسِيمُ ولزم التسلسل، وهو محالٌ، وإن كان من الله، كان مجموع تلك القدرة مع تلك الدَّاعية موجباً لذلك الكفر، فإذا كان خالق القدرة والدَّاعية هو الله تعالى عاد الإلزام.
ثانيها: أن قوله: «ولو شاءَ ربُّكَ» لا يجوز حمله على مشيئة الإلجاء؛ لأنَّ النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ما كان يطلب منهم إلاَّ إيماناً ينتفعون به في الآخرة، فبيَّن تعالى؛ أنَّه لا قدرة للرَّسُولِ على تحصيل هذا الإيمان، ثم قال: ﴿وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأرض كُلُّهُمْ جَمِيعاً﴾ فوجب أن يكون المرادُ /نه هذا الإيمان النَّافع حتى ينتظم الكلام، وحمل اللفظ على مشيئة القهر والإلجاء لا يليقُ بهذا الموضع.
وثالثها: أنَّ الإلجاء إمَّا أن يكون بأن يظهر له آيات هائلة يعظم خوفه عند رؤيتها، فيأتي بالإيمان عندها، وإمَّا أن يكون بخلق الإيمان فيهم، والأولُ باطلٌ؛ لأنه تعالى قال: ﴿إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم﴾ [يونس: ٩٦ - ٩٧] وقال: ﴿وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الملاائكة وَكَلَّمَهُمُ الموتى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ ليؤمنوا إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله﴾ [الأنعام: ١١١] فبيَّن أنَّ إنزال الإيمان لا يفيدُ، وإ، كان المراد هو الثاني لم يكن هذا الإلجاء إلى الإيمان، بل كان عبارة عن خلق الإيمان فيهم، فيصير المعنى: ولو شاء ربك حصول الإيمان لهم لخلق الإيمان فيهم، ثم يقال: لكنه ما خلق الإيمان فيهم، فدلَّ على أنَّه ما أراد حصول الإيمان لهم، وهو المطلوب. ثم قال: ﴿أَفَأَنتَ تُكْرِهُ الناس حتى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ﴾ أي: أنه: لا قدرة لك على التَّصرف في أحد.
قوله: «أفأنت» يجوز في «أنت» وجهان، أحدهما: أن يرتفع بفعل مقدَّر مفسَّر بالظَّاهر بعده، وهو الأرجحُ؛ لأنَّ الاسم قد ولي أدّاة هي بالفعل أولى.
والثاني: أنَّه مبتدأ والجملةُ بعده خبره، وقد تقدَّم ما في ذلك من كون الهمزة مقدمة على العاطف أو ثمَّ جملةٌ محذوفةٌ كما هو رأي الزمخشري. وفائدة إيلاء الاسم للاستفهام إعلامٌ بأنَّ الإكراه ممكنٌ مقدورٌ عليه، وإنَّما الشَّأنُ في المكره من هو؟ وما هو إلا هو وحده لا مشاركة فيه لغيره. و «حتَّى» غايةٌ للإكراه.
قوله: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ﴾ كقوله: ﴿أَنْ تَمُوتَ﴾ [آل عمران: ١٤٥] وقد تقدم في آل عمران [١٤٥]. والمعنى: ما ينبغي لنفس. وقيل: ما كانت لتؤمن إلاَّ بإذنِ الله.
قال ابن عبَّاسٍ: بأمر الله. وقال عطاءٌ: بمشيئة الله. وقيل: بعلم الله. «ويَجْعَلُ» قرأ أبو بكر عن عاصم بنون العظمة. والباقون: بياء الغيبةِ وهو الله تعالى. وقرأ
416
الأعمش «ويجعلُ الرجز» بالزاي دون السين، وقد تقدَّم هل هما بمعنى، أو بينهما فرقٌ؟ [الأعراف: ١٣٤] ثم قال: ﴿عَلَى الذين لاَ يَعْقِلُونَ﴾ أي: من الله أمره ونهيه.

فصل


احتجُّوا بقوله: ﴿وَيَجْعَلُ الرجس عَلَى الذين لاَ يَعْقِلُونَ﴾ على أنَّ خالق الكفر والإيمان هو الله تعالى، وتقريره: أنَّ الرِّجْسَ قد يراد به: العملُ القبيحُ، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾ [الأحزاب: ٣٣] والمراد من الرِّجْسٍ هنا: العملُ القبيحُ سواء كان كفراً أو معصية، وبالتَّطهير: نقل العبد من رجس الكفر، والمعصية إلى طهارة الإيمان، والطَّاعة، فلما ذكر الله تعالى فيما قبل هذه الآية أنَّ الإيمان إنَّما يحصلُ بمشيئة الله وتخليقه، ذكر بعد أنَّ الرِّجْسَ لا يحصلُ إلاَّ بتخليقه. والرِّجْسُ الذي يقابلُ الإيمان ليس إلاَّ الكفر.
وأجاب أبو علي الفارسي النحوي عنه فقال: الرِّجْسُ، يحتمل وجهين آخرين.
أحدهما: أن يكون المراد منه العذاب، فيكون المعنى: يلحق العذاب بالذين لا يعقلون، كقوله ﴿وَيُعَذِّبَ المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات﴾ [الفتح: ٦]. الثاني: أنَّه تعالى حكم عليهم بأنَّهم نجس، كما قال: ﴿إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ﴾ [التوبة: ٢٨] أي: أنَّ الطَّهارة الثابتة للمسلمين لم تحصل لهم.
وأجابُوا: أنَّ حمل الرجس على العذاب باطلٌ؛ لأنَّ الرِّجْسَ عبارة عن الفاسد المستقذر المستكره فحمل هذا اللفظ على كفرهم وجهلهم أولى من حمله على عذاب الله مع كونه حقّاً صِدْقاً صواباً. وأمَّا حمل الرِّجْسِ على حكم الله برجاستهم، فهو في غاية البعد؛ لأنَّ حكم الله تعالى بذلك صفته، فكيف يجوز أن يقال: إنَّ صفة الله رجسٌ، فثبت أنَّ دلالة الآية على الكفر ظاهرةٌ.
417
قوله :﴿ فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ ﴾ الآية.
قال الواحديُّ " الشَّك في اللغةِ، ضمَّ بعض الشَّيءِ إلى بعضٍ، يقال : شَكَكْتُ الصَّيْدَ إذا رميْتَه فنظمْتَ يدهُ إلى أو رجلهُ إلى رجله، والشِّكائِكُ من الهوادج ما شُكَّ بعضها ببعضٍ والشِّكاكُ : البُيوتُ المُصطفَّة، والشَّكائِكُ : الأدْعياءُ ؛ لأنَّهم يشكون أنفسهم إلى قوم ليسوا منهم، أي : يضُمُّون، وشكَّ الرَّجُلُ في السِّلاحِ، إذا دخل فيه وضمَّهُ إلى نفسه.
فإذا قالوا : شكَّ فلانٌ في الأمور أرادوا أنَّه وقف نفسه بين شيئين، فيجوزُ هذا ويجوزُ هذا فهو يضم إلى ما يتوهمه شيئاً آخر خلافه ".
ولمَّا ذكر اختلافهم عندما جاءهم العلم ذكر في هذه الآية ما يُقَوِّي قلبه في صحَّة القرآن والنبوة.
وفي " إن " هذه وجهان :
أظهرهما : أنَّها شرطيةٌ، واستشكلوا على ذلك أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكُن في شكٍّ قط قال الزمخشريُّ :" فإن قلت : كيف قال لرسوله :" فإن كُنت في شكٍّ " مع قوله للكفرة :﴿ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ ﴾ [ هود : ١١٠ ] ؟ قلت : فرقٌ عظيم بين إثباته والتَّمثيل ". وقال أبو حيان : فإذا كانت شرطية فقالوا : إنَّها تدخلُ على الممكن وجوده أو المحقَّقِ وجوده، المبهم زمن وقوعه، كقوله تعالى :﴿ أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ الخالدون ﴾ [ الأنبياء : ٣٤ ] قال :" والذي أقوله إنَّ " إن " الشرطية تقتضي تعليق شيءٍ على شيءٍ، ولا تستلزمُ تحقُّقَ وقوعه ولا إمكانه، بل قد يكونُ ذلك في المستحيل عقلاً كقوله تعالى ﴿ إِن كَانَ للرحمن وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين ﴾ [ الزخرف : ٨١ ]، ومستحيلٌ أن يكون له ولدٌ فكذلك مستحيلٌ أن يكون في شك، وفي المستحيل عادة كقوله تعالى :﴿ فَإِن استطعت أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأرض ﴾ [ الأنعام : ٣٥ ] لكنَّ وقوعها في تعليق المستحيل قليلٌ ".
ثم قال :" ولمَّا خفي هذا الوجه على أكثر النَّاس ؛ اختلفوا في تخريج هذه الآية فقال ابن عطيَّة : الصَّواب أنَّها مخاطبةٌ له، والمرادُ من سواه من أمته ممن يمكنُ أن يشُكَّ أو يعارض ؛ كقوله :﴿ يا أَيُّهَا النبي اتق الله وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين ﴾ [ الأحزاب : ١ ] وقوله :﴿ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ﴾ [ الزمر : ٦٥ ] ويدلُّ على ذلك قوله في آخر السورة :﴿ يا أيها الناس إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي ﴾ [ يونس : ١٠٤ ] وأيضاً لو كان شاكّاً في نبوة نفسه ؛ لكان شك غيره في نبوته أولى، وهذا يوجب سقوطُ الشريعة بالكلية، وأيضاً فبتقدير أن يكون شاكّاً في نبوَّةِ نفسه، فكيف يزول هذا الشك بإخبار أهل الكتاب عن نبوته مع أنهم كفار، وإن كان قَدْ حصل فيهم مؤمن إلاَّ أن قوله ليس بحجة، لا سيَّما وقد تقرَّر أنهم حرَّفُوا التوراة، والإنجيل ؛ فثبت أنَّ هذا الخطابَ وإن كان في الظَّاهر مع الرسول إلاَّ أنَّ المراد هو الأمة، وعلى هذا فإنَّ الناس في زمانه كانوا فرقاً ثلاثة :
المصدقون، والمكذبون، والمتوقفون في أمره الشَّاكون فيه، فخاطبهم الله تعالى بهذا الخطاب فقال : أيُّها الإنسان :﴿ فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ﴾ من الهدى على لسان محمد فاسأل أهل الكتاب ليدلوك على صحَّة نُبوَّته ".
ولمَّا ذكر الله تعالى لهم ما يزيل الشَّك عنهم، حذَّرهم من أن يلحقوا بالقسم الثاني، وهم المكذِّبون فقال :﴿ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِ الله ﴾ [ يونس : ٩٥ ] الآية.
وقيل : كنى بالشَّك عن الضِّيق. وقيل : كنى به عن العجب، وجه المجازِ فيه أنَّ كُلاًّ منهما فيه تردُّد، وقال الكسائيُّ : إن كنت في شكٍّ أنَّ هذه عادتُهُم مع الأنبياء ؛ فسلهم كيف صبر موسى - عليه السلام - ؟.
وقيل : إنه تعالى علم أنَّ الرسول لم يشك في ذلك، إلاَّ أنَّ المقصود منه أنَّهُ متى سمع هذا الكلام فإنَّهُ يصرخ ويقول " يا ربّ لا أشك، ولا أطلب الحجة من قول أهل الكتاب، بل يكفيني ما أنزلته عليَّ من الدلائل الظاهرة " ونظيره قوله تعالى للملائكة :﴿ أهؤلاء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ ﴾ [ سبأ : ٤٠ ] والمقصودُ أن يُصرِّحُوا بالجواب الحق ويقولوا :﴿ سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن ﴾ [ سبأ : ٤١ ].
وكقوله لعيسى - عليه الصلاة والسلام - ﴿ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله ﴾ [ المائدة : ١١٦ ] والمقصود منه أن يصرح عيسى بالبراءة عن ذلك. وقيل : التقدير إنَّك لسيت بشاك البتة. ولو كنت شاكاً لكان لك طرق كثيرة في إزالة الشَّك كقوله تعالى :﴿ لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا ﴾ [ الأنبياء : ٢٢ ] أي : أنه لو فرض ذلك الممتنع واقعاً ؛ لزم فيه المحال الفلاني، فكذا ههنا، ولو فرضنا وقوع الشَّك فارجع إلى التَّوراةِ، والإنجيل لتعرف بهما أنَّ هذا الشك زائل.
والوجه الثاني من وجهي إنْ أنَّها نافيةٌ. قال الزمخشري :" أي : فما كنتَ في شكٍّ فاسأل، يعنى لا نأمرك بالسُّؤال لكونكَ شاكاً، ولكن لتزداد يَقِيناً كما ازداد إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - بمعاينة إحياء الموتى " وهذا القول سبقه إليه الحسنُ البصريُّ والحسينُ بنُ الفضل، وكأنَّهُ فرارٌ من الإشكال المتقدِّم في جعلها شرطية، وقد تقدَّم جوابه من وجوهٍ.
قال القرطبي١ : قال أبو عمر محمد بن عبد الواحد الزَّاهد : سمعت الإمامين : ثَعْلباً والمبرد يقولان : معنى :" فإن كُنتَ في شكٍّ " أي : قُلْ يا محمَّدُ للكافر : فإن كُنتَ في شكٍّ ﴿ فَاسْأَلِ الذين يَقْرَءُونَ الكتاب مِن قَبْلِكَ ﴾.
وقال الفراء : أعْلمَ اللهُ أنَّ رسولهُ غير شاكٍّ، لكنَّه ذكره على عادة العرب، يقول الواحدُ لعبده : إن كنت عبدي فأطِعْني، ويقول لولده افعل كذا إن كنت ولدي، ولا يكونُ ذلك شكّاً.
وقال الفقيه : وقال بعضهم : هذا الخطاب لمنْ كان لا يقطعُ بتكذيب محمدٍ - عليه الصلاة والسلام - ولا بتصديقه بل كان في شكٍّ.
وقيل : المراد بالخطاب النبي صلى الله عليه وسلم والمعنى : لو كنت ممَّن يلحقك شكٌّ فيما أخبرناك به، فسألت أهل الكتاب لأزالوا عنك الشَّكَّ.
والمراد بالشَّك هنا : ضيق الصدر، أي : إن ضاق صدرك بكفر هؤلاء فاصبر واسأل الذين يقرَؤونَ الكتابَ من قَبْلكَ، يُخْبِرُوكَ صَبْرَ الأنبياء من قبلك على أذى قومهم وكيف كان عاقبة أمرهم. والشَّكُّ في اللغةِ : أصله الضِّيق، يقال : شكَّ الثَّوب، أي : ضمَّهُ بخلال حتى يصير كالوعاء، فالشكُّ يقبض الصدر، ويضمه حتَّى يضيق.

فصل


قال المُحَقِّقُون : المراد بالذين يقرءون الكتاب : المؤمنون من أهْلِ الكتابِ، كعبد الله بن سلام، وعبد الله بن صوريا، وتميم الداري، وكعب الأحبار، لأنَّهُم هم الذين يوثق بأخبارهم.
وقال بعضهم : المراد الكل سواء كانوا من المسلمين أم من الكُفَّار ؛ لأنَّهم إذا بلغُوا عدد التواتر، وقرؤوا آية من التَّوراة، والإنجيل، وتلك الآية دالة على البشارة بمقدمِ النبي صلى الله عليه وسلم فقد حصل الغرضُ.
وقرا يحيى٢، وإبراهيم : الكتب بالجمع، وهي مبنيةٌ أنَّ المراد بالكتاب الجنسٌ لا كتابٌ واحد. فإن قيل : إن كتبهم قد دخلها التَّحريفُ والتَّغييرُ، فكيف يمكنُ التعويلُ عليها ؟.
فالجواب : أنهم إنما حرَّفُوها لإخفاء الآيات الدَّالة على نبوَّةِ محمدٍ - عليه الصلاة والسلام -، فإن بقيت فيها آيات دالة على نبوته ؛ كان ذلك من أقوى الدَّلائل على صحَّة نبوَّة محمد - عليه الصلاة والسلام - لأنَّها لمَّا بقيت مع توفر دواعيهم على إزالتها دلَّ ذلك على أنَّها كانت في غاية الظهور.

فصل


قيل : السؤالُ كان عن القرآن، ومعرفة نُبوَّةِ الرَّسُول - عليه الصلاة والسلام -. وقيل : السؤال راجعٌ إلى قوله ﴿ فَمَا اختلفوا حتى جَآءَهُمُ العلم ﴾ والأول أولى ؛ لأنَّه الأهمُّ. ولمَّا بين هذا الطريق قال :﴿ لَقَدْ جَآءَكَ الحق مِن رَّبِّكَ ﴾ أي : ثبت عنده بالآيات والبراهين القاطعة أنَّ ما أتاك هو الحق :" فلا تكُوننَّ من المُمترينَ " أي : لا مدخل للمرية فيه ﴿ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِ الله ﴾ أي : اثبت، ودم على ما أنت عليه من انتفاء المرية، وانتفاء التكذيب بآيات الله ؟ وروي أنَّه عليه الصلاة والسلام قال عند نزوله :" لا أشُكُّ ولا أسْألُ بلْ أشهدُ أنَّهُ الحقُّ " ٣.
١ ينظر: تفسير القرطبي ٨/٢٤٤..
٢ ينظر: الكشاف ٢/٣٧١، البحر المحيط ٥/١٩١، الدر المصون ٤/٦٩..
٣ أخرجه عبد الرزاق (١٠٢١١) والطبري في "تفسيره" (٦/٦١٠) عن قتادة مرسلا..
ثم لمَّا فصَّل تعالى هذا التفصيل، بيَّن أنَّ له عباداً، قضى عليهم بالشَّقاءِ، فلا تتغيَّر، وعباداً قضى لهم بالشَّقاء، فلا تتغيَّر، وعباداً قضى لهم بالكرامة، فلا تتغير فقال :﴿ إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ ﴾.
قرأ نافعٌ١ وابن عامر كلمات على الجمع، والباقون : بالإفراد. فكلمات بحسب الكثرة النوعية أو الصنفية وكلمة بحسب الجنسية.
والمراد بهذه الكلمة : حكمُ الله بذلك، وإخباره عنه، وخلقه في العبد مجموع القدرة، والدَّاعية الموجبة لحصول ذلك الأثر.
واحتجُّوا بهذه الآية على صحَّة القول بالقضاء والقدرِ.
١ تقدمت..
ثم قال :﴿ وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم ﴾ أي : أنهم لا يؤمنون ألبتَّة، ولو جاءتهم الدَّلائل التي لا حدَّ لها ولا حَصْرَ ؛ لأنَّ الدَّليل لا يهدي إلاَّ بإعانة الله، فإذا لم تحصيل الإعانة ضاعت تلك الدَّلائل.
القصة الثالثة
قوله تعالى :﴿ فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ ﴾ الآية.
لمَّا بيَّن بقوله :﴿ إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ ﴾ أتبعه بهذه الآية ؛ لأنَّها دالةٌ على أنَّ قوم يونس آمنوا بعد كفرهم، وانتفعوا بذلك الإيمان، فدلَّ ذلك على أنَّ الكُفَّار فريقان :
فريق ختم له بالإيمان.
وفريق ختم له بالكفر، وكلُّ ما قضى الله به فهو واقعٌ.
قوله :" فلولا " لولا هنا تحضيضيةٌ، وفيها معنى التَّوبيخ ؛ كقول الفرزدق :[ الطويل ]
٢٩٣٨ - تَعُدُّونَ عَقْرَ النَّيبِ أفْضَلَ مَجْدِكُمْ بَنِي ضَوْطَرَى لولاَ الكَمِيَّ المقنَّعا
تَعُدُّونَ عَقْرَ النَّيبِ أفْضَلَ مَجْدِكُمْ بَنِي ضَوْطَرَى لولاَ الكَمِيَّ المقنَّعا١
وفي مصحف أبيِّ، وعبد الله٢ - وقرأ كذلك - فَهَلاَّ، وهي نصٌّ في التحضيض وزعم عليُّ بنُ عيسى، والنَّحَّاس أنَّ لولا تأتي بمعنى ما النَّافية، وحملا على ذلك هذه الآية أي : ما كانت قرية نقله ابنُ قاسم، وهو منقولٌ أيضاً عن الهرويِّ، وكانت هنا تامة و " آمنت " صفة ل " قرية "، وفنفعها نسق على الصِّفة.
قوله :" إلاَّ قَوْمَ يُونُسَ " فيه وجهان :
أحدهما : أنَّهُ استثناء منقطع، وإليه ذهب سيبويه، والكسائي، والأخفش، والفراء، ولذلك أدخلهُ سيبويه في باب " ما لا يكون فيه إلاَّ النصب لانقطاعه " وإنما كان منقطعاً ؛ لأنَّ ما بعد " إلاَّ " لا يندرجُ تحت لفظ " قرية ".
والثاني : أنَّه متصلٌ. قال الزمخشري :" استثناءٌ من القرى، لأنَّ المراد أهاليها وهو استثناء منقطع بمعنى : ولكن قوم يونس، ويجُوزُ أن يكون مُتَّصِلاً، والجملةُ في معنى النَّفي كأنَّه قيل : ما آمنت قريةٌ من القرى الهالكة إلاَّ قوم يونس ".
وقال ابنُ عطيَّة٣ : هو بحسب اللفظ استثناءٌ منقطعٌ، وكذلك رسمه النَّحويون، وهو بحسب المعنى متصلٌ لأنَّ تقديره : ما آمن أهل قريةٍ إلاَّ قوم يونس.
قال شهاب الدين٤ :" وتقدير هذا المضاف هو الذي صحَّح كونه استثناء مُتَّصلاً "، وكذلك قال أبو البقاء ومكي وابن عطية وغيرهم. وأمَّا الزَّمخشري فإنَّ ظاهر عبارته أنَّ المُصَحِّحَ لكونه متصلاً كونُ الكلام في معنى النَّفي، وليس كذلك بل المسوِّغ كون القرى يُرادُ بها أهاليها من باب إطلاق المحلِّ على الحال، وهو أحدُ الأوجه المذكورة في قوله ﴿ واسأل القرية ﴾ [ يوسف : ٨٢ ]. وقرأت فرقة٥ :" إلاَّ قومُ " بالرَّفع. قال الزمخشريُّ : وقرئ بالرفع على البدل، روي ذلك عن الجرمي، والكسائي.
وقال المهدويُّ :" والرَّفْعُ على البدل من قَرْية ". فظاهر هاتين العبارتين أنَّها قراءةٌ منقولةٌ، وظاهرُ قول مكِّي، وأبي البقاء أنَّها ليست قراءة، وإنَّما ذلك من الجائز، وجعلا الرَّفع على وجهٍ آخر غير البدلِ، وهو كون " إلاَّ " بمعنى " غير " في وقوعها صفةً.
قال مكي " ويجوزُ الرَّفعُ على أن تجعل إلا بمعنى " غير " صفة للأهْلِ المحذوفين في المعنى، ثم يُعْرَب ما بعد إلاَّ بإعراب " غير " لو ظهرت في موضع " إلاَّ ". وقال أبو البقاء - وأظنه أخذه منه - : ولو كان قد قُرئ بالرَّفع لكانت إلاَّ فيه بمنزلة غير فيكون صفة، وقد تقدم أن في نون يونس ثلاث لغات وقرئ بها.

فصل


قال البغويُّ : المعنى فلم تكن قرية ؛ لأن في الاستفهام ضرباً من الجَحْدِ ؛ أي : أهل قرية آمنت عند معاينة العذاب، " فنفعها إيمانها " في حال اليَأسِ " إلاَّ قوم يونس "، فإنَّه نفعهم إيمانهم في ذلك الوقت، و " قوم " نصب على الاستثناء المنقطع، أي : ولكن قوم يونس " لما آمنوا كشفْنَا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدُّنْيَا، ومتعناهم إلى حين "، وهي وقت انقضاء آجالهم، واختلفوا في أنَّهُمْ هل رأوا العذاب عياناً فقال بعضهم : رأوا دليل العذاب. والأكثرون على أنَّهُم رأوا العذاب عياناً لقوله :﴿ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخزي ﴾، والكَشْفُ يكون بعد الوقوع، أو إذا قرب قوله :" ولو شاء ربُّك " يا مُحمَّدُ " لآمن من في الأرض كلهم جميعاً ".
واعلم أنَّ هذه السُّورة من أوَّلها إلى هنا في بيان شبهات الكفار في إنكار النبوة، والجواب عنها، وكانت إحدى شبهاتهم ؛ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يُهَدِّدهُم بنزول العذاب على الكُفَّار، ويعد أتباعه أن الله ينصرهم، ويعلي شأنهم، ويقوي جانبهم، ثمَّ إنَّ الكُفَّارَ ما رأوا ذلك ؛ فجعلوا ذلك شبهة في الطَّعْنِ في نبوته، وكانوا يبالغون في استعجال العذاب على سبيل السخرية، ثم إن الله تعالى بيَّن أنَّ تأخير الموعود به لا يقدحُ في صحَّة الوعد، ومن ثم ضرب لهذا أمثلة، وهي قصَّة نوح - عليه السلام - وموسى - عليه السلام - إلى هاهنا. ثم في هذه الآية بيَّن أنَّ جدَّ الرسول في دخولهم في الإيمان لا ينفعُ، ومبالغته في تقريرِ الدلائل في الجواب عن الشبهات لا يفيدُ ؛ لأن الإيمان لا يحصلُ إلا بخلق الله، ومشيئته وإرشاده، وهدايته، إذا لم يحصل هذا المعنى لم يحصل الإيمانُ.
١ تقدم..
٢ ينظر: الكشاف ٢/٣٧١، المحرر الوجيز ٣/١٤٣، البحر المحيط ٥/١٩٢، الدر المصون ٤/٦٩..
٣ ينظر: المحرر الوجيز ٣/١٤٤..
٤ ينظر: الدر المصون ٤/٧٠..
٥ ينظر: المحرر الوجيز ٣/١٤٤، البحر المحيط ٥/١٩٢، الدر المصون ٤/٦٩..

فصل


استدلُّوا بهذه الآية على أنَّ جميع الكائنات لا تحصلُ إلا بمشيئة الله تعالى ؛ لأنَّ كلمة " لَوْ " تفيد انتفاء الشَّيء لانتفاء غيره، فقوله :﴿ وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأرض كُلُّهُمْ جَمِيعاً ﴾ يقتضي أنَّه ما حصلت تلك المشيئة، وما حصل إيمانُ أهل الأرض بالكليَّة، فدلَّ هذا على أنَّه تعالى ما أراد الكل، وأجاب الجبائيُّ، والقاضي وغيرهما أنَّ المراد مشيئة الإلجاء، أي : لو شاءس الله أن يُلْجِئهُم إلى الإيمان لقدر عليه، ولكنَّهُ ما فعل ذلك ؛ لأنَّ الإيمان الصَّادر من العبد على سبيل الإلجاء لا ينفعه، ولا يفيده فائدة، ثم قال الجبائيُّ : ومعنى إلجاء الله تعالى إيَّاهُم إلى ذلك، أن يُعَرِّفهم أنَّهُمْ لو حاولوا تركه حال الله بينهم وبين ذلك، وعند هذا لا بُدَّ وأن يفعلوا ما ألجئوا إليه.
والجواب من وجوه :
أحدها : أنَّ الكافر لو كان قادراً على الكفر، ولم يقدر على الإيمان، فحينئذٍ تكونُ القدرة على الكفر مستلزمة للكفر، فإذا كان خالق تلك القدرة هو الله تعالى لزم أنْ يقال : إنَّه تعالى خلق فيه قدرة مستلزمة للكفر ؛ فوجب أن يقال : أراد منه الكفر، وإن كانت القدرة صالحة للضِّدين، فرجحان أحد الطَّرفين على الآخر - إن لم يتوقف على المرجح - فقد حصل الرجحانُ لا لمرجحٍ، وهو باطلٌ، وإن توقف على مرجح، فذلك المرجحُ إمَّا أن يكون من العبد، أو من الله، فإن كان من العبد عاد التَّقْسِيمُ ولزم التسلسل، وهو محالٌ، وإن كان من الله، كان مجموع تلك القدرة مع تلك الدَّاعية موجباً لذلك الكفر، فإذا كان خالق القدرة والدَّاعية هو الله تعالى عاد الإلزام.
ثانيها : أن قوله :" ولو شاءَ ربُّكَ " لا يجوز حمله على مشيئة الإلجاء ؛ لأنَّ النبي - عليه الصلاة والسلام - ما كان يطلب منهم إلاَّ إيماناً ينتفعون به في الآخرة، فبيَّن تعالى ؛ أنَّه لا قدرة للرَّسُولِ على تحصيل هذا الإيمان، ثم قال :﴿ وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأرض كُلُّهُمْ جَمِيعاً ﴾ فوجب أن يكون المرادُ منه هذا الإيمان النَّافع حتى ينتظم الكلام، وحمل اللفظ على مشيئة القهر والإلجاء لا يليقُ بهذا الموضع.
وثالثها : أنَّ الإلجاء إمَّا أن يكون بأن يظهر له آيات هائلة يعظم خوفه عند رؤيتها، فيأتي بالإيمان عندها، وإمَّا أن يكون بخلق الإيمان فيهم، والأولُ باطلٌ ؛ لأنه تعالى قال :﴿ إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم ﴾ [ يونس : ٩٦-٩٧ ] وقال :﴿ وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الملائكة وَكَلَّمَهُمُ الموتى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ ليؤمنوا إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله ﴾ [ الأنعام : ١١١ ] فبيَّن أنَّ إنزال الإيمان لا يفيدُ، وإن، كان المراد هو الثاني لم يكن هذا الإلجاء إلى الإيمان، بل كان عبارة عن خلق الإيمان فيهم، فيصير المعنى : ولو شاء ربك حصول الإيمان لهم لخلق الإيمان فيهم، ثم يقال : لكنه ما خلق الإيمان فيهم، فدلَّ على أنَّه ما أراد حصول الإيمان لهم، وهو المطلوب. ثم قال :﴿ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ الناس حتى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ ﴾ أي : أنه : لا قدرة لك على التَّصرف في أحد.
قوله :" أفأنت " يجوز في " أنت " وجهان، أحدهما : أن يرتفع بفعل مقدَّر مفسَّر بالظَّاهر بعده، وهو الأرجحُ ؛ لأنَّ الاسم قد ولي أدّاة هي بالفعل أولى.
والثاني : أنَّه مبتدأ والجملةُ بعده خبره، وقد تقدَّم ما في ذلك من كون الهمزة مقدمة على العاطف أو ثمَّ جملةٌ محذوفةٌ كما هو رأي الزمخشري. وفائدة إيلاء الاسم للاستفهام إعلامٌ بأنَّ الإكراه ممكنٌ مقدورٌ عليه، وإنَّما الشَّأنُ في المكره من هو ؟ وما هو إلا هو وحده لا مشاركة فيه لغيره. و " حتَّى " غايةٌ للإكراه.
قوله :﴿ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ ﴾ كقوله :﴿ أَنْ تَمُوتَ ﴾ [ آل عمران : ١٤٥ ] وقد تقدم في آل عمران [ ١٤٥ ]. والمعنى : ما ينبغي لنفس. وقيل : ما كانت لتؤمن إلاَّ بإذنِ الله. قال ابن عبَّاسٍ : بأمر الله١. وقال عطاءٌ : بمشيئة الله٢. وقيل : بعلم الله. " ويَجْعَلُ " قرأ أبو بكر٣ عن عاصم بنون العظمة. والباقون : بياء الغيبةِ وهو الله تعالى. وقرأ الأعمش " ويجعلُ٤ الرجز " بالزاي دون السين، وقد تقدَّم هل هما بمعنى، أو بينهما فرقٌ ؟ [ الأعراف : ١٣٤ ] ثم قال :﴿ عَلَى الذين لاَ يَعْقِلُونَ ﴾ أي : من الله أمره ونهيه.

فصل


احتجُّوا بقوله :﴿ وَيَجْعَلُ الرجس عَلَى الذين لاَ يَعْقِلُونَ ﴾ على أنَّ خالق الكفر والإيمان هو الله تعالى، وتقريره : أنَّ الرِّجْسَ قد يراد به : العملُ القبيحُ، قال تعالى :﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ﴾ [ الأحزاب : ٣٣ ] والمراد من الرِّجْسٍ هنا : العملُ القبيحُ سواء كان كفراً أو معصية، وبالتَّطهير : نقل العبد من رجس الكفر، والمعصية إلى طهارة الإيمان، والطَّاعة، فلما ذكر الله تعالى فيما قبل هذه الآية أنَّ الإيمان إنَّما يحصلُ بمشيئة الله وتخليقه، ذكر بعد أنَّ الرِّجْسَ لا يحصلُ إلاَّ بتخليقه. والرِّجْسُ الذي يقابلُ الإيمان ليس إلاَّ الكفر.
وأجاب أبو علي الفارسي النحوي عنه فقال : الرِّجْسُ، يحتمل وجهين آخرين.
أحدهما : أن يكون المراد منه العذاب، فيكون المعنى : يلحق العذاب بالذين لا يعقلون، كقوله ﴿ وَيُعَذِّبَ المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ﴾ [ الفتح : ٦ ]. الثاني : أنَّه تعالى حكم عليهم بأنَّهم نجس، كما قال :﴿ إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ ﴾ [ التوبة : ٢٨ ] أي : أنَّ الطَّهارة الثابتة للمسلمين لم تحصل لهم.
وأجابُوا : أنَّ حمل الرجس على العذاب باطلٌ ؛ لأنَّ الرِّجْسَ عبارة عن الفاسد المستقذر المستكره فحمل هذا اللفظ على كفرهم وجهلهم أولى من حمله على عذاب الله مع كونه حقّاً صِدْقاً صواباً. وأمَّا حمل الرِّجْسِ على حكم الله برجاستهم، فهو في غاية البعد ؛ لأنَّ حكم الله تعالى بذلك صفته، فكيف يجوز أن يقال : إنَّ صفة الله رجسٌ، فثبت أنَّ دلالة الآية على الكفر ظاهرةٌ.
١ ذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٣٧٠)..
٢ انظر المصدر السابق..
٣ ينظر: السبعة ص (٣٣٠)، الحجة ٤/٣٠٦، إعراب القراءات ١/٢٧٦، إتحاف فضلاء البشر ٢/١٢٠..
٤ ينظر: الكشاف ٢/٣٧٣، المحرر الوجيز ٣/١٤٥، البحر المحيط ٥/١٩٣، الدر المصون ٤/٧٠..
قوله تعالى: ﴿قُلِ انظروا مَاذَا فِي السماوات والأرض﴾ الآية.
لمَّا بيَّن في الآيات السَّالفة أنَّ الإيمان لا يحصلُ إلا بتخليق الله تعالى ومشيئته، أمر بالنَّظَرِ والاستدلال في الدَّلائل فقال: «قُلِ انظروا».
قرأ عاصم وحمزةُ «قُلِ انظُرُوا» بكسر اللام لالتقاء الساكنين، والأصل فيه
417
الكسر، والباقون بضمها نقلوا حركة الهمزة إلى اللاَّمِ.
قوله: «مَاذَا» يجوز أن يكون «مَاذَا» كله استفهاماً مبتدأ، و «فِي السماوات» خبرهُ أي: أيُّ شيءٍ في السَّمواتِ؟ ويجوزُ أن تكون «ما» مبتدأ، و «ذَا» بمعنى الذي، و «فِي السماوات» صلته وهو خبرُ المبتدأ، وعلى التقديرين فالمبتدأ وخبره في محلِّ نصبٍ بإسقاطِ الخافض لأنَّ الفعل قبله معلقٌ بالاستفهام، ويجوز على ضعفٍ أن يكون «ماذا» كله موصُولاً بمعنى «الَّذي» وهو في محل نصبٍ ب «انُظُروا». ووجهُ ضعفه أنَّهُ لا يخلو: إمَّا أن يكون النظر بمعنى البصر فيعدَّى ب «إلى»، وإمَّا أن يكون قلبيّاً فيُعَدَّى ب «في»، وقد تقدَّم الكلامُ في «ماذا».

فصل


المعنى: قل للمشركين الذين يسألونك عن الإيمانِ: ﴿قُلِ انظروا مَاذَا فِي السماوات والأرض﴾ واعلم أنَّه لا سبيل إلى معرفةِ الله تعالى إلاَّ بالنَّظر في الدَّلائل. قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «تفكَّرُوا في الخَلْقِ ولا تتفَكَّرُوا في الخالِق» والدَّلائل إمَّا أن تكون من عالمِ السموات، أو من عالم الأرض، أمَّا الدلائل السماوية، فهي حركات الأفلاك والكواكب ومقاديرها، وما يختص به كل واحد منها، وأمَّا الدلائل الأرضية، فهي النظر في أحوال العناصر العلوية، وفي أحوال المعادن والنبات، وأحوال الإنسان، وينقسم كل واحد من هذه الأجناس إلى أنواع لا نهاية لها. ولو أنَّ الإنسان أخذ يتفكرُ في كيفية حكمة الله تعالى في تخليق جناح بعوضة لانقطع عقلهُ قبل أن يصل إلى أوَّل مرتبة من مراتب تلك الفوائد.
ثم لمَّا أمر بهذا التفكُّر بيَّن بعده أنَّ هذا التَّفكر والتَّدبر في هذه الآيات لا ينفعُ في حقِّ من حكم الله عليه في الأزلِ بأنَّه لا يؤمن فقال: ﴿وَمَا تُغْنِي الآيات والنذر عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ﴾.
قوله: «وَمَا تُغْنِي» يجوز في «ما» أن تكون استفهامية، وهي واقعةٌ موقع المصدر أي: أيَّ غناءٍ تُغني الآيات؟ ويجوزُ أن تكون نافيةً، وهو الظَّاهرُ.
وقال ابن عطية: ويحتملُ أن تكون «ما» في قوله: «وما تُغْنِي» مفعولة بقوله: «انظُرُوا» معطوفة على قوله: «مَاذَا» أي: تأمَّلُوا قدر غناء الآيات والنُّذُر عن الكُفَّار.
قال أبو حيان: وفيه ضعفٌ، وفي قوله: معطوفةٌ على «ماذا» تجوُّزٌ، يعنى أنَّ الجملة الاستفهامية التي هي «مَاذَا فِي السماوات» في موضع المفعول؛ لأنَّ «ماذا» وحدهُ منصوبٌ ب «انظُرُوا» فتكون «مَاذَا» موصلة، و «انظُرُوا» بصرية لما تقدَّم من أنَّه لو كانت بصرية
418
لتعدَّت ب «إِلَى». و «النُّذُرُ» يجوزُ أن يكون جمع «نَذِير»، المرادُ به المصدر فيكون التقدير: وما تُغْنِي الآياتُ والإنذارات، وأن يكون جمع «نذير» مراداً به اسم الفاعل بمعنى منذر فيكون التقدير والمُنْذِرُونَ وهم الرُّسُلُ. وقرىء «وما يُغْنِي» بالياء.
قوله: ﴿فَهَلْ يَنتَظِرُونَ﴾ يعني: مشركي مكَّة إلاَّ مثلَ أيَّام الذين خلوا مضوا «من قَبلِهِمْ» من مُكَذِّبي الأمم. قال قتادةُ: «يعني وقائع الله في قوم نوح، وعاد، وثمود» والعربُ تُسمِّي العذاب والنِّعم أياماً، كقوله: ﴿وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله﴾ [إبراهيم: ٥] وكُلُّ ما مضى عليك من خَيْرٍ وشرٍّ فهو أيَّام ثم إنَّه تعالى أمره بأن يقول لهم ﴿فانتظروا إِنَّي مَعَكُمْ مِّنَ المنتظرين﴾.
قوله: ﴿ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا﴾ قال الزمخشريُّ: هو معطوفٌ على كلامٍ محذوف يدلُّ عليه قوله: ﴿إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ﴾ [يونس: ١٠٢] كأنَّه قيل: نُهلكُ الأمم ثم نُنَجِّي رسلنا، معطوفٌ على حكايةِ الأحوالِ الماضية.
قرأ الكسائي في رواية «نصر» نُنْجِيط خفيفة، والباقون: مشددة، وهما لغتان، وكذلك في قوله «نُنْجِ المُؤمنينَ» والمعنى: ننجي رسلنا، والذين آمنوا معهم عند نزول العذابِ. معناه: نَجَّينَا، مستقبلٌ بمعنى الماضي، ونجَّيْنَا وأنْجَيْنَا بمعنى واحد «كذلِكَ» كما نَجَّيْناهم «حَقًّا» واجباً ﴿عَلَيْنَا نُنجِ المؤمنين﴾.
قوله: «حقّاً» فيه أوجهٌ:
أحدها: أن يكون منصوباً بفعل مُقَدَّر أي: حقَّ ذلك حقّاً.
والثاني: أن يكون بدلاً من المحذوف النَّائب عنه الكافُ تقديره: إنجاء مثل ذلك حقّاً.
والثالث: ان يكون «كذلك» و «حقًّا» منصوبين ب «نُنْجِ» الذي بعدهما.
والرابع: أن يكون «كَذلِكَ» منصوباً ب «نُنَجي» الاولى، وحقّاً ب «نُنْجِ» الثَّانية.
وقال الزمخشري: مثل ذلك الإنجاء ننجي المؤمنين منكم، ونهلك المشركين، وحقّاً علينا اعتراضٌ، يعني حقَّ ذلك علينا حقّاً.
وقرأ الكسائيُّ وحفصٌ «نُنْجي المؤمنين» مخففاً من أنجى يقال: أنْجَى ونجَّى.
419
كأنزل ونزَّل، وجمهور القرَّاءِ لم ينقلوا الخلاف إلاَّ في هذا دون قوله: ﴿فاليوم نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ﴾ [يونس: ٩٢] ودون قوله ﴿ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا﴾ [يونس: ١٠٣]. وقد نقل أبو علي الأزهري الخلافَ فيهما أيضاً، ورسِمَ في المصاحف بجيم دون ياء.

فصل


قال القاضي: قوله «حقًّا عليْنَا» المرادث به الوجوب؛ لأنَّ تخليصَ الرَّسُول - صلوات الله البر الرحيم وسلامه عليه - والمؤمنين من العذاب إلى الثَّواب واجبٌ، ولولاهُ ما حسن من الله تعالى أن يلزمهم الأفعال الشَّاقَّة، وهذا يجري مجرى قضاء الدَّين.
والجوابُ، بأن نقُول: إنَّه حقٌّ بحسب الوعْدِ والحُكْمِ، ولا نقُولُ إنَّهُ حقٌّ بحسب الاستحقاق لما ثبت أنَّ العبد لا يستحقُّ على خالقه شيئاً.
420
قوله :﴿ فَهَلْ يَنتَظِرُونَ ﴾ يعني : مشركي مكَّة إلاَّ مثلَ أيَّام الذين خلوا مضوا " من قَبلِهِمْ " من مُكَذِّبي الأمم. قال قتادةُ :" يعني وقائع الله في قوم نوح، وعاد، وثمود " ١ والعربُ تُسمِّي العذاب والنِّعم أياماً، كقوله :﴿ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله ﴾ [ إبراهيم : ٥ ] وكُلُّ ما مضى عليك من خَيْرٍ وشرٍّ فهو أيَّام ثم إنَّه تعالى أمره بأن يقول لهم ﴿ فانتظروا إِنَّي مَعَكُمْ مِّنَ المنتظرين ﴾.
١ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٦/٦١٧) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٥٧٤) وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم وأبي الشيخ..
قوله :﴿ ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا ﴾ قال الزمخشريُّ : هو معطوفٌ على كلامٍ محذوف يدلُّ عليه قوله :﴿ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ ﴾ [ يونس : ١٠٢ ] كأنَّه قيل : نُهلكُ الأمم ثم نُنَجِّي رسلنا، معطوفٌ على حكايةِ الأحوالِ الماضية.
قرأ الكسائي١ في رواية " نصر " نُنْجِي " خفيفة، والباقون : مشددة، وهما لغتان، وكذلك في قوله " نُنْجِ المُؤمنينَ " والمعنى : ننجي رسلنا، والذين آمنوا معهم عند نزول العذابِ. معناه : نَجَّينَا، مستقبلٌ بمعنى الماضي، ونجَّيْنَا وأنْجَيْنَا بمعنى واحد " كذلِكَ " كما نَجَّيْناهم " حَقًّا " واجباً ﴿ عَلَيْنَا نُنجِ المؤمنين ﴾.
قوله :" حقّاً " فيه أوجهٌ :
أحدها : أن يكون منصوباً بفعل مُقَدَّر أي : حقَّ ذلك حقّاً.
والثاني : أن يكون بدلاً من المحذوف النَّائب عنه الكافُ تقديره : إنجاء مثل ذلك حقّاً.
والثالث : أن يكون " كذلك " و " حقًّا " منصوبين ب " نُنْجِ " الذي بعدهما.
والرابع : أن يكون " كَذلِكَ " منصوباً ب " نُنَجي " الأولى، و حقّاً ب " نُنْجِ " الثَّانية.
وقال الزمخشري٢ : مثل ذلك الإنجاء ننجي المؤمنين منكم، ونهلك المشركين، وحقّاً علينا اعتراضٌ، يعني حقَّ ذلك علينا حقّاً.
وقرأ الكسائيُّ٣ وحفصٌ " نُنْجي المؤمنين " مخففاً من أنجى يقال : أنْجَى ونجَّى.
كأنزل ونزَّل، وجمهور القرَّاءِ لم ينقلوا الخلاف إلاَّ في هذا دون قوله :﴿ فاليوم نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ ﴾ [ يونس : ٩٢ ] ودون قوله ﴿ ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا ﴾ [ يونس : ١٠٣ ]. وقد نقل أبو علي الأزهري الخلافَ فيهما أيضاً، ورسِمَ في المصاحف بجيم دون ياء.

فصل


قال القاضي٤ : قوله " حقًّا عليْنَا " المراد به الوجوب ؛ لأنَّ تخليصَ الرَّسُول - صلوات الله البر الرحيم وسلامه عليه - والمؤمنين من العذاب إلى الثَّواب واجبٌ، ولولاهُ ما حسن من الله تعالى أن يلزمهم الأفعال الشَّاقَّة، وهذا يجري مجرى قضاء الدَّين.
والجوابُ، بأن نقُول : إنَّه حقٌّ بحسب الوعْدِ والحُكْمِ، ولا نقُولُ إنَّهُ حقٌّ بحسب الاستحقاق لما ثبت أنَّ العبد لا يستحقُّ على خالقه شيئاً.
١ ينظر: السبعة ص (٣٣٠)، الحجة للقراء السبعة ٤/٣٠٥، حجة القراءات ص(٣٣٧)، إعراب القراءات ١/٢٧٥-٢٧٦، إتحاف فضلاء البشر ٢/١٢٠..
٢ ينظر: تفسير الكشاف ٢/٣٧٣..
٣ ينظر: السبعة ص (٣٣٠)، الحجة للقراء السبعة ٤/٣٠٥، حجة القراءات ص (٣٣٧)، إعراب القراءات ١/٢٧٥-٢٧٦، إتحاف فضلاء البشر ٢/١٢٠..
٤ ينظر: تفسير الفخر الرازي ١٧/١٣٧..
قوله تعالى: ﴿قُلْ يا أيها الناس إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي﴾ الآية.
لمَّا بالغ في ذكر الدليل أمر رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بإظهار دينه، وإظهار المباينة عن المشركين، لكي تزول الشكوك والشبهات في أمره.
فإن قيل: كيف قال «في شكٍّ» وهم كافرون يعتقدون بطلان ما جاء به؟.
قيل: كان فيهم شاكون، فهم المرادُ بالآية، أو أنَّهم لمَّا رَأوا الآياتِ اضطربوا، وشكُّوا في أمرهم وأمر النبي - صلوات الله البر الرحيم وسلامه عليه -.
قوله: «فَلاَ أَعْبُدُ» جواب الشَّرط، والفعلُ خبر ابتداء مضمر تقديره: فأنَا لا أعبدُ، ولو وقع المضارعُ منفياً ب «لا» دون فاء لجزمَ، ولكنَّه مع الفاءِ يرفع كما تقدَّم ذكره، وكذا لوْ لمْ يُنْفَ ب «لا» كقوله تعالى: ﴿وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ﴾ [المائدة: ٩٥]، أي: فهو ينتقُم.
420
ثم قال: ﴿ولكن أَعْبُدُ الله الذي يَتَوَفَّاكُمْ﴾ يميتكم، ويقبض أرواحكم.
فإن قيل: ما الحكمةُ في وصف المعبود ههنا بقوله: ﴿الذي يَتَوَفَّاكُمْ﴾ ؟.
فالجواب: من وجوه:
الأول: أنَّ المعنى أني أعبدُ الله الذي خلقكم أولاً، ثم يتوفَّاكم ثانياً ثم يعيدكم ثالثاً، فاكتفى بذكر التوفي لكونه مُنَبِّهاً على البواقي.
الثاني: أنَّ الموت أشدُّ الأشياءِ مهابة، فخص هذا الوصف بالذكر ههنا، ليكون أقوى في الزَّجر والرَّدع.
الثالث: أنَّهم لمَّا استعجلوا نزول العذاب قال تعالى: ﴿فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ قُلْ فانتظروا إِنَّي مَعَكُمْ مِّنَ المنتظرين ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا والذين آمَنُواْ﴾ [يونس: ١٠٢ - ١٠٣] وهذا يدلُّ على أنَّهُ تعالى يهلك أولئك الكفار، ويبقي المؤمنين ويقوي دولتهم، فلمَّا كان قريب العهد بذكر هذا الكلام لا جرم قال ههنا: ﴿ولكن أَعْبُدُ الله الذي يَتَوَفَّاكُمْ﴾ وهو إشارةٌ إلى ما قرَّره وبيَّنهُ في تلك الآية كأنه يقول: أعبد الله الذي وعدني بإهلاككم، وإبقائي بعدكم.
قوله: ﴿وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين﴾ [يونس: ٧٢]، قال الزمخشري: أصله بأن أكون، فحذف الجارُّ، وهذا الحذف يحتمل أن يكون من الحذف المطرد الذي هو حذفُ الحروفِ الجارَّة مع أن وأنَّ، وأنْ يكون من الحذف غير المطَّرد؛ وهو كقوله: [البسيط]
٢٩٣٩ - أَمَرْتُكَ الخَيْرَ............................................
﴿فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ﴾ [الحجر: ٩٤] يعني: بغيرِ المُطَّرد أنَّ حذف حرف الجر مسموعٌ في أفعالٍ لا يجوزُ القياسُ عليها، وهي: أمَرَ، واسْتَغْفَرَ، كما تقدم [الأعراف١٥٥]، وأشار بقوله: «أمَرْتُكَ» إلى البيت المشهور: [البسيط]
٢٩٤٠ - أمَرْتُكَ الخَيْرَ فافْعَلْ مَا أمِرْتَ بِهِ..................................
وقد قاس ذلك بعضُ النَّحويِّين، ولكن يُشترط أن يتعيَّن ذلك الحرف، ويتعيَّن موضعه أيضاً، وهو رأي علي بن علي بن سليمان فيُجيز «بريتُ القلمَ السكين» بخلاف «صَكَكْتُ الحَجَرَ بالخشبةِ».
قوله: «وأنْ أقِمْ» يجوز أن يكون على إضمار فعلٍ أي: وأوحي إليَّ أن أقم، ثم لك في «أنْ» وجهان أحدهما: أن تكون تفسيريةً لتلك الجملةِ المقدَّرة، كذا قاله أبو حيان، وفيه نظرٌ، إذا المفسَّرُ لا يجوز حذفه، وقد ردَّ هو بذلك في موضع غير هذا، والثاني: أن تكون المصدرية، فتكون هي وما في خبرها في محلِّ رفع بذلك الفعل المقدر، ويحتمل أن تكون «أنْ» مصدرية فقط، وهي على هذا معمولةٌ لقوله: أمِرْتُ مراعى فيها معنى
421
الكلام؛ لأنَّ قوله «أنْ أكُونَ» كون من أكوانِ المؤمنين، ووصلْ «أنْ» بصيغة الأمْر جائزٌ، كما تقَدَّم تحريره.
وقال الزمخشريُّ: فإن قلت: عطف قوله: «وأنْ أقِمْ» على «أنْ أكُون» فيه إشكالٌ؛ لأنَّ أنْ لا تخلو: إمَّا أن تكون التي للعبارة، أو التي تكونُ مع الفعلِ في تأويل المصدر، فلا يصحُّ أن تكون التي للعبارة، وإن كان الأمر ممَّا يتضمَّنُ معنى القول؛ لأنَّ عطفها علىلموصولة ينافي ذلك، والقولُ بكونها موصولة مثل الأولى لا يساعد عليه لفظ الأمْرِ وهو «أقِمْ» ؛ لأنَّ الصِّلة حقُّها أن تكون جملة تحتمل الصِّدق والكذب.
قلت: قد سوَّغَ سيبويه أن توصلَ «أنْ» بالأمْرِ والنَّهْيِ، وشبَّه ذلك بقولهم: «أنت الذي تفعل» على الخطاب؛ لأنَّ الغرضَ وصلها بما تكونُ معه في تأويلِ المصدرِ، والأمْرُ والنَّهْيُ دالاَّنِ على المصدر دلالة غيرهما من الأفعال.
قال شهاب الدين: وقد تقدَّم الإشكالُ في ذلك وهو أنَّه إذا قُدِّرت بالمصدر فاتت الدَّلالةُ على الأمْرِ والنَّهْي.
ورجَّحَ أبُو حيَّان كونها مصدرية على إضمار فعل كما تقدَّم تقريره قال: «ليزولَ قلقُ العطفِ لوجودِ الكافِ، إذْ لوْ كانَ» وأنْ أقِمْ «عفطاص على» أنْ أكُونَ «لكان التَّركيبُ» وَجْهِي «بياء المتكلم، ومراعاةُ المعنى فيه ضعفٌ، وإضمارُ الفعل أكثر».
قال ابنُ الخطيبِ: الوا في قوله: «وأنْ أقِمْ وجْهكَ» حرف عطف، وفي المعطوف عليه وجهان:
الأول: أنَّ قوله: وأمِرْتُ أنْ أكُون قائم مقام قوله: وقيل لي كن من المؤمنين ثم عطف عليه «وأنْ أقِمْ وجْهَكَ».
الثاني: أنَّ قوله «وأنْ أقِمْ وجْهَكَ» قائم مقام قوله: «وأمْرِتُ» بإقامة الوجه، فيصير التقدير: وأمرت بأن أكون من المؤمنين، وبإقامة الوجه للدِّين حنيفاً.
قوله: «حَنِيفاً» يجُوزُ أن يكون حالاً من «الدِّين»، وأن يكون حالاً من فاعل «أقِمْ» أو مفعوله.

فصل


قال ابنُ عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: معنى قوله: ﴿وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً﴾ أي: عملك. وقيل: استقم على الدِّين حنيفاً.
قال ابنُ الخطيبِ: «إقامة الوجه كناية عن توجيه العقل بالكليَّةِ إلى طلبِ الدِّين؛
422
لأنَّ من يريدُ أن ينظر إلى شيءٍ نظر استقصاءٍ فإنَّه يُقيم وجههُ في مقابلته بحيثُ لا يصرفه عنه؛ لأنَّه لو صرفهُ عنه، ولو بالقليل، فقد بطلت تلك المقابلة، وإذا بطلت المقابلةُ اختلَّ الإبصار؛ فلهذا جعل إقامة الوجه كناية عن صرف العقل بالكليةِ إلى طلبِ الدِّين، وقوله» حَنِيفاً «أي: مائلاً إليه ميلاً كليّاً، معرضاً عن كُلِّ ما سواه إعراضاً كلياً».
ثم قال: ﴿وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين﴾ وهذا لا يمكنُ أن يكون نهياً عن عبادة الأوثان؛ لأنَّ ذلك صار مذكوراً في قوله أول الآية: ﴿فَلاَ أَعْبُدُ الذين تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله﴾ [١٠٤] فلا بُدَّ من حمل هذا الكلام على فائدة زائدة، وهي أن من عرف مولاه فلو التفت بعد ذلك إلى غيره كان ذلك شركاً، وهذا هو الذي تسميه أصحابُ القلوبِ بالشِّرك الخفيِّ. قاله ابنُ الخطيبِ.
قوله تعالى: ﴿ولا تَدْعُ﴾ يجُوزُ أن تكون هذه الجملة استئنافية، ويجوز أن تكون عطفاً على جملة الأمر وهي: «أَقِمْ» فتكون داخلة في صلة «أنْ» بوجهيها، أعني كونها تفسيرية أو مصدرية وقد تقدم.
وقوله: «مَا لاَ ينفعُك» يجوز أن تكون نكرةً موصوفةً، وأن تكون موصولةً.
قوله: «فإنَّكَ» هو جوابُ الشَّرطِ و «إذَنْ» حرفُ جوابِ توسَّطتْ بين الاسم، والخبرِ، ورتبتها التَّأخيرُ عن الخبرِ، وإنَّما وُسِّطتْ رعياً للفواصل. وقال الزمخشري: «إذَنْ» جواب الشَّرطِ وجوابٌ لسؤالٍ مقدَّر، كأنَّ سائلاً سأل عن تبعة عبادة الأوثان.
وفي جعله «إذَنْ» جزاءً للشَّرطِ نظرٌ، إذ جوابُ الشَّرطِ محصورٌ في أشياء ليس هذا منها.

فصل


المعنى: «ولا تَدْعُ» أي: ولا تعبد «مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُكَ» إن أطعته: «ولا يَضُرُّكَ» إن عصيتهُ «فإن فعلْتَ» فعبدتَ غير الله، أو لو اشتغلت بطلب المنفعة، والمضرَّةِ من غير الله ﴿فَإِنَّكَ إِذاً مِّنَ الظالمين﴾ الضَّارين لأنفسهم، الواضعين للعبادة في غير موضعها؛ لأنَّ الظلم عبارة عن وضع الشيء في غير وضعه.
قوله تعالى: ﴿وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ﴾ الآية.
قوله: «وَإِنْ يَمْسَسْكَ» قد تقدَّم ما في ذلك من صناعة البديع في سورة الأنعام [الأنعام: ١٧]. وقال هنا في جواب الشَّرط الأول بنفي عام، وإيجاب، وفي جواب الثاني بنفي عام دون إيجاب؛ لأنَّ ما أرادَه لا يردُّه رادٌّ، لا هو ولا غيره، لأنَّ إرادتهُ قديمةٌ لا تتغيَّرُ، فلذلك لم يجىء التَّركيب فلا رادَّ لهُ إلاَّ هو، هذه عبارةُ أبي حيَّان، وفيها نظرٌ، وكأنَّهُ يقولُ بخلاف الكَشْفِ فإنه هو الفاعلُ لذلك وحدهُ دون غيره بخلاف إرادته تعالى، فإنَّهُ لا يتصوَّر فيها الوقوعُ على خلافها، وهي مسألةٌ خلافيَّةٌ بين أهل السُّنَّةِ والاعتزال.
423
قال الزمخشريُّ: فإن قلت: لم ذُكر المسُّ في أحدهما والإرادةُ في الثاني؟ قلت: كأنَّه أراد أن يذكر الأمرين جميعاً: الإرادة والإصابة في كُلِّ واحدٍ من الضُّر والخَيْر، وأنَّه لا رادَّ لما يريده منهما، ولا مُزيلَ لِمَا يُصيب به منهما، فأوجز الكلام بأن ذكر المسَّ وهو الإصابةُ في أحدهما، والإرادة في الآخر ليدُلَّ بما ذكر على ما ترك، على أنَّه قد ذكر الإصابة في الخير في قوله: ﴿يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ﴾ [يونس: ١٠٧].

فصل


اعلم أنَّ الشيء إمَّا أن يكون ضارّاً، وإمَّا أن يكون نافعاً، وهذان القسمان مشتركان في اسم الخير، ولمَّا كان الضر أمراً وجودياً، والخير قد يكون أمراً عدميّاً، لا جرم لم يذكر لفظ الإمساس فيه بل قال: ﴿وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ﴾ والآية دالَّة على أنَّ الضرَّ والخيْرض واقعان بقدرةِ الله وبقضائه، فيدخل فيه الكفر، والإيمان، والطاعةُ، والمعصيةُ، والسرورُ والخيراتُ والآلامُ واللَّذاتُ.
ومعنى الآية: إن يُصبْكَ الله بضرٍّ أي: بشدَّة، وبلاء فلا دافع لهُ إلاَّ هُوَ، ﴿وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ﴾ رخاء ونعمة وسعة ﴿فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ﴾ لا دافع لرزقه، ﴿يُصَيبُ بِهِ﴾ بكل واحدٍ من الضر والخير ﴿مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الغفور الرحيم﴾.
قال الواحديُّ: قوله: ﴿وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ﴾ من المقلوب، معناه: وإن يرد بك الخَيْرَ، ولكنَّه لمَّا تعلَّق كل واحد منهما بالإرادةِ جاز تقديم كل واحد منهما.
قال المفسِّرون: لمَّا بيَّن تعالى في الآية الأولى أنَّ الأصنامَ لا تضرّ ولا تنفعُ بيَّن في هذه الآية أنَّها لا تقدر على دفع الشَّر الواصل من الغير، ولا على دفع الخير الواصل من الغير.
قوله تعالى: ﴿قُلْ يا أيها الناس قَدْ جَآءَكُمُ الحق مِن رَّبِّكُمْ﴾ الآية.
قوله: «مِن ربِّكم» يجوز أن يتعلَّق ب «جَاءَكُمُ» و «مِنْ» لابتداء الغاية مجازاً، ويجُوزُ أن يكون حالاً من «الحَقِّ».
قوله: فَمَنُ اهْتَدَى ومن ضلَّ يجوز أن تكون «مَنْ» شرطاً، فالفاءُ واجبةُ الدُّخُولِ وأن تكون موصولة فالفاءُ جائزته.

فصل


المراد «بالحقّ» القرآن والإسلام ﴿فَمَنُ اهتدى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا﴾ أي: على نفسه.
قوله: ﴿وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ﴾ أي: بِكَفِيلٍ يحفظ أعمالكم، و «ما» يجوز أن تكون الحجازيَّة أو التميمية، لخفاء النصب في الخبر.
424
قال ابنُ عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - هذه الآية نسختها آية القتال. ثمَّ قال تعالى: ﴿واتبع مَا يوحى إِلَيْكَ واصبر حتى يَحْكُمَ الله﴾ [يونس: ١٠٩] أمرهُ باتِّباعِ الوحي والتَّنزيل ﴿حتى يَحْكُمَ الله﴾ من نصرك وقهر عدوك وإظهار دينك ﴿وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين﴾ فحكم بقتل المشركين، وبالجزيةِ على أهل الكتاب يعطونها ﴿عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ [التوبة: ٢٩].
روي أبيّ بن كعب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَن قَرَأ سورة يونس - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من صدَّق بيونس وكذَّب به، وبعدد من غرق مع فرعون».
425
سورة هود - عليه الصلاة والسلام -
قال ابن عباس: هي مكية إلا قوله: ﴿وأقم الصلاة طرفي النهار﴾ [هود: ١١٤]. وهنا سؤالان: الأول: أن سورة القصص لم يقص فيها إلا قصة واحدة، وهي قصة موسى - عليه الصلاة والسلام - وفي هذه السورة قص فيها قصصا كثيرة؛ فكان تسمية هذه بالقصص أولى من تسمية تلك، وكان ينبغي أن يسمى القصص بسورة " موسى " - عليه السلام - كما سميت سورة يوسف - عليه الصلاة والسلام -، وسورة " نوح " - عليه الصلاة والسلام -. السؤال الثاني: أن في هذه السورة قصصا كثيرة، فما الحكمة في أنها سميت باسم هود دون غيره من الأنبياء المذكورين فيها؟.

فصل


يجوز في " هود " مرادا به السورة الصرف وتركه، وذلك باعتبارين: وهما أنك إن عنيت أنه اسم للسورة تعين منعه من الصرف، وهذا رأي الخليل وسيبويه. وكذلك " نوح "، و" لوط " إذا جعلتهما اسمين للسورتين المذكورين فيهما، فتقول: قرأت هود ونوح، وتبركت بهود، ونوح، ولوط. فإن قلت: قد نصوا على أن المؤنث الثلاثي الساكن الوسط؛ نحو: هند ودعد، والأعجمي الثلاثي الساكن الوسط؛ نحو: نوح ولوط حكمه الصرف وتركه، مع أن الصحيح وجوب صرف نوح. فالجواب: أن شرط ذلك ألا يكون المؤنث منقولا من مذكر إلى مؤنث، فلو سميت امرأة ب " زيد " تحتم منعه، وشرط الأعجمي ألا يكون مؤنثا، فلو كان مؤنثا تحتم منعه نحو: ماه وجور. وهود ونوح من هذا القبيل، فإن " هود " في الأصل لمذكر، وكذلك نوح، ثم سمي
426
بهما السورة، وهي مؤنثة، وإن كان تأنيثها مجازيا، وإن اعتبرت أنها على حذف مضاف وجب صرفه، فتقول: قرأت هودا ونوحا يعني: سورة هود وسورة نوح، وقد جوز الصرف بالاعتبار الأول عيسى بن عمر، وفيه ضعف، ولا خفاء أنك إذا قصدت ب " هود " و" نوح " النبي نفسه صرفت فقط عند الجمهور في الأعجمي، وأما هود فإنه عربي فيتحتم صرفه. وقد عقد النحويون لأسماء السور، والألفاظ، والأحياء، والقبائل، والأماكن بابا في منع الصرف وعدمه، حاصله: أنك إن عنيت قبيلة أو أما أو بقعة أو سورة، أو كلمة منعت. وإن عنيت حيا أو أبا أو مكانا، أو غير سورة، أو لفظا صرفت بتفصيل مذكور في كتب النحو.
427
الثاني : أنَّ قوله " وأنْ أقِمْ وجْهَكَ " قائم مقام قوله :" وأمْرِتُ " بإقامة الوجه، فيصير التقدير : وأمرت بأن أكون من المؤمنين، وبإقامة الوجه للدِّين حنيفاً.
قوله :" حَنِيفاً " يجُوزُ أن يكون حالاً من " الدِّين "، وأن يكون حالاً من فاعل " أقِمْ " أو مفعوله.

فصل


قال ابنُ عبَّاس - رضي الله عنهما - : معنى قوله :﴿ وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً ﴾ أي : عملك١. وقيل : استقم على الدِّين حنيفاً.
قال ابنُ الخطيبِ٢ :" إقامة الوجه كناية عن توجيه العقل بالكليَّةِ إلى طلبِ الدِّين ؛ لأنَّ من يريدُ أن ينظر إلى شيءٍ نظر استقصاءٍ فإنَّه يُقيم وجههُ في مقابلته بحيثُ لا يصرفه عنه ؛ لأنَّه لو صرفهُ عنه، ولو بالقليل، فقد بطلت تلك المقابلة، وإذا بطلت المقابلةُ اختلَّ الإبصار ؛ فلهذا جعل إقامة الوجه كناية عن صرف العقل بالكليةِ إلى طلبِ الدِّين، وقوله " حَنِيفاً " أي : مائلاً إليه ميلاً كليّاً، معرضاً عن كُلِّ ما سواه إعراضاً كلياً ".
ثم قال :﴿ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين ﴾ وهذا لا يمكنُ أن يكون نهياً عن عبادة الأوثان ؛ لأنَّ ذلك صار مذكوراً في قوله أول الآية :﴿ فَلاَ أَعْبُدُ الذين تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله ﴾ [ ١٠٤ ] فلا بُدَّ من حمل هذا الكلام على فائدة زائدة، وهي أن من عرف مولاه فلو التفت بعد ذلك إلى غيره كان ذلك شركاً، وهذا هو الذي تسميه أصحابُ القلوبِ بالشِّرك الخفيِّ. قاله ابنُ الخطيبِ.
١ ذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٣٧١)..
٢ ينظر: تفسير الفخر الرازي ١٧/١٣٨..
قوله تعالى :﴿ ولا تَدْعُ ﴾ يجُوزُ أن تكون هذه الجملة استئنافية، ويجوز أن تكون عطفاً على جملة الأمر وهي :" أَقِمْ " فتكون داخلة في صلة " أنْ " بوجهيها، أعني كونها تفسيرية أو مصدرية وقد تقدم.
وقوله :" مَا لاَ ينفعُك " يجوز أن تكون نكرةً موصوفةً، وأن تكون موصولةً.
قوله :" فإنَّكَ " هو جوابُ الشَّرطِ و " إذَنْ " حرفُ جوابِ توسَّطتْ بين الاسم، والخبرِ، ورتبتها التَّأخيرُ عن الخبرِ، وإنَّما وُسِّطتْ رعياً للفواصل. وقال الزمخشري :" إذَنْ " جواب الشَّرطِ وجوابٌ لسؤالٍ مقدَّر، كأنَّ سائلاً سأل عن تبعة عبادة الأوثان.
وفي جعله " إذَنْ " جزاءً للشَّرطِ نظرٌ، إذ جوابُ الشَّرطِ محصورٌ في أشياء ليس هذا منها.

فصل


المعنى :" ولا تَدْعُ " أي : ولا تعبد " مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُكَ " إن أطعته :" ولا يَضُرُّكَ " إن عصيتهُ " فإن فعلْتَ " فعبدتَ غير الله، أو لو اشتغلت بطلب المنفعة، والمضرَّةِ من غير الله ﴿ فَإِنَّكَ إِذاً مِّنَ الظالمين ﴾ الضَّارين لأنفسهم، الواضعين للعبادة في غير موضعها ؛ لأنَّ الظلم عبارة عن وضع الشيء في غير وضعه.
قوله تعالى :﴿ وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ ﴾ الآية.
قوله :" وَإِنْ يَمْسَسْكَ " قد تقدَّم ما في ذلك من صناعة البديع في سورة الأنعام [ الأنعام : ١٧ ]. وقال هنا في جواب الشَّرط الأول بنفي عام، وإيجاب، وفي جواب الثاني بنفي عام دون إيجاب ؛ لأنَّ ما أرادَه لا يردُّه رادٌّ، لا هو ولا غيره، لأنَّ إرادتهُ قديمةٌ لا تتغيَّرُ، فلذلك لم يجئ التَّركيب فلا رادَّ لهُ إلاَّ هو، هذه عبارةُ أبي حيَّان، وفيها نظرٌ، وكأنَّهُ يقولُ بخلاف الكَشْفِ فإنه هو الفاعلُ لذلك وحدهُ دون غيره بخلاف إرادته تعالى، فإنَّهُ لا يتصوَّر فيها الوقوعُ على خلافها، وهي مسألةٌ خلافيَّةٌ بين أهل السُّنَّةِ والاعتزال.
قال الزمخشريُّ١ : فإن قلت : لم ذُكر المسُّ في أحدهما والإرادةُ في الثاني ؟ قلت : كأنَّه أراد أن يذكر الأمرين جميعاً : الإرادة والإصابة في كُلِّ واحدٍ من الضُّر والخَيْر، وأنَّه لا رادَّ لما يريده منهما، ولا مُزيلَ لِمَا يُصيب به منهما، فأوجز الكلام بأن ذكر المسَّ وهو الإصابةُ في أحدهما، والإرادة في الآخر ليدُلَّ بما ذكر على ما ترك، على أنَّه قد ذكر الإصابة في الخير في قوله :﴿ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ ﴾ [ يونس : ١٠٧ ].

فصل


اعلم أنَّ الشيء إمَّا أن يكون ضارّاً، وإمَّا أن يكون نافعاً، وهذان القسمان مشتركان في اسم الخير، ولمَّا كان الضر أمراً وجودياً، والخير قد يكون أمراً عدميّاً، لا جرم لم يذكر لفظ الإمساس فيه بل قال :﴿ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ ﴾ والآية دالَّة على أنَّ الضرَّ والخيْر واقعان بقدرةِ الله وبقضائه، فيدخل فيه الكفر، والإيمان، والطاعةُ، والمعصيةُ، والسرورُ والخيراتُ والآلامُ واللَّذاتُ.
ومعنى الآية : إن يُصبْكَ الله بضرٍّ أي : بشدَّة، وبلاء فلا دافع لهُ إلاَّ هُوَ، ﴿ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ ﴾ رخاء ونعمة وسعة ﴿ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ ﴾ لا دافع لرزقه، ﴿ يُصَيبُ بِهِ ﴾ بكل واحدٍ من الضر والخير ﴿ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الغفور الرحيم ﴾.
قال الواحديُّ٢ : قوله :﴿ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ ﴾ من المقلوب، معناه : وإن يرد بك الخَيْرَ، ولكنَّه لمَّا تعلَّق كل واحد منهما بالإرادةِ جاز تقديم كل واحد منهما.
قال المفسِّرون : لمَّا بيَّن تعالى في الآية الأولى أنَّ الأصنامَ لا تضرّ ولا تنفعُ بيَّن في هذه الآية أنَّها لا تقدر على دفع الشَّر الواصل من الغير، ولا على دفع الخير الواصل من الغير.
١ ينظر: تفسير الكشاف ٢/٣٧٥..
٢ ينظر: تفسير الفخر الرازي ١٧/١٤٠..
قوله تعالى :﴿ قُلْ يا أيها الناس قَدْ جَآءَكُمُ الحق مِن رَّبِّكُمْ ﴾ الآية.
قوله :" مِن ربِّكم " يجوز أن يتعلَّق ب " جَاءَكُمُ " و " مِنْ " لابتداء الغاية مجازاً، ويجُوزُ أن يكون حالاً من " الحَقِّ ".
قوله : فَمَنُ اهْتَدَى ومن ضلَّ يجوز أن تكون " مَنْ " شرطاً، فالفاءُ واجبةُ الدُّخُولِ وأن تكون موصولة فالفاءُ جائزته.

فصل


المراد " بالحقّ " القرآن والإسلام ﴿ فَمَنُ اهتدى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ﴾ أي : على نفسه.
قوله :﴿ وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ ﴾ أي : بِكَفِيلٍ يحفظ أعمالكم، و " ما " يجوز أن تكون الحجازيَّة أو التميمية، لخفاء النصب في الخبر.
قال ابنُ عبَّاس - رضي الله عنهما - هذه الآية نسختها آية القتال١. ثمَّ قال تعالى :﴿ واتبع مَا يوحى إِلَيْكَ واصبر حتى يَحْكُمَ الله ﴾ [ يونس : ١٠٩ ] أمرهُ باتِّباعِ الوحي والتَّنزيل ﴿ حتى يَحْكُمَ الله ﴾ من نصرك وقهر عدوك وإظهار دينك ﴿ وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين ﴾ فحكم بقتل المشركين، وبالجزيةِ على أهل الكتاب يعطونها ﴿ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ﴾ [ التوبة : ٢٩ ].
١ ذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٣٧٢)..
Icon