تفسير سورة يونس

تفسير الشعراوي
تفسير سورة سورة يونس من كتاب تفسير الشعراوي .
لمؤلفه الشعراوي . المتوفي سنة 1419 هـ
بسم الله الرحمان الرحيم
وتبدأ سورة يونس١ بقوله :﴿ بسم الله الرحمان الرحيم ﴾ و﴿ بسم الله الرحمان الرحيم ﴾ من آيات القرآن، ولكن المختلفة فيه، أهي آية من كل سورة ؟ أم نزلت بين السور للفصل والابتداء ؟
وسور القرآن مائة وأربع عشرة سورة، وقد وردت ﴿ بسم الله الرحمان الرحيم ﴾ في أوائل مائة وثلاث عشرة سورة، ومرة واحدة في صلب سورة النمل :﴿ إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمان الرحيم ( ٣٠ ) ﴾ ( النمل ).
إذن : ف﴿ بسم الله الرحمان الرحيم ﴾ في سورة النمل بعض آية من القرآن، وآية من السورة، ومن قال من العلماء : إنها آية من كل سورة ؛ يجهر بها في الصلاة، ويسميها الآية رقم واحد والآية التي تأتي بعدها برقم اثنين. ومن قال : إنها نزلت للفصل بين السور، نقول له : إن نزلت ﴿ بسم الله الرحمان الرحيم ﴾ للفصل بين السور ؛ فما كانت لتأتي في سورة الفاتحة ؛ لأن الفاتحة أول سور القرآن. ولكن صاحب هذا الرأي، يرى أنها جاءت ابتداء للقرآن تبركا.
ونحن نرى أنها آية من سورة الفاتحة، وقد حسبوها كذلك في طباعة المصاحف، حيث ترقم ﴿ بسم الله الرحمان الرحيم ﴾ كآية أولى ثم ﴿ الحمد لله رب العالمين ﴾ هي الآية الثانية، و لكن في بقية السور لا ترقم ﴿ بسم الله الرحمان الرحيم ﴾ كآية أولى، بل ترقم الآية التي بعدها في السور القرآنية برقم واحد.
وقد اتفق جمهور العلماء على أنها هي آية من القرآن، ولكنها ليست آية من كل سورة، إلا في الفاتحة. وفي بداية خواطرنا حول القرآن الكريم قلنا : إن الإنسان يبدأ كل عمل باسم الله ؛ لأنه حين يقبل على الأعمال، فهذه الأعمال لا تستجيب لقدرته هو، ولكن تستجيب له بتسخير القادر له، فأنت تحرث الأرض، تضع البذور ؛ وتروي الأرض ؛ وينبت لك الحق الزرع. صحيح أنك حرثت لكنك لن تزرع، لأنك لا تعرف كيف وضع الحق سبحانه في البذرة كلّ النبات الذي سوف يخرج منها ؛ ولذلك يقول الحق :﴿ أفرأيتم ما تحرثون ( ٦٣ ) أأنتم تزرعونه أن نحن الزارعون ( ٦٤ ) ﴾ ( الواقعة ).
وهناك أفعال للإنسان تستجيب له، لا بقدرته عليها، ولن الله، شاء ذلك، فليس لإنسان قدرة على الهواء، ولا على العناصر التي في الأرض. وأنت إن فكرت تفكيرا بسيطا في النبتة البسيطة الخارجة من البذرة أو من حبة الفول التي تضعها في رطوبة الأرض سوف تلتفت لتجدها قد نبتت وخرج منها الزبان٢ البسيط ؛ ليكوّن الجذور، فكيف لهذا الزبان البسيط الضعيف من قدرة على الأرض ؟ وإن كانت الحبة في جبل، فهذا الزبان يدخل في أي فتحة الجبل ؛ لينشق الجبل، هذا هو الزبان البسيط التافه في رؤية الإنسان.
وأنت أيضا قد لا تعرف القدرة الموجودة في المياه، وهي قدرة هائلة لدرجة أنهم في الأزمان السابقة حين كانوا يريدون تفتيت الجبل الصخري، قبل اختراع الديناميت، كانوا ينقرون ثقبا في الجبل الصخري، ثم يضعون فيه وتدا من الخشب، ويدقون في هذا الثقب خشبا جافا ثم يقطرون عليه مياها، ولحظة أن تشرب الخشب بالمياه ينفجر الجبل.
وأنت حين تضع الحبة في الأرض، فالحبة تخرج نبتا بسيطا ؛ لتتكون منها الجذور التي تمتص الغذاء من الأرض، أما قبل ذلك فكانت الحبة تضم الغذاء الذاتي اللازم لتنشئة الجذر، في الأرض. ثم يشبك الجذر في الأرض. وترقّ فقلتا الحبة إلى أن تصيرا ورقتين خضراوين، ولم يعرف الإنسان أسرار تلك المسألة إلا حديثا، فهي من الكونيان المسخرة للإنسان قبل أن يبحثها علميّا.
وأنت حينما تذهب لتزرع فإنك لا تزرع بقوتك، بل بقوة من سخّر الأرض لك، وحين تأتي لتزرع وتقول : باسم الله أزرعك، فهذا إقرار منك بأن الحق سبحانه هو الذي سخر لك الأرض لتزرعها، وحين تريد حمل شيء ثقيل وتقول : بسم الله أرفعك، فأنت تستثمر قوة من الذي خلقك ؛ لأنك قد تأتي لرفع الشيء الثقيل فلا تصل الأوامر من المخ وقد تتعطل اليد.
إذن : فإن أقبلت على عمل، فافهم أنك لا تقبل عليه بقدرة على العمل، ولكن بتفضل المسخّر للمنفعل لك. فادخل على كل عمل وقل : باسم الله أحرث، باسم الله أزرع، وباسم الله أذاكر، وباسم الله أصنع ؛ لأنه هو سبحانه الذي سخّر لك كل شيء.
ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :{ كل عمل لا يبدأ باسم الله فهو أبتر " ٣.
لأنك إذا اعتمدت على قوتك ؛ فلن ينفعل لك شيء، فكل شيء ينفعل، لأن الله جعله منفعلا لك ؛ فابدأ كل شيء باسم الله. وفي أعرافنا السياسية يقول القاضي لحظة الحكم :" باسم الدستور حكمت بما يلي " أي : أنه يقر أنه لم يحكم بذاته، بل باسم الدستور.
إذن : حين تقبل على العمل باسم الله، فكأنك تذكّر المنفعل لك بأنه لا ينفعل لك أنت، وإنما ينفعل لمن خلقك وخلقه.
وساعة تقبل على أي عمل وتتذكر واهب الطاقة لك، وواهب الشيء المنفعل لك، وواهب الحركة، وواهب كل شيء تكون قد برئت من حولك ومن قوتك.
وهنا يقول الحق :﴿ الرحمان الرحيم ﴾ وهنا الرحمة بالخلق ؛ ليرفع عن العاصي الحرج في أنه يقبل على نعم الله باسم الذي عصاه، ويذكرك الحق بأنه ﴿ الرحمان الرحيم ﴾.
١ سورة (يونسà مكية عدد آياتها (١٠٩) آيات..
٢ الزبان: أصله في اللغة زباني العقرب أي طرفا قرنيه، شبه طرف النبتة الصغيرة الخارج من البذرة وانظر اللسان (ز ب ن).
٣ الأبتر: الأقطع، وهي صيغة أفعل تؤدي معنى المبالغة، والبتر: القطع. ومنه قوله تعالى:﴿إن شانئك هو الأبتر (٣)﴾ (الكوثر) أي المقطوع الذكر. والمقصود أن العمل إذ لم يبدأ فيه بسم الله أو بالحمد لله فهو مقطوع الخير وغير تام..

وتبدأ الأولى في سورة يونس :
{ آلر تلك آيات الكتاب الحكيم ( ١ ) :
و﴿ آلر ﴾ ثلاثة حروف، وقد سبقتها سورة البقرة ب﴿ آلم ﴾ و ﴿ آلم ﴾ في ألم في أول سورة آل عمران، وفي أول سورة الأعراف ﴿ آلمص ﴾ وهنا ﴿ آلر ﴾ في أول سورة يونس. ونلاحظ أن ﴿ آلم ﴾ و ﴿ آلمص ﴾ و ﴿ آلر ﴾ كلها أسماء حروف.
وكل شيء له اسم وله مسمى، وأنا اسمي الشعراوي صحيح، والمسمّى هو صورتي. فإذا أطلق الاسم جاءت صورة المسمى في الذهن. فساعة نقول :" السماء " يأتي الذهن " ما علاك ". وساعة تقول :" المسجد " يأتي إلى الذهن المكان المحيّز للصلاة.
إذن فهناك فلاق بين الاسم والمسمّى. وكل إنسان أميّ، أو متعلم، له قدرة على الكلام، لكن لا ينطق بأسماء الحروف إلا من تعلم. وفي الإنجليزية نطلب ممن يتعلمها أن يتهجى أسماء الحروف.
إذن : فالكل- كل متكلم-يعرف النطق بمسميات الحروف ولكن الذي يعرف المسميات ويعرف الأسماء هو من جنس معلم. وعرف أنك حين تقول :" أكلت "، فهذه الكلمة مكونة من ( همزة، وكاف، ولام، وتاء ).
فإن كانت بعض سور القرآن قد بدأت ب{ آلم ؛ هذه أسماء حروف، لا مسميات حروف، ومحمد صلى الله عليه وسلم أمي لم يتعلم، فمن الذي علمه أسماء الحروف ؟
هي، إذن رمزية على أنه –بإقرار الجميع- أمي ولم يجلس إلى معلم، ولم يقل له أحد شيئا، ثم نطق بعد ذلك بأسماء الحروف " ألف لام مي " ولو نظرت إلى المنطوق بالأسماء تجدها أربعة عشر حرفا تكررت١، وهي نصف حروف الهجاء.
ومن العجيب أن توصيف حروف الهجاء جاء بعد أن نزل القرآن.
وقسمناها نحن إلى حروف مهجورة وحروف مهموسة وحروف رقيقة وحروف رخوة. وقد حدث هذا التقسيم بعد أن نزل القرآن. وبالاستقراء تجد الأربعة عشر حرفا التي تأتي في فواتح السور تمثل كل أنواع الحروف. من : رقيق، ومفخم، ومجهور، ومهموس، ومستعل٢، وبدأ الله بها على أشكال مختلفة، فمرة يبدأ بحرف واحد :﴿ ص والقرآن ذي الذكر ( ١ ) ﴾ ( ص )، ويقول سبحانه :﴿ ق والقرآن المجيد ( ١ ) ﴾ ( ق )، ويقول سبحانه :﴿ ن والقلم وما يسطرون ( ١ ) ﴾ ( القلم ).
إذن : فثلاث سور ابتدأت بحرف واحد.
وهناك سور ابتدأت بحرف واحد.
وهناك سور ابتدأت بحرفين اثنين مثل :﴿ طه ﴾. ﴿ يس ﴾. ﴿ طس ﴾، ﴿ حم ﴾.
وهناك سور بدئت بثلاثة حروف :﴿ ألم ﴾ مثلما بدئت سورة البقرة، وسورة آل عمران، وسورة العنكبوت، وسورة الروم، وسورة السجدة. وهناك سور قد بدئت ب ﴿ ألر ﴾.
وثلاث سور تتفق في الألف واللام. وتختلف في " الميم والراء ". و ﴿ آلر ﴾ في أول سورة يونس و﴿ آلم ﴾ في أول سورة يوسف. و﴿ آلر ﴾ في أول سورة إبراهيم، و﴿ آلر ﴾ في أول سورة الحجر. وهناك سورة قد بدئا بأربعة حروف مثل :﴿ آلمص ﴾ في أول سورة الأعراف، وكذلك سورة الرعد بدأت ب ﴿ آلمر ﴾.
وهناك سور قد بدئت بخمسة حروف مثل سورة مريم ﴿ كهيعص ﴾. كذلك سورة الشورى بدأت ب ﴿ حم ( ١ ) عسق ( ٢ ) ﴾.
ومرة يطلق الحرف أو الحرفان في أول السورة ولا تعتبر آية وحدها ؛ بل جزءا من آية، وهناك سورتان تبدآن بأحرف وتعتبر آية مثل ﴿ طه ﴾، و﴿ يس ﴾. وأما في سورة النمل فهي تبدأ ب ﴿ طس ﴾ ولا تعتبر آية وحدها.
إذن : فمرة تنطق الحروف وحدها كآية مكتملة، ومرة تكون الحروف بعضها من آية، ومرة تأتي خمسة حروف مثل ﴿ كهيعص ﴾ كل هذا يدلك على أن القرآن توقيفي٣. ولم تأت آياته على نسق واحد ؛ لننتبه إلى أن الحق سبحانه أنزل هذه الحروف هكذا، ولن تأت آياته على نسق واحد، لننتبه إلى أن الحق سبحانه أنزل هذه الحروف هكذا، وكذلك نجد كلمة " اسم " في القرآن في ﴿ بسم الله ﴾ وتكتب من غير ألف٤، وهي ألف الأصل، أي : تنطقها حين تقرأها لكن الحرف يسقط عند الكتابة ولكنها لا تسقط عندما نكتب الآية الأولى من سورة العلق :﴿ اقرأ باسم ربك الذي خلق ( ١ ) ﴾ ( العلق ).
ومثال آخر لو استعرضت في القرآن الكريم كلمة " تبارك "، ستجدها فيها ألفا بعد الباء، وتأتي مرة من غير ألف٥، وكلمة " البنات " نجدها مرة بألف ومرة من غير ألف٦، كل ذلك ؛ لنفهم أن المسألة ليس لها رتابة كتابة ؛ لأنها لو كانت رتابة كتابة ؛ لجاءت على نظام واحد.
وقد شاء الحق هذا الأمر ؛ لتكون كتابة القرآن معجزة، كما كانت ألفاظه وتراكيبه معجزة. وقد قال البعض : إن العرب المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم لمن يكونوا أهل إتقان للكتابة، ونقول : لو كانوا على غير دراية بالكتابة لما كتبوا " بسم " من غير ألف في موقعها، لقد علموا أن القرآن يجب أن يكتب كما نزل به جبريل عليه السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابة توقيفية، أي : كما أمر الحق سبحانه٧.
وعجيبة أخرى كل آيات القرآن مبنية على الوصل، فأنت لا تقرأ ختام بالسكون، بل تلتفت لتجد الكلمة التي في ختام أي سورة مشكلة بغير السكون.
والمثال هو :﴿ وهو رب العرش العظيم ﴾ وجاء الحرف الأخير بالكسر لا بالسكون ؛ لتقرأ موصولة بما بعدها، فتقرأ كالآتي :﴿ وهو رب العرش العظيم بسم الله الرحمان الرحيم ﴾.
وهذه الحركة دلت على أن جميع آيات القرآن موصولة ببعضها، وإياك أن تجعل القرآن﴿ عضين ﴾٨ فلا تأخذ بعضا من آياته مفصولا عن غيرها، بل القرآن كله موصول، فليس في القرآن من موقف واجب٩، بل الآيات كلها مبنية على الوصل، وإن كانت الكلمة الأخيرة تنتهي بالفتحة فأنت تقرأها منصوبة ومن بعدها ﴿ بسم الله الرحمان الرحيم ﴾ فنحن لا نسكّن الحرف الأخير في أي سورة ؛ لأنها موصولة بما بعدها.
وحتى في الحكم التجويدي إن وجد إقلاب ننطقه إقلابا، وإن وجد إظهار١٠ ننطقه إظهارا ؛ لأن آيات القرآن مبنية على الوصل.
ولقائل أن يقول : إذا كان القرآن قد بني على الوصل، فكان المفروض أن آيات القرآن التي بدئت بحروف المعجم تنبني على طريقة المعجم. فلا نقول ( ألف لام ميم ) بل نقول :" ألم " ونقول المثل لمثل هذا القائل : لا، إن حروف القرآن التي بدئت بها السور يجب أن ننطقها كما هي، فننطق " ألف " ثم نقف، ونقرأ " لام " ثم نقف، ونقرأ " ميم " قثم نقف ؛ لأن هذه الحروف جاءت هكذا، وعلمها جبريل عليه السلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا، حتى لا نقول رتابة كلام، بل إن لذلك حكمة عند الله سواء فهمتها أنت الآن أم لم تفهمها.
وقد نزل القرآن على أمة عربية وظل أناس على كفرهم، وكانوا يعاندون رسول الله، ويترصدون لأي هفوة ؛ ليدخلوا منها للتشكيك في القرآن، ولكن أسمعتم رغم وجود الكافرين الصناديد أو واحدا قال : ما معنى ﴿ آلم ﴾ ؟.
لم يقل أحد من الكافرين ذلك، رغم حرصهم على أن يأتوا بمطاعن في القرآن، بل اعترفوا بمنطق بلاغة القرآن الكريم، مما يدل على أنهم فهموا شيئا من ﴿ آلم ﴾ بملكتهم العربية، ولو لم يفهموا منها شيئا ؛ ليطعنوا في القرآن. لكنهم لم يفعلوا.
وأيضا صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم أهل حرص على الفهم، هل سمعت أن أحدا سأل رسول الله عن معنى ﴿ آلم ﴾ ؟ لم يحدث، مما يدل على أنهم انفعلوا لقائلها بسرّ الله فيها، لا بفهم عقولهم لها ؛ لأن الوارد من عند الله لا يوجد له معارض من النفس، وإن يقبله العقل فهو لا يرفضه١١ مع استراحة النفس له. وضربنا من قبل مثلا، فقلنا : إن آل فرعون حين استحيوا١٢ نساء بني إسرائيل وذبحوا الذكور، فماذا فعلت أم موسى ؟ لقد أوحى١٣ لها الله ما جاء خبره في القرآن :
﴿ وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم.. ( ٧ ) ﴾ ( القصص )
هات أي أمّ وقل لها : حين تخافين على وليدك فارميه في البحر، طبعا لن تنفذ أي أم هذا الاقتراح.
كان من الممكن أن تحاول أم موسى إخفاء موسى بأي وسيلة.
أما أن تلقيه في البحر مظنة أن تنجيه من الذبح، فهذا أمر غير متخيل، ولكن هذا أمر وارد من الرحمان بالإلهام والوحي، فلا يأتي الشيطان ؛ ليعارض أبدا ؛ ولذلك طمأنها الحق سبحانه، لأن الآيات وردت :﴿ فإذا خفت عليه فألقيه في اليم... ( ٧ ) ﴾ ( القصص ).
وكأن هناك تمهيدا يعلمها الاستعداد للأمر قبل أن يقع، وحين جاء الأمر.
﴿ إذا أوحينا إلى أمك ما يوحى ( ٣٨ ) أن اقذفيه في التابوت١٤ فاقذفيه في اليم... ( ٣٩ ) ﴾ ( طه ).
والكلام هنا كلام عجلة ؛ لأن هذا وقت التنفيذ، وطمأنها سبحانه بأن اصدر أوامره للبحر أن يقذفه إلى الشاطئ :﴿ فليلقه اليم بالساحل١٥... ( ٣٩ ) ﴾ ( طه ).
وأصدر الحق أوامره إلى العدو أن يأخذه ؛ ليربيه :﴿ فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي و وعدو له... ( ٣٩ ) ﴾ ( طه ). إذن : وارد الرحمان لا يأتي له رد أبدا.
وكذلك يستقبل المؤمن ﴿ آلم ﴾ يسر الله فيها، لا بفهم عقله.
وأنا أنصح من يريد أن يقرأ القرآن تعبدا ألا يشغل نفسه بالمعنى، على خلاف من يقول :" اقرأ لتستنبط " ؛ لأن من يريد أن يستنبط هو الذي يقف عند اللفظ، ويطلب معناه. فإذا قرأت القرآن للتعبد، ؛ فلتقراه بسر الله فيه ؛ حتى لا تحدد القرآن بمعلوماتك ؛ فتأخذه أخذا ناقصا بنقصك البشري ؛ لذلك في قراءة التعبد نأخذ اللفظ ؛ فليس كل قارئ للقرآن متخصصا في اللغة ؛ ليعرف أصل كل كلمة، والكثير منا أمي، يريد التعبد بالقرآن، إذن-فليأخذ القرآن بسر الله فيه.
والمثال من حياتنا-ولله المثل الأعلى- نجد الجيش يضع اسمها :" كلمة السر "، وهذه الكلمة قد لا يكون لها معنى، ولكن لا أحد يتحرك أو يخرج أو ينضم إلى المعسكر إلا إذا قالها. ولتكن الكلمة " عدس " على سبيل المثال، ومن يعرفها يعرف أنها منجية من الموت، وساعة يعود مقاتل إلى كتيبته وينطق بكلمة " عدس "، هنا يعرف حارس بوابة المعسكر أنه منهم، أما من لا يعرفها فقد يقتل. ومن يقولها، وإنما ينطقها بسر من لقنه إياها.
وقد يفهم العربي القديم عن الحروف التوقيفية في أوائل بعض السور أشياء، وللغة فيها نظائر ؛ لأنه مثلا حين يقرأ الشعر، ويلتفت على شاعر١٦ يقول :
ألا هبي بصحنك فاصبحينا
ويقول :
ألا لا يجهلن أحد علينا **** فنجهل فوق جهل الجاهلينا١٧
ما معنى ألا هنا، ولماذا جاءت ؟ فالمعنى واضح بدونها، لكن العربي القديم قد نطق هذا البيت، وعرف أن الكلام وسيلة إفهام وفهم بين المتكلم والسامع. والمتكلم هو مالك الزمام في أن يتكلم، أو لا يتكلم، والسامع مفاجأ بالكلام، فإذا ما ألقيت الكلام إلى السامع ؛ قد يكون ذهنه مشغولا، وإلى أن ينتبه لكلماتك، قد تفوته جزئية من جزئيات الكلام ؛ فتنبه أنت إلى ما قلت ؛ فيتنبه ليستوعب كل ما قلت١٨.
إذن : فما المانع أن يكون الحق سبحانه وتعالى يريد أن يهيئ الأذهان ب ﴿ آلم ﴾، حتى نسمع ؛ ثم تأتي الآيات الحاملة للمنهج من بعد ذلك ؟
وما المانع في أن نفهم أن النبي الأمي لا يعرف كيف ينطق بأسماء الحروف، فهو إن نطق فإنما يصدر ذلك بعد تعليم الله له ؟
ولماذا لا نفهم منها أيضا أن وسائل الفهم لا تنتهي إلى أن تقوم الساعة ؟ وإلا لو انتهت عند البشر ؛ لكان كلام الله قد حددت صفته بفهم البشر، وسبحانه قد شاء أن نغترف من معاني كلماته الكثير على مدى الأزمان، والقرآن كلام الله، وكلام الله صفته، وصفته لا تتناهى في الكمال، فإن عرفت كل مدلولاتها، تكون قد حددت الكمال بعلم، لكن القرآن لا نهاية له١٩.
ولماذا لا نفهم أن القرآن الذي بين الحق سبحانه وتعالى أنه معجزة محمد صلى الله عليه وسلم هو من جنس ما نبغ فيه قومه
١ جمع بعض العلماء هذه الحروف المقطعة التي في أوائل السور وحذف المكرر منها، فكان مجموعها أربعة عشر حرفا، وكونوا منها جملة جاءت هكذا: نص قاطع حكيم له سر.
وقد اختلف العلماء في معنى هذه الحروف على أقوال:
١- أنها مما استأثر الله بعلمه.
٢- أنها دلالة على أسماء السور.
٣- أنها دلالة على أسماء الله تعالى وصفاته، فالألف مفتاح الله، واللام مفتاح اسمه (اللطيف)، والميم مفتاح اسمه (المجيد)..

٢ هذه الحروف لها صفات بحسب طريقة النطق بها، فمنها صفات لها أضداد مثل: (الجهرـ الهمس) – (الشدة والرخوة) –(الاستعلاء) –(الانفتاح، الإطباق) –(الإصمات، الإذلاق). وكمثال لهذا أن الهمس هو ضعف الصوت عند النطق بالحروف فيكون فيه خاء، وهي: الفاء، الحاء، التاء، الهاء، الشين، الصاد، السين، الكاف التاء وبجمعها قولهم:"فحثه شخص سكت" وما عدا هذه الحروف فهي "حروف جهرية" أي: فيها قوة في النطق بها. وانظر تفاصيل هذا في الكتاب ﴿هداية القاري إلى تجويد الباري) للشيخ عبد الفتاح السيد المر صفي (ص٧٩-٩٣) غفر الله له ورحمه..
٣ توقيفي أي: أن الله أوقف محمدا صلى الله عليه وسلم على شيء في القرآن من فواتح السور والفواصل بين الآيات وترتيب السور في المصحف، ولم يترك هذا الاجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم ولا لاجتهاد الصحابة، بل كان بلاغا من الله إليه على لسان جبريل..
٤ وردت كلمة (باسم) في القرآن ٤ مرات في قوله تعالى:{اقرأ باسم ربك الذي خلق (١)﴾ (العلق)، و﴿فسبح باسم ربك العظيم﴾ في ثلاث مواضع (الواقعة: ٧٤/٩٦) و(الحاقة: ٥٢).
ووردت كلمة (بسم) بدون الألف ثلاث مرات في القرآن (الفاتحة)، وقوله:﴿وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها...(٤١)﴾ (هود) و﴿إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمان الرحيم (٣٠)﴾ (النمل)
بالإضافة إلى جميع مواضع البسملة في بدايات سور القرآن إذا اعتبرنا البسملة آية في أولها..

٥ كلمة "تبارك" وردت في القرآن٩ مرات، منها موضعان بدون ألف في قوله تعالى:﴿تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام (٧٨)﴾ (الرحمان)، وقوله:﴿تبارك الذي بيده الملك...(١)﴾ (الملك) أما المواضع السبعة الأخرى فهي:﴿تبارك الله رب العالمين(٥٤)﴾ (الأعراف)، ﴿فتبارك الله أحسن الخالقين (١٤) (المؤمنون)، (الفرقان (١) (١٠) (٦١)، غافر(٦٤)، (الزخرف (٨٥)﴾..
٦ وردت كلمة البنات في القرآن ١٢ مرة، منها ثلاثة مواضع بدون الألف وهي:﴿وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وينات بغير علم...(١٠٠)﴾ (الأنعام) وقوله:﴿ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون (٥٧)﴾ (النحل)، وقوله:﴿أو له البنات ولكم البنون (٣٩)﴾ (الطور).
٧ هذا علم هام من علوم القرآن، وهو علم مرسوم الخط، تحدث فيه العلماء وبينوا دقائقه، وهم على عدم ترك ما استقر عليه الأولون الأقدمون في قواعد الرسم القرآني، وأن لهذا الرسم حكما خفية تكلم فيها علماء. انظر: البرهان في علوم القرآن للزركشي (١/٣٧٦-٤٣١) والإتقان في علوم القرآن للسيوطي (٤/١٤٥-١٦٦).
٨ عضين: أي: أجزاء متفرقة، ومنه قوله تعالى:﴿الذين جعلوا القرآن عضين (٩١)﴾ (الحجر). ذكر المفسرون في الآية أقوالا أخرى منها، أن أهل الكتاب جزءوه أجزاء فآمنوا ببعض وكفروا ببعض..
٩ أي: أنك تجد نهايات الآيات متحركة وليست ساكنة، وكذلك نهايات السور، وإلا فهناك وقف لازم في داخل بعض الآيات مثل قوله تعالى:﴿إنما يستجيب الذين يسمعون والموت يبعثهم الله ثم إليه يرجعون (٣٦﴾ (الأنعام).
١٠ الإظهار والإقلاب: حكمان من أحكام تجويد القرآن عند النطق بالنون الساكنة أو التنوين.
- أما الإظهار: فه إذا وقع بعد النون الساكنة أو التنوين حرف من الحروف الحلقية أي: التي مخرجها من الحلق وهي: الهمزة، الهاء، الحاء، الغين، الخاء. عندها يجب الإظهار، أي: الإظهار النون الساكنة والتنوين عند ملاقاتهما بحرف من هذه الحروف.
- أما الإقلاب: فهو أن تأتي باء بعد النون الساكنة أو التنوين، فتقلب النون والتنوين ميما مع إظهار الغنة، ومثال هذا:﴿أنبئوني...(٣١)﴾ (البقرة) ﴿والله عليه بذات الصدور (٤)﴾ (التغابن).

١١ عن علي بن أبي طاب قال:" لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح علn ظاهر خفيه" أخرجه أبو داود في سننه (١٢٣) والدار قطني في سننه (١/١٩٩).
١٢ استحياء النساء: أي الإبقاء عليهم أحياء، ومنه قوله تعالى:﴿إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين(٤)﴾ (القصص). وكان هذا على سبيل الإهانة لبني إسرائيل والاحتقار والخوف من أن يوجد منهم الغلام الذي كان قد تخوف أن يظهر بينهم ويكون سببا لهلاكه وذهاب دولته..
١٣ مادة الوحي وردت في القرآن في ٧٥ آية من كتاب الله- راجع المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم: ص ٧٤٦، ٧٤٧
والوحي في اللغة: الإشارة والكتابة المكتوبة والرسالة والإلهام والكلام الخفي، وكل ما ألقيته إلى غيرك والصوت يكون في الناس، وأوحى إليه، بعثه وألهمه، ومنه الإعلام في خفاء، والبعث والأمر والإيحاء والإشارة والتصويت شيئا بعد شيء ويرد الوحي لغير إعلام الله لأنبيائه مثل قوله تعالى:﴿وأوحى ربك إلى النحل...(٦٨) (النحل) والوحي هنا بمعنى: الإلهام، أما الذي بمعنى الإعلام فهو الوحي الخاص بالأنبياء والرسل..
١٤ التابوت: الصندوق..
١٥ اليم: يطلق على ما كان ماؤه ملحا، أو النهر الكبير العذب الماء، والمراد به هنا نهر النيل بمصر وساحل اليم: شاطئه..
١٦ هو: عمرو بن كلثوم أبو الأسود، شاعر جاهلي، من الطبقة الأولى، ولد في شمال جزيرة العرب، ساد قومه تغلب وهو فتى، وعمر طويلا، وتوفي نحو عام ٤٠ قبل الهجرة. من أشهر شعره معلقته (الأعلام للزركلي ٥/٨٤).
١٧ هذه الأبيات من معلقة عمرو بن كلثوم، وعدد أبياتها (١٠٣) وهي من بحر الوافر..
١٨ ف "ألا" هنا حرف استفتاح يفيد التنبيه، ويدل على تحقق ما بعده. ولها أربعة معان أخرى هي: التمني والاستفهام عن النفي والحث والتحضيض والتوبيخ والإنكار..
١٩ يقول تعالى:{قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا (١٠٩)﴾ (الكهف) ويقول:﴿ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله...(٢٧)﴾ (لقمان).

ثم يقول الحق بعد ذلك :
﴿ أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم قال الكافرون إن هذا لساحر مبين ( ٢ ) ﴾.
ما هو العجيب١-إذن- في أن الله أوحى إلى رجل منكم أن يبلغكم إنذار الله وبشارته ؟ ما الذي تعجبتم منه ؟ وما موضع العجب فيه ؟ وجاء تحديد العجب فيه ما ذكرته الحيثية في آخر السورة السابقة من أن :﴿ رسول من أنفسكم... ( ١٢٨ ) ﴾ ( التوبة ) : أي : من البشر، ومن العرب، ومن قبائلكم، ومن أنفسكم ممن تعرفون كل خلقه، فما العجيب في أن يرسله الله رسولا إليكم ؟ قد ائتمنتموه على أموركم من قبل أن ينزل الوحي من الله، فكأنكم احترمتم طبعه الكريم، وأنكم في كثير من الأشياء قبلتم منه أن يصل إليه من أحكام.
ودليل هذا أنكم حين اختلفتم في بناء الكعبة، وقالت كل قبيلة : نحن أولى بأن نضع بأيدينا أقدس شيء في الكعبة، وهو الحجر، حين ذلك اختلفت القبائل ؛ فما كان إلا أن حكّموا أول داخل، فشاء الله أن يكون أول داخل ؛ هو محمد بن عبد الله، فكيف يحل محمد بن عبد الله هذه المشكلة٢، ولم يكن قد نزل عليه وحي بعد ؟ إنها الفطرة التي جعلته أهلا لاستقبال وحي الله فيما بعد، فماذا صنع ؛ لينهي الخلاف ؟
جاء برداء، ووضع الحجر على الرداء، ثم قال لكل قبيلة : أمسكوا بطرف من الرداء، واحملوا الحجر إلى مكانه. وتلك هي الفطرة السليمة ورأينا أيضا سيدنا أبا بكر عندما قالوا له وهو راجع من الرحلة التي كان يقوم بها : لقد ادعى صاحبك النبوة، قال :" إن كان قد قالها بصدق ".
من أي أحداث جاء حكم أبي بكر ؟ أهو سمع من رسول الله كلاما معجزا ؟ أسمع منه قرآنا ؟ لا، بل صدقه بمجرد أن أعلن أنه رسول. فقد جربه في كل شيء ووجده صادقا. وجربه في كل شيء ووجده أنه أمين، فما كان محمد ليصدق فيما بين البشر، ليكذب على الله.
وكذلك خديجة بنت خويلد حينما قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : يأتيني كذا وأخاف أن يكون كذا، فبينت له أن المقدمات التي في حياته لا توحي بأن الله يخذله ويفضحه ويسلط عليه الجن :" إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل وتنصف المظلوم، ولن يخزيك الله أبدا " ٣ وبذلك كانت السيدة خديجة أول فقيه مستنبط٤ في الإسلام.
وقوله سبحانه :﴿ أكان للناس عجبا ﴾ يعني : التعجب من أن يصدر منهم العجب، والقرآن تعجب كيف يصدر منهم هذا العجب ؟ وما دام يتعجب كيف يصدر منهم هذا العجب ؟ فمن المنطقي ألا يكونوا قد تعجبوا ؛ لأنك فوق مستوى ما تعرف من البشر، مثلما ترى صنعة جميلة وتقول : ما أحسن هذه الصنعة، وتتساءل : ما الذي جعل هذه الصنعة جميلة إلى هذا الحد غير المتصور ؟
وأنت تقول ذلك، لأن الصنعة قد بلغت من الجمال مبلغا لا تصدق به أن أحدا من الموجودين في إمكانه أن يصنعها. والمثال على ذلك : نجد من يقول : ما أحسن السماء ؛ وهو يتعجب من الشيء الذي يفوق تصوره. وقد يتعجب من شيء قبيح، ما كان يجب أن يرد على الخاطر، ولذلك يقول القرآن :﴿ كيف تكفرون بالله... ( ٢٨ ) ﴾ ( البقرة ).
أي : قولوا لنا : كيف قبلتم لأنفسكم الكفر ؟ لأن الكفر مسألة عجيبة تتنافى مع الفطرة.
وهنا يقول الحق :﴿ أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم... ( ٢ ) ﴾ ( يونس ).
وهنا نتساءل : كيف تتعجبون وقد جئناكم برسول من أنفسكم، ﴿ عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم ( ١٢٨ ) ﴾ ( التوبة ).
أليس هذا هو المطلوب في الرائد، فكيف تعجبون ؟ ٥.
إن عجبكم يدل على أن بصيرتكم غير قادرة على الحكم على الأشياء، وما كان يصح أن يستقبل الرسول بالعجب، ونحن نتعجب من عجبكم هذا.
وحين تتعجب من العجب ؛ فأنت تبطل التعجب.
﴿ أكان للناس عجبا أن أوحينا... ( ٢ ) ﴾ ( يونس ) : أي : أن إيحاءنا لرجل منكم كان عجيبا عندكم، وما كان يصح أن يكون أمرا عجيبا ؛ لأنه أمر منطقي وطبيعي.
ثم ما هو الوحي ؟ لقد سبق أن أوضحنا أو الوحي هو الإعلام بخفاء. وهناك إعلام واضح مثل قولك لابنك : يا بني اسمع كذا، وافعل كذا.
هذا إعلام واضح. وهناك إعلام بخفاء، كأن يدخل عندك ضيف، ثم يسه خادمك –مثلا- عن تحيته، فتشير للخادم إشارة ؛ تعني بها أن يسرع بتقديم التحية للضيف ؛ من مرطبات، أو حلوى، وهكذا تكون قد أعلمت خادمك بخفاء.
والحق سبحانه وتعالى يوحي إلى الجماد، سبحانه يقول :﴿ إذا زلزلت الأرض زلزالها ( ١ ) وأخرجت الأرض أثقالها( ٢ ) وقال الإنسان مالها ( ٣ ) يومئذ تحدث أخبارها ( ٤ ) بأن ربك أوحى لها ( ٥ ) ﴾ ( الزلزلة ) : أي : أنه سبحانه وتعالى قد أعلمها إعلاما خفيا ؛ وهي قد فهمت بطريقة لا نعرفها.
وسبحانه يوحي للحيوانات، فهو القائل :﴿ وأوحى ربك إلى النحل٦.... ( ٦٨ ) ﴾ ( النحل ). وأنت لا يمكنك أن تقول : أنا سمعت الله وهو يوحي للنحل، لأن الوحي إعلام بخفاء، وهو سبحانه أعلم بالطريقة التي تم بها هذا الوحي، والنحل قد فهم عنه سبحانه، ولا شأن لك بذلك، فلا تسأل عن كيفية هذا الوحي :﴿ وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون ( ٦٨ ) ﴾ ( النحل ).
أي : أنها فهمت عن الله بما أودع فيها من الغرائز.
وسبحانه يوحي للملائكة وهو القائل :﴿ إذا يوحي ربك إلى الملائكة... ( ١٢ ) ﴾ ( الأنفال ).
ويوحي سبحانه إلى غير الرسل ؛ كما أوحى إلى أم موسى. ﴿ وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم... ( ٧ ) ﴾.
وأوحى سبحانه إلى الرسل جميعا.
إذن : فسبحانه يوحي للجماد، ويوحي للحيوان، ويوحي للملائكة ويوحي للصالحين من غير الأنبياء، يوحي الأنبياء والرسل.
والوحي- كإعلام بخفاء- يقتضي معلما، وهو الحق سبحانه تعالى، ومعلما، وهو إما : الأرض، وإما النحل، وإما الملائكة، وإما إلى بعض الصالحين من غير الأنبياء، وإما الرسل والأنبياء.
وقد يأتي الوحي من غير الله، فسبحانه يقول :﴿ وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف٧ القول غرورا٨... ( ١١٢ ) ﴾ ( الأنعام ) : إذن : فالشياطين يعلمون بعضهم البعض، إعلاما خفيا.
ويقول الحق :﴿ إنا أوحينا إليك... ( ١٦٣ ) ﴾ ( النساء ) : والموحي إليه هو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو وحي خاص بالرسول، فلا تقل : أنا لم أسمع ماذا أوحي إلى محمد، ولا أعرف كيف نزل الوحي٩، فقد جاء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبلغه أن يعلن ما أوحى إليه، ولو كنت أنت قادرا على سماع الوحي من جبريل، فما ضرورة إرسال الرسول إذن ؟
إن الطاقة والقدرة العالية المرسلة إلى الموحي إليه تحتاج إلى قوة تحمل، وضربنا المثل من قلب بأن الإنسان حين ينقل طاقة من مصدر عال قوي إلى مصدر ضعيف فهو لا يسرب الطاقة من القوي إلى الضعيف دفعة واحدة، وإلا تحمل الضعيف تلك الطاقة القادمة إليه من القوي، لذلك نحن نأتي بمحوّل يتحمل طاقة القوي، ثم ينقل للضعيف ما يناسب قدرته، ومثال ذلك هو شراؤنا لمحول كهربائي حين ننقل الكهرباء من مصدر طاقة عالي الجهد إلى مصدر آخر ضعيف قليل الجهد ؛ مثل المصباح الصغير الذي تضيئه في المنزل ليلا لينير بالقدر المناسب كيلا نرتطم بالأشياء، وهو ما نسميه بالعامية " و نّاسة ". إذن : فمهمة المحول يستقبل من مصدر الطاقة القوي ؛ ليضيء لمصدر الطاقة الضعيف.
فإذا كان الله سبحانه وتعالى الذي يوحي للرسول، والرسول من البشر لا يمكنه التلقي المباشر عن الله ؛ لذلك لا بد من واسطة تبلغ في الارتقاء بما يسمح لها بالتلقي عن الله، وتستطيع أن تلتقي بالبشر ؛ وهذه خاصية الملك.
ورغم هذا أصاب الجهد والتعب سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول تلقيه للوحي، وكان صلى الله عليه وسلم يعرق حتى يتفصد١٠ العرق من جبينه، وإذا انصرف عنه الوحي قال :" زملوني زملوني " ١١ ويرتعد.
وكان الصحابة يقولون : كان إذا نزل الوحي على رسول الله، وهو قاعد ؛ وقد تكون ركبته على فخذ أحد الصحابة، فيجد الصحابي ثقلا على رجله من شدة وطأة ركبة الرسول صلى الله عليه وسلم، وإذا نزل الوحي، والرسول يركب مطية فهي تئط منه١٢.
إذن : كان الوحي يتعب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد أن يسرى عنه التعب١٣ ؛ تبقى له حلاوة ما أوحي إليه ؛ فيتشوق ثانية للوحي.
وقد شاء الحق أن يشوق النبي صلى الله عليه وسلم للوحي ففتر١٤ الوحي لمدة من الزمن. وحين اشتاق النبي للوحي ؛ كان ذلك يعني أنه قد شحن نفسه بطاقة متقبلة لاستقبال هذا الوحي ؛ بما فيه من تعب.
لله المثل الأعلى دائما، قس أنت الجهد المبذول في رحلة إلى من تحب، أثناء المطر، والأرض موحلة١٥ ومليئة بالشوك، ورغم ذلك أنت تقطع الرحلة دون أن تلتفت لما فيها من إرهاق وتعب.
وشاء سبحانه أن يرغّب رسوله شوقا إلى الوحي، و رغم ما فيه من جهد، لأنه التقاء ملك ببشر، وهذا اللقاء يكون على صورتين : إما أن ينقلب الملك إلى مرتبة بشرية ؛ وهذه الصورة ليس فيها إجهاد على رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأن عملية التحويل جاءت في الأعلى بينما يظل رسول الله صلى الله عليه وسلم كما هو، مثلا دخل جبريل على رسول الله، وكان معه بعض من الصحابة، وسأل النبي صلى الله عليه وسلم : ما الإيمان ؟ وما الإسلام ؟ وما الإحسان ؟ ثم اختفى السائل، فسأل الصحابة رسول الله عن هذا السائل، فقال :" هذا جبريل جاءكم يعلمكم أمور دينكم " ١٦.
هذه هي الصورة الأولى في الوحي، والتحول فيها كان من جهة الإرسال فلا مشقة فيها على النبي صلى الله عليه وسلم.
أما الصورة الثانية، فقد كان فيها مشقة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأن الملك يظل على طبيعته، التحول إنما يحدث لمحمد صلى الله عليه وسلم، وكان التحول يقتضي عملية كيماوية تصيبه بالجهد ؛ فيقول بعد أن يسرى عنه :" زمّلوني ".
وشاء الحق أن يتلطف برسوله، ففتر الوحي فترة من الزمن. وقال الكافرون من العرب : إن رب محمد قد قلاه١٧ وهذا غباء منهم ؛ لأنهم اعترفوا أن محمدا ربّا. وما داموا قد اعترفوا، فعدم إيمانهم صلف١٨ وغباء، وأرادوا بذلك أن ينسبوا النقص لمحمد صلى الله عليه وسلم، فقالوا : إن الله قد قلى١٩ محمدا.
وقد شاء الحق أن ينقطع الوحي عن محمد صلى الله عليه وسلم هذه المدة ؛ ليكشفهم أمام أنفسهم وأمام غيرهم، لتنكشف نواياهم، وتثبت قلة بصيرتهم، وافتقادهم للمنطق السليم، فهم حين اعترفوا أن محمدا ربّا، كان عليهم أن يحتكموا إلى عقولهم ؛ ليعرفوا أنهم قد أقروا بالألوهية، لكنهم أرادوا بهذا الاعتراف أن ينسبوا النقص لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولو قاضيناهم إلى عقولهم، وإلى الكون الذي عاشوا فيه، وإلى الظواهر المادية المحسوسة لهم، لعرفوا أن الأحداث لا بد لها من زمان ومكان ؛ لأن حديث يتطلب زمانا ومكانا، وإذا لم يوجد حدث، لا يوجد زمان أو مكان.
ولذلك أقول دائما لمن يسأل : أين كان الله ؟ أقول له : أنت جئت بالأينية من الزمان، والمكانية من المكان، وهذا لا يتأتى إلا بوجود حدث. وما دام الله غير حدث، فلا زمان يحدده، ولا مكان يحيّزه ؛ لأن الزمان كان، والمكان كان به. والأحداث هي عند البشر، فهم من يستقرون في المكان ويتوالى عليهم الزمان.
والزمان الذي يحدث فيه أي حدث اسمه " ظرف زمان " ٢٠، و
١ الشيء العجيب: غير المألوف للناس، والآدمي إنما يتعجب من الشيء إذا عظم موقعه عنده، وخفي عليه سببه. وقد تعجب المشركون من قضايا لم تستطع عقولهم استيعابها، فاحتاج الأمر من القرآن أن ينفي العجب عن هذه القضية، وأن يدلل على عكس ما في أذهان هؤلاء المشركين، أما القضايا فمنها:
قضية توحيد الله سبحانه، فقالوا:﴿أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب (٥)﴾ (ص)
٢قضية إرسال رجل منهم أي: من البشر، فقالوا:﴿وعجبوا أن جاءهم منذر منهم...(٤)﴾ (ص)
قضية البعث، فقالوا:﴿وإن تعجب قولهم أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد...(٥)﴾ (الرعد).

٢ كان محمد صلى الله عليه وسلم يبلغ من العمر حينذاك ٣٥ سنة، أي: قبل بعثته ب٥سنوات، وكانت القبائل من قريش قد اختلفت فيمن يضع الحجر الأسود في مكانه، وأعدوا للقتال، وتعاقد بنو عبد الدار وبنو عدي على الموت، ووضعوا أيديهم في جفنة مملوءة دما. وبقي الأمر على هذا أربع ليال أو خمسا.
ويروي ابن إسحاق في السيرة (١/١٩٧) ارتضاء قريش حكومة محمد في هذا الأمر أن "أبا أمية بن المغيرة قال: يا معشر قريش، اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد يقضي بينكم فيه ففعلوا فكان أول داخل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأوه قالوا: هذا الأمين، رضينا، هذا محمد، فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر، قال صلى الله عليه وسلم: هلم إلي ثوبا، فأتى به فأخذ الركن (أي: الحجر الأسود) فوضعه فيه بيده. ثم قال: لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب، ثم ارفعوه جميعا، ففعلوا، حتى إذا بلغوا به موضعه وضعه هو بيده، ثم بنى عليه"..

٣ حديث بدء الوحي عن عائشة رضي الله عنها أخرجه البخاري في صحيحه (٣، ٦ ومواضع أخرى(ومسلم في صحيحه (١٦٠)
-كانت السيدة خديجة بهذه المقولة قد لخصت رسالة الرسول في كلمات: تعيش مشاكل الناس ناصرا لمظلوم مساعدا للمحروم فتحمل الكل.
وصلة الرحم ارتقاء بالأرحام والأقرباء وهو دفء الإنسانية، يعيش فيه المجتمع بوجدان الجماعة وحنان الإخاء وإنصاف المظلوم هو اعتدال الموازين العدل، والقول هو الإسلام، وبهذا صدق قول الشيخ فإنها قضية تستنبط رسالة الإسلام من حالة الرسول قبل تمام الوحي..

٤ الاستنباط في الفقه: هو استخراج الفقيه للأحكام الشرعية من بطون الأدلة باجتهاده وفهمه. ومنه قوله تعالى:﴿لعلمه الذين يستنبطونه منهم...(٨٣)﴾ (النساء). والاستنباط في اللغة: استخراج الماء من قعر البئر إذا حفرت..
٥ روى ابن عباس في سبب نزول هذه الآية أنه: لما بعث الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم رسولا أنكرت الكفار، وقالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا مثل محمد، فأنزل الله تعالى هذه الآية. ومما قاله المشركون: ما وجد الله من يرسله إلا يتيم أبي طالب؟ انظر: أسباب النزول للو احدي (ص١٥٢) وتفسير القرطبي (٤/٣٢٣٢) وابن كثير في تفسيره (٢/٤٠٦).
٦ قال الزجاج: جائز أن يكون سمي نحلا، لأن الله عز وجل نحل الناس العسل الذي يخرج من بطونها..
٧ زخرف: الزينة، والمراد هنا: التمويه والتزوير وزخرف القول غرورا: أي: حسن القول بتزيين الكذب..
٨ الغرور: ما غرك من إنسان وشيطان وغيرهما، والغرور: الشيطان:"ولا يغرنكم بالله الغرور (٣٣)} (لقمان). والغرور: الأباطيل، ويجوز أن يكون الغرور جمع غار، مثل شاهد وشهود. والغرور: الدنيا ومتاعها، والغرور: الإغراء بالوعد الكاذب والتمنية﴿يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم (٦)﴾ (الانفطار) و﴿فلا تغرنكم الحياة الدنيا....(٣٣)﴾ (لقمان). والغرور: الخداع وتزيين الشر والمعاصي. وغرر بنفسه وماله تغريرا وتغرة: عرضهما للهلكة من غير أن يعرف. والغرر: الخطر، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر، وهو مثل بيع السمك في الماء والطير في الهواء. والتغرير: حمل النفس على الغرر..
٩ عن عائشة رضي الله عنها أن الحارث بن هشام سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أحيانا يأتيني من صلصلة الجرس وهو أشده فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول" أخرجه البخاري في صحيحه (٢) ومسلم (٢٣٣٣)..
١٠ تفصد العرق: أيك سال العرق من جبينه. وقد قالت عائشة رضي الله عنها: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا. أخرجه البخاري في صحيحه (٢) ومسلم (٢٣٣٣) من حديث عائشة واللفظ للبخاري..
١١ المراد بالتزميل هنا: طلب الحماية وإذهاب الخوف والروع والرعدة التي ألمت بجسمه مما رآه، عن طريق لف جسمه بالثياب وتغطيته. وزمل الشيء: أخفاه، وزمله في ثوبه: أي: لفه. والتزمل: التلفف بالثوب وقد تزمل بثيابه أي: تدثر. وفي حديث قتلى أحد: "وملوهم في ثيابهم" أي: لفوهم فيها. أخرجه أحمد في مسنده (٥/٤٣١) من حديث عبد الله بن ثعلبة..
١٢ تئط الناقة منه: تئن من ثقل الركبان. عن أسماء بنت يزيد قالت إني لآخذة بزمام العضباء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ نزلت عليه المائدة كلها وكادت من ثقلها تدق عنق الناقة. أخرجه أحمد في مسنده (٦/٤٥٥)..
١٣ يسرى عنه التعب: أي: يذهب عنه..
١٤ فتر الوحي: انقطع. والفترة: ما بين طل نبيين، وفي الصحاح: ما بين كل رسولين من رسل الله-عز وجل- من الزمان الذي انقطعت فيه الرسالة. ومنه قوله تعالى:﴿يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل...(١٩)﴾ (المائدة).
١٥ أرض موحلة: أي: أصابها الوحل، وهو الطين الرقيق الذي ينتج من أثر مطر أو ماء يصيب الأرض..
١٦ عن عمر بن الخطاب قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبته إلى ركبته، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام، فقال صلى الله عليه وسلم:"الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا. قال: صدقت: قال: فعجبنا له يسأله ويصدقه قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره و شره. قال: صدقت. قال: فاخبرني عن الإحسان. قال: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك...." الحديث أخرجه البخاري في صحيحه (٥٠) ومسلم في صحيحه (٨). والشاهد من الحديث أن جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم في صورة بشرية، فلم تكن شاقة عليه صلى الله عليه وسلم..
١٧ عن جندب البجلي قال: أبطأ جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال المشركون: قد ودع محمد. فأنزل الله عز وجل:﴿والضحى(١) والليل إذا سجى (٢) ما ودعك ربك وما قلا (٣)﴾ (الضحى) أخرجه مسلم في صحيحه (١٧٩٧) والترمذي في سننه (٣٣٤٥) وقال: حديث حسن صحيح. وقد أورد ابن كثير في تفسيره (٤/٥٢٢) من الطريق الذي أخرج مسلم من الترمذي حديثه إلى جندب، بلفظ:" فقال المشركون: ودع محمدا ربه"..
١٨ الصلف: مجاوزة الحد في الإدعاء والتكبر..
١٩ قليته: كرهته غاية الكراهة، فتركته، والقلي: البغض..
٢٠ الظرف: هو الزمن أو المكان الذي وقع فيه الحدث، ويسميه النحاة "المفعول فيه" أي: أن الجدث أو الفعل قد وقع (أو يقع –أو سيقع) في زمن ما، ومكان ما..
﴿ إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون( ٣ ) ﴾ :
ومن بعد ذلك يرد الحق عن حكاية العجب من أن الله أوحى لرسوله، وكذلك مسألة اتهام الرسول بالسحر، فيلفتهم إلى قضية فوق هذه القضية، وأنهم كان عليهم أن يروا العجب في غير مسألة الوحي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم.
أي : كان عليكم أن تروا هذه المسألة العجيبة، وهي خلق السماوات والأرض وتتأملوا صنعها١، وكيف حدثت ؟
وإذا كان الله هو الذي خلق السماوات والأرض، وجعلك أيها الإنسان تطرأ على عالم، وعلى معّد لك إعداد إلى رفيقا، فكان يجب أن تلتفت إلى هذه المسألة قبل أي شيء آخر.
وضربنا من قبل المثل، وقلنا : هب أن إنسانا ركب طائرة، ثم نفذ وقودها وسقطت في الصحراء، وكتبت له النجاة وتلفّت حوله فلم يجد ماء أ طعاما أو أي دليل من أدلة الحياة، ثم غلبه النوم، فلما استيقظ من نومه، وجد مائدة عليها من أطايب الطعام، وأطايب الشراب، أما كان يسأل نفسه قبل أن يأكل ويشرب : من الذي صنع وأحضر كل هذا الطعام، وكل هذا الشراب ؟
وهذا الكون قد أعدّ لك أيها الإنسان، أما كان يصح أن تفكر فيمن أعدّ لك هذا الكون، وخلق لك كل ما لبس في متناولك وقدرتك، وسخّر كل ذلك لك ؟ وقد أبلغك الحق : أما خلقت السماء، وخلقت الأرض، والشمس، والنجوم، وحين وصلك هذا البلاغ، فإما أن يكون صدقا، فلتنفذ ما أمر به الخالق. وإن لم يكن هذا الكلام صدقا، فمن الذي خلق إذن ؟ إن كان هناك إله غير ه قد خلق الكون، وسمع مثل هذا البلاغ، لم يتحرك لبيان صدق المسألة، لما كان هذا الآخر يستحق أن يكون إلها٢.
وما دام لم يظهر معارض له سبحانه، فهو الخالق ؛ لأن الدعوى إذا ما صدرت من واحد، ولم يظهر لها معارض، فصاحبها هو من أصدرها إلى أن يوجد له معارض.
وقد ضربنا مثلا، فقلنا : هب أن جماعة من أصدقائك جاءوا لزيارتك، ثم خرجوا من عندك، ووجدت أنت حافظة نقود، ولم تعرف لمن هي، ثم بعثت خادمك ؛ ليسأل من كانوا في زيارتك، وقال كل واحد منهم : إن حافظة نقوده لم تضع منه، إلا واحدا قال : نعم، هي حافظة نقودي. وهكذا تثبت ملكية هذا القائل لحافظة النقود، إلى أن يثبت العكس.
والحال هنا هكذا، فحين أبلغنا الحق سبحانه أنه خلق السماء والأرض والشمس والقمر والنجوم وجعل في الأرض رزق البشر، ولم يعارضه أحد، إذن : يحب أن نصدق أنه الخالق.
وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد خلق لكم كل هذا الكون مسخّرا٣ أفلا تتركون له حرية أن يختار رسولا إليكم ؟ فما وجه الاعتراض إذن ؟
يكشف الحق منطقهم حين قالوا :﴿ لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم( ٣١ ) ﴾ ( الزخرف ) : إذن : هم قد اعترفوا أن القرآن لا غبار عليه، لكنهم ساخطون ويعيشون في ضيق ؛ لأن هذا القرآن قد جاء على يد يتيم أبي طالب٤.
ويكشفهم الحق أيضا فيأتي بما جاء على ألسنتهم :﴿ اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء... ( ٣٢ ) ﴾ ( الأنفال ) : ولم يقولوا : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا.
فالعداوة هي لرسول الله، وهي عداوة منطقية ؛ لأن كل واحد منكم كان إذا ملك شيئا نفيسا عزيزا عليه، فهو لا يجد أمينا عليه إلا محمدا.
إذن : فلماذا لا تغشون أنفسكم في مسألة استئمان محمد على الأشياء النفيسة، ولو كنتم غير مؤمنين بصدقه. فلماذا استأمنتموه على نفائسكم ؟ أليس هو محمد بن عبد الله الذي هاجر وترك علي بن أبلي طالب ؛ ليرد الأمانات لأصحابها ؟
إذن : فلا محمد دون مستوى الرسالة والأمانة، ولا القرآن دون المستوى، بشهادتكم أنتم ؛ فشهادتي القول والفعل.
وهنا يقول الحق :﴿ إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام... ( ٣ ) ﴾ ( يونس )، وفي موقع آخر بالقرآن يقول سبحانه :﴿ لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون( ٥٧ ) ﴾ ( غافر ).
وما دام هذا الخلق العجيب قد صدر منه، فالتصرفات التي دون ذلك لا بد أن تكون مقبولة منه سبحانه وتعالى، وأن تكون لحكمة ما. وتعالوا نتحاكم إلى أنفسكم، وأنتم تقولون :﴿ لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين٥ عظيم ( ٣١ ) ﴾ ( الزخرف ).
إذن : لا شك عندكم في أن القرآن لا طعن فيه، بل تطعنون في مسألة أنه جاء على يد محمد صلى الله عليه وسلم، وتمنيتم لو أن القرآن قد جاء على يد واحد آخر تقبلونه. وأنتم في هذه المسألة غير منطقيين ؛ لأنكم تريدون أن تتدخلوا في قسمة الله ورحمته في أن ينزل الوحي على ما تشاءون، لا من يشاء هو سبحانه.
وأنتم بذلك تريدون أن تتحكموا في الرحمة العليا من الله في أن يختار رسولا ؛ ليبلغكم عنه. وتتناسون أنكم في هذه الدنيا لا تقسمون الأرزاق ؛ لذلك يقول الحق :﴿ أهم يقسمون رحمة ربك... ( ٣٢ ) ﴾ ( الزخرف ).
فإذا كنتم تريدون أن تقسموا رحمة الله، فاعلموا هذا القول من الله :﴿ نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا... ( ٣٢ ) ﴾ ( الزخرف ).
وهذا الأمر السهل ؛ تقسيم المعيشة في الحياة الدنيا تصرف فيه الحق سبحانه٦، فكيف لكم-إذن- أن تطمعوا في تقسيم الأمر العلوي وهو رحمة الله العليا في أن يرسل رسولا.
والحق سبحانه يقول في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها :﴿ إن ربكم الله ﴾.
وساعة تسمع كلمة ( رب ) ينصرف الذهن إلى الخلق وإلى التربية، ولذلك نحن نستعمل هذه الكلمة ونقول :" فلان رب هذه الأسرة " أي : أنه المتولي تربيتها، وكلمة " الرب " بمعناها المطلق تنصرف إلى الله٧، فهو الخالق الذي من عدم وأمدّ من عدم٨، وهو بهذا الوصف ربّ لكل خلقه : المؤمن والكافر، والطائع والعاصي.
وما دام الله سبحانه ربا لكل الخلق، فهو الرزاق لكل خلقه، فهو الذي استدعى خلقه إلى هذه الدنيا، وهو الذي يعطي كل مخلوق الرزق الذي كتب الله له، وهو سبحانه يأمر نواميس٩ الكون وأسبابه أن تعطي له أو لا تعطي، فإن زرع الأرض وأحسن زراعتها ؛ أعطى سبحانه الأمر للأرض أن تعطي هذا المخلوق الرزق.
وكل مخلوق يأخذ بالأسباب، يوفر له الحق النجاح في الأسباب.
وأقول دائما لمن يرون تقدم الكفار في أمور الدنيا، ويتساءلون : لماذا يتقدم الكفار في أمور الدنيا ونتأخر نحن ؟ أقول لهم : لقد أخذوا من عطاء الربوبية في الأسباب، وأنتم لم تأخذوا من عطاء الربوبية. وعليكم أيها المسلمون أن تأخذوا بالأسباب، وهي عطاء الربوبية ؛ حتى لا يسبقكم الكافر إليها، ولا تجلسوا في موقف المتفرج، بل المفروض فيكم أن تسبقوا الكفار إلى عطاء الربوبية.
أما عطاء الألوهية، هو أن يقرّ الإنسان بأن الله هو المعبود بحق، وهو المطاع في " فعل " و " لا تفعل "، فهذا العطاء لا يناله إلا من آمن به.
إذن : فالله رب الجميع، ولكنه إله من آمن به. إذن : هناك فارق بين عطاء الإله، وهو المنهج المتمثل في " افعل " و " لا تفعل "، وعطاء الربوبية المتمثل في الأمور المادية وهي شركة بين كل الناس : المؤمن والكافر، والطائع والعاصي. وحين يحسن الكافر الأخذ بالأسباب ؛ فهو يأخذ نتائجها.
والحق سبحانه هو القائل :﴿ من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان ير يد حرث الدنيا نؤته منها وما له وفي الآخرة من نصيب ( ٢٠ ) ﴾ ( الشورى ).
إذن : فواجب على المؤمنين أن يستقبلوا عطاء الربوبية بحسن الأخذ بالأسباب ؛ ليأخذ النتيجة، ولا يتقدم أهل الكفر عليهم ؛ لأن الكافر حين يسبقك في الأخذ بالأسباب، ربما استغل في أن يفرض عليك ما يخاف دينك.
وهنا يقول الحق سبحانه :﴿ إن ربكم الله... ( ٣ ) ﴾ ( يونس ) : أي : أن الذي ربّى، هو الذي كلّف، ويجب أن تستمتعوا إلى منهجه.
ثم يقول سبحانه :﴿ الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام... ( ٣ ) ﴾ ( يونس ) : وكلمة ﴿ ستة أيام ﴾ هذه وردت في كل آيات القرآن التي تحدثت عن زمن مدة الخلق للأرض والسماوات، لكن هناك آية جاءت بتفصيل ويظهر من أسلوبها أن الخلق قد استغرق ثمانية أيام، وهي سورة فصلت :﴿ قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين١٠ وتجعلون له أندادا١١ ذلك رب العالمين( ٩ ) وجعل فيها رواسي١٢ من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها١٣ في أربعة أيام سواء للسائلين ( ١٠ ) ﴾ ( فصلت ) : وهذه ستة أيام.
ثم يقول سبحانه :﴿ ثم استو ى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتينا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين( ١١ ) فقضاهن١٤ سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم( ١٢ ) ﴾ ( فصلت ).
وهكذا يكون المجموع ثمانية أيام، وهذا هو الفهم السطحي ؛ لأن آيات الإجمال جاءت كلها بخبر الخلق في ستة أيام. وتعلم أن كل مجمل يفسره مفصلة إلا العدد، فإن مفصّله محمول على مجمله، فالأرض خلقها الله في يومين، وجعل فيها رواسي، وبارك فيها، وكل مخلوق ثان هو تتمة للأول، فاليومان الأولان إنما يدخلان في الأربعة الأيام، وأخذت بقية الخلق اليومين الأخيرين فصار المجموع ستة أيام.
إذن : فالزمن تتمة الزمن. ولذلك تجد أن اليوم على كوكب الزهرة أطول من عامها ؛ لأن عامها بتوقيت الأرض هو مائتان وخمسة وعشرون يوما، أما طول اليوم فيها فهو بتوقيت الأرض مائتان وأربعة وأربعون يوما.
إذن : فاليوم على كوكب الزهرة أطول من العام فيها. والسر في ذلك كوكب الزهرة يخضع لدورة تختلف في سرعتها عن سرعة الدورة التي تخضع لها الأرض، فدورة كوكب الزهرة حول نفسه بطيئة، ودورته حول الشمس سريعة.
إذن : فكل كائن له نظام.
وما هو اليوم إذن ؟ اليوم في اعتبارنا هو دورة الأرض حول نفسها دورة يتحقق فيها الليل والنهار.. ولكننا نجد القرآن الكريم يطلق كلمة اليوم ويفصلها عن الليل، فيقول سبحانه :﴿ سيروا فيها ليالي وأياما... ( ١٨ ) ﴾ ( سبأ ) : وهنا جعل الحق اليوم للضوء والكدح، والليل للظلمة والراحة. والحساب الفلكي يسمى الليل والنهار يوما.
ويبين القرآن أن هناك يوما للدنيا، ويوما للآخرة، ويوم الدنيا هو ما نحسبه نحن من شروق إلى شروق آخر، وكذلك هناك يوم عند الله هو بحساب الدنيا بقدر بألف سنة مما يحسبه البشر :﴿ وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون ( ٤٧ ) ﴾ ( الحج ).
ويقول الحق سبحانه في موضع آخر :﴿ تعرج١٥ الملائكة والروح ١٦ إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة( ٤ ) ﴾ ( المعارج ).
إذن : فالأزمنة متعددة، ومنوعة، وتختلف من قياس إلى آخر، ومن كوكب إلى آخر. وما أظهره الله لنا في القرآن من الأزمنة إنما يدل على اختلافها، لا على التعارض والتناقض١٧.
ثم يقول الحق سبحانه في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها :﴿ ثم استوى على العرش ﴾ ووقف العلماء عند كلمة " استوى " ١٨ طويلا، واستعرضوا القرآن كله ؛ ليحصروها في كتاب الله ؛ فوجدوها قد جاءت في اثني عشرة سورة : البقرة والأعراف ويونس والرعد وطه والفرقان والقصص والسجدة وفصلت والفتح والنجم والحديد.
وأول سورة جاء فيها ذكر استواء الله على العرش هي " الأعراف " يقول الحق :﴿ الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي١٩ الليل النهار يطلبه حثيثا٢٠ والشمس والقمر والنجوم مسخرات٢١ بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالم
١ القرآن الكريم مثبوت بالآيات التي تدعوا إلى التكفر والتأمل في خلق السماوات والأرض وما بينهما، فيقول عز وجل:{أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت (١٧) وإلى السماء كيف رفعت (١٨) وإلى الجبال كيف نصبت (١٩) وإلى الأرض كيف سطحت(٢٠) فذكر إنما أنت مذكر (٢١)﴾ (الغاشية).
٢ وقد أكد رب العزة سبحانه وتعالى على هذا المعنى في كثير من الآيات قائلا سبحانه وتعالى في سورة النمل:﴿أمن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإله من الله بل هم قوم يعدلون (٦٠) أمن جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا أإله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون(٦١) أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلا ما تذكرون (٦٢) أمن يهديكم في ظلمات البر و البحر ومن يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته أإله مع الله تعالى الله عما يشركون(٦٣) أمن يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض أإله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كمتم صادقين (٦٤)﴾ (النمل). قال تعالى:﴿لو كان فيها إلا الله لفسدتا...(٢٢)﴾ (الأنبياء).
٣ مسخرا: أي: مذللا ومقهورا لخدمة الآدميين، ومنه قوله تعالى:﴿الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار (٣٢) وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار (٣٣)﴾ (إبراهيم).
٤ مما قاله المشركون في هذا: ما وجد الله من يرسله إلا يتيم أبي طالب، فنزلت:﴿أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس...(٢﴾ (يونس) نقله القرطبي في تفسيره (٤/٣٢٣٢).
٥ يقصد بالقريتين هنا: مكة والطائف. واختلفت الأقوال في تحديد هذين الرجلين، فقيل: إنهما الوليد ابن المغيرة، وعروة ابن مسعود الثقفي. وقيل: إنهما عمير بن عمروا بن مسعود، وعتبة بن ربيعة. وقيل: ابن عبد يا ليل. والمقصود أنه رجل كبير من أي البلدتين كان. انظر ابن كثير (٤/١٢٧).
٦ عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن الله قسم بينكم أخلاقكم، كما قسم بينكم أرزاقكم، وإن الله عز وجل يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا لمن أحب" أخرجه أحمد في مسنده (١/٣٨٧) والحاكم في مستدركه (١/٣٣) (٢/٤٤٧) (٤/١٦٥) وصححه ووافقه الذهبي، وعزاه الهيثمي في مجمع الزوائد (١٠/٢٢٨) لأحمد وقال: رجاله وثقوا وفي بعضهم خلاف..
٧ الرب في اللغة يطلق على: المالك، والسيد، والمدبر، والمربي، والقيم، والمنعم، والصاحب. ولا يطلق غير مضاف إلا على الله عز وجل، وإذا أطلق على غير أضيف، فبقال: رب كذا، مثل رب الإبل، ورب الغنيمة. وانظر لسان العرب..
٨ العدم، والعدم، والعدم: فقدان الشيء وانعدامه. وهذه المادة لم ترد في القرآن، بل جاء بمعناه مثل قوله تعالى:﴿هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا (١)﴾ (الإنسان).
٩ نواميس الكون: الأسرار التي أودعها الله في الكون، من قوانين تنظم حركة أجزائه ومكوناته. والناموس أيضا: صاحب سر الملك أو الرجل الذي يطلعه على سره وباطن أمره ويخصه بما يستره عن غيره، ومنه الناموس: جبريل، لأن الله تعالى خصه بالوحي والغيب اللذين لا يطلع عليهما غيره..
١٠ "يوما خلق الأرض من جملة الأربعة بعدها، والمعنى في تتمة أربعة أيام، وهي مع يومي خلق السماوات ستة أيام.. يوم الأحد والاثنين ولخلق الأرض، ويوم الثلاثاء والأربعاء للجعل المذكور في الآية وما بعده، ويوم الخميس والجمعة لخلق السماوات" قاله أبو يحيى زكريا الأنصاري في كتابه "نفتح الرحمان بكشف ما يلتبس في القرآن " ص( ٣٧٣) وانظر ابن كثير (٤/٩٣).
١١ الأنداد: جمع ند، وهو الشبيه والنظير والمثيل. والأنداد: الأصنام المعبودة من دون الله..
١٢ الرواسي: الجبال الثابتة الراسخة. وقد تحدث رب العزة عن حكمة خلق هذه الجبال فقال سبحانه:﴿وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم (٣١)﴾ (الأنبياء) أي: لئلا تتحرك بهم وتضطرب، فلا يصلح لهم عيش عليها..
١٣ الأقوات: جمع قوت وهو ما يقوم به بدن الإنسان من الطعام والمقصود به الرزق مطلقا..
١٤ قضى الشيء قضاه: صنعه وقدره. فقضاهن هنا بمعنى: خلقهن وعلمهن وصنعهن وقطعهن وأحكم خلقهن..
١٥ تعرج، أي: تصعد. عرج يعرج عروجا. وفيه ﴿من الله ذي المعارج (٣)﴾ (المعارج) المعارج: المصاعد والدرج؟ قال قتادة: ذي المعارج أي: ذي الفواضل والنعم. وقيل: معارج الملائكة هي مصاعدها التي تصعد وتعرج فيها. وقال الفراء: ذي المعارج من نعت الله، لأن الملائكة تعرج إلى الله، فوصف نفسه بذلك. والقراء كلهم على التاء في قوله:﴿تعرج الملائكة...(٤)﴾ (االمعارج) إلا ما ذكر عن عبد الله، وكذلك قرأ الكسائي..
١٦ للمفسرين في لفظ الروح في الآية هنا عدة أقوال هي:
جبريل، ويكون من باب عطف الخاص على العام (أي: الملائكة المذكورين قبله)
اسم جنس لأرواح بني آدم، فإنها إذا قبضت يصعد بها إلى السماء.
خلق من خلق الله يشبهون الناس وليسوا أناسا..

١٧ فاليوم الذي كألف سنة، أي: كل يوم من الأيام التي خلق الله فيها السماوات والأرض قاله ابن عباس ومجاهد وعكرمة، ونص عليه الإمام أحمد بن حنبل في كتاب "الرد على الجهمية"
-أما اليوم الذي كخمسين ألف سنة ففيه ألربعة أٌوقوال.
١- المراد به مسافة بين العرش العظيم إلى أسفل السافلين، وهو قرار الأرض السابعة.
٢-مدة بقاء الدنيا منذ خلق الله هذا العالم إلى قيام الساعة.
٣- المراد به يوم القيامة. جعله الله على الكافرين مقدار خمسين ألف سنة..

١٨ سئل الإمام مالك بن أنس: استوى كيف استوى؟ فقال: الكيف غير معقول، والاستواء غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وقوله عز وجل:﴿ولما بلغ أشده واستوى...(١٤)﴾ (القصص) قال أبوا منصور: كلام العرب أن المجتمع من الرجال والمستوي الذي تم شبابه وذلك إذا تمت له ثمان وعشرون سنة، ويحتمل أن يكون بلوغ الأربعين غاية الاستواء وكمال العقل. (اللسان: مادة (سوا)}.
١٩ غشيت الشيء تغشية إذا غطيته، وغشيه الأمر وتغشاه وأغشيتة إياه. يقول تعالى:﴿يغشي الليل في النهار..(٥٤)﴾ (الأعراف) وقال اللحياني: وقرئ (يغشى) وقرئ في الأنفال:﴿يغشيكم النعاس...(١١)﴾ (الأنفال) و(يغشيكم)، و(يغشاكم) وغشاء كل شيء: ما تغشاه كغشاء القلب والسرج والرحل والسيف ونحوها. وغشيه يغشاه غشينا إذا جاءه، وغشاه تغشية إذا غطاه. وغشي الشيء إذا لابسه. قال تعالى:﴿والليل إذا يغشى (١)﴾ (الليل) وقال:﴿والليل إذا يغشاها (٤)﴾ (الشمس) (اللسان: مادة(غشا).
٢٠ حثيثا: مسرعا حريصا. ورجل حثيث ومحثوث. حاد سريع في أمره كأن نفسه تحثه. والحث: الإعجال في اتصال، وقيل: هو الاستعجال. وحثه واحثته، أي حضنه وشجعه على فعل شيء. (اللسان: مادة (حث).
٢١ النجوم مسخرات: جاريات مجا ريهن. وتسخير الشمس والقمر والنجوم للناس هو الانتفاع بها في بلوغ منابتهم، والإقتداء بها في مسالكهم، والتسخير: التذليل(اللسان: مادة (سخر).
ويقول سبحانه بعد ذلك :﴿ إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب من حميم١ وعذاب أليم بما كانوا يكفرون ( ٤ ) ﴾.
وحين يقول سبحانه :﴿ إليه مرجعكم ﴾ فهذا إعلام لكل الخلق أن كل الأمور معلومة له سبحانه، فقد أنزل التكليف الذي قد يطاع، وقد يعصى. فمن أطاع يفرح بقوله سبحانه :﴿ إليه مرجعكم جميعا ﴾، ومن عصى يحزن، لأنه سيلقى عقاب العصاة حين يرجع إلى الله٢.
ونجد القرآن يقول مرة :" يرجعون " ومرة يقول :" يرجعون " ٣، فمن عمل صالحا، فهو يفرح بالرجوع إلى الله، ومن عصى وكفر ؛ فهو يحزن ويخاف ويتردد ويحاول ألا يرجع، لكنه يرجع رغم أنفه، والحق سبحانه يقول :﴿ يوم يدعون٤ إلى نار جهنم دعا ( ١٣ ) ﴾ ( الطور )، وقوله سبحانه هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها :﴿ إليه مرجعكم جميعا... ( ٤ ) ﴾ ( يونس ). وسمي هذا المرجع في نفس الآية :﴿ وعد الله حقا... ( ٤ ) ﴾ ( يونس ).
ولقائل أن يقول : ولكن الوعد يطلق على الأمر الذي سيأتي بخبر، فإن كان المرجع للطائع فهذا هو الخير، ولكن العاصي لن يرى في الرجوع خيرا، فلماذا لم يقل الله : إن المرجع للعاصي وعيد ؟
وأقول : إن الحق سبحانه إنما ينبه الإنسان لما ينتظر في المستقبل، ويعظه، وترك له الاختيار، وهذا تقديم للخير، وهكذا تصبح المسألة كلها وعدا. والصيغة التي يقدم فيها المجرور رغم أن من حقه التأخير، فهي تعني تفرد الجمع، فكلنا نرجع إليه سبحانه، مثل قوله سبحانه :﴿ إياك نعبد... ( ٥ ) ﴾ ( الفاتحة ).
إذن : فالطائع فرح بجزاء الله له، وعلى العاصي أن يراجع نفسه قبل أن يرجع إلى الله. وأضرب هذا المثل-ولله المثل الأعلى- أنت تنبه التلاميذ إلى أن يذاكروا، فالذي يذاكر فعلا، يفرح بالامتحان ؛ لأنه سوف ينجح فيه. والذي يذاكر قد يراجع نفسه ويقبل على المذاكرة خوفا من الرسوب، والتذكير لون من ألوان الإنذار، ليتهيب الموقف ويرتدع، وهكذا يصير التذكر وعدا لا وعيدا.
ويضيف الحق سبحانه لوصف وعده بأنه حق فيقول :﴿ وعد الله حقا ﴾ ولقائل أن يقول : أليس كل وعد من الله حقّا ؟ ونقول : نعم. كل وعد من الله حق، وشاء الحق سبحانه هنا أن يصف وعده بأنه حق ليذكرنا بأن الحق هو الشيء الثابت، فإن خيل إليك في بعض الأوقات أن الباطل هو السائد والسيد، فلتعلم أن الباطل لا ثبات له لا سيادة.
وسبحانه يقول :﴿ أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا٥ رابيا٦ ومما يقودون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء٧ وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال ( ١٧ ) ﴾. ( الرعد ).
فحين ينزل المطر نجد كل واد يأخذ من الماء على قدر حاجته، وساعة ينزل المطر ويتجمع، نجد القش يطفو ومعه الحشائش والأشياء التي لا فائدة منها، لأن الماء في لحظة النزول إنما ينظف المكان الذي ينزل عليه، لذلك تطفو الأشياء الخفيفة وغير المفيدة.
كذلك الباطل إنما يطفو على السطح لكنه لا يفيد ولا يزعزع الحق الذي يستقر وينفع الأرض والناس، وطفو الباطل إنما هو تنبيه لجنود الحق، والباطل مثله مثل الألم الذي ينبه للمرض، وأخطر الأمراض هو الذي لا ألم فيه، فيستفحل إلى الدرجة التي يصبح علاجه صعبا ومستحيلا.
إذن : فالألم كالباطل ينبه جنود الحق، ولذلك أنت تلحظ أنه إذا ما أهيج الإسلام من أي عدو، تجد الحماسة وقد دبت في الناس جميعا، حركة وتعاونا، ونسيانا للأحقاد، للدفاع عن الإسلام.
وفي الأمراض التي تنتقل ببعض الفيروسات، نجد الأطباء وهم يطعمون الناس من نفس ميكروبات وفيروسات المرض بجرعات ضعيفة لتستثير مقاومة الجسم، إذن : فالباطل جندي من جنود الحق، كما أم الألم جندي من جنود العافية.
وإذا كان الحق هو القائل :﴿ إليه مرجعكم٨ جميعا ﴾ فلا بد أنه الوعد الحق، لأنه سبحانه يملك كل يعد به، وسبحانه منزه عن الكذب وعن الخديعة، لأنه القائل :﴿ ومن أصدق من الله قيلا ( ١٢٢ ) ﴾ ( النساء ).
ولأنه أقوى مما خلق، وممن خلق. ولا تخونه إمكاناته، لأنه يملك الكون كله.
وكلمة " الرجوع " في قوله تعالى :﴿ إليه مرجعكم جميعا ﴾ تفيد أن تكون على شيء ثم تفارق هذا الشيء وبعد ذلك ترجع له، فهي وجود أولا، ثم خروج عن الوجود، ثم عودة إلى الوجود الأول. فإن كنت في مكان، ثم ذهبت إلى مكان آخر، وترجع إلى المكان الأول، فهذا هو الرجوع.
والقول هنا يفيد أننا سنموت جميع، مصداقا لقوله الحق :﴿ كل من عليها فان( ٢٦ ) ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام( ٢٧ ) ﴾ ( الرحمان ).
وقد قال الكافرون ما ذكره القرآن :﴿ أئذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد( ٣ ) ﴾ ( ق ).
كأنه قد استبعدوا فكرة البعث، وقالوا أيضا :﴿ أئذا ضللنا٩ في الأرض أئنا لفي خلق جديد... ( ١٠ ) ﴾ ( السجدة ) : أي : أنهم تساءلوا : هل بعد الموت والدفن وتحلل الجثمان١٠ إلى عناصر تمتزج بعناصر الأرض، أبعد كل ذلك بعث و نشور١١ ؟
وجاء هنا قوله سبحانه :﴿ إليه مرجعكم جميعا ﴾ ليفيد أن الخروج إلى الوجود بالميلاد إلى الحياة، ثم بعد الخروج على الحياة إلى مقابلها وهو الموت، ومن بعد ذلك البعث.
وقد وقف الكافرون عند هذه النقطة واستبعدوها، فأراد الله لأن يبين لنا هذه المسألة، لأنها تتمة التمسك بالمنهج، وكأنه يقول لنا : إياكم أن تظنوا أنكم أخذتم الحياة، وأفلتم بها وتمتعتم، ثم ينتهي الأمر١٢ ؟ لا، إن هناك بعثا وحسابا. ولذلك قال :﴿ إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا... ( ٤ ) ﴾ : فإن قال قائل : كيف يكون ذلك ؟ يأتي القول الحق :﴿ إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ﴾ فالذي قدر على أن يخلق من عدم أيعجز أن يعيد من وجود ؟ إنه الحق القائل :﴿ وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا( ٩ ) ﴾ ( مريم ).
فإذا شاء أن يعيدكم فلا تتساءلوا كيف ؟ لأن ذراتكم موجودة، والحق سبحانه يقول :
﴿ أفعيينا١٣ بالخلق بل هم في لبس١٤ من خلق جديد ( ١٥ ) ﴾ ( ق ) : هكذا يستدل الحق سبحانه بالخلق الأول على إمكان الخلق الثاني، فإن كنتم تتعجبون من أنكم بعد أن أوجد الحق أجزاءكم وذراتكم ومواصفاتكم، فانظروا إلى الخلق الأول، فقد خلقكم من لا شيء، أفيعجز أن يعيدكم من شيء ؟ ﴿ أفعيينا بالخلق الأول ﴾.
وجاء الفلاسفة وأقاموا ضجة١٥، فجاء الحق سبحانه وتعالى من الكون بالأدلة، وقال :﴿ وترى الأرض هامدة... ( ٥ ) ﴾ ( الحج ) : أي : أرضا ميتة وليس فيها أي حياة.
﴿ فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت١٦ وأنبتت من كل زوج بهيج ( ٥ ) ﴾ ( الحج ).
إذن : فلا عجب أن تصدر حياة عن موت، وأنتم ترون ذلك كل ساعة. والحياة التي تراها أمامك ليست إلا دورة، لأن الله حين خلق الكون، خلق عناصره، ولا زيادة على هذه العناصر.
وخذ مادة واحدة وهي المياه، فمنذ أن خلق الحق سبحانه المياه لم تزد ولم تنقص، ويشرب منها الإنسان والحيوان، ولو أخذ كل واحد في حياته أي قدر من المياه، تظل المياه كما هي، لأن هذا الإنسان يفرز ما شربه على هيئة عرق وإفرازات مختلفة، وكل ذلك يخرج منه، ويبقى ما يمثل وزنه.
إذن : فما أخذته من المياه إنما يخرج منك مختلطا بأشياء نتيجة التفاعل الذي يعطيك طاقة الحياة، بعد ذلك يتبخر الماء، وعملية التبخر هي تقطير١٧ للماء، فأنت إذا أردت تقطير المياه تسخنها إلى درجة الغليان فتتحول بعد ذلك إلى بخار، ثم تكثفها١٨ لتعود مياها من جديد.
إذن : فالماء له دورة، نروي منه الزرع، فيأخذ المائية ويصير أخضر اللون، ويخرج منه الماء الزائد عن حاجته في عملية النتح١٩، ثم يجف، بعد أن تخرج منه المياه بالتبخر، وكل ذلك دون أن يشعر أحد بحكاية التبخر هذه.
وأنت حين تحضر كوبا من الماء المقطر في الصيدلية، تتكلف كثيرا، وتحتاج موقدا وإناء وأنابيب، ثم إلى مياه أخرى باردة لتكثف البخار، ولكن هذه مسألة تحدث في الكون ملايين المرات، ولا يدري بها أحد.
وبعد أن تتبخر المياه تصير سحابا، ثم ينهمر المطر وهو مياه مقطرة.
ولذلك تجد أن مساحة رقعة الماء ثلاثة أرباع الأرض لتخدم الربع الباقي ( اليابسة ) ؛ لأن الله يريد اتساع سطح الأرض، وهذا الاتساع هو الذي يساعد على التقطير والتبخير والتكثيف.
مثلما تجيء أنت بكوب ماء، وتضعه في حجرة، ثم تغيب شهرا عن الحجرة، فعند عودتك إليها قد تجد الكوب نقص ما مقداره نصف سنتيمتر تقريبا، لكنك إن أخذت كوب الماء نفسه وألقيت ما فيه من ماء ليسيح على أرض الغرفة، فستجد أن الأرض جفت خلال ساعات قليلة، وهكذا نجد أن اتساع الرقعة إنما يساعد على سرعة البخر.
إذن : الكمية التي خلقها الله من المياه كما هي، لم تزد ولن تنقص، تدور الدورة التي شاءها الحق، وهكذا نرى أن الشيء يعود إلى أصله مرة أخرى، ويمكن أن نرى ذلك في كل أوجه الحياة، والحق سبحانه يقول :﴿ والذاريات ذروا( ١ ) فالحاملات وقرا( ٢ ) فالجاريات يسرا( ٣ ) فالمقسمات أمرا٢٠( ٤ ) إنما توعدون لصادق ( ٥ ) ﴾ ( الذاريات ) : يقسم الحق سبحانه هنا بالرياح التي تحمل السحاب، وتمطر كل سحابة على الموقع المحدد لها بأمر من الله، يلفتنا الحق سبحانه هنا إلى دورة الماء، الذي هو قوام الحياة، بأن الوعد منه سبحانه يتحقق حتما.
تأمل الوردة، تجد لها نعومة ونضارة، لأن فيها شيئا كثيرا من المائية، ولها لون جميل ورائحة ذكية تفوح، فإذا قطفتها تتساقط أوراقها وتجف، لأن ما فيها من المائية يتبخر، فما أخذته الوردة من الماء عاد إلى مخزنة مرة أخرى، وكذلك الرائحة تظل في أوراقها الذابلة إلى أن تنتهي، وكذلك اللون، ثم تخرج وردة جديدة.
إذن : حياة كل كائن في الوجود والعالم في حركته ناشئة عن هذه الدورة، فإذا كانت مائية حياتكم تدور، أتستبعد أن تدور أنت بمكوناتك ؟ هب إنسانا وجد ومات، بخروج الروح من الجسد ويوارى الجثمان ويتبخر ما فيه من ماء، وتتحلل مواد الجثمان مع عناصر الأرض لتصير ترابا فهل يعجز الحق أن يعيد إلى الوجود أبعاض هذا الإنسان ؟ طبعا لا يمكن أن يعجز.
الحياة-إذن- احتكاك هذه الدورات لتلك العناصر، فلم يزد شيء عليها، ولم ينقص منها شيء.
واقرأ القرآن بتبصر تجد قوله الحق :﴿ وقد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ( ٤ ) ﴾ ( ق ).
وهكذا يبين لنا الحق أن العناصر كلها موجودة في الكون، قد تزيد في مخلوق عن آخر، لكن المجموع الكلي لكل العناصر ثابت، وإذا كان العلم قد توصل إلى أن هناك ستة عشر عنصرا تكون الكائنات٢١، فهذه العناصر ثابتة الكمية، وإن اكتشفوا زيادة في عددها، فالزيادة في عدد العناصر ستكون أيضا ثابتة الكم لكل عنصر.
وقال العلماء : إن الستة عشر عنصرا هي : الأكسيجين، والكربون، والهيدروجين، والنتروجين، والمغنسيوم، والبوتاسيوم، والصوديوم، وغيرها.
كل هذه العناصر تعود إلى أصلها بعد أن تموت الكائنات وتتحلل.
هكذا يصدق قول الحق :﴿ قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ... ( ٤ ) ﴾ ( ق ).
وقد حاول بعض الفلاسفة أن يتعرضوا اعتراضا ثانيا وقالوا : هب أن إنسانا مات، ثم تحللت عناصره في الأرض. ألا تذهب عناصر إلى كائنات أخرى، مثل شجرة أنتجت ثمرة أو غير ذلك، ثم أكلها إنسا
١ حميم: ماء شديد الحرارة والسخونة..
٢ وقد دل القرآن على أن المؤمنين رغم طاعتهم لله إلا أنك تجدهم مشفقين من يوم القيامة وما فيه من أهوال وهذا لعظم إيمانهم بأن الله سريع الحساب وأنه سبحانه شديد العقاب، ولأنهم يعملون الطاعات ويخافون ألا تقبل، ويقعون في المعاصي ويخشون ألا يغفر لهم. ويقول سبحانه:﴿الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون (٤٩)﴾ (الأنبياء)..
٣ ورد قوله تعالى:﴿يرجعون﴾ في ستة مواضع من القرآن الكريم: آل عمران (٨٣) والأنعام (٣٦) ومريم (٤٠) والنور (٦٤) والقصص (٣٩) وغافر (٧٧)..
٤ يدعون: يدفعون دفعا عنيفا. والدع: الطرد والدفع. قال تعالى:﴿فذاك الذي يدع اليتيم (٢) (الماعون).
٥ الزبد: هو ما يعلوا ماء البحر إذا هاج موجه. وبحر مزبد، أي: مائج يقذف بالزبد. وزبد الماء: طفاوته وقذارته. والجمع: أزباد..
٦ رابيا: مرتفعا، لأنه يكون أعلى سطح الماء..
٧ جفاء السيل: هو ما يقذفه من الزبد والوسخ ونحوهما..
٨ مادة: رجع من باب ضرب –يرجع رجوعا، ورجع عاد إلى مكان منه قد بدأ، فهو لازم، ورجعه غيره أعاده ورده متعد بنفسه، ورجع بصره رده مرة بعد مرة فمن اللازم قوله تعالى:{ولما رجع موسى إلى قومه...(١٥٠)﴾ (اعراف) أي: عاد، ومن المتعدي:﴿فإن رجعك الله إلى طائفة منهم...(٨٣)﴾ (التوبة) أي: أعادك وردك، ومن المعنوي قوله:﴿ثم ارجع البصر كرتين...(٤)﴾ (الملك) القاموس القويم ص٢٥٦، ٢٥٧..

٩ ضللنا في الأرض أي: ذهب أثرنا في الأرض وخفينا بسبب تحلل أجسامنا..
١٠ الجثمان: الجسد، قال تعالى:﴿فأصبحوا في ديارهم جاثمين (٦٧)﴾ (هود) أي: أجسادا ملقاة في الأرض..
١١ النشور: بعث الموتى يوم القيامة. قال تعالى:﴿ثم إذا شاء أنشره (٢٢﴾ (عبس)أي: أحياه وبعثه. وقال:﴿إليه النشور(٢٥)﴾ (الملك) ومنه النشور: يوم القيامة.
وقضية البعث والنشور إحدى أربع قضايا رئيسية كان الكافرون ينكرونها، ويحكي عنهم القرآن قولهم:﴿وقالوا أئذا كنا عظاما ورفاتا أئنا لمبعوثون خلقا جديدا(٤٩)﴾ الإسراء) ويقول سبحانه:﴿وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي لرميم(٧٨) قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم (٧٩)﴾ (يس).

١٢ وفي هذا يقول سبحانه وتعالى:﴿أيحسب الإنسان أن يترك سدى(٣٦)﴾ (القيامة) قال ابن زيد ومجاهد: أيظن ابن آدم أنه يخلى مهملا فلا يؤمن ولا ينهي. وقيل: أيحسب الإنسان أن يترك في قبره كذلك أبدا لا يبعث. ذكره القرطبي في تفسيره (١٠/٧١٥٢).
١٣ عي الإنسان بأمر: عجز عنه..
١٤ اللبس: اختلاط الأمر، والشك..
١٥ قامت ضجة الفلاسفة على شبهات وافتراضات نشأت في عقولهم عن استحالة البعث بعد الموت وأعطوا أمثلة ظنوها تؤيد فكرهم السقيم منها: من أكلته أسماك وحيوانات البحر أو أكله أسد أو وحوش مفترسة، وهي شبهات تقوم على أساس ما ذكره فضيلة الشيخ صفحة ٥٧١٤ عن مذهب الفلاسفة في أن الله قد خلق الكون ثم ترك عناصره تتفاعل بقوانينها الذاتية، أي: أن الله ليست له قيومية على كونه. وقد رد القرآن على هذه الشبهات بوضوح بقول الله سبحانه عن خلق الله هذا الكون وقيوميته عليه وعلمه الذي يسع كل جزئيات الكون فلا تغيب عنه مثقال ذرة وهو سبحانه القادر الذي لا يخرج عن قدرته شيء. وما دام الله قد خلق الكون من عدم، فإن إعادته بعد فنائه أهون عليه سبحانه، ويقول عز وجل:﴿وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه (٢٧)﴾ (الروم) ويقول تعالى:﴿كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم غليه ترجعون (٢٨)﴾ (البقرة).
١٦ ربت: عظمت وانتفخت وزادت..
١٧ التقطير: تنقية وتصفية مما قد يعلق به مواد غريبة ضارة.
والتقطير: تحويل السائل إلى يخار بالحرارة ثم تبريده ليعود سائلا كما كان وذلك بجهاز التقطير (المعجم الوسيط)
والبخار: كل ما يصعد كالدخان من السوائل الحارة (المعجم الوسيط) وتبخير الماء: تسخينه حتى يتحول إلى حالته الغازية ويتصاعد على هيئة بخار..

١٨ التكثيف: هو تعريض بخار الماء إلى سطح بارد ليتكثف عليه ويبرد فيعود إلى حالته السائلة (بواسطة جهاز التقطير)..
١٩ نتح: رشحن يقال: نتج العرق عن الجلد، ونتج إناء بما فيه ونتحه الحر، ونتح الماء من النبات نتحا أي: خرج منه الماء الزائد عن حاجته (المعجم الوسيط"بتصرف")..
٢٠ الذاريات: الرياح. ذرت الريح التراب وغيره تذروه ذروا: أطارته وأذهبته. قال تعالى:﴿تذروه الرياح (٤٥)﴾ (الكهف) والحاملات وقرا: السحاب. والجاريات يسرا: السفن. والمقسمات أمرا: الملائكة. وقد ثبت عن الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه صعد منبر الكوفة، فقتال: لا تسألوني عن آية في كتاب الله تعالى ولا عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنبأتكم بذلك، فقام إبن الكواء فقال: يا أمير المؤمنين، ما معنى قوله تعالى:﴿والذاريات ذروا (١)﴾ قال علي رضي الله عنه: الريح. قال: ﴿فالحاملات وقرا(٢)﴾ قال: السحاب. قال:﴿فالجاريات يسرا (٣)﴾ قال: السفن، قال: ﴿فالمقسمات أمرا(٤)﴾ قال رضي الله عنه: الملائكة (ذكره ابن كثير في تفسيره ٤/٢٣١).
٢١ كل كشف هو من أسرار غيبه سبحانه، وله ساعة ميلاد يتجلى بها الخالق على كل من يتعامل مع الكون بحثا وتأملا وانتفاعا، وما دام القرآن خالدا فمدد الكشف سيظل واردا، وفي وروده انتفاع نحو المراد بقول الحق:﴿قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا (١٠٩)﴾ (الكهف)..
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل١ لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون ( ٥ ) ﴾ :
وبعد أن بين لحق أنه خلق السماء والأرض وخلق الكون كله وسخره للإنسان لنا بنعم من آياته التي خلقها لنا، والتي جعلها الله سبحانه وتعالى سببا لقوام٢ الحياة ؛ فالشمس هي التي تنضج لنا كل شيء في الوجود، وتعطي لكل كائن الإشعاع الخاص به، كما أن الشمس تبخر المياه-كما قلنا من قبل- لينزل الماء بعد ذلك عذبا فراتا٣، يرتوي منه الإنسان وتشرب منه الأنعام ونروي به الزرع.
والشمس هي الأم لمجموعة من الكواكب التي تدور حولها، فدورة الأرض حول الشمس تمثل السنة، ودورة الأرض حول نفسها تمثل اليوم. فيقول الحق سبحانه هنا :
﴿ هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا ﴾ ولو نظرت إلى المعنى السطحي في الشمس والقمر لقلت : إن الشمس تعطي نورا وكذلك القمر، ولكن النظرة الأعمق تتطلب منك أن تفّرق بين الإثنين ؛ فالشمس تعطي ضياء، والقمر يعطي نورا. الفرق بين الضياء والنور يتمثل في أن الضياء تصحبه الحرارة والدفء، والنوء إنارة حليمة، ولذلك يسمى نور القمر النور الحليم ؛ فلا تحتاج إلى الظل لتستظل من حرارته، لكن الشمس تحتاج إلى مظلة لتقيك حرارتها.
إذن : فالنور هو ضوء ليس فيه حرارة، والحرارة لا تنشأ إلا حين يكون الضوء ذاتيّا من المضيء مثل الشمس. أما القمر فضوئه غير ذاتي ويكتسب ضوئه من أشعة الشمس حين تنعكس عليه، فهو مثل المرآة حين تسلط عليها بعضا من الضوء فهي تعكسه.
إذن : القمر مضيء بغيره، أما الشمس فهي تضيء بذاتها. لذلك قال الحق هنا :﴿ جعل الشمس ضياء والقمر نورا ﴾.
وكلمة ﴿ ضياء ﴾ إما أن تعتبرها مفردا مثل صام صياما، وقام قياما، وضاء ضياء. وإما أن تعتبرها جمعا، ومثلها مثل حوض-جمعه : حياض، ومثل روض-جمعه : رياض، وكذلك جمع ضوء هو ضياء.
إذن : كلمة ﴿ ضياء ﴾ تصلح أن تكون جمعا وتصلح أن تكون مفردا، وحين يجيء اللفظ صالحا للجمع وللإفراد، لا بد أن يكون له عند البليغ ملحظ ؛ لأنه يحتمل هذه المعاني كلها، وقبل معرفتنا أسرار ضوء الشمس وقبل تحليله، كنا نقول : إنه ضوء، لكن بعد أن حللنا ضوء الشمس وجدنا أن ألوان الطيف سبعة منها ضوء أحمر، وضوء أخضر، وضوء أصفر، وغيرها٤.
إذن : ف " ضياء " تعبر عن تعدد الألوان المخزونة في ضياء الشمس، فإن قلت : ضياء جمع ضوء، فهذا بتحليل الضوء إلى عناصره كلها، وإن قلت : ضياء مثل قيام، ومثل صيام، فهذا يصلح في المعنى العام.
ولذلك كان القرآن ينزل بما تحتمله العقول المعاصرة لنزوله التي لا تعرف المعاني العلمية للظواهر. ولو قال القرآن هذه الحقائق، لقال واحد : إنني أرى الشمس حمراء لحظة الغروب، وأراها صفراء لحظة الظهيرة، وهو لا يعلم أن الحمرة وقت، الغروب هي حمرة في الرؤية لطول الأشعة الحمراء، وهي لا تظهر إلا حين الغروب حيث تكون الشمس في أبعد نقطة، فلا يصل إلينا إلا الضوء الأحمر، أما بقية الأضواء فهي تشع في الكون ولا تصل إلينا.
إذن : كلمة ﴿ ضياء ﴾، إما أن تعتبرها جمع ضوء، مثل سوط وسياط، وحوض وحياض، وروض ورياض، وإما أن تعتبرها مفردة.
هذه صالحة للمعنى العام، وتلك صالحة للمعنى التحليلي ؛، ولذلك يقول الحق سبحانه في آية أخرى :﴿ تبارك الذي جعل في السماء بروجا٥ وجعل فيها سراجا٦ وقمرا منيرا ( ٦١ ) ( الفرقان ) : والسراج هو ما يعطي الضوء والحرارة، وهو وصف مناسب للشمس. وهنا يقول الحق :{ هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل ﴾، وكلمة ﴿ وقدره ﴾ تعود في ظاهر الأمر إلى القمر. لكن في الواقع أن الشمس لها منازل٧ أيضا، وقال الحق :﴿ وقدّره ﴾ لأن هناك شيئا اسمه " الجعل " ٨، فهو سبحانه جعل الشمس ضياء، و جعل القمر نورا.
إذن : فالجعل جاء بأمرين اثنين ؛ جعل للشمس ضياء وجعل للقمر نورا، هذا الجعل نفسه جعله الله لنقدر به الزمن، فهو صالح للاثنين ؛ للشمس وللقمر ؛ لنعلم عدد السنين والحساب.
وفي العبادات نحتاج إلى تحديد بداية شهر رمضان٩، لنمارس عبادة الصوم، ونحتاج إلى تحديد أشهر الحج١٠، وكذلك تحتاج المرأة مثلا إلى حساب شهور العدة١١، وكل هذه التقديرات تخضع للهلال، فهو علامة واضحة للكل، فهو يبدأ صغيرا ويكبر ثم يصغر. ﴿ والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون١٢ القديم ( ٣٩ ) ﴾ ( يس ) : و " العرجون " هو ما نسميه " السباطة " ١٣ التي تحمل " شماريخ " البلح، وكانوا يصنعون منها قديما المكانس التي يكنسون بها بيوتا البادية والريف، وهكذا أعطانا الله تشبيها من البيئة التي عاش فيها العربي القديم.
وفي أول كل شهر كلنا نرى الهلال كعلامة مخبرة عن ميلاد الشهر، وهكذا تعلّم الإنسان أن يحسب الشهور بتقدير منازل القمر، وبالنسبة للسنة ؛ فالحق سبحانه يقول :
﴿ إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض... ( ٣٦ ) ﴾ ( التوبة ) : والتقدير هنا اثنا شهرا هلاليّا. أما اليوم فيقدر بالشمس ؛ لذلك فهي تدخل في تقدير المنازل. وهكذا نجد أن الحق سبحانه قد شاء أن يجعل " الجعل " لأمرين ؛ مجعول الشمس، ومجعول القمر، مصداقا لقوله :﴿ وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق ﴾.
والحق-كما واضحا- هو الشيء الثابت الذي لا يتغير. وحين نتأمل مسار الأفلاك١٤، ومسار الشمس، مسار القمر، لا نجد فيها خلافا، بل نجد مراصد الكفار تعلن مواعيد تواجد القمر بين الأرض والشمس، وقد توجد الأرض بين القمر والشمس، ويتسبب هذا في ظاهرتي الكسوف للشمس، والخسوف للقمر، وكل هذه الأمور تجدها عندهم غاية في الدقة.
﴿ ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون ( ٤٠ ) ﴾ ( يس ) : وهذا القول الحكيم قد أثبت للعرب حكما يعتقدونه، ونفي حكما آخر يعتقدونه، فالعرب كانت تعتقد أن الليل قبل النهار، بدليل أن تحديد الليلة الأولى في رمضان هو الميعاد الذي يبدأ فيه شهر الصوم، وما داموا قد حكموا بأن الليل هو الذي يسبق النهار، فلا بد من حكم مقابل ؛ وهو أن النهار لا يسبق الليل.
وجاء القرآن إلى القضية المتفق عليها وتركها، وهي أن النهار لا يسبق الليل مثلما اعتقد العرب، ونفي القرآن أن يسبق الليل والنهار. وكان المخاطب-إذن-يعتقد أن الليل يسبق النهار، ويصحح الله المفاهيم فلا الليل يسبق النهار ولا النهار يسبق الليل.
وهكذا عرض الحق سبحانه للكونيات عرضا رمزيّا في القرآن ؛ لأنه لو جاء بالتوضيح العلمي لذلك لكذب العرب القرآن، فلو قال القرآن بصريح العبارة : إن الأرض كروية، لعارض الناس ذلك وقت نزول القرآن، وما زلنا نجد من يعارض تلك الحقيقة في أواخر القرن العشرين ؛ لذلك لم يكشف الحق كل الحقائق الكونية، بل أشار إليها بما يحتمل قبول العربي لها.
وما دام الليل لا يسبق النهار، والنهار لا يسبق الليل، فكيف جاء هذا الأمر-إذن ؟
ونقول : هل خلق الله الشمس مواجهة لسطح الأرض أولا، ثم غابت الشمس فجاء الليل ؟ كان هذا الأمر يصح لو أن الأرض كانت مسطوحة، ولكن الحق سبحانه خلق الأرض كروية، وذلك دليل على أن الحق سبحانه خلق الشمس والأرض على هيئة يوجد فيها الليل والنهار معا، ولا يكون ذلك إلا إذا كانت الأرض كروية، فالنصف المواجه للشمس يكون الوقت فيه نهارا، وغير المواجه لها يكون الوقت فيه ليلا، ثم تدور الأرض ؛ فيأتي النهار إلى القسم الذي كان ليلا، ويأتي الليل للقسم الذي كان نهارا.
إذن : فالحق سبحانه حكى في القرآن الكريم عن الأمور الكونية-التي سوف تستكشفها العقول بعد نزول القرآن-وعالجها بحكمة ودقة، وعلى سبيل المثال نجد قوله الحق :
﴿ وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة... ( ٦٢ ) ( الفرقان )، ثم يأتي التعليل :{ لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا ( ٦٢ ) ﴾ ( الفرقان ).
فالليل خلفه النهار، ومعنى خلفة أي : يخلف غيره. والمثال من حياتنا نجده في دوريات الحراسة، نجد إنسانا يحرس موقعا ما مدّة ست ساعات مثلا- وبعد انتهاء فترة الحراسة يسلم المهمة لحارس ثان، وبذلك يخلف واحد الآخر، لكن من الذي بدأ المهمة الأولى في الحراسة قبل أن يأتي ليتسلم منه دورية الحراسة ؟
وكذلك الأمر في الليل والنهار، فبين الحق سبحانه أن الليل والنهار خلفة، ومعنى ذلك أن كلا منهما كان موجودا من البدء ولأن الأرض تدور جاء النهار في البلاد التي تشرق فيها الشمس، وجاء الليل في البلاد التي تغيب عنها الشمس، وتتابع الليل والنهار. وهكذا فصّل الحق سبحانه آياته لنا، وقال سبحانه :﴿ يفصل الآيات لقوم يعلمون ﴾١٥.
١ منازل القمر: مواضع تحركه، أي: مداره حول الأرض. ومواقعه بين الشمس والأرض، وتبعا لتغير هذه المواقع تتغير صورته التي نراه عليها. قال تعالى:﴿والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجوم القديم (٣٩) (يس) وقال سبحانه:{فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا (٩٦) (الأنعام)..
٢ قوام كل شيء: أي: ما يقوم به، وعماد كل شيء ونظامه. ومنه قوله تعالى:{ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما (٥)﴾ (النساء) أي: تقوم بها معايشكم من التجارات وغيرها..

٣ الفرات: الماء الشديد العذوبة. يقال: ماء فرات، ونهر فرات. قال تعالى:﴿وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات (٥٣)﴾ (الفرقان) وقال: ﴿وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه (١٢) (فاطر)، وقال:{وجعلنا فيها رواسي شامخات وأسقيناكم ماء فراتا (٢٧) [المرسلات]. [المعجم الوسيط: مادة (فرت)]..
٤ ضياء تصلح للإفراد باعتبار أن الضياء مصدر ألوان الطبيعة، وتصلح باعتبار الألوان المنبثقة من الضياء، وهذه إشارة لأسرار الله في كونه..
٥ من معاني البروج: الكواكب والنجوم والقصور، وبرج (أبراج) الفلك وهي اثنا عشر برجا تبدأ بالحمل. قال تعالى:{والسماء ذات البروج(١)﴾ (البروج) وقال:﴿ولقد جعلنا في السماء بروجا (١٦) (الحجر) وقال: {واو كنتم في برومج مشيدة (٧٨)﴾ [النساء]. [اللسان: مادة (برج)]..

٦ السراج: المصباح الزاهر الذي يسرج بالليل، ووصفت الشمس بالسراج، لأنها سراج النهار، أي: مصباحه ومصدر نوره. قال تعالى:﴿وجعلنا سراجا وهاجا (١٣)﴾ (النبأ) وقال:﴿وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا (١٦)﴾ (نوح) (اللسان: مادة (سرج).
٧ قال تعالى:﴿وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى(٢)﴾ (الرعد)، وقال:﴿والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم (٣٨)﴾ (يس)، وقال:﴿الشمس والقمر بحسبان(٥)﴾ (الرحمان)..
٨ جعل: خلق أو صيّر. قال تعالى:﴿وجعلنا من الماء كل شيء حي (٣٠)﴾ (الأنبياء) وقال:﴿فجعلهم كعصف مأكول (٥)﴾ (الفيل) وقال:﴿وجعلنا نومكم سباتا(٩) وجعلنا الليل لباسا(١٠) وجعلنا النهار معاشا (١١)﴾ النبأ.(اللسان: مادة (جعل).
٩ عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الشهر تسع وعشرون، فإذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فاقدروا له" أخرجه مسلم في صحيحه (١٠٨٠).
١٠ شهور الحج هي: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة. قال ابن عمر رضي الله عنهما: أشهر الحج شوال وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة (فقه السنة ١/٤٦٢) وقيل شهر ذي الحجة بتمامه..
١١ العدة: مأخوذة من العدد والإحصاء، أي: ما تحصيه المرأة وتعده من الأيام والإقراء. وهي أنواع بحسب حال المرأة، فإن كانت زوجة غير مدخول بها، فلها حالتان، وإذا طلقت فلا عدة عليها، أما إن مات زوجها فعليها العدة أربعة أشهر وعشرا. أما إن كان مدخولا بها، فإما أن تكون ممن يحضن، فتكون عدتها ثلاثة قروء، وإما أن تكون ممن لا يحضن، فتكون عدتها ثلاثة أشهر. أما عدة الحامل فهي بوضع الحمل، سواء أكانت مطلقة أم متوفى عنها زوجها. انظر تفصيل هذا في فقه السنة سيد سابق (٢/٣٤١، ٣٥٠)..
١٢ العرجون: العذق اليابس أو الغصن الجاف، قال ابن عباس: العرجون هو أصل العذق وهو العنقود من الرطب إذا عتق ويبس وانحنى. والقمر في آخر الشهر يكون صغيرا وبشبه العرجون(اللسان: مادة (عرجن)).
١٣ المراد بالسباطة: جريد النخل اليابس..
١٤ الفلك: مدار النجوم. وفلك كل شيء: مستداره ومعظمه. قال تعالى:﴿كل في فلك يسبحون(٣٣)﴾ (الأنبياء) (اللسان: مادة (فلك).
١٥ فصل عن المكان من باب ضرب: جاوزه قال تعالى:﴿ولما فصلت العير(٩٤)﴾ (يوسف) والفصال: الفطام، قال تعالى:﴿وفصاله في عامين(١٤)﴾ (لقمان) والفصل: التميز. ويوم الفصل: يوم القيمة. وفصل الخطاب: القول الصائب المميز بين الحق والباطل، قال تعالى:﴿إن يوم الفصل كان ميقاتا (١٧)﴾ (النبأ)، وفصل الشيء جعله أقساما متميزة قال تعالى:﴿وكل شيء فصلناه تفصيلا (١٢)﴾ الإسراء) وقال تعالى:﴿آيات مفصلات (١٣٣) (الأعراف) أي: مبينات ومنه قوله تعالى:{يفصل الآيات لقوم يعلمون(٥)﴾ (يونس) القاموس القويم: ص ٨٢، ٨٣..
ويقول سبحانه بعد ذلك :
﴿ إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السماوات والأرض لآيات لقوم يتقون ( ٦ ) ﴾ :
وهكذا بين الحق اختلاف الليل عن النهار مما يؤكد أنهما وجدا معا، وعطف عليها ﴿ وما خلق الله في السماوات والأرض ﴾ ؛ لأنه سبحانه خلق الكون بما فيه من مقومات حياة من مأكل ومشرب وهواء، وغير ذلك، ثم سخر الكون كله ؛ لخدمة السيد وهو الإنسان.
ولو نظرت إلى مقومات الحياة لوجدت فيها احتياجات أساسية تتمثل في نفس وهواء، وشراب وماء، وطعام ؛ هذه أهم احتياجات الإنسان من مقومات الحياة. ويصبر الإنسان على المأكل أكثر مما يصبر على المشرب، ويصبر على المشرب أكثر مما يصبر على نفس الهواء، بل ولا يملك الإنسان الصبر على نفس الهواء مقدار شهيق وزفير.
لذلك شاء الحق أن يملك قوم طعام غيرهم ؛ لأن الجسم يمكنه أن يصبر على الطعام لمدة قد تصل إلى الشهر ويعتمد في ذلك على إذابة الدهن المتراكم بداخله، عكس ما اخترع البشر من آلات، فالسيارة لا يمكن أن تسير لمتر واحد دون وقود. أما الجسم فيتحمل لعل من يملك الطعام يخفف من القيود، أو لعل الإنسان الجائع يجد طريقة لينال ما يقتات به.
أما الماء فقد شاء الحق أن يقلل من احتكار البشر له ؛ لأن الإنسان أكثر احتياجا للماء من الطعام.
أما الهواء فسبحانه وتعالى لم يملّك الهواء لأحد، لأن الهواء هو العنصر الأساسي للحياة ؛ ولذلك اشتق منه لفظ النفس، ونفس، ونفس.
ولو نظرت إلى الهواء في الوجود كله لوجدته عامل صيانة لكل الوجود من ثبات الأرض، وإلى ثبات المباني التي عليها، إلى ثبات الأبراج، وإلى ثبات الجبال، كل ذلك بفعل الهواء ؛ لأن تياراته التي تحيط بجوانب كل الأشياء هي التي تثبّتها، وإن تخلخل الهواء في أي ناحية حول تلك المباني والجبال فهي تنهدم على الفور.
إذن : الهواء هو الذي يحفظ التوازن في الكون كله. ولذلك قلنا : إنك لو استعرضت ألفاظ القرآن لوجدت أن الحق سبحانه حينما يتكلم عن تصريف١ الرياح، فهو سبحانه يتكلم بدقّة خالق، بدقّة إله حكيم، فهو يرسل من الرياح ما فيه الرحمة، مثل قوله الحق :﴿ وأرسلنا الرياح لواقح٢.... ( ٢٢ ) ﴾ ( الحجر )، لكن إذا جاء بذكر ريح ففي ذلك العقاب مثل قوله :﴿ بريح صرصر٣ عاتية ( ٦ ) ﴾ ( الحاقة )، ومثل قوله :﴿ فلما رأوه عارضا٤مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم ( ٢٤ ) تدمر كل شيء بأمر ربها... ( ٢٥ ) ﴾ ( الأحقاف ) : لأن الرياح تأتي من كل ناحية، فتوزن الكائنات، أما الريح فهي تأتي من ناحية واحدة فتدهم٥ ما في طريقها.
وهنا يقول سبحانه :﴿ وما خلق الله في السماوات والأرض ﴾ أي : أنه جاء بالمخلوقات الأخرى مجملة بعد أن جاء بذكر الشمس والقمر كآيتين منفصلتين، ثم ذكر السماوات والأرض وما فيهما من آيات أخرى : من رعد، وبرق، وسحاب، ونجوم وعناصر في الكون، كل ذلك مجمل في قوله :﴿ وما خلق الله في السماوات والأرض ﴾ ؛ لأنه لو أراد أن يفصّل لذكر كثيرا من الآيات والنعم، وهو القائل :﴿ وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها... ( ٣٤ ) ﴾ ( إبراهيم ).
والقرآن ليس كتابا لبسط المسائل كلها، بل هو كتاب منهج، ومن العجيب أنه جاء ب " إن " وهي التي تفيد الشك في قوله :﴿ وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ﴾ ؛ لأن أحدا مهما أوتي من العلم ليس بقادر أن يحصي نعم الله في الكون ؛ ولأن الإقبال على العدّ فرض إمكان الحصر، ولا يوجد إمكان لذلك الحصر ؛ لذلك لم يأت ب " إذا "، بل جاء ب " إن " وهي في مقام الشك.
والأعجب من هذا أنك تجد أن العدّ يقتضي التكرار، ولم يقل الله سبحانه : وإن تعدوا نعم الله، بل جاء ب " نعمة " واحدة، وإذا استقصيت ما في النعمة لوجدت فيها آلاف النعم التي لا تحصى.
وينهي الحق الآية بقوله :﴿ لآيات لقوم يتقون ﴾، و الآيات تطلق ثلاث إطلاقات : الإطلاق الأول آيات القرآن، والإطلاق الثاني على المعجزة الدالة على صدق الرسول٦، والإطلاق الثالث للآية أنها تحمل عجيبة من عجائب الكون الواضحة في الوجود٧ الدالة على عظمة الله سبحانه.
وهذه الآيات خلقها الله لتلفت إلى مكوّن٨ هذه الآيات، واللفتة إلى مكون هذه الآيات ضرورة لينشأ الإنسان في انسجام مع الكون الذي أنشئ من أجله، بحيث لا يأتي له بعد ذلك ما ينغّص هذا الانسجام، فهب أن إنسانا ارتاح في حياته الدنيا ثم استقبل الآخرة بشقاء وجحيم، فما الذي استفاده من ذلك ؟
إذن : كل المسائل التي تنتهي إلى زوال لا يمكن أن تعتبر نعمة دائمة ؛ لأن النعمة تعني أن تنعم بها تنعّما يعطيك يقينا أنها لا تفارقك وأنت لا تفارقها، والدنيا أطول من أعمارها ؛ إما أن تفوت النعمة فيها الإنسان، وإما أن يفوت هو النعمة.
والحق-سبحانه وتعالى- يبقي الذين يريدون أن يتقوا الله ؛ ليصلوا إلى نعيم لا يفوت ولا يفات، ويجب أن ينظروا في آيات الكون ؛ لأنهم حين ينظرون في آيات الكون، بإمعان يكونون قد أفادوا فائدتين : الفائدة الأولى : أن يفيدوا مما خلق الله، والفائدة الثانية أن يعتبروا بأن هذا الكون الذي خلقه الله إنما جعله وسيلة ومعبرا إلى غيره، فقد خلق فيه الخلق ليعيش بالأسباب، ولكنه يريد أن يسلمه بعد ذلك إلى حياة يعيش فيها بالمسبّب وهو الله. فالذين يتقون هم الذين يلتفتون، والذي لا يتقون لا يعتبرون بالنظر في الكون وتمر على الإنسان منهم الأشياء فلا يعتبرونها بها، كما قال الله :
﴿ كأين من آية في السماوات والأرض يمرون وهم عنها معرضون٩( ١٠٥ ) ﴾ ( يوسف ).
إذن : فهم لا يلتفتون إلى ما في آيات الحق من الآيات الدالة على عظمة قدرة الله سبحانه ؛ فهم غير حريصين على أن يقوا أنفسهم عذاب الآخرة.
١ وتصريف الرياح تحويلها من جهة إلى جهة، وتصريف الأمور إدارتها من حال إلى حال. والصرف: رد الشيء من حال إلى حال. وصرف النقود تغييرها أو إنفاقها، وصرف السجين أخلي سبيله، وصر ف القلوب –تحويلها من الهدى إلى الضلال كقوله تعالى:﴿صرف الله قلوبهم (١٢٧) (التوبة) القاموس القويم ج١: ص ٧٤، ٧٥..
٢ قال ابن السكيت والأزهري: لواقح أي: حوامل، لأنها –الرياح- تحمل الماء والسحاب وتقلبه وتصرّفه، ثم تستدرّه. قال تعالى:{وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات (٥٧)﴾ (الأعراف) (اللسان: مادة (لقح).. بتصرف).

٣ ريح صر وصرصر: شديدة البرد والصوت. قال تعالى:﴿كمثل ريح فيها صر(١١٧)﴾ (آل عمران) وصر الطائر: صاح الباب يصر صريرا: أصدر صوتا عاليا ممتدا، والصرة: الضجة والصيحة والشدة من الكرب والحرب وغيرهما.(اللسان: مادة (صرر) وعاتية: شديدة جدا. والعاتي: الجبار (اللسان: مادة (عتا)).
٤ العارض: السحابة إذا كانت في ناحية من السماء والعارض يكون أبيض اللون. (اللسان: مادة (عرض)).
٥ تدهم: تهجم بشدة حتى تغشى من وما في طر يقها. (اللسان: مادة (دهم) بتصرف).
٦ والآية بمعنى أنها معجزة من المعجزات الدالة على صدق الرسول قد جاء بها القرآن على لسان المشركين والكافرين فقال سبحانه:﴿وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية(١١٨)﴾ (البقرة) ونحو قولهم:﴿وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه قل إن الله قادر على أن ينزل آية ولكن أكثرهم لا يعلمون (٣٧)﴾ (الأنعام).
٧ وهي الآيات الدالة على قدرة الله على الخلق وتدبير الكون وتسييره بنظام لا يتخيل، وذلك نحو قوله تعالى:{ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين (٢٢) ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون (٢٣) ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا وينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون(٢٤) (الروم).
٨ والالتفات إلى المكون يقتضي مراحل ثلاث: مرحلة الإدراك، ومرحلة الانفعال، ومرحلة الاختيار، فإدراك الآية يجعلك تنفعل بها، فإذ انفعلت اخترت المكون توحيدا بحب وعبادة بصفاء وانسجام بأخلاق، وهنا تتم النعم بمعية الله..
٩ أعرض يعرض إعراضا، فهو معرض، والجمع: معرضون. أعرض عن الشيء: إذا ولاه ظهره وابتعد عنه. (اللسان: مادة (عرض).. بتصرف).
ويقول الحق بعد ذلك :
﴿ إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون( ٧ ) ﴾.
والرجاء هو طلب شيء محبوب متوقع، والتمني طلب شيء محبوب إلا أنه غير ممكن الحدوث، ولكنك تعلن بتمنّيك أنه أمر تحبه، مثل من قال :
ألا ليت الشباب يعود يوما **** فأخبره بما فعل المشيب
هو بهذا القول يبين أن الشباب أمر محبوب ومرغوب. لكن هل يتأتى هذا ؟ طبعا لا. إذن : التمني هو طلب شيء محبوب لا يمكن أن يقع ؛ ومثل قول الشاعر :
ليت الكواكب تدنو لي فأنظمها **** عقود مدح فما أرضى لكم كلمي
وهذا غير ممكن.
أما الرجاء فهو أن تطلب شيئا محبوب من الممكن أن يقع.
وهنا يقول الحق سبحانه :﴿ إن الذين لا يرجون لقاءنا ﴾، فلماذا لا يرجون لقاء الله ؟ لأن الذي يرجو لقاء الله هو من أعد نفسه لهذا اللقاء ؛ ليستقبل ثواب الله، لكن الذي لم يفعل أشياء تؤهله إلى ثواب الله، وعمل أشياء تؤهله إلى عقاب الله ؛ فكيف له أن يرجو لقاء الله ؟ إنه لا يرجو ذلك١.
وعلى سبيل المثال : إن الرجل الذي يستشهد ويقدم نفسه للشهادة، ونفسه هي أعز شيء عنده، إنما يفعل ذلك لوثوقه بأن ما يستقبله بالاستشهاد خير مما يتركه من الحياة.
إذن : فالذي يرجو لقاء الله هو الذي يعدّ نفسه لهذا اللقاء ؛ بأن يتقى الله في أوامره ويتقي الله في نواهيه ؛ ولذلك تمر على الإنسان أحداث شتى ؛ وهي في مقاييس اليقين بين أمرين اثنين : حسنات وسيئات، وكل واحد يعلم أية حسنات قد فعل، وأية سيئات قد اقترف، ولا يغشّ أحد نفسه، فإذا ما كان حيّا فقد يجعله الأمل يكذّب نفسه، ولا يرى إلا ما فات من المغريات.
أما إذا جاءته لحظة الغرغرة٢ في الموت، فهو يستعرض كل صفحته. فإن كانت حسنة استبشر وجهه، وإن كانت سيئة اكفهرّ وجهه، ولذلك يقال :" فلان كانت، خاتمته سيئة، وفلان كانت خاتمته متهللة ". وهذا كلام صحيح ؛ لأن الروح ساعة أن تقبض فهي تترك الجسم على ما هو عليه ساعة فراقها، فإن كان ضاحكا ومستبشرا، فقد رأى بعضا مما ينتظره من خير.
والإنسان وقت الغرغرة لا يكذب على نفسه، فهو ساعة يمرض بمرض فهو يأمل في العافية، فإذا أتى وقت انتهاء الحياة تعرض عليه أعماله عرضا سريعا، فإن كانت الأعمال حسنة تنفرج أساريره ؛ لأنه يستشرف ما سوف يلقاه من جزاء.
وهذا مثل التلميذ حين يكون مجدا ومجتهدا ثم يقولون له : هناك من جاء لك بالنتيجة ؛ فيجري عليه مطمئنا. وإن كان غير مجدّ ؛ ولم يجب، ويخاف من لقاء من يحمل النتيجة.
كذلك الذين يرجون لقاء الله ؛ عملوا استعدادا لهذا اللقاء وينتظرون الجزاء من الله، أما من لم يعملوا فهم يخافون من لقاء الله ولا يرجونه وسبب ذلك أنهم لم يعملوا للآخرة ﴿ ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها ﴾ وكأنهم قد اكتفوا بها ولم يرغبوا في الآخرة. وقد سمى الله هذه الدار اسما كان يجب بمجرد أن نسمعه ننصرف عنها، فقال :﴿ بالحياة الدنيا ﴾. ولا يوجد اسم أقل من ذلك، والمقابل الحياة الدنيا هي الحياة العليا٣.
والإنسان قد يبحث في عمر الدنيا ويقول : إنها تستمر عشرة ملايين من السنين، أو مائة مليون سنة، وقد لا يلتفت إلى أن عمره هو موقوت هذه الدنيا.
إذن : فالدنيا بالنسبة لك هي مقدار عمرك فيها، لا مقدار عمرها الحقيقي إلى أن تقوم الساعة، وماذا تستفيد منها وهي تطول لغيرك ؟ إن عمر الدنيا بالنسبة للإنسان هو مقدار مكث الإنسان فيها، وهو مظنون وغير متيقن، وقد يموت وهو في بطن أمه أو يموت وهو ابن شهر، أو ابن سنة، أو بعد أن يبلغ المائة. فالذي يرضى بغير المتيقن قصير النظر.
ولذلك انظر إلى القرآن وهو يقول :﴿ أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع٤ الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل( ٣٨ ) ﴾ ( التوبة ).
وحتى إن قست عمر الدنيا من بدء الخلق إلى أن تقوم الساعة، فهي إلى فناء، وما دامت إلى فناء، فهي متاع قليل، و من يطمئن إلى هذا المتاع القليل فهو غافل ؛ لذلك ينهي الحق الآية :﴿ والذين هم عن آياتنا غافلون ﴾ عكس ما قال في الذين يعرفون قيمة العمل للآخرة.
حين يقول الحق :﴿ لآيات لقوم يتقون( ٦ ) ﴾ ( يونس ) : والغفلة٥ : هي ذهاب المعنى عن النفس، فما دام المعنى موجودا في النفس، فاليقظة توجد، والغفلة تذهب. إذن : الغفلة ذهاب المعنى عن النفس، واليقظة هي استقرار المعنى في النفس.
و نحن نعرف أن المعلومات التي يستقبلها الذهن البشري إنما تلتقطها بؤرة٦ الشعور، مثلما تلتقط آلة التصوير الفوتوغرافية أية صورة.
وإياك أن تظن أن الإنسان يعرف المعلومة من تكرارها مرتين مثلا أو أكثر ؛ لأن كل الأذهان تتفق في أنها تلتقط المعلومة من مرة واحدة، ويتميز إنسان عن آخر في قدرته على أن يستقبل المعلومة بذهن مستعد لها ؛ لأن بؤرة الشعور لا تلتقط إلا معنى واحدا، ثم يتزحزح المعنى إلى حاشية الشعور ؛ لتأتي المعلومة الثانية، فإن استقبلت المعلومة وفي بؤرة شعورك معنى آخر ؛ لا تثبت المعلومة ؛ لذلك تكرر القراءة مرة واثنتين وثلاث مرات، حتى تصادف المعلومة خلوّ بؤرة الشعور.
ومثال هذا : الطالب حين يحاول حفظ قصيدة، فلو كان ذهنه مستعدا لاستقبال القصيدة فهو يحفظها من مرة واحدة.
إذن : الذهن كآلة الفوتوغرافيا ؛ ولذلك فالحق سبحانه وتعالى يقول :﴿ ما جعل الله لرجل من قلبين٧ في جوفه... ( ٤ ) ﴾ ( الأحزاب ).
فإن كنت تريد أن تستقبل معلومة ما، فكن حريصا على أن تفرّغ ذهنك من أي معلومة ؛ لتأتي المعلومة الجديدة، فتصادف خلاء لبؤرة الشعور ؛ فتستقر فيها.
والمدرس الناجح هو الذي يلفت أذهان كل التلاميذ لما يقول، وما دامت الأذهان قد التفت إليه ؛ فلن تمر كلمة دون أن يستوعبها التلاميذ، عكس المدرس غير الناجح الذي يؤدي عمله برتابة٨ وركاكة٩ تصرف عنه التلاميذ. ونجد المدر س الناجح، وهو يلفت انتباه تلاميذه ويقطع الدرس ؛ ليسأل أي واحد منهم عمّا قال فيستمع إليه التلاميذ من بعد ذلك بانتباه ؛ لأن كل واحد منهم يتوقع أن يسأل عن المعلومة التي قيلت من قبل.
والتلميذ المجتهد هو الذي يقرأ الدرس بعقلية قادرة على مناقشة ما فيه من أساليب ومعلومات، وهو يستصحب حضور الذهن أثناء القراءة، أما التلميذ الفاشل فهو يقرأ دون يقظة أو انتباه.
مثال آخر : إن الفلاح الذي ينام على حافة بئر الساقية لا يقع في بئرها ؛ لأنه ينام وهو مستصحب لفكرة أنه إن تقلّب على جنب ما فسوف يقع في البئر١٠. وكذلك الإخوة حين ينام اثنان منهم على سرير واحد، يقوم كل واحد منهما في الصباح وهو مستصحب أن هناك آخر بجانبه، ولكن إذا نام كل منهما في سرير منفصل، فهو يستيقظ ليجد رأسه في ناحية وساقيه في ناحية أخرى، وتسمى هذه العملية الاستصحاب واليقظة، ويقال : " فلان يقظ "، وكلمة " يقظ " ضد " نائم " ١١، لأن اليقظان يحتفظ بالوعي والانتباه.
إذن : فالغفلة هي ذهاب المعنى من النفس وانطماسه، والذين يمرون بالآيات وهم غافلون عنها لن ينتفعوا بشيء من هذه الآيات، ثم تأتي لهم محصلة غفلتهم في الآخرة.
ويقول الحق سبحانه عنهم :﴿ أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون( ٨ ) ﴾ :
١ الرجاء: الأمل المتوقع قربا، ضد اليأس. رجاه، من باب نصريرجوه رجوا ورجاء: توقعه مع إرادته إياه وسروره به، أو مع خوفه منه، ويستعمل الرجاء بمعنى الخوف، قاتل تعالى:﴿ما لكم لا ترجون لله وقارا (١٣)﴾ (نوح) وقوله تعالى:﴿إن الذين لا يرجون لقاءنا...(٧)﴾ (يونس) أي: لا يخافون لقاءنا أو لا يأملون بقاءنا، فيعملون علة تهيئة نفوسهم لهذا اللقاء العظيم بالعمل الصالح، والرجا: الناحية وجمعه أرجاء. قال تعالى:﴿والملك على أرجائها (١٧)﴾ (الحاقة).
٢ الغرغرة: تردد الروح في الحلق(اللسان: مادة (غرر) ولحظات الغرغرة ووصول الروح إلى الحلق هي التي ينقطع عندها قبول التوبة، فعن عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر" أخرجه أحمد في مسنده (٢/١٣٢) والترمذي في سننه (٣٥٣٧) وقال: حديث حسن غريب، والحاكم في مستدركه (٤/٢٥٧) وصححه وافقه الذهبي وابن حبان (٢٤٤٩موارد الظمآن)..
٣ عن المستورد بن شداد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"والله ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بم يرجع؟" أخرجه مسلم في صحيحه (٢٨٥٨) وأحمد في مسنده (٤/ ٢٢٩، ٢٣٠) والترمذي في سننه (٢٣٢٣) وقال: حديث حسن صحيح..
٤ ذكر الله تعالى المتاع، والإستمتاع، والتمتيع في مواضع من كتابه الكريم، ومعانيها وإن اختلفت راجعة إلى أصل واحد. والمتاع: هو كل شيء ينتفع به ويتبلغ ويتزود، والفناء يأتي عليه في الدنيا. قال تعالى:﴿قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى(٧٧)﴾ (النساء) وقال تعالى:﴿توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى(٣)﴾ (هود) وقال تعالى:﴿قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده (٧٩)﴾ (يوسف) وقال تعالى:﴿ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم قالوا يا أبانا ما نبغي هذه بضاعتنا ردت إلينا (٦٥)﴾ (يوسف) وقال تعالى:﴿ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم (١٠٢) (النساء) وقال تعالى:{فمن تمتع بالعمرة إلى الحج (١٩٦) (البقرةà (اللسان: مادة (متع)... بتصرف).
٥ أغفلت الشيء: تركته غفلا وأنت له ذاكرا. قال تعالى:{وكانوا عنها غافلين(١٣٦)﴾ (الأعراف) أي: أنهم كانوا في تركهم الإيمان بالله والنظر فيه والتدبر له بمنزلة الغافلين، أو أنهم كانوا عما يراد وبهم من الإثابة عليه غافلين (اللسان: مادة(غفل).

٦ بؤرة الشعور: مراكز الشعور والإحساس والإدراك في المخ. وبؤرة كل شيء مركزه. (المعجم الوسيط: مادة (بأر)... بتصرف).
٧ ويعبر عن القلب المفكر، ويستعمله القرآن بمعنى العقل كثيرا لقوله تعالى:﴿أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها (٢٤)﴾ (محمد) وقال:﴿لهم قلوب لا يفقهون بها (١٧٩)﴾ (الأعراف أي: عقول، والقلب يرفض الثنائية في الفكر، ومن هنا تتكون بؤرة الشعور في القائل الموجود والفكر الواحد..
٨ الرتابة: السير أو النهج على نظام واحد لا يتغير (اللسان، مادة: رتب).
٩ الركاكة: الضعف في اللفظ والأسلوب..
١٠ وقد ورد نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النوم على ظهر بيت ليس له حجار (أي: سور يمنع سقوطه من على سطح البيت) فعن علي بن شيبان قال قال صلى الله عليه وسلم:"من بات ليس له حجار فقد برئت منه الذمة" أخرجه أبو داود في سننه (٥٠٤١) نحو عند أحمد في مسنده (٥/٧٩، ٢٧١)..
١١ اليقظة: نقيض النوم، وقد تكون ضد الغفلة وعدم الفطنة، ويقال: رجل يقظ ويقظ إذا كان متيقظا فيه معرفة وفطنة..
وأنت تقول :" أويت١ إلى كذا "، إذا كان هذا هو المكان الذي يعصمك من شيء٢، وهنا يقول الحق :﴿ مأواهم النار ﴾ فإذا كان ذلك هو المأوى، فلا بد أن ما خارجها بالنسبة لهم أشد عذابا. وهم يأوون إلى النار ﴿ بما كانوا يكسبون ﴾ أي : بسبب ما كانوا يعملون من ذنوب وسيئات.
١ أويت: عذت، والمأوى اسم مكان (مفعل) من أوى يأوي، والمأوى: المنزل، والمكان. أي: أن مكانهم ومنزلهم واستقرارهم يكون في النار، لقاء ما فعلوا من الذنب والآثام وغفلتهم عن الحق وآياته البينات (اللسان: مادة (أ وا)... بتصرف)..
٢ ومثال هذا قول توح عليه السلام عندما عم الطوفان الأرض:﴿سآوي إلى جبل يعصمني من الماء (٤٣)﴾ (هود).
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم ( ٩ ) ﴾ :
هنا يتحدث الحق سبحانه عن المقابل، وهم الذين آمنوا، ويعلمنا أنه سبحانه :﴿ يهديهم ربهم بإيمانهم ﴾.
و الهداية –كما قلنا من قبل- معناها الدلالة على الخير، بالمنهج الذي أرسله الحق سبحانه لنا، و به بين الحق السبل أمام المؤمن والكافر، أما الذي يقبل على الله بإيمان فيعطيه الحق سبحانه وتعالى هداية و أخرى ؛ بأن يخفف أعباء الطاعة على نفسه، ويزيده سبحانه هدى بالمعروف ؛ لذلك قال سبحانه :﴿ واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين١ ( ٤٥ ) ﴾ ( البقرة ).
وهكذا يتلقى المؤمن مشتقات الطاعة بحب ؛ فيهوّنها الحق سبحانه عليه ويجعله يدرك لذة هذه الطاعة ؛ لتهون عليه شقتها، ويمده سبحانه أيضا بالمعونة.
يقول الحق سبحانه :﴿ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم٢ : وما دام قد آمنوا ؛ فسبحانه ينزل لهم الحكام التي تفيدهم في حياتهم وتنفعهم في آخرتهم، أو أن الهداية لا تكون في الدنيا بل في الآخرة، فما داموا قد آمنوا، فهم قد أخذوا المنهج من الله سبحانه وتعالى وعملوا الأعمال الصالحة، ويهديهم الحق سبحانه إلى طريق الجنة.
ولذلك يقول الحق سبحانه :﴿ يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم... ( ١٢ ) ﴾ ( الحديد )، ويقول سبحانه :﴿ والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا... ( ٨ ) ﴾ ( التحريم ) : أي : أن نورهم يضيء أمامهم. أما المنافقون فيقولون للذين آمنوا :﴿ انظرونا نقتبس٣ من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا٤ نورا... ( ١٣ ) ﴾ ( الحديد ) : أي : أن هذا ليس وقت التماس النور، فالوقت-لالتماس النور- كان في الدنيا ؛ باتباع المنهج والقيام بالصالح مكن الأعمال.
إذن : فالحق سبحانه يهدي للمؤمنين نورا فوق نورهم في الآخرة.
والآية تحتمل الهداية في الدنيا، وتحتمل الهداية في الآخرة.
ويصف الحق سبحانه حال المؤمنين في الآخرة فيقول :﴿ تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم( ٩ ) ﴾ ( يونس ).
وقلنا : إن الجنة على حوافّ الأنهار ؛ لأن الخضرة أصلها من الماء. وكلما رأيت مجرى للماء لا بد أن تجد خضرة، والجنات ليست هي البيوت، بدليل قول الحق سبحانه :
﴿ ومساكن طيبة في جنات عدن٥.... ( ( ٧٢ ) ﴾ ( التوبة )، ونجد الحق سبحانه يقول مرة :
﴿ تجري تحتها الأنهار... ( ١٠٠ ) ﴾ ( التوبة )، ويقول سبحانه في مواضع أخرى٦ :﴿ تجري من تحتها الأنهار... ( ٢٥ ) ﴾ ( البقرة ).
والحق سبحانه يعطينا صورة متعددة عن الماء الذي لا ينقطع، فهي مياه ذاتية الوجود في الجنة لا تنقطع أبدا.
١ قال الإمام أبو حامد الغزالي في كتابه "إحياء علوم الدين" (١/١٧١):" الخشوع ثمرة الإيمان، ونتيجة اليقين الحاصل بجلال الله عز وجل، ومن رزق ذلك فإنه يكون خاشعا في الصلاة، وفي غير الصلاة بل في خلوته، وفي بيت المال عند الحاجة، فإن موجب الخشوع معرفة الله تعالى على العبد ومعرفة جلاله ومعرفة تقصير العبد، فمن هذه المعارف يتولد الخشوع وليست مختصة بالصلاة" يشير الشيخ إلى أن القرآن هداية، والرسول بسنته دليلها، والله المعين عليها، والوصول للمعية هو عين القرب من الله..
٢ الباء في ﴿بإيمانهم﴾ تحتمل وجهين:
أن تكون سببية، أي: بسبب إيمانهم في الدنيا يهديهم الله يوم القيامة على الصراط المستقيم حتى يجوزه ويخلصوه إلى الجنة.
أن تكون للاستعانة، أي: أن يصبح إيمانهم نورا يمشون به على الصراط. انظر تفسير القرطبي (٤/٣٢٣٨) وابن كثير (٢/٤٠٨)..

٣ نقتبس: نأخذ. قال تعالى حكاية عن موسى عليه السلام:﴿لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى (١٠)﴾ (طه) وقال:﴿سآتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون (٧)﴾ (النمل) والقبس: النار واقتباسها: الأخذ منها. والاقتباس من نور أهل الجنة دليل على شدة هذا النور وقوته (اللسان: مادة (قبس)... بتصرف).
٤ التمسوا: اطلبوا. والتمس الشيء وتلمسه": طلبه (اللسان: مادة (لمس).
٥ عدن فلان بالمكان يعدن عدنا وعدنا: أقام. ومركز كل شيء معدنه، وجنات عدن: أي: جنات إقامة دائمة بمكان الخلد. قال تعالى:﴿جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها (٧٦)﴾ (طه).
٦ ورد قوله تعالى:﴿تجري من تحتها ألأنهار﴾ ٣٥ مرة في القرآن، وقد وردت مرة واحدة ﴿تجري تحتها الأنهار﴾..
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ( ١٠ ﴾.
دعواهم : أي دعاؤهم.
وهل الآخرة دار تكليف ؛ حتى يواصلوا عبادة الله ؟ لا. لكنها عبادة الإلتذاذ، وهم كلّما رأوا شيئا يقولون : لقد أكلنا ذلك من قبل، ولكنهم يعرفون حين يأكلون ثمار الجنة أن ما في الأرض كان يشبه تلك الثمار، لكنه ليس مثلها.
﴿ قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأوتوا به متشابها... ( ٢٥ ) ﴾ ( البقرة ).
أو يقولون :﴿ سبحانك اللهم ﴾ اعترافا بالنعمة، وأنت حين ترى شيئا يعجبك تقول : سبحانك يا رب. وبعد أن تأتي لك النعمة وتقول : سبحان الله، وتفاجأ بأشياء لم تكن في الحسبان-من فرط جمالها ؛ فتقول : الحمد لله١.
إذن : فأنت تستقبل النعمة " سبحان الله "، وتنتهي من النعمة " بالحمد لله ". ولذلك يقول الحق سبحانه :﴿ وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ﴾ والذي يجعل الحياة الدنيا معنى، ويجعل لها طعما ويجعل لها استقرار، أن يكون الإنسان في سلام، ومعنى السلام : الاطمئنان والرضا ؛ فلا مهيّجات، ولا معكّرات، ولا يأتي ذلك بعدم اصطدام في ملكات النفس ؛ فيتحقق سلام الإنسان مع نفسه، وسلام الإنسان مع أهله، وهذا هو المحيط الثاني، وسلام الإنسان مع قومه، وسلام الإنسان مع العالم كله، كل ذلك اسمه سلام، أي : لا منغّص، لا من نفسه، ولا من أهله ولا قومه من العالم. وكلما اتسعت وقعة السلام زاد إحساس الإنسان بالاطمئنان.
وحين يقول الحق سبحانه :﴿ وتحيتهم فيها سلام ﴾، فالسلام وارد في أشياء متعددة، والحق سبحانه يقول :﴿ إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون٢( ٥٥ ) هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك٣ متكئون ( ٥٦ ) لهم فيها فاكهة ولم ما يدعو ن( ٥٧ ) سلام قولا من رب رحيم ( ٥٨ ) ﴾ ( يس ) : وهذا هو السلام الذي له معنى ؛ فهو سلام من الله. ولم يقل سبحانه : " سلام يورثك ونفسا راضية " فقط، بل هو سلام بالقول من الله، وانظر أي سعادة حين يخاطبك الحق سبحانه وتعالى مباشرة. وهناك فرق وبين أن يشيع الله فيك السلام وبين أن يحييك كلامه بالسلام. وهذا هو السبب في قوله :﴿ سلام قولا من رب رحيم ( ٥٨ ) ﴾ ( يس ) : وهذا سلام الله، ثم من بعد هذه المنزلة يأتي سلام الملائكة :﴿ والملائكة يدخلون عليهم من كل باب( ٢٣ ) سلام عليكم... ( ٢٤ ) ﴾ ( الرعد ) : إذن : فقول الحق هنا :﴿ وتحيتهم فيها سلام ﴾ نجد فيه كلمة السلام رمز الرضا والاستقرار في الجنة ؛ فالسلام هو أول الأحاسيس التي تحبها في نفسك، ولو كانت الناس كلها ضدك. لكنك ساعة تستقر فأنت تسأل نفسك : ماذا فعلت ليكون البعض ضدى ؟ وحين تجيب نفسك : " إنني لم أفعل إلا الخير " ؛ فأنت تحس السلام في نفسك. وإذا رحّب الآخرون بما تفعل، فالحياة تسير، بلا ضدّ ولا حقد، وهذا ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة " ٤ " فيدخل رجل عرفه القوم فلما انصرف ؛ قام واحد من الصحابة٥، وذهب إلى رجل ؛ ليعلم ماذا يصنع، وسأله : ماذا تفعل حتى يبشرّك الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة ؟ فوجد سلوك الرجل مستقيما ومتبعا للمنهج دون زيادة، فسأله الصحابي : لماذا-إذن- بشّرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة ؟
قال الرجل : والله لأصلي كما تصلون، وأصوم كما تصومون، وأزكي كما تزكون، ولكني أبيت وما في قلبي غلّ أحد.
هذا هو السلام النفسي، وإذا وصل الإنسان إلى السلام مع النفس ؛ فلا تضيره الدنيا إن قامت، وبعد ذلك يضمن أن يوجد سلامه مع الله تعالى. ومن عنده سلام مع نفسه، ومع بيئته ومع مجتمعه ؛ فهو ينال سلاما من الله سبحانه. ويقول لنا القرآن عن الذين يعانون من مأزق في الآخرة :{ يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه٦ فمنهم شقي وسعيد ( ١٠٥ ) ( هود ) :
هؤلاء هم الذين شقوا في النار، أما الذين سعدوا في الجنة، فماذا عن حال الذين لا هم شقوا ولا هم سعدوا-وهم أهل الأعراف ؛ لأن الموقف يوم القيامة ينقسم الناس فيه إلى ثلاثة أقسام ؛ قال الله سبحانه :﴿ فأما من ثقلت موازينه ( ٦ ) فهو في عيشة راضية( ٧ ) وأما من خفت موازينه ( ٨ ) فأمه هاوية٧ ( ٩ ) ﴾ ( القارعة )، ولم يقل الحق سبحانه لنا أمر الذين تساوت الكتفان لهم أثناء الحساب ؛ لأنه سبحانه قال في حديث قدسي :﴿ إن رحمة غلبت غضي " ٨. ﴾. ويبين لنا الحق سبحانه رحمته فيقول :
﴿ ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا قالوا نعم فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين( ٤٤ ) ﴾ ( الأعراف )، ويأتي أمر رجال الأعراف فيقول سبحانه :﴿ وعلى الأعراف٩ رجال يعرفون كلا بسيماهم١٠... ( ٤٦ ) ﴾ ( الأعراف ) : لقد عرفوا المؤمنين بسيماهم، وعرفوا الكفار بسيماهم، وجلس البعض على الأعراف ؛ ينتظرون وينظرون لأهل الجنة قائلين :﴿ سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون ( ٤٦ ) ﴾ ( الأعراف ).
ثم يعطينا الحق سبحانه صورة ثانية فيقول :﴿ ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرمها على الكافرين( ٥٠ ) ﴾ ( الأعراف ).
أهل الأعراف-إذن- يسعدون بعطاء الله لأهل الجنة، ويطمعون أن يغفر الله-سبحانه وتعالى-لهم.
ونحن في حياتنا نسمع المشرفين على المساجين أو المحكوم عليهم بالإعدام يقولون : قبل أن يحكم على المجرم بالإعدام ينخفض وزنه، ثم يزيد بعد الحكم ؛ أن الأمر استقر. والذين يشغلون بأن يعرفوا مكانهم في الآخرة، أهو في الجنة أو في النار، لا ينسون لأن يقولوا للمؤمنين.
﴿ أن سلام عليكم... ( ٤٦ ) ﴾ ( الأعراف ) : وهنا يقول الحق سبحانه عن أهل الجنة :﴿ وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ﴾ وقد تكون آخر دعواهم، أي : آخر كلمة.
فالواحد منهم يقول : أنا حمدت ربنا على الشيء الفلاني. وآخر حمد هو قمة الحمد ؛ لأنهم حمدوا الله على النعمة في الدنيا التي تزول، ويحمدونه في الآخرة على النعمة التي لا تزول، فلئن يوجد حمد على النعمة التي لا تزول فهو قمة الحمد١١.
١ إن استقبال النعمة ب (سبحان الله) كلمة إعجاب لجمال يقودك إلى التنزيه والتوحيد والتفريد فتنطق بالتوحيد جمالا وجلالا وتنزيها، وعند تمام النعمة يكون النطق تلقائيا﴿أن الحمد لله رب العالمين (١٠)﴾ (يونس) فأوى الشيء إعجاب بتنزيه وآخر حمد بيقين..
٢ فاكهون: ناعمون معجبون بما هم من نعيم الجنة. قال تعالى:﴿فاكهين بما آتاهم ربهم(١٨)﴾ (الطور).
٣ الأرائك: السرر أو الفرش والأريكة السرير في الحجلة من دون ستر. أو هي كل ما اتكئ عليه من سرير أو فراش أو منصة. قال تعالى:﴿متكئين على الأرائك نعم الثواب وحسنت مرتفقا (٣١)﴾ (الكهف) (اللسان: مادة (أرك).. بتصرف).
٤ وتمام هذا الحديث أن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنا جلوسا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة. فطلع رجل من الأنصار تن'ف لحيته تقطر من ضوئه قد تعلق نعمه في يده الشمال. فلما كان الغد قال النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى، فلما كان اليوم الثالث قال النبي صلى الله عليه وسلم مثال مقالته أيضا، فطلع ذلك الرجل على مثل حاله الأولى، فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم تبعه عبد الله بن عمرو بن العاص فقال: إني لاحيت (خاصمت) أبي، فأقسمت ألا أدخل عليه ثلاثا، فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي فعلت. قال: نعم. قال أنس: وكان عبد الله يحدث أنه بات معه تلك الليالي الثلاث فلم يره يقوم من الليل شيئا غير أنه إذا تعار"استيقظ" وتقلب على فراشه ذكر الله عز وجل وكبر حتى يقوم لصلاة الفجر. قال عبد الله: غير أني لم أسمعه يقول إلا خيرا، لما مضت الثلاث ليال وكدت أن أحتقر عمله. قلت: يا عبد الله إني لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجر ثم، ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لك ثلاث مرار: يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة، فطلعت أنت الثلاث مرار، فأردت أن آوي إليك لأنظر، ما عملك فأقتدي به، فلم أرك تعمل كثير عمل، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما هو إلا ما رأيت؟ قال: فلما وليت دعاني. فقال: ما هو إلا ما رأيت غير أني أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشا، ولا أحسد أحدا على خير أعطاه الله إياه. فقال عبد الله: هذه التي بلغت بك وهي التي لا نطيق... أخرجه أحمد في مسنده (٣/١٦٦) وابن المبارك في الزهد (٦٩٤).
٥ هو: عبد الله بن عم رو بن العاص، صحابي من أهل مكة، كان يكتب في الجاهلية، ويحسن اللغة السريانية، وأسلم قبل أبيه، ولد ٧ق هـ وتوفي ٦٥هـ. كان كثير العبادة، وقتال الأعداء وكان مشهورا أنه يضرب بسيفين (الأعلام للزركلي ٤/١١١)..
٦ قو له تعالى هنا:﴿بإذنه﴾ مقيد لقوله تعالى:﴿يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها...(١١١)﴾ (النحل)، فليس لنفس أن تتكلم أو تجادل عن نفسها إلا بإذن الله ولا ينافي ذلك قوله تعالى:﴿هذا يوم لا ينطقون (٣٥) ولا يؤذن لهم فيعتذرون(٣٦)﴾ (المرسلات)، لأن في يوم القيامة مواقف، ففي بعضها لا يؤذن لهم في الكلام، فيكفون عنه، وفي بعضها يؤذن لهم فيه، فيتكلمون. قاله أبو يحيى الأنصاري في كتابه (فتح الرحمان بكشف ما يلتبس في القرآن) ص ١٩٣، ١٩٤..
٧ ثقلت موازينه: رجحت حسناته على سيئاته
في عيشة راضية: في الجنة. فإذا كانت العيشة راضية المعاش لها مرضي عنه.
خفت موازينه: رجحت سيئاته على حسناته.
﴿فأمه هاوية﴾ ساقط بأم رأسه في نار جهنم، وعبر عنه بأمه يعني: دماغه...

٨ أخرجه البخاري في صحيحه (٣١٩٤) ومسلم في صحيحه (٢٧٥١) وتمامه: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لما قضى الله الخلق كتب في كتابه، فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي غلبت غضبي" وفي بعض روايات الحديث: تغلب، سبقت..
٩ الأعراف في اللغة: جمع عرف، وهو كل عال مرتفع؛ قال الزجّاج: الأعراف أعالي السور.
والأعراف: أعالي سور بين أهل الجنة وأهل النار. وقيل عن أصحاب الأعراف: هم قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم فلم يستحقوا الجنة بالحسنات، ولا النار بالسيئات، فكانوا على الحجاب الذي بين الجنة والنار(اللسان: مادة(عرف)... بتصرف).

١٠ السّيماء: العلامة يعرف بها الخير والشر. ومنه قوله تعالى:﴿سيماهم في وجوههم من أثر السجود(٢٩)﴾ (الفتح) وقوله:﴿تعرفهم بسيماهم ولا يسألون الناس إلحافا(٢٧٣)﴾ (البقرة) هذا في أهل الخير والفضل، أما الأشرار فقال تعالى عنهم:﴿يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام(٤١)﴾ (الرحمان).
١١ الحمد على الإيجاد، والحمد على الإمداد في الدنيا، والحمد على نعمة البقاء في دار الخلود وهي قمة الحمد..
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم فنذر١ الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم يعمهون٢( ١١ ) ﴾ :
وهذه الآية تتناول قضية عقدية قد تكون شغل الناس الشاغل في الدعاء لله تعالى، وقد لا يجاب دعاؤهم مع كثرة الدعاء، ويحزنهم على أنفسهم، ويقول الواحد منهم : لماذا لا يقبل الله دعائي ؟ أو يقع بعضهم في اليأس.
ونقول لكل إنسان من هذا الفريق : لا، أنت تدعوا، مرة تدعو بالشر ومرة تدعو بالخير، فلو أن الله سبحانه وتعالى قد أجابك في جميع الدعاء، فسوف يجيب دعاءك في الشر ودعاءك في الخير، ولو أن الله سبحانه وتعالى عجّل لك دعاء الشر، كما تحب أن يعجّل لك دعاء الخير، لقضي إليك أجلك وانتهت المسألة، وهناك من قالوا٣ :﴿ اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم( ٣٢ ) ﴾ ( الأنفال ). ولو استجاب الحق لمثل هذا الدعاء، لكان وبالا على من دعوا ذلك الدعاء.
إذن : فمن مصلحتك حين تدعو على نفسك٤ أو تدعو بأي وبال ألا يجيبك الله تعالى، وافهم أن لله تعالى حكمة في الإجابة ؛ لأنه سبحانه وتعالى منزّه عن أن يكون موظفا عند الخلق، ومن يدعه بشيء يجبه عليه، لا بد من مشيئته سبحانه في تقرير لون الإجابة ؛ لأنه لو كان الأمر عكس ذلك لانتقلت الألوهية للعبد.
لقد صان الحق سبحانه عباده بوضع رقابة على الدعاء ؛ وأنت تعتقد أن دعاءك بخير، ولكن رقابة الحق سبحانه التي تعلم كل شيء أزلا٥ تكاد أن تقول لك : لا، ليس خيرا. وانتظر الخير بعدم استجابة دعائك ؛ لأنه القائل سبحانه :﴿ وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم... ( ٢١٦ ) ﴾ ( البقرة ).
إذن : فمعرفتك ليست نهاية في تقرير الخير والشر ؛ لذلك دع الإله الأعلى-وهو المأمون عليك- أن يستجيب أو لا يستجيب لما تدعوه وأنت في ظنك أنه الخير، فالمعرفة العليا هي التي تفرق بين الخير والشر، وفي المنع-أحيانا-عين العطاء٦ ؛ ولذلك يقول الحق :﴿ ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا( ١١ ) ﴾ ( الإسراء ).
وقد تلحّ في دعاء لو استجيب لك ؛ لكان شرا. والله سبحانه يعلم ما هو الخير لك، وهو سبحانه يجيب أحيانا بعض خلقه في أشياء كان الإنسان منهم يتمنى أن توجد، ثم يكشف الإنسان أنها لم تكن خيرا. وأحيانا يأتي لك بأشياء كنت تظن أنها شر لك، فتجد فيها الخير. وهكذا يصحح لك الحق سبحانه بحكمته تصرفاتك الإختيارية.
وقد قال الكافرون٧ لرسول الله صلى الله عليه وسلم :﴿ اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ( ( ٣٢ ) ﴾ ( الأنفال ).
ومن قالوا هذا القول هم : العاص بن وائل السهمي، الوليد بن المغيرة، والأسود بن عبد المطلب و الأسود بن عبد المطلب والأسود بن عبد يهود، وكانوا قد وصلوا إلى قمة الاضطراب ؛ فهم قد اضطربوا أولا حين اتهموه بأنه ساحر، ولم ينتبهوا إلى غباء ما يقولون، لأنه إن كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم قدرة السحرة ؛ فلماذا لم يسحرهم هم ليؤمنوا أيضا ؟
واضطربوا مر ة ثانية، حاولوا أن يقولوا : إن القرآن سعر، أو له طبيعة الشعر والكلام المسجوع، والقرآن ليس كذلك. ولو أن جماعة غيرهم قالت مثل هذا القول لكان لهم عذرهم لأنهم ليسوا أهل لغة، أما هؤلاء فهم قوم أهل دربة على الفصاحة والبلاغة، وكانوا يعتقدون أسواق الشعر والخطابة، ثم اضطربوا مرة ثالثة، وحاولوا الطعن في مكانة محمد صلى الله عليه وسلم وهم يقرّون بعظمة القرآن، فقالوا :﴿ لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين٨ عظيم ( ٣١ ) ﴾ ( الزخرف ) :
والحق سبحانه وتعالى حينما يتعرض لحادثة وقعت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم مع الكافرين ؛ لا يقتصر في الحدث على ما وقع، ولكنه يعالج قضية عامة كونية أن تقوم الساعة، ويجعل الحدث الحاصل في زمنه سببا فقط ؛ ليعطي عموم الحكم في كل زمان وفي كل مكان. وإلا اقتصر الأمر على معالجة حدث وقع لشخص الحدث وشخص الحكم في القوم الموجودين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد جاء القرآن للناس كافة، وجاء للزمان عامة، فلا بد أن تكون القضية المعروفة-أي قضية- أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوم عاصروه لها سبب خاص، ولكن العبرة بعموم الموضوع لا بخصوص السبب.
ويعالج الله سبحانه وتعالى في هذه المسألة الشخصية من هؤلاء الذين قالوا ذلك قضية كونية ستظل إلى أن تقوم الساعة.
فقد دعوا على أنفسهم :﴿ وإن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم( ٣٢ ) ﴾ ( الأعراف ). كما قال عاد لهود :﴿ أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين( ٧٠ ) ﴾ ( الأعراف ). إذن : هم قد دعوا بشر على أنفسهم.
ويعالج الله قضية الدعاء بالخير أو الدعاء بالشّر، لأن الإنسان قد يضيق ذرعا٩ بأمور تحيط بذاته أو بالمحيط به ؛ فإذا ضاق ذرعا بأمور تحيط به في ذاته من ألم كمرض-مثلا، أو عاهة لا يقوى على الصبر عليها، أو لا يقو ى على تحملها ؛ فيقول :" يا رب، أرحني يا رب "، وهو هنا يدعو على نفسه بالموت. فلو أن الله سبحانه وتعالى استجاب دعاءه لقضيت المسألة.
ولكن الله هو الحكيم العزيز، لا يأتمر بأمر أحد من خلقه، ولا يعجل بعجلة العباد، وكما يؤجل لك استجابة لدعوة الخير منك، فهو يؤجل أيضا إجابتك لدعوة الشر منك على نفسك ؛ وفي ذلك رحمة منه سبحانه.
وإذا كنت تقول : أنا أدعو بالخير، والله سبحانه وتعالى لا يعطيني، فخذ مقابلها : أنك تدعو بالشرّ على نفسك، ولا يجيبك الله. ثم ألا يضيق الأب أحيانا ذرعا بمن حوله، فيقول : فليأخذني الله، لأستريح من وجوهكم ؟ هب أن الله سبحانه جابه إلى هذه الدعوة، فماذا يكون الموقف ؟ وقد تجد من يقول : يا رب أصبني بالعمى فلا أراهم، أو تدعو المرأة على نفسها أو على أولادها.
وأنتم تحبون أن يجيب الله تعالى دعاءكم، فلو كان يجيبكم على دعاء الشرّ لانتهت حياتكم إلى الفزع مثل هذه الأم التي تدعو بالمقتضيات فتقول لولدها-مثلا :" ربنا يسقيني نارك " فتطلب السّقيا بالنار، رغم أن السقيا للرىّ، والنار للحرارة.
إذن : قد يضيق الإنسان ذرعا بنفسه، أو يضيق ذرعا بمن حوله ؛ فيدعو على نفسه بالشرّ، وحين يدعو الإنسان فيجب عليه أن ينزّه الحق سبحانه وتعالى عن أن ينفد ما يدعو العبد به دون أن يمر الدعاء على حكمته سبحانه وتعالى.
﴿ ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم١٠بالخير لقضي إليهم أجلهم ﴾، فكلما قبلتم أن يؤجل الله تعالى لكم دعاء الشر على أنفسكم ؛ فاقبلوا منه تأجيل دعائكم بالخير ؛ لأن الخير فيما تطلبون غير الخير فيما يعلم الله ؛ فهو العلم الخبير. وقد تطلب خيرا تعلمه ولمن الله يعلم فيه شرا ؛ فمن مصلحتك ألا يجيبك. وكما تحترم عدم إجابته في الشر نفسه، أو على من تحب، فاحترم عدم إجابته لك فيما تظنه خيرا لك، أو من لمن تحب ؛ لأن الله لا يعجل بعجلة عباده ؛ لأنه سبحانه هو الذي خلقهم، وهو أعلم بهم، فهو القائل :﴿ خلق الإنسان من عجل١١... ( ٣٧ ) ﴾ ( الأنبياء )، وهو سبحانه القائل :﴿ سأريكم آياتي فلا تستعجلون ( ٣٧ ) ﴾ ( الأنبياء )، والحق سبحانه لو استجاب لهؤلاء الذين دعوا :﴿ اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة... ( ٣٢ ) ﴾ ( الأنفال ) : لكانت نهايتهم بجنس ما دعوا به، وقضي عليهم، ثن انتهوا بعد ذلك إلى عذاب الجحيم.
ولن الحق سبحانه شاء لهم البقاء ؛ ليؤمن من يختار الإيمان، وأما من اختار الكفر ؛ فعليه أن يتحمّل تبعة١٢ الطغيان التي تتمثل في أن الواحد منهم لا يختار الكفر فقط، بل يتجاوز الحد، ويطلب ممن آمن أن يرتد عن إيمانه، وفي ذلك مجاوزة للحد ؛ ولذلك فهم يعمهون في هذا الطغيان، أي : تتكاثر عليهم الظروف، ويثبت-لهم ولمن بعدهم- عجز الكفر عن مواجهة قدرة الحق.
وفي الحياة أمثلة-ولله المثل الأعلى- فهناك من يملك عدوه، فيضربه ؛ لكنه لا يقتله، ثم يتكرر من هذا الخصم الإساءة، فيضربه من جديد، ثم تتكرر الإساءة فيضربه، وهو لا يقتله أبدا ليداوم على إذلاله، والقوىّ لا يقتل خصمه، بل يؤلمه ؛ فلا يرفع الخصم رأسه.
والحق سبحانه يقول :﴿ فنذر الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم يعمهون ﴾ : أي : أن الحق سبحانه يترك أهل الباطل ؛ لتتجمع عليهم سيئاتهم، ويذوقون ويل١٣ خصومة الإسلام فلا يرفعون رءوسهم ؛ لأن أهل الإسلام يردّون لهم الإساءة مضاعفة، ولسوف ييأس أهل الباطل من أنهم سينتصرون على الحق بأي شكل وبأي لون. وهم مهما تحايلوا في أساليب النكاية١٤ في الإسلام، تجد الحق سبحانه وتعالى ينصر المسلمين.
والمثل أمامنا من سيرته حين أمره الحق سبحانه بأن يهاجر، وكان الكفار يحاصرون بيته بشباب من القبائل، فخرج صلى الله عليه وسلم ولم يشعروا، وقال صلى الله عليه وسلم :" شاهت١٥ الوجوه ".
وشاء سبحانه ذلك ؛ ليعلموا أنهم لن يستطيعوا الانتصار على محمد صلى الله عليه وسلم، لا بالمواجهة، ولا بتبييت المكر.
١ نذر: نترك. قال تعالى:﴿وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا(٢٦)﴾ (نوح) (اللسان: مادة (وذر)... بتصرف)
طغيانهم: مجاوزتهم الحد في الظلم والكفر والعصيان. قال تعالى:﴿ويمدهم في طغيانهم (١٥) (البقرة).
٢ يعمهون: العمة، التحير والتردد في الضلال، والعمة يكون في الرأي، والعمي يكون في الصبر. قال ابن الأثير: العمه في البصيرة كالعمى في البصر. قال تعالى:{إن الذين لا يؤمنون بالآخرة رينا لهم أعمالهم فهم يعمهون(٤)﴾ (النمل).

٣ هم بعض كفار قريش، قيل إنه أبو جهل، وقيل: هو النضر بن الحارث بن كلدة. ودعاؤهم هذا دليل سفه وجهل وشدة عناد وتكذيب. وكان الأولى بهم أن يقولوا: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأهدنا له ووفقنا لإتباعه. وهؤلاء قال عنهم رب العزة:﴿ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون(٥٣)﴾ (العنكبوت)، وجعل الله تأخير العذاب عنهم فضيلة من فضائل رسول الله صلى الله عليه وسلم على قومه فقال سبحانه:﴿وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون (٣٣)﴾ (الأنفال).
٤ ثبت في صحيح مسلم النهي عن الدعاء على النفس والأولاد والأموال، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: سرنا مع رسول الله صلى اله عليه وسلم في غزوة بطن بواط وهو يطلب المجدي بن عمرو الجهني، وكان الناضح يعتقبه منا الخمسة والستة والسبعة، فدارت عقبة رجل من الأنصار على ناضح له فأناخه فركبه ثم بعثه فتلدن عليه بعض التلدان فقال له: شألعنك الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من هذا اللاعن بعيره؟ قال: أنا يا رسول الله. قال: "انزل عنه فلا تصحبنا بملعون على أنفسكم، لا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم، ولا توافقوا من الله ساعة يسأل عطاء فيستجيب لكم" أخرجه مسلم (٣٠٠٩).
٥ الأزل: القدم: قال أبو منصور: ومنه قولهم: هذا شيء أزلي أي: قديم..
٦ عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها مأثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه إحدى ثلاث: إما أن يستجيب له دعوته، أو يصرف عنه السوء مثلها، أو يدخر له من الأجر مثلها. قالوا: يا رسول الله... إذن: نكثر. قال: أكثر. أخرجه الحاكم في مستدركه (١/٤٦٣) وقال:" هذا حديث صحيح الإسناد" وأقره الذهبي فير التخليص. ومن قال الشيخ: المنع عين العطاء وقد يكون العطاء نقمة..
٧ عن أنس بن مالك قال: قال أبو جهل:﴿اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم(٣٢)﴾ (الأنفال) فنزلت:﴿وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون(٣٣)﴾ (الأنفال) أخرجه البخاري في صحيحه (٤٦٤٨) وكذا مسلم (٢٧٩٦). وقال ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري بشرح صحيح البخاري" (٨/٣٠٩): "قوله" قال أبو جهل" ظاهر في أنه القائل ذلك، وإن كان هذا القول نسب إلى جماعة فلعله بدأ به ورضي الباقون فنسب إليهم، ولكن نسبته إلى أبي جهل أولى".
٨ القريتان المقصودتان هنا: مكة والطائف. وقد اختلف العلماء فيء تحديد اسم الرجل العظيم المقصود. فمن مكة: الوليد بن المغيرة أو عتبة بن ربيعة. ومن الطائف: عروة بن مسعود أو عمير بن عبد ياليل. قال ابن كثير في تفسيره(٤/١٢٧):"الظاهر أن مرادهم رجل كبير من أي البلدتين كان"..
٩ الذرع: الطاقة والقدرة. وضقت بالأمر ذرعا مثل ضقت به ذرعا، فأصل الذرع إنما هو بسط اليد، فكأنك تريد: مددت يدي إليه فلم أنه. وضاق بالشيئ ذرعا أو ذراعا أي: ضعفت طاقتك، ولم يجد مخلصا، ولم يطقه، ولم يقو عليه قال تعالى:﴿ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا(٧٧)﴾ (هود) وقال تعالى:﴿ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه(٣٢)﴾ (الحاقة) (اللسان: مادة (ذرع)... بتصرف).
١٠ عجل يعجل-عجلا وعجلة: أسرع. قال تعالى:﴿عجلت إليك رب لترضى (٨٤)﴾ (طه) وعجل الأمر طلبه قبل أوانه بدافع الشهوة. وعجل الأمر: سبقه، قال تعالى:﴿أعجلتم أمر ربكم (١٥٠) (الأعراف) وأعجله: حمله على العجل. أي: استحثه أو سبقه. قال تعالى:{وما أعجلك عن قومك يا موسى (٨٣) (طه) وعجل الأمر: قدمه سريعا، قال تعالى:{عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد (١٨)﴾ (الإسراء) واستعجل الأمر كلبه عاجلا قال تعالى:﴿ولو يجعل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم...(١١)﴾ (يونس)... القاموس القويم ج٢ص٩٢٨..
١١ العجل العجلة: السرعة. قال الفراء: خلق الإنسان من عجل وعلى عجل، كأنك قلت ركّب على العجلة، بنيته العجلة، وخلقته العجلة، وعلى العجلة ونحو ذلك. قال أبو إسحاق: خوطب العرب بما تعقل، والعرب تقول للذي يكثر الشيء: خلقت منه. وقيل: إن آدم عليه السلام، لما بلغ منه الروح الركبتين هم بالنهوض قبل أن تبلغ القدمين فقال الله عز وجل:﴿خلق الإنسان من عجل(٣٧)﴾ (الأنبياء) فأورثنا آدم عليه السلام العجلة. وقال تعالى:﴿وكان الإنسان عجولا(١١)﴾ (الإسراء) وقال تعالى: ﴿أتى أمر الله فلا تستعجلوه(١)﴾ (النحل).
١٢ تبعة الأمر: عاقبته، وما يترتب عليه من أثر (المعجم الوسيط: مادة(تبع).
١٣ ويل: كلمة عذاب تعني حلول الشر. والويل: واد في جهنم، وقيل: هو باب من أبوابها. قال تعالى:﴿ويل للمطففين(١)﴾ (المطففين) وقال:﴿ويل يومئذ للمكذبين(١٥)﴾ (المرسلات).
١٤ نكي العدو نكاية: أـوقع به هزمه وغلبه. والمراد بالنكاية هنا: أساليب أعداء الله في محاربة الإسلام والتآمر عليه وعلى المسلمين، وهي أساليب مآلها الفشل بإذن الله. قال تعالى:﴿والله متم نوره ولو كره الكافرون(٨)﴾ (الصف) (اللسان والمعجم الوسيط: مادة (نكى)... بتصرف).
١٥ شاهت الوجوه تشوه شوها: قبحت. وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: أنه رمي المشركين يوم حنين بكف من حصى وقال: شاهت الوجوه. وفيه قال: لابن صيّاد: شاه الوجه. ويقال للخطبة التي لا يصلي فيها على النبي صلى الله عليه وسلم شوهاء أي: قبيحة. (اللسان: مادة(شوه).
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
{ وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون( ١٢ ) :
يصور الحق سبحانه حال البشر ؛ الذين لم يرتبطوا دائما بالإله، وبمنهج الإله ؛ هؤلاء الذين يتجهون إلى الله في لحظات الأزمات، ثم ينسون الإيمان وتكاليفه من بعد ذلك. وحياتنا مليئة بهذا الصنف من البشر.
وفي قريتنا-على سبيل المثال- كان الذي يشرف على رعاية صحة الناس حلاّق الصحة، إلى أن تخرّج أحد أبناء القرية في كلية الطب، فأخذ حلاق الصحة يشيع عنه ما لا يليق. وفي أحد الأيام لاحظ الفلاحون خروج حلاق الصحة مبكرا وهو يحمل لفاقة كبيرة، فأرادوا أن يعرفوا ما بها، واكتشفوا أن ابن حلاق الصحة مريض وهو يريد أن يذهب به إلى الطبيب هو-إذن- لا يخدع نفسه، رغم محاولته خداع أهل القرية بالشائعات الكاذبة عن الطبيب.
وكذلك الإنسان مع منهج الله، قد يخدع الآخرين في لحظة اليسر، لكنه لا ينسى الله لحظة العسر. وساعة يأتيه الضر، وحين تعزّ الأسباب عليه فهو لا يجد إلا كلمة ( يا رب ". وأنت تجدها من أعتى الفجّار١، ومن أقسى العتاه، تجد الواحد من هؤلاء وهو يدعو الله ساعة الضرّ.
وهذا ما يقول الحق سبحانه هنا :﴿ وإذا مسّ الإنسان الضّرّ دعانا لجنبه ﴾.
والمثل من حياة هؤلاء الكافرين الذين دعوا على أنفسهم، ولو كانوا يرغبون في إنهاء الحياة، فلماذا يدعون الله وهم قد كفروا به ؟ إنه كذب مفضوح، والإنسان حين يضيق بنفسه قد يدعو على نفسه الضّر ؛ مثلما قال المتنبي٢ :
كفى بك داء أن ترى الموت شافيا **** وحسب المنايا٣ أن يكن أمانيا
أي : يكفي أن يصل الإنسان إلى الدرجة التي يتمنى فيها الموت.
ونلحظ أن الحق سبحانه قد جاء بموقف الإنسان من الضر في أكثر من موضع، فنجد آية تفرد الإنسان بمعنى ؛ وأية ثانية تفرد الإنسان بمعنى آخر، وآية ثالثة تصور وضع الإنسان بشكل آخر.
يقول سبحانه :﴿ وإذا مس الإنسان ضرّ دعا ربّه منيبا٤ إليه ثم إذا خوله٥ نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل... ( ٨ ) ﴾ ( الزمر ).
ويقول الحق في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها :﴿ وإذا مس الإنسان الضر دعانا ﴾، ويقول سبحانه في موضع آخر :﴿ وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون٦ ( ٥٣ ) ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون ( ٥٤ ) ﴾ ( النحل ).
إذن : فالحق سبحانه يأتي بها مفردة مرة، ومرة يأتي بها جمعا. ومرة يأتي بها مفردة على ألوان شتّى، مرة تأتي بها جمعا بألوان شتّى، ومرة يذكرها في البر، ومرة يذكرها في البحر :﴿ وإذا مسكم الضّرّ في البحر ضلّ من تدعون إلا إياه... ( ٦٧ ) ﴾ ( الإسراء ).
إذن : فالآيات تستوعب حالات الإنسان المختلفة ؛ إذا ما أصابه ضرّ، ولم يجد مفزعا لا من ذاته ولا من البيئة المحيطة به، فلا يجد من يلجأ إليه إلا ربه. ومن الأسف أن هذا الإنسان يكون كافرا بالله.
والآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها تعطينا صورا متعددة، فالحق سبحانه يقول :﴿ دعانا لجنبه ﴾ أي : وهو مضطجع، ﴿ أو قاعدا أو قائما ﴾. وهكذا تتناول الآية الإنسان في تصرفاته في الكون. والآية متمشية مع أطوار تكوين الإنسان ؛ فالطفل الصغير لا يستطيع أن يتقلّب، بل يقلّبه أهله ؛ لينام على جنبه، وحين يكبر قليلا فهو يتقلب بمفرده ثم تأتي حركة القوة الثانية ؛ فيقعد الطفل ثم يقف دون أن يمشي، ثم يمشي من بعد ذلك.
والآية هنا تعطينا التصوير الدقيق لثلاث حالات :﴿ دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما ﴾، ولم تأت حركة المشي ؛ لأن المتحرك للمشي لا يقعده الضر، لكن من يمر بالمراحل الأخرى قائما أو قاعدا أو راقدا على الجنب، فقد يناله الضر.
وتلك هي مراحل النقض لمظاهر الحياة، فالإنسان يعيش الطفولة، ثم فتوّة الشباب، ثم يأتيه الضعف والشيب، فلا يستطيع أن يمشي بقوة الشاب، إن كان يستطيع الوقوف، ثم تدخل الشيخوخة ؛ فيقعد، ولا يستطيع أن يقف، ثم تتقدم الشيخوخة، فلا يمشي، ولا يقف، ولا يقعد، ويظل على جنبه، وقد يقلبه أهله٧.
إذن : نقض كل شيء إنما يأتي على عكس بنائه ؛ فكما بنيت مراحل الإنسان هكذا جنبا، فقعودا فقياما، فسعيا وحركة، فهيب تنتهي بالعكس ؛ لأن النقض دائما على عكس البناء.
ومن هذا خرجنا بالاستدلال على صدق الله في إخباره لخلقه بكيفية الخلق ؛ لأننا لم نشاهد عملية الخلق، مصداقا لقوله تعالى :﴿ ما أشهدتم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين٨ عضدا٩ ( ٥١ ) ﴾ ( الكهف ).
ولأن الحق لم يشهد أحدا على كيفية خلق السماوات والأرض وخلق الإنسان، فنحن لا نأخذ معلومات عن كيفية الخلق بعيدا عن القرآن ؛ لذلك لا نصدق الافتراضات القائلة بأن الأرض كانت قطعة من الشمس وانفصلت عنها ثم انخفضت درجة حرارتها ؛ فكل هذه افتراضان لن تثبت صحتها، والحق سبحانه قد قال :﴿ ما أشهدتم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم... ( ٥١ ) ﴾ ( الكهف ).
وهذا القول يدل على أن العقل البشري لا يمكن أن يصل إلى معرفة كيفية خلق السماوات والأرض، وخلق الإنسان، وهو معزول عن منهج السماء ؟ فإن حدّثتم كيف خلقتم بصورة تختلف عما في القرآن فقولوا : كذبتم، وإن حدّثتم كيف خلقت السماوات والأرض بغير ما جاء في كتاب الله ؛ فقولوا : كذبتم ؛ لأن الله هو الذي خلق السماوات والأرض والإنسان وحده، ولا أحد معه، وما شهد أحد من هؤلاء مشهدا ليخبركم به ؟ ويقول الحق سبحانه :﴿ وما كنت متخذ المضلين عضدا( ٥١ ) ﴾ ( الكهف ).
والمضلون : هم الذين يقولون لكم افتراضات غير صحيحة عن تطور القرد حتى صار إنسانا، وأن الأرض كانت قطعة من الشمس وانفصلت عنها ؛ كل هذه افتراضات قالها من سمّاهم الحقّ سبحانه :﴿ المضلين ﴾. ولو لم يقل الله تعالى هذه الآية، ثم جاء قوم ليقولوا : الإنسان كان في الأصل قردا، لقلنا : إن القرآن لم يتعرض لذلك، وكان من الممكن أن نصدقهم، لكن الله سبحانه شاء لنا أن تكون لدينا المناعة ضد هذا الإضلال.
وعملية الخلق غيب عنا، أخبرنا عنها من خلقنا سبحانه، فلم يكن معه شاهد رأى هذا المشهد ؛ ليقول لنا. والخلق الذي به الحياة ينقضه الموت، ولكن الموت مشهد نشهده، وأي نقض لشيء-كما عرفنا- إنما يأتي على عكس بنائه، فإن بنينا عمارة من عشرين طابقا، وأردنا أن نهدمها لسبب أو للآخر ؛ فنحن نهدم الطابق العشرين أولا، ثم نوالي الهدم بعد ذلك، فما بني أولا يهدم أخيرا ؛ لأن نقض كل شيء يأتي على عكس بنائه.
وبما أن الموت نقض الحياة ؛ فالروح إذا ما خرجت من الجسم، وترك الجثمان بلا دفن، فالجثمان يتصلّب، ثم يصير جيفة١٠، ثم يتبخر منه الماء، ويتحلل الجسد إلى العناصر الأولى في التراب، هذه مراحل الموت.
وقد أخبرنا الحق عن كيفية الخلق، فبيّن أنه سبحانه خلق الإنسان من التراب والماء فصار طينا، ثم استوى الطين، فصوّره الحق صورة الإنسان ونفخ فيه الروح١١، وآخر مراحله في الإيجاد هي الروح ؛ لذلك فخروج الروح هو أول مرحلة الموت.
والله سبحانه وتعالى في هذه الآية جاء بوضع الإنسان على الجنب وقائما وقاعدا، ولم يأت بالمشى ؛ لأن الماشى عنده قدرة فلا ضرّ في ذاته، وإن أصابه ضرّ فمن غيره، الضّر مقابل النفع، والنافع هو من يبقي الشيء على صلاحه الممتع المريح، وفي الذات أو في الخارج.
فساعة تكون ذاتك مستقيمة وملكاتها وأعضاؤها كلها سليمة، فليس عندك ضرّ، لكن إذا حدث خلل في أي عضو من الأعضاء ؛ فالمتاعب تبدأ، ولذلك يقال عن السلامة العمامة : هي ألا تشعر بأن لك أعضاء ؛ لأنك حين تشعر أن لك عينا-مثلا- فاعرف أنها تؤلمك، وإذا شعرت بأذنك فاعرف أنها تؤلمك. وأنت تطحن الطعام بضروسك وتأكل ولا تدري بها. ويوم أن تدري بها فهذا يعني أن ألما قد بدأ.
وهكذا لا يشعر الإنسان بفقد السلامة إلا إذا عرف وانتبه إلى أن له عضوا من أعضاءه، فيقول :" آه يا عيني " و " آه يا أذني ".
ونقول : إن وجع العين مؤلم ألما مخصوصا، وكذلك نقول : على أي عضو من الأعضاء، أما من لا يشكو لأعضائه فهو لا يشعر بها ؛ لأنها تؤدي أعمالها على الوجه المناسب. والسلامة فيمن حولك تتمثل في أن يحققوا لك المتعة والصفاء بدون كدر. وبذالك تظهر منفعتهم لك١٢.
وكل إنسان له كبرياء ذاتي، يبينها قول الحق سبحانه وتعالى :﴿ كلا إن الإنسان ليطغى( ٦ ) أن رآه استغنى( ٧ ) ﴾ ( العلق ) : ولا يذل الإنسان إلا حين يعاني من آفة١٣ ما، ولا يأتي طغيانه إلا عند استكمال النعمة في الخارج والنعمة في الداخل، وإن بدأت النعمة في الانقباض عن الإنسان ؛ فكبرياؤه تتطاير. ومن كان يستعرض الناس، قد يرجو القيام من االرقود ؛ ليخطو بضع خطوات فلا يستطيع.
والإنسان لا يستغني إلا بما هو ذاتي فيه ؛ لا بما هو موهوب له ؛ لذلك فعليه ألا يغتر ؛ لأن الواهب الأعلى قد يقبض هبته، فقد يأخذ منك العافية، وكثيرا ما رأينا أصحّاء قد مرضوا، ورأينا أغنياء قد افتقروا، وأصحاب جاه١٤ قد خرجوا من جاههم.
إذن ؛ لذلك يجب أن ينعدم الغرور، فما دام كل ما فيك موهوبا مكن الواهب الأعلى سبحانه، فالواهب قد يسلب ما وهب، وما إن تسلب من الإنسان نعمة فهو ينتبه. فلا داعي-إذن- لأن يغتر أحد ؛ حتى لا يسلم نفسه رخيصة للضياع.
والمقال : قد تكون عاديت طبيبا، وهو الوحيد في المكان الذي تقطنه، وقد يحاول البعض الإصلاح بينك وبين هذا الطبيب، فتتأبّى أنت، ثم يأتي لك مرض ؛ فتلجأ إليه ؛ لأن الله قد وهبه القدر السليم من التشخيص بالعلم، فلا يجب-إذن- أن تغتر أو تتعالى على أحد.
لكن الإنسان هو الإنسان ؛ لذلك يقول الحق سبحانه :﴿ وإذا مس الإنسان الضّرّ... ( ١٢ ) ﴾ ( يونس ) : والكافر ما إن يمسّه الضرّ ؛ حتى يقع في بئر الهوان. أما المؤمن فهو مع ربه دائما، وإذا مسه الضرّ فهو يدعوا الله تعالى دائما ولا ينساه ؛ لذلك يتلطف به سبحانه، عكس الكافر الذي يدعو الله ساعة الضرّ فقط. وأين كان الكافر ساعة أن دعاه الله سبحانه بالرسل إلى الإيمان ؟
ونسيان الإنسان أمر وارد في تكوينه الفطري الأول١٥ ؛ لأن الإنسان جين يعيش في محيط ما. فهو يحب النفع من خارجه، وإذا امتنع عنه هذا النفع الخارجي، فهو يأخذ النفع ومن ذاته ؛ من تحرّك أبعاضه وخدمتها لبعضها البعض. ثم لا يجد له مفزعا إلا أن نؤمن بمن خلقه أولا. وانظر إلى التعبير القرآني :﴿ وإذا مسّكم الضر في البحر ضلّ ما تدعون إلا إيّاه... ( ٦٧ ) ﴾ ( الإسراء ).
إذن : فمن يعبد غير الله-سبحانه وتعالى- يضل عند معبوده، ولا يعرف كيف ينقذ من يعبده ؛ لذلك يعود المشرك إلى الله، ولا يجد سواه سبحانه، فهو الذي ينقذ الإنسان لحظة الخطر ؛ لأنه الرب الخالق هو أرحم بصنعته، وهذه الرحمة تنقذ الإنسان حتى لو كان كافرا، وهذا كلام منطقي ؛ لأننا شهدنا بوحدانية الله تعالى في عالم الذر١٦ ؛ حينما أخذ الله سبحانه علينا العهد الأول، ١٧قال لنا :﴿ ألست بربكم... ( ١٧٢ ) ﴾ ( الأعراف )، قلنا :﴿ بلى... ( ١٧٢ ) ﴾ ( الأعراف ).
وهذا إيمان الفطرة قبل أو توجد الغفلة أو التقليد ؛ لذلك حين تتفرق الآلهة الباطلة من حول الكافر فهو يرجع إلى نفسه ويدعو الله، بل ويوسّط يسأله أن يدعو
١ الفجار: جمع فاجر وهو المكثر من المعاصي والسيئات. والفجور أصله الميل عن الحق. قال ابن شميل: الفجور: الركوب إلى ما لا يحل. قال تعالى:﴿بل يريد الإنسان ليفجر أمامه(٥)﴾ (القيامة) قال: ﴿إن الفجار لفي جحيم(١٤) (الانفطار) (اللسان: مادة (فجر)... بتصرف).
٢ المتنبي شاعر من شعراء الدولة العباسية له باعه في الشعر..
٣ المنايا: جمع منية وهي الموت، والمنى: القدر، ومنى الله لك شيئا، أي: قدّر لك. ومنى الله عليك أخيرا يمني منيا، و به سميت المنيّة وهي الموت، لأنها مقدرة بوقت مخصوص. [اللسان: مادة(مني)]..
٤ منيبا: راجعا إلى الله بالتوبة. أناب إلى الله إنابة فهو منيب: أقبل إليه تائبا ورجع إلى الطاعة. قال تعالى:{وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له(٥٤) (الزمر) وقال:{وينزل لكم من السماء رزقا وما يتذكر إلا من ينيب (١٣)﴾ (غافر).

٥ خوله الله نعمة: ملكه إياها. وهي مأخوذة من التخويل وهو التمليك. المراد: إذا كشف الله عنه الضر، ووهبه النعم نسى فضل الله عليه ووقع في المعاصي. [لسان العرب - بتصرف]..
٦ تجأرون: ترفعون أصواتكم بالتضرع والدعاء إلى الله. (اللسان مادة: ج أ ر).
٧ وهو القائل سبحان:﴿الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير(٥٤)﴾ (الروم)..
٨ ضل يضل فهو ضال، وأضل يضل فهو مضل، ولا يكتفي بضلال نفسه بل يضل غيره أيضا. وأضله: جعله ضالا، والضلال: ضد الهدى والرشاد. قال تعالى:﴿أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل (١٧)﴾ (الفرقان) وقال:﴿وأضلهم السامري (٨٥)﴾ (طه) وقال: ﴿وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون (٦٩)﴾ (آل عمران)..
٩ والعضد من الإنسان وغيره: الساعد وهو ما بين المرفق إلى الكتف. والمراد بالعضد هنا: العون والمساعدة. قال تعالى:﴿قال سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا...(٣٥)﴾ (القصص)..
١٠ الجيفة: هي جثة الميت إذا أنتنت وكان لها رائحة. الجمع جيف وأجياف (اللسان. مادة جيف).
١١ وفي هذا يقول سبحانه:﴿الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ الإنسان من طين(٧) ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين(٨) ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون(٩)﴾ (السجدة).
١٢ عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده" أخرجه مسلم في صحيحه (٤١) وأخرجه البخاري في صحيحه (١٠) من حديث عبد الله ابن عمروا بن العاص..
١٣ آفة: عاهة، أو مرض، أو فساد، أو نقص، أو عيب. يقال: آفة الظرف الصلف، وآفة العلم النسيان..
١٤ الجاه: المنزلة والقدر. قال تعالى:﴿وكان عند الله وجيها(٦٩)﴾ (الأحزاب).
١٥ ومن هذا قول الله عز وجل:﴿ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسى ولم نجد له عزم (١١٥)﴾ (طه) فجنس الإنسان في تكوينه النسيان، ولذلك تجاوز الشرع عن النسيان والخطأ وما استكره عليه الإنسان، فعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن الله عز وجل تجاوز لأمتي عن الخطأ والنسيان واستكرهوا عليه" أخرجه الحاكم في مستدركه (٢/١٩٨) قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وأقره الذهبي. وحسنه ابن رجب الحنبلي في جامع العلوم والحكم(ص٤٤٢) طبعة مؤسسة الرسالة ١٩٩١م.
أما النسيان بمعنى التناسي والتغافل عن أوامر الله والالتزام بمنهج الله سبحانه فلا يتجاوز الله عنه بل يؤاخذ الإنسان به، يقول عز وجل:﴿فلما نسوا ما ذكّروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون(٤٤)﴾ (الأنعام).

١٦ عام الذر: هو يوم نثر الله ذرية آدم من ظهره ونشرها. قال سبحانه وتعالى:﴿وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين(١٧٢) أو تقولوا إنما آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون(١٧٣) (الأعراف).
١٧ العهد الأول هو إشهاد ذرية بني آدم وأخذ الميثاق عليهم بأن الله رب الخلائق كلها، وهنا كلن الإيمان بالوحدانية فطرة يسكن بها القلب، ويطمئن معها العقل وتستريح النفس، أما العهد الثاني فهو التكليف على يد الرسل في افعل ولا تفعل، وهو امتداد للعهد الأول، ويجمع ذلك كله قوله:{وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجكم الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجر...(٣٥)﴾ (البقرة) ومن هنا كان الأمر و النهي وعليهما مدار الحساب..

ويقول سبحانه بعد ذلك :
﴿ ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لمّا ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبيّنات وما كانوا ليؤمنوا كذلك نجزي القوم المجرمين١( ١٣ ) ﴾.
فإياكم أن تسول٢ لكن أنفسكم أن تظلوا على عداوتكم لمحمد صلى الله عليه وسلم ؛ لأنكم لن تنالوا منه شيئا، وسيتم الله نوره، فلتسلم بدعا عن سابق الخلق. و﴿ القرون ﴾٣ : جمع قرن، والقرن من المقارنة، وكل جماعة اقترنوا في شيء نسميهم " قرنا ". وقد يكون القرن في الزمنية، ولذلك حسبوا القرن مائة سنة، والبشر الذين يجتمعون في مائة سنة يسمون قرنا. أو القرن جماعة يقترنون في شيء يجمعهم، ومهما طال بهم الأمد٤.
وقوله الحق :﴿ ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لمّا ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبيّنات وما كانوا ليؤمنوا ﴾ فهل لو أمهلهم الله-تعالى- كانوا سيؤمنون ؟ لا، فلله علم أزليّ، يعلم الأشياء على وفق ما تكون عليه اضطرارا أو اختيارا.
والمثل من حياتنا وأعرافنا-ولله المثل الأعلى- نجد الإنسان حين يريد بناء بيت، فالأمر يختلف حسب مقدرته ؛ الفقير مثلا يطلب بناء حجرتين ؛ فيخطط رجل البناء لبناء حجرتين، وإذا كان الإنسان متوسط الحال، فهو يتجه إلى مهندس يصمّم له بناء على قدر سعته، وإن كان الإنسان ثريا ؛ فهو يستدعي المهندس الذي يبني له بيتا حسب إمكانات ورغبات هذا الثرى، ويصمم المهندس نموذجا للبناء قبل أن يبدأ فيه، وتظهر فيه كل التفاصيل، حتى ألوان النوافذ والأبواب والحجرات.
والعالم قبل أن يخلقه الله سبحانه وتعالى كانت هيئته مقدرة أزلا عنده سبحانه، وهذا هو مطلق القدرة من الحق تعالى، ويأتي واقع الكون على وفق ما قدره الخالق سبحانه أزلا ؛ حتى ولو كان هناك اختيار للمخلوق ق الكافر، فالله سبحانه يعلمه.
قد صحّ أن القلم جفّ حتى في الأمور الاختيارية، وسبحانه يعلم ما تجري به الأمور القهرية وما يقضيه على خلقه بدون اختيار منهم، أما في الأمور الاختيارية فقد أعطى لخلقه الاختيار. وقد علم ما سوف يفعلونه غيبا٥، فصمم المسألة على وفق علم.
وإياك أن تظن أنه أراد بذلك أن يلزمك، لا، فقد علم أنك ستختار. وهكذا علم الحق سبحانه من سيظل نفسه-أزلا- وسبق في علمه أن أهل القرون السابقة الذين أهلكهم لا يؤمنون. ﴿ ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لمّا ظلموا ﴾ والظلم معناه نقل الحق من صاحبه إلى غيره. والحقوق الموهوبة من الخالق للبشر قد يظلمون فيها بعضهم البعض، لكن أعلى درجات الظلم حين يظلم أحد حقّ الإله الأعلى في أن يكون إلها واحدا، وأن بنقل ذلك لغيره. تلك هي قمة الظلم ؛ لذلك قال سبحانه :
﴿ إن الشرك لظلم عظيم ( ١٣ ) ﴾ ( يونس ) : وهم قد ظلموا في قضية العقيدة الأولى، أو ظلموا في الحقوق بينهم وبين أنفسهم مصداقا لقوله تعالى :﴿ ولكن الناس أنفسهم يظلمون( ٤٤ ) ﴾ [ يونس ].
والواحد منهم ظالم ومظلوم في آن واحد ؛ لأن الإنسان ملكاته متعددة، ومن هذه الملكات ملكة الإيمان الفطري، وملكة النفع العاجل الذاتي. فإذا تغلبت ملكة النفع العاجل ؛ تخرج النفس اللوامة٦ ؛ لتعد الأمر إلى صوابه، أما إن كانت نفس تأمر بالسوء فهي تطلب تحقيق الشهوات فقط ؛ لأنها نفس أمارة٧ بالسوء. أما إن اطمأنت النفس إلى حكم الله تعالى ورضيت به ونفذت ما قاله الله سبحانه، فهي نفس مطمئنة٨. ومن يظلم نفسه فهو الذي يتبع شهوات٩ نفسه، وهو قد أعطاها متعة عاجلة ؛ ليستقبل بعد ذلك شقاء آجلا١٠ ؛ فيكون قد ظلم نفسه.
﴿ ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات ﴾، والحق سبحانه لم يتركهم، بل أرسل الرسل مؤيدين بالمعجزات ليبصّرهم. لكن الله تعالى يعلم أنهم لا يؤمنون ؛ لذلك قال :﴿ وما كانوا ليؤمنوا ﴾ أي : أنه سبحانه لو تركهم أحياء فلن يؤمنوا، فهو الذي خلقهم وقد علم الأزل أنهم لن يختاروا الإيمان.
والحق سبحانه هو العالم الأعلى الذي يعلم الأشياء على وفق ما تكون عليه، لا على وفق ما يقهر خلقه عليه، فلو كلن علمه-سبحانه- على وفق ما يقهر الخلق عليه لكانت المسألة منتهية.
والمثال-ولله المثل الأعلى- أنت في البيت وتريد أن تقوم وزوجتك برحلة، فإن كان الأولاد صغارا ؛ فأنت تغلق عليهم الباب بعد أن تقول لهم : إن طعامكم في الثلاجة ؛ لحما وسمكا وجبنا وزيتونا. وبعد أن تخرج أنت وزوجتك تقول لها : إن أبناءنا لن يأكلوا إلا جبنا وزيتونا ؛ لأنهم سوف يستسهلون هذا الطعام. ولو لم يكن في الثلاجة إلا الجبن، لما قلت ذلك ؛ لأن هذا هو لون الطعام القهري.
لكن ما دام الأمر في اختيار ؛ فأنت تستشف من سابق سلوك الأبناء. وعندما ترجع تجد أبناءك قد تصرفوا وفق ما حكمت به، ورغم أنك تركت لهم الاختيار. ومثال هذا في القرآن قوله الحق :﴿ تبت يدا أبي لهب وتبّ( ١ ) ما أغنى عنه ماله وما كسب( ٢ ) سيصلى نارا ذات لهب( ٣ ) ﴾ ( المسد ) : و في هذا حكم من الله تعالى بأن أبا لهب١١ سيموت كافرا، وهذا حكم معلن ويردّد في الصلاة، ونحفظه، وأبو لهب هو عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان كافرا مثل غيره من الكفار. وقد آمن من الكفار الكثير. ألم يسلم عمر ؟ ألم يسلم عكرمة بم أبي جهل ؟ ألم يسلم عمرو بن العاص ؟ ألم يسلم خالد بن الوليد ؟ فما المانع أن يسلم أبو لهب هو الآخر ؟ لا، لم يسلم وعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم من ربه أن ذلك لن يكون منه. وما كان من الممكن أن يمكر أبو لهب ويعلن إسلامه تكذيبا للقرآن ؛ لأن الحق علم أزلا سلوك أبي لهب.
﴿ ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا كذلك نجزي القوم المجرمين ﴾. : وقوله :﴿ كذلك ﴾ أي : مثل هذا الجزاء الذي كان للأمم السابقة التي أهلكت في القرون الماضية تجزي ممن يحدّد كل شيء، لأن القضايا في الكون واحدة. فالقضية الإيمانية موجودة من أول ما أرسلت الرسل إلى أن تنتهي الدنيا.
١ المراد بالمجرمين: الكافرون لأنهم كذبوا بآيات الله وظلموا واستكبروا. وجرم الإنسان: إذا عظم جرمه، أي: أذنب. قال تعالى:﴿ونسوق المجرمين إلى جهنم...(٨٦)﴾ (مريم) (اللسان: مادة (جرم).
٢ تسول لهم أنفسهم شيئا: تزيّن لهم الخطأ. والتسويل: تحسين الباطل وتزيينه وتحبيبه إلى الإنسان ليفعله أو يقوله. قال تعالى:﴿بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل...(١٨)﴾ (يوسف) وقال:﴿إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم (٢٥)﴾ (محمد) (اللسان: مادة (سول)]..
٣ القرن: الأمة تأتي بعد الأمة. والقرن: أهل كل زمان، مأخوذ من الاقتران فكأنه المقدار الذي يقترن فيه أهل ذلك الزمان في أعمارهم وأحوالهم. يقال: القرن من الزمان مائة سنة، وقيل غير ذلك، والجمع: القرون. قال تعالى:﴿ألم يروا كم أهلكناهم من قبلهم من قرن مكنتهم في الأرض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدرارا وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبه: وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين (٦) (الأنعام) وقال صلى الله عليه وسلم:"خيركم قرني(يعني: أصحابي) ثم الذين يلونهم" يعني: الذين أخذوا عن التابعين..
٤ الأمد: الغاية والأمد: منتهى الأجل، قال تعالى:{ولا يكونوا كالذين أ، وتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم...(١٦)﴾ (الحديد) (اللسان: مادة (أمد)]..

٥ الغيب: ما غاب عن العيون وإن كان محصّلا في القلوب. والغيب: ما غاب عنك ولا يغيب عن علاّم الغيوب. قال تعالى:﴿يؤمنون بالغيب...(٣)﴾ (البقرة). وقال:﴿إن الله يعلم غيب السماوات والأرض..(١٨)﴾ (الحجرات) (لسان العرب: مادة(غيب)... بتصرف).
٦ اللوامة: صيغة مبالغة من اللائمة. أي: كثيرة اللوم. والنفس اللوامة: هي التي تكثر من لوم صاحبها على أخطائه. قال تعالى:﴿لا أقسم بيوم القيامة(١) ولا أقسم بالنفس اللوامة(٢)﴾ (القيامة).
٧ أمارة: صيغة مبالغة من الآمرة. أي: كثيرة الأمر. والنفس الأمارة هي النفس المسيطرة والمتسلطة على صاحبها، وقد ورد في القرآن ذكرها في قوله تعالى:﴿ن النفس لأمارة بالسوء...(٥٣)﴾ (يوسف).
٨ النفس المطمئنة: هي التي اطمأنت بالإيمان ورضيت بربها وأطاعته؛ فهي ثابتة وساكنة بالجزاء الحسن من الله سبحانه. قال تعالى:﴿يا أيتها النفس المطمئنة(٢٦) ارجعي إلى ربك راضية مرضية(٢٨) (الفجر) (اللسان: مادة(طمن)... بتصرف) ذكر العارفون: إن النفوس سبعة: النفس الأمارة، واللوامة والملهمة، والمطمئنة، الراضية، والمرضية والكاملة..
٩ اشتهى الشيء شهوة ة: أحبّه ورغب فيه. والجمع: شهوات. قاتل تعالى:{زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة..(١٤) (آل عمران).
١٠ الآجل: نقيض العاجل. والآجلة: الآخرة، والعاجلة: الدنيا. وقال تعالى:{ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب...(٥٣)﴾ (العنكبوت) الأجل المسمى: يوم القيامة (اللسان مادة(أجل... بتصرف).

١١ أبو لهب هو أحد أعمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، واسمه عبد العزي بن عبد المطلب، وكنيته أو عتبة، وإنما سمى أبا لهب لإحمرار وجهه وإشراقه كأنه اللهب.
وسبب نزول السورة التي ذكر فيها، أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى البطحاء فصعد الجبل فنادى "يا صاحباه" فاجتمعت إليه قريش فقال: "أرأيتم إن حدثكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم أكنتم تصدقوني؟ قالوا: نعم. قال: فإني نذير لكم بين يدى عذاب شديد. فقال أبو لهب: ألهذا جمعتنا؟ فأنزل الله: ﴿تبت يدا أبي لهب﴾ إلى آخرها. أخرجه مسلم في صحيحه(٢٠٨) عن ابن عباس.
.

ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون( ١٤ ) ﴾ :
و﴿ خلائف ﴾ : جمع خليفة١، وهو من يخلف غيره. والحق سبحانه وتعالى حينما وصف الإنسان أصدر أول بيان عن الإنسان قال الملائكة :﴿ إني جاعل في الأرض خليفة... ( ٣٠ ) ﴾ ( البقرة ).
والله سبحانه وتعالى قادر، وسميع، وعليم، وله كل صفات الكمال المطلق، وأنت قد تكون لك قدرة وقد تعدّى أثر قدرتك إلى غيرك، ولكنك لن تستطيع أن تعدّى قدرتك إلى سواك، فإن كنت قويّا، فلن تستطيع أن تهب ضعيفا قدرا من قوتك. بل كل الذي تستطيعه هو أن تهبه أثر قدرتك، فإن كان غير قادر على أن يحمل شيئا ؛ فأنت قد تحمله عنه، وإن كان غير قادر على المشي ؛ فأنت تأخذ بيده، لكنك لا تستطيع أن تهبه جزءا من قوتك الذاتية، فيظل هو عاجزا، وتظل أنت قادرا-كما أنت.
هذا هو حال الخلق : تجد غنيا وآخر فقيرا، ويعطي الغني الفقير من غناه، ويعطي العالم للجاهل بعض العلم، لمنه لا يهبه ملكة العلم ؛ أما الحق الأعلى سبحانه فهو وحده القادر على أن يهب من قدرته المطلقة للخلق قدرة موهوبة محدودة، وقد أعطاهم سبحانه أثر القدرة العالية في الأفلاك التي صنعها ولا دخل للإنسان فيها ؛ من شمس، وقمر، ونجوم، ورياح، ومطر.
وأعطى الحق سبحانه للإنسان طاقة من قدرته في الأمور التي حوله ؛ فأصبح قادرا على أن يفعل بعض الأفعال التي تتناسب مع هذه الطاقة الموهوبة. وبذلك عدّى له الحق سبحانه من قدرته ؛ ليقدر على الفعل، ومن غناه ؛ ليعطي الفقير، ومن علمه ؛ ليعطي الجاهل، ومن حلمه ؛ ليحلم على الذي يؤذيه.
إذن : فالخلق لا يعدّون٢ صفاتهم إلى غيرهم ولكنهم يعدون آثار صفاتهم إلى غيرهم، وتظل الصفة هنا قوة، والصفة هناك ضعفا. أما الواحد الأحد فهو الذي يستطيع أن يهب من قدرته للعاجز قدرة ؛ فيفعل. فهل كل الكون هكذا ؟
إن الكون قسمان : قسم وهبه الله سبحانه وتعالى للإنسان بدون مجال فيه. وقد أقامه الحق بقدرته، وهذا القسم من الكون مستقيم من أمره استقامة لا يتأتى لها أي خلل، مثل : نظام الأفلاك والسماء ودوران الشمس والقمر والريح وغيرهما، ولا تعاني من أي عطب٣ أو خلل، ولا يتأتى لهذا اقسم فساد إلا بتدخّل الإنسان.
وقسم آخر في الكون تركه الحق سبحانه للإنسان ؛ حين يقيمه بالقوة الموهوبة من الله.
وأنت لا تجد فسادا في كون الله تعالى إلا وجدت فيه للإنسان يدا، أما الأمور التي ليس الإنسان فيها يد فهي مستقيمة، ولذلك يقول الحق سبحانه :﴿ والشمس والقمر بحسبان٤( ٥ ) ﴾ ( الرحمان ) : والمراصد تحدد موقع الأرض بين الشمس والقمر، وموقع القمر بين الأرض والشمس بدقة تتناسب مع قوله الحق :﴿ بحسبان ﴾، لأن الإنسان ليس في هذه الأمور.
وفيما أنا فيه اختيار علينا أن نتدخل بمنهج الله تعالى، لتستقيم حركتنا مثل استقامة الحركة في الأكوان العليا التي لا دخل لنا فيها.
إذن : فالذي يفسد الأكوان هو تدخل الإنسان-فيما يحيط به، وفيما ينفعل له وينفعل به-على غير منهج الله، ولذلك قال الحق سبحانه وتعالى :﴿ الرحمان ( ١ ) علم القرآن( ٢ ) خلق الإنسان( ٣ ) علمه البيان٥( ٤ ) الشمس والقمر بحسبان( ٥ ) ﴾ ( الرحمان ) : أي : هذه الأكوان مخلوقة بحساب، وتستطيعون أن تقدّروا أوقاتكم وحساباتكم على أساسها. ويقول سبحانه :﴿ والشمس والقمر بحسبان( ٥ ) والنجم٦ والشجر يسجدان( ٦ ) والسماء رفعها ووضع الميزان( ٧ ) ألا تطغوا في الميزان ( ٨ ) وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان( ٩ ) ﴾ ( الرحمان ).
وحتى تستقيم لكم الأمور الدنيا في حركتكم في الكون-كما استقامت لكم الأمور العليا ؛ وازنوا كل الأمور بالعدل ؛ فلا يختل لكم الميزان ؛ لأن الذي يفسد الكون أنكم تتدخلون فيما أعطى لكم من مواهب الله قدرة وعلما وحركة على غير منهج الله. فادخلوا على أمور حياتكم بمنهج الله في " افعل " و " لا تفعل " ٧ ؛ ليستقيم لكم الكون الأدنى كما استقام لكم الكون الأعلى.
وهنا يقل الحق سبحانه :﴿ ثم جعلناكم خلائف في الأرض ﴾ وقد خلف الإنسان الله تعالى في الأرض، وفي أنه-مثلا- يحرث الأرض ويسقيها ؛ فيخرج له الزرع، وحين يأخذ الإنسان أسباب الله فهو ينال نتيجة الأخذ بالأسباب بغروره، حين تستجيب له الأشياء، فهو أنه قادر بذاته، لا بأسباب الله.
والحق سبحانه وتعالى يعطي بعطاء ربوبيته للمؤمن، وللكافر ؛ لأنه سبحانه هو الذي استدعى الإنسان إلى الوجود، لمنه جلّ وعلا ميّز المؤمن، لا بعطاء الأسباب فقط، ولكن بالمنهج، والتكليف المتمثل في " افعل كذا " و " لا تفعل كذا "، فإن أخذ العطائين من الله يبق له حسن الجزاء في الدنيا والآخرة، وإن أخذ العطاء الثاني في " افعل " و " لا تفعل "، فهو يأخذ الآخرة، أما دنياه فتظل مختلفة.
ومن يرد أن يأخذ حسن الدنيا والآخرة، فليأخذ عطاء ربوبية الله تعالى بالأخذ بالأسباب، وعطاء الألوهية باتّباع المنهج.
إلا أن آفة الخليفة في الأرض أنه يرى الأمور مستجيبة له ؛ فيطغى٨، ويظن أنه أصيل في الكون. ونقول له : ما دمت تظن أنك أصيل في الكون فحافظ على روحك، وعلى قوتك، وعلى غناك.
وأنت لن تستطيع ذلك. فأنت إن تمردت على أوامر الله بالكفر- مثلا، فلماذا لا تتمرد على المرض أو الموت ؟.
إذن : أنت مقهور للأعلى غصبا عنك، ويجب أن تأخذ من الأمور التي تنزل عليك بالأقدار ؛ لتلجمك وتقهرك، إلى أن تأخذ الأمور التي لك فيها اختيار منهج الله سبحانه.
ولو ظن الخليفة في الأرض أنه أصيل في الكون، فعليه أن يتعلّم مما يراه في الكون، فأنت قد توكّل محاميا في العقود والتصرفات ؛ فيتصرف في الأمور كلها دون الرجوع إليك ولا يعرض عليك بيانا بما فعل، فتقوم أنت بإلغاء التوكيل. فيلتفت مثل هذا المحامي إلى أن كل تصرف له دون التوكيل قد صار غير مقبول. فماذا عن توكيل الله للإنسان بالخلافة ؟ يقول الحق سبحانه :
﴿ ثم جعلناكم خلائف في الأرض ﴾ فإذا كنتم قد خلفتم من هلكوا، فمن اللازم أن تأخذوا العظة والعبرة في أن الله تعالى غالب على أمره٩، ولا ترهقوا الرسل، بل تأخذوا المنهج، أو على الأقل، لا تعارضوهم إن لم تؤمنوا بالمنهج الذي جاءوا به من الله. واتركوهم يعلنون كلمة الله، و ليعدوا صياغة حركة المؤمنين برسالاتهم في هذا الكون على وفق ما يريده الله سبحانه، وأنتم أحرار في أن تؤمنوا أو لا تؤمنوا.
﴿ فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر... ( ٢٩ ) ﴾ ( الكهف ) : والدليل على ذلك أن الإسلام حينما فتح كثيرا من البلاد ترك لهم حرية اعتناق الإسلام أو البقاء على أديانهم، مع أنه قد دخل بلادهم بالدعوة أو الغلبة، ولكنه لم يقهر أحدا على الدين، أخذ المسلمون منهم الجزية١٠ مقابل حماية المسلمين لهم.
ولو كان الإسلام قد انتشر بالسيف لما أبقى أحد على دينه، ولكن الإسلام لم يكره أحدا، وحمى حرية الاختيار بالسيف. ولأن الذين لم يؤمنوا بالإسلام عاشوا في مجتمع تتكفّل الدولة الإسلامية فيه بكل متطلبات حياتهم، والمسلم يدفع زكاة لبيت المال، فعلى من لم يؤمن –وينتفع بالخدمات التي يقدمها المجتمع المسلم-أن يدفع الجزية مقابل تلك الخدمات.
وإذا اعتقد الإنسان أنه خليفة، وظل متذكرا لذلك، فهو يتذكر أن سطوة من استخلفه قادرة على أن تمنع عنه هذه الخلافة.
إذن : فخذوا الأمر بالتسليم، وساعدوا النبي صلى الله عليه وسلم على دعوته، وآمنوا به أولا، وإن لم تؤمنوا به فاتركوه ؛ ليعلن دعوته، ولا تعاندوه، ولا تصرفوا الناس عنه ؛ لأن الحق هو القائل :﴿ ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون( ١٤ ) ﴾ ( يونس ).
وساعة تأتي لأمر يعلله الله بكلمة ﴿ ليعلم.. ٩٤ ) ﴾ ( المائدة )، أو ﴿ لننظر... ( ١٤ ) ﴾ ( يونس ).
فاعلم أن الله عالم وعليم، علم كل الأمور قبل أن توجد، وعلم الأشياء التي للناس فيها اختيار، وهو القائل :﴿ لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان١١ ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب... ( ٦٥ ) ﴾ ( الحديد ).
وقد علم الحق سبحانه أزلا كل شيء، وإذا قال الله :﴿ وليعلم ﴾ فليس معنى ذلك أن، هناك علما جديدا لم يكن يعلمه سوف ينشأ له، لكنه يعلم علم مشهد وإقرار منك ؛ حتى لا يقول قائل : لماذا يحاسبنا الله على ما علم أزلا ؟ بل يأتي الله سبحانه بالاختيار الذي يحدّد للعبد المعايير التي تتيح للمؤمن أن يدخل الجنة، وللعاصي أن يحاسب ويجازى.
وبذلك يعلم الإنسان أن الحق سبحانه شاء ذلك ؛ ليعرف كل عبد علم الواقع، لا علم الحصول.
إذن : فذكر كلمة ﴿ وليعلم ﴾ وكلمة ﴿ لننظر ﴾ في القرآن معناها علم واقع، وعلم مشهد، وعلم حجة على العبد ؛ فلا يستطيع أن ينكر ما حدث، قوله الحق :﴿ وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب.. ( ٢٥ ) ﴾[ الحديد ] : هذه الآية تبين لنا أدوات انتظام الحكم الإلهي : رسل جاءوا بالبرهان والبينة، وأنزل الحديد للقهر، قال الحق سبحانه :
﴿ وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس.. ( ٢٥ ) ﴾[ الحديد ].
وقرن ذلك بالرسل، فقال :﴿ وليعلم الله من ينصره ﴾ والنصرة لا تكون إلا بقوة، والقوة تأتي بالحديد( ١٢ ) الذي يظل حديدا إلى أن تقوم الساعة، وهو المعدن ذو البأس، والذي لن يخترعوا ما هو أقوى منه، وعلم الله سبحانه هنا علم وقوع منكم، لا تستطيعون إنكاره ؛ لأنه سبحانه لو أخبر خبرا دون واقع منكم ؛ فقد تكذبون ؛ لذلك قال سبحانه :﴿ وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب ﴾ وفي هذا لون من الاحتياط الجميل.
وقوله تعالى :﴿ وليعلم الله من ينصره ﴾ كأن الله يطلب منكم أن تنصروه، لكن إياكم أن تفهموا المعنى أنه سبحانه ضعيف، معاذ الله، بل هو قوي وعزيز. فهو القائل :
﴿ قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم.. ( ١٤ ) ﴾[ التوبة ]. بل يريد سبحانه أن يكون أعداء الإيمان أذلاء أمامكم ؛ لأنه سبحانه يقدر عليهم.
إذن : فيقول الحق سبحانه :﴿ وليعلم الله من ينصره ﴾ إنما يعني : أن يكون علم الله بمن ينصر منهجه أمرا غيبيا ؛ حتى لا يقول أحد إن انتصار المنهج جاء صدفة، بل يريد الحق سبحانه أن يجعل نصرة منهجه بالمؤمنين، حتى ولو قلت عدتهم، وقل عددهم.
إذن : قوله سبحانه وتعالى :﴿ ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر.. ( ١٤ ) ﴾[ يونس ] : أي : نظر واقع، لا نظر علم.
١ وقد تجمع خليفة على خلفاء، قال تعالى:﴿واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح...(٦٩)﴾ (الأعراف).
٢ أعديته فعدا: وعدوته أعدوه: تجاوزته إلى غيره، واستعديت الأمير على الظالم طلبت منه النصرة، فأعداني عليه: أعانني ونصرني فالاستعداد طلب التقوية والنصرة-المصباح المنيرص٣٩٧، ٣٩٨..
٣ العطب: الهلاك، يكون في الناس وفي غيرهم. وفي الحديث الشريف: ذكر عطب الهدي، وهو هلاكه، وقد يعبّر به عن آفة تعتريه، تمنعه من السير، فينحر. والمراد بالعطب هنا: الفساد أو العيب أو الخطأ. (اللسان: مادة (عطب)... بتصرف) يقول سبحانه وتعالى:﴿الذي خلق سبع سماوات طباقا ما ترى في خلق الرحمان من تفاوت..(٣) (الملك)..
٤ الحسبان: الحساب. والشمس والقمر بحسبان أي: بحساب ومنازل حددّها الله سبحانه فلا يعدونها. وقال الزجاج:"بحسبان" يدل على عدد الشهور و السنين وجميع الأوقات. وقال أبو العباس: حسبان مصدر حسب يحسبه حسابا وحسبانا. وقال الأخفش وأبو الهيثم: الحسبان جمع حساب. قال تعالى:{فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا...(٩٦)﴾ (الأنعام) (اللسان: مادة (حسب)... بتصرف).

٥ البيان: ما بين به الشيء من الدلالة وغيرهما. وبان الشيء بيانا: اتضح فهو بين. كذلك أبان الشيء إبانة فهو مبين والبيان: الفصاحة والإفصاح مع ذكاء، والبيان: إظهار المقصود بأبلغ لفظ. قال تعالى:﴿هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين(١٣٨)﴾ (آل عمران) وقال:﴿ثم إن علينا بيانه(١٩)﴾ (القيامة) [اللسان: مادة(بين)... بتصرف]..
٦ نجم الشيء: طلع وظهر. ويقال لكل ما طلع وبدا: نجم. ولذلك اختلف المفسرون في تفسير النجم في الآية، فقال ابن عباس: النجم ما انبسط على وجه الأرض(يعني: من النبات). وقال مجاهد: النجم الذي في السماء. انظر لسان العرب- مادة(نجم) وتفسير ابن كثير(٤/٢٧٠)..
٧ افعل ولا تفعل عليهما مدار التكاليف الشرعية من: الفرض، والواجب، والمندوب، والمستحب والحرام، والمكروه، والمباح..
٨ يقول عز وجل:﴿إن الإنسان ليطغى(٦) أن رآه استغنى(٧)﴾ (العلق) ومثال هذا: صاحب الجنتين اللتين قال عنهما رب العزة:﴿كلتا الجنتين آتت أكلهما ولم تظلم منه شيئا وفجرنا خلالهما نهرا(٣٣) (الكهف) ولكنه طغى بنعمة الله فقال:{ما أظن أن تبيد هذه أبدا(٣٥) وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدنّ خيرا منها منقلبا(٣٦)﴾ (الكهف).
٩ لقد حثّ الله سبحانه الناس على النظر في عاقبة السابقين وما حدث لهم في أزمانهم، وذلك في آيات كثيرة من القرآن، منها:﴿قد خلت قبلكم سنن من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين (١٣٧)﴾ (آل عمران) و﴿أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم...(١٠٩)﴾ (يوسف) والله سبحانه قد حسم مسألة الصراع بين الحق والباطل في قوله تعالى:﴿والله غالب أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون(٢١)﴾ (يوسف)..
١٠ الجزية: هي مبلغ من المال يوضع على مدخل في ذمة المسلمين وعهدهم من أهل الكتاب، فرضها الإسلام عليهم في مقابل فرض الزكاة على المسلمين، ونظير قيامهم بالدفاع عن الذميين وحمايتهم في البلاد الإسلامية التي يقيمون فيها، وهي تجب على من كان: ذكرا، مكلفا، حرا. ولا تجب على مساكين وفقراء أهل الكتاب. انظر: فقه السنة للشيخ سيد سابق(٣/١١٢-١١٧)..
١١ الميزان: العدل، المقدار، والميزان: الآلة التي توزن بها الأشياء، وجمعه: موازين. قال تعالى:﴿الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان...(١٧)﴾ (الشورى) وقال:﴿ونضع الموازين القسط ليوم القيامة...(٤٧)﴾ (الأنبياء) (اللسان: مادة (وزن)).. بتصرف)
راجع أصله وخرج فضيلة الشيخ/محمد السنراوي المستشار بالأزهر. والأستاذ/ عادل أبو المعاطي..

١٢ الحديد: الفلز المعروف تصنع منه الآلات المختلفة النافعة للناس. يقول الحق سبحانه:﴿وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس..(٢٥)﴾[الحديد] أي: فيه صلابة وقوة، وهو وسيلة من وسائل النصر والعمران، وقد يكون وسيلة للدمار؛ إذا وضع في يد من لا ضمير له ولا لإيمان عنده..
ويقول سبحانه بعد ذلك :
﴿ وإذا تتلى عليهم آياتنا( ١ ) بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء( ٢ ) نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم( ١٥ ) ﴾ :
نحن نعرف أن الآيات ثلاثة أنواع : آيات كونية، وهي العجائب التي في الكون ويسميها الله سبحانه آيات، فالآية هي عجيبة من العجائب، سواء في الذكاء أو الجمال أو الخلق، وقد سمى الحق سبحانه الظواهر الكونية آيات ؛ فقال تعالى :﴿ ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر.. ( ٣٧ ) ﴾[ فصلت ]، وقال سبحانه :﴿ ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا.. ( ٢١ ) ﴾[ الروم ] : وهذه من الآيات الكونية.
وهناك آيات هي الدليل على صدق الرسل-عليهم السلام- في البلاغ عن الله، وهي المعجزات ؛ لأنها خالفت ناموس الكون المألوف للناس. فكل شيء له طبيعة، فإذا خرج عن طبيعته ؛ فهذا يستدعي الانتباه.
مثلما يحكي القرآن عن سيدنا إبراهيم-عليه السلام- أن أعداءه أخذوه ورموه في النار فنجاه الحق سبحانه من النار ؛ فخرج منها سالما، ولم يكن المقصود من ذلك أن ينجو إبراهيم من النار، فلو كان المقصود أن ينجو إبراهيم عليه السلام من النار ؛ لحدثت أمور أخرى، كألا يمكنهم الحق- عز وجل- من أن يمسكوه، لكنهم أمسكوا به وأشعلوا النار ورموه فيها، ولو شاء الله تعالى أن يطفئها لفعل ذلك بقليل من المطر، لكن ذلك لم يحدث ؛ فقد تركهم الله في غيهم( ٣ )، ولأنه واهب النار للإحراق قال سبحانه وتعالى لها :﴿ يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم( ٦٩ ) ﴾[ الأنبياء ] : وهكذا تتجلى أمامهم خيبتهم.
إذن : الآيات تطلق على الآيات الكونية، وتطلق على الآيات المعجزات، وتطلق أيضا على آيات القرآن ما دامت الآيات القرآنية من الله والمعجزات من الله، وخلق الكون من الله، فهل هناك آية تصادم آية ؟ لا ؛ لأن الذي خلق الكون وأرسل الرسل بالمعجزات وأنزل القرآن هو إله واحد، ولو كان الأمر غير ذلك لحدث التصادم بين الآيات، والحق سبحانه هو القائل :﴿ .. ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ( ٨٢ ) ﴾[ النساء ]، وقوله تعالى :﴿ وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات.. ( ١٥ ) ﴾[ يونس ] : أي : آيات واضحة. ثم يقول الحق سبحانه :﴿ قال الذين لا يرجون لقاءنا ﴾ وعرفنا أن الرجاء طلب الأمر محبوب ومن الممكن أن يكون واقعا، مثلما يرجو إنسان أن يدخل ابنه كلية الطب أو كلية الهندسة. ومقابل الرجاء شيء آخر محبوب، لكن الإنسان يعلم استحالته، وهو التمني، فالمحبوبات-إذن- قسمان : أمور متمناة وهي في الأمور المستحيلة، لكن الإنسان يعلن أنه يحبها، والقسم الثاني أمور نحبها، ومن الممكن أن تقع، وتسمى رجاء.
﴿ الذين لا يرجون لقاءنا ﴾ هم من لا يؤمنون، لا بإله، ولا ببعث ؛ فقد قالوا :﴿ ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر( ٤ )( ٢٤ ) ﴾[ الجاثية ].
وقالوا :﴿ أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون.. ( ٨٢ ) ﴾[ المؤمنون ] : وإذا كان الإنسان لا يؤمن بالبعث ؛ فهو لا يؤمن بلقاء الله سبحانه ؛ لأن الذي يؤمن بالبعث يؤمن بلقاء الله، ويعد نفسه لهذا اللقاء بالعبادة والعمل الصالح، ولكن الكافرين الذين لا يؤمنون بالبعث سيفاجئون بالإله الذي أنكروه، وسوف تكون المفاجأة صعبة عليهم ؛ ولذلك قال سبحانه :﴿ والذين كفروا أعمالهم كسراب( ٥ ) بقيعة( ٦ ) يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا.. ( ٣٩ ) ﴾[ النور ] : السراب : هو أن يمشي الإنسان في خلاء الصحراء، ويخيل إليه أن هناك ماء أمامه، وكلما مشى ظن أن الماء أمامه، وما إن يصل إلى المكان يجد أن الماء قد تباعد. وهذه العملية لها علاقة بقضية انعكاس الضوء، فالضوء ينعكس ؛ ليصور الماء وهو ليس بماء :﴿ حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده.. ( ٣٩ ) ﴾[ النور ] : إنه يفاجأ بوجود الله سبحانه الذي لم يكن في باله، فهو واحد من الذين لا يرجون لقاء الله، وهو ممن جاء فيهم القول :﴿ وقالوا أئذا ضللنا في الأرض( ٧ ) أئنا لفي خلق جديد بل هم بلقاء ربهم كافرون( ١٠ ) ﴾[ السجدة ].
رغم أن الكون الذي نراه يحتم قضية البعث ؛ لأننا نرى أن لكل شيء دورة، فالوردة الجميلة الممتلئة بالنضارة تذبل بعد أن تفقد مائيتها، ويضيع منها اللون، ثم تصير ترابا. وأنت حين تشم الوردة فهذا يعني أن ما فيها من عطر إنما يتبخر مع المياه التي تخرج منها بخارا، ثم تذبل وتتحلل بعد ذلك.
إذن : فللوردة دورة حياة. وأنت إن نظرت إلى أي عنصر من عناصر الحياة مثل المياه سوف تجد أن الكمية الموجودة من الماء ساعة خلق الله السماوات والأرض هي بعينها ؛ لم تزد ولم تنقص. وقد شرحنا ذلك من قبل. وكل شيء تنتفع به له دورة، والدورة تسلم لدورة أخرى، وأنت مستفيد بين هذه الدورات ؛ هدما وبناء.
والذين لا يرجون لقاء الله، ولا يؤمنون بالبعث، ولا بثواب أو عقاب، لا يلتفتون إلى الكون الذي يعيشون فيه( ٨ ) ؛ لأن النظر في الكون وتأمل أحواله يوجب عليهم أن يؤمنوا بأنها دورة من الممكن أن تعود.
وسبحانه القائل :﴿ كما بدأنا أول خلق( ٩ ) نعيده.. ( ١٠٤ ) ﴾[ الأنبياء ]، وهؤلاء الذين لا يرجون لقاء الله يأتي القرآن بما جاء على ألسنتهم :﴿ ائت بقرآن غير هذا أو بدله.. ( ١٥ ) ﴾[ يونس ] : هم هنا يطلبون طلبين :﴿ ائت بقرآن غير هذا ﴾، ﴿ أو بدله ﴾. أي : يطلبون غير القرآن. ولنلحظ أن المتكلم هو الله سبحانه ؛ لذلك فلا تفهم أن القولين متساويان.
﴿ ائت بقرآن غير هذا أو بدله ﴾ هما طلبان : الطلب الأول : أنهم يطلبون قرآنا غير الذي نزل. والطلب الثاني : أنهم يريدون تبديل آية مكان آية، وهم قد طلبوا حذف الآيات التي تهزأ بالأصنام، وكذلك الآيات التي تتوعدهم بسوء المصير( ١٠ ).
ويأتي جواب من الله سبحانه على شق واحد مما طلبوه وهو المطلب الثاني، ويقول سبحانه :﴿ قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي ﴾ ولم يرد الحق سبحانه على قولهم :﴿ ائت بقرآن غير هذا ﴾.
وكان مقياس الجواب أن يقول :" ما يكون لي أن آتي بقرآن غير هذا أو أبدله " ؛ لكنه اكتفى بالرد على المطلب الثاني ﴿ أو بدله ﴾ ؛ لأن الإتيان بقرآن يتطلب تغييرا للكل. ولكن التبديل هو الأمر السهل. وقد نفى الأسهل ؛ ليسلموا أن طلب الأصعب منفي بطبيعته.
وأمر الحق سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم :﴿ قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي ﴾ : أي : أن أمر التبديل وارد، لكنه ليس من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم( ١١ ). بل بأمر من الله سبحانه وتعالى، إنما أمر الإتيان بقرآن غير هذا ليس واردا.
إذن : فالتبديل وارد شرط ألا يكون من الرسول صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال الحق سبحانه :﴿ وإذا بدلنا آية مكان آية( ١٢ ) والله أعلم بما ينزل.. ( ١٠١ ) ﴾[ النحل ] : وهو ما تذكره هذه الآية :﴿ قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي ﴾ و﴿ تلقاء ﴾ من " لقاء " ؛ فتقول :" لقيت فلانا "، ويأتي المصدر من جنس الفعل أو حروفه، ويسمون " التلقاء " هنا : الجهة.
والحق سبحانه يقول في آية أخرى :﴿ ولما توجه تلقاء مدين( ١٣ ).. ( ٢٢ ) ﴾[ القصص ] :
و﴿ تلقاء مدين ﴾ أي : جهة مدين. و " التلقاء " قد تأتي بمعنى اللقاء ؛ لأنك حين تقول :" لقيته " أي أنا وفلان التقينا في مكان واحد، وحين نتوجه إلى مكان معين فنحن نوجد فيه. ويظن بعض الناس أن كل لفظ يأتي لمعنيين يحمل تناقضا، ونقول : لا، ليس هناك تناقض، بل انفكاك جهة، مثلها قال الحق سبحانه :﴿ فول وجهك شطر( ١٤ ) المسجد الحرام.. ( ١٤٤ ) ﴾[ البقرة ] : والشطر معناه : الجهة ؛ ومعناه أيضا : النصف، فيقال :" أخذ فلان شطر ماله "، أي : نصفه، و " اتجهت شطر كذا "، أي : إلى جهة كذا.
وهذه معان غير متناقضة ؛ فالإنسان منا ساعة يقف في أي مكان ؛ يصبح هذا المكان مركزا لمرائيه، وما حوله كله محيطا ينتهي بالأفق.
ويختلف محيط كل إنسان حسب قوة بصره، ومحيط الرؤية ينتهي حين يخيل لك أن السماء انطبقت على الأرض، هذا هو الأفق الذي يخصك، فإن كان بصرك قويا فأفقك يتسع، وإن كان البصر ضعيفا يضيق الأفق.
ويقال :" فلان ضيق الأفق " أي : أن رؤيته محدودة، وكل إنسان منا إذا وقف في مكان يصير مركزا لما يحيطه من مراء ؛ ولذلك يوجد أكثر من مركز، فالمقابل لك نصف الكون المرئي، وخلفك نصف الكون المرئي الآخر، فإذا قيل : إن " الشطر " هو " النصف "، فالشطر أيضا هو " الجهة ".
وهنا يقول الحق سبحانه :﴿ قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي ﴾ : أي : أنه صلى الله عليه وسلم لا يأتي بالقرآن من عند نفسه صلى الله عليه وسلم، بل يوحى إليه.
وينهي الحق سبحانه الآية بقوله :﴿ إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم.. ( ١٥ ) ﴾[ يونس ] : أي : أنه صلى الله عليه وسلم لو جاء بشيء من عنده، ففي هذا معصية لله تعالى، ونعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعرف أنه كان شاعرا، ولا كان كاتبا، ولا كان خطيبا. وبعد أن نزل الوحي عليه من الله جاء القرآن في منتهى البلاغة.
وقد نزل الوحي ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الأربعين من عمره ولا توجد عبقرية يتأجل ظهورها إلى هذه المرحلة من العمر، ولا يمكن أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد أجل عبقريته إلى هذه السن ؛ لأنه لم يكن يضمن أن يمتد به العمر.
١ الآية: العبرة، والآية: المعجزة أو الشيء العجيب. والجمع: آيات، وآي. قال تعالى:﴿سنريهم آياتنا في الآفاق..(٥٣)﴾[فصلت]، والآيات هنا: الأدلة الواضحة على وحدانية الله وكمال قدرته وقيوميته.[لسان العرب: مادة (أيا).. بتصرف]..
٢ التلقاء: مصدر لقي. يقال: يسرني تلقاؤك أي: لقاؤك أي: لقاؤك. ويستعمل ظرف مكان بمعنى جهة اللقاء والمقابلة..
٣ الغي: الضلال. غوى غيا وغواية: أمعن في الضلال، قال تعالى:﴿ما ضل صاحبكم وما غوى(٢)﴾ [النجم] وتغاوى القوم: تجمعوا وتعاونوا على الشر. واستغواه بالأماني الكاذبة: طلب غيه وأضله. وقال تعالى:﴿لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي..(٢٥٦)﴾[البقرة].[المعجم الوسيط: مادة (غوى).. بتصرف]..
٤ الدهر: الزمان الطويل، ومدة الحياة الدنيا. قال تعالى:﴿هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا (١)﴾[الإنسان]. وقال صلى الله عليه وسلم:"لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر" معناه: أن ما أصابك من الدهر، فالله فاعله وليس الدهر، فإذا شتمت الدهر، فكأنك أردت به الله تعالى سبحانه عما يقولون أو يصفون.[لسان العرب: مادة (دهر)-بتصرف]..
٥ السراب: ما يرى في نصف النهار من اشتداد الحر كالماء في الصحراء يلتصق بالأرض. وهو من خداع البصر. وقد سمي السراب سرابا لأنه يسرب سروبا، أي: يجري جريا، أي: يتحرك حركة تخدع الرائي من بعيد؛ فيظنه ماء وهو ليس بماء، بل خداع ضوئي وبصري ناتج عن الحالة النفسية للشخص عند شدة عطشه ووجوده في صحراء قاحلة؛ فأي حركة من بعيد يظنها ماء؛ ويجري إليها؛ ليفاجأ بعدم وجود شيء..
٦ القيعة: أرض واسعة مستوية لا تنبت الشجر. قال الفراء: القيعة جمع القاع، والقاع: ما انبسط من الأرض. قال تعالى:﴿فيذرها قاعا صفصفا (١٠٦)﴾[طه].[اللسان: مادة (قرع).. بتصرف]..
٧ ضللنا في الأرض: قال أبو منصور: الأصل في كلام العرب أن يقال: أضللت الشيء إذا غيبته، وأضللت الميت: دفنته. فالضلال من معانيه: الفساد والعصيان ونقيض الهداية والرشاد. ومن معانيه: التغييب والدفن. فكأنهم يقولون:"إذا دفنا وغيبنا تحت الأرض.. فهل نحيا من جديد؟" فيرد عليهم الحق سبحانه بقوله:﴿وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه..(٢٧)﴾[الروم].][لسان العرب: مادة (ضلل)-بتصرف]..
٨ وقد حكى الله تعالى. عنهم هذا فقال:﴿وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون(١٠٥)﴾[يوسف] ويقول سبحانه:﴿وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتنا معرضون(٣٢)﴾[الأنبياء]..
٩ عن ابن عباس قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا بموعظة فقال: يأيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلا:﴿كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين (١٠٤)﴾[الأنبياء] الحديث أخرجه البخاري في صحيحه(٦٥٢٤) بنحوه، ومسلم (٢٨٦٠) واللفظ لمسلم..
١٠ وهذا يتفق مع ما قاله القرطبي في تفسيره(٤/٣٢٤٥) لهذه الآية. قال: في قولهم ذلك ثلاثة أوجه:
أحدها: أنهم سألوه أن يحول الوعد وعيدا والوعيد وعدا، والحلال حراما والحرام حلالا. قاله ابن جرير الطبري.
الثاني: سألوه أن يسقط ما في القرآن من عيب آلهتهم وتسفيه أحلامهم. قال ابن عيسى.
الثالث: أنهم سألوه إسقاط ما فيه من ذكر البعث والنشور. قاله الزجاج..

١١ يقول سبحانه وتعالى عن محمد صلى الله عليه وسلم:﴿ولو تقول علينا بعض الأقاويل(٤٤) لأخذنا منه باليمين(٤٥) ثم لقطعنا منه الوتين(٤٦) فما منكم من أحد عنه حاجزين(٤٧)﴾[الحاقة]، فهذا تأكيد أن محمدا صلى الله عليه وسلم لا يستطيع أن يزيد أو ينقص فيما يوحى إليه من عند الله، وإلا لبطش الله به ولقطع نياط قلبه وأماته..
١٢ وهذا هو نسخ التبديل؛ للتيسير على الناس أو لحكم يعلمها الله سبحانه، والتيسير ورفع الحرج هو من مقاصد الشريعة، يقول سبحانه:﴿وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل..(٧٨)﴾[الحج] ويقول تعالى:﴿ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها..(١٠٦)﴾[البقرة] والنسخ في القرآن أنواع:
١-ما نسخ تلاوته وحكمه معا، قالت عائشة: كان فيما أنزل "عشر رضعات معلومات فنسخن بخمس معلومات".
٢-ما نسخ حكمه دون تلاوته، وهو قليل جدا في القرآن، وأكثر فيه بعض الناس بغير مقتضى.
٣- وقسم نسخ شرائع من قبلنا وما كان عليه الأمر في الجاهلية. انظر: الإتقان في علوم القرآن لليسوطي(٣/٥٩-٧٧).
.

١٣ مدين: اسم قرية شعيب-عليه السلام..
١٤ شطر الشيء: ناحيته، وشطر كل شيء: نحوه وقصده، وقصدت شطره أي: ناحيته."وشطر المسجد الحرام": نحوه وتلقاءه. قال تعالى:﴿وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره..(١٤٤)﴾[البقرة]. وشطره الشيء: نصفه، والجمع: أشطر، وشطور. وشطرته: جعلته نصفين. وشاطره ماله: ناصفه. وفي الحديث: أن سعدا استأذن النبي صلى الله عليه وسلم ان يتصدق بماله كله، قال:"لا" قال: فالشطر، قال:"لا" قال: الثلث، فقال."الثلث، والثلث كثير". وفي الحديث:"الطهور شطر الإيمان" أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي مالك الأشعري (٢٢٣)؛ لأن الإيمان يظهر بحاشية الباطن، والطهور يظهر بحاشية الظاهر.[لسان العرب: مادة (شطر)-بتصرف]..
ويأتي لنا الحق سبحانه بالدليل القاطع على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتبع إلا ما يوحى إليه فيقول :﴿ إن أتبع إلا ما يوحي إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم( ١٥ ) ﴾[ يونس ]، ويأتي الأمر بالرد من الحق سبحانه على الكافرين :
﴿ قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون( ١٦ ) ﴾ :
وهنا يبلغ محمد صلى الله عليه وسلم هؤلاء الذين طلبوا تغيير القرآن أو تبديله : لقد عشت طوال عمري معكم، ولم تكن لي قوة بلاغة أو قوة شعر، أو قوة أدب. فمن له موهبة لا يكتمها إلى أن يبلغ الأربعين، ورأيتم أنه صلى الله عليه وسلم لم يجلس إلى معلم، بل عندما اتهمتموه وقلتم :﴿ إنما يعلمه بشر... ( ١٠٣ ) ﴾[ النحل ]، وفضحكم الحق سبحانه بأن أنزل في القرآن قوله تعالى :
﴿ لسان الذي يلحدون إليه( ١ ) أعجمي( ٢ ) وهذا لسان عربي مبين( ١٠٣ ) ﴾[ النحل ]، ولم يخرج النبي صلى الله عليه وسلم من شبه الجزيرة العربية، ولم يقرأ مؤلفات أحد. فمن أين جاء القرآن إذن ؟
لقد جاء من الله سبحانه، وعليكم أن تعقلوا ذلك، ولا داعي للاتهام بأن القرآن من عند محمد ؛ لأنكم لم تجربوه خطيبا أو شاعرا، بل كل ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد أن نزلت عليه الرسالة، هو بلاغ من عند الله.
وبطبيعة الحال لا يمكن أن ينسب الكمال إلى إنسان فينفيه، فالعادة أن يسرق شاعر-مثلا- قصيدة من شاعر آخر، أو أن ينتحل( ٣ ) كاتب مقالة من آخر. لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يبلغكم أن كمال القرآن ليس من عنده، بل هو مجرد مبلغ له، وكان يجب أن يعقلوا تلك القضية بمقدماتها ونتائجها ؛ فلا يلقوا لأفكارهم العنان( ٤ ) ؛ ليكذبوا ويعاندوا، فالأمر بسيط جدا( ٥ ).
يقول الحق سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم :﴿ قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون( ١٦ ) ﴾[ يونس ].
إذن : فالمقدمة التي يريد الحق سبحانه وتعالى أن يقنع بها الكافرين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أرسله الله رسولا من أنفسهم( ٦ )، فإن قلت :﴿ إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم.. ( ١٦٤ ) ﴾[ آل عمران ] : أي : أنه صلى الله عليه وسلم من جنس الناس، لا من جنس الملائكة، أو ﴿ من أنفسهم ﴾ أي : من أمة العرب، لا من أمة العجم، أو﴿ من أنفسهم ﴾أي : من قبيلتهم التي يكذب أصحابها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذن : فحياته صلى الله عليه وسلم معروفة معلومة لكم، لم يغب عنكم فترة ؛ لتقولوا بعث بعثة ؛ ليتعلم علما من مكان آخر، ولم يجلس إلى معلم عندكم ولا إلى معلم خارجكم، ولم يتل كتابا، فإذا كان الأمر كذلك، فيجب أن تأخذوا من هذا مقدمة وتقولوا : فمن أين جاءت له هذه الحكمة فجأة ؟
أنتم تعلمون أن المواهب والعبقريات لا تنشأ في الأربعينات، ولكن مخايل العبقرية إنما تنشأ في نهاية العقد الثاني وأوائل العقد الثالث، فمن الذي أخر العبقرية عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقول هذا القول البليغ الذي أعجزكم، وأنتم أمة البلاغة وأمة الفصاحة المرتاضون( ٧ ) عليها من قديم، وعجزتم أمام ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ؟.
كان يجب أن تقولوا : لم نعرف عنه أنه يعلم شيئا من هذا، فإذا حل لكم اللغز وأوضح لكم : أن القرآن ليس من عندي ؛ كان يجب أن تصدقوه ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم يعزوه إلى خالقه وربه سبحانه. والدليل على أنكم مضطربون في الحكم أنكم ساعة يقول لكم : القرآن بلاغ عن الله، تكذبونه، وتقولون : لا، بل هو من عندك، فإذا فتر عنه الوحي مرة قلتم : قلاه( ٨ ) ربه. لماذا اقتنعتم بأن له ربا يصله بالوحي ويهجره بلا وحي ؟
أنتم-إذن-أنكرتم حالة الوصل بالوحي، واعترفتم بالإله الخالق عندما غاب عنه الوحي، وكان يجب أن تنتبهوا وتعودوا إلى عقولكم ؛ لتحكموا على هذه الأشياء، وقد ذكر الحق سبحانه ذلك الأمر في كثير من آياته، يقول سبحانه :﴿ وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم( ٩ ) أيهم يكفل( ١٠ ) مريم( ٤٤ ) ﴾[ آل عمران ]، ويقول سبحانه :﴿ وما كنت بجانب الغربي( ١١ ) إذ قضينا إلى موسى الأمر.. ( ٤٤ ) ﴾[ القصص ].
ويقول سبحانه :﴿ وما كنت ثاويا( ١٢ ) في أهل مدين.. ( ٤٥ ) ﴾[ القصص ]، ويقول سبحانه :
﴿ وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون( ٤٨ ) ﴾[ العنكبوت ].
فمن أين جاءت تلك البلاغة ؟ كان يجب أن تأخذوا هذه المقدمات ؛ لتحكموا بأنه صادق في البلاغ عن الله ؛ لذلك ينهي الحق سبحانه الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها بقوله :﴿ أفلا تعقلون ﴾.
وحين ينبهك الحق سبحانه وتعالى إلى أن تستعمل عقلك، فهذا دليل على الثقة في أنك إذا استعملت عقلك ؛ وصلت إلى القضية المرادة. والله سبحانه وتعالى منزه عن خديعة عباده. فمن يخدع الإنسان هو من يحاول أن يصيب عقله بالغفلة، ولكن الذي ينبه العقل هو من يعلم أن دليل الحقيقة المناسبة لما يقول، يمكن الوصول إليه بالعقل.
وقول الحق سبحانه في آخر الآية :﴿ أفلا تعقلون ﴾ يدلنا على أن القضية التي كذبوا فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم نشأت من عدم استعمال عقولهم، فلو أنهم استعملوا عقولهم في استخدام المقدمات المحسة التي يؤمنون بها ويسلمون ؛ لانتهوا إلى القضية الإيمانية التي يقولها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولو أنهم فكروا وقالوا : محمد نشأ بيننا ولم نعرف له قراءة، ولا تلاوة كتاب ولا جلوسا إلى معلم، ولم يغب عنا فترة ليتعلم، وظل مدة طويلة إلى سن الأربعين ولم يرتض على قول ولا على بلاغة ولا على بيان ؛ فمن أين جاءته هذه الدفعة القوية ؟
كان يجب أن يسألوه هو عنها : من أين جاءتك هذه ؟ وما دام قد قال لهم : إنها جاءته من عند الله، فكان يجب أن يصدقوه.
ومهمة العقل دائما مأخوذة من اشتقاقه، " فالعقل " ( ١٣ ) مأخوذ من " عقال " البعير. وعقال البعير هو الحبل الذي يربط به ساقي الجمل ؛ حتى لا ينهض ويقوم ؛ لنوفر له حركته فيما نحب أن يتحرك فيه، فبدلا من أن يسير هكذا بدون غرض، وبدون قصد، فنحن نربط ساقيه ؛ ليرتاح ولا يتحرك، إلى أن نحتاجه في حركة.
إذن : فالعقل إنما جاء ؛ ليحكم الملكات ؛ لأن كل ملكة لها نزوع إلى شيء، فالعين لها ملكة أن ترى كل شيء، فيقول لها العقل : لا داعي أن تشاهدي ذلك ؛ لأنه منظر سيؤذيك، والأذن تحب أن تسمع كل قول، فيقول لها العقل : لا تسمعي إلى ذلك ؛ حتى لا يضرك( ١٤ ).
إذن : فالعقل هو الضابط على بقية الجوارح. وكذلك كلمة " الحكمة "، مأخوذة من " الحكمة " ( ١٥ ) وهي في " اللجام " الذي يوضع في فم الفرس ؛ حتى لا يجمح، وتظل حركته محسوبة ؛ فلا يتحرك إلا إلى الاتجاه الذي تريده.
إذن : شاء الحق سبحانه أن يميز الإنسان بالعقل والحكمة ؛ ليقيم الموازين لملكات النفس ؛ فخذوا المقدمات المحسة التي تؤمنون بها وتشهدونها وتسلمونها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لتستنبطوا أنه جاء بكلامه من عند الله تعالى.
١ لحد في الدين وألحد والتحد: مال عنه، وحاد، وابتعد. والإلحاد: الجدال والمراء، قال تعالى:﴿إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا..(٤٠)﴾[فصلت] وقال تعالى:﴿وذروا الذين يلحدون في أسمائه..(١٨٠)﴾[الأعراف]. والإلحاد: الظلم والجور. قال تعالى:﴿ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم..(٢٥)﴾[الحج]. والإلحاد في اللغة: الميل عن المقصد. وقوله:﴿لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين..(١٠٣)﴾[النحل] وأصل الإلحاد: الميل والعدول عن الشيء. والملتحد: الملجأ؛ لأن اللاجئ يميل إليه.[لسان العرب مادة (لحد)-بتصرف]..
٢ عجم: العجم والعجم: خلاف العرب والعرب. ورجل عجمي أو أعجمي: غير عربي. قال أبو إسحاق: الأعجم: الذي لا يفصح ولا يبين كلامه وإن كان عربيا. والعجمى هو الذي من جنس العجم أفصح أو لم يفصح. قال تعالى:﴿ولو نزلناه على بعض الأعجمين(١٩٨) فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين(١٩٩)﴾[الشعراء]..
٣ ينتحل الشيء: ينسبه إلى نفسه. نحله القول: نسبه إليه. ونحل الشاعر قصيدة إذا نسبت إليه وهي من قيل غيره.[لسان العرب: مادة نحل]..
٤ العنان: عنان اللجام: السير الذي تمسك به الدابة، والجمع: أعنة. والعنان: الحبل. والمراد هنا: تشبيه الأفكار بالبعير الذي له عقال أو عنان؛ إذا أرخيته له سار وانطلق كما يشاء ويهوى على غير هدى. والعنان للدواب كالعقل للإنسان فإذا فسد العقل ضل صاحبه، وإذا لم يعقل الإنسان أفكاره يضل.[لسان العرب: مادة (عنن)-بتصرف]..
٥ فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان أميا لا يقرأ ولا يكتب، يقول الحق سبحانه:﴿وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لأرتاب المبطلون(٤٨)﴾[العنكبوت]..
٦ وفي هذا يقول الحق سبحانه:﴿لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم(١٢٨)﴾[التوبة]..
٧ المرتاضون: الذين لهم دربة، قد ذللت ألسنتهم على الفصاحة والبلاغة..
٨ قلاه ربه: أبغضه وتركه. ولذلك قال له ربه:﴿ما وعدك ربك وما قلى(٣)﴾[الضحى].
.

٩ أقلامهم: سهامهم، وقيل: أقلامهم التي كانوا يكتبون بها التوراة. قال الزجاج: الأقلام هنا: القداح. وهي قداح جعلوا عليها علامات يعرفون بها من يكفل مريم، على جهة القرعة، وإنما قيل للسهم: القلم؛ لأنه يقلم، أي: يبرى. وكل ما قطعت منه شيئا بعد شيء فقد قلمته، من ذلك القلم الذي يكتب به، وإنما سمي قلما؛ لأنه قلم مرة بعد مرة، ومن هذا قيل: قلمت أظافري. قال تعالى:﴿ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله..(٢٧)﴾[لقمان].[لسان العرب: مادة (قلم)-بتصرف]..
١٠ يكفل: يعول، والكافل: العائل. قال تعالى:﴿وكفلها زكريا..(٣٧)﴾[آل عمران]..
١١ الغربي: الجبل الغربي الذي كلم الله سبحانه نبيه موسى عليه السلام عنده من الشجرة التي هي شرقية على شاطئ الوادي المقدس (طوى).[تفسير ابن كثير: ٣/٣٩١-بتصرف]..
١٢ ثاويا: مقيما والثواء: الإقامة، ثويت بالمكان: أقمت فيه. قال تعالى:﴿ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين..(١٥١)﴾[آل عمران]. [لسان العرب: مادة (ثوا)-بتصرف]..
١٣ العقل: النهى، ضد الحمق، وعقل يعقل فهو عاقل. قال ابن الأنباري: الرجل العاقل هو الجامع لأمره ورأيه، مأخوذ من عقلت البعير إذا جمعت قوائمه، وقيل: العاقل هو الذي يحبس نفسه ويردها عن هواها. والعقل: التثبت في الأمور..
١٤ وقد قال سبحانه:﴿عن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا(٣٦)﴾[الإسراء]..
١٥ حكمة اللجام: ما أحاط بحنكي الفرس، سميت بذلك لأنها تمنعه من الجري الشديد. وقيل: الحكمة حديدة في اللجام تكون على أنف الفرس وحنكه تمنعه من مخالفة راكبه. [لسان العرب: مادة (حكم)].
وعن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:{ما من آدمي إلا في رأسه حكمة بيد ملك، فإذا تواضع قيل للملك: ارفع حكمته، وإذا تكبر قيل للملك: ضع حكمته" أخرجه الطبراني في معجمه الكبير (١٢٩٣٩) وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (٨/٨٢) وقال: إسناده حسن..

ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ فمن أظلم ممن افترى( ١ ) على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح المجرمون( ١٧ ) ﴾ :
وهنا يوضح القرآن على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم : أأكذب على الله ؟ إذا كنت لم أكذب عليكم أنتم في أموري معكم وفي الأمور التي جربتموها، أفأكذب على الله ؟ ! عن الذي يكذب في أول حياته من المعقول أن يكذب في الكبر، وإذا كنت لم أكذب عليكم أنتم، فهل أكذب على الله ؟
وإذا لم أكن قد كذبت وأنا غير ناضج التفكير، في طفولتي قبل أن أصل إلى الرجولة، فأنا الآن لا أستطيع الكذب. فإذا كنتم أنتم تتهمونني بذلك، فأنا لا أظلم نفسي وأتهمها بالكذب، فتصبحون أنتم المكذبين ؛ لأنكم كذبتموني في أن القرآن مبلغ عن الله، ولو أنني قلت : إنه من عند نفسي لكان من المنطق أن تكذبوا ذلك ؛ لأنه شرف يدعى. ولكن أرفعه إلى غيري ؛ إلى من هو أعلى مني ومنكم.
وقوله الحق :﴿ فمن أظلم ﴾ أي : لا أحد أظلم ممن افترى على الله سبحانه كذبا ؛ لأن الكاذب إنما يكذب ليدلس على من أمامه، فهل يكذب أحد على من يعلم الأمور على حقيقتها ؟ لا أحد بقادر على ذلك. ومن يكذب على البشر المساوين له يظلمهم، لكن الأظلم منه هو من يكذب على الله سبحانه.
والافتراء كذب متعمد، فمن الجائز أن يقول الإنسان قضية يعتقدها، لكنها ليست واقعا، لكنه اعتقد أنها واقعة بإخبار من يثق به، ثم تبين بعد ذلك أنها غير واقعة، وهذا كذب صحيح، لكنه غير متعمد، أما الافتراء فهو كذب متعمد.
ولذلك حينما قسم علماء اللغة الكلام الخبري ؛ قسموه إلى : خبر وإنشاء، والخبر يقال لقائله : صدقت أو كذبت، فإن كان الكلام يناسب الواقع فهو صدق، وإن كان الكلام لا يناسب الواقع فهو كذب.
وقوله الحق :﴿ افترى على الله كذبا أو كذب بآياته ﴾ يبين لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن قلتم إنني ادعيت أن الكلام من عند الله، وهو ليس من عند الله. فهذا يعني أن الكلام كذب وهو من عندي أنا، فما موقف من يكذب بآيات الله ؟
إن الكذب من عندكم أنتم، فإن كنتم تكذبونني وتدعون أني أقول إن هذا من الله، وهو ليس من الله، وتتمادون وتكذبون بالآيات وتقولون هي من عندك، وهي ليست من عندي، بل من عند الله ؛ فالإثم عليكم.
والكذب إما أن يأتي من ناحية القائل، وإما من ناحية المستمع، وأراد الرسول صلى الله عليه وسلم عدالة التوزيع في أكثر من موقع، مثلما يأتي القول الحق مبينا أدب النبوة :﴿ وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين( ٢ ).. ( ٢٤ ) ﴾[ سبأ ].
وليس هناك أدب في العرض أكثر من هذا، فيبين أن قضيته صلى الله عليه وسلم وقضيتهم لا تلتقيان أبدا، واحدة منهما صادقة والأخرى كاذبة، ولكن من الذي يحدد القضية الصادقة من الكاذبة ؟ إنه الحق سبحانه.
وتجده سبحانه يقول على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم :﴿ أو في ضلال مبين ﴾. وفي ذلك طلب لأن يعرضوا الأمر على عقولهم ؛ ليعرفوا أي القضيتين هي الهدى، وأيهما هي الضلال( ٣ ).
وفي ذلك ارتقاء للمجادلة بالتي هي أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويقول الحق سبحانه :﴿ قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون... ( ٢٥ ) ﴾[ سبأ ] : أي : كل واحد سيسأل عن عمله، فجريمتك لن أسأل أنا عنها، وجريمتي لا تسأل أنت عنها. ونسب الإجرام لجهته ولم يقل :{ قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تجرمون " وشاء ذلك ليرتقى في الجدل، فاختار الأسلوب الذي يهذب، لا ليهيج الخصم ؛ فيعاند، وهذا من الحكمة ؛ حتى لا يقول للخصم ما يسبب توتره وعناده فيستمر الجدل بلا طائل.
وهنا يقول الحق سبحانه :﴿ فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ﴾ فإذا كان الظلم من جهتي ؛ فسوف يحاسبني الله عليه، وإن كان من جهتكم ؛ فاعلموا قول الحق سبحانه :﴿ إنه لا يفلح المجرمون ﴾ ولم يحدد من المجرم، وترك الحكم للسامع.
كما تقول لإنسان له معك خلاف : سأعرض عليك القضية واحكم أنت، وساعة تفوضه في الحكم ؛ فلن يصل إلا إلى ما تريد. ولو لم يكن الأمر كذلك لما عرضت الأمر عليه.
١ افترى: اختلق. الفرية: الكذب. و" افترى" تفيد المبالغة في الكذب..
٢ هذا من باب اللف والنشر، وهو لون من ألوان البديع في القرآن، وتعريفه:"أن يذكر شيئان أو أشياء، إما تفصيلا بالنص على كل واحد أو إجمالا، بأن يؤتى بلفظ يشتمل على متعدد، ثم يذكر أشياء على عدد ذلك، كل واحد يرجع إلى واحد من المتقدم، ويفوض إلى عقل السامع رد كل واحد إلى ما يليق به،(الإتقان في علوم القرآن للسيوطي ٣/٢٨٠، ٢٧٩) وهو هنا تفصيلي، وذلك مثل قوله تعالى:﴿جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله..(٧٣)﴾[القصص]، فالسكون راجع إلى الليل، والابتغاء راجع إلى النهار..
٣ وقد استخدم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المنهج مع المشركين، فكانوا يقولون لهم:"والله ما نحن وإياكم على أمر واحد إن أحد الفريقين لمهتد" ذكره ابن كثير في تفسيره (٣/٥٣٨) من قول قتادة. وهو دعوة لإعمال الفكر والعقل من جانب المشركين..
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك :﴿ ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون( ١ ) ( ١٨ ) ﴾ : وكلمة ﴿ ويعبدون ﴾ تقتضي وجود عابد ؛ ووجود معبود ؛ ووجود معنى للعبادة. والعابد أدنى حالا من المعبود، ومظهر العبادة والعبودية كله طاعة للأمر والانصراف عن النهي عنه.
هذا هو أصل العبادة، ووسيلة القرب من الله.
وحتى تكون العبادة في محلها الصحيح لا بد أن يقر العابد أن المعبود أعلى مرتبة في الحكم على الأشياء، أما إن كان الأمر بين متساويين فيسمونه التماسا.
إذن : فهناك آمر ومأمور، فإن تساويا ؛ فالمأمور يحتاج إلى إقناع، وأما إن كان في المسألة حكم سابق بأن الآمر أعلى من المأمور ؛ كالأستاذ بالنسبة للتلميذ، أو الطبيب بالنسبة للمريض، ففي هذا الوضع يطيع المأمور الآمر لأنه يفهم الموضوع الذي يأمر فيه.
وكذلك المؤمن ؛ لأن معنى الإيمان أنه آمن بوجود إله قادر له كل صفات الكمال المطلق ؛ فإذا اعتقدت هذا ؛ فالإنسان ينفذ ما يأمر به الله ؛ ليأخذ الرضاء والحب والثواب. وإن لم ينفذ } فسوف ينال غضب المعبود وعقابه.
إذن : فأنت إن فعلت أمره واجتنبت نهيه ؛ نلت الثواب منه، وإن خالفت ؛ تأخذ عقابا ؛ لذلك لا بد أن يكون أعلى منك قدرة، ويكون قادرا على إنفاذ الثواب والعقاب، والقادر هو الله جل علاه.
أما الأصنام التي كانوا يعبدونها، فبأي شيء أمرتهم ؟ إنها لم تأمر بشيء ؛ لذلك لا يصلح أن تكون لها عبادة ؛ لأن معنى العبادة يتطلب أمرا ونهيا، ولم تأمر الأصنام بشيء ولم تنه عن شيء، بل كان المشركون هم الذين يقترحون الأوامر والنواهي، وهو أمر لا يليق ؛ لأن المعبود هو الذي عليه أن يحدد أوجه الأوامر والنواهي.
إذن : فمن الحمق( ٢ ) أن يعبد أحد الأصنام ؛ لأنها لا تضر من خالفها، ولا تنفع من عبدها، فليس لها أمر ولا نهي.
ومن أوقفوا أنفسهم هذا الموقف نسوا أن في قدرة كل منهم أن ينفع الصنم وأن يضره، فالواحد منهم يستطيع أن يصنع الصنم، وأن يصلحه إذا انكسر، أو يستطيع أن يكسره بأن يلقيه على الأرض. وفي هذه الحالة يكون العابد أقدر من المعبود على الضر وعلى النفع، وهذا عين التخلف العقلي.
إذن : فمثل هذه العبادة لون من الحمق، ولو عرضت هذه المسألة على العقل ؛ فسوف يرفضها العقل السليم.
وعندما تجادلهم، وتثبت لهم أن تلك الأصنام لا تضر ولا تنفع، تجد من يكابر قائلا :﴿ هؤلاء شفعاؤنا عند الله ﴾ وهم بهذا القول يعترفون أن الله هو الذي ينفع ويضر، ولكن أما كان يجب أن يتخذوا شفيعا لهم عند الله، وأن يكون الشفيع متمتعا بمكانة ومحبة عند من يشفع عنده( ٣ ) ؟
ثم ماذا يقولون في أن من تقدم له شفاعة هو الذي ينهى عن اتخاذ الأصنام آلهة وينهى عن عبادتها ؟
وهل هناك شفاعة دون إذن من المشفوع عنده ؟ من أجل ذلك جاء الأمر من الحق سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم :﴿ قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات و لا الأرض.. ( ١٨ ) ﴾[ يونس ].
إذن : فمن أين جئتم بهذه القضية ؛ قضية شفاعة الأصنام لكم عند الله ؟ إنها قضية لا وجود لها، وسبحانه لم يبلغكم أن هناك أصناما تشفع، وليس هذا واردا، فقولكم هذا فيه كذب متعمد وافتراء.
فهو سبحانه الذي خلق السماوات والأرض، ويعلم كل ما في الكون، وقضية شفاعة الأصنام عنده ليست في علمه، ولا وجود لها، بل هي قضية مفتراة، مدعاة.
وقوله الحق هنا :﴿ أتنبئون الله ﴾ مثلها نمثل قوله الحق :﴿ قل أتعلمون الله بدينكم.. ( ١٦ ) ﴾[ الحجرات ] : ويعني هذا القول بالرد على من قالوا ويقولون : إن المطلوب هو تشريعات تناسب العصر، وكلما فسد العصر طالبوا بتشريعات جديدة، وما داموا هم الذين يشرعون، فكأنهم يرغبون في تعليم خالقهم كيف يكون الدين، وفي هذا اجتراء وجهل بقدرة وحكمة من خلق الكون، فأحكمه بنظام.
وقوله الحق :﴿ قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون ﴾ فيه تنزيه له سبحانه، فهو الخالق لكل شيء، خالق الملك والملكوت ويعلم كل شيء، وقضية شفاعة الأصنام إنما هي قضية مفتراة لا وجود لها ؛ لذلك فهي ليست في علم الله، والحق سبحانه منزه أن توجد في ملكه قضية لها مدلول يقيني ولا يعلمها، ومنزه جل وعلا عن أن يشرك به ؛ لأن الشريك إنما يكون ليساعد من يشركه، ونحن نرى على السبيل المثال صاحب مال يديره في تجارة ما، ولكن ماله لا ينهض بكل مسئوليات التجارة، فيبحث عن شريك له.
وسبحانه وتعالى قوي وقادر، ولا يحتاج إلى أحد في ملكية الكون وإدارته، ثم ماذا يفعل هؤلاء الشركاء المدعون كذبا على الله ؟.
إن الحق سبحانه يقول :﴿ قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا( ٤ ) إلى ذي العرش سبيلا( ٤٢ ) ﴾[ الإسراء ] : وهذا القول الحكيم ينبه المشركين إلى أنه بافتراض جدلي أن لهؤلاء الشركاء قوة وقدرة على التصرف، فهم لن يفعلوا أي شيء إلا بابتغاء ذي العرش، أي : بأمره سبحانه وتعالى. وهم حين ظنوا خطأ أن لكل فلك من الأفلاك سيطرة على مجال في الوجود، وأن النجوم لها سيطرة على الوجود، وأن كل برج من الأبراج له سيطرة على الوجود، فلا بد في النهاية من الاستئذان من مالك الملك والملكوت.
ومن خيبة من ظنوا مثل هذه الظنون، ومعهم الفلاسفة الذين اقروا بأن هناك أشياء في الكون لا يمكن أن يخلقها إنسان، أو أن يدعي لنفسه صناعتها ؛ لأن الجنس البشري قد طرأ على هذه المخلوقات، فقد طرأ الإنسان على الشمس والقمر والنجوم والأرض، ولا بد إذن أن تكون هناك قوة أعلى من الإنسان هي التي خلقت هذه الكائنات. كل هذه الكائنات تحتاج إلى موجد، ولم نجد معامل لصناعة الشمس أو القمر أو الأرض أو وجدنا من ادعى صناعتها أو خلقها.
ولكن الفلاسفة الذين قبلوا وجود خالق للكون لم يصلوا على اسمه ولا إلى منهجه، وقوة الحق سبحانه مطلقة، ولا يحتاج إلى شريك له. وإذا أردنا أن نتأمل ولو جزءا بسيطا من أثر قوة الله التي وهبها للإنسان، فلنتأمل صناعة المصباح الكهربي.
وكل منا يعلم أنه لا توجد بذرة نضعها في الأرض، فتبنت أشجارا من المصابيح، بل استدعت صناعة مصباح الكهرباء جهد العلماء الذين درسوا علم الطاقة، واستنبطوا من المعادلات إمكان تصور صناعة المصباح الكهربي، وعملوا على تفريغ الهواء من الزجاجة التي يوضع فيها السلك الذي يضيء داخل المصباح، وهكذا وجدنا أن صناعة مصباح كهربي واحد تحتاج على جهد علماء وعمل مصانع، كل ذلك من أجل إنارة غرفة واحدة لفترة من الزمن. فما بالنا بالشمس التي تضيء الكون كله، وإذا كان أتفه الأشياء يتطلب كمية هائلة من العلم والبحث والإمكانيات الفنية والتطبيقية، وتطوير الصناعات، فما بالنا بالشمس التي تضيء نصف الكرة الأرضية كل نصف يوم، و لا أحد يقدر على إطفائها، ولا تحتاج إلى صيانة من البشر، وإذا أردت أن تنسبها فلن تجد إلا الله سبحانه.
وأنت بما تبتكره وتصنعه لا يمكن أن يصرفك عن الله، والذكي حقا هو من يجعل ابتكاراته وصناعاته دليلا على صدق الله فيما أخبر.
وإذا كان الحق سبحانه قد خلق الشمس( ٥ )-ضمن ما خلق- وإذا أشرقت أطفأ الكل مصابيحهم ؛ لأنها هي المصباح الذي يهدي الجميع، وإذا كان ذلك هو فعل مخلوق واحد لله، فما بالنا بكل نعمة من سائر مخلوقاته. ونور الشمس إنما يمثل الهداية الحسية التي تحمينا من أن نصطدم بالأشياء فلا تحطمنا ولا نحطمها، فكذلك يضيء لنا الحق سبحانه المعاني والحقائق.
وإياك أن تقول : إن الفيلسوف الفلاني جاء بنظرية كذا ؛ فخذوا بها بل دع عقلك يعمل ويقيس ما جاء بهذه النظرية على ضوء ما نزل في كتاب الحق سبحانه، وإن دخلت النظرية مجال التطبيق، وثبت أن لها تصديقا من الكتاب، فقل : إن الحق سبحانه قد هدى فلانا على اكتشاف سر جديد من أسرار القرآن ؛ لأن الحق يريد منا أن نتعقل الأشياء وأن ندرسها دراسة دقيقة، بحيث نأخذ طموحات العقل ؛ لتقربنا إلى الله، لا لتبعدنا عنه، والعياذ بالله.
وإذا قال الحق سبحانه :﴿ سبحانه وتعالى عما يشركون ﴾ فذلك لأن الشركة تقتضي طلب المعونة، طلب المعونة يكون إما من المساوي وإما من الأعلى، ولا يوجد مساو لله تعالى، ولا أعلى من الله سبحانه وتعالى.
١ قال الجوهري: الشرك الكفر. وأشرك يشرك إشراكا فهو مشرك وهم مشركون. وفي الحديث:"الشرك أخفى في أمتي من دبيب النمل"، قال ابن الآثير: يريد به الرياء في العمل فكأنه أشرك في عمله غير الله. وفي الحديث:"من حلف بغير الله فقد أشرك".[اللسان: مادة (شرك) بتصرف]..
٢ الحمق: وضع الشيء في غير موضعه، والحمق: ضد العقل أو قلة العقل وضعفه. والحميقاء: الخمر؛ لأنها تعقب شاربها الحمق. والأحمق مأخوذ من انحماق السوق إذا كسدت، فكأنه فسد عقله حتى كسد. قال ابن الأعرابي: الحمق أصله الكساد. ويقال: الحمق الكاسد العقل. والحمق أيضا: الغرور. وانحمق الرجل: ضعف عن الأمر. [اللسان: مادة (حمق)]..
٣ يقول سبحانه:﴿يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا (١٠٩)﴾[طه]، إن ادعاء المشركين أن الأصنام تشفع لهم عند الله- ادعاء باطل ومع بطلانه اعتراف نمنهم بأن الشفاعة لا تكون إلا من الله سبحانه وشفاعة الله لا تكون إلا لحبيب ومحبوب يعلمه فرضا وفضلا..
٤ ابتغوا: طلبوا. قال تعالى:﴿لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور..(٤٨)﴾[التوبة] [اللسان: مادة (بغى)]..
٥ يقول الحق سبحانه:﴿ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله..(٢٥)﴾[لقمان] ويقول سبحانه:﴿وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر..(٣٣)﴾[الأنبياء]، ويقول سبحانه:﴿ولو شاء لجعله ساكنا ثم جعلنا الشمس عليه دليلا..(٤٥)﴾[الفرقان]..
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون( ١٩ ) ﴾ :
وقد جاءت آية في سورة البقرة متشابهة مع هذه الآية وإن اختلف الأسلوب، فقد قال الحق سبحانه في سورة البقرة :﴿ كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين( ١ ).. ( ٢١٣ ) ﴾ : والذين يقرأون القرآن بسطحية وعدم تعمق قد لا يلتفتون إلى الآيات المشابهة لها في المعنى العام، وهذه الآيات توازن بين المعاني فلا تضارب بين آية وأخرى.
ولذلك نجد بين المفكرين العصريين من يقول : إن الناس كانوا كلهم كفارا، ثم ارتقى العقل محاولا اكتشاف أكثر الكائنات قوة ؛ ليعبدوه، فوجدوا أن الجبل هو الكائن العالي الصلب ؛ فعبدوه. وأناس آخرون قالوا : إن الشمس أقوى الكائنات فعبدوها، وآخرون عبدوا القمر، وعبد قوم غيرهم النجوم، واتخذ بعض آخر آلهة من الشجر، وكل جماعة نظرت إلى جهة مختلفة تتلمس فيها القوة.
وهم يأخذون من هذا أن الإنسان قد اهتدى إلى ضرورة الدين بعقله، ثم ظل هذا العقل في ارتقاء إلى أن وصل إلى التوحيد.
ونرد على أصحاب هذا القول : أنتم بذلك تريدون أن تعزلوا الخلق عن خالقهم، وكأن الله الذي خلق الخلق وأمدهم بقوام حياتهم المادية قد ضن عليهم بقوام حياتهم المعنوية، وليس هذا من المقبول أو المعقول، فكيف يضمن لهم الحياة المادية، ولا يضمن لهذه المادية قيما تحرسها من الشراسة وتحميها من الفساد والإفساد ؟
وقوله الحق :﴿ كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم( ٢١٣ ) ﴾[ البقرة ].
لذلك فهم البعض أن الناس كانوا أمة واحدة في الكفر، وحين جاء النبيون، اختلف الناس ؛ لأن منهم من آمن ومنهم من ظل على الكفر، ولكن لو أحسن الذين قالوا مثل هذا القول الاستنباط وحسن الفهم عن الله لوجدوا أن مقصود الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها الآن إنما هو : ما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ؛ فبعث الله النبيين ؛ ليخرجهم عن الخلاف ويعيدوهم إلى الاتفاق على عهد الإيمان الأول الذي شهدوا فيه بربوبية الحق سبحانه وتعالى( ٢ ) ؛ لأن الأصل في المسألة هو الإيمان لا الكفر( ٣ ).
ومن أخذ آية سورة البقرة كدليل على كفر الناس أولا، نقول له : اقرأ الآية بأكملها ؛ لتجد قوله الحق :﴿ كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه.. ( ٢١٣ ) ﴾[ البقرة ].
وهكذا نرى أن الاختلاف الذي حدث بين الناس جاء في آية البقرة في المؤخرة، بينما جاء الاختلاف في هذه الآية في المقدمة، هذا دليل على أن الناس كانوا أمة واحدة على الإيمان( ٤ )، فليس هناك أناس أولى من أناس عند الخالق سبحانه وتعالى، ولم يكن عدل الله ليترك أناسا متخبطين في أمورهم على الكفر، ويرسل الرسل لأناس آخرين بالهداية ؛ فالناس بالنسبة لله سواء. وما دام الحق سبحانه قد أوجد الخلق من البشر فلا بد أن ينزل لهم منهجا ؛ ولذلك حين نقرأ قول الحق سبحانه :﴿ إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة( ٥ ) مباركا وهدى للعالمين( ٩٦ ) ﴾[ آل عمران ] : نجد فيه الرد على من يقول إن إبراهيم عليه السلام هو أول من بنى الكعبة ؛ لأن الحق سبحانه وتعالى لم يترك الخلق من آدم إلى إبراهيم دون بيت يحجون( ٦ ) إليه، ولكن الحق سبحانه وضع البيت ؛ ليحج إليه الناس من أول آدم إلى أن تقوم الساعة، والذي وضع البيت ليس من الناس، بل شاء وضع البيت خالق الناس، وما فعله سيدنا إبراهيم –عليه السلام- هو رفع القواعد من البيت الحرام.
أي : أنه أقام ارتفاع البيت بعد أن عرف مكان البيت طولا وعرضا، مصدقا لقول الحق سبحانه :﴿ وإذ بوأنا( ٧ ) لإبراهيم مكان البيت.. ( ٢٦ ) ﴾[ الحج ] : وهكذا يصدق قول الحق سبحانه بأن البيت قد وجد للناس قبل آدم، وهو للناس على أن تقوم الساعة، وهكذا نعلم أن الحق سبحانه خلق الخلق وأنزل لهم المنهج، وأن الأصل في الناس هو الإيمان، لكن الكفر هو الذي طرأ على البشر من بابين : باب الغفلة، وباب تقليد الآباء.
والدليل على ذلك أن الحق سبحانه وتعالى حينما تكلم عن ميثاق الذر، قال :﴿ وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم( ٨ ) وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين( ١٧٢ ) أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون( ١٧٣ ) ﴾[ الأعراف ] : إذن : فالتعصي عن الحكم الإيماني مدخله بابان : الأول باب الغفلة، أي : أن تكون قد علمت شيئا، ولم تجعله دائما في بؤرة( ٩ ) شعورك ؛ لأن عقلك يستقبل المعلومات، ويستوعبها من مرة واحدة، إن لم تكن مشتت الفكر في أكثر من أمر، فإن كنت صافي الفكر ومنتبها إلى المعلومة التي تصلك ؛ فإن عقلك يستوعبها من مرة واحدة، ومن المهم أن يكون الذهن خاليا لحظة أن يستقبل المعلومة الجديدة.
ولذلك نجد فارقا بين إنسان وإنسان آخر في حفظ المعلومات، فواحد يستقبل المعلومة وذهنه خال من أي معلومة غيرها، فتثبت في بؤرة الشعور، بينما يضطر الآخر إلى تكرار قراءة المعلومة إلى أن يخلو ذهنه من غيرها ؛ فتستقر المعلومة في بؤرة الشعور، وحين تأتي معلومة أخرى، فالمعلومة الأولى تنتقل إلى حاشية الشعور إلى حين أن يستدعيها مرة أخرى.
وإذا أراد طالب-على سبيل المثال- أن يستوعب ما يقرأ من معلومات جديدة، فعليه أن ينفض عن ذهنه كل المشاغل الأخرى( ١٠ ) ؛ ليركز فيما يدرس ؛ لأنه إن جلس إلى المذاكرة وباله مشغول بما سوف يأكل في الغداء، أو بما حدث بينه وبين أصدقائه، أو بما سوف يرتدي من ملابس عند الخروج من البيت، أو بغير ذلك من المشاغل، هنا سوف يضطر الطالب أن يعيد قراءة الدرس أكثر من مرة ؛ حتى يصادف الدرس جزئية خالية من بؤرة الشعور ؛ فتستقر فيها( ١١ ).
وقد نجد طالبا في صباح يوم الامتحان وهو يسمع من زملائه أن الامتحان قد يأتي في الجزء الفلاني من المقرر ؛ فيفتح الكتاب المقرر على هذا الجزء ويقرأه مرة واحدة ؛ فيستقر في بؤرة الشعور، ويدخل الامتحان، ليجد السؤال في الجزء الذي قرأه مرة واحدة قبل دخوله إلى اللجنة ؛ فيجيب عن السؤال بدقة.
ولذلك فالتلميذ الذكي هو من يقوم بما يسميه علم النفس " عملية الاستصحاب "، أي : أن يقرأ الدرس ثم يغلق الكتاب ؛ ليسأل نفسه :" ما الجديد من المعلومات في تلك الصفحة ؟ " ويحاول أن يتذكر ذلك، ويحاول أن يتعرف حتى على الألفاظ الجديدة التي في تلك الصفحة، وما هي الأفكار الجديدة التي صححت له معلومات أو أفكارا خاطئة كانت موجودة لديه. وهكذا يستصحب الطالب معلوماته بتركيز وانتباه.
وكذلك الأستاذ المتميز هو من يشرح الدرس ثم يتوقف ؛ ليسأل التلاميذ ؛ ليثير انتباههم ؛ حتى لا ينشغل أحدهم بما هو خارج الدرس، والأستاذ المتميز هو الذي يلقي درسه بما يستميل التلاميذ، كما تستميلهم القصة المروية، وحتى لا تظل المعلومات الدراسية مجرد معلومات جافة.
وبهذا يستمر الذهن بلا غفلة، والغفلة تأتي إلى القضايا الدينية ؛ لأن في الإنسان شهوات تصادم الأوامر والنواهي ؛ فيتناسى الإنسان بعض الأوامر وبعض النواهي إلى أن يأتي الران( ١٢ ) الذي له قال عنه الحق سبحانه :﴿ كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون( ١٤ ) ﴾[ المطففين ].
ويبين النبي صلى الله عليه ويسلم ذلك بالحديث الشريف :" نزلت الأمانة في جذر( ١٣ ) قلوب الرجال، ثم نزل القرآن فعلموا من القرآن وعلموا من السنة ". ثم يحدثنا صلى الله عليه وسلم عن رفع الأمانة فيقول :" ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه ؛ فيبطل أثرها مثل أثر الوكت( ١٤ ) " ( ١٥ ) أي : مثل لسعة النار وهكذا تتوالى ؛ حتى يأتي الران على القلب.
إذن : فالغفلة تتلصص على النفس الإنسانية، وكلما غفل الإنسان في نقطة، ثم يغفل عن أخرى وهكذا. ولكن من لا يغفل فهو من يتذكر الحكم، ويطبقه، ويذوق حلاوته( ١٦ ). ومثال هذا : المسلم الذي يشرح الله تعالى قلبه للصلاة، فإن لم يصل يظل مرهقا وفي ضيق.
ولذلك جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا، فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء حتى تصير على قلبين : على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مربادا كالكوز مجخيا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه " ( ١٧ ).
إذن : فالغفلة هي أول باب يدخل منه الشيطان ؛ فيبعد الإنسان عن أحكام الله. وإذا ما غفل الأب، فالأنباء يقلدون الآباء، فتاتيهم غفلة ذاتية. وهكذا يكون الغافل أسوة لمن بعده.
ولذلك قال الحق سبحانه عن الأبناء الذين يتبعون غفلة الآباء :﴿ بل نتبع ما ألفينا( ١٨ ) عليه آباءنا.. ( ١٧٠ ) ﴾[ البقرة ] : وإلف تقليد الآباء قضية كاذبة ؛ لأننا عن سلسلنا مسألة الإيمان على آدم عليه السلام، وهو الأب الأول لكل البشر ؛ لوجدنا أن آدم عليه السلام قد طبق كل مطلوب لله( ١٩ )، فإن قلت :﴿ بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا ﴾ فهذا القول يحتم عليك ألا تنحرف عن الإيمان الفطري، وإلا كنت من الكاذبين غير المدققين فيما دخل على الإيمان الفطري من غفلة أو غفلات، تبعها تقليد دون تمحيص.
والحق سبحانه قد شاء أن تكون كل كلمة في القرآن لها معنى دقيق مقصود، فالحق سبحانه يقول إلى السنة الكافرين في القرآن :﴿ إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون( ٢٣ ) ﴾[ الزخرف ] : ولم يقل :" مهتدون " بل قال :" مقتدون "، والمقتدى من هؤلاء هو من اتخذ أباه قدرة، ولكن المهتدي هو من ظن أن أباه على حق.
إذن : فالمقتدى هو من لا يهتم بصدق إيمان أبيه، بل يقلده فقط، وتقليد الآباء نوعان : تقليد على أنه اقتداء مطلق لا صلة له بالهدى أو الضلال، وتقليد على أنه هدى صحيح لشرع الله تعالى.
وقد حدث خلاف حول آدم عليه السلام أهو رسول أم نبي فقط( ٢٠ ) ؟ فهناك من قال : إن أول الرسل هو نوح عليه السلام ونقول : هل من المعقول أن يترك الله الخلق السابقين على نوح عليه السلام دون رسول ؟
إن الحق سبحانه هو القائل :﴿ وإن من أمة إلا خلا( ٢١ ) فيها نذير( ٢٤ ) ﴾[ فاطر ]، والذي أشكل على هؤلاء المفسرين الذين قالوا : إن أول رسول هو نوح عليه السلام أنهم قد فكروا تفكيرا سطحيا، وفهموا أن الرسول يطرأ على المرسل إليهم، وما دام لم يكن هناك بشر قبل آدم فكيف يكون آدم مبعوثا برسالة، ولمن تكون تلك الرسالة ؟
ولم يفطن هؤلاء المفسرون إلى أن آدم عليه السلام كان رسولا وأسوة إلى أبنائه، فالحق سبحانه قد قال له :﴿ .. فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون( ٣٨ ) ﴾[ البقرة ]، وسبحانه قد قال لآدم عليه السلام :﴿ .. فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى( ١٢٣ ) ﴾[ طه ].
وما دام الحق سبحانه قد ذكر الهدى، فهذا ذكر للمنهج، وهو الذي طبقه سلوكا يقلده فيه الأبناء. وغفل هؤلاء المفسرون أيضا عن استقراء ق
١ الذين ذهبوا على أن الناس كانوا أمة واحدة على الكفر، فاختلفوا في عبادة مظاهر القوى، ثم أدركوا أن القوى الكونية زائلة؛ فاهتدوا بالعقل إلى الله تعالى. هؤلاء نسوا الميثاق الأول في قوله تعالى:﴿وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهوركم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين(١٧٢)﴾[الأعراف]، ولكن الناس كانوا أمة واحدة على فطرة الإيمان ﴿فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله..(٣٠)﴾[الروم]، فاختلفوا بعبادة غير الله؛ فبعث الله الرسل، وإلا كان إرسال الرسل عبثا إذا كان الناس أمة واحدة على الكفر واهتدوا بعقولهم إلى الله سبحانه، وهذا فهم قاصر..
٢ وذلك قوله تعالى:﴿وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين(١٧٢)﴾[الأعراف].
٣ وقد اخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: كان بين نوح وآدم عشرون قرون كلهم على شريعة من الحق فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين. أورده ابن كثير في تفسيره (١/٢٥٠)..
٤ إن تصدير الاختلاف في آية سورة يونس وتأخيره في سورة البقرة، فأول القضية أن الأمة واحدة على دين الله ومنهجه، والخلاف عارض؛ لهذا كان الرسل، أما موقف سيدنا إبراهيم عليه السلام في آية الأنعام في قوله تعالى:﴿فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين(٧٦) فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين(٧٧) فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون(٧٨) إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين(٧٩)﴾[الأنعام] فسيدنا إبراهيم كان في مرحلة إيمان الهداية، ثم بالتأمل يصل إلى لإيمان الدلالة حتى يصل إلى إيمان اليقين..
٥ بكة: موضع البيت الحرام. ومكة: الحرم كله وتدخل فيه البيوت. وبعض علماء التفسير مثل مجاهد ذهب إلى أن كليهما واحد، وأن الميم مبدلة من الباء. ثم قيل: بكة مشتقة من البك وهو الازدحام أي: ازدحامهم في موضع طوافهم. والبك أيضا: دق العنق، وسميت بذلك لأنها كانت تدق رقاب الجبابرة إذا ألحدوا فيها بظلم. بتصرف من تفسير القرطبي (٢/١٤٨٦)..
٦ يحجون إليه: يقصدونه بشد الرحال إليه للعبادة والتعظيم. قال الجرجاني في كتابه:"التعريفات" (ص ٧٢):"الحج: القصد إلى الشيء المعظم، وفي الشرع قصد لبيت الله تعالى بصفة مخصوصة في وقت مخصوص بشرائط مخصوصة في أماكن مخصصة"..
٧ بوأنا له: أنزلناه بمكان البيت الحرام وهديناه إليه، والتبوء: أن يعلم الرجل الرجل على مكان لينزل به. وبوأنا له: هيأنا له المكان ومكناه منه. قال تعالى:﴿وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء..(٥٦)﴾[يوسف].[اللسان:( بوأ)-بتصرف]..
٨ ذرية الرجل: ولده، والجمع: الذريات والذراري. قال تعالى:﴿ذرية بعضها من بعض..(٣٤)﴾[آل عمران] والذرية مأخوذة من ذرأ الله الخلق، أي: خلقهم. فالذرية: اسم يجمع نسل الإنسان من ذكر وأنثى، وأصلها الهمز ولكنهم حذفوه فلم يستعملوها إلا غير مهموزة؛ وقيل: الذرية أصلها من الذر بمعنى: التفريق؛ لأن الله تعالى ذرهم في الأرض، أي: فرقهم.[ اللسان: مادة (ذرر)]..
٩ بأر الشيء: خبأه وادخره. ومنه قيل للحفرة: البؤرة. ومنها بؤرة الشعور أي: حفرة ومركز الشعور الذي يحتفظ فيها الإنسان بمعلوماته ومشاعره تجاه الأحداث التي تواجهه. انظر لسان العرب (مادة: بأر)..
١٠ ولذلك أرشد العلماء طلاب العلم أن يقللوا علائق الاشتغال بالدنيا، فإن العلائق-كما يقول الإمام أبو حامد الغزالي- في إحيائه (كتاب العلم) " شاغلة وصارفة و﴿ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه..(٤){[الأحزاب﴾، ومهما توزعت الفكرة قصرت عن ذرك الحقائق} ولذلك قيل:" العلم لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك" والفكرة المتوزعة على أمور متفرقة كجدول تفرق ماؤه فنشفت الأرض بعضه واختطف الهواء بعضه، فلا يبقى منه ما يجتمع ويبلغ المزارع". قال الزبيدي في إتحاف السادة المتقين والانتقال من فن إلى فن آخر قبل استكمال الأول"..
١١ وأمر تخلية الذهن والفكر من الشواغل والخواطر شيء حث عليه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنسبة للصلاة، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"لا صلاة بحضرة طعام، ولا هو يدافعه الأخبثان" أخرجه مسلم في صحيحه (٥٦٠) والأخبنان هما البول والبراز. فكذلك درس العلم يجب على المتعلم أن يعطيه كل ذهنه وتركيزه فلا يشغله عنه شيء..
١٢ الرين: الطبع والدنس. وهو كالصدأ يغشى القلب. قال الحسن: هو الذنب على الذنب حتى يسواد القلب. بتصرف من لسان العرب (مادة: رين) والرين: الصدأ يعلو السيف فيذهب ببريقه ويستعار للغشاوة تغطي على القلب بسبب الذنوب، وران الصدأ عليه: غلب عليه وغطاه كله. قال تعالى:﴿كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون(١٤)﴾[المطففين]..
١٣ جذر كل شيء: أصله. ومنه هذا الحديث: جذر قلوب الرجال، أي: في أصلها. (اللسان مادة: جذر)..
١٤ الوكتة: الأثر في الشيء، كالنقطة من غير لونه، والجمع: وكت. وفي الحديث:" لا يحلف أحد ولو على مثل جناح بعوضة، إلا كانت وكتة في قلبه". ومنه في حديث حذيفة:".. ويظل أثرها كأثر الوكت"[اللسان: مادة (وكت)]..
١٥ متفق عليه. أخرجه البخاري في صحيحه(٦٤٩٧) ومسلم (٢٤٣) من حديث حذيفة بن اليمان وهو حديث طويل، هاتان قطعتان منه..
١٦ هذه الحلاوة تحدث عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"ثلاث من كن فيه وجد حلاوة طعم الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار" متفق عليه. أخرجه البخاري (١٦) ومسلم (٤٣) عن انس بن مالك..
١٧ أخرجه مسلم في صحيحه (١٤٤) واحمد في مسنده (٥/٤٠٥، ٣٨٦) من حديث حذيفة بن اليمان. مثل الصفا:
الصخرة الملساء العريضة.
مربادا: أسود مشوبا بغبرة.
كالكوز: كلمة عربية لا فارسية وهو كوب بعروة.
مجخيا: مائلا، أي: عن الاستقامة والاعتدال، فشبه القلب الذي لا يعي خيرا بالكوز المائل الذي لا يثبت فيه شيء لأن الكوز إذا مال انصب ما فيه.[انظر لسان العرب مادة: جخى]..

١٨ ألفيا: وجدنا. يقال: ألفيت الشيء إذا وجدته وصادفته ولقيته. انظر اللسان مادة (لفى)..
١٩ إن آدم عليه السلام طبق المطلوب، أما أكله من الشجرة التي نهى عنها، فكان نسيانا، والنسيان وارد وعارض؛ لذلك علمه الله كلمات فتاب عليه وهدى، بدليل قوله تعالى:﴿فنسي ولم نجد له عزما..(١١٥)﴾[طه} وهذا لا ينافي أنه طبق كل المطلوب..
٢٠ هناك فرق بين النبي والرسول، فالنبي هو من نبىء وأوحى إليه دون أن ينزل عليه كتاب أو يؤمر بتبليغ قومه رسالة معينة، لذلك كان كل رسول نبيا، وليس كل نبي رسولا..
٢١ خلا: مضى. أي: مضى وأرسل. ويقال: القرون الخالية: الماضية ومنها قوله عز وجل:﴿تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم..(١٣٤)﴾[البقرة]، وقوله عز وجل:﴿كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية(٢٤)﴾[الحاقة]..
ويقول سبحانه بعد ذلك :
﴿ ويقولون لولا( ١ ) أنزل عليه آية من ربه فقل إنما الغيب لله فانتظروا إني معكم من المنتظرين( ٢٠ ) ﴾ :
والآية كما عرفنا هي الشيء العجيب، وإما أن تكون آية كونية، أو آية إعجاز، أو آية قرآن تشتمل على الأحكام.
ولماذا لم يصدقوا آيات القرآن، وهي معجزة بالنسبة إليهم ؟
نقول : إن استقبال القرآن فرع تصديق للرسول صلى الله عليه وسلم، وقد حدث اللبس عندهم ؛ لأنهم ظنوا أن الآية هي الآيات المحسة الكونية المشهودة، وما علموا أن الآيات التي سبق بها الرسل إنما جاءت لتناسب أزمان رسالاتهم، ولتناسب مواقعهم من المرسل إليهم.
فقد كان الرسل السابقون لرسول الله صلى اله عليه وسلم-وعلى جميع الرسل السلام- قد بعث كل منهم لأمة محدودة زمانا ومكانا ؛ ولذلك كانت الآيات التي اصطحبوها آيات حسية، وكل آية كانت من جنس ما نبغ فيه القوم المبعوث إليهم.
أما رسالة محمد عليه الصلاة والسلام فهي لعامة الزمان وعامة المكان( ٢ ). فلو جعل الله سبحانه له آية حسية لآمن بها من شاهدها، ولصارت خبرا لمن لم يشاهدها.
ونحن على سبيل المثال كمسلمين لم نصدق أن موسى-عليه السلام- قد ضرب البحر فانشق له البحر ؛ إلا لأن القرآن قال ذلك ؛ لأن كل أمر حسي يقع مرة واحدة فمن شاهده آمن به، ومن لم يره إن حدث به له أن يكذب، وله أن يصدق، ولكنا صدقنا ؛ لأن القائل هو الحق سبحانه وقد أبلغنا ذلك في القرآن. وثقتنا فيمن قال هي التي جعلتنا نصدق معجزات الرسل السابقين على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد يتساءل البعض عن السر في عدم إرسال معجزات حسية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنقول : لقد شاء الله سبحانه أن يرسل الرسول صلى الله عليه وسلم بمعجزة باقية إلى أن تقوم الساعة وهي معجزة القرآن. وتتحدث كتب السيرة أن الماء نبع من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم، فمن صدق صدق، وإن قرأت ولم تصدق ذلك، فاعلم أنك لست المقصود بها، فقد كان المقصود بها هم المعاصرون لها، وقد جاءت لتربيب الإيمان في القوم المعاصرين ؛ لأنهم كانوا في حاجة إلى شد أزرهم الإيماني، وحدثتنا كتب السيرة أيضا عن حفنة الطعام التي أكل منها عدد كبير من الرجال، ومن صدق الرواية ؛ فليصدقها، ومن لم يصدقها، فهذه الآية لم تأت له، لكنها جاءت للمعاصرين له صلى الله عليه وسلم.
وهذا لا يمنع أن يكون للرسول صلى الله عليه وسلم معجزات حسية كباقي إخوانه من الرسل علينا أن نؤمن بها بالثقة فيمن أخبر بها.
وهنا يقول الحق سبحانه :﴿ ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه ﴾ وإن دخلت " لولا " ( ٣ ) على جملة اسمية، فالمقصود بها عدم شيء لوجود شيء، كقول إنسان لآخر : لولا زيد عندك لأتيتك، وبذلك ينعدم ذهابه على فلان لوجود زيد عنده. وهكذا تكون " لولا " حرف امتناع لوجود، وكذلك كلمة " لوما " إن وجدتها تدخل على جملة اسمية فاعرف أنها امتناع شيء، لوجود شيء وإن دخلت " لولا " على جملة فعلية فاعلم أنها حث وتحضيض.
وهم هنا قد قالوا :﴿ لولا أنزل عليه آية ﴾ وكأنهم لا يعترفون بالقرآن، وطلبوا آية حسية ؛ لذلك نجد الحق سبحانه يقول في موقع آخر بالقرآن الكريم :﴿ لولا أوتي مثل ما أوتي موسى( ٤٨ ) ﴾[ القصص ] : وهذا تأكيد أنهم طلبوا الآية الحسية ؛ لأنهم علموا بالآيات الحسية للرسل السابقين على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن قولهم هذا كان تشبثا بالكفر رغم أنهم شهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل أحواله، وقد حدثت الآيات الحسية ورآها من آمن به، وزاد تمسكهم بالإيمان.
والذين طلبوا أن يأتي لهم محمد صلى الله عليه وسلم بمعجزة حسية، كمعجزة موسى عليه السلام، نسوا أن موسى عليه السلام قد بعث إلى قوم محدودين هم بنو إسرائيل.
أما محمد صلى الله عليه وسلم فقد بعث على الناس كافة ؛ لذلك كان لا بد أن تكون معجزته متجددة العطاءات، وتحمل المنهج المناسب لكل زمان ومكان. أما المعجزة الحسية فهي تنقضي بانقضاء زمانها ومكانها.
أو هم طلبوا الآيات التي اقترحوها مثل قولهم :﴿ قالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا ( ٤ ) ( ٩٠ ) أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا( ٩١ ) أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا( ٥ ) أو تأتي بالله والملائكة قبيلا ( ٦ ) ( ٩٢ ) أو يكون لك بيت من زخرف( ٧ ) أو ترقى( ٨ ) في السماء ولن نؤمن لرقيك.. ( ٩٣ ) ﴾[ الإسراء ].
إذن : فهم قد طلبوا آيات اقترحوها بأنفسهم، والآيات لا تكون باقتراح المرسل إليهم، بل بتفضل المرسل.
ولقائل أن يقول : ولماذا لم يرسل الحق سبحانه لهم آية حسية معجزة كما قالوا ؟ فنقول : إن الحق سبحانه قد قال :﴿ وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون.. ( ٥٩ ) ﴾[ الإسراء ].
وعلى ذلك يكون قولهم بطلب الآيات مدحوضا( ٩ ) ؛ لأن الحق سبحانه قد أرسل الآيات من قبل وكذب بها الأولون، أو هم طلبوا آيات اقترحوها، ويقول الحق سبحانه ما جاء على ألسنتهم :﴿ لولا أنزل عليه آية من ربه ﴾ وفي هذا إقرارا منهم بأن لمحمد صلى الله عليه وسلم ربا، وهو صلى الله عليه وسلم يبلغ عنه، فكيف-إذن- ينكرون أنه رسول ؟ !
ونعلم أنهم قالوا من قبل :" إن رب محمد قد قلاه( ١٠ ) " حين فتر( ١١ ) الوحي عنه صلى الله عليه وسلم، ولكن الحق سبحانه رد عليهم :﴿ ما ودعك ربك وما قلى( ٣ ) ﴾[ الضحى ].
إذن : هم قد ناقضوا أنفسهم، ففي الوصل منعوا وأنكروا أن يكون له رب، وفي الهجر سلموا بأن له ربا، وهذا تناقض في الشيء الواحد، وهو لون من التناقض يؤدي إلى اضطراب الحكم، واضطراب الحكم يدل على يقظة الهوى( ١٢ ).
ثم يقول الحق سبحانه ردا على طلبهم للآية الحسية :﴿ فقل إنما الغيب لله ﴾ وهكذا يعلم الحق سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم جوابا احتياطيا، فمن الممكن أن ينزل الحق سبحانه الآية الحسية، ومن الممكن ألا ينزلها، فرسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحكم على ربه ؛ لأن الغيب أمر يخصه سبحانه، وإن شاء جعل ما في الغيب مشهدا، وإنشاء جعل الغيب غيبا مطلقا، وليس عليكم إلا الانتظار، ويعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه معهم من المنتظرين ﴿ فانتظروا إني معكم من المنتظرين( ٢٠ ) ﴾[ يونس ].
١ تستعمل (لولا) أداة عرض وتحضيض، مثل (هلا) وتختص بالدخول على المضارع كقوله تعالى:﴿لولا تستغفرون الله..(٤٦)﴾[النمل] وتدخل على ماض في تأويل المضارع كقوله تعالى:﴿لولا أخرتني إلى أجل قريب..(١٠)﴾[المنافقون] أي: لولا تؤخرني، وتستعمل (لولا) للتوبيخ والتنديم فتختص بالماضي كقوله تعالى:﴿لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء..(١٣)﴾[النور]، ولها استعمالات أخرى يرجع إليها في كتب اللغة[القاموس القويم: ٢/٢٠٨، ٢٠٧]..
٢ وهذا مما خص به الله رسوله صلى الله عليه وسلم وأمته، ويدل عليه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي المغانم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة" من حديث جابر بن عبد الله. أخرجه البخاري في صحيحه (٣٣٥) ومسلم (٥٢١)..
٣ "لولا" حرف شرط لا يعمل، ويدل على امتناع الجواب لوجود الشرط وجملة الشرط اسمية (مبتدأ وخبر) ويحذف الخبر وجوبا إذا كان كونا عاما وإذا وليها مضمر يكون رفع منفصلا مثل:﴿لولا أنتم لكنا مؤمنين..(٣١)﴾[سبأ] وجملة الجواب فعلية وتقترن باللام إذا كانت مثبتة في الغالب وتتجرد منها إذا كانت منفية. قال تعالى:﴿ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا..(٢١)﴾[النور] وقد يحذف الجواب إذا دل عليه دليل كقوله تعالى:﴿ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رءوف رحيم(٢٠)﴾[النور] القاموس القويم ج ٢/٢٠٧..
٤ الينبوع: العين الجارية والجدول الكثير الماء، والجمع ينابيع. (اللسان: مادة نبع)..
٥ كسفا: جمع كسفه وهي القطعة، والمراد: العذاب. قال تعالى:﴿إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء..(٩)﴾[سبأ].[اللسان: مادة (كسف)]..
٦ القبيل: الجماعة من أي شيء..
٧ زخرف: نقش وزينة وتمويه بالذهب. والزخرف: الذهب في غيره. قال تعالى:﴿حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا..(٢٤)﴾[يونس].[اللسان: مادة (زخرف)]..
٨ ترقى: تصعد، والرقي: الصعود. وفي الحديث:" كنت رقاء على الجبال" أي: صعادا عليها، وفعال للمبالغة. قال تعالى:﴿كلا إذا بلغت التراقي (٢٦) وقيل من راق (٢٧)﴾[القيامة]..
٩ الدحض: الدفع والبطلان. ومنه قوله تعالى:﴿حجتهم داحضة..(١٦)﴾[الشورى] أي: باطلة..
١٠ قلاه: أبغضه وتركه وتخلى عنه، عن جندب البجلي قال: أبطأ جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال المشركون: قد ودع محمد. فأنزل الله عز وجل:﴿والضحى(١) والليل إذا سجى(٢) ما ودعك ربك وما قلى (٣)﴾[الضحى] أخرجه مسلم في صحيحه (١٧٩٧) والترمذي في سننه (٣٣٤٥) وقال: حديث حسن صحيح. وقد أورد ابن كثير في تفسيره (٤/٥٢٢) من الطريق الذي أخرجه مسلم والترمذي إلى جندب بلفظ" فقال المشركون: ودع محمدا ربه"..
١١ فتر الوحي: انقطع..
١٢ أي: أنه يحكم هواه في كل تصرفاته ومنازع تفكيره، أي: يتخذ هواه إلها له، يأتمر بأمره، وينتهي بنهيه؛ لهذا يحدث التناقض. ويقول سبحانه:﴿أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون(٢٣)﴾[الجاثية]..
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر في آياتنا قل الله أسرع مكرا إن رسلنا( ١ ) يكتبون ما تمكرون( ٢١ ) ﴾ :
والرسول صلى الله عليه وسلم حين ضاق ذرعا بالكافرين من صناديد قريش دعا عليهم أن يهديهم الحق بسنين الجدب كالسنين التي أصابت مصر واستطاع سيدنا يوسف عليه السلام أن يدبر أمرها، فسلط الحق سبحانه على قريش الجدب والقحط( ٢ )، ثم جاء لهم بالرحمة من بعد ذلك. وكان من المفروض أن يرجعوا إلى الله، وأن يؤمنوا برسالة رسوله صلى الله عليه وسلم، بعد أن علموا أن ما مسهم من القحط ومن الجدب كان بسبب دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم :" اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف " ( ٣ ).
وانتهت السنوات السبع وجاءت لهم الرحمة ممثلة في المطر، ولم يلتفتوا إلى ضرورة شكر الله والإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم، ولكنهم ظلوا يبحثون عن أسباب المطر، فمنهم من قال : لقد جاء مطرنا نتيجة لنوء( ٤ ) كذا، ولأن الرياح هبت على مناطق كذا، وفعلوا ذلك دون التفات لانتهاء دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، مثلهم مثل من جلس يبحث في أسباب النصر في الحرب، وجعلوا أسبابها مادية في العدة والعتاد( ٥ ). ولا أحد ينكر أهمية الاستعداد للقتال وجدواه، ولكن يبقى توفيق الله سبحانه وتعالى فوق كل اعتبار ؛ لأن المؤمنين بالله الذين استعدوا للقتال ودخلوا المعارك وجدوا المعجزات تتجلى بنصر الله ؛ لأن الحق سبحانه ينصر من ينصره.
أما الذين يحصرون أسباب النصر في الاستعداد القتالي فقط، فالمقاتلون الذين خاضوا الحرب بعد التدريب الجاد، يعلمون أن التدريب وحده لا يصنع روح المقاتل، بل تصقل( ٦ ) روحه رغبته في القتال ونيل الشهادة ودخول الجنة.
إذن : فلمدد السماء مدخل، ومن رأى من المقاتلين آية مخالفة لنواميس الكون، فليعلم علم اليقين أن يد الله كانت فوق أيدي المؤمنين المقاتلين. ومن يدعي أن أي نصر هو نتيجة للحضارة، يجد الرد عليه من المقاتلين أنفسهم بأن الحضارة بلا إيمان هي مجرد تقدم مادة هش( ٧ ) لا يصنع نصرا( ٨ )، والنصر لا يكون بالمادة وحدها، وقد أمرنا الله بحسن الاستعداد المادي، ولكن النصر يكون بالإيمان فوق المادة.
ولذلك نجد من خاضوا حربنا المنتصرة في العاشر من رمضان ١٣٩٣ه يعلمون أن مدد الله كان معهم بعد أن أحسنوا الاستعداد، ولا أحد من المقاتلين يصدق أن الاستعداد المادي وحده يمكن أن يكفي للنصر، إنه ضرورة، ولكن بالإيمان وحسن استخدام السلاح يكون النصر ؛ ولذلك لا يصدق المقاتلون من ينسب النصر للمادة وحدها، وينسحب عدم التصديق على كل ما يقوله من ينكر دور الإيمان في الانتصار.
وهكذا نجد أن من يجرد النصر من قيمة الإيمان إنما يخدم الإيمان ؛ لأن إنكار الإيمان يقلل من قيمة الرأي المادي. وهكذا ينصر الله دينه حتى يثبته في قلوب جنده، ويقلل من قيمة ومكانة من ينكرون قيمة الإيمان.
ومثال هذا في تاريخ الإسلام أن اليهود الذين كانوا يستفتحون على أهل المدينة من الأوس والخزرج بأن رسولا سوف يظهر، وأنهم–أي : اليهود- سيتبعونه( ٩ )، وسوف يقتلون العرب من الأوس والخزرج قتل عاد وإرم.
ولما جاء وقت ظهور محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم بمكة، أسرعت الأوس والخزرج إلى الإيمان به، وقالوا : إنه النبي الذي تهددنا به يهود، فلنسبق إليه حتى لا يسبقونا.
هكذا كانت كلمة اليهود هي دافع الأوس والخزرج إلى الإيمان.
إذن : فالله ينصر دينه بالفاجر( ١٠ )، رغم ظن الفاجر أنه يكيد للدين.
وكذلك حين جاءت لهم الرحمة بعد القحط ارجفوا( ١١ ) وظلوا يحللون سبب سقوط المطر بأسباب علمية محدودة بالمادة، لا بالإيمان الذي فوق المادة.
ولذلك يقول الحق سبحانه هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها :
﴿ وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لعم مكر( ١٢ ) في آياتنا قل الله أسرع مكرا إن رسلنا يكتبون ما تمكرون( ٢١ ) ﴾[ يونس ].
والمكر : هو الكلام الملتوي الذي لا يريد أن يعترف برحمة الله، والادعاء بأن نوء كذا هو السبب في سقوط المطر، وبرج كذا هو السبب في سقوط المطر.
وقوله الحق :﴿ مكر في آياتنا ﴾ والمكر هو الكيد الخفي، والمقصود به هنا محاولة الالتفاف ؛ لتجريد العجائب من صنع الله لها، وحتى العلم وقوانينه فهو هبة من الله، والحق هو القادر على أن يوقف الأسباب وأن يفعل ما يريد وأن يخرق القوانين، فهو سبحانه رب القوانين، فلا تنسبوا أي خبر إلا له سبحانه ؛ حتى لا نضل ضلال الفلاسفة الذين قالوا بأن الله موجود، وهو الذي خلق الكون وخلق النواميس ؛ لتحكم الكون بقوانين.
ونقول : لو خلق الحق سبحانه القوانين والنواميس وتركها تتحكم لما شذ شيء عن تلك القوانين، فالمعجزات مع الرسل- على سبيل المال- كانت خروجا عن القوانين. وأبقى الله في يده التحكم في القوانين، صحيح أنه سبحانه قد أطلقها، ولكنه ظل قيوما عليها، فيعطل القانون متى شاء ويبرزه متى شاء ويوجه كيفما شاء.
والمكر كما نعلم مأخوذ من التفاف أغصان الشجرة كالضفيرة، فلا تتعرف على منبت ورقة الشجر ومن أي غصن خرجت، فقد اختلطت منابت الأوراق ؛ حتى صارت خفية عليك، وأخذ من ذلك الكيد الخفي، وأنت قد تكيد لمساويك، لكنك لن تقدر على أن تكيد لمن هو أعلى منك، فإن كنتم تمكرون فإن الله أسرع مكرا، والحق سبحانه يقول :﴿ قل الله أسرع مكرا ﴾، وهذه اسمها " مشاكلة التعبير " ( ١٣ ).
أي : عليك أن تأخذ ذلك في مقابله في ذات الفاعل والفعل، ولكن لا تأخذ من هذا القول اسما لله، فإياك أن تقول : إن الله-سبحانه وتعالى- ماكر ؛ لأن المكر كيد خفي تفعله أنت مع مساويك، ولكنك لن تستطيع ذلك مع من هو مطلع على كيدك، ولا تطلع أنت على ما يشاء لك.
وانظر إلى أي جماعة تكيد لأي أمر، وستجد من بينهم من يبلغ عنهم السلطات، وأجهزة الأمن فإذا كان كيد البشر للبشر مفضوحا بمن يشي منهم بالآخرين، بل هناك من البشر غير الكائدين من يستطيع بنظرته أن يستنبط ويستكشف من يكيدون له.
وهناك من الأجهزة المعاصرة ما تستطيع تسجيل مكالمات الناس والتنصت( ١٤ ) عليهم ؛ وكل ذلك مكر من البشر للبشر، فما بالنا إن كاد الله لأحد، وليس هناك أحد مع الله-سبحانه وتعالى- ليبلغنا بكيده، ولا أحد يستطيع أن يتجسس عليه ؟ !
مكر الله سبحانه-إذن- أقوى من أي مكر بشري ؛ لأن مكر البشر قد يهدم من بعض الماكرين أو من التجسس عليهم، لكن إذا كاد الله لهم، أيعلمون من كيده شيئا ؟ طبعا لا يعلمون.
وكلمة ﴿ أسرع مكرا ﴾ تلفتك إلى أن هناك اثنين يتنافسان في سباق، وحين تقول : فلان أسرع من فلان، فمعنى ذلك : أن كلا منهما يحاول الوصول على نفس الغاية، لكن هناك واحدا أسرع من الآخر في الوصول إلى الغاية.
ومكركم البشري هو أمر حادث، لكن الله-سبحانه- أزلي الوجود، يعلم كل شيء قبل أن يقع، ويرتب كل أمر قبل أن يحدث ؛ لذلك فهو الأسرع في الرد على مكركم، إن مكرتم.
وهنا يقول الحق سبحانه :﴿ وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم( ١٥ ) إذا لهم مكر في آياتنا ﴾ و " إذا " الأولى ظرف، أما الثانية فهي " إذا الفجائية " مثلها تقول : خرجت فإذا الأسد بالباب.
وهم حين أنزل الحق لهم الأمطار رحمة منه، فهم لا يهدأون ويستمتعون ويذوقون رحمة الله تعالى بهم من الماء الذي جاءهم من بعد الجدب، بل دبروا المكر فجأة، فيأتي قول الحق سبحانه :﴿ قل الله أسرع مكرا إن رسلنا يكتبون ما تمكرون ﴾.
وهكذا ترى أن ما يبطل كيد الماكرين من البشر، يكون بإحدى تلك الوسائل : إما أن يكون بوشاية من أحد الماكرين، وإما أن يكون بقوة التخابر من الغير، وإما أن يكون من رسل العلي القدير وهم الملائكة الذين يكتبون كل ما يفعله البشر، فسبحانه القائل :﴿ وإن عليكم لحافظين( ١٠ )كراما كاتبين( ١١ ) يعلمون ما تفعلون( ١٢ ) ﴾[ الانفطار ].
واقرأ أيضا قول الحق سبحانه :﴿ اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا( ١٤ ) ﴾[ الإسراء ].
وجاء الحق سبحانه بكل ما سبق ؛ لأنه سبحانه قد شاء أن يعطي لقريش فرصة التراجع في عنادها للرسول صلى الله عليه وسلم، هذا العناد الذي قالوا فيه : إنهم يتبعون ما وجدوا عليه آباءهم، وهذا قول مغلوط ؛ لأن الآباء في الأصل كانوا مؤمنين، ولكن جاءهم الضلال كأمر طارئ، والأصنام التي عبدوها طارئة عليهم من الروم، جاء بها إنسان ممن ساحوا في بلاد الروم هو " عمرو بن لحي " ( ١٦ )، فإن رجعتم إلى الإيمان بعد عنادكم ؛ فهذا هو الطريق المستقيم الذي كان عليه آباؤكم بالفطرة والميثاق الأول.
١ المقصود بالرسل هنا: الحفظة من الملائكة. قال تعالى:﴿كلا بل تكذبون بالدين(٩) وإن عليكم لحافظين(١٠) كراما كاتبين(١١) يعلمون ما تفعلون(١٢)﴾[الانفطار]..
٢ الجدب: نقيض الخصب. أي الجفاف وانقطاع المطر. وفي حديث الاستسقاء:"هلكت المواشي وأجدبت البلاد"، أي: قحطت وغلت الأسعار.[اللسان: مادة(جدب)]
القحط: احتباس المطر، والقحط: الجدب؛ لأنه من أثره. وفي حديث الاستسقاء:"قحط المطر واحمر الشجر" هو من ذلك. وقد يشتق القحط لكل ما قل خيره، والأصل للمطر. والقحط في كل شيء قلة خيره.[اللسان: مادة (قحط)]..

٣ عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع رأسه من الركعة الآخرة يقول:"اللهم اشدد وطأتك على مضر، اللهم اجعلها سنين كسني يوسف.." الحديث أخرجه البخاري في صحيحه (١٠٠٦) وأحمد في مسنده(٢/٥٢١، ٥٠٢، ٤٧٠)..
٤ ناء ينوء من باب قال يقول أي: نهض. ومنه النوء للمطر وجمعه أنواء. المصباح (٢/١٥١)..
٥ العتاد: العدة، والجمع: أعتدة وعتد. قال الليث: العتاد: الشيء الذي تعده لأمر ما وتهيئه له. وفي حديث صفته صلى الله عليه وسلم:"لكل حال عنده عتاد"أي: ما يصلح لكل ما يقع من الأمور. والمراد هنا بالعتاد: الأسلحة وآلات الحرب. قال تعالى:﴿إنا أعتدنا للكافرين سلاسلا وأغلالا وسعيرا(٤)﴾[الإنسان].[اللسان: مادة (عتد)]..
٦ الصقل: الجلاء والشحذ، والمراد الحمية الدينية والتعبئة النفسية والمعنوية للمقاتلين.[اللسان: مادة (صقل)-بتصرف]..
٧ الهش والهشيش من كل شيء: ما فيه رخاوة ولين، والمراد: الضعف..
٨ يقول تعالى:﴿.. وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم(١٢٦)﴾[آل عمران]..
٩ وقد حكى الله سبحانه هذا لنا في قرآنه، فقال عن اليهود:﴿ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين(٨٩)﴾[البقرة]. وعن أشياخ من الأنصار قالوا: كنا قد علوناهم قهرا دهرا في الجاهلية ونحن أهل شرك وهم أهل كتاب وهم يقولون: إن نبيا سيبعث الآن نتبعه قد أظل زمانه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم، فلما بعث الله رسوله من قريش وأتبعناه كفروا به. ذكره ابن كثير في تفسيره (١/١٢٤) نقلا عن ابن إسحاق..
١٠ وقد ورد بهذا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن أبي هريرة قال: شهدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنينا. فقال لرجل ممن يدعى بالإسلام" هذا من أهل النار" فلما حضرنا القتال قاتل الرجل قتالا شديدا فأصابته جراحة. فقيل: يا رسول الله، الرجل الذي قلت له آنفا" إنه من أهل النار" فإنه قاتل اليوم قتالا شديدا. وقد مات فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"إلى النار" فكاد بعض المسلمين أن يرتاب. فبينما هم على ذلك إذ قيل: إنه لم يمت ولكن به جراحا شديدا فلما كان من الليل لم يصبر على الجراح فقتل نفسه، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال:"الله أكبر أشهد أني عبد الله ورسوله" ثم أمر بلالا فنادى في الناس: إنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، وإن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر". حديث صحيح، متفق عليه، أخرجه البخاري في صحيحه(٣٠٦٢) ومسلم (١١)..
١١ أرجفوا: اضطربوا اضطرابا شديدا.(اللسان مادة: رجف)..
١٢ المكر: احتيال في خفية. قال تعالى:﴿ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون(٥٠)﴾[النمل]. قال أهل العلم بالتأويل: المكر من الله تعالى جزاء سمي باسم مكر المجازي كما قال تعالى:﴿وجزاء سيئة سيئة مثلها..(٤٠)﴾[الشورى] فالثانية ليست بسيئة في الحقيقة، ولكنها سميت سيئة لازدواج الكلام، وكذلك قوله تعالى:﴿فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه..(١٩٤)﴾[البقرة] فالأول ظلم والثاني ليس بظلم، ولكنه سمي باسم الذنب ليعلم أنه عقاب عليه وجزاء به. قال ابن الأثير: مكر الله إيقاع بلائه بأعدائه دون أوليائه.[اللسان: مادة (مكر)]..
١٣ المشاكلة: مصطلح بلاغي جاء في القرآن كثيرا، وهو يعني: ذكر الشيء بلفظ غيره، لوقوعه في صحبته تحقيقا أو تقديرا. وذلك مثل قوله تعالى:﴿ومكروا ومكر الله..(٥٤)﴾[آل عمران] فإن إطلاق المكر في جانب البارئ تعالى إنما هو لمشاكلة ما معه. (الإتقان في علوم القرآن: ٣/٢٨١)..
١٤ التنصت: المراد به: التجسس. وأنصت الرجل إنصاتا: استمع باهتمام. قال تعالى:﴿وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا..(٢٠٤)﴾[الأعراف].[اللسان: مادة (نصت)-بتصرف]..
١٥ "إذا" تأتي لمعنيين: شرطية، وفجائية. وإذا الشرطية: اسم شرط للزمن المستقبل فتختص بالدخول على الجملة الفعلية، وتعرب، وتدخل أحيانا على الأسماء المرفوعة، فيكون ما بعدها فاعلا لفعل محذوف يفسره الفعل الذي بعده مثل قوله تعالى:﴿وإذا السماء كشطت(١١)﴾[التكوير]، وقد تكون "إذا" للمفاجأة وتختص بالجمل الاسمية كقوله تعالى:﴿فألقاها فإذا هي حية تسعى(٢٠)﴾[طه]، وقد اجتمعت الشرطية والفجائية في قوله تعالى:﴿ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون(٢٥){[الروم]. وكما في الآية:{وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر في آياتنا...(٢١)﴾[يونس]..
١٦ ذكر ابن هشام في السيرة النبوية(١/٧٧) أن عمرو بن لحي خرج من مكة إلى الشام في بعض أموره، فلما قدم مآب من أرض البلقاء، وبها يومئذ العماليق، رآهم يعبدون الأصنام، فقال لهم: ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدون؟ قالوا له: هذه أصنام نعبدها، فنستمطرها فتمطرنا، ونستنصرها فتنصرنا، فقال لهم: أفلا تعطونني منها صنما، فأسير به إلى أرض العرب، فيعبدوه؟ فأعطوه صنما يقال له هبل، فقدم به مكة، فنصبه وأمر الناس بعبادته وتعظيمه..
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :﴿ هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين( ٢٢ ) ﴾ :
وهذه الآية الكريمة جاءت مرحلة من مراحل إخبار الله سبحانه وتعالى عن المعاندين لدعوة الإسلام، التي بدأها الحق سبحانه بأنه قد رحمهم فأجل لهم استجابة دعائهم على أنفسهم بالشر، ولو أنه أجابهم إلى ما دعوا به على أنفسهم من الشر في قولهم :﴿ إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم.. ( ٣٢ ) ﴾[ الأنفال ] : ليقضي أمرهم. فمن رحمة الله تعالى أنه لم يجبهم إلى دعائهم.
وإذا كان الله سبحانه قد أجل استجابة دعائهم على أنفسهم بالشر رحمة بهم، فيجب أن يعرفوا أن تأجيل استجابتهم بدعاء الخير رحمة بهم أيضا ؛ لأنهم قد يدعون بالشر وهم يظنون أنهم يدعون بالخير، وبعد ذلك دلل على كذبهم في دعائهم على أنفسهم بالشر بأنهم إذا مسهم ضر دعوا الله تعالى مضطجعين( ١ ) وقاعدين وقائمين.
فلو كانوا يحبون الشر لأنفسهم ؛ لظلوا على ما هم فيه من البلاء إلى أن يقضي الله تعالى فيهم أمرا.
ثم عرض سبحانه قضية أخرى، وهي أنه سبحانه إذا مسهم بضر ؛ ليعتبروا، جاء الله سبحانه برحمته ؛ لينقذهم من هذا الضر. فياليتهم شكروا نعمة الله تعالى في الرحمة من بعد الضر، ولكنهم مروا كأن لم يدعوا الله سبحانه إلى ضر مسهم.
وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها، يصور لنا الحق سبحانه وضعا آخر، هو وضع السير في البر والبحر، فيقول :﴿ هو الذي يسيركم في البر والبحر.. ( ٢٢ ) ﴾[ يونس ] : وكلمة [ يسيركم } تدل على أن الذي يسير هو الله، ولكن في القرآن آيات تثبت أن السير ينسب إلى البشر حين يقول :﴿ قل سيروا في الأرض.. ( ٦٩ ) ﴾[ النمل ].
وحين يقول الحق سبحانه :﴿ فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله.. ( ٢٩ ) ﴾. [ القصص ].
وهو سبحانه يقول :﴿ سيروا فيها ليالي وأياما آمنين.. ( ١٨ ) ﴾[ سبأ ] فكأن هذه الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها قد نسبت التسيير إلى الله سبحانه، وبعض الآيات الأخرى نسبت التسيير إلى النفس الإنسانية، ونقول لمن توهموا أن في ذلك تعارضا : لو أنكم فطنتم على تعريف الفاعل عند النحاة( ٢ ) وكيف يرفعونه ؛ لعرفتم أن تحقق أي فعل إنما يعود على مشيئة الله سبحانه، فحين نقول :" نجح فلان " فهل هو الذي نجح، أم أن الذي سمح له بالنجاح غيره، إن الممتحن والمصحح هما من سمحا له بالنجاح ؛ تقديرا لإجاباته التي تدل على بذل المجهود في الاستذكار.
وكذلك نقول :" مات فلان "، فهل فلان فعل الموت بنفسه ؟ خصوصا ونحن نعرب " مات " كفعل ماض، ونعرب كلمة ( فلان ) " فاعل " أو نقول : إن الموت قد وقع عليه واتصف به ؛ لأن تعريف الفاعل : هو الذي يفعل الفعل، أو يتصف به.
وإذا أردنا أن ننسب الأشياء إلى مباشرتها السببية ؛ قلنا :" سار الإنسان ".
وإذا أردنا أن نؤرخ لسير الإنسان بالأسباب، وترحلنا به إلى الماضي ؛ لوجدنا أن الذي سيره هو الله تعالى.
وكل أسباب الوجود إن نظرت إليها مباشرة ؛ وجدتها منسوبة إلى من هو فاعل لها ؛ لكنك إذا تتبعتها أسبابا ؛ وجدتها تنتسب إلى الله سبحانه.
فمثلا : إذا سئلت : من صنع الكرسي ؟ تجيب : النجار. وإن سألت النجار : من أين أتيت بالخشب ؟ سيجيبك : من التاجر. وسيقول لك التاجر أنه استورده من بلاد الغابات، وهكذا.
إذن : إذا أردت أن تسلسل كل حركة في الوجود ؛ لا بد أن تنتهي إلى الله تعالى( ٣ ).
وحين قال الحق سبحانه :﴿ فلما قضى موسى الأجل( ٤ ) وسار بأهله.. ( ٢٩ ) ﴾[ القصص ].
نفهم من ذلك أن موسى-عليه السلام-قد سير بأهله ؛ لأن التسيير في كل مقوماته من الله تعالى.
والمثال الآخر : نحن نقرأ في القرآن قوله الحق :﴿ وأنه هو أضحك وأبكى( ٤٣ ) ﴾[ النجم ] : فهو سبحانه الذي خلق الضحك، وخلق البكاء.
فنجد من يقول : كيف يقول الله سبحانه إنه خلق الضحك والبكاء وهو الذي يقول في القرآن :﴿ فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا.. ( ٨٢ ) ﴾[ التوبة ].
ونقول : أنت إن نظرت إلى القائم بالضحك، فهو الإنسان الذي ضحك، وإن نظرت إلى من خلق غريزة الضحك في الإنسان ؛ تجده الله سبحانه.
وغريزة الضحك موجودة باتفاق شامل لكل أجناس الوجود، وكذلك البكاء فلا يوجد ضحك عربي، وضحك انجليزي، ولا يوجد بكاء فرنسي، أو بكاء روسي.
إذن : فالله سبحانه وتعالى هو الذي خلق الضحك والبكاء.
وقد صدق قوله الحق :﴿ وأنه هو أضحك وأبكى( ٤٣ ) ﴾[ النجم ] : لكن الضاحك والباكي يقوم به الوصف. وكذلك قوله الحق :﴿ وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى.. ( ١٧ ) ﴾ ]الأنفال ].
فقد شاء الحق سبحانه أن يمكن رسوله صلى الله عليه وسلم بالبشرية أن يرمي الحصى، ولكن إيصال الحصى لكل فرد في الجيش المقابل له، فتلك إرادة الله( ٥ ).
إذن : فقول الحق سبحانه :﴿ هو الذي يسيركم في البر والبحر ﴾. لا يتعارض مع أنهم هم الذين يسيرون، وأنت إذا عللت السير في الأرض أو في البحر ؛ ستجد أن السير هو انتقال السائر من مكان إلى مكان، وهو يحدد غاية السير بعقله، والأرض أو البحر الذي يسير في أي منهما بأقدامه أو بالسيارة أو بالمركب، هذا العقل خلقه الله تعالى، والأرض كذلك، والبحر أيضا، كلها مخلوقات خلقها الله سبحانه وتعالى. وأنت حين تحرك ساقيك ؛ لتسير، لا تعرف كيف بدأت السير ولا كم عضلة تحركت في جسدك، فالذي أخضع كل طاقات جسمك لمراد عقلك هو الله تعالى.
إذن : فكل أمر مرجعه على الله سبحانه.
وهنا ملحظ في السير في البر والبحر، فكلاهما مختلف، فالإنسان ساعة يسير في الأرض على اليابسة، قد تنقطع به السبل، ويمكنه أن يستصرخ( ٦ ) أحدا من المارة، أو ينتظر على أن يمر عليه بعض المارة ؛ ليعاونه.
أما المرور في البحر ؛ فلا توجد به سابلة أو سالكة( ٧ ) كثيرة ؛ حتى يمكن للإنسان أن يستصرخهم.
إذن : فالمرور في البحر أدق من المرور في البر ؛ ولذلك نجد أن الحق سبحانه وتعالى في هذه الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول عن السير في البحر :﴿ حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين( ٢٢ ) ﴾[ يونس ].
وهكذا لا نجد أن في الآية نفسها حديثا عن السير في البر ؛ لأن الحق سبحانه ما دام قد تكلم عن إزالة الخطر للمضطر في البحر، فهذا يتضمن إزالته عمن يسير في البر من باب أولى. وإذا ما جاء الدليل الأقوى، فهو لا بد أن ينضوي( ٨ ) فيه الدليل الأقل.
ومثال هذا قول الحق سبحانه :﴿ ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا.. ( ١٥ ) ﴾[ الأحقاف ].
وجاءت كل الحيثيات بعد ذلك للأم، ولم يأت بأي حيثية للأب، فيقول :﴿ حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله( ٩ ) ثلاثون شهرا( ١٥ ) ﴾[ الأحقاف ].
وشاء الحق سبحانه ذلك ؛ لأن حيثية الأم مبنية على الضعف، فيريد أن يرقق قلب ابنها عليها، فالأب رجل، قد يقدر على الكدح في الدنيا، كما أن فضل الأب على الولد يدركه الولد، لكن فضل أمه عليه وهو في بطنها ؛ لا يعيه، وفي طفولته الأولى لا يعي أيضا هذا الفضل. ولكنه يعي من بعد ذلك أن والده يحضر له كل مستلزمات حياته، من مأكل وملبس، ويبقى دور الأم في نظر الطفل ماضيا خافتا.
إذن : فحيثية الأم هي المطلوبة ؛ لأن تعبها في الحمل والإرضاع لم يكن مدركا من الطفل.
وكذلك هنا في هذه الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها، ترك الحق سبحانه حيثية البر وأبان بالتفصيل حيثية البحر :﴿ هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك ( ١٠ ) ( ٢٢ ) ﴾[ يونس ]. وكلمة ( الفلك ) تأتي مرة مفردة، وتأتي مرة جمعا، والوزن واحد في الحالتين ومثال هذا أنه حين أراد الله سبحانه أن ينجي نوحا عليه السلام، وأن يغرق الكافرين به، قال لسيدنا نوح :﴿ واصنع الفلك بأعيننا.. ( ٣٧ ) ﴾[ هود ] : إذن : هي تطلق على المفرد، وعلى الجمع، ولها نظائر في اللغة في كلتا الحالتين، فهي في الإفراد تكون مثل : قفل، وقرط. وعند الجمع تكون مثل : أسد.
والحق سبحانه وتعالى يصف الريح هنا بأنها طيبة، والقرآن الكريم من طبيعة أسلوبه حين يتكلم عن الريح بلفظ الإفراد يكون المقصود بها هو العذاب، مثل قوله الحق :﴿ فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم( ٢٤ ) تدمر كل شيء بأمر ربها.. ( ٢٥ ) ﴾[ الأحقاف ]، وإن تكلم عنها بلفظ الجمع فهي للرحمة، وسبحانه القائل :
﴿ وأرسلنا الرياح لواقح( ١١ ).. ( ٢٢ ) ﴾[ الحجر ].
ويقول سبحانه أيضا :﴿ وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من الثمرات.. ( ٥٧ ) ﴾[ الأعراف ].
والرياح هنا جاءت في صيغة الجمع، وعلة وجود ريح للشر( ١٢ )، ورياح للخير، يمكنك أن تستشفها من النظر إلى الوجود كله ؛ هذا النظر يوضح لك أن الهواء له مراحل، فهواء الرخاء هو الذي يمر خفيفا، مثل النسيم العليل، وأحيانا يتوقف الهواء فلا تمر نسمة واحدة، ولكننا نتنفس الهواء الساكن الساخن أثناء حرارة الجو، ثم يشتد الهواء أحيانا ؛ فيصير رياحا قوية بعض الشيء، ثم يتحول على أعاصير.
والهواء-كما نعلم- هو المقوم الأساسي لكل كائن حي، ولكل كائن ثابت غير حي، فإذا كان الهواء هو المقوم الأساسي للنفس الإنسانية، فالعمارات الضخمة- مثل ناطحات السحاب- لا تثبت بمكانها إلا نتيجة توازن تيارات الهواء حولها، وإن حدث تفريخ للهواء تجاه جانب من جوانبها ؛ فالعمارة تنهار.
إذن : فالذي يحقق التوازن في الكون كله هو الهواء.
ولذلك نجد القرآن الكريم قد فصل أمر الرياح وأوضح مهمتها، وهنا يقول الحق سبحانه :﴿ حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة ﴾ وكأنه سبحانه يتكلم هنا عن السفن الشراعية التي تسير بالهواء المتجمع في أشرعتها. وإذا كان التقدم في صناعة السفن قد تعدى الشراع، وانتقل إلى البخار، ثم الكهرباء، فإن كلمة الحق سبحانه :﴿ ريح طيبة ﴾ تستوعب كل مراحل الارتقاء، خصوصا وأن كلمة " الريح " قد وردت في القرآن الكريم بمعنى القوة أيا كانت : من هواء، أو محرك يسير بآية طاقة. وسبحانه القائل :﴿ ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم( ١٣ ).. ( ٤٦ ) ﴾[ الأنفال ] :
وهكذا نفهم أن معنى الريح ينصرف إلى القوة. وأيضا كلمة " الريح " تنسجم مع كل تيسيرات البحر.
وقوله الحق :﴿ حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها ﴾ هذا القول الكريم يضم ثلاثة وقائع : الوجود في الفلك، وجرى الفلك بريح طيبة، ثم فرحهم بذلك ؛ هذه ثلاثة أشياء جاءت في فعل الشرط ثم يأتي جواب الشرط فيه ثلاثة أشياء أيضا :
أولها :﴿ جاءتها ريح عاصف ﴾ وثانيها :﴿ وجاءهم الموج من كل مكان ﴾ وثالثها :﴿ وظنوا أنهم أحيط بهم ﴾.
أما الريح العاصف : فهي المدمرة، ويقال : فلان يعصف بكذا، وفي القرآن :﴿ كعصف( ١٤ ) مأكول.. ( ٥ ) ﴾[ الفيل ]. إذن :﴿ ريح عاصف ﴾ هي الريح المدمرة المغرقة. وقوله الحق :﴿ وجاءهم الموج من كل مكان ﴾.
فالموج يأتي من أسفل، والريح تأتي من أعلى، وترفع ا
١ الاضطجاع: الاستلقاء ووضع الجنب إلى الأرض. قال ابن المظفر: كانت هذه الطاء تاء في الأصل، ولكنه قبح عندهم أن يقولوا (اضتجع) فأبدلوا التاء طاء. قال تعالى:﴿تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا..(١٦)﴾[السجدة][اللسان: مادة (ضجع)]..
٢ لأن تعريف الفاعل عند النحاة هو: كل اسم مرفوع سبقه فعل متعد أو لازم، وهذا الاسم هو الذي فعل الفعل أو قام به أو اتصف به، مثل: قرأ محمد الكتاب، ونجح محمد، وأثمرت الشجرة..
٣ يقول عز وجل:﴿يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون..(٢)؛[الرعد] ويقول سبحانه:{ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله..(١٢٣)﴾[هود]..
٤ وذلك أن شعيبا قال لموسى:﴿إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك..(٢٧)﴾[القصص]. فقال له موسى:﴿قال ذلك بيني وبينك أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي والله على ما نقول وكيل(٢٨)﴾[القصص]، وقد ثبت في الحديث أن موسى عليه السلام قضى الأجل الأتم والأكمل وهو عشر سنين (ابن كثير: ٣/٣٨٤-٣٨٧)..
٥ عن ابن عباس رضي الله عنهما: رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه يعني يوم بدر فقال:" يا رب إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبدا" فقال له جبريل: خذ قبضة من التراب فارم بها في وجوههم، فأخذ قبضة من التراب فرمى بها في وجوههم فما من المشركين أحد إلا أصاب عينه ومنخريه وفمه تراب من تلك القبضة فولوا مدبرين. أخرجه أبو نعيم (ص ٤٠٤) والبيهقي (٣/٧٩) كلاهما في دلائل النبوة، وذكره ابن كثير في تفسيره (٢/٢٩٤)..
٦ يستصرخ: يصرخ طالبا النجدة. والصرخة: الصيحة الشديدة عند الفزع أو المصيبة. قال تعالى:﴿فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه..(١٨)﴾[القصص]. وقال:﴿وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون(٤٣)﴾[يس]. والصريخ: المغيث.[اللسان: مادة (صرخ).. بتصرف]..
٧ سبيل سابلة: طريق مسلوكة. والسابلة: أبناء السبيل المختلفون على الطرقات في حوائجهم، والجمع: السوابل. والسلوك: مصدر سلك طريقا ومن يسلكون طريقا فهم سالكة. قال تعالى:﴿الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا..(٥٣)﴾[طه].[اللسان: مادة (سبل)، (سلك)]..
٨ ضوى إليه: انضم ولجأ. وينضوي في الشيء: يدخل فيه ويندرج تحته.[اللسان: مادة(ضوا). بتصرف]..
٩ الفصال: الفطام. والمعنى: أم مدى حمل المرأة إلى منتهى الوقت الذي يفصل فيه الولد عن رضاعها ثلاثون شهرا وفصلت المرأة ولدها أي: فطمته. وقال تعالى:﴿حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين..(١٤)﴾[لقمان]. وقال تعالى:﴿والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة..(٢٣٣)﴾ [البقرة].[اللسان: مادة (فصل)-بتصرف]. وقد استنبط العلماء من هذا أن أقل مدة للحمل هي ستة أشهر، وقد حدث أن امرأة رفع أمرها إلى علي بن أبي طالب وأنها حملت ستة أشهر واتهمها زوجها بالزنا، وبرأها على استدلالا بالجمع بين هذه الآيات. وهو مذهب الجمهور [فقه السنة: ٣/٣٦٧]..
١٠ الفلك: السفينة للمذكر والمؤنث والواحد والجمع، قال تعالى:﴿فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون(١١٩)﴾[الشعراء] جعله مفردا ومذكرا، أي: المركب} وقال:﴿وترى الفلك مواخر فيه..(١٤)﴾[النحل] جعل الفلك جمعا ووصفه بقوله:(مواخر)أي: السفن. القاموس القويم (٢/٨٩)..
١١ لواقح: حوامل؛ لأنها تحمل الماء والسحاب وتقلبه وتصرفه، ثم تستدره، فهي تلقح السحاب بالماء فيدر ماء وينزل المطر وتلقح الشجر فتعطي نتاجها.[لسان العرب: مادة (لقح)] وابن كثير (٢/٥٤٩)..
١٢ ومن الريح ما يسخره الله ويجعله ريح خير، مثل قوله تعالى عن سليمان عليه السلام:}فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب (٣٦)}[ص] والريح الرخاء هي: الريح اللينة السريعة التي لا تزعزع شيئا من مكانته. انظر [اللسان مادة (رخو)]..
١٣ أي: قوتكم، فالريح هنا معناها القوة وذهاب الريح أي: ذهاب القوة والهيبة، فالقوة هي التوازن في الحياة، وإن استعملت بأخلاق عادت على الإنسانية بالخير والسلام، أما إذا تجردت من الأخلاق أصبحت طغيانا وفسادا في الأرض وفيما حكاه التاريخ ونشاهده في دنيا الواقع لأكبر دليل. وقد تطلق على الرائحة، مثل قوله تعالى:﴿ولما فصلت العير قال أبوهم إني لأجد ريح يوسف..(٩٤)﴾[ يوسف]، وهذا يخدم معنى القوة أيضا، فإن من ذهبت رائحته من الوجود، فهذا دليل على ذهاب قوته..
١٤ العصف المأكول: التبن. والعصف له معنيان:
-أنه جعل أصحاب الفيل كورق أخذ ما فيه من الحب وبقي هو لا حب فيه.
-أو أراد أنه جعلهم كعصف قد أكلته البهائم.[اللسان (مادة: عصف)]..

ثم يجيء الحق سبحانه بصيغة دعائهم :﴿ لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين ﴾. فهل وفوا بالعهد ؟ لا ؛ لأن الحق سبحانه يقول بعد ذلك :﴿ فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون( ٢٣ ) ﴾ :
وبعد أن أنجاهم الحق سبحانه مباشرة تأتي " إذا " الفجائية لتوضح لنا أنهم لم ينتظروا إلى أن يستردوا أنفسهم، أو تمر فترة زمنية بينهم وبين الدعاء، وتحقق نتيجة الضراعة، لا، بل بغوا( ١ )-على الفور- في الأرض ﴿ فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق ﴾.
والبغي : هو تجاوز الحد في الظلم وهو إفساد ؛ لأن الإنسان إذا ما أخرج أي شيء عن صلاحه، يقال :" بغي عليه "، فإن حفرت طريقا ممهدا ؛ فهذا إفساد، وإن ألقين بنفاية( ٢ ) في بئر يشرب منه الناس ؛ فهذا إفساد وبغي، وأي شيء قائم على الصلاح فتخرجه عن مهمته وتطرأ عليه بما يفسده ؛ فهذا بغي.
والبغي : أعلى مراتب الظلم ؛ لأن الحق سبحانه هو القائل :﴿ إن قارون كان منة قوم موسى فبغى عليهم.. ( ٧٦ ) ﴾[ القصص ].
ويعطينا رسول الله صلى الله عليه وسلم صورة البغي الممثلة في الاعتداء بالفساد على الأمر الصالح، فيقول صلى الله عليه وسلم :" أسرع الخير ثوابا : البر وصلة الرحم، وأسرع الشر عقوبة : البغي وقطيعة الرحم " ( ٣ ).
والحق سبحانه لا يؤخر عقاب البغي وقطيعة الرحم على الآخرة، بل يعاقب عليهما في الدنيا ؛ حتى يتوازن المجتمع ؛ لأنك إن رأيت ظالما يحيا في رضا ورخاء ثم يموت بخير، فكل من يراه ويعلم ظلمه ولم يجد له عقابا في الدنيا، سوف يستشري في الظلم.
ولذلك تجد أن عقاب الله تعالى لمثل هذا الظالم في الدنيا وأن يرى الناس نهايته السيئة، وحين يرى الناس ذلك يتعظون ؛ فلا يظلمون، وهذا ما يحقق التوازن في المجتمع.
وإلا فلو ترك الله سبحانه الأمر لجزاء الآخرة ؛ لشقي المجتمع بمن لا يؤمنون بالآخرة ويحترفون البغي ؛ ولذلك يرى الناس عذابهم في الدنيا، ثم يكون لهم موقعهم من النار في الآخرة.
ويقول صلى الله عليه وسلم محذرا :" لا تبغ، ولا تكن باغيا " ( ٤ ). فالباغي إنما يصنع خللا في توازن المجتمع. والذي يبغي إنما يأخذ حق الغير، ليستمتع بناتج من غير كده وعمله، ويتحول إلى إنسان يحترف فرض الإتاوات( ٥ ) على الناس، ويكسل عن أي عمل غير ذلك. وأنت ترى ذلك في أبسط المواقع والأحياء، حين يحترف بعض ممن يغترون بقوتهم الجسدية، وقد تحولوا إلى ( فتوات ) ( ٦ ) يستأجرهم البعض لإيذاء الآخرين، والواحد من هؤلاء إنما احترف الأكل من غير بذل جهد في عمل شريف.
والبغي-إذن- هو عمل من يفسد على الناس حركة الحياة ؛ لأن من يقع عليهم ظلم البغي، إنما يزهدون في الكد والعمل الشريف الطاهر. وإذا ما زهد الناس في الكد والعمل الشريف ؛ تعطلت حركة الحياة، وتعطلت مصالح البشر، بل إن مصالح الظالم نفسها تتعطل ؛ ولذلك قال الحق سبحانه :﴿ إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق.. ( ٢٣ ) ﴾[ يونس ] : ولقائل أن يسأل : هل هناك بغي بحق ؟
أقول : نعم ؛ لأن البغي اعتداء على الصالح بإفساد. وأنت ساعة ترى إنسانا يفسد الشيء الصالح، فتسأله : لماذا تفعل ذلك ؛ وقد يجيبك بأن غرضه هو الإصلاح، ويعدد لك أسبابا لهذا البغي، فهذا بغي بحق، أما عن كان بغيا بدون سبب شرعي فهذا هو البغي، بل قمته.
ومثال البغي بحق، أقول : ألم يستول النبي صلى الله عليه وسلم على أرض " بنى قريظة "، وأحرق زرعهم وقطع الأشجار في أراضيهم، وهدم دورهم ؟ أليس في ذلك اعتداء على الصالح ؟.
لقد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ؛ لأنه رد على عدوان أقسى من ذلك. وهكذا نرى أن هناك بغيا بحق، وبغيا بغير حق. ولذلك يسمى الله جزاء السيئة سيئة مثلها( ٧ )، ويقول سبحانه :﴿ فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه( ١٩٤ ) ﴾[ البقرة ] : ويسميه الحق سبحانه " اعتداء " رغم أنه ليس اعتداء، بل رد الاعتداء.
ويطلقها الحق سبحانه وتعالى قضية تظل إلى الأبد بعد ما تقدم، فيقول :﴿ يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا( ٢٣ ) ﴾[ يونس ] : وهنا يبين الله سبحانه وتعالى وكأنه يخاطب الباغي : يا من تريد أن تأخذ حق غيرك، اعلم أن قصارى( ٨ ) ما يعطيك أخذ هذا الحق هو بعض من متاع الدنيا، ثم تجازى من بعد ذلك بنار أبدية( ٩ ).
وأنت إن قارنت زمن المتعة المغتصبة الناتجة عن البغي بزمن العقاب عليها ؛ لوجدت أن المتعة رخيصة هينة بالنسبة إلى العقاب الذي سوف تناله عليها ولا تأخذ عمرك في الدنيا قياسا على عمر الدنيا نفسها ؛ لأن الحق سبحانه قد يشاء أن يجعل عمر الدنيا عشرين مليونا من السنوات، لكن عمرك فيها محدود.
فاربأوا( ١٠ ) على أنفسكم وافهموا إن متاع الدنيا قليل، إن كان هذا المتاع نتيجة ظلمكم لأنفسكم ؛ لأن نتيجة هذا الظلم إنما تقع عليكم ؛ لأن مقتضى ما يعطيكم هذا الظلم من المتعة والنعمة هو أمر محدود بحياتكم في الدنيا، وحياتكم فيها محدودة، ولا يظن الواحد أن عمره هو عمر البشرية في الدنيا، ولكن ليقس كل واحد منكم عمره في الدنيا وهو محدود.
ولذلك يقول الحق سبحانه في آية أخرى :﴿ قل متاع الدنيا قليل.. ( ٧٧ ) ﴾[ النساء ] : وهنا يؤكد الحق سبحانه :﴿ إنما بغيكم على أنفسكم ( ٢٣ ) ﴾[ يونس ].
وقد يتمثل جزاء البغي في أن يشاء الحق سبحانه ألا يموت الظالم إلا بعد أن يرى مظلومه في خير مما أخذ منه ؛ ولذلك أقول دائما : لو علم الظالم ما ادخره الله للمظلوم من الخير ؛ لضن عليه بالظلم.
وعلى فرض أن الظالم يتمتع بظلمه وهو متاع الدنيا القليل، نجد الحق سبحانه يقول :﴿ ثم إلينا مرجعكم.. ( ٢٣ ) ﴾[ يونس ].
وحين نرجع إلى الله تعالى فلا ظلم أبدا ؛ لأن أحدكم لن يظلم أو يظلم فكل منكم سوف يلقى ما ينبئه به الله سبحانه إن ثوابا أو عقابا ؛ مصدقا لقوله الحق :﴿ ثم إلينا مرجعكم فننبئكم( ١١ ) بما كنتم تعملون( ٢٣ ) ﴾[ يونس ] : وقد جاء الخبر عن نبأ الجزاء من قبل أن يقع ؛ ليعلم الجميع أن لكل فعل مقابلا من ثواب أو عقاب، كما أن في ذكر النبأ مقدما تقريعا لمن يظلمون أنفسهم بالبغي.
١ البغي: الظلم والفساد والكبر والاستطالة على الناس والإيذاء والجور وأصل البغي: مجاوزة الحد. قال تعالى:﴿ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض..(٢٧)﴾[الشورى]. وقال:﴿فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي...(٩)﴾[الحجرات].[اللسان: مادة (بغي)-بتصرف]..
٢ نفاية الشيء: بقيته وأردؤه. والنفاية: ما نفيته من الشيء لردائته. والمراد بالنفاية هنا: الفضلات وكل ما من شأنه تلويث الشيء وإفساده.[اللسان: مادة (نفى). بتصرف]..
٣ أخرجه ابن ماجه في سننه(٤٢١٢) وابن عدي في الكامل (٤/٧٠)ط. دار الفكر، والذهبي في ميزان الاعتدال (ت٣٨٣١) من حديث عائشة، كلاهما في ترجمة صالح بن موسى الطلحي، وهو كوفي ضعيف. وقال ابن عدي: لا يتعمد الكذب. وسياق نص الحديث يؤخذ به..
٤ أخرجه الحاكم في مستدركه على الصحيحين(٢/٣٣٨) عن أبي بكرة، وقال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. وأقره الذهبي..
٥ إتاوات: جمع إتاوة وهي قدر من المال يدفع غصبا وإجبارا-بدون وجه حق- إلى ذوي السطوة والتسلط. وهي تشبه المكوس..
٦ هذا لفظ يستعمله الناس لكل إنسان منحرف ليتخذ من قوته تهديدا للأمن والسطو على ممتلكات الناس وتخويف الناس. وفي لغة العرب: الفتى: هو الشاب القوي والفتى: العبد، وجمعه على القلة فتية. وفي الكثرة فتيان، والأمة: فتاة، وجمعها فتيات. والفتوة عرفت عند العرب بأهل النجدة والعون والاحتساب، ولكن هذه الكلمة أطلقت على كل منحرف ومحترف الإفساد..
٧ وذلك في نحو قوله تعالى}وجزاء سيئة سيئة مثلها..(٤٠)}[الشورى]. وهذا من قبيل المشاكلة، وهو مصطلح بلاغي مؤداه ذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحبته، فالجزاء هنا حق لا يوصف بأنه سيئة، ولكنه سمى هكذا لمشاكلته لما معه. انظر (الإتقان في علوم القرآن ٣/٢٨١)..
٨ قصارى الشيء: آخره وغايته وهي من معنى القصر، أي: الحبس؛ لأنك إذا بلغت الغاية حسبتك.[اللسان: مادة (قصر)-بتصرف]..
٩ ومن أمثلة الغصب والبغي بغير الحق ما رواه ابن مسعود قال: قلت يا رسول الله، أي الظلم أعظم؟ قال: ذراع منن الأرض ينتقصها المرء المسلم من حق أخيه، فليبس حصاة من الأرض يأخذها أحد إلا طوقها يوم القيامة إلى قعر الأرض، ولا يعلم قعرها إلا الذي خلقها. أخرجه أحمد في مسنده (١/٣٩٦) والطبراني في معجمه الكبير (١٠/٢٦٦). قال الهيثمي في المجمع (٤/١٧٤):"إسناد أحمد حسن"..
١٠ اربأوا على أنفسكم: حافظوا عليها وأبعدوها عن كل ما من شأنه أن يجلب لها العذاب في الآخرة. وفي الحديث:"مثلي ومثلكم كرجل ذهب يربأ أهله" أي: يحفظهم من عدوهم.[اللسان مادة (ربأ)]..
١١ الأنباء: الأخبار الهامة. قال الحق:﴿تلك القرى نقص عليك من أنبائها..(١٠١)﴾[الأعراف] وقال:﴿لكل نبأ مستقر..(٦٧)﴾[الأنعام]. أي: لكل خبر عام وقت أو مكان يقع فيه في المستقبل أو في الماضي. ونبأه مثقل أنبأه. والتضعيف يفيد المبالغة والتكرار. قال الحق:﴿وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون..(١٤)﴾[المائدة]- القاموس القويم ج ٢ ص ٢٥١، ٢٥٠..
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت( ١ ) وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون( ٢٤ ) ﴾ :
والماء الذي ينزل من السماء، هو الماء الصالح للري وللسقي ؛ لأن المياه الموجودة في الوجود، هي مخازن للحياة، وغالبا ما تكون مالحة، كمياه البحار والمحيطات، وشاء الحق سبحانه ذلك ؛ لحمايتها من العفن والفساد، ثم تتم عملية تقطير المياه بأشعة الشمس التي تحول الماء إلى البخار، ويتجمع البخار كسحاب، ثم يسقط ماء عذبا مقطرا صالحا للشرب والري.
والحق سبحانه يقول هنا :﴿ كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض( ٢٤ ) ﴾[ يونس ] : والاختلاط : اجتماع شيئين أو أشياء على هيئة الانفصال بحيث يمكن أن تعزل هذا عن ذاك، فإن خلطت بعضا من حبات الفول مع بعض من حبات الترمس ؛ فأنت تستطيع أن تفصل أيا منهما عن الأخرى، ولكن هناك لونا آخر من جمع الأشياء على هيئة المزج، مثلما تعصر ليمونة على ماء محلى بالسكر، وهذا ينتج عنه ذوبان كل جزئ من الليمون والسكر في جزئيات الماء.
وهنا يقول الحق سبحانه :﴿ كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض ﴾وقد يفهم من ذلك أن الماء والنبات قد اختلطا معا، لكن النبات- كما نعلم- ككائن حي مخلوق من الماء مصداقا لقول الحق سبحانه :﴿ وجعلنا من الماء كل شيء حي.. ( ٣٠ ) ﴾[ الأنبياء ].
وهنا لا بد أن نلتفت إلى الفارق بين " باء " الخلط، و " باء " السببية( ٢ ) فالباء هنا في هذه الآية هي باء السببية، وبذلك يكون المعنى : فاختلط بسببه نبات الأرض. وأنت ترى بعد سقوط المطر على الأرض أن المياه تغطي الأرض، ثم تجد بعد ذلك بأيام أو أسابيع، أن سطح الأرض مغطى بالزروع، وكلها مختلطة متشابكة، وكلما تشابكت الزروع مع بعضها فهذا دليل على أن الري موجود والخصوبة في هذه الأرض عالية، وهذا نتيجة تفاعل الماء مع التربة.
أما إن كانت الأرض غير خصبة، فأنت تجد نبتة في منطقة من الأرض، وأخرى متباعدة عنها، هذا ما يطلق عليه أهل الريف المصري أثناء زراعة الذرة-على سبيل المثال :" الذرة تفلس " أي : أن كل عود من أعواد الذرة يتباعد عن الآخر نتيجة عدم خصوبة الأرض.
إذن : فخصوبة الأرض لها أساس هام في الإنبات والماء موجود لإذابة عناصر الغذاء للنبات، فتنتشر بها جذور النبات.
وإن سمحت لك الظروف بزيارة المراكز العلمية للزراعة في " طوكيو " أو " كاليفورنيا " ؛ فلسوف ترى أنهم يزرعون النبات على خيوط رفيعة ؛ تسقى بالماء الذي يحتوي على عناصر الغذاء اللازمة للإنبات ؛ لأنهم وجدوا أن أي نبات يأخذ من الأرض المواد اللازمة لإنباته بما لا يتجاوز خمسة في المائة من وزنه، ويأخذ من الهواء خمسة وتسعين في المائة من وزنه.
إذن : فالمطر النازل من السماء خلال الهواء هو الذي يذيب عناصر الأرض ؛ ليمتصها النبات.
والحق سبحانه وتعالى هنا أراد أن يضرب لنا المثل، والمثل : هو قول شبه مضربه بمولده، أي شيء نريد أن نمثله بالشيء، ولا بد أن يكون الشيء الممثل به معلوما، والشيء المأخوذ كمثل هو الذي نريد أن نوضح صورته ؛ ولذلك لا يصح أن نمثل مجهولا بمجهول، وإنما نمثل مجهولا بمعلوم.
وتجد من يقول لك : ألا تعرف فلانا ؟ فتقول : لا أعرفه، فيرد عليك صاحبك : إنه مثل فلان في الشكل. وهكذا عرفت المجهول بمعلوم.
وبعض من الذين يحاولون الاعتراض على القرآن، دخلوا من هذه الناحية، وقالوا : إذا كان الشيء مجهولا ونريد أن نعرف به، ألا نعرفه بمعلوم ؟ فما بال الله-سبحانه وتعالى- يقول في شجرة الزقوم( ٣ ) :﴿ إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم( ٦٤ ) طلعها( ٤ ) كأنه رءوس الشياطين( ٦٥ ) ﴾[ الصافات ].
ما بال الله سبحانه يبين شجرة الزقوم، وهي شجرة في النار لا نعرفها، فيعرفها للمؤمنين به بأن طلعها يشبه رءوس الشياطين، وبذلك يكون سبحانه قد مثل مجهولا بمجهول. والذين قالوا ذلك فاتهم أن الذي يتكلم هو الله تعالى. وقد أراد الحق سبحانه أن يمثل لنا شجرة الزقوم بشيء بشع معلوم لنا، والبشع المعلوم هو الشيطان.
وشاء الحق سبحانه ألا يحدد البشاعة ؛ حتى لا ينقضي التشبيه ؛ لأن الشيء قد يكون بشعا في نظرك، وغير بشع في نظر غيرك. ويريد الله سبحانه أن يبشع طلع شجرة الزقوم ؛ فاختار الشيء المتفق على بشاعته، وهو رءوس الشياطين، وليتصور كل إنسان صورة الشيطان، بما ينفر منه ويقبحه، وهكذا تتجلى عظمة الحق سبحانه في أن جعل شكل الشيطان مبهما( ٥ ).
وأما المثل الذي نحن بصدده هنا وهو تشبيه الحياة الدنيا بأنها كالماء الذي أنزله الحق سبحانه من السماء فاختلط به نبات الأرض، والحياة الدنيا نحن ندرك بعضها، وكل منا يدرك فترة منها، ولم يدرك أولها، وقد لا يدرك آخرها، فجاء الحق سبحانه بمثل يراه كل واحد منا، وهو الزرع الذي يرتوي بالمطر، فأراد الحق سبحانه أن يجمع لنا صورة الدنيا في مثل معروف لنا جميعا، وندركه ؛ فندرك ما سبق، وما يلحق، فكل شيء يأخذ حظه في الازدهار، والجمال، ثم ينتهي، كذلك الدنيا.
يقول الحق سبحانه :﴿ كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلنا حصيدا كان لم تغن بالأمس )( ٢٤ ) ﴾[ يونس ] :
والزخرف : هو الشيء الجميل المستميل للنفس وتسر به حينما تراه، وتتزين الدنيا بالألوان المتنوعة في تنسيق بديع، ثم يصبح كل ذلك حصيدا( ٦ ) وهذا ما نراه في حياتنا، وهذا جمع الله سبحانه وتعالى مثل الحياة من أولها إلى أخرها بالصورة المرئية لكل إنسان، حتى لا يخدع إنسان بزخرف الدنيا ولا بزينتها.
والحق سبحانه هو القائل :﴿ فلينظر الإنسان إلى طعامه( ٢٤ ) أنا صببنا الماء صبا( ٢٥ ) ثم شققنا الأرض شقا( ٢٦ ) فانبتنا فيها حبا( ٢٧ ) وعنبا وقضبا( ٧ )( ٢٨ ) وزيتونا ونخلا( ٢٩ ) وحدائق غلبا( ٨ )( ٣٠ ) وفاكهة وأبا( ٩ )( ٣١ ) متاعا لكم ولأنعامكم( ٣٢ ) فإذا جاءت الصاخة( ١٠ )( ٣٣ ) يوم يفر المرء من أخيه( ٣٤ ) وأمه وأبيه( ٣٥ ) وصاحبته وبنيه( ٣٦ ) لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه( ٣٧ ) ﴾[ عبس ].
إذن : فالدنيا بكل جمالها الذي تراه إنما تذوي( ١١ )، وما تراه من بديع ألوانها إنما يذبل، ومهما ازدانت الدنيا فهي إلى زوال، فإياك أن تبغي ؛ لأن البغي فيه متاع الدنيا، والدنيا كلها إلى زوال ؛ كزوال الروض التي ينزل عليها المطر ؛ فتنبت الأرض الأزهار، ثم يذوي كل ذلك.
وقد قال الحق سبحانه :﴿ إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين( ١٧ ) ولا يستثنون( ١٨ ) فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون( ١٩ ) فأصبحت كالصريم( ١٢ ) ( ٢٠ ) ﴾. [ القلم ] : إذن : فالدنيا بهذا الشكل وعلى هذا الحال.
وهنا يقول الحق سبحانه :﴿ حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت( ٢٤ ) ﴾[ يونس ] :
والأرض تتزين بأمر ربها، والحق سبحانه ينسب الإدراكات إلى ما لا نعرف أن له عقلا أو إرادة. ألم يقل الحق سبحانه في قصة العبد الصالح :﴿ فانطلقا حتى إذا أتيا أهل القرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض( ١٣ ).. ( ٧٧ ) ﴾[ الكهف ] : فهل يملك الجدار إرادة أن ينقض ؟ ولو حققنا أمر جيدا ؛ لوجدنا أن الحق سبحانه جعل لكل كائن في الوجود حياة تناسبه، وله إرادة تناسبه، وله انفعال يناسبه. وقد ضرب الحق سبحانه لنا في ذلك صورا شتى، فنجد أن الشيء الذي يعز على عقولنا أن تفهمه يبرز لنا ببيان من الله تعالى.
ومثال هذا : معرفة الهدهد في قصة سليمان عليه السلام بالتوحيد، وكيف أخبر هذا الهدهد سيدنا سليمان عليه السلام بحكاية مملكة سبأ حيث يسجد الناس هناك للشمس من دون الله، فكأن الهدهد قد علم من يستحق السجود له إذ قال :﴿ ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء( ١٤ ) في السماوات والأرض.. ( ٢٥ ) ﴾[ النمل ] :
ومن كان يظن أن الهدهد، وهو طائر، يكون على هذه البصيرة بالعقائد على أصفى ما تكون ؟ لأن الحق سبحانه أراد أن يبين لنا أن هذا الطائر لا هوى له يفسد عقيدته، وأن أهواءنا هي التي تفسد العقائد، ومن أعطاه الله سبحانه البدائل هو الذي يفسد الاختيار ما دام لا يحرس الاختيار بالإيمان، وأن يختار في ضوء منهج الله تعالى.
ونحن نرى أن ما دون الإنسان من طائر أو حيوان لا يفسد شيئا ؛ لأن غريزته تقوده، فلا نجد حيوانا يأكل فوق طاقته، لكننا نجد إنسانا يصيب نفسه بالتخمة( ١٥ )، ولا نجد حمارا يقفز فوق قناة من الماء لا يقدر عليها، بل نراه وهو يتراجع عنها، ولكنا نجد إنسانا يشمر عن ساعديه( ١٦ ) ؛ ليقفز فوق قناة مياه ؛ فيقع فيها( ١٧ ).
إذن : فنحن بأهوائنا التي تسيطر على غرائزنا نوقع أنفسنا فيما يضرنا، ما لم نحرس أنفسنا بمنهج الله سبحانه وتعالى. ونجد في مثال الهدهد صفاء عقديا في التوحيد كأصفى ما يكون المتصوفة، ويأتي بما يهمه﴿ إلا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ﴾ : لأن الخبء هو رزق الهدهد، فهو لا يأكل من الشيء الظاهر على سطح الأرض، بل يضرب بمنقاره الأرض ؛ ليأتي لنفسه بما يطعمه.
ويعطينا الحق سبحانه مثلا آخر بالنملة التي قالت :﴿ يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون( ١٨ ) ﴾[ النمل ] : وهذه دقة عدالة من هذه النملة، فإنها لم تقل : إن سليمان وجنوده سيحطمون أخواتنا من النمل ظلما لهم، بل قالت :﴿ وهم لا يشعرون ﴾ لأنكم لا تظهرون تحت أرجلهم.
إذن : كل كائن في الوجود له حياة تناسبه، ولكن الآفة أننا نريد أن نتصور الحياة في كل كائن، كتصورها في الكائن الأعلى وهو الإنسان.
ولا بد لنا أن نعلم أن النبات له حياة تناسبه، والحيوان له حياة تناسبه، والجماد له حياة تناسبه، وكل شيء في الحياة له لون من الحياة المناسبة له.
وقد أوضحنا من قبل أن الحق سبحانه قد قال :﴿ ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة.. ( ٤٢ ) ﴾[ الأنفال ] : والهلاك مقابل للحياة، والحياة مقابلة للموت، والهلاك يساوي الموت. والحق سبحانه يصور الحالة يوم القيامة فيقول :﴿ كل شيء هالك إلا وجهه.. ( ٨٨ ) ﴾[ القصص ] : إذن : فالجماد هالك، ولكنه يتمتع بلون من الحياة لا نعرفه، وكذلك كل كائن له حياة تناسبه، والآفة أن الإنسان يريد أن يعرف الحياة التي في الجماد كالحياة في الإنسان.
وانظر إلى دقة الأداء القرآني في قوله الحق :﴿ حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا ( ٢٤ ) ﴾[ يونس ] :
وقد جاء هذا القول من قبل أن يتقدم العلم ويثبت أن الأرض تشبه الكرة، وأنها تدور، وأن كل ليل يقابله نهار، وكذلك جاء قول الحق سبحانه :﴿ أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون( ٩٧ ) أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى.. ( ٩٨ ) ﴾[ الأعراف ] : إذن : فأمر الله سبحانه يتحقق حين يشاء، وهو أمر واحد عند من يكونون في ضحى أو في ليل.
ثم يقول الحق سبحانه :﴿ فجعلناها حصيدا( ١٨ ) كأن أم تغن( ١٩ ) بالأمس( ٢٤ ) ﴾[ يونس ] : أي : كأنها لم يكن لها وجود.
وينهي الحق سبحانه الآية بقوله :﴿ كذلك
١ الزخرفة: الزينة. قال ابن سيده: الزخرف: الذهب، هذا الأصل، ثم سمي كل مموه مزور به. وبيت مزخرف. وزخرف البيت: زينه وأكمله. وفي الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدخل الكعبة حتى أمر بالزخرف فنحي. وقوله تعالى:{إذا أخذت الأرض زخرفها..(٢٤)﴾[يونس] المراد بالزخرف هنا: زينة الحياة الدنيا ومتاعها الزائل الذي يخدع بريقه أعين الغافلين عن الآخرة وما فيها من نعيم مقيم.[اللسان: مادة (زخرف)-بتصرف]. وقال القرطبي: زخرفها، أي: حسنها وزينتها. والزخرف: كمال حسن الشيء ومنه قيل للذهب زخرف (تفسير القرطبي: ٤/٣٢٥٤). وقال ابن كثير: زخرفها، أي: زينتها الفانية. وازينت، أي: حسنت بما خرج في رباها من زهور نضرة مختلفة الأشكال والألوان(تفسير ابن كثير: ٢/٤١٣)..
٢ الباء: حرف يجر اسم الظاهر والمضمر، ويقع أصليا أو زائدا، ويؤدي عدة معان، أشهرها خمسة عشر، هي: الإلصاق، والاستعانة، والسببية، والتعدية، والظرفية، والعوض، والمصاحبة، والتبعيض، والمجاوزة، والاستعلاء، والتوكيد، وأن تكون بمعنى كلمة (بدل)، وان تكون بمعنى كلمة (إلى). انظر تفصيل ذلك في النحو الوافي (٢/٤٩٠-٤٩٧)..
٣ شجرة الزقوم هي الشجرة الملعونة في القرآن، قال تعالى:﴿وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن..(٦٠)﴾[الإسراء] وأخبر الله تعالى في كتابه الكريم أنها تخرج في أصل الجحيم. وثمرها هو الزقوم وهو طعام أهل النار.[اللسان: مادة (زقم)-بتصرف]..
٤ الطلع: غلاف يشبه الكوز، ينفتح عن حب منضود، فيه مادة إخصاب النخلة [المعجم الوسيط: مادة (طلع)]..
٥ مبهما: خافيا. واستبهم الأمر إذا استغلق. والمبهم سمي كذلك لأنه أبهم عن البيان فلم يجعل عليه دليل. ومنه قيل لما لا ينطق "بهيمة"[اللسان: مادة (بهم)]..
٦ حصيدا: محصودة مقطوعة لا شيء فيها، قال أبو عبيدة: الحصيد: المستأصل.[تفسير القرطبي٤/٣٢٥٤]..
٧ قال الحسن البصري: القضب: العلف الذي تأكله الدواب [تفسير ابن الكثير: ٤/٤٧٢-بتصرف]..
٨ حدائق غلبا، أي: بساتين. وقيل: هي نخل غلاظ كرام. وقيل: هي الشجرة الذي يستظل به.[تفسير ابن كثير: ٤/٤٧٢]..
٩ قال ابن عباس: الأب ما انبتت الأرض مما يأكله الدواب ولا يأكله الناس. وقيل: هو الحشيش للبهائم وقيل: الأب الكلأ.[تفسير ابن كثير: ٤/٤٧٣، ٤٧٢]..
١٠ الصاخة: قال ابن عباس: هي اسم من أسماء يوم القيامة عظمه الله وحذر منه. وقال البغوي: الصاخة يعني: صيحة يوم القيامة، سميت بذلك؛ لأنها تصخ الأسماع، أي: تبالغ في إسماعها حتى تكاد تصمها.[تفسير ابن كثير: ٤/٤٧٣]..
١١ تذوي: تذبل. ذوى النبات: أصابه الحر والعطش فذبل وضعف. وذوى عود النبات: يبس.[اللسان: مادة (ذوى)]..
١٢ هذا مثل ضربه الله تعالى لكفار قريش فيما أهدى إليهم من الرحمة العظيمة وأعطاهم من النعمة الجميلة، وهو بعثة محمد صلى الله عليه وسلم إليهم، فقابلوه بالتكذيب والرد والمحاربة، لهذا قال تعالى:﴿إنا بلوناهم﴾ أي: اختبرناهم ﴿كما بلونا أصحاب الجنة﴾ وهي البستان المشتمل على أنواع الثمار والفواكه ﴿إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين﴾ أي: حلفوا فيما بينهم ليجدن ثمرها (يجمعونه) ليلا لئلا يعلم بهم فقير ولا سائل؛ ليتوفر ثمرها عليهم، ولا يتصدقوا منه شيء. ﴿ولا يستثنون﴾أي: فيما حلفوا به، ولهذا حنثهم الله في أيمانهم، فقال تعالى:﴿فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون﴾ أي: أصابتها آفة سماوية ﴿فأصبحت كالصريم﴾ قال ابن عباس: أي: كالليل الأسود. وقال الثوري والسدي: أي: هشيما يبسا.[تفسير ابن كثير: ٤/٤٠٦]..
١٣ يريد أن ينقض: الانقضاض السقوط بسرعة وإضافة إرادة الانقضاض إلى الجدار مجاز عن قرب سقوطه، وذلك على التشبيه بحال من يريد الفعل، وفي كتاب الله قوله:﴿ولما سكت عن موسى الغضب..(١٥٤)﴾[الأعراف] وقوله:﴿فإذا عزم الأمر..(٢١)﴾[محمد][تفسير سورة الكهف للشيخ محمد محمد المدني-بتصرف]..
١٤ الخبء: ما خبىء. الوخبء الذي في السماوات هو المطر، والخبء الذي في الأرض هو النبات. وقيل: الخبء كل ما غاب، فيكون المعنى: يعلم الغيب في السماوات والأرض.[اللسان: مادة (خبأ)]..
١٥ التخمة: الذي يصيب الإنسان من الطعام إذا استوخمه أي: استثقله. وقد تطلق "التخمة" على كثرة الطعام والمبالغة في الأكل والشرب حتى يثقل على الجسم هضم الطعام؛ فيصاب الإنسان بالوخم والثقل وعدم القدرة على الحركة.[اللسان: مادة وخم]..
١٦ الساعد: ملتقى الزندين من عند المرفق على الرسغ. والساعد: ساعد الذراع، وهو ما بين الزندين والمرفق، سمي ساعدا لمساعدته الكف. وجمع الساعد: سواعد.[اللسان: مادة (سعد)]..
١٧ وهذا مصداق قوله تعالى:﴿إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا(٧٢)﴾[الأحزاب]..
١٨ الحصيد والحصد: الزرع المحصود بعد ما يحصد، والمراد بالحصيد هنا: تشبيه وتصوير إهلاك الله للأرض في نهاية الدنيا بما يحدث عند حصد النبات من اقتلاعه وتقطيعه.[اللسان: مادة (حصد)-بتصرف]..
١٩ ﴿كأن لم تغن بالأمس﴾ أي: لم تكن عامرة، والمغاني في اللغة: المنازل التي يعمرها الناس. وقال قتادة: كأن لم تنعم. وقرأ قتادة (يغن) بالياء، يذهب به إلى الزخرف، يعني: فكما يهلك الزرع هكذا، كذلك الدنيا.[تفسير القرطبي: ٤/٣٢٥٤]..
ودار السلام : هي الآخرة التي تختلف عن دار الدنيا المليئة بالمتاعب، هذه الدنيا التي تزهو وتتزخرف، وتنتهي إلى حطيم ؛ لذلك يدعو الله تعالى على دار أخرى، هي دار السلام ؛ لأن من المنغصات على أهل الدنيا، أن الواحد منهم قد يأخذ حظه جاها، ومالا، وصحة، وعافية، ولكن في ظل أرق من أمرين : الأول هو الخوف من أن يفوته هذا النعيم وهو حي، والثاني أن يفوت هو النعيم.
أما الآخرة فالإنسان يحيا فيها في نعيم مقيم ؛ ولذلك يقول الله سبحانه :﴿ والله يدعو إلى دار السلام ﴾.
وهذه الآخرة لن يشاغب فيها أحد الآخر، ولن تجد من يأكل عرق غيره ومثلها يحدث في الدنيا( ١ )، وإذا كنا نعيش في الدنيا بأسباب الله، فنحن في الآخرة نعيش بالله سبحانه وتعالى، فكل ما يخطر على بالك تجده.
فإذا كانت الأسباب تتنوع في الدنيا وتختلف قدرات الناس فيها مع أخذهم بالأسباب، فإنهم في الآخرة يعيشون مع عطاء الله سبحانه دون جهد أو أسباب ؛ لأن درا السلام هي دار الله تعالى، فالله تعالى هو السلام.
ولله المثلى الأعلى، فأنت إذا دعاك ولي أمرك إلى داره، فهو يعد لدعوتك على قدره هو، وبما يناسب مقامه، فما بالك حين يدعوك خالقك سبحانه وقد اتبعت منهجه. إنه سبحانه هو القائل :﴿ إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون( ٢ )( ٥٥ ) هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون( ٣ )( ٥٦ ) لهم فيها فاكهة ولهم ما يدعون( ٥٧ ) سلام قولا من رب رحيم( ٥٨ ) ﴾[ يس ] : وهذا السلام ليس من البشر ؛ لأن من البشر من يعطيك السلام وهو يكن لك غير السلام، أو قد يعطيك السلام وهو يريد بك السلام، ولكنه من الأغيار( ٤ ) ؛ فيتغير فلا يقدر أن يعطيك هذا السلام، لكن إذا ما جاء السلام من الله تعالى، فهو سلام من رب لا يعجزه شيء، ولا يعوزه شيء، ولا تلحقه أغيار ؛ لذلك يقول سبحانه :﴿ والملائكة يدخلون عليهم من كل باب( ٢٣ ) سلام عليكم.. ( ٢٤ ) ﴾[ الرعد ] : والملائكة حين يقولون ذلك إنما اخذوا سلامهم من باطن سلام الله تعالى، وحتى أصحاب الأعراف( ٥ ) الذين لم يدخلوا الجنة، ويرون أهل الجنة وأهل النار، هؤلاء يلقون السلام على أهل الجنة. وهكذا يحيا أهل الجنة في سلام شامل ومحيط ومطمئن ؛ لأن الداعي هو الله سبحانه، ولا أحد يجبره على أن ينقض سلامه.
ودعوة الله سبحانه هي منهجه الذي أرسل به الرسل ؛ ليحكم به حركة الحياة حركة إيمانية، يتعايش فيها الناس تعايشا على وفق منهج الله تعالى، بما يجعل هذه الدنيا مثل الجنة، ولكن الذي يرهق الناس في الدنيا أن بعض الناس يعطلون جزئية أو جزئيات من منهج( ٦ ) الله سبحانه.
وأنت إذا رأيت مجتمعا فيه لون من الشقاء في أي جهة ؛ فاعلم أن جزءا من منهج الله تعالى قد عطل.
ولو أن الناس قد ساروا على منهج الله سبحانه وتعالى ؛ لما كان بالوجود عورة واحدة ؛ فالذي يظهر عورات الوجود هو غفلة بعض الناس عن منهج الله سبحانه.
وأنت إن رأيت فقراء لا يجدون ما يأكلونه ؛ فاعلم أن هناك من عطل منهج الله تعالى، إما من الفقراء أنفسهم، الذين استمرأ( ٧ ) بعضهم الكسل، وإما أن الأغنياء قد ضنوا برعاية حق الله تعالى في هؤلاء الفقراء ؛ وبذلك يتعطل منهج الله سبحانه.
أما إذا سيطر منهج الله تعالى على الحياة ؛ لصارت الحياة مثل الجنة.
ويقول الحق سبحانه :﴿ ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ﴾ ونعلم أن الهداية نوعان : هداية الدلالة بالمنهج، فمن أخذ المنهج سهل الله تعالى له طريق الصراط المستقيم ؛ وبذلك انتقل العبد من مرحلة الهداية بالدلالة إلى الهداية بالمعونة، وحين تقوم القيامة يهديهم الله سبحانه بالنور إلى الجنة :﴿ يهديهم ربهم بإيمانهم.. ( ٩ ) ﴾[ يونس ] : إذن : فمن أخذ هداية الله بالدلالة وهي المنهج، واتبع هذا المنهج ؛ فالحق سبحانه يجعل له نورا يسعى بين يديه :﴿ نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم.. ( ٨ ) ﴾[ التحريم ].
والحق سبحانه يقول :﴿ ويهدي من يشاء( ٢٥ ) ﴾[ يونس ] : لأن كل شيء في هذا الكون لا يخرج عن مشيئته سبحانه، فالقوانين لا تحكمه، بل هو الذي يحكم كل شيء.
وإذا كان الله قد بين من شاء هدايته، فهو أيضا قد بين لنا من شاء إضلاله بقوله سبحانه :﴿ والله لا يهدي القوم الكافرين( ٣٧ ) ﴾[ التوبة ]، وقوله سبحانه :﴿ والله لا يهدي القوم الفاسقين( ٢٤ ) ﴾[ التوبة ] : إذن : فقد بين الحق سبحانه لنا من الذين يهديهم على الجنة ومن الذين لا يهديهم، فلا يقولن أحد : وما ذنب الكافرين والفاسقين( ٨ ) ؟ لأن الحق سبحانه قد بين منهجه، فمن أخذ به ؛ جعل له نورا يسعى بين يديه، ويدخله الجنة.
١ وفي هذا قول رب العزة عن أهل الجنة:﴿لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما(٢٥) إلا قيلا سلاما سلاما(٢٦)﴾[الواقعة]. فهم لا يسمعون فيها كلاما عبثا أو فيه قبح، بل قولهم لبعضهم سلاما سلاما، أي: تسليمهم على بعضهم، فهي دار السلام..
٢ ﴿في شغل فاكهون﴾: مرفهون ناعمون بنعيم الجنة. قال تعالى:﴿فاكهين بما آتاهم ربهم..(١٨)﴾[الطور].[اللسان: مادة (فكه)-بتصرف]..
٣ ﴿على الأرائك متكئون﴾ قال المفسرون: الأرائك: السرر في الحجال، وقيل: هي الفرش. وقيل: الأريكة: سرير منجد مزين في قبة أو بيت. وقيل: الأريكة: هو كل ما اتكئ عليه من سرير أو فراش أو منصة. قال تعالى:﴿متكئين فيها على الأرائك نعم الثواب..(٣١)﴾[الكهف].[اللسان: مادة (أرك)-بتصرف]..
٤ فالسلام عند أهل الأغيار يتغير حسب المصالح، أما سلام الله فلا يلحقه التغيير ولا التبديل، لن وعده الحق، وقوله الصدق، وهو السلام، ومنه السلام..
٥ أصحاب الأعراف هم قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم، فيقفون بين الجنة والنار يوم القيامة، ينظرون إلى أهل هذه وأهل تلك، ينتظرون عفو الله عنهم، وفيهم قال سبحاه:﴿وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون(٤٦) وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين(٤٧)﴾[الأعراف]..
٦ منهج الله تعالى: طريقه وشريعته، قال تعالى:﴿لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا(٤٨)﴾[المائدة]. فقد وضع منهجا للروح سموا، وللقلب حبا، وللنفس سكينة وللعقل فكرا وتأملا وللجسم حركة. ومنهج هذه الطاقات يوجد مجتمع الربوبية بعقيدة توحده، وعباده تحبه وتخشاه ومعاملات بأخلاق فإذا اختلت طاقة من هذه الطاقات بسبب نسيانه أو غفلة تعطل المسير في المنهج نحو الله جل علاه.
٧ استمرأ: استحسن الشيء واعتاده.[اللسان: مادة (مرأ)-بتصرف].
٨ يقول الحق سبحانه:﴿ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى(١٢٤) قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا(١٢٥) قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى(١٢٦)﴾[طه]..
وبعد ذلك يقول الحق سبحانه :
﴿ للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون( ٢٦ ) ﴾ :
وكلمة ﴿ الحسنى ﴾ مثلها مثل قولنا :" امرأة فضلى " ونقول أيضا : امرأة كبرى، وهي أفعل تفضيل، أي : مبالغة في الفضل( ١ ).
والمقصود بقوله سبحانه :﴿ للذين أحسنوا الحسنى ﴾ أي : بالغوا في أداء الحسنات، والحسنة كما نعلم بعشرة أمثالها، وهنا يقول الحق سبحانه :﴿ للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ﴾ فما هذه الزيادة ؟
نقول : هي عطاء زائد في الحسنات، فهناك " كادر " للجزاء بالحسنات، يبدأ بعشرة أمثال الحسنة ويصل إلى سبعمائة ضعف، أما السيئة فبواحدة( ٢ ). وهذا " الكادر " لا يحدد فضل الله تعالى، بل الحق سبحانه يزيد من فضله من يشاء.
ولذلك يجب ألا نفرق بين عدل الله سبحانه في أن الشيء يساوي الشيء، وفضل الله تعالى في أن يجزى على الشيء الحسن بأضعاف أضعاف ما نتصور.
والحق سبحانه يقول :﴿ قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا.. ( ٥٨ ) ﴾[ يونس ].
وقال قوم من العارفين بالله : إن الزيادة المقصودة هي في العشرة الأمثال والسبعمائة ضعف، والفضل هو ما فوق ذلك.
وهكذا تتعدد مراتب الجزاء : فهناك العشرة الأمثال، والسبعمائة ضعف، والحسنى، والزيادة عن الحسنى، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك :" إذا دخل أهل الجنة لجنة قال : يقول الله تبارك وتعالى : تريدون شيئا أزيدكم. فيقولون : ألم تبيض وجوهنا ؟ ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار ؟ قال : فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم عز وجل " ( ٣ ).
ثم يقول الحق سبحانه :﴿ ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة ﴾ أي : لا يغطي وجوههم غبار، وهو سبحانه القائل :﴿ وجوه يومئذ ناضرة( ٢٢ ) إلى ربها ناظرة( ٢٣ ) ﴾[ القيامة ]، وهو سبحانه القائل :﴿ ووجوه يومئذ عليها غبرة( ٤٠ ) ترهقها قترة( ٤ )( ٤١ ) ﴾[ عبس ] : وترهقها : أي : تغطيها، وقترة تعني : الغبار، وهي مأخوذة من القتار وهو الهواء الذي يمتلئ بدخان الدهن المحترق من اللحم المشوي، وقد تكون رائحته أخاذة ويسيل لها اللعاب، ولكن من يوضع على وجهه هذا القتار يصنع له طبقة سوداء.
ويقول الحق سبحانه :﴿ ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة( ٢٦ ) ﴾[ يونس ] : لأنهم اتقوا الله سبحانه وأحبوا منهجه. ويقول الحق سبحانه :﴿ يوم تبيض وجوه وتسود وجوه.. ( ١٠٦ ) ﴾[ آل عمران ] : فليس المقصود هو لون الوجه في الدنيا ؛ لأنك قد تجد إنسانا أسود اللون لكنه بالإيمان قد أشرق وجهه، وأحاطت ملامحه هالة من البهاء. وهناك من هو أبيض الوجه ولكنه من فرط معصية الله صار وجهه بلا نور.
ويقول الحق سبحانه :﴿ أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون( ٢٦ ) ﴾[ يونس ] : أي : أنهم ملازمون للجنة ملازمة الصاحب لصاحبه، أو " أصحاب الجنة " أي : من يملكونها.
١ أفعل التفضيل: اسم مشتق على وزن (أفعل) يدل غالبا على أن شيئين اشتركا في معنى، وزاد أحدهما فيه على الآخر. مثل (أحسن-أفضل- أكبر) في مثل قولنا: نعيم الآخرة أحسن وأفضل واكبر من متاع الدنيا. وعند التأنيث تصاغ الكلمة على وزن (فعلى) مثل: (حسنى-فضلى-كبرى). انظر تفصيل ذلك في (النحو الوافي: ٣/٣٩٤-٤١٥)..
٢ عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال الله عز وجل:"إذا هم عبدي بحسنة ولم يعملها كتبتها له حسنة، فإن عملها كتبتها عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف، وإذا هم بسيئة ولم يعملها لم أكتبها عليه، فإن عملها كتبتها سيئة واحدة " أخرجه مسلم في صحيحه(١٢٨) والبخاري في صحيحه (٦٤٩١) بلفظ آخر عن ابن عباس..
٣ أخرجه مسلم (١٨١) وأحمد في مسنده (٤/٣٣٢) والترمذي في سننه (٢٥٥٢) من حديث صهيب الرومي..
٤ القتر: جمع القترة، وهي الغبرة. وفي التهذيب: القترة غبرة يعلوها سواد الدخان، والقتار: ريح القدر، وقد يكون من الشواء والعظم المحترق، وريح اللحم المشوي. وفي حديث جابر، رضي الله عنه: لا تؤذ جارك بقتار قدرك.[اللسان: مادة (قتر)].
.

يقول الحق سبحانه بعد ذالك :
﴿ والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم كأنها أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون( ٢٧ ) ﴾ :
وما دام الحق سبحانه قد جاء بمن دعاهم إلى دار السلام وأعطاهم الجنة جزاء للعمل الحسن، فذكر مقابل الشيء يجعله ألصق بالذهن، والحق سبحانه هو القائل :﴿ فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا.. ( ٨٢ ) ﴾[ التوبة ]، وأيضا من أمثلة المقابلة( ١ ) في القرآن قوله الحق :﴿ عن الأبرار لفي نعيم( ١٣ ) وإن الفجار لفي جحيم( ١٤ ) ﴾[ الانفطار ] : إذن : فمجيء المقابل للشيء إنما يرسخه في الذهن ؛ ولأن الحق سبحانه قد تكلم عن الدعوة على دار السلام، ومن دخل هذه الدعوة ؛ فله الجنة خالدا فيها، لا يرقه وجهه قتر ولا ذلة، كان لا بد أن يأتي بالمقابل، وأن يبشع رفض الدعوة لدار السلام، ويحسن الأمر عند من يقبلون الدعوة.
ولا بد-إذن- أن يفرح المؤمن ؛ لأنه لن يكون من أهل النار، ولا بد أيضا أن يخرج بعض من الذين ضلوا عن الغفلة ؛ ليهربوا من مصير النار، ويتحولوا إلى الإيمان.
وهنا يقول الحق سبحانه :﴿ والذين كسبوا السيئات.. ( ٢٧ ) ﴾[ يونس ] : ونحن نعلم أن الكسب إنما يكون في الأمر الفطري ويناسب الطاعات ؛ لأن الطاعة أمر يناسب وملائم للفطرة، فلا أحد يستحي أن يصلي، أو يتصدق، أو يصوم، أو يحج، لكن من الناس من يستحي أن يعرف عنه أنه كاذب، أو مراب، أو شارب خمر.
والإنسان حين يرتكب السيئة يمر بتفاعلات متضاربة ؛ فالذي يسرق من دولاب والده وهو نائم، تجده يتسلل على أطراف أصابعه ويكون حذرا من أن يرتطم بشيء يفضح أمره، كذلك الذي ينظر إلى محارم غيره.
كل هذا يدل على أن ارتكاب الشيء المخالف فيه افتعال، أي : يحتاج إلى اكتساب، ولكن الكارثة أن يستمر الإنسان في ارتكاب المعاصي حتى تصير دربة، ويسهل اعتياده عليها ؛ فيمارس المعصية باحتراف ؛ فتتحول من اكتساب على كسب.
أو أن يصل الفاسق من هؤلاء إلى مرتبة من الاستقرار على الانحلال ؛ فيروي ما يفعله من معاص وآثام بفخر، كأن يقول :" لقد سهرنا بالأمس سهرة تخلب العقل، وفعلنا كذا وكذا "، ويروي ذلك، وكأنه قد كسب تلك السهرة بما فيها من معاص وآثام.
ومن رحمة الله سبحانه بالخلق أنه يجازي مرتكب السيئة بسيئة مثلها، فيقول سبحانه :﴿ جزاء سيئة بمثلها ﴾، وتتجلى أيضا رحمة الحق سبحانه وتعالى حين يعطي من لا يرتكب السيئة مرتبة ؛ فيصير ضمن من قال عنهم الحق سبحانه :﴿ لا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة ﴾ لكن الذين لم يهتدوا منهم من يقول الحق سبحانه عنهم :﴿ ما لهم من الله من عاصم ﴾أي : لن يجيرهم أحد عند الله تعالى، ولن يقول أحد لله سبحانه : لا تعذبهم. أو أن ( لا عاصم لهم ) بمعنى : أن الله تعالى لن يأمر بعد ذلك بألا يعذبوا.
ولا يقتصر أمرهم على ذلك فقط، بل يقول الحق سبحانه :﴿ كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما ﴾أي : كأن قطعا من الليل المظلم قد غطت وجوههم، ويكون مأواهم النار﴿ أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ﴾.
هذا هو حال الذين كذبوا بآيات الله تعالى وكذبوا الرسل، وتأبوا عن دعوة الله سبحانه وتعالى إلى دار السلام واتبعوا أهواءهم واتخذوا شركاء من دون الله تعالى.
وشاء الحق سبحانه أن يجلي لنا ذلك كله في الدنيا ؛ حتى يكون الكون كله على بصيرة بما يحدث له في الآخرة ؛ لأنه نتيجة حتمية لما حدث من هؤلاء في الدنيا.
١ المقابلة نوع من أنواع المطابقة أو الطباق، ويقصد بها الجمع بين متضادين في الجملة، فالمقابلة هي أن يذكر لفظان فأكثر، ثم أضدادهما على الترتيب. ومن أمثلتها أيضا قوله تعالى:﴿يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث(١٥٧)﴾[الأعراف]. انظر: الإتقان في علوم القرآن للسيوطي (٣/٢٨٤-٢٨٧)..
يقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم إياها تعبدون( ٢٨ ) ﴾ :
والحشر : هو أخذ الناس من أمكنة متعددة على مكان واحد، وستقذف هذه الأمكنة المتعددة من فيها من الكفرة ؛ ليصيروا في مكان الذي شاءه الله سبحانه لهم.
وكلما اقترب الناس من هذا المكان ؛ ازدحموا، وذلك شأن الدائرة بمحيطها، والمحيطات الداخلة فيها على أن تلتقي في المركز، فأنت إذا نظرت إلى محيط واسع في دائرة، وأخذت بعد ذلك الأفراد من هذا المحيط الواسع ؛ لتلقي بهم في المركز ؛ فلا شك أنك كلما اقتربت من المركز ؛ فالدوائر تضيقن ويحدث الحشر.
فكأننا سنكون مزدحمين ازدحاما شديدا، ولهذا الازدحام متاعب، ولكن الناس سيكونون في شغل عنه بما هم فيه من أهوال يوم القيامة( ١ ).
وقوله الحق :﴿ ويوم نحشرهم جميعا ﴾ تفيد الجمع المؤكد لحالات الذين لم يستجيبوا لمنهج الله تعالى، ولا لدعوة الله سبحانه لهم لدار السلام، وكذبوا رسلهم، واتخذوا من دون الله تعالى أندادا، فيجمع الله سبحانه المتخذ أندادا( ٢ )، والمتخذ ندا، ويواجههم ؛ لتكون الفضيحة تامة وعامة، بين عابد عبد باطلا، ومعبود لم يطلب من عابده أن يعبده، أو معبود طلب من عابده أن يعبده.
لذلك يقول الحق سبحانه :﴿ ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم.. ( ٢٨ ) ﴾[ يونس ] : وهكذا يتلاقى من عبد الملائكة مع الملائكة، ويتلاقى من عبد رسولا وجعله إلها، ومن عبد صنما، أو عبد شمسا، أو عبد قمرا، أو جنا أو شيطانا من شياطين الإنس أو شياطين الجن.
إذن : فالمعبودون متعددون، وكل معبود من هؤلاء له حكم في ذلك الحشر، وستكون المواجهة علنية مكشوفة.
فإذا نظرنا إلى العابد الذي اتخذ إلها باطلا سواء أكان من الملائكة أو رسولا أرسل إليهم ؛ ليأخذهم إلى عبادة إله واحد- هو الله سبحانه وتعالى- ففتنوا في الرسول وعبدوه، أو عبدوا أشياء لا علم لها بمن يعبدها : كالأصنام، والشمس، والقمر، والأشجار.
أما المعبود الذي له علم، وله دعوة على أن يعبده غيره، فهو يتركز في شياطين الإنس، وشياطين الجن، وإبليس.
أما الملائكة فإن الله-سبحانه وتعالى- يواجههم بمن عبدهم، فيسألهم : أأنتم وعدتم هؤلاء ؛ ليتخذوكم آلهة، فيقولون : سبحانك أنت ولينا، ويتبرأون من هؤلاء الناس، مصدقا لقول الحق سبحانه :﴿ إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا.. ( ١٦٦ ) ﴾[ البقرة ].
والملائكة لا علم لهم بمن اتخذهم آلهة، وإذا انتقلنا إلى البشر وعلى قمتهم الرسل عليهم السلام، فيأتي سيدنا عيسى ابن مريم عليه السلام، ويقول الحق سبحانه له :﴿ أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله.. ( ١١٦ ) ﴾[ المائدة ].
فيقول سيدنا عيسى عليه السلام ما جاء على لسانه في القرآن الكريم :﴿ سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته.. ( ١١٦ ) ﴾[ المائدة ] :
فكان هؤلاء قد عبدوا من لا علم له بهذا التأليه، ولم يدع إليه.
والأصنام كذلك ليس لها علم بمن ادعى ألوهيتها، ولكن الذي له علم بتلك الدعوة هو إبليس، ذلك أنه حينما عز عليه أنه عاص لله، أغوى آدم، ثم تاب آدم عليه السلام وقبل الله سبحانه وتعالى توبته، أما إبليس فلم يتب عليه الحق سبحانه ؛ لأنه رد حكم المولى-عز وجل- بالسجود لآدم، واستكبر، وظن نفسه أعلى مكانة( ٣ ). أما آدم عليه السلام فلم يرد الحكم على الله تعالى.
يقول الحق سبحانه :﴿ ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين( ١١ ) قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين( ١٢ ) ﴾[ الأعراف ] : ومن ذلك نأخذ مبدأ إيمانيا موجزه أن الذين لا يقدرون على أنفسهم في إخضاعها لمنهج الله تعالى، فمن الخير لهم أن يقولوا : إن منهج الله سبحانه هو الصدق، وحكمه سبحانه هو الحق، ولكننا لم نستطع أن نخضع أنفسنا للحكم ؛ وبذلك يخرجون من دائرة رد الأمر على الآمر، وبإمكانهم أن يتوبوا بنية عدم العودة إلى المعصية.
إذن : فالمخاصمة والمحاجة( ٤ ) موجهة من إبليس لذرية آدم، فقد أقسم إبليس بعزة الله سبحانه أن يغوي كل أبناء آدم إلا الذين أستخلصهم الله لعبادته سبحانه وتعالى، فقد علم إبليس أنه غير قادر على إغوائهم( ٥ ).
وهكذا تكون عزة الله سبحانه هي التي تمكن إبليس-وذريته من الشياطين- من غواية أو عدم غواية خلق الله سبحانه وتعالى.
والشياطين هم الجن العصاة ؛ لأننا نعلم أن الجن جنس يقابل جنس البشر، ومن الجن من هو صالح طائع، ومنهم من هو عاص، ويسمى شيطانا، ويخدم إبليس في إغواء البشر، فيتسلط على الإنسان فيما يعلم أنها نقطة ضعف فيه.
فمن يحب المال يدخل الشيطان إليه من ناحية المال، ومن يحب الجمال يدخل له الشيطان من ناحية الجمال، ومن يحب الجاه يجد الشيطان وهو يزين له الوصول على الجاه بأية وسيلة تتنافى مع الأخلاق الكريمة ومنهج الله عز وجل.
وكل إنسان له نقطة ضعف في حياته يعرفها الشيطان ويتسلل منها إليه، وقد يجند إبليس وذريته أناسا من البشر يعملون بهدف إغواء الإنسان ففساده.
فهناك-إذن- ثلاثة يطلبون أن ينصرف الناس عن منهج الله تعالى ودعوة الحق ؛ وهؤلاء الثلاثة هم : إبليس، والعاصون من الجن( أي : الشياطين )، ثم البشر الذين يشاركون إبليس في الإغواء، وهم شياطين الإنس الذين يعملون أعمالا تناهض منهج الرسل.
وهل يكون الحوار-يوم القيامة- بين الملائكة ومن عبدوهم من البشر ؟ وهل يكون الحوار بين الأصنام والذين عبدوها دون علمها ؟ وهل يكون الحوار بين عيسى عليه السلام ومن اتخذوه إلها دون علمه ؟ ها نحن نجد عارفا بالله يقول على لسان الأصنام : " عبدونا ونحن أعبد لله من القائمين بالأسحار( ٦ ) " : لأن الحق سبحانه هو القائل :﴿ وإن من شيء إلا يسبح بحمده.. ( ٤٤ ) ﴾[ الإسراء ]، ويكمل العارف بالله :" اتخذوا صمتنا علينا دليلا فغدونا لهم وقود النار "، والحق سبحانه هو القائل :﴿ فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة.. ( ٢٤ ) ﴾[ البقرة ]، ويتابع العارف بالله :" قد تجنوا جهلا كما تجنوا على ابن مريم والحواري( ٧ ) " فما موقف الله سبحانه من هؤلاء وأولئك ؟ فنقول : إن للمغالي جزاءه، والمغالى فيه تنجيه رحمة الغفار ".
وهكذا وضح موقف كل من يعبد غير الله سبحانه أو يشرك به، هؤلاء الذين يشملهم قول الحق سبحانه :﴿ ويوم نحشرهم جميعا.. ( ٢٨ ) ﴾( ٨ ) [ يونس ] : وهكذا يحشر من عبدوا الأصنام أو الكواكب أو أشركوا بالله، وكذلك شياطين الجن والإنس، الجميع سيحشرون في الموقف يوم الحشر، وليتذكر الجميع في الدنيا أن في الحشر ستكشف الأمور ويفضح فيه كل إنسان أشرك مع الله غيره، سبحانه، وستحدث المواجهة مع من أشركه بالعبادة مع الله سبحانه دون علم من الملائكة أو الرسل أو الكواكب أو الحجارة بأمر هؤلاء، ويأتيهم جميعا أمر الحق سبحانه :﴿ ثم نقول للذين أشركوا مكانكم.. ( ٢٨ ) ﴾[ يونس ] : وحين تسمع الأمر :" مكانك " فهو يعني :" ألزم مكانك " وهي لا تقال للتحية، بل تحمل التهديد والوعيد، وانتظار نتيجة موقف لن يكون في صالح من تقال له، ونعرف أن الملائكة، والرسل، والكواكب، والحجارة ليس لها علم بأمر هؤلاء الذين عبدوهم.
إذن : فالذين ينطبق عليهم هذا الأمر هم هؤلاء المشركون الذين ظنوا أن بإمكانهم الإفلات من الحساب، لكنهم يسمعون الأمر﴿ مكانكم أنتم وشركاؤكم ﴾، فهل يعني ذلك أنهم سوف يأتون مع الملائكة ومن عبد من الرسل والكواكب والحجارة في موكب واحد ؟ لا ؛ لأن هؤلاء العبيد اتفقوا على موقف باطل، يشاء الحق سبحانه أن يفصل بين الحق والباطل.
لذلك يقول الحق سبحانه :﴿ فزيلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم إينا تعبدون( ٢٨ ) ﴾( ٩ ) [ يونس ] : أي : جعل من المشركين فريقا، وجعل من الذين عبدوا دون علمهم فريقا آخر، وأعلن فريق من عبدوا دون علمهم :﴿ ما كنتم إيانا تعبدون.. ( ٢٨ ) ﴾[ يونس ] :
أي : ما كنتم تعبدوننا بعلمنا.
وانظروا إلى الموقف المخزي لمن عبدوا غير الله سبحانه، أو أشركوا به، إن الواحد منهم قد عبد معبودا دون أن يدري به المعبود، مع الأصل في العبادة هو التزام العابد بأمر المعبود، وهذه المسألة تصدق على الملائكة وسيدنا عيسى عليه السلام، وتصدق أيضا على الكواكب والأحجار ؛ لأن الحق سبحانه الذي ينطق أبعاض الإنسان يوم القيامة ؛ لتشهد على صاحبها، قادر على أن ينطق الأحجار.
والحق سبحانه هو القائل :﴿ ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون( ١٩ ) حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون( ٢٠ ) وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء.. ( ٢١ ) ﴾[ فصلت ] : وجد الصنم يوم القيامة وهو يلعن من عبده، تماما مثلما يتبرأ الجلد من صاحبه إن عصى الله تعالى، فالحق سبحانه يقول :﴿ يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون( ٢٤ ) ﴾[ النور ].
ولكن لا تترك عقلك يتخيل كيفية تكلم الصنم، فأنت آمنت أن جوارح الإنسان من يد ورجل وجلد ستنطق يوم القيامة، فهل تعقلت كيف تنطق اليد، وكيف ينطق الجلد، وكيف تنطق الرجل في الآخرة، أنت تؤمن بخبر الآخرة فلا تنظر إلى معطيات أمور الآخرة بقوانين الدنيا ؛ لأن كل شيء يتبدل في الآخرة، ألم تخبرك ألسنة أنك ستأكل في الجنة، ولا تخرج فضلات( ١٠ ) ؟ وهذا أمر غير منطقي- بقوانين الدنيا- ولكننا نؤمن به، وإذا كان الحق سبحانه وتعالى يخبرنا بأشياء سوف تحدث في الجنة، لو قسناها بعقولنا على ما نعرف في الدنيا لوقفت أمامها عاجزة، لكن القلب المؤمن يعقل أمور القيامة والآخرة على أساس أنها غيب، والمقاييس تختلف فيها ؛ لأن الإنسان مظروف( ١١ ) بين السماء و الأرض. وللدنيا أرض وسماء، وللآخرة أيضا أرض وسماء ؟
والحق سبحانه يقول :﴿ يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات.. ( ٤٨ ) ﴾[ إبراهيم ].
إذن : فكل شيء يتبدل يوم القيامة، فإذا حدثت أن الأصنام تنطق مستنكرة أن تعبد من دون الله تعالى، وأن الملائكة تلعن من عبدوها من دون الله سبحانه، فلا تتعجب.
١ عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا" قلت: يا رسول الله، النساء والرجال جميعا ينظر بعضهم على بعض. قال صلى الله عليه وسلم:" يا عائشة الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض". أخرجه مسلم في صحيحه (٢٨٥٩) والبخاري (٦٥٢٧) فهول يوم القيامة هول شديد، حتى إن الناس يتمنون أن ينتهي يوم الحساب حتى ولو كان مصيرهم إلى النار..
٢ الند: المثل والنظير، والجمع أنداد. قال تعالى:﴿وجعلوا لله أندادا..(٣٠)﴾[إبراهيم] أي: أضدادا وأشباها. وقال تعالى:﴿ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله(١٦٥)﴾[البقرة][اللسان: مادة (ندد)]..
٣ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد؛ اعتزل الشيطان يبكي يقول: يا ويله، أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت فإلى النار"
أخرجه مسلم في صحيحه(٨١)..

٤ الند: المحاجة: المغالبة والجدال. والحجة: الدليل والبرهان. وحجه وحاجه: غلبه على حجته. قال تعالى:﴿فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله..(٢٠)﴾[آل عمران] قال الأزهري: إنما سميت الحجة حجة؛ لأنها تحج، أي: تقصد لأن القصد لها وإليها؛ وكذلك محجة الطريق هي المقصد والمسلك [اللسان: مادة (حجج)]..
٥ قال سبحانه عن إبليس:﴿قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين(٨٢)إلا عبادك منهم المخلصين(٨٣)﴾[ص]، وهؤلاء المخلصون هم عباد الرحمن الذين ذكر الله أوصافهم في سورة الفرقان آيات (٦٣-٧٤)، وعن أبي سعيد الخدري في حديث أن إبليس قال:"يا رب وعزتك وجلالك لا أزال أغويهم ما دامت أرواحهم في أجسامهم. فقال الله تعالى: وعزتي وجلالي ولا أزال أغفر لهم ما استغفروني" أخرجه احمد في مسنده(٣/٢٩) والحاكم في مستدركه(٤/٢٦١) وصححه وأقره الذهبي..
٦ الأسحار: جمع السحر وهو آخر الليل قبيل الصبح. لسان العرب (مادة سحر). والقائمون بالأسحار هم المتعبدون المتهجدون بالليل..
٧ أي: الحواريون وهم أصحاب عيسى عليه السلام وأنصاره، الذين خلصوا من كل عيب، كالدقيق الأبيض الذي ينقى من اللباب.(اللسان: مادة حور)..
٨ نحشرهم: نجمعهم للحساب. ومنه يوم المحشر. والحشر: جمع الناس يوم القيامة. قال تعالى:﴿واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون..(٢٠٣)﴾[البقرة]..
٩ الند: زيلنا بينهم: فرقنا بينهم. والتزايل: التباين. قال تعالى:﴿لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما(٢٥)﴾[اللسان: مادة (زىل)]..
١٠ عن جابر بن عبد الله قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:" إن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون ولا يتفلون ولا يبولون ولا يتغوطون ولا يتمخطون. قالوا: فما بال الطعام؟ قال: جشاء أو رشح كرشح المسك، يلهمون التسبيح والتحميد". أخرجه مسلم في صحيحه (٢٨٣٥)، وأحمد في مسنده(٣/٣٦٤).
.

١١ أي: الإنسان محل لظروف الزمان والمكان، بين أرض الدنيا وسمائها وأرض الآخرة وسمائها، تختلف بينهما قوانين الحياة في كل منهما..
ثم يقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين( ٢٩ ) ﴾ :
إذن : فالكائنات التي عبدت من دون الله تعالى تعلن رفضها لمسألة عبادتها، فإذا كان الطير-ممثلا في الهدهد- قد أعلن من قبل اندهاشه من أن بعضا من البشر قد عبد غير الله تعالى( ١ ).
واستدل الهدهد- على قدرة الحق سبحانه- بما يخصه هو من الرزق، حيث يعلم أن الحق سبحانه قد علم الخبء في السماوات والأرض، إذا كان الهدهد قد عرف ذلك فالاستنكار أمر منطقي من غيره من المخلوقات، سواء أكانت من الملائكة، أو من عيسى عليه السلام، أو من الأصنام والشجار والكواكب.
ولذلك نجد الحق سبحانه يضرب المثال بسؤاله للملائكة :﴿ أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون.. ( ٤٠ ) ﴾ ]سبأ ]، فيجيب الملائكة بقولهم :﴿ سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن.. ( ٤١ ) ﴾[ سبأ ]، والحق سبحانه وتعالى يعرض هذه المواقف في سور القرآن الكريم عرضا منثورا( ٢ ) مكررا بما لا يدع للغفلة أن تصيب الإنسان، فمثلا يقول الحق سبحانه :﴿ ويوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم( ٣ ) من الإنس.. ( ١٢٨ ) ﴾[ الأنعام ]، ويقول على ألسنة من اتخذوا الشياطين أولياء :
﴿ وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا.. ( ١٢٨ ) ﴾[ الأنعام ] : وقولهم هذا يتضمن الحديث عن ذواتهم والحديث عن الجن.
ولسائل أن يسأل : وكيف يأخذ الجن كثيرا من الإنس ؟
ونقول : إن الحق سبحانه قد خلق الجن على هيئة تختلف عن هيئة الإنس، فجعل للجن خواصا تختلف عن خواص الإنس، ومن هذه الخواص ما قال عنه الحق سبحانه :﴿ إنه يراكم هو وقبيله( ٤ ) من حيث لا ترونهم.. ( ٢٧ ) ﴾[ الأعراف ] : وأعطى الحق سبحانه للجن قوة أكثر مما أعطى للأنس، وأعطاهم القدرة على النفاذ من السواتر الحديدية والجدران وغيرها، وهذا أمر منطقي مع أصل تكوين الجن، فالجن مخلوق من النار، والإنسان مخلوق من الطين. وهناك اختلاف بين طبيعة كل من النار والطين، فما يخرج من الطين قار( ٥ )، أي : لا يشع، وما يخرج من النار له إشعاع وحرارة.
بمعنى : أنك لو كنت تجلس في حجرة، وخلف ظهرك في الحجرة الأخرى نار موقدة ؛ فالساتر-أيا كان- سوف يحمل لك بعضا من حرارة النار، إلا لو كان عازلا للحرارة.
أما لو كانت هناك تفاحة-وهي مخلوقة من الطين-موجودة في الحجرة الأخرى، فلن ينفذ طعمها أو رائحتها إليك.
إذن : فالنار لها قانونها، والطين له قانونه. وقانون المادة المخلوقة من الطين لا ينتقل إلا إذا نقلت الجرم( ٦ ) إلى المكان الذي توجد فيه.
ونلمح هذه المسألة التقنينية في قصة سيدنا سليمان عليه السلام حين علم أن ملكة سبأ تسير في الطريق إليه لتعلن إسلامها، وأراد سيدنا سليمان عليه السلام أن يأتي لها بعرشها من مكانه قبل أن تصل.
فقال لمن هو في مجلسه :﴿ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين.. ( ٣٨ ) ﴾[ النمل ].
وهذا يدل على أنه كان في مجلسه أجناس مختلفة، ولكل جنس منهم قدرات مختلفة عن قدرات الجنس الآخر، ونقل العرش من اليمن إلى مكان سيدنا سليمان عليه السلام يحتاج إلى زمن وإلى قوة، فلو أنهم كانوا متساوين في قدراتهم ما قال :﴿ أيكم يأتيني.. ( ٣٨ ) ﴾[ النمل ].
فكان أول من تقدم لتنفيذ ما أراده سليمان عفريت من الجن- لا جنا عاديا، فمن الجن من هو خائب قليل الذكاء، ومنهم من هو ذكي، فهم وإن كانوا من جنس واحد فهم متفاوتون أيضا، وكان عفريت الجن هو أول من تكلم، وقال ﴿ أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك.. ( ٣٩ ) ﴾[ النمل ]، ولكن مقام سليمان قد يستمر ساعة أو بضع ساعات( ٧ )، والمتكلم هو عفريت من الجن الذي يعلم أن له صفات أقوى من صفات الإنس. أما الإنس العادي-ممن كان حاضرا مجلس سليمان-فلم يتكلم ؛ لأن المطلوب ليس في قدرته، أما الذي تكلم من الإنس فهو من عنده علم من الكتاب، فقال :﴿ أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك( ٨ ).. ( ٤٠ ){ [ النمل ]، ولم يأخذ الأمر شيئا من الزمن ؛ لذلك عبر القرآن التعبير السريع بعد ذلك، فقال :{ فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي.. ( ٤٠ ) ﴾[ النمل ] : إذن : فللجن قوة على أشياء لا يقوى عليها الإنس( ٩ )، ولم يأخذ الجني خواصه في الخفة والقدرة ومهارة اختزال الزمن بذات تكوينه، ولكن بإرادة المكون سبحانه ؛ ولذلك شاء الحق أن يذكر الجن أنهم قد أخذوا تلك الخصوصيات بمشيئته سبحانه، والحق هو القادر على أن يجعل الإنس وهو الأدنى قدرة، قادرا على تسخير الجن ؛ ولذلك يحاول الإنس أن يأخذ من تسخير الجن قوة له فيقوى على نظيره من الإنس.
ولكن الحق سبحانه أصدر الحكم على من يحاول ذلك بأن تسخير الجن يزيد رهقا( ١٠ ). واقرأوا قول الحق سبحانه :﴿ واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وما روت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر.. ( ١٠٢ ) ﴾[ البقرة ] : إذن : فتعليم الجن السحر للإنس دليل على تفوق قدرات الجن وتميزها عن قدرات الإنس.
ولكن الملكين هاروت وماروت( ١١ ) حينما علما الإنسان السحر حذراه أولا من أن يأخذ من ذلك فرصة زائدة تطغيه على بني جنسه ويظلم بها، إنما الأمر كله اختبار، فإن تعلمته فذلك لتقي نفسك من الشر لا لتوقعه بغيرك، ثم إنك-أيها الإنسان- من الأغيار قد تضمن نفسك وقت التحمل، ولكن ماذا عن وقت الأداء ؟
مثلما يأتي لك إنسان ليودع عندك ألفا من الجنيهات كأمانة، ولكن أتظل على الأمانة، أو أنك قد تنكر المال أصلا حين يطالبك به صاحبه، أو قد تمر بك أزمة مالية فتتصرف بهذا المال ؟
ولذلك تجد الذكي هو من يقول لمودع هذا المال :" احفظ عليك مالك، لأني من الأغيار ".
وتلك هي القضية الإيمانية الأصلية في الكون كله ؛ لأن الحق سبحانه هو القائل :
﴿ إنا عرضنا الأمانة( ١٢ ) على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا( ٧٢ ) ﴾[ الأحزاب ] : والأمانة هي ما يكون في ذمة المؤتمن، ولا حجة للمؤتمن عنده إلا ذمته، ولا شهود عليه، ولا يوجد إيصال بتلك الأمانة، بل هي وديعة لا توثيق فيها ؛ إلا ذمة المؤتمن، قد يقر بها، وقد ينكرها.
وعلى ذلك فحق المؤتمن عند المؤتمن خاضع لخيار المؤتمن ؛ ولذلك وجدنا السماء والأرض والجبال قالت : يا رب لا نريد أن ندخل أنفسنا في هذه التجربة، افعل بنا ما شئت واجعلنا مقهورين ولا اختيار لنا، ولا نريد تحمل الأمانة.
أما الإنسان فقد ميزه الله بالعقل، وقدرة الاختيار بين البدائل ؛ لذلك قبل الإنسان حمل الأمانة، وحين جاء وقت الأداء لم يجد نفسه أمينا على الأشياء مثلما ظن في نفسه وقت التحمل.
وكذلك الذين يتعلمون السحر، يقول الواحد منهم لنفسه : سوف أتعلمه لدفع الضر عن نفسي، ونقول له : أنت لا تضمن نفسك ؛ لأنك من الأغيار، فقد يغضبك أو يثير أعصابك إنسان ؛ فتستخدم السحر فتصيب نفسك بالرهق.
إذن : فحين قال الله سبحانه :﴿ يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس.. ( ١٢٨ ) ﴾[ الأنعام ] : أي : أخذتم من الإنس كثيرا بأن أعطيتموهم سلاحا يحقق لهم فرصة وقوة على غيرهم من البشر.
وقد ذكر الحق-سبحانه وتعالى- لنا أن بعض البشر الذين استجابوا للجن قالوا :﴿ استمتع بعضنا ببعض.. ( ١٢٨ ) ﴾[ الأنعام ] : واستمتاع الإنس بالجن مصدره أن الإنس يأخذ قوة فوق غيره من البشر، واستمتاع الجن بالإنس مصدره أنه سوف يعين هذا الإنسان على معصيته ؛ تطبيقا لقسم إبليس اللعين :﴿ فبعزتك لأغوينهم( ١٣ ) أجمعين.. ( ٨٢ ) ﴾[ ص ] : ولكن هذا الاستمتاع في النهاية لا يعطي أمرا زائدا عن المقدور لكل جنس ؛ ولذلك تجد أن كل من يعمل بالسحر وتسخير الجن إنما يعاني ؛ مصدقا لقول الحق سبحانه :﴿ فزادوهم رهقا.. ( ٦ ) ﴾[ الجن ].
وأنت تجد رزق الذي يقوم بالسحر أو تسخير الجن يأتي من يد من لا يعلم السحر، ولو كان في تعلم ذلك ميزة فوق البشر ؛ لجعل رزقه من مصدر آخر غير من لا يعلمون السحر أو تسخير الجن.
وأنت حين ترى الواحد من هؤلاء، تجد على ملامحه غبرة، وفي ذريته آفة أو عيبا، فمنهم من هو أعور أو أكتع( ١٤ ) أو أعرج ؛ لأنه أراد أن يأخذ فرصة في الحياة أكثر من غيره من البشر ؛ بواسطة الجن، وهذه الفرصة تزيده رهقا ؛ ولذلك فليلزم كل إنسان أدبه وقدره الذي شاءه الله- سبحانه وتعالى- له ؛ فلا يفكر في أخذ فرصة تزيد من رهقه.
ونحن نرى في البشر من يستخدم صاحب القوة الجسدية أو قدرة تصويب السلاح ؛ ليرهب غيره، وقد ينجح في ذلك مرة أو أكثر، ثم ينقلب هذا ( الفتوة ) أو ذلك القاتل المأجور على من استأجره.
إذن : فلا بد أن يحترم كل إنسان قدر الله-سبحانه وتعالى- في نفسه، وألا يأخذ فرصة من جنس آخر ؛ يظن أنها تزيده في دنياه شيئا، لكنها في الواقع ستزيده تعبا وتزيده رهقا. ولذلك نجد الحق- سبحانه وتعالى- يقول عنهم :﴿ ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا قال النار مثواكم( ١٥ ).. ( ١٢٨ ) ﴾[ الأنعام ] : وهكذا نرى أن مصير الاستمتاع بقوة الجن هو النار للإنس الذي استخدم الجن، وللجن الذي أغوى الإنس.
ثم يعرض لنا الحق-سبحانه وتعالى-قضية أخرى في هذه المسألة ؛ فيقول سبحانه :﴿ الأخلاء( ١٦ ) يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين( ٦٧ ) ﴾[ الزخرف ].
الأخلاء : هم الجماعة التي يجمع أفرادها صحبة ومودة، ويتخلل كل منهم حياة الآخر. وأنت تجد الناس صنفين : أناسا اتخذوا الخلة( ١٧ ) في الله تعالى، فيذهبون إلى المساجد، ويستذكرون العلم، ولا يأكلون إلا من حلال، ويقرأون القرآن، وإن هم واحد منهم بمعصية وجد من صديقه ما يرده عن المعصية، ويحجون إلى بيت الله الحرام، ويعتمرون، وتدور حياتهم في إطار حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم : رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه " ( ١٨ ) وهذا لون من الخلة.
واللون الآخر يضم أناسا يساعد بعضهم البعض على المعصية، ويشربون الخمر، ويلعبون الميسر، ويفعلون كل المعاصي، فإذا جاء يوم القيامة يقابلون حكم الله تعالى :﴿ لا بيع فيه ولا خلة.. ( ٢٥٤ ) ﴾[ البقرة ] : فلا خلة إلا خلة اللقاء في الله تعالى، فإذا التقى الأخلاء في الله تعالى فرحوا ببعضهم ؛ لأن كلا منهم حمى أخاه من معصية، أما من كانوا يجتمعون في الدنيا على المعصية، فكل منهم يلعن الآخر، ويصدق حكم الله سبحانه وتعالى :﴿ الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين( ٦٧ ) ﴾[ الزخرف ] : ولذلك نجد الحوار بين الذين استضعفوا والذين استكبروا، ونجد الحق سبحانه وتعالى يأتي لنا بهذا الحوار في القرآن :﴿ فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء.. ( ٢١ ) ﴾[ إبراهيم ]، فيرد الآخرون :﴿ لو هدانا الله لهديناكم سواء علينا أجزعنا( ١٩ ) أم صبرنا ما لنا من محيص( ٢٠ ).. ( ٢١ ) ﴾ ]إبراهيم ] : وبعد ذلك يأتي اعتراف الشيطان الذي يقول عنه الحق سبحانه :﴿ وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان( ٢١ ) إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي( ٢٢ ).. ( ٢٢ ) ﴾[ إبراهيم ] : وهذا الحوار هو الذي يكشف لنا ما سوف يحدث يوم القيامة
١ وذلك في قصة الهدهد مع سليمان:﴿إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم(٢٣)وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون(٢٤)﴾[النمل]..
٢ المنثور: الشيء يلقى متفرقا هنا وهناك كالحب وغيره.[اللسان: مادة نثر]..
٣ أي: أضللتم منهم كثيرا وأكثرهم من إغوائهم وإضلالهم..
٤ القبيل: الجماعة من الناس يكونون من الثلاثة فصاعدا من قوم شتى، كالعرب، والروم، والزيج، وقد يكونون من نحو واحد، وربما كان القبيل من أب واحد كالقبيلة. وكل جيل من الجن والناس قبيل. قال تعالى:﴿أو تأتي بالله والملائكة قبيلا(٩٢)﴾[الإسراء].[اللسان: مادة (قبل)]..
٥ قار: أي: مستقر في مكانه لا ينتقل منه شيء إلا إذا نقلته أنت. يقال: فلان قار، أي: ساكن ثابت (اللسان: مادة قرر)..
٦ الجرم: الجسم. والجمع (الأجرام)..
٧ كان سليمان عليه السلام يجلس للقضاء بين الناس في مظالمهم من أول النهار إلى أن تزول الشمس..
٨ الطرف: طرف العين، وهو أيضا لإطباق الجفن على الجفن.(اللسان: مادة طرف)..
٩ يقول الإمام: إن للجن قوة بحسب تكوينه الناري تفوق قوة الإنسان، ثم يفيض علينا أن الإنسان بمنهج الله له قوة مددية من الله إذا عايش المنهج، وفهم أسرار الكتاب، يتجلى ذلك في أن الشيطان قال لسليمان:﴿قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين(٣٩) قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم(٤٠)﴾[النمل] إذن: الواصل بالله أقوى من الكل، هذا من حيث العطاء الإلهي؟، أما من حيث التكوين فالإنسان من طين، والطين ليس كالنار..
١٠ وذلك في قوله تعالى:﴿وانه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا(٦)﴾[الجن]أي: ذلة وضعفا. قال السدي: كان الرجل يخرج بأهله فيأتي الأرض فينزلها فيقول: أعوذ بسيد هذا الوادي من الجن أن أضر أنا فيه أو مالي أو ولدي أو ماشيتي. ذكره ابن كثير في تفسيره(٤/٤٢٨)..
١١ هاروت وماروت ملكان من السماء، أنزلا على الأرض، وقيل إنهما لم تعجبهما أحكام بني آدم في العباد. فأهبطا ليحكما بين الناس، وكانا يعلمان الناس السحر، فأخذ عليهما أن لا يعلمان أحدا حتى يقولا: إنما نحن فتنة فلا تكفر..
١٢ اختلف العلماء في تفسير الأمانة في الآية، ولكن أجمع قول فيها أنها الطاعة بالاختيار، قال ابن عباس: هي الطاعة عرضها عليهم قبل أن يعرضها على آدم فلم يطقنها، فقال لآدم: إني قد عرضت الأمانة على السماوات والأرض والجبال فلم يطقنها فهل أنت آخذ بما فيها؟ قال: يا رب وما فيها؟ قال: إن أحسنت جزيت، وإن أسأت عوقبت. فأخذها آدم فتحملها. انظر ابن كثير في تفسيره (٣/٥٢٢)..
١٣ الإغواء: الإضلال. قال تعالى:﴿فأغويناكم إنا كنا غاوين(٣٢)﴾[الصافات].[اللسان: مادة (غوى)]..
١٤ الأكتع: من رجعت أصابعه إلى كفه، وظهرت مفاصل أصول أصابعه. و"أكتع" يجيء في التوكيد إتباعا، فيقال: جاء الجيش أجمع أكتع.[المعجم الوسيط: مادة (كتع)]..
١٥ المثوى: مكان الإقامة والاستقرار. والجمع: المثاوى. قال تعالى:﴿ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين(١٥١)[آل عمران][اللسان: مادة (ثوى)]..
١٦ الأخلاء: جمع (خليل) وهو الصديق. قال تعالى:{واتخذ الله إبراهيم خليلا..(١٢٥)﴾[النساء]وقال تعالى-حكاية عن الكافرين يوم القيامة:﴿يا ويلتي ليتني لم أتخذ فلانا خليلا(٢٨)﴾[الفرقان].[اللسان: مادة(خ ل ل)..

١٧ الخلة: الصداقة والمحبة. والخل: الود والصديق.[اللسان: مادة (خ ل ل)]..
١٨ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:﴿سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: الإمام العادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه: أخرجه مسلم في صحيحه (١٠٣١) والبخاري في صحيحه(٦٦٠)..
١٩ الجزع: نقيض الصبر. قال تعالى عن الإنسان:{إذا مسه الشر جزوعا(٢٠)﴾[العارج].[اللسان: مادة (جزع)]..

٢٠ محيص: مهرب. قال تعالى:﴿أولئك مأواهم جهنم ولا يجدون عنها محيصا(١٢١)﴾[النساء] [اللسان: مادة (حيص)]..
٢١ السلطان: سلطان القهر في قهرهم على أتباعه. ويطلق السلطان أيضا على الحجة والبرهان. يقول تعالى عن سليمان وهو يهدد الهدهد:﴿لأعذبنه عذابا شديدا أو لذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين(٢١)﴾[النمل]..
٢٢ مصرخكم: مغيثكم. والصريخ: المغيث. وقال تعالى:﴿فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه..(١٨)﴾[القصص]. وقال تعالى:﴿وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون(٤٣)﴾[يس].[اللسان: مادة (صرخ)]..
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ هنالك تبلوا كل نفس ما أسلفت( ١ ) وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون( ٣٠ ) ﴾ :
وقوله الحق سبحانه :﴿ هنالك ﴾ يعني : في هذا الوقت، أو في هذا المكان. والزمان والمكان هما ظرفا الحدث ؛ لأن كل فعل يلزم له زمان ومكان، فإن كان الزمان هو الغالب، فيأتي ظرف الزمان، وإذا كان المكان هو الغالب فيأتي ظرف المكان.
وجاءت ﴿ هنالك ﴾ أيضا في قصة سيدنا زكريا عليه السلام، إذ يقول الحق سبحانه :﴿ هنالك دعا زكريا ربه.. ( ٣٨ ) ﴾[ آل عمران ] : أي : في ذلك الوقت الذي قالت فيه مريم- رضي الله عنها- قولة أدت بها قضية اعتقادية إيمانية لكفيلها، وهو سيدنا زكريا عليه السلام وهو الذي يأتي لها بالطعام، وشاء لها الحق-سبحانه وتعالى- أن تعلمه هي. يقول سبحانه :﴿ كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا.. ( ٣٧ ) ﴾[ آل عمران ] : والرزق ما به انتفع، وكان زكريا-عليه السلام-يكفلها بكل شيء تحتاجه، لكنه فوجئ بوجود رزق لم يأت هو به ؛ بدليل أنه قال :﴿ أنى( ٢ ) لك هذا.. ( ٣٧ ) ﴾[ آل عمران ] : وهذه ملحظية ويقظة الكفيل حين يجد مكفوله يتمتع بما لم يأت به. وهذه هي قضية " من أين لك هذا ؟ "، وهي قضية الكفيل العام للمجتمع حين يرى واحدا يتمتع بما لا تؤهله له حركته في الحياة، وبذلك يكتشف مختلس الانتفاع بما يخص الغير دون أن يعرف كافله، ولو أن كافله أصر على معرفة من أين تأتي مصادر دخله ؛ لحمي المجتمع من الفساد.
وانظر إلى جواب مريم عليها السلام على قول زكريا عليه السلام الذي ذكره رب العزة سبحانه :﴿ أنى لك هذا.. ( ٣٧ ) ﴾[ آل عمران ]، قالت مريم :﴿ هو من عند الله.. ( ٣٧ ) ﴾[ آل عمران ]، ثم تعلل الجواب :﴿ إن الله يرزق من يشاء بغير حساب( ٣ ).. ( ٣٧ ) ﴾[ آل عمران ] : قالت ذلك ؛ لأنه وجد عندها أشياء لا توجد في مثل هذا الوقت من السنة، فعجب سيدنا زكريا عليه السلام-إذن- كان من أمرين اثنين : شيء لم يأت هو به، وشيء مخالف للفترة التي هو فيها، كأن وجد عندها عنب في زمن غير أوانه، أو وجد عندها برتقالا في غير أوانه( ٤ )، وسؤاله كان دليل يقظة الكفيل، وإجابتها كانت قضية إيمانية عقدية ﴿ إن الله يرزق من يشاء بغير حساب.. ( ٣٧ ) ﴾[ آل عمران ] : وما دام ﴿ من عند الله ﴾-سبحانه وتعالى- ما طرح حسابك أنت للأشياء في ضوء هذه القضية.
ولكن هل غفل سيدنا زكريا-عليه السلام- عن قضية الإيمان بأن الله تعالى يرزق من يشاء بغير حساب ؟ فنقول : لا، لم يغفل عنها، ولكنها لم تكن في بؤرة شعوره حينئذ ؛ فجاءت بها قولة السيدة مريم لتذكر بهذه القضية، وهنا تذكر زكريا نفسه، كرجل بلغ من الكبر عتيا( ٥ )، وامرأته عاقر، وما دام الله سبحانه يرزق من يشاء بغير حساب، فليس من الضروري أن يكون شابا أو تكون زوجته صغيرة لينجب، فجاء الحق معبرا عن خاطر زكريا في قوله :﴿ هنالك دعا زكريا ربه.. ( ٣٨ ) ﴾[ آل عمران ] : أي : في هذا الوقت أو ذلك المكان، أو في الاثنين معا زمانا ومكانا، وهنا جاءته الإجابة من ربه سبحانه وتعالى :﴿ قال ربك هو علي هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا.. ( ٩ ) ﴾[ مريم ] : وقد جاء الحق سبحانه بهذه القضية ليمنع أي ظان من أن يسئ الظن بعفة مريم عليها السلام ؛ لأنها في موقف اللجوء فأنطقها الحق بقوله :﴿ يرزق من يشاء بغير حساب.. ( ٣٧ ) ﴾ [ آل عمران :]ومادام الرزق بغير حساب وفي غير وقته وغير مكانه وبلا سبب وبغير علم كافلها، فعند ذلك تحقق اللجوء إلى الله بالقبول الحسن الذي دعت به امرأة عمران :﴿ وإني أعيدها بك وذريتها من الشيطان الرجيم( ٣٦ ) فتقبلها ربها بتقبل حسن( ٦ ) وأنبتها نباتا حسنا وكفلها زكريا.. ( ٣٧ ) ﴾[ آل عمران ].
ويطبقها زكريا عليه السلام على نفسه، ثم تتعرض هي لها، حين يبشرها الحق سبحانه بغلام اسمه المسيح عيسى ابن مريم- عليهما السلام.
فهي ستلد من غير أن يمسسها ذكر، وهي تعلم أن الأسباب جارية في أنه لا يوجد تناسل ألا بوجود ذكر وأنثى وشاء الحق سبحانه أن يقدر لها أن تلد دون هذه العملية، فجاء سبحانه بتلك المقدمة على لسانها﴿ إن الله يرزق من يشاء بغير حساب.. ( ٣٧ ) ﴾[ آل عمران ].
وحين تساءلت :﴿ رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر.. ( ٤٧ ) ﴾[ آل عمران ]، جاءتها الإجابة بأن اسمه المسيح عيسى ابن مريم، يقول سبحانه :﴿ إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم.. ( ٤٥ ) ﴾[ أل عمران ] : فبيقظتها الإيمانية فطنت إلى هذا الطفل سينسب إلى أمه ؛ فعرفت أن أباه ملغى ؛ وأدركت أن هذا الولد لن يأتي نتيجة زواج ولو فيما بعد، وبذلك كان عليها أن تعود إلى القضية الإيمانية التي ذكرتها :﴿ إن الله يرزق من يشاء بغير حساب( ٣٧ ) ﴾[ آل عمران ] : وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الحق سبحانه :﴿ هناك تبلوا كل نفس ما أسلفت.. ( ٣٠ ) ﴾[ يونس ] : أي : في ذلك الوقت تختبر كل نفس، وترى هل الجزاء طيب أم لا ؟ فإن كانت قد عملت الشر ؛ فستجد الجزاء شرا.
إذن : فالإنسان وقت النتائج يختبر نفسه بما كان منه.
ثم يقول الحق سبحانه :﴿ وردوا إلى الله مولاهم( ٧ ) الحق.. ( ٣٠ ) ﴾[ يونس ] : وكأنهم كانوا في الدنيا عند مولى آخر غير الإله الحق سبحانه، والمولى غير الحق هو الشريك أو الشركاء الذين اتخذتهم بعض الناس موالي لهم، وهنا في اليوم الآخر يردون إلى الإله الحق والمولى الحق سبحانه.
وكلمة " ردوا إلى كذا " لا تدل على أنهم كانوا مع الضد، وجاءوا له، بل تدل على أنهم كانوا معه أولا، ثم ذهبوا إلى الضد، ثم ردوا أليه ثانيا، مثل قوله سبحانه عن موسى عليه السلام :﴿ فرددناه إلى أمه.. ( ١٣ ) ﴾[ القصص ] : فدلت على أنه كان مع أمه، ثم فارقها، ثم رد إليها.
وقوله الحق سبحانه هنا :﴿ وردوا إلى الله مولاهم ( ٨ )الحق.. ( ٣٠ ) ﴾[ يونس ] : أي : أنهم كانوا مع الله أولا، ثم أخذهم الشركاء، وفي هذا اليوم الآخر يرجعون لربهم سبحانه.
والإنسان يكون مع ربه أولا بالفطرة التكوينية المؤمنة، ثم يتجه به أبواه إلى المجوسية أو أي ديانة أخرى تحمل الشرك بالله( ٩ )، وهم في ظل تلك الديانات المشركة، كانوا عند مولى وسيد وآمر ومشرع، ولكنه مولى غير حق ؛ لأن الحق هو الثابت الذي لا تدركه الأغيار.
﴿ هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت.. ( ٣٠ ) ﴾[ يونس ] : أي : عرفت كل نفس ما فعلت، ويعرف كل إنسان بفضيحته في جزئيات ذاته، وكذلك الفضيحة العامة لكل إنسان أشرك بالله سبحانه.
ثم يقول الحق سبحانه :﴿ وضل عنهم ما كانوا يفترون( ٣٠ ) ﴾[ يونس ] : أي : أن الآلهة التي عبدوها لا تتعرف إلى أمكنتهم ومواقعهم، وأنهم في خطر ؛ فتأخذ بأيديهم ؛ لأن هذه الآلهة لا علم لها بهم، ولو أن هذه الآلهة التي كانوا يعبدونها من دون الله-سبحانه- على شيء من الحق ؛ ووجدوهم في مأزق ؛ لكان يجب أن يدافعوا عنهم، لكنهم لم يعرفوا أماكنهم ﴿ وضل عنهم ما كانوا يفترون.. ( ٣٠ ) ﴾[ يونس ] : أي : ما كانوا يكذبونه كذبا متعمدا.
١ ﴿تبلو كل نفس ما أسلفت..(٣٠)﴾[يونس]: تذوق جزاء ما عملت وقدمت. وقيل: تختبر. وقيل: تتبع، أي: تتبع كل نفس ما قدمت في الدنيا. وقرأ حمزة والكسائي"تتلو" أي: تقرأ كل نفس كتابها الذي كتب عليها.[تفسير القرطبي ٤/٣٢٦١] وابن كثير[٢/٤١٦]..
٢ أنى لك هذا؟: كيف ومن أين لك هذا؟.
٣ لله في عطائه رزق بحساب، ورزق بغير حساب، فرزق الحساب بقدر ما تقدمه من خير وعمل صالح، يقاس العطاء بمقياس العدل الإلهي. أما الرزق الذي يغير حساب فهو رزق الذين وهبوا كلياتهم على الكل المطلق﴿قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين(١٦٢)﴾[الأنعام]. إذن: فكون الرزق هنا بلا حد مصداقا لقوله تعالى:﴿زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة والله يرزق من يشاء بغير حساب(٢١٢)﴾[البقرة] لأن الإمام العارف قال: من دخل على الله بحساب أعطاه بحساب، ومن دخل عليه بغير حساب أعطاه بغير حساب..
٤ ﴿كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا..(٣٧)﴾[آل عمران] قال مجاهد وعكرمة وآخرون: يعني: وجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف. وهذا فيه دلالة على كرامات الأولياء [تفسير ابن كثير: ١/٣٦٠]..
٥ تا الشيخ عتيا وعتيا وعتيا: كبر وأسن.[اللسان: مادة (عتى)]..
٦ تقبل الشيء وقبوله دليل على أخذ الشيء برضا، فأنت قد تأخذ بكره أو على مضض، إما أن تتقبل فذلك الأخذ بقبول ورضا. إما القبول الحسن فهو زيادة في الرضا..
٧ المولى: النصير والولي الذي يلي عليك أمرك، ولا يليك إلا من هو قريب منك، وهو الناصر والمعين الذي تفزع إليه في شدائدك..
٨ قال تعالى هنا:﴿وردوا إلى الله مولاهم الحق...(٣٠)﴾ [يونس] فأثبت أن الله هو مولاهم الحق، وقال في آية أخرى:﴿وأن الكافرين لا مولى لهم..(١١)﴾[محمد]. فهو سبحانه ليس مولى لهم في النصرة والمعونة، بل هو مولى لهم في الرزق وإدرار النعم..
٩ تقبل عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصراه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟ ثم قال:﴿فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم..(٣٠)﴾ [الروم]. متفق عليه. أخرجه البخاري في صحيحه (٤٧٧٥) ومسلم(٢٦٥٨)..
وبعد أن كشف-سبحانه- المسألة وما سوف يحدث في الآخرة، وخوفهم وبشع لهم ما سوف ينتظرهم من مصير إن ظلوا على الكفر ؛ لعلهم يرتدعون( ١ )، ويتذكرون ضرورة العودة على عبادة الإله الحق سبحانه، يأتي الحق سبحانه وتعالى بما يعيد إليهم رشد الإيمان في نفوسهم، فيقول :﴿ قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله( ٢ ) فقل أفلا تتقون( ٣١ ) ﴾ :
أي : أن الحق سبحانه يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم : اسألهم هذا السؤال، ولا يسأل هذا السؤال إلا من يثق في أن المسئول لو أراد في ذهنه كل الأجوبة، فلن يجد جوابا غير ما عند السائل.
ومثال ذلك من حياتنا-والله المثل الأعلى- إن جاء لك من يقول : أبي يهملني، فتمسك به، وتسأله : من جاء لك بهذه الملابس وذلك القلم ويطعمك ويعلمك ؟ سيقول لك : أبي.
وأنت تسأل هذا السؤال إلا وأنت واثق أنه لو أراد كل الأجوبة فلن يجد جوابا إلا الذي تتوقعه منه، فليس عنده إجابة أخرى ؛ لأنك لو كنت تعرف أنه سوف يجيبك إجابة مختلفة لما سألته فكأنك ارتضيت حكمه هو في المسألة.
والحق سبحانه وتعالى قال في بداية هذه الآية الكريمة :﴿ قل ﴾ كما أنزل عليه مثيلاتها مما بدئ بقوله سبحانه :﴿ قل ﴾ مثل قوله سبحانه :﴿ قل هو الله أحد( ١ ) ﴾[ الصمد ] : وهذا ما اقتضاه خطاب الحق سبحانه دائما للخلق، ويختلف عن خطاب الخلق للخلق، فحين تقول لابنك :" اذهب إلى عمك، وقل له كذا ". فالابن يذهب إلى العم ويقول له منطوق رسالة الأب، دون أن يقول له :﴿ قل ﴾، أما خطاب الحق سبحانه للخلق، فقد شاء سبحانه أن يبلغنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نزل ﴿ قل ﴾ فالرسول صلى الله عليه وسلم أمين في البلاغ عن الله تعالى، لا يترك كلمة واحدة من الوحي دون أن يبلغها للبشر، وما دام الحق سبحانه وتعالى هو الذي أمره، فهو يبلغ ما أمر، حتى لا يحرم آذان خلق الله تعالى من كل لفظ صدر عن الله سبحانه.
وكذلك أمر الحق-سبحانه-هنا لرسوله صلى الله عليه وسلم بأن يقول :﴿ من يرزقكم من السماء والأرض.. ( ٣١ ) ﴾[ يونس ] : ونحن نعلم أن الرزق هو ما ينتفع به، والانتفاع الأول مقوم حياة، والثاني ترف أو كماليات حياة، والرزق الذي هو أصل الحياة هو ماء ينزل من السماء، ونبات يخرج من الأرض( ٣ ).
وهكذا قال الحق سبحانه السؤال والإجابة معروفة مقدما، فلم يقل لرسوله صلى الله عليه وسلم :" أجب أنت " بل ترك لهم أن يجيبوا بأنفسهم.
وكذلك جاء الحق سبحانه بسؤال آخر :﴿ أمن يملك السمع والأبصار.. ( ٣١ ) ﴾[ يونس ] :
والسمع والبصر هما السيدان لملكات الإدراك ؛ لأن إدراك المعلومات( ٤ ) له وسائل متعددة، إن أردت أن تدرك رائحة ؛ فبأنفك، وإن أردت أن تدرك نعومة ؛ فبلمسك وببشرتك، وإن أردت أن تدرك مذاق شيء فبلسانك، وإن أردت أن تتكلم فبأجهزة الكلام وعمدتها اللسان، وإن أردت أن تسمع فبأذنك.
وكذلك تتجلى لك المرائي( ٥ ) بعينك، ثم تأتي إدراكات متعددة من الحواس ؛ لتكون أشياء نسميها الخميرة، توجد منها القضية العقلية الأخيرة، فالطفل أمام النار يجد منظرها جميلا جذابا، لكن ما إن يلمسها حتى تلسعه ؛ فلا يقرب منها أبدا من بعد ذلك ؛ لأنه اختبرها بحواسه فارتكزت لديه القضية العقلية وهي أن هذه نار محرقة، واستقر هذا لديه يقينا.
وهكذا تكون الإدراكات الحسية إدراكات متعددة تصنع خميرة في النفس تتكون منها الإدراكات المعنوية.
إذن : فوسائل العلم للكائن الحي هي الحواس، وهذه الحواس تعطي العقل معطيات تنغرز فيه لتستقر من بعد ذلك في الوجدان ؛ فتصبح عقائد.
إذن : فمراحل الإدراك هي : إدراك حسي، وتفكر عقلي، فانتهاء عقدي ؛ ولذلك نسمي الدين عقيدة. أي : أنك عقدت الشيء في يقينك بصورة لا تحله بعدها من جديد لتحلله، فهذا يسمى عقيدة.
ولذلك حينما أراد الله-سبحانه وتعالى-أن يقص علينا مراحل الإدراك في النفس الإنسانية ؛ ليربي الإنسان ومعلوماته، قال الحق سبحانه :﴿ والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون( ٧٨ ) ﴾[ النحل ]، لذلك يقال :" كما ولدته أمه "، أي : لم يعط القدرة على استخدام حواسه بعد، ثم يجعل له الحق سبحانه الحواس، ويجعله قادرا على استخدامها.
ولم يذكر بقية الحواس، بل جاء بالسيدين، وهما السمع والبصر ؛ لأن آيات الكون تحتاج إلى الرؤية، وإبلاغ الرسل يحتاج للسماع، وهما أهم آلتين في البلاغ، فأنت ترى بالعين آيات الكون ومعجزات الرسل، وتسمع البلاغ بمنهج الله سبحانه وتعالى من الرسل.
وقد لفتنا الإمام علي بن أبي طالب-رضي الله عنه- إلى العجائب فقال :" أعجبوا لهذا الإنسان، ينظر بشحم، ويتكلم بلحم، ويسمع بعظم، ويتنفس من خرم " ( ٦ ).
فالصوت يطرق عظمة الأذن، ويرن على طبلتها، ونرى بشحمة( ٧ ) العين، وننطق بلحمة اللسان.
وأضاف البعض :" ونشم بغضروف، ونلمس بجلد، ونفكر بعجين ". فالإنسان يولد وكأن مخه قطعة من العجين التي تعمل في استقبال المعلومات من الكون وتخزينها فيه، وهي التي ستكون ركيزة لتشكيل الفؤاد من بعد ذلك.
وجاء قول الحق سبحانه هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها بوسيلتين من وسائل الإدراك، وترك بقية الوسائل الثلاث الأخرى الظاهرة، مع أن العلم الحديث حين تكلم عن وظائف الأعضاء، احتاط للأمر وقرر أن هذه الحواس هي الحواس الخمس الظاهرة.
وهذا يعني أن هناك حواسا أخرى غير هذه سيكشف عنها، وهي حواس لم يكن القدماء يعرفونها، مثل حاسة البين بين، التي نفرق بها بين أنواع الأقمشة والأوراق وغيرها، وكثافة هذا النوع من ذاك، وهذه الحاسة توجد بين لمستين من إصبعين متقاربين( ٨ ).
وكذلك حاسة العضل التي تزن ثقل الأشياء، وتعرف حين تحمل ثقلا ما مدى الإجهاد الذي يسببه لك، وهل يختلف عن إجهاد حمل ثقل آخر.
وحين نظر العلماء في معاني الألفاظ قالوا :" النظائر حين تخالف فلا بد من علة للمخالفة " فالسمع آلة إدراك، والبصر آلة إدراك، فلماذا قال الحق سبحانه في آلة الإدراك " السمع "، وقال في آلة الثانية " الإبصار " ؟، ولماذا جاء السمع بالإفراد، وجاء الإبصار بالجمع، ولم يأت بالاثنين على وتيرة( ٩ ) واحدة ؟
فنقول : إن المتكلم هو الله تعالى، وكل كلمة منه لها حكمة وموضوعة بميزان، وأنت حين تسمع، تسمع أي صوت قادم من أي مكان، لكنك بالعين ترى من جهة واحدة، فإن أردت أن ترى ما على يمينك فأنت تتجه بعينيك إلى اليمين، وإن أردت أن ترى ما خلفك، فأنت تغير من وقفتك، فالأذن تسمع بدون عمل منك، لكن البصر يحتاج إلى عمليات متعددة ؛ لترى ما تريد.
وأيضا فالسمع لا اختيار لك فيه، فأنت لا تستطيع أن تحجب أذنك عن سماع شيء، أما الإبصار فأنت تتحكم فيه بالحركة أو بإغلاق العين.
وجاء الحق- سبحانه وتعالى- بالسمع أولا ؛ لأن الأذن هي أول وسيلة إدراك تؤدي مهمتها في الإنسان، أما العين فلا تبدأ في أداء مهمتها إلا من بعد ثلاثة أيام إلى عشرة أيام غالبا. وهنا يقول الحق سبحانه :﴿ أمن يملك السمع والأبصار.. ( ٣١ ) ﴾ ]يونس ] : والحق سبحانه يملكها ؛ لأنه خالقها وهو القادر على أن يصونها، وهو القادر سبحانه على أن يعطلها، وقد أعطانا الحق مثالا لهذا في القرآن فقال عن أصحاب الكهف :﴿ فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا( ١١ ) ﴾[ الكهف ] : فعطل الله سبحانه أسماعهم بأن ضرب على آذانهم، فذهبوا في نوم استمر ثلاثة قرون من الزمن وازدادوا تسعا.
كيف حدث هذا ؟.. إن أقصى ما ينامه الإنسان العادي هو ليلة، ولذلك عندما بعثهم الله تساءلوا فيما بينهم :﴿ قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم.. ( ١٩ ) ﴾[ الكهف ] : ولكن هيئتهم لم تكن تدل على هذا، فإن شعورهم قد طالت جدا، وبل إن لونها الأسود قد تبدل وأصبحوا شيبا وكهولا، ولذلك قال الحق سبحانه :﴿ لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا.. ( ١٧ ) ﴾[ الكهف ].
ونلحظ هنا ملحظا يجب الانتباه إليه، ففي هذه الآية الكريمة يقول الحق سبحانه :﴿ أمن يملك السمع والأبصار.. ( ٣١ ) ﴾[ يونس ]، بينما يقول في آية أخرى في سورة السجدة :﴿ وجعل لكم السمع والأبصار.. ( ٩ ) ﴾[ السجدة ] : ولا بد أن ننتبه إلى الفارق بين " الخلق " و " الجعل "، و " الملك "، فالحق قد عرفنا أمره، وملكية كل شيء لله-تعالى-أمر ملزم في العقيدة، ومعروف، أما " الجعل "، فهو توجيه ما خلق إلى مهمته.
فأنت تجعل الطين إبريقا، والقماش جلبابا، هذا على المستوى البشري، أما الحق سبحانه وتعالى فقد خلق المادة أولا، ثم جعل من المادة سمعا وبصرا، وزاد من بعد ذلك ﴿ أمن يملك ﴾، فمن خلق هو الله تعالى، ومن جعل هو الله تعالى، ومن ملك هو الله تعالى.
وهو سبحانه ينبهنا إلى ذلك، فالأشياء النافعة لابن آدم يخلقها الله سبحانه، ويجعلها، ثم يملكها له.
أما ذات الإنسان وأبعاضه من سمع وبصر وغيرهما وإن كانت قد خلقت في الإنسان، وجعلت له للانتفاع بها، ولكنها ستظل ملكا لله، يبقيها على حالها، أو يخطفها أو يصيبها بآفة، أو يعطلها( ١٠ ).
إذن : فهي خلقت لله، وجعلت من الله، وتظل مملوكة لله، ويصيرها كيف يشاء، فدقات القلب والحب والكراهية والأمور اللاإرادية التي تعمل لصالح الإنسان هي مملكة الله.
والحق سبحانه-على سبيل المثال- جعل لكل حيوان جلدا ؛ ننتفع به وندبغه إلا جلدين اثنين : جلد الإنسان وجلد الخنزير، وقد حرم استخدام جلد الإنسان ؛ لكرامته عند خالقه، وحرم استخدام جلد الخنزير ؛ ليدل على حرمته ونجاسته.
وعلينا أن ننتبه إلى أن الحق سبحانه قد خلق وجعل وملك، ودليل ملكية الحق- سبحانه وتعالى- أنه حرم الجنة على المنتحر( ١١ ) ؛ لأنه لا يأخذ الحياة إلا واهب الحياة، فأنت أيها الإنسان لست ملك نفسك. ولا عذر لأحد ما دام قد وصله هذا البلاغ، وعليه أن يستوعبه أما من لا يستوعب ؛ فيلقى مصيره.
لذلك فإنه سبحانه هو الذي رزق، وهو-سبحانه-الذي يملك.
ثم يقول الحق سبحانه :﴿ ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي.. ( ٣١ ) ﴾[ يونس ]، ونحن نعلم أن لكل كائن في الوجود حياة تناسبه، بدليل قول الحق سبحانه :﴿ كل شيء هالك إلا وجهه.. ( ٨٨ ) ﴾[ القصص ] : وما دام كل شيء سيأتي له وقت يهلك فيه، فمعنى ذلك أن لكل شيء حياة، إلا أن حياتنا نحن في ظاهر الأمر عبارة عن الحس والحركة، والإنسان يأكل الخضروات والخبز والفاكهة، ومن هذه المأكولات وغيرها يكون الجسم الحيوانات المنوية في الرجل، والبويضات في المرأة، ومنهما يأتي الإنسان، وكذلك يخرج الكتكوت من البيضة المخصبة ؛ لأن البيضة غير المخصبة لا تخرج كتكوتا ؛ فهي بدون حياة ؛ ولذلك لا يتكون منها جنين، فهنالك فرق بين قابلية الحياة، وبين الحياة نفسها.
وكذلك نواة التمرة، إذا ما ألقيت دون أن توضع في الأرض، فلن تكون نخلة أبدا، ولكن إذا ما زرعت في الأرض، ووجدت لها البيئة المناسبة ؛ خرجت نخلة.
ثم يقول الحق سبحانه :﴿ ومن يدبر الأمر.. ( ٣١ ) ﴾[ يونس ] : والتدبير هو عملية الإدارة لأي شيء ؛ حتى يؤدي مهمته، وبالله من يدير قلبك ؟ ومن يدير حركة أمعائك ؟ لتستخلص من ا
١ الارتداع: الكف عن الشيء. وترادع القوم: ردع بعضهم بعضا، فزجروهم وكفوهم عن المعاصي وإيذاء الناس.[وانظر: لسان العرب-مادة ردع]..
٢ في الآية منطق الفطرة بالتوحيد، فالكافر إذا سئل عن خلق الكون، وعن تدبير الأمر، وعن عجائب الآيات لا يجد جوابا إلا أن يقول بدافع الفطرة: الخالق هو الله، والمدبر هو الله..
٣ وهذا الرزق هو ما ذكره رب العزة في قوله تعالى:﴿فلينظر الإنسان إلى طعامه(٢٤) أنا صببنا الماء صبا(٢٥) ثم شققنا الأرض شقا(٢٦) فأنبتنا فيها حبا(٢٧) وعنبا وقضبا(٢٨) وزيتونا ونخلا(٢٩) وحدائق غلبا(٣٠) وفاكهة وأبا(٣١) متاعا لكم ولأنعامكم(٣٢)﴾[عبس].
٤ الإدراك يعطي الوجدان، والوجدان يعطي الاختيار، والاختيار يعطي الفكر والتأمل، وعن طريق الفكر المتأمل يكون توحيد الله..
٥ رأى يرى فهو راء، وما يقع عليه البصر فهو مرئي، والجمع: مرائى..
٦ ذكره الشريف الرضى في كتابه "نهج البلاغة"(٤/٤) طبعة مؤسسة الأعلمي للمطبوعات-بيروت..
٧ من شحمة العين: مقلتها، وقيل: حدقتها أو ما تحت الحدقة. أما شحمة الأذن فهو ما لان من أسفلها، وهو معلق القرط.[اللسان: مادة (شحم)]..
٨ وهذا غير حاسة اللمس التي ندرك بها نعومة أو خشونة هذا القماش أو ذاك، فهذا يدرك بحاسة اللمس وعادة يكون هذا بإمرار كف اليد على القماش، أما إدراك (تخانة) هذا القماش أو ذاك فيكون بإدراكه بهذه الحاسة..
٩ الوتيرة: الطريقة. مأخوذة من التواتر أي: التتابع، وجرت الأشياء على وثيرة واحدة: أي: بنفس الصفة والطريقة.[اللسان: مادة (وتر)]..
١٠ من يقول سبحانه:﴿يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شيء قدير(٢٠)﴾[البقرة]..
١١ عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن شرب سما فقتل نفسه فهو يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا". أخرجه البخاري في صحيحه (٥٧٧٨) ومسلم(١٠٩) واللفظ لمسلم..
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون( ١ )( ٣٢ ) ﴾ :
وقد جاء قول الحق سبحانه :﴿ فذلكم ﴾ إشارة منه على ما ذكره قبلا من الرزق، وملكية السمع والأبصار، وقدرة إخراج الحي من الميت، وإخراج الميت من الحي، وتدبير الأمر.
إذن : فقوله سبحانه :﴿ فذلكم ﴾ إشارة إلى أشياء ونعم كثيرة ومتعددة أشار إليها بلفظ واحد ؛ لأنها كلها صادرة من إله واحد. ﴿ فذلك الله ربكم الحق.. ( ٣٢ ) ﴾[ يونس ]، ولا يوجد في الكون حقان( ٢ )، بل يوجد حق واحد، وما عداه هو الضلال ؛ لذلك يقول الحق سبحانه :﴿ فماذا بعد الحق إلا الضلال.. ( ٣٢ ) ﴾[ يونس ] : إذن : أنتم إن وجهتم الأمر بالربوبية إلى غيره ؛ تكونون قد ضللتم الطريق، فالضلال أن يكون لك غاية تريد أن تصل إليها، فتتجه على طريق لا يوصل إليها. فإن صرفتم من الإله الحق فأنتم تصلون إلى الضلال.
ولذلك ينهي الحق سبحانه الآية بما بين أنه لا يوجد إلا الحق أو الضلال، فيقول سبحانه :﴿ فأنى تصرفون.. ( ٣٢ ) ﴾[ يونس ] : أي : أنكم إن انصرفتم عن الحق-سبحانه وتعالى- فإلى الضلال، والحق واحد ثابت لا يتغير.
ومن عبد الملائكة أو الكواكب أو النجوم ؛ أو بعض رسل الله-عليهم السلام- أو صنما من الأصنام ؛ فقد هوى إلى الضلال.
وإن كنتم تريدون أن نجادلكم عقليا، فلنقرأ معا قول الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك :
﴿ كذلك حقت كلمت ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون( ٣٣ ) ﴾ :
١ فأنى تصرفون: أي: كيف تصرفون عقولهم إلى عبادة ما لا يرزق ولا يحيي ولا يميت.[تفسير القرطبي ٤/٣٢٦٧].
٢ الحق واحد لا بمنظور الفكر البشري ولكنه بمنهج الحق ذاته؛ لأن حقائق الأشياء ثابتة، والعلم بها متحقق خلافا للسفسطائية، وخلافا لمن يعتقدون أن الباطل حق، والحق باطل فليس الحق خاضعا لتخريف العقول، وتخريف الفكر بغية المخالفة والمغالطة..
قوله :﴿ كذلك ﴾إشارة إلى ما تقدم من رزق الله تعالى للبشر جميعا، ومن ملك السمع والبصر، ومن تدبير الأمر كله، ومن إخراج الحي من الميت، وإخراج الميت من الحي، ذلك هو الإله الحق سبحانه، وقد ثبت ذلك بسؤاله سبحانه وتعالى هذا السؤال الذي علم مقدما ألا إجابة له إلا بالاعتراف به إلها حقا :﴿ فماذا بعد الحق إلا الضلال.. ( ٣٢ ) ﴾.
ومثل هذه القضية تماما قول الحق سبحانه :﴿ حقت كلمت ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون( ٣٣ ) ﴾[ يونس ] : لأنهم أساءوا الفهم في الوحدانية، وفي العقيدة، واستحقوا أن يعذبوا ؛ لأنهم صرفوا الحق إلى غير صاحب الحق.
وقد كان هذا خطابا للموجودين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، لكن بعضهم آمن بالله تعالى ؛ ولذلك فالعذاب إنما يحل على من لم يؤمن.
وهذا القول متحقق فيمن سبق في علم الله سبحانه أنهم لا يؤمنون، وكذلك حقت كلمة ربك على هؤلاء الذين فسقوا ولا ينتهون عن فسقهم وكفرهم، وإصرارهم على الانحراف بالعبودية لغير الله الأعلى والرب الحق سبحانه وتعالى.
والدليل على العلم الأزلي لله سبحانه ما نقرأه في سورة البقرة :﴿ إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون( ٦ ) ﴾ ( ١ )[ البقرة ] : إذن : معلوم لله تعالى من يؤمن ومن لا يؤمن، ومن يستمر ويصر على كفره ؛ هو الذي يلقى العذاب، ويعلم الله تعالى فيه أنه لن يؤمن.
ثم يذكر الحق بعد ذلك ما يمكن أن يجادل به الكافرين بمنطق أحوالهم، ففي ذوات نفوس غير المؤمنين بإله توجد نزعة فطرية لفعل الخير، وتوجيه غيرهم إليه، وهو موجود حتى في الأمم غير المؤمنة، فكل قوم يوجهون إلى الخير بحسب معتقداتهم، فنجد بين الشعوب غير المؤمنة بإله حكماء وأطباء وعلماء، وهؤلاء يوجهون الناس إلى بعض الخير الذي يرونه.
ونجد الطفل الصغير يكتسب المعتقدات والعادات والاتجاهات من والديه، ومما يسمعه من توجيهاتهم، فتجده يبتعد عن النار مثلا أو الكهرباء ؛ لأنه ترسخت في ذهنه توجيهات ونصائح غيره ؛ بل إنه يتعلم كيف يتعامل مع هذه الأشياء دون أن تصيبه بالضرر.
إذن : يوجد توجيه من الخلق إلى الخلق لجهات الخير، ألا نجد في الدول غير المؤمنة بإله من يرشد الناس إلى الطرق التي يمكن أن يسيروا فيها باتجاهين، والطرق التي عليهم أن يسيروا فيها باتجاه واحد ؟
ألا يوجد من يدل الناس على المنحنيات الخطرة على الطرق، وكذلك يوجههم إلى ضرورة خفض سرعة السيارات أمام مدارس الأطفال ؟ نعم، يوجد في البلاد غير المؤمنة من يفعل ذلك.
إذن : فالتفكير في الخير لصالح الأمم أمر طبيعي غريزي موجود في كل المجتمعات، وإذا كان التوجيه للخير يحدث من الإنسان المساوي للإنسان، ألا يكون الله سبحانه هو الأحق بالتوجيه إلى الخير، وهو سبحانه الذي خلق الإنسان، وخلق له ما يقيم حياته على الأرض، ولذلك يقول الحق سبحانه :
﴿ قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده فأنى تؤفكون( ٢ )( ٣٤ ) ﴾ :
١ في الآية إشارة إلى مجتمع النفاق ومجتمع النفاق يعيش بين مجتمعين: المجتمع الإيماني مصدقا لقوله تعالى:﴿أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون(٥)﴾[البقرة]، والمجتمع الكافر مصدقا لقوله تعالى:﴿والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب(٣٩)﴾[النور]، ومجتمع النفاق أخطر من مجتمع النفاق أخطر من مجتمع الكفر، فالكفر معلن وأنا مستيقظ له، أما النفاق فهو خداع..
٢ الإفك: الكذب والإثم. أنى تؤفكون: كيف تكذبون؟![اللسان: مادة (أفك)] والإفك أخطر من الكذب، حيث إن الإفك في افتراء متخيل ومبالغة باهتة لها التأثير المضر على المجتمعات والأفراد؛ ولذلك يقول الحق:﴿إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب من إثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم(١١)﴾[النور]، ولم يقل بالكذب مع أنه كذب، ولكنه عبر بالإفك، لأن فيه افتراء على كرامات الناس وقيم المجتمع..
وهنا يأمر الحق سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يسألهم :﴿ هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده.. ( ٣٤ ) ﴾[ يونس ] : ومعنى أن الله يسأل القوم هذا السؤال أنه لا بد أن تكون الإجابة كما أرادها هو سبحانه. وإن قال قائل : وكيف يأمنهم على مثل هذا الجواب، ألم يكن من الجائز أن ينسبوا هذا إلى غير الله ؟
نقول : إن هذا السؤال لا يطرح إلا وطارحه يعلم أن له إجابة واحدة، فلن يجد المسئول إجابة إلا أن يقول : إن الذي يفعل ذلك هو الله سبحانه ولا يمكن أن يقولوا : إن الصنم يفعل ذلك ؛ لأنهم يعلمون أنهم هم الذين صنعوا الأصنام، ولا قدرة لها على مثل هذا الفعل.
فالإجابة معلومة سلفا : إن الله سبحانه وتعالى وحده هو القادر على ذلك، وهذا يوضح أن الباطل لجلج والحق أبلج( ١ )، وللحق صولة( ٢ ) ؛ فأنت ساعة تنطق بكلمة الحق في أمر ما، تجدها قد فعلت فعلها فيمن هو على الباطل، ويأخذ وقتا طويلا إلى أن يجد كلاما يرد به ما قلته، بل يحدث له انبهار واندهاش، وتنقطع حجته( ٣ ).
ولذلك لم يقل الحق سبحانه هنا مثلما قال من قبل :﴿ فسيقولون الله.. ( ٣١ ) ﴾[ يونس ].
بل قال :﴿ قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده.. ( ٣٤ ) ﴾[ يونس ]، وجاء بها الحق سبحانه هكذا ؛ لأنهم حينما سئلوا هذا السؤال بهرهم الحق وغلب ألسنتهم وخواطرهم ؛ فلم يستطيعوا قول أي شيء.
ومثال ذلك-والله المثل الأعلى-نجد وكيل النيابة يضيق الخناق على المتهم بأسئلة متعددة إلى أن يوجه له سؤالا ينبهر المتهم من فرط دقته وليس له إلا إجابة واحدة تتأبى طباعه ألا يجيب عنه، فيجيب المتهم معترفا.
والإنسان-كما خلقه الله تعالى-صالح لأن يؤمن، وصالح لأن يكفر، فإرادته هنا تتدخل، لكن أبعاضه مؤمنة عابدة مسبحة، فاللسان الذي قد ينطق الكفر، هو في الحقيقة مؤمن مسبح، حامد، شاكر، لكن إرادة الإنسان التي شاءها الله-سبحانه- متميزة بالاختيار قد تختار الكفر- والعياذ بالله- فينطق اللسان بالكفر.
وقد تأتمر اليد بأمر صاحبها ؛ فتمتد لتسرق، أو تسعى الأقدام-مثلا- إلى محل احتساء الخمر، ولكن هل هذه الفاعلات راضية عن تلك الأفعال ؟ لا، إنها غير راضية( ٤ )، إنما هي خاضعة لإرادة الفاعل.
وحين يسأل السؤال : من يبدأ الخلق ثم يعيده ؟ فاللسان بفطرية تكوينه المؤمنة يريد أن يتكلم ؛ لكنه لا يملك إرادة الكلام، فيبين الحق سبحانه للنبي صلى الله عليه وسلم أن يجيب نيابة عن الأبعاض المؤمنة، فيقول سبحانه :﴿ قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده.. ( ٣٤ ) ﴾ وهو بذلك يؤكد الصيغة، ويكفي أن يقول محمد صلى الله عليه وسلم هذا القول مبلغا عن ربه، وينال هذا القول شرف العندية :﴿ قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده فأنى تؤفكون( ٣٤ ) ﴾ : والإفك : هو الكذب المتعمد، وهو الافتراء، وهناك فارق بين الكذب غير المتعمد والكذب المتعمد، فالكذب غير المتعمد هو من ينقل ما بلغه عن غيره حسبما فهم واعتقد، وهو لون من ألوان الكذب لا يصادف الحق، ويتراجع عنه صاحبه إن عرف الحق.
أما الافتراء فهو الكذب المتعمد، أي : أن يعلم الإنسان الحقيقة ويقبلها( ٥ ) ؛ ولذلك نجد العلماء قد وقفوا هنا وقفة ؛ فمنهم من قال : هناك صدق، وهناك كذب، لكن علماء آخرين قالوا : لا، إن هناك واسطة بين الصدق والكذب.
ومثال ذلك : أن يدخل ابن على أبيه، بعد أن سمع هذا الابن من الناس أن هناك حريقا في بيت فلان، فيقول الابن لوالده : هناك حريق في بيت فلان ؛ فيذهب الأب ليعاين الأمر، فإن وجد حريقا فقول الابن صدق، وإن لم يكن هناك حريق فالخبر كاذب، ولكن ناقل الخبر نقله حسبما سمع.
إذن : فهناك فرق بين صدق الخبر وصدق المخبر، فمرة يصدق الخبر ويصدق المخبر، ومرة يصدق الخبر ولا يصدق المخبر، ومرة يصدق المخبر ولا يصدق الخبر.
فهنا أربعة مواقف، والذين قالوا إن هناك واسطة بين الصدق والكذب هم من قالوا : إن الصدق يقتضي مطابقة بين الواقع والخبر. أما الكذب فهو ألا يطابق الواقع الخبر.
لذلك يجب أن نفرق بين صدق الخبر في ذاته، وصدق المخبر ؛ بأنه يقول ما يعتقد. أما صدق الخبر فهو أن يكون هو الواقع.
وقول الحق سبحانه :﴿ فأنى تؤفكون ﴾ أي : فكيف تقلبون الحقائق ؛ لأنكم تعرفون الواقع وتكذبونه كذبا متعمدا ؟ وكلنا نعلم قول الحق سبحانه :﴿ والمؤتفكة أهوى( ٦ ) ( ٥٣ ) ﴾[ النجم ] : والمؤتفكة : هي القرى التي كفئت أعلاها إلى أسفلها، كذلك الكذاب يقلب الحقيقة.
١ اللجلجة: اختلاط الأصوات. قال أبو زيد: يقال:"الحق ألج، والباطل لجلج"، والأبلج: المضيء المستقيم. أما اللجلج فهو المختلط المعوج والمتردد غير المستقر.[اللسان: مادة (لجج))-بتصرف]..
٢ الصولة: الوثبة والقوة على إزهاق الباطل..
٣ وذلك مثلما حدث من إبراهيم عليه السلام مع النمرود، وقد قصه الله عز وجل في قرآنه:﴿قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر..(٢٥٨)﴾[البقرة]، فهبت، أي فوجئ بالحجة ومنطقها فتحير في جوابه ولم يجد ردا..
٤ بدليل أنها ستأتي يوم القيامة وتصبح هي الشاهدة على الإنسان، يقول سبحانه:﴿يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون(٢٤)﴾[النور]..
٥ المؤتفكة: البلدة التي ائتفكت بأهلها أي: انقلبت. والائتفاك: الانقلاب.[اللسان: مادة (أفك)]. وقال ابن كثير:﴿والمؤتفكة أهوى(٥٣)﴾[النجم]: يعني مدائن قوم لوط قلبها الله-تعالى-عليهم، فجعل عاليها سافلها.[تفسير ابن كثير: ٤/٢٥٩-بتصرف]..
٦ وهو الذي قصده رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله:"إياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا:. أخرجه مسلم في صحيحه (٢٦٠٧) والبخاري في صحيحه (٦٠٩٤)..
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق قل الله يهدي للحق أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدي فما لكم كيف تحكمون( ٣٥ ) ﴾ :
وهذا أمر للرسول صلى الله عليه وسلم بأن يسألهم سؤالا جديدا، لا إجابة له إلا ما يفرضه الواقع، والواقع يؤكد أن الهداية لا تكون إلا للحق ؛ لأن كل كائن مخلوق لغاية، فلا شيء يخلق عبثا( ١ ).
ونحن بقدرتنا المحدودة نصنع ( الميكرفون ) و( التليفزيون ) أو الثلاجة أو السرير وغيرها، كل منها له غاية، وكل له قوانين صيانته الخاصة به، والذي يحدد الغاية من هذا المصنع أو ذاك هو صانعه، ويضع لها قوانين صيانتها ؛ لتؤدي غايتها، فالغاية من أي شيء توجد قبل الشيء نفسه ؛ ليوجد الشيء على مقتضى الغاية منه.
وآفة العالم الآن أنهم يعلمون أن الله سبحانه خلق الإنسان، ولكنهم يصنعون من عندهم قوانين لصيانة الإنسان وحركة الإنسان، وهذا غباء وغفلة من الذين يفعلون ذلك، كان عليهم أن يتركوا أمر صيانة الإنسان للقوانين التي وضعها خالق الإنسان سبحانه.
فالحق سبحانه تعالى قد حدد الغاية من خلق الإنسان وحدد قوانين صيانته، والشر الموجود حاليا بسبب الجهل بغاية الإنسان، والعدول عن المنهج الذي يجب أن يسير عليه الإنسان، فقال الحق سبحانه :﴿ قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق.. ( ٣٥ ) ﴾ : أي : هل من هؤلاء الشركاء من يهدي الإنسان على غايته ؟ هل قالت الشمس-مثلا-غايتها ؟ هل قالت الملائكة غايتها ؟ هل قالت الأشجار أو الأحجار أو الرسل الذين عبدتموهم شيئا غير مراد الله تعالى ؟ إنهم آلهة لا يعرفون الغاية من العابد لهم، ولا يعرفون الطريق الموصل إلى تلك الغاية.
ولذلك يأتي القول الفصل :﴿ قل الله يهدي للحق.. ( ٣٥ ) ﴾ : فالله هداك أيها الإنسان إلى الحق في كل حركة تتحركها بالمنهج الذي أنزله الله سبحانه مكتملا على رسوله صلى الله عليه وسلم من بدء " لا إله إلا الله " إلى إماطة الأذى عن الطريق( ٢ )، وهو منهج مستوعب مستوف لكل حركات الإنسان.
وجاءت الإجابة من الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ؛ لأنهم انبهروا بالسؤال وتلجلجوا ولم يوجد عند أي منهم قدرة على المعارضة، فالغاية من خلق الإنسان وغيره يوجزها قول الحق سبحانه :﴿ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون( ٥٦ ) ﴾[ الذاريات ] : والعبادة ليست أركان الإسلام فقط، بل هي عمارة الكون كبنيان حي للإسلام، والذي حدد الغاية هو الخالق سبحانه، وهو سبحانه الذي يحدد طريق الوصول إليها.
ونحن حين نرغب في الوصول إلى مكان في الصحراء مثلا، إنما نحدد أولا المكان، ونختار طريق الوصول، فإن كان الطريق المستقيم مليئا بالعقبات والجبال، فإنك ستضطر للانحراف عن هذا الطريق وصولا إلى غايتك، فهذا الطريق المعوج هو الطريق المستقيم ؛ لأنه الطريق الذي يجنبنا العقبات.
ومثال ذلك : السيول التي تنزل على هضاب الحبشة، فاختارت لنفسها المجرى السهل فكان نهر النيل، فلا أحد قد حفر النيل مثلما حفرنا الرياحات أو قناة السويس، بل نزل السيل واختار لنفسه الطريق السهل فسار فيه بين التعاريج والرمال والصخور.
ولذلك أنت تجد كل ما لا دخل للبشرية به قد يتعرج لينفذ، أما ما صنعه البشر فلا يستطيع ذلك.
وكل خلق لا بد له من غاية ؛ لذلك نجد سيدنا إبراهيم عليه وعلى نبينا السلام يقول :﴿ الذي خلقني فهو يهدين( ٧٨ ) ﴾[ الشعراء ] : فمن خلق هو الذي يحدد الغاية ؛ لأن هذه الغاية توجد عنده أولا ليخلق، وتتجلى الدقة في قول القرآن على لسان سيدنا إبراهيم عليه السلام، فلم يقل : الذي خلقني يهديني، بل قال :﴿ الذي خلقني فهو يهدين ﴾ مما يدل على أن هذه القضية ستخالف، وبعد أن يخلق الإنسان سيقوم بعض الناس-حماية لمصالحهم-بوضع طريق أخرى تخالف الغاية ؛ فتوصل إلى الضلال.
أما الحق سبحانه فقد أنزل القرآن فيه الهداية الحقة، فالذي خلق هو الذي يقنن، ولذلك يذكر القرآن على لسان سيدنا إبراهيم عليه السلام :﴿ والذي هو يطعمني ويسقين( ٧٩ ) ﴾[ الشعراء ] : وبهذا القول وصل سيدنا إبراهيم عليه السلام إلى أن الذي رزق الآباء قدرة استنباط الرزق مطعما ومشربا هو الله سبحانه.
وذكر القرآن على لسان سيدنا إبراهيم عليه السلام :﴿ والذي يميتني ثم يحيين( ٨١ ) ﴾[ الشعراء ] : فالإماتة والإحياء هما من الحق سبحانه، فلا أحد يسأل عمن يملك الإماتة والإحياء، أما عن شفاء المرض فقال :﴿ وإذا مرضت فهو يشفين( ٣ ) ( ٨٠ ) ﴾[ الشعراء ] : فأنت قد تذهب إلى الطبيب وتظن أنه هو الذي يشفيك ؛ بل هو يعالج، ولكن الله هو الذي يشفي.
وهكذا نعلم أن قول سيدنا إبراهيم عليه السلام :﴿ الذي خلقني فهو يهدين( ٧٨ ) ﴾[ الشعراء ]أولاالهداية، ثم الخلق، ثم توضيح الطريق موصل إلى تلك الغاية، فإذا خولف في شيء من ذلك فلا صلاح لكون أبدا.
وتجد في القرآن على لسان سيدنا موسى عليه السلام :﴿ قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدا( ٥٠ ) ﴾[ طه ]، فما دام الحق سبحانه قد خلق فهو يهدي إلى السبيل الموصل إلى الغاية، ويقول القرآن أيضا :﴿ سبح اسم ربك الأعلى( ١ ) الذي خلق فسوى( ٢ ) والذي قدر فهدى( ٤ ) ( ٣ ) ﴾[ الأعلى ] : وهكذا يتأكد لنا أنه ما دامت هناك غاية، فلا بد من وجود طريق يهدينا إليه من خلقنا.
وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الحق سبحانه :﴿ قل الله يهدي للحق.. ( ٣٥ ) ﴾ لأنه سبحانه هو الذي خلق ؛ ولذلك فمن المنطقي أن يأتي بعد ذلك التساؤل :﴿ أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى.. ( ٣٥ ) ﴾ ؟
وسبب وجود اللام في قوله :﴿ يهدي للحق ﴾ هو النظرة إلى الغاية، وسبب وجود :﴿ إلى الحق ﴾ هو لفت الانتباه إلى أن الوصول إلى الغاية يقتضي طريقا، فأراد الحق سبحانه في آية واحدة أن يجمع التعبيرين معا.
ونحن نعلم أن هذه الآية قد نزلت في الذين اتخذوا لله شركاء، فهم يعترفون بالله تعالى ولكنهم يشركون به غيره، فالله سبحانه وتعالى تفرد بالألوهية بربوبيته للخلق ؛ لأنه خلق من عدم، ورزق من عدم، وخلق لنا وسائل العلم ودبر لنا الأمر، وأخرج الحي من الميت، وأخرج الميت من الحي، وهدى للحق.
فأين-إذن-هؤلاء الشركاء الذين اتخذتموهم مع الله تعالى ؟ وهل صنع واحد منهم أو كلهم مجتمعين شيئا واحدا من تلك الأشياء( ٥ ) ؟
لذلك قال سبحانه :﴿ هل من شركائكم من يهدي على الحق.. ( ٣٥ ) ﴾[ يونس ] : إذن : فالذي يهدي هو الذي خلق، وهؤلاء الذين أشركوا اعترفوا بالله خالقا بشهاداتهم حين قال الحق سبحانه :﴿ ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله.. ( ٨٧ ) ﴾[ الزخرف ] :
إذن : فالذين أشركوا قد ارتكبوا الإثم العظيم، وهؤلاء الشركاء إما أن يكونوا من الملائكة، أو من الأنبياء والرسل الذين فتن بهم بعض الناس، وهناك من اتخذ وسائط أخرى مثل : الشمس والقمر والنجوم ؛ وهذه أشياء علوية، وبعض الناس اتخذوا وسائط سفلية كالأشجار والأحجار، فهل أي شيء من كل ذلك يهدي إلى الحق ؟ وما منهج أي منهم إذن ؟ وكيف بلغوكم به ؟
إن كل هؤلاء يعلمون أن أيا منهم لا يستطيع أن يهدي، بل هو يهدى من الله سبحانه وتعالى، فمن أين قلتم إن الملائكة ستهديكم ؟ أو من أين جاء الذين فتنوا برسولهم واتخذوه إلها ؟ ومن أين جاء هذا الرسول بمنهجه ؟
إن كل كائن لا يهدى على بعد أن يهدى من الله أولا، وإن كانت الأشياء-المتخذة شركاء-لا هداية لها، ولا منهج، ولا عقل، ولا تفكير، كالشمس والقمر والنجوم في العلويات، والأشجار والأحجار في السفليات، فماذا قالت هذه الأشياء ؟ إنها لم تقل شيئا.
وهكذا لا يستقيم أمر اتخاذهم شركاء مع الله، حتى الملائكة، فالله هو الذي يختار منهم الملك الذي يبلغ عن الله سبحانه، وكذلك الرسل عليهم السلام :﴿ أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى.. ( ٣٥ ) ﴾[ يونس ] :
﴿ لا يهدي ﴾ تقرأ هكذا، وللغة فيها عملية تخفيف جرس لسلامة نطقها واستقامة اللغة العربية، فنحن نعرف أن ﴿ يهدي ﴾ يعني : يهتدي.. أصلها يهتدي.. ويهتدي فيها هاء ساكنة وتاء ودال وياء.. وفيها تقارب لمخارج الحروف، وهذا التقارب يجعل المعنى غائما، والنطق ثقيلا، فتقوم اللغة بعملية إبدال وإدغام، وتخلص من التقاء الساكنين فتصل إلى مسامعنا كما أنزلها الله تعالى لسلامة النطق وجمال المعنى ؛ لأن القرآن أدب اللغة بكلام السماء ؛ لتكون خالدة اللفظ والمعنى. فإذا كنتم على طريق هداية، فالأصل في الهداية هو الله تعالى.
وينهي الحق سبحانه الآية الكريمة بقوله :﴿ فما لكم كيف تحكمون.. ( ٣٥ ) ﴾[ يونس ] :
أي : ماذا أصاب عقولكم لتحكموا هذا الحكم ؛ فتشركوا بالله ما لا منهج له، أو له منهج ولكنه موصول بالله تعالى جاء ليبلغه لهم ؟
وساعة تسمع ﴿ كيف ﴾ فهي للاستفسار عن عملية عجيبة ما كان-في عرف العاقل-أن تحدث. كأن تقول :" كيف ضربت أباك ؟ " أو " كيف سببت أمك ؟ "، وهذا كله من الأمور التي تأباها الفطرة ويأباه الطبع والدين.
وقوله سبحانه :﴿ فما لكم كيف تحكمون ﴾ كأنه أمر عجيب ما كان يصح أن يحدث ؛ لأن الحق سبحانه وحده هو الإله، والحق هو الشيء الثابت الذي لا يتغير غاية وطريقا. والله سبحانه وحده هو الذي حدد لنا الغاية والطريق الموصل إليها، وهو سبحانه القائل :﴿ والله يدعو إلى دار السلام.. ( ٢٥ ) ﴾[ يونس ]. والمنهج هو الطريق الذي يوصل إلى دار السلام من آفة الأغيار( ٦ ) ؛ لأن الدنيا كلها أغيار، فأنت قد تكون قويا ثم تضعف أو صحيحا فيصيبك المرض، أو غنيا فتفتقر، أو مبصرا فيضيع منك بصرك، أو تكون صحيح الأذن سميعا فتصير أصم بعد ذلك( ٧ ).
إذن : فهي دنيا أغيار، وهب أن إنسانا أخذ من دنياه كل نصيبه عافية وأمنا وسلامة وغنى وكل شيء ؛ سنجده في قلق من جهتين : الجهة الأولى أنه يخاف أن يفارقه كل هذا النعيم، أو يخاف أن يترك هو هذا النعيم، هذا ما نراه في حياتنا.
إذن : فالدنيا بما فيها من أغيار لا أمان لها ؛ لنفهم أن كل عطاءات المخلوق إنما هي هبة من الخالق سبحانه وتعالى ؛ لأنها لو كانت من ذاتك لاستطعت الحفاظ عليها، ولكنها هبات من الحق الأعلى سبحانه. والأمر الموهوب قد يصبح مسلوبا.
١ يقول تعالى في سورة المؤمنون:﴿أفحسبتم إنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون(١١٥)﴾[المؤمنون] وقال سبحانه في الذاريات:﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون(٥٦)﴾[الذاريات] فللحق غاية وحكمة وهي العبادة بمعناها المطلق أي: الطاعة..
٢ عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الإيمان بضع وسبعون، أو بضع وستون شعبة. فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان". لأخرجه البخاري في صحيحه(٩)، ومسلم في صحيحه(٣٥)..
٣ عن أبي رمثة رضي الله قال: انطلقت مع أبي نحو النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا هو ذو وفرة، بها ردع حناء وعليه بردان أخضران فقال له أبي: أرني هذا الذي بظهرك فإني رجل طبيب. قال:"الله الطبيب، بل أنت رجل رفيق، طبيبها الذي خلقها"..
٤ ﴿الذي خلق فسوى..(٢)﴾[الأعلى] أي: خلق الخليفة وسوى كل مخلوق في أحسن الهيئات. وقوله تعالى:﴿والذي قدر فهدى..(٣)﴾[الأعلى]. قال مجاهد: هدى الإنسان للشقاوة والسعادة وهدى الأنعام لمراتعها.[تفسير ابن كثير: ٤/٥٠٠]..
٥ ويقول سبحانه في سورة الروم:﴿الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء سبحانه وتعالى عما يشركون(٤٠)﴾[الروم]..
٦ أي: أن أحوال الدنيا تتغير وتتبدل ولا تثبت على حال واحدة..
٧ ولأن الدنيا دنيا أغيار أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا وهو يعظه:"اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك" أخرجه الحاكم في مستدركه (٤/٣٠٦) وصححه على شرط الشيخ من ابن عباس، وأقره الذهبي..
ثم يقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من الحق شيئا إن الله عليم بما يفعلون( ٣٦ ) ﴾ :
وقول الحق سبحانه :﴿ وما يتبع أكثرهم إلا ظنا.. ( ٣٦ ) ﴾يفيد أن بعضهم كان يتبع يقينا ؛ لأن مقابل الظن ( ١ )هو اليقين، فالنسب التي تحدث بين الأشياء تربط بين الموضوع والمحمول، أو المحكوم والمحكوم عليه، وهي نسب ذكرناها من قبل، ونذكر بها، فهناك شيء أنت تجزم به، وشيء لا تجزم به. وما تجزم به وتدلل عليه هو علم يقين، أما ما لا تستطيع التدليل عليه فليس علم يقين، بل تقليد، كأن يقول الطفل :﴿ قل هو الله أحد( ١ ) ﴾[ الإخلاص ] : وهذا حق، لكن الطفل لا يستطيع أن يدلل عليه أو أن يقال شيء ومن يقوله جازم به، وهو غير واقع ؛ فذلك هو الجهل.
والعلم هو القضية المجزوم بها، وهي واقعة وعليها دليل، على عكس الجهل الذي هو قضية مجزوم بها وليس عليها دليل.
والظن هو تساوي نسبتين في الإيجاب والسلب، بحيث لا تستطيع أن تجزم بأي منهما ؛ لأنه إن رجحت كفة كانت قضية مرجوحة، والقضية المرجوحة هي شك أو ظن أو وهم. فالظن هو ترجيح النسب على بعضها. والشك هو تساوي الكفتين.
وقول الحق سبحانه :﴿ وما يتبع أكثرهم إلا ظنا.. ( ٣٦ ) ﴾ يبين لنا أن الذين كانوا يعارضون رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلوا ذلك إما عنادا-رغم علمهم بصدق ما يبلغ عنه، وإما أنهم يعاندون عن غير علم، مصدقا لقول الحق سبحانه :﴿ بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه.. ( ٣٩ ) ﴾[ يونس ] : وكان الواحد منهم إذا تمعن في البلاغ عن الله تعالى والأدلة عليه، يعلن الإيمان، لكن منهم من تمعن في الأدلة وظل على عناده، والذين اتبعوا الظن إنما اتبعوا ما لا يغني من الحق شيئا.
لذلك يبين لهم الحق سبحانه أنه عليم بخفايا نفوسهم، ويعلم إن كل إنكارهم للإيمان نابعا من العناد أو من العجز عن استيعاب قضية الإيمان ؛ لذلك يقول الحق سبحانه :﴿ إن الله عليم بما يفعلون.. ( ٣٦ ) ﴾[ يونس ] : إذن : فقد علم الله سبحانه أزلا أن بعضهم في خبايا نفوسهم يوقنون بقيمة الإيمان، لكنهم يجحدونها، مصدقا لقول الحق سبحانه :﴿ قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون( ٣٣ ) ﴾[ الأنعام ] : إذن : فالحق سبحانه وتعالى عليم، ولا يخفى عليه أنهم كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه، وبعضهم لم يفهم قيمة الإيمان، ومن علم منهم قيمة الإيمان جحدها، عنادا واستكبارا.
يقول الحق سبحانه :﴿ وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا.. ( ١٤ ) ﴾[ النمل ].
١ الظن كما أنه الشك فإنه أيضا يقين إلا أنه ليس بيقين عيان، إنما هو يقين تدبر، فأما يقين العيان فلا يقال فيه إلا علم، وهو يكون اسما ومصدرا، وجمع الظن: ظنون. قال تعالى:﴿وتظنون بالله الظنونا..(١٠)﴾[الأحزاب][اللسان العرب: مادة (ظن)]..
وبعد ذلك يقول الحق سبحانه :
﴿ وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين( ٣٧ ) ﴾ :
وحين تستمع للقرآن وما فيه من سر الأعداد والإخبار بالمغيبات التي لا تخضع لمنطق الزمان، ولا لمنطق المكان، فالفطرة السليمة توق أن هذا القرآن لا يمكن أن يفترى، بل لا بد أن قائله ومنزله عليم خبير ؛ لأن القرآن جاء مصدقا لما بين يديه من الكتب السابقة.
أي : أن ما به دائما هو أمام الناس، أو مواجه لهم، وهو كتاب مصدق للكتب السابقة من قبل تحريفها كالتوراة والإنجيل والزبور( ١ )، وهي الكتب التي سبقت القرآن نزولا، لا واقعا، فجاء القرآن مصدقا لها.
أي : هي تصدقه، وهو يصدقها من قبل تحريفها، وهي الكتب التي بشرت بمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا، مثلما جاء في القرآن عن تصديق عيسى عليه السلام بمجيء محمد عليه الصلاة والسلام :﴿ ومبشرا برسول يأتي من بعده اسمه أحمد.. ( ٦ ) ﴾[ الصف ] : فلما جاء أحمد ( محمد صلى الله عليه وسلم ) ونزل عليه القرآن صدق الإنجيل في قوله هذا، وما جاء في القرآن من عقائد أصيلة هي عقائد جاءت بها كل الكتب السماوية، فالحق سبحانه يقول :﴿ إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داوود زبورا( ١٦٣ ) ﴾[ النساء ]، ويقول الحق سبحانه :﴿ شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه.. ( ١٣ ) ﴾[ الشورى ] : إذن : فهنالك أصول جاءت بها كل الكتب السماوية، وهناك كذلك أخبار أخبرت عن حدوثها الكتب السماوية، وأبلغنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقرآن وفيه تلك الأخبار، فمن أين جاء محمد صلى الله عليه وسلم بتلك العقائد الصحيحة، وتلك الأخبار الموجودة في الكتب السابقة، وهو صلى الله عليه وسلم لم يكن من أهل الكتاب، ولا علم منهم شيئا( ٢ ) ؟
إذن : فعندما يقول محمد صلى الله عليه وسلم ما جاء ذكره في الكتب السابقة على القرآن، فهذه الكتب مصدقة لما جاء به محمد صلى اله عليه وسلم ؛ لأن هذه الأخبار قد وقعت، وهذا تأكيد لصدقه ؛ لأنه بشهادة أهل زمانه لم يجلس إلى معلم، ولم يقرأ كتابا، وتاريخه وسيرته معروفة ؛ لأنه من أنفسكم، ولم يعلم عنه أنه قد زاول كلاما بليغا، أو خطب في قوم قبل الرسالة، أو قال شعرا.
وبعد ذلك فوجئ هو-كما فوجئتم أنتم-بمجيء هذا البيان الرائع، فمن أين جاء به ؟
أنتم تقولون إنه هو الذي جاء به، لكنه صلى الله عليه وسلم ينسب الرفعة لصاحبها، ويعلن أنه صلى الله عليه وسلم مبلغ فقط، فيقول ما أمره الله به أن يقوله :﴿ قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون( ١٦ ) ﴾[ يونس ].
ويحض القرآن الكريم النبي صلى الله عليه وسلم أن يسألهم : هل لاحظوا على كلماته-من قبل- البلاغة والفصاحة أو الشعر ؟ !
ولننظر في " ماكنات " ( ٣ ) القرآن الكريم، وهي الآيات التي يقول فيها الحق سبحانه :﴿ وما كنت ﴾ مثل قوله سبحانه :﴿ ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم( ٤ ) أيهم يكفل مريم.. ( ٤٤ ) ﴾[ آل عمران ] : وهذا أمر ثابت في الأخبار، وقوله الحق سبحانه :﴿ وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين( ٤٤ ) ﴾[ القصص ] : والوحي إلى موسى-عليه السلام- والمكان الذي نزل فيه ذلك الوحي أمر ثابت في الأخبار.
وقول الحق سبحانه :﴿ ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر وما كنت ثاويا في أهل مدين( ٥ ) تتلو عليهم آياتنا ولكن كنا مرسلين( ٤٥ ) ﴾[ القصص ] : وكثير من هذه الآيات تجعل محمدا صلى الله عليه وسلم وكأنه يسأل المعاصرين له : كيف أخبرت بوقائع وأخبار لم أكن موجودا في زمانها أو مكانها ؟
لابد-إذن- أن الله الحق-سبحانه-هو الذي أخبرني بما وافق ما عندكم من أخبار.
وبعد ذلك جاء القرآن الكريم مصدقا لما بين يديه :﴿ فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه.. ( ٩٧ ) ﴾[ البقرة ] : أي : أنه الكتاب الذي يضم صدق كل حدث قادم ؛ لأن القرآن خرق حجب وحجز الماضي والمستقبل.
ونحن نعلم أن الأشياء الغيبية تحدث بسببين ؛ الأول : أن يتكلم عن شيء سبق الزمان الذي نزل فيه، فهو يتكلم في الماضي الذي لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الاطلاع والتعلم ليعرفه ويعلمه.
وكذلك خرق القرآن الكريم حجب الحاضر الذي عاصر نزوله، هذا الحاضر الذي قد يكون محجوبا بالمكان.
وأضرب هذا المثل-ولله المثل الأعلى- فقد يحدث حادث في الإسكندرية في نفس الوقت الذي تكون أنت فيه موجودا بالقاهرة، وأنت لا تعلم هذا الحدث ؛ لأنه محجوب عنك ببعد المكان، وحاجز المكان يتمثل-غالبا- في الأمور الحاضرة، أما أمور المستقبل فهي محجوبة عنا بالزمان والمكان معا.
وحين يخبرنا القرآن بحدث ماض لم يشهده رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يتعلمه، ولم يقرأ عنه ؛ إذن : فالقرآن إنما يخرق أمامنا حجاب الزمن الماضي. وإذا أخبر القرآن بحدث حاضر في غير مكان نزوره على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا خرق لحجاب المكان مثل قول الحق سبحانه :﴿ ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول.. ( ٨ ) ﴾[ المجادلة ] : وحين سمع المنافقون والكفار هذا القول الكريم، لم ينكروا أنهم قالوا في أنفسهم ما جاء به القرآن، وهكذا خرق القرآن حاجز المكان في أنفسهم هم.
إذن : فأخبار الغيب في القرآن إما خرق لزمان ماض أو خرق لزمان الحال، وإما خرق لزمان ومكان الاستقبال.
ونحن نعلم أن القرآن كان ينزل والمسلمون ضعاف، لا يستطيعون حماية أنفسهم، ولا أحد يجير على أحد، ويتجه النبي صلى الله عليه وسلم على الطائف ليعرض الإسلام على أهلها، لعله يلتمس لهم مجيرا من أهل الطائف ؛ ولكنه صلى الله عليه وسلم لا يجد إلا الإيذاء والإعراض( ٦ )، ويوصي بعضا من صحابته أن يهاجروا على الحبشة( ٧ ). وفي ظل كل هذه الأزمات، ينزل قول القرآن :﴿ سيهزم الجمع ويولون الدبر.. ( ٤٥ ) ﴾[ القمر ] : حتى إن عمر بن الخطاب-رضي الله عنه-يتساءل : أي جمع هذا الذي يهزم، ونحن غير قادرين على حماية أنفسنا ؟ ثم تأتي غزوة بدر ويشهد عمر هزيمة وفرار مقاتلي قريش ؛ فيرى رأى العين صدق ما جاء به الوحي من قبل( ٨ ).
وهكذا تأكد الجميع أن القرآن الكريم غير مفترى، فكيف يتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه افتراه ؟
وإذا كان هذا القرآن مفترى، فلماذا لا تفترون مثله ؟ وفيكم الشعراء والبلغاء والخطباء ؟ ! ولم يقل محمد صلى الله عليه وسلم أنه بليغ أو خطيب أو شاعر، ولم يطلب القرآن الكريم منهم أن يأتوا بواحد مثل محمد صلى الله عليه وسلم، لا صلة له بالبلاغة أو الفصاحة، بل يطلب منهم أن يأتوا بالفصحاء كلهم، ويدعوهم أن يقولوا مثل آية واحدة من القرآن.
وإن قالوا : إن ما جاء به هو السحر، وإن محمدا ساحر قد سحر العبيد والضعاف، وأدخلهم في الإسلام، فلماذا لم يسحركم محمد ؟
إن بقاءكم من غير سحر يدل على أن إطلاقكم كلمة السحر على ما جاء به دعوى كاذبة.
ثم يقول الحق سبحانه :﴿ وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين.. ( ٣٧ ) ﴾[ يونس ] : فالقرآن قد جاء فيه تفصيل كل الأحكام الصالحة على قيام الساعة، أما الكتب السابقة على القرآن فكانت تضم الأحكام المناسبة لزمانها، ولأمكنة نزولها.
وهو كتاب ﴿ لا يرب فيه ﴾ أي : لا شك فيه، يكشف الكفار، ويفضح ارتيابهم وكذبهم، فهم قد اعترفوا بعظمة القرآن وقالوا :﴿ لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم.. ( ٣١ ) ﴾[ الزخرف ] : إذن : فهم قد عرفوا أن القرآن لا عيب فيه، ولا ريب، حتى من الكافرين به. ويأتي الرد على قولهم بالافتراء، في قول الحق سبحانه :
﴿ أم يقولن افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين( ٣٨ ) ﴾ :
١ الزبور: هو كتاب داود عليه السلام. وأصله: كل كتاب مزبور أي: مكتوب. قال تعالى:﴿ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبورا..(٥٥)﴾[الإسراء]..
٢ من وفي هذا يقول الحق سبحانه:﴿وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لأرتاب المبطلون(٤٨)﴾[العنكبوت]..
٣ "ماكنات" القرآن هي الآيات التي وردت فيها لفظة:﴿ما كنت﴾، وهذا في إحدى عشرة آية هي:[آل عمران: ٤٤]، [هود: ٤٩]، [يوسف: ١٠٣]، [قصص: ٨٦، ٤٦، ٤٥، ٤٤]،[العنكبوت: ٤٨]،[الشورى: ٥٨]..
٤ الأقلام هنا: القداح، وهي قداح جعلوا عليها علامات يعرفون بها من يكفل مريم على جهة القرعة، وإنما قيل للقدح: القلم لأنه يقلم أي: يبرى.[اللسان مادة: قلم]..
٥ ثاويا: مقيما، ومدين: قرية شعيب عليه السلام..
٦ كان هذا بعد وفاة عمه أبي طالب، الذي كان مدافعا عنه، حاميا له من أذى المشركين، ولكن أهل الطائف قعدوا له صلى الله عليه وسلم صفين على طريقه، وجعلوا لا يرفع رجليه ولا يضعهما إلا ضربوهما بالحجارة حتى أدموا رجليه.[دلائل النبوة للبيهقي٢/٤١٥]. عند ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اللهم إني اشكوا إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي". منحه الله الإسراء فوق العقل البشري، والمعراج فوق الفوق؛ وذلك لحمايته له ورعايته لدينه..
٧ عن أم سلمة أنها قالت:"لما ضاقت علينا مكة، وأوذي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفتنوا ورأوا ما يصيبهم من البلاء والفتنة في دينهم، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يستطيع دفع ذلك عنهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في منعة من قومه ومن عمه، لا يصل إليه شيء مما يكره مما ينال أصحابه، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن بأرض الحبشة ملكا لا يظلم أحد عنده، فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجا ومخرجا مما أنتم فيه" حديث طويل أخرجه البيهقي في دلائل النبوة(٢/٣٠١) وأورده ابن هشام في السيرة بنحوه (١/٣٢١)..
٨ عن عكرمة قال: لما نزلت:﴿سيهزم الجمع ويولون الدبر(٤٥)﴾[القمر] قال عمر: أي جمع يهزم؟ أي: أي جمع يغلب؟ قال عمر: فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يثب في الدرع وهو يقول:﴿سيهزم الجمع ويولون الدبر(٤٥)﴾[القمر] فعرفت تأويلها يومئذ. ذكره ابن كثير في تفسيره (٤/٢٦٦) وعزاه لابن أبي حاتم..
وقد سبق هذا المجيء بالتحدي أسباب عجزهم عن النجاح في التحدي ؛ لأن الآية السابقة تقرر أن الكتب السماوية السابقة تصدق نزول القرآن الكريم، وبينها وبين القرآن تصديق متبادل.
فهم مهزومون فيه قبل أن ينزل.
ويقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ قل فأتوا بسورة مثله.. ( ٣٨ ) ﴾[ يونس ] : وقد جاء التحدي مرة بالكتاب في قوله الحق سبحانه :﴿ قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا( ٨٨ ) ﴾[ الإسراء ] : ولم يستطيعوا، فنزلت درجة التحدي ؛ وطالبهم أن يأتوا :﴿ بعشر سور مثله مفتريات.. ( ١٣ ) ﴾[ هود ] : فلم يستطيعوا الإتيان بعشر سور، فطالبهم أن يأتوا بسورة تقترب-ولو من بعيد- من أسلوب القرآن، فلم يستطيعوا﴿ فأتوا بسورة مثله.. ( ٢٣ ) ﴾[ البقرة ] : فكيف-إذن-من بعد كل ذلك يدعون أن محمدا صلى الله عليه وسلم قد افترى القرآن، وهو صلى الله عليه وسلم لم تكن له صلة بالأساليب البلاغية أو الفصاحة ؟ !
لقد دعاكم أن تأتوا بكل الفصحاء والبلغاء ليفتروا، ولو سورة من مثله، ووضع شرطا فقال :﴿ وادعوا من استطعتم من دون الله.. ( ٣٨ ) ﴾[ يونس ] : لأن الله سبحانه وتعالى هو القادر الوحيد على أن ينزل قرآنا ؛ لذلك دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعوا الشركاء ؛ وذلك حتى لا يقول الكفار وبعضهم من أهل اللجاجة( ١ ) : سندعو الله ؛ ولذلك يأتي القرآن بالاستثناء ﴿ وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين.. ( ٣٨ ) ﴾. وهم بطبيعة الحال غير صادقين في هذا التحدي.
والله-سبحانه وتعالى-حين يرسل رسولا إلى قوم ؛ ليعلمهم منهجه في حركة الحياة، إنما يريد سبحانه أن تؤدي حركة الحياة على الغاية المطلوبة من الإنسان الخليفة في الأرض ؛ ولذلك يأتي الرسول من جنس المرسل إليهم ؛ ليكون أسوة لهم ؛ لأن الرسول إن جاء ملكا لما صحت الأسوة، بل لابد أن يكون بشرا( ٢ ).
والحق سبحانه لا يرسل أي رسول إلا ومعه بينة ودليل صدق على أنه رسول يبلغ عن الله تعالى.
والبينة لا بد أن تكون من جنس نبوغ ( ٣ )القوم، فلا يأتي لهم بمعجزة في شيء لم يعرفوه ولم يألفوه ؛ حتى لا يقولوا : لو تعلمنا هذا لجئنا بمثل ما جاء.
وقد جاء القرآن ليثبت عجزهم عما نبغوا فيه من صناعة الكلام ؛ شعرا ونثرا وخطابة.
وكان القرآن هو معجزة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوم فصحاء يعقدون لشعر أسواقا، ويعلقون الفائز من هذا الشعر على جدران الكعبة شهرة له وشهادة به.
إذن : فهم أصحاب دراية بصناعة الكلام، وجاءت المعجزة مع الرسول صلى الله عليه وسلم من جنس ما نبغوا فيه ؛ لتتحداهم. والتحدي يستدعي استجماع قوة الخصم ؛ ليرد على هذا المتحدي، فإذا عجز مع التحدي، يصير العجز ملزما.
وقد تحدى الحق سبحانه العرب جميعا بالقرآن كله :﴿ قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا( ٤ )( ٨٨ ) ﴾[ الإسراء ] : فلم يستطيعوا أن يأتوا بمثله، فتدرج القرآن معهم في التحدي فطلب منهم ما هو أقل من ذلك، وهو أن يأتوا بعشر سور مثله في قوله تعالى :﴿ قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات.. ( ١٣ ) ﴾[ هود ]، ثم تحداهم بالإتيان بمثل سورة من القرآن. وعند التأمل نجد أن الأسلوب الذي جاء بطلب سورة كان على لونين : فمرة يقول :﴿ بسورة مثله.. ( ٣٨ ) ﴾[ يونس ]، ومرة يقول :﴿ بسورة من مثله.. ( ٢٣ ) ﴾[ البقرة ]، وكل من اللونين بليغ في موضعه ف﴿ بسورة مثله.. ( ٣٨ ) ﴾ تبين أن المثلية هنا محققة، أي : مثل ما جاء من سور القرآن. وقوله :﴿ بسورة من مثله.. ( ٢٣ ) ﴾[ البقرة ] : أي : سورة من مثل محمد-صلى الله عليه وسلم-في أنه لم يجلس على معلم، ولم يقرأ، ولا عرف عنه أنه تكلم بالبلاغة في أي فترة من مراحل حياته قبل الرسالة( ٥ ).
وقال الحق سبحانه :﴿ قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون( ١٦ ) ﴾[ يونس ]، إذن :﴿ بسورة من مثله.. ( ٢٣ ) ﴾[ البقرة ] : أي : مثل محمد صلى الله عليه وسلم الذي لم يتعلم وكان أميا، ولكن لماذا يأتي هذا اللون من التحدي ؟ لأنهم قالوا إن القرآن :﴿ أساطير( ٦ ) الأولين اكتتبها( ٧ ) فهي تملى عليه بكرة وأصيلا( ٥ ) ﴾[ الفرقان ]. بل واتهموه في قمة غفلتهم أنه يتعلم من رجل كان بمكة، فيلفتهم القرآن إلى أن الرجل-الذي قالوا إنه معلم للرسول صلى الله عليه وسلم-كان أعجميا غير عربي، يقول الحق سبحانه :﴿ لسان الذي يلحدون( ٨ ) إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين( ١٠٣ ) ﴾[ النحل ]. ويزيد الحق سبحانه أن يصنفهم،
١ اللجاجة: التمادي في الجدال والمراء..
٢ لذلك قال رب العزة:﴿قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا(٩٥)﴾[الإسراء] فالرسول يكون من جنس من أرسل إليهم،﴿ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون(٩)﴾[الأنعام]..
٣ النبوغ: الإجادة والبراعة في علم أو فن معين.[المعجم الوسيط]..
٤ الظهير: المعين والمساعد. قال تعالى:﴿فلا تكونن ظهيرا للكافرين..(٨٦)﴾[القصص]. وذهب بعض العلماء إلى أن التحدي كان مقصودا به الإنس فقط دون الجن، لأن الجن ليسوا مكن أهل اللسان العربي، وإنما ذكرهم الله في الآية تعظيما لإعجاز القرآن، لأن عجزهما معا عن أن يأتوا بمثله دليل على أن الفريق الواحد منهم أعجز.[انظر: البرهان في علوم القرآن-للزركشي ٢/١١١]..
٥ وفي تفسير هذه الآية قول ثالث ذكره القرطبي في تفسيره(١/٢٧٧) فقال:"من مثله..(٢٣)}[البقرة] أي: من مثل التوراة والإنجيل. فالمعنى: فأتوا بسورة من كتاب مثله فإنها تصدق ما فيه" وكل من هذه الأقوال صواب ومحتمل..
٦ الأساطير: جمع أسطورة. أي: مما سطره الأولون وكتبوه. والأساطير أيضا: الأباطيل، وأحاديث باطلة لا أصل لها قد سطرها وألفها الأولون.[لسان العرب مادة: سطر]..
٧ اكتتبها: طلب من النساخ نسخها له..
٨ يلحدون إليه: يميلون إليه. واختلف المفسرون في تسمية هذا الرجل الذي قال المشركون أن محمدا صلى الله عليه وسلم تعلم منه، وليس المهم البحث عن اسمه. بل المهم أنه أعجمي فكيف يعلم محمدا صلى الله عليه وسلم هذا القرآن العربي..
فيقول بعد ذلك :
﴿ بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين( ٣٩ ) ﴾ :
وهذا الصنف من الناس الذين ﴿ كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه.. ( ٣٩ ) ﴾، وهم من أخذتهم المفاجأة حين حدثوا بشيء لا يعرفونه، والناس أعداء ما جهلوا ؛ فكذبوا ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من القرآن قبل أن يتبينوا جمال الأداء فيه، ونسق القيم العالية، وإذا ما سنحت لهم فرصة يتبينون فيها جمال الأداء، ودقة الإعجاز فهم يتجهون إلى الإيمان.
ومثال ذلك : عمر بن الخطاب-رضي الله عنه-فقد كان كافرا ثم علم أن أخته وزوجها قد أسلما ؛ فذهب إليها في منزلها وضربها، فأسال دمها، وسيل الدم من أخت بضربة أخيها مثير لعاطفة الحنان، وهذا ما حدث مع عمر ؛ فهدأت موجة عناده، فاستقبل القرآن بروح لا عناد فيها ؛ فذهب فآمن برسول الله صلى الله عليه وسلم( ١ )، وكان من قبل ذلك ممن :﴿ كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله.. ( ٣٩ ) ﴾ أي : لم يعرفوا مراميه، وبمجرد أن سمعوا عن رسالته صلى الله عليه وسلم فجأة، اتهموه بالكذب والعياذ بالله.
ولذلك اقرأ قول الحق سبحانه :﴿ ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا( ٢ ).. ( ١٦ ) ﴾[ محمد ] : وهذا يدل على أنهم لم يفهموا ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من القرآن، وتأتي الإجابة من الحق سبحانه وتعالى :﴿ قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر( ٣ ) وهو عليهم عمى.. ( ٤٤ ) ﴾[ فصلت ] : إذن : فالقرآن هدى لمن تتفتح قلوبهم للإيمان، أما القلوب المليئة بالبغض لقائله وللإسلام ؛ فهؤلاء لا يمكن أن يصح حكمهم.
وإن أراد أي منهم حكما صحيحا فليخرج من قلبه ما يناقض ما يسمع، ثم عليه أن يستقبل الأمرين ؛ ولسوف يدخل قلبه الأقوى حجة، وهو الإسلام.
إذن : فمن امتلأ قلبه بعقيدة كاذبة ؛ لا يمكن له أن يهتدي. :﴿ بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله.. ( ٣٩ ) ﴾[ يونس ] : والتأويل( ٤ ) هو ما يرجع الشيء إليه، وهذا يوضح لنا أن هناك أقضية من القرآن لم يأت تفسيرها بعد، ستفسرها الأحداث، وقد يقول القرآن الكريم قضية غيبية، ثم يأتي الزمن ليؤكد هذه القضية، هنا نعرف أن تأويلها قد جاء.
وهؤلاء القوم قد كذبوا من قبل أن يأتي لهم التأويل، وكان عدم مجيء التأويل هو السبب في تأخر بيان الحق في المسألة لتأخر زمنه.
وعلى سبيل المثال، ها هو ذا عمار بن ياسر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قامت المعركة بين معاوية بن أبي سفيان والإمام علي-رضي الله عنه- وقاتل عمار في صف علي، وقتل. هنا تنبه الصحابة إلى تأويل حديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال : ّويح عمار.. تقتله الفئة الباغية " ( ٥ ).
وهكذا جاء تأويل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما تحقق في الواقع، وكان هذا سببا في انصراف بعض الصحابة عن جيش معاوية.
وهنا يقول الحق سبحانه :﴿ ولما يأتهم تأويله.. ( ٣٩ ) ﴾[ يونس ] : أي : أن التأويل لم يظهر لهم بعد.
ومن أدوات النفي :" لم " مثل قولنا :" لم يجيء فلان "، ونقول أيضا :" لما يجيء فلان "، والنفي في الأولى جزم غير متصل بالحاضر، كأنه لم يأت بالأمس.
أما النفي ب " لما " فيعني أن المجيء منتف على ساعة الكلام، أي : الحاضر، وقد يأتي من بعد ذلك ؛ لأن " لما " تفيد النفي، وتفيد توقع الإثبات.
والحق سبحانه يقول :﴿ قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا.. ( ١٤ ) ﴾
[ الحجرات ] : وهؤلاء القوم من الأعراب قالوا :﴿ آمنا ﴾ رغم أنهم راءوا المسلمين وقلدوهم زيفا ونفاقا( ٦ )، ولم يكن الإيمان قد دخل قلوبهم بعد، وحين سمعوا قول الحق سبحانه :﴿ ولما يدخل الإيمان في قلوبكم.. ( ١٤ ) ﴾[ الحجرات ] : قالوا : الحمد لله ؛ لأن معنى ذلك أن الإيمان سوف يدخل قلوبهم.
وكذلك قول الحق سبحانه :﴿ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين( ١٤٢ ) ﴾[ آل عمران ] : فحين سمعوا ذلك قالوا : إذن وثقنا أنه سيأتي علم الله سبحانه بنا كمجاهدين وصابرين. وهكذا نعرف أن ﴿ لما ﴾ تعني أن المنفي بها متوقع الحدوث. والتأويل كما نعلم هو مرجع الشيء.
وقد جاء في القرآن الكثير من الأخبار لم تكن وقت ذكرها بالقرآن متوقعة، أو مظنة أن توجد. وحين وجدت ولا دخل لبشر في وجودها، فهذا يعني أن قائل هذا الكلام قد أخذه عمن يقدر على أن يوجد، مثلما جاء في خبر انتصار الروم على الفرس رغم هزيمة الروم.
قال الحق سبحانه :
﴿ غلبت الروم( ٢ ) في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون( ٣ ) في بضع( ٧ ) سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون( ٤ ) بنصر الله.. ( ٥ ) ﴾[ الروم ] : جاء هذا الخبر وانتظر المسلمون تأويله، وقد جاء تأويله طبقا لما أخبر القرآن. أو أن التأويل سيأتي في الآخرة، وما يؤول الأمر في التكذيب سيعلمونه من بعد ذلك.
والحق سبحانه يقول :﴿ ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون( ٥٢ ) هل ينظرون إلا تأويله.. ( ٥٣ ) ﴾[ الأعراف ] : هم ينتظرون ما يؤول إليه القرآن وما يؤولون إليه، إن كان في الدنيا فنصر أهل القرآن، وإن كان في الآخرة، فهذا قول الحق سبحانه :﴿ يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل.. ( ٥٣ ) ﴾[ الأعراف ] : هذا هو التأويل الذي كذبه البعض من قبل.
إذن : فالتأويل إما أن يكون لمن بقي من الكفار فيرى ما أخبر به القرآن وقد جاء على وفق ما أخبر به نبي لا يملك أن يتحكم في مصائر الأشياء، وتأتي على وفق ما قال.
فكأن محمد صلى الله عليه وسلم كان يجازف بأن يقول كلاما لا يتحقق ؛ فينصرف عنه الذين آمنوا به، ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يقل إلا ما هو واثق ومطمئن من وقوعه ؛ لأن الخبر به جاء من لدن عليم خبير.
وإما أن التأويل-أيضا- يأتي في الآخرة.
وهنا قال الحق سبحانه :﴿ بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتيهم تأويله.. ( ٣٩ ) ﴾[ يونس ] : والحق سبحانه هنا يلفت رسوله صلى الله عليه وسلم إلى أن ما حدث معه قد حدث مع رسل من قبله، فقال سبحانه في نفس الآية :﴿ كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين( ٣٩ ) ﴾[ يونس ] : أي : انظر لموكب الرسل كلهم من بدء إرسال الرسل، هل أرسل الله رسولا ونصر الكافرين به عليه ؟.. لا، لقد كانت الغلبة دائما لرسل الحق عز وجل مصداقا لقوله سبحانه :﴿ كتب الله لأغلبن أنا ورسلي.. ( ٢١ ) ﴾[ المجادلة ] : وعرفنا ما حدث للظالمين، فمنهم من أغرقه الله، ومنهم من خسف به الأرض، ومنهم من أخذه بالصيحة( ٨ ).
إذن : فالتأويل واضح في كل مواكب الرسل التي سبقت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وإذا كان كل قوم من الظالمين قد نالوا ما يناسب رسالة رسولهم، فسينال القوم الظالمين الكافرين برسالة محمد صلى الله عليه وسلم ما يناسب عمومية رسالته صلى الله عليه وسلم.
وحين يقول الحق سبحانه :﴿ فانظر كيف كان عاقبة الظالمين.. ( ٣٩ ) ﴾ لابد لنا أن نعرف معنى الظلم، إنه نقل الحق لغير صاحبه، والحقوق تختلف في مكانتها، فهناك حق أعلى، وحق أوسط، وحق أدنى.
فإذا جئت للحق الأدنى في أن تنقل الألوهية لغير الله سبحانه وتعالى فهذا قمة الظلم، والحق سبحانه يقول :﴿ إن الشرك لظلم عظيم( ٩ ).. ( ١٣ ) ﴾[ لقمان ] : لأن في هذا نقل الألوهية من الله سبحانه إلى غيره، ويا ليت غيره كان صاحب دعوة بينه وبين الله تعالى، لا، فليس ذلك المنقول له الألوهية بصاحب دعوة، بل تطوع الظالم من نفسه بذلك، واتخذ من دون الله شريكا لله، وفي هذا تطوع بالظلم بغير مدع.
وهب أن الله تعالى قال : لا إله إلا أنا، فإما أن القضية صحيحة، وإما أنها غير ذلك، فإن افترض أحد-معاذ الله-عدم صحتها، فالإله الثاني كان يجب أن يعلن عن نفسه، ولا يترك غيره يسمع له ويعلن عنه، وإلا كان إلها أصم غافلا، ولكن أحدا لم يعلن ألوهية غير الله سبحانه ؛ لذلك تثبت الألوهية الواحدة للإله الحق سبحانه وتعالى. وقد بين لنا الحق سبحانه : لا إله إلا أنا، أنا الخالق، أنا الرازق. ولم يصدر عن أحد آخر دعوى بأنه صاحب تلك الأعمال، إذن : فقد صحت الدعوى في أنه لا إله إلا الله.
والدرجة التالية في الظلم هي الظلم في الأحكام، فإذا حكم أحد بحل الربا فهذا ظلم في قضية كبيرة، ولكن إن حكم قاض على مدين بأن يرد الدين فقط فهذا عدل ؛ وكذلك القاضي الذي يظلم في أحكامه إنما ينقل حقوق الناس إلى غيرهم. إذن : فالظلم يأخذ درجات حسب الشيء الذي وقع فيه الظلم.
١ حديث إسلام عمر بن الخطاب ذكره ابن هشام في السيرة النبوية (١/٣٤٣-٣٤٦)..
٢ آنفا: من قبل، وقد نزلت هذه الآية في المنافقين كانوا يستمعون كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا خرجوا من عنده سألوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم استهزاء وإعلاما أنهم لم يلتفتوا إلى ما قال:﴿ماذا قال آنفا..(١٦)﴾[محمد] أي: ماذا قال سالفا وسابقا؟.[اللسان: مادة (أ ن ف)-بتصرف]..
٣ الوقر: ضعف السمع. وقيل: الصمم.[اللسان: مادة (وقر)]..
٤ التأويل والمعنى والتفسير واحد. وأصله ما يؤول إليه الشيء؛ ويقول تعالى:﴿هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله..(٥٣)﴾الأعراف] أي: أنهم ينتظرون تحقق العذاب ووقوعه..
٥ أخرجه البخاري في صحيحه(٤٤٧) ومسلم في صحيحه (٢٩١٥) بنحوه عن أبي سعيد الخدري، وتمامه أنه عند بناء المسجد النبوي، قال أبو سعيد:"كنا نحمل لبنة لبنة، وعمار لبنتين لبنتين. فرآه النبي صلى الله عليه وسلم، فينفض التراب عنه ويقول: ويح عمار تقتله الفئة الباغية يدعوهم على الجنة ويدعونه على النار"..
٦ من ذهب البخاري على أن هؤلاء الأعراب كانوا منافقين، وقد استدرك بعض العلماء هذا عليه فقالوا: إنهم كانوا مسلمين ولكنهم أول ما دخلوا في دين الإسلام ادعوا لأنفسهم مقام الإيمان ولم يكن الإيمان قد تمكن في قلوبهم بعد. انظر تفسير ابن كثير (٤/٢١٩، ٢١٨)..
٧ البضع: ما دون العشر، وأدنى الأرض: بين أذرعات وبصرى في الشام، وهي أقرب بلاد الشام إلى الجزيرة العربية.[تفسير ابن كثير: ٣/٤٢٢-٤٢٤]..
٨ قال تعالى:﴿فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون(٤٠)﴾[العنكبوت]. والحاصب: هي ريح شديدة البرد والهبوب تحمل حصباء الأرض فتلقيها على الناس وتقتلعهم من الأرض وقد عذب الله بها قوم ّعاد". أما الصيحة فقد عوقب بها قوم ثمود، وعوقب قارون بالخسف، أما فرعون وجنوده فقد عوقبوا بالغرق..
٩ العظمة للقيمة المنحرفة انحطاط، وللقيمة السوية رفعة..
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به وربك أعلم بالمفسدين( ٤٠ ) ﴾ :
والكلام هنا في الذين كذبوا، فكيف يقسم الله المكذبين-وهم بتكذيبهم لا يؤمنون- إلى قسمين : قسم يؤمن، وقسم لا يؤمن ؟
ونحن نعلم أن الإيمان عمل قلوب، لا عمل حواس، فنحن لا نطلع على القلوب، والحق سبحانه يعلم من من هؤلاء المكذبين يخفي إيمانه في قلبه.
إذن : فمن هؤلاء من يقول بالتكذيب بلسانه ويخفي الإيمان في قلبه، ومنهم من يوافق تكذيبه بلسانه فراغ قلبه من الإيمان، ومن الذين قالوا : إن هذا القرآن افتراء إنما يؤمن بقلبه أن محمدا رسول من الله، وصادق في البلاغ عن الله، ولكن العناد والمكابرة والحقد يدفعونه إلى أن يعلن عدم الإيمان. وكذلك منهم قسم آخر لا يؤمن ويعلن ذلك.
إذن : فالمسقم ليس هو الإيمان الصادر عن القلب والمعبر عنه باللسان، ولكن المقسم هو إيمان بالقلب غير معبر عنه، ولم يصل إلى مرتبة الإقرار باللسان. والذي جعل إيمان بعضهم محصورا في القلب غير معبر عنه باللسان وهو الحقد والحسد والكراهية وعدم القدرة على حكم النفس على مطلوب المنهج.
وبعض العرب حين أعلن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقولوا : لا إله إلا الله ؛ فيضمن لهم السيادة على الدنيا كلها( ١ ). ورفضوا أن يقولوا الكلمة ؛ لأنهم يعلمون أنها ليست كلمة تقال، بل فهموا مضمون ومطلوب الكلمة، وعرفوا أن " لا إله إلا الله " تعني : المساواة بين البشر، وهم يكرهون ألا تكون لهم السيادة والسيطرة في أقوامهم.
وهذا يدل أيضا على أن الحق سبحانه قد شاء أن يبدأ الإسلام في مكة، حيث الأمة التي تعلن رأيها واضحا ؛ ولذلك نجد أن النفاق لم ينشأ إلا في " المدينة "، أما في مكة، فهم قوم منسجمون مع أنفسهم، فهم حين أعلنوا الكفر، ولم يعانوا من تشتت الملكات، لكن المنافقين في المدينة وغيرها هم الذين كانوا يعانون من تشتت الملكات، ومنهم من كان يلعب على الطرفين، فيقول بلسانه ما ليس في قلبه.
ولذلك يعزي الحق رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم ويسري( ٢ ) عنه ويبين له : إياك أن تحزن لأنهم يكذبونك ؛ لأنك محبوب عندهم وموقر، فيقول الحق سبحانه ﴿ قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك.. ( ٣٣ ) ﴾ [ الأنعام ] : أي : أنك يا محمد منزه عن الكذب ؟
ويقول الحق سبحانه :﴿ ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون( ٣ ).. ( ٣٣ ) ﴾[ الأنعام ]. أي : أنه سبحانه يحملها عن رسوله صلى الله عليه وسلم ؛ لأن الحق سبحانه يعلم أن رسوله أمين عند قومه، وهم في أثناء معركتهم معه، نجد الواحد منهم يستأمنه على أشيائه النفيسة( ٤ ).
والذين آمنوا برسالته صلى الله عليه وسلم ولم يعلنوا إيمانهم، والذين لم يؤمنوا، هؤلاء وأولئك أمرهم موكول إلى الله تعالى ؛ ليلقوا حسابهم عند الخالق سبحانه ؛ لأنه سبحانه الأعلم بمن كذب عنادا، ومن كذب إنكارا.
والحق سبحانه هو الذي يعذب ويعاقب، وكل إنسان منهم سوف يأخذ على قدر منزلته من الفساد ؛ لذلك ينهي الحق سبحانه الآية بقوله :﴿ وربك أعلم بالمفسدين.. ( ٤٠ ) ﴾[ يونس ] : والمفسد كما نعلم هو الذي يأتي إلى الشيء الصالح فيصيبه بالعطب( ٥ ) ؛ لأن العالم مخلوق قبل تدخل الإنسان-على هيئة صالحة، وصنعة الله سبحانه وتعالى-لم يدخل فيها الفساد إلا بفعل الإنسان المختار، وصنعة الله يؤدي مهمتها كما ينبغي لها.
وأنت أيها الإنسان إن أردت أن يستقيم لك كل أمر في الوجود، فانظر إلى الكون الأعلى الذي لا دخل لك فيه، وستجد كل ما فيه مستقيما مصدقا لقول الحق سبحانه :﴿ والسماء رفعها ووضع الميزان( ٧ ) ألا تطغوا في الميزان( ٨ ) وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان( ٦ ) ( ٩ ) ﴾[ الرحمن ] : أي : أتقنوا أداء مسئولية ما في أيديكم وأحسنوه كما أحسن الله سبحانه ما خلق لكم بعيدا عن أياديكم، والمطلوب من الإنسان-إذن-أن يترك الصالح على صلاحه، إن لم يستطع أن يزيده صلاحا ؛ حتى لا يدخل في دائرة المفسدين.
١ فقد قال له عمه أبو طالب: يا ابن أخي ما تريد من قومك؟ قال: إني أريد منهم كلمة واحدة تدين لهم بها العرب، وتؤدي إليهم العجم الجزية. قال: كلمة واحدة؟ قال : كلمة واحدة. قال: " يا عم يقولوا: لا إله إلا الله" أخرجه احمد في مسنده (١/٢٢٧) والترمذي في سننه (٣٢٣٢) وقال حديث حسن..
٢ يسري عنه: يكشف عنه الهم والحزن.[اللسان: مادة (سرى)]..
٣ الجحود: نقيض الإقرار، قال الجوهري: الجحود الإنكار مع العلم. قال تعالى:﴿وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا..(١٤)﴾[النمل] [اللسان: مادة (جحد)]..
٤ ذكره ابن هشام في السيرة النبوية (٢/٤٨٥) نقلا عن ابن إسحاق ثم قال:"وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بمكة أحد عنده شيء يخشى عليه إلا وضعه عنده، لما يعلم من صدقه وأمانته صلى الله عليه وسلم"..
٥ العطب: الفساد والهلاك..
٦ تطغوا: من الطغيان، بمعنى الظلم، أي: اعدلوا في جميع أموركم وزنوا الأمور والأشياء بميزان العدل، ولا يظلم بعضكم بعضا. والقسط: العدل.[اللسان: مادة (قسط).. بتصرف]..
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون( ٤١ ) ﴾ :
وهذه آية تضع الاطمئنان في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يقل الله سبحانه :" إذا كذبوك " بل قال :﴿ إن كذبوك.. ( ٤١ ) ﴾ وشاء الحق سبحانه أن يأتي بالتكذيب في مقام الشك، وأتبع ذلك بقوله للنبي صلى الله عليه وسلم :﴿ فقل لي عملي ولكم عملكم.. ( ٤١ ) ﴾ أي : أبلغهم : أنا لا أريد أن أحملكم على ما أعمل أنا، إنما أريد لكم الخير في أن تعملوا الخير، فإن لم تعملوا الخير ؛ فهذا لن يؤثر في حصيلتي من عملي.
وبذلك يتضح لنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يجازى على عدد المؤمنين به، بل بأداء البلاغ كما شاءه الله سبحانه( ١ ).
وقد شاء الحق سبحانه أن ينقل محمد صلى الله عليه وسلم الخير إلى أمته، فإن ظلوا على الشر ؛ فهذا الشر لن يناله لأن خير البلاغ بالمنهج يعطيه صلى الله عليه وسلم خيرا، لأنه يطبقه على نفسه، وشر الذين لا يتبعونه إنما يعود عليهم ؛ لأن الذين يتأبون على الاستجابةلأي داع إنما يظنون أن الداعي سوف يستفيد( ٢ ).
والبلاغ عن الله، إنما يطبقه الرسول صلى الله عليه وسلم منهجا وسلوكا ويجازى عليه( ٣ ). فلا يجوز الخلط في تلك المسائل ﴿ لي عملي ولكم عملكم.. ( ٤١ ) ﴾.
ثم يقول الحق سبحانه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم :﴿ أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون.. ( ٤١ ) ﴾[ يونس ] : وكلمة ﴿ بريء ﴾ تفيد أن هناك ذنبا، وهذا القول الحق فيه مجاراة للخصوم، وشاء الحق سبحانه أن يعلم رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أدب الحوار والمناقشة، فيقول :﴿ وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين( ٢٤ ) ﴾[ سبأ ]. أي : أننا-الرسول ومعه المؤمنون-وأنتم أيها الكافرون إما على هدى، أو في ضلال. والرسول صلى الله عليه وسلم موقن أنه على هدى وان الكافرين على الضلال، ولكنه يجاريهم ؛ عدالة منه صلى الله عليه وسلم ومجاراة لهم.
كذلك يعلمه ربه سبحانه أن يقول :﴿ قل لا تسألون عما أجرمنا.. ( ٢٥ ) ﴾[ سبأ ] : أي : أنه يبين لهم : هبوا أني أجرمت فأنتم لن تسألوا عن إجرامي، ومن أدب الرسول صلى الله عليه وسلم شاء له الحق سبحانه أن يقول :﴿ ولا نسأل عما تعملون( ٢٥ ) ﴾[ سبأ ]
ولم يقل :" ولا نسأل عما تجرمون ". وكذلك شاء الحق سبحانه أن تأتي هنا في هذه الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها :﴿ أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون.. ( ٤١ ) ﴾[ يونس ].
١ ومما يدل على هذا أن نوحا مكث في قومه يدعوهم ألف سنة غلا خمسين عاما، ورغم هذا قال عنه رب العزة:﴿وما آمن معه إلا قليل..(٤٠)﴾[هود] واختلفوا في عدة من آمن معه بين عشرة أنفس، وثمانين نفسا من بينهم أبناؤه. انظر تفسير ابن كثير (٢/٤٤٥)..
٢ ولذلك كان نوح يقول لقومه:﴿ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله..(٢٩)﴾[هود]، وهود يقول لقومه عاد:﴿يا قوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني أفلا تعقلون(٥١)﴾[هود] وهكذا قال صالح لقومه ثمود:﴿وما أسألكم عليه من أجر إن اجري إلا على رب العالمين(١٤٥)﴾[الشعراء]ن ولوط لقومه:﴿وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين(١٦٤)﴾[الشعراء]، وشعيب لقومه أهل مدين:﴿وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين(١٨٠)﴾[الشعراء]..
٣ فالرسول مكلف ببلاغ ما أرسل به، لا يزيد ولا ينقص، ولذلك يقول رب العزة عن نبيه صلى الله عليه وسلم:﴿ولو تقول علنا بعض الأقاويل(٤٤) لأخذنا منه باليمين(٤٥) قم لقطعنا منه الوتين(٤٦) فما منكم من أحد عنه حاجزين(٤٧)﴾[الحاقة]..
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ ومنهم من يسمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون( ٤٢ ) ﴾ :
وكلمة " من " تطلق وقد يراد بها المفرد، وقد يراد بها المفردة، وقد يراد بها المثنى، وقد يراد بها الجمع، ومرة يطابق اللفظ فيقول سبحانه :﴿ ومنهم من يستمع إليك.. ( ٢٥ ) ﴾[ الأنعام ]، ومرة يقصد المعنى فيقول :﴿ ومنهم من يستمعون.. ( ٤٢ ) ﴾[ يونس ] : لأن ﴿ من ﴾ صالحة للموقعين.
والسماع كما نعلم هو استقبال الأذن للصوت، فإن كان صوتا مبهما كأصوات الحيوانات أو أصوات الأعواد، فهذه الأصوات لا تفيد إلا ما تفيده النغمة في الجسم من هزة أو ارتجاج.
وإما أن يكون الصوت له معنى تواضعي، كاللغات المختلفة التي يتخاطب بها الناس في البلدان المختلفة، فإن تكلمت بالإنجليزية في بلد يتكلم أهله بهذه اللغة فهموك وفهمت عنهم. هذا هو معنى التواضع في اللغة، أي : أن المتكلم والسامع على درجة واحدة من الاتفاق على اللغة.
والنبي صلى الله عليه وسلم عربي يتحدث بلسان عربي مبين لقوم من العرب، فما العائق عن السمع إذن ؟ إن العائق عن السمع نفض الأذن لما يأتي من جهة الخصم، والسماع-كما نعلم-هو استشراف المخاطب إلى ما يفهم من المتكلم، فإن لم يوجد عند المخاطب استشراف إلى أن يسمع، فالكلام يقال ولا يصل.
إذن : لا بد للسامع من حالة الاستشراف إلى فهم ما يقوله المتكلم. وكما يقول المثل :" أذن منطين وأخرى من عجين ". أو كما تقول المزحة أو واحدا مال على أذن صديق له وقال :" أريد أن أقول لك سرا " فاقترب الصديق مستشرفا سماع السر، فقال الرجل :" أريد مائة جنيه كقرض " ؛ فقال الصديق :" كأني لم أسمع هذا السر ".
إذن : فالكلام ليس مجرد صوت يصل على الأذن، لكن لا بد من استشراف نفسي للتلقي. وهم لا يملكون هذا الاستشراف ؛ لذلك قال الحق سبحانه :﴿ أفأنت تسمع الصم.. ( ٤٢ ) ﴾أي : كأن سمعهم لا يسمع.
ومثال ذلك : أننا نجد المدرس الذي يشرح الدرس للتلاميذ، وبين التلاميذ من يستشرف السمع ؛ ولذلك يفهم الدرس، أما الذي لا يستشرف فكأنه لم يسمع الدرس.
وهم قد فاتوا الصم ؛ لأن الأصم قد يفهم بالحركة أو الإشارة أو لغة العين، ولكن هؤلاء لا يسمعون ولا يعقلون ﴿ أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون.. ( ٤٢ ) ﴾ ]يونس ].
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون( ٤٣ ) ﴾ :
والرؤى أيضا تحتاج على استشراف، وأن يقبل المرء على ما يريد أن يراه، وأحيانا لا يكون الرائي مستشرفا ؛ لأن قلبه غير متوجه للرؤية.
وسئل واحد : إنك تقول : ومن رأى فلانا الصالح( ١ ) يهده الله. فرد عليه السامع متسائلا : كيف تقول ذلك ؟ ! فرد القائل : لقد رأى أبو جهل خيرا من هذا، ومع ذلك ظل كافرا. فرد السامع : إن أبا جهل لم ير محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه رأى يتيم أبي طالب( ٢ ).
وهكذا شرح الرجل أن أبا جهل لم ينظر إلى محمد صلى الله عليه وسلم على أنه رسول ؛ لأنه لو نظر إليه بهذا الإدراك لتسللت إليه سكينة الإيمان وهيبة الخشوع وجلال الورع. ونحن قد نلقي رجلا صالحا في نشرته أدمة( ٣ ) أو سواد، وصلاحه يضيء حوله، وله أسر( ٤ ) من التقوى، وجاذبية الورع.
ولو أن أبا جهل رأى محمدا صلى الله عليه وسلم على انه رسول لتغير أمره.
وها هو " فضالة " ( ٥ ) يحكى عن لحظة أراد فيها أن يقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالبيت عام الفتح، فلما اقترب منه ؛ قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ماذا كنت تحدث به نفسك ؟ قال : لا شيء، كنت أذكر الله. قال : فضحك النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال : استغفر الله، ثم وضع يده على صدر فضالة.
وساعة سمع فضالة هذا، ورأى محمدا صلى الله عليه وسلم وهو يقول ذلك القول، قال : ما كان أبغض إلي من وجهه، ولكني أقبلت عليه فما كان أحب إلي في الأرض كلها من وجهه( ٦ ).
هذا هو السماع، وهذا هو البصر، وكلاهما-السمع والبصر-أكرم المتعلقات وأشرفها ؛ لأن السمع هو وسيلة الاستماع لبلاغ الله عنه، والإنسان قبل أن يقرأ لا بد له من أن يكون قد سمع. والمقصود هنا بالعمى في قول الحق سبحانه :﴿ أفأنت تهدي العمى ولو كانوا لا يبصرون( ٤٣ ) ﴾ هو عمى البصيرة.
١ إن رؤية الصالحين فيها جذب إيماني؛ لأن الرائي يرى نور الإيمان يناديه، فيلاقيه، ويلتقي به.
أما رؤية أبي جهل فهي رؤيا انقطاع إيماني؛ لأن استقباله للإيمان مقطوع، فلم ير نورا، ولم يحس به، وإنما كانت رؤيته من خلال الحقد الذي جعله لا يرى في رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا يتيما لابن أبي طالب، وذلك بخلاف موقف فضالة الذي أحس بالنور فأحبه..

٢ ذكر القرطبي في تفسيره(٤/٣٢٣٢) أن المشركين قالوا: ما وجد الله من يرسله إلا يتيم أبي طالب..
٣ الأدمة في الناس: السمرة الشديدة، وقيل: هي من أدمة الأرض، وهو لونها، **** أبو البشر-عليه السلام.[اللسان: مادة (أدم)]..
٤ الأسر: السمت الذي يستولى على مشاعر المحيطين به..
٥ هو: فضالة بن عمير بن الملوح الليثي..
٦ ذكره ابن هشام في السيرة النبوية (٤/٤١٧) بلفظ:"والله ما رفع يده عن صدري حتى ما من خلق الله شيء أحب إلي منه"..
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون( ٤٤ ) ﴾ :
كلمة " الله " هي اسم علم على واجب الوجود المتصف بكل صفات الكمال التي عرفناها في أسماء الله الحسنى التسعة والتسعين، وإن كان لله تعالى كمالات لا تتناهى ؛ لأن الأسماء أو الصفات التي يحملها التسعة والتسعون اسما لا تكفي كل كمالات الله سبحانه، فكمالاته سبحانه لا تتناهى.
ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم :" أسألك بكل اسم سميت به نفسك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك " ( ١ ).
وإن سأل سائل : ولماذا يستأثر الله سبحانه ببعض من أسمائه في علم الغيب ؟ أقول : حتى يجعل لنا الله سبحانه في الآخرة مزيدا من الكمالات التي لم نكن نعرفها ؛ ولذلك نجد الحق سبحانه يفتح على رسوله صلى الله عليه وسلم " من محامده وحسن الثناء عليه شيئا لم يفتحه على أحد قبله " ( ٢ ).
وهذا بعض من فيض لا ينفد من آفاق اسم علم على واجب الوجود، وصفات علم واجب الوجود، والتسعة والتسعون اسما التي نعلمها( ٣ ) هي اللازمة لحياتنا الدنيا، ولكننا سنجد في الآخرة صفات كمال أخرى، وكلمة " الله " هي الجامعة لكل هذه الأسماء، وعرفناها ؛ وما لم نعرفها.
والإنسان منا حين يقبل على عمل، فهذا العمل يتطلب تكاتف صفات متعددة، يحتاج إلى قدرة، وعلم، وحكمة، ولطف، ورحمة، غير ذلك من الصفات، فإن قلت : باسم القوي ؛ فأنت تحتاج إلى القوة، وإن قلت : باسم القادر ؛ فأنت تحتاج إلى القدرة، وإن قلت : باسم الحليم ؛ فأنت تحتاج إلى الحلم، وإن قلت : باسم الحكيم ؛ فأنت تحتاج إلى الحكمة، وإن قلت :" بسم الله " فهي تكفيك في كل هذا وغيره أيضا ؛ ولذلك يكون بدء الأعمال( ٤ ) ب " بسم الله "، فإذا احتجت إلى قدرة وجدتها، وإن احتجت إلى غنى وجدته، وإن احتجت إلى بسط( ٥ ) وجدته.
وكل الصفات الكمال أوجزها الحق سبحانه لنا في أن نقول :" بسم الله ". وحين تبدأ عملك باسم الله ؛ فأنت تقر بأن كل حول( ٦ ) لك موهوب من الله، والأشياء التي تنفعل لك، إنما تنفعل باسم الله، وكل شيء إنما يسخر لك باسم الله، وهو القائل :
﴿ أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون( ٧١ ) وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون( ٧٢ ) ﴾[ يس ] : ولو لم يذلل الله لنا الأنعام والأشياء لتنفعل لنا ما استطعنا أن نملكها، بدليل أن الله تعالى قد ترك أشياء لم يذللها لنا حتى نتعلم أننا لا نستطيع ذلك، لا بعلمنا، ولا بقدرتنا، إنما الحق سبحانه هو الذي يذلل.
فأنت ترى الطفل في الريف وهو يسحب الجمل، ويأمره بالرقود ؛ فيرقد، ويأمره بالقيام ؛ فيقوم. أما إن رأينا ثعبانا فالكثير منا يجري ليهرب، ولا يواجهه إلا من له دربة على قتله. والبرغوث الصغير الضئيل قد يأتي ليلدغك ليلا، فلا تعرف كيف تصطاده ؛ لأن الله لم يذلله لك.
وكذلك الثمرة على الشجرة إذا قطفتها قبل نضجها تكون غير مستساغة، أما إن قطفتها بعد نضجها فأنت تستمتع بطعمها، ثم تأخذ منها البذرة لتعيد زراعتها، وتضمن بقاء النوع، بل إن الثمرة تسقط من على الشجرة حين تنضج وكأنها تنادي من يأكلها.
وكذلك الإنسان حين يبلغ، أي : يصبح قادرا على أن ينجب غيره، فيكلفه الله بعد ذلك بالتكاليف الإيمانية ؛ لأنه لو كلفه قبل ذلك( ٧ ) ثم طرأت عليه مشاكل المراهقة ؛ فقد لا يستطيع أن يحتمل التكليف.
ولذلك شاء الحق سبحانه أن يخلق من عدم، وأن يربي حتى يكتمل الإنسان، ثم حدد التكليف من لحظة البلوغ، ووضع شرط اكتمال العقل والرشد، وألا توجد آفة أو جنون.
ولا أقوى من الله سبحانه يمكن أن يكلف لتفعل غير ما يريد الله ؛ لذلك شاء الحق سبحانه أن يكتمل للإنسان الرشد ساعة التكليف، أما المجنون فلم يكلفه الله سبحانه، وكذلك يسقط التكليف عن المكره ؛ لأن التكليف في مضمونه هو اختيار بين البدائل، وهذه منتهى العدالة في التشريع.
وأنت حين تستقبل التكليف عليك ألا تنظر إلى ما تأخذه منك العبادات، لأنها لا تأخذ من حريتك، بل تحترم أنت حرية الآخرين، ويحترمون هم حريتك، فإن حرم عليك أن تسرق، فهو سبحانه قد حماك بأن حرم على جميع الخلق أن يسرقوا منك( ٨ ). إذن : فالقيد قد جاء لصالحك.
وهب أنك أطلقت يدك في الناس، فماذا تصنع لو أطلقوا هم أياديهم فيما تملك ؟
وحين حرم عليك التكليف أن تنظر إلى محارم غيرك، فهو قد حرم على الغير أن ينظروا على محارمك.
وحين أمرك أن تزكي، فهو قد أخذ منك ؛ ليعطي الفقير من المال الذي استخلفك الله فيه.
فلا تنظر على ما أخذ منك، بل انظر إلى ما قد يعود عليك إن أصابك القدر بالفقر، والشيء الذي تستشعر أنه يؤخذ منك فالله سبحانه يعطيك الثواب أضعافا كثيرة( ٩ ).
وبعد ذلك انظر على حركة الحياة، وانظر على ما حرم الله تعالى عليك من أشياء، وما حلل لك غير ذلك، فستجد المباح لك أكثر مما منعك عنه.
إذن : فالتكليف لصالحك. ثم بعد كل ذلك : أيعود شيء مما تصنع من تكاليف على الحق سبحانه ؟ لا. أيعطيه صفة غير موجودة ؟ لا ؛ لأن الحق سبحانه قد خلقنا بكل صفات كماله، وليس في عملنا ما يزيده شيئا.
إذن : فمن المصلحة أن تطبق التكاليف لأنها تعود عليك أنت بالخير.
وانظر-مثلا- إلى الفلاح في الحقل، إنه يحرث الأرض، وينقل السماد، ويبذر، ويروي ويتعب، وبعد ذلك يستريح في انتظار الثمار.
وأنت حين تنفذ تكاليف الحق( ١٠ ) سبحانه فأنت تجد العائد، وأنت ترى في حياتك أن الفلاح الكسول يصاب بحسرة يوم الحصاد، فما بالنا بحساب الآخرة.
والفلاح الذي يأخذ من مخزنه إردبا ؛ ليزرعه، وهو في هذه الحالة لا ينقص مخزنه ؛ لأنه سيعود بعد فترة بخمسة عشر إردبا.
وهكذا من ينفذ التكاليف يعود عليه كل خير ؛ ولذلك أقول : انظر في استقبالات منهج الله تعالى فيما تعطيه، لا فيما تأخذه.
وهكذا ترى أنه لا ظلم ؛ لأننا صنعة الله، فهل رأيتم صانعا يفسد صنعته ؟
إذن : فالصانع الأعلى لا يظلم صنعته ولا يفسدها أبدا، بل يحسنها ويعطيها الجمال والرونق( ١١ ) ؛ لذلك يقول الحق سبحانه :﴿ إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون( ٤٤ ) ﴾[ يونس ] : أي : أن الناس هم الذين يظلمون أنفسهم، ومن الظلم جحد الحق، وهذا هو الظلم الأعلى، ومن الظلم أن يعطي الإنسان نفسه شهوة عاجلة ؛ ليذوق من بعد ذلك عذابا آجلا، وهو بذلك يحرم نفسه من النعيم المقيم، وهو حين يظلم نفسه يكون قد افتقد القدرة على قياس عمره في الدنيا، فالعمر مهما طال قصير، وما دام الشيء له نهاية فهو قصير.
والحق سبحانه وتعالى حين يخاطب الناس، فهو قد نصب آيات باقية إلى أن تقوم الساعة، وكلهم شركاء فيها، وهي الآيات الكونية( ١٢ )، وبعد ذلك خص كل رسول بآية ومعجزة، وأنزل منهجا ب " افعل " و " لا تفعل "، وبين في آيات الكتاب ما المطلوب فعله، وما المطلوب أن نمتنع عنه( ١٣ )، وترك لك بقية الأمور مباحة.
والمثال الذي أضربه دائما : هو التلميذ الذي يرسب آخر العام، هذا التلميذ لم تظلمه المدرسة، بدليل أن غيره قد نجح ؛ لذلك لا يصح أن يقال : إن المدرسة أسقطت فلانا، ولكن الصحيح أن نقول : إن فلانا قد أسقط نفسه، وأن زميله قد أنجح نفسه، ودور المدرسة في ذاك هو إعلان النتيجة.
ومن الظلم أيضا أن يستكثر الظالم نعمة عند المظلوم، فيريد أن يأخذها منه، ولا يمكن أن يكون الحق سبحانه وتعالى ظالما يستكثر نعم عباده ؛ لأنه منزه عن ذلك ؛ فضلا عن أن خلقه ليس عندهم نعم يريدها هو، فهو الذي أعطاها لهم ؛ ولذلك لا يأتي منه سبحانه أي ظلم، وإن جاء الظلم فهو من الإنسان لنفسه.
١ من أخرجه احمد في مسنده (١/٤٥٢، ٣٩١) والحاكم في مستدركه (١/٥٠٩) من حديث ابن مسعود وصححه على شرط مسلم عن سلم من الإرسال..
٢ وذلك في يوم القيامة في مقام شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد تأخر إخوانه منة الأنبياء عنها، وعن أبي هريرة-رضي الله عنه-" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي تحت العرش فيقع ساجدا، ثم يفتح الله عليه من محامده وحسن الثناء عليه شيئا لم يفتحه على أحد قبله. ثم يقال: يا محمد، ارفع رأسك، سل تعطه، واشفع تشفع، فيرفع الرسول صلى الله عليه وسلم رأسه ويقول:"يا رب أمتي، أمتي". من حديث طويل أخرجه البخاري في صحيحه (٤٧١٢)، ومسلم في صحيحه(١٩٤)..
٣ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:﴿إن لله تسعة وتسعين اسما، مائة إلا واحدا، من أحصاها دخل الجنة" أخرجه البخاري في صحيحه (٧٣٩٢) ومسلم(٢٦٧٧) وقد ورد ذكر أسماء الله الحسنى بالتفصيل في رواية أخرى عن أبي هريرة أخرجها الترمذي في سننه(٣٥٠٧) وابن ماجه (٣٨٦١) وطريق الترمذي أصح..
٤ أخرج الإمام احمد في مسنده (٢/٣٥٩) عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"كل كلام-أو أمر-ذي بال لا يفتح بذكر الله عز وجل فهو أبتر-أو قال: أقطع"..
٥ أي: أن يبسط في رزقك، فهو سبحانه الباسط. يقول سبحانه وتعالى:{الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر..(٢٦)﴾[الرعد]..

٦ الحول: القوة، والحيلة والقدرة على تسيير أمورك في الحياة..
٧ لما استطاع القيام بما كلف به لأنه ليس بالغا؛ ولذلك كان التكليف مصاحبا للبلوغ؛ ليكون هناك توازن تربوي يروض النفس إلى مرادات الله، ولو قام الصبي بالتكاليف فله ثواب..
٨ عن جابر بن عبد الله قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:"المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده"أخرجه مسلم في صحيحه(٤١) فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم السلامة من الإيذاء سواء باللسان أو اليد علامة على حسن إسلام العبد..
٩ يقول الله-عز وجل- في كتابه الكريم:﴿إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما(٤٠)﴾[النساء]. وقد قال عز وجل:﴿والذين هم للزكاة فاعلون(٤)﴾[المؤمنون]-﴿خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم..(١٠٣)﴾[التوبة]-﴿والذين في أموالهم حق معلوم(٢٤) للسائل والمحروم(٢٥)﴾[المعارج]..
١٠ تكاليف الحق سبحانه هي أوامره ونواهيه، يكلف بها الله من آمن به، ومثله قوله تعالى:﴿قل تعالوا اتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون(١٥١) ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون(١٥٢) وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون(١٥٣)﴾[الأنعام].
١١ وفي هذا يقول رب العزة:﴿الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين(٧)﴾[السجدة] ويقول في آية أخرى:﴿الله الذي جعل لكم الأرض قرارا والسماء بناء وصوركم فأحسن صوركم..(٦٤)﴾[غافر]..
١٢ قد جعل الله في الكون آيات خاطب بها الله كل الناس ليتفكروا فيها وليصولا بها على أن لهذا الكون خالقا واحدا، وقد جمعها الله في قوله تعالى:﴿إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون(١٦٤)﴾[البقرة]..
١٣ وذلك في نحو قوله تعالى:﴿قل تعالوا اتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون(١٥١﴾[الأنعام]..
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ يوم يحشرهم كأن لم يلبثوا( ١ ) إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين( ٤٥ ) ﴾ :
فهذه الدنيا التي يتلهف عليها الإنسان، ويأخذ حظه فيها، وقد ينسى الآخرة، فإذا ما قامت القيامة فأنت تشعر كأنك لم تمكث في الدنيا إلا ساعة، والساعة هي الساعة الجامعة التي تقوم فيها القيامة، ولكن الساعة في الدنيا هي جزء من الوقت، ونحن نعلم أن اليوم مقسم لأربع وعشرين ساعة، وأيضا تطلق الساعة على تلك الآلة التي تعلق على الحائط أو يضعها الإنسان على يده، وهي تشير إلى التوقيت.
والتوقيت ثابت-بمقدار الساعة والدقيقة والثانية- منذ آدم عليه السلام وإلى من سوف يأتون بعدنا، ولكن التوقيت يختلف من مكان إلى آخر، فتشير الساعة في القاهرة-مثلا- إلى الثانية ظهرا، وتكون في نيويورك السابعة صباحا، وتشير في بلد آخر إلى الثالثة بعد منتصف الليل، ولا تتوحد الساعة بالنسبة لكل الخلق إلا يوم القيامة.
ولذلك يقول الحق سبحانه :﴿ ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة.. ( ٥٥ ) ﴾[ الروم ] : وهم-إذن- يفاجأون أن دنياهم الطويلة والعريضة كلها مرت وكأنها مجرد ساعة( ٢ )، وهكذا يكتشفون قصر ما عاشوا من وقت، ولا يقتصر الأمر على ذلك، بل إنهم لم ينتفعوا بها أيضا فهي مدة من الزمن لم تكن لها قيمة.
والحق سبحانه يقول :﴿ كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون( ٣٥ ) ﴾[ الأحقاف ] : أي : أن الدنيا تمر عليهم في لهو ولعب ومشاغل، ولم يأخذوا الحياة بالجد اللائق بها( ٣ ) ؛ فضاعت منهم وكأنها ساعة.
ولذلك يقول الحق سبحانه هنا :﴿ ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار.. ( ٤٥ ) ﴾[ يونس ] : ويوم الحشر ينقسم الناس قسمين : قسم من كانوا يتعارفون على البر، وقسم من كانوا يتعارفون على الإثم، فالذين تعارفوا في الحياة الدنيا على البر يفرحون ببعضهم البعض، وأما الذين تعارفوا في الحياة الدنيا على الإثم فهم يتنافرون بالعداء، والحق سبحانه هو القائل :﴿ الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدوا إلا المتقين( ٦٧ ) ﴾[ الزخرف ].
وكذلك قال في الذين تعارفوا على الإثم :﴿ إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا.. ( ١٦٦ ) ﴾[ البقرة ] : هم سيتعارفون على بعضهم البعض، ولكن هذه المعرفة لا تدوم، بل تنقلب إلى نكران، فالواحد منهم لا يريد أن يرى من كان سببا في أن يؤول إلى هذا المصير، وتعارفهم تعارف تعنيف.
ويقول الحق سبحانه :﴿ قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله.. ( ٤٥ ) ﴾[ يونس ] : وساعة تسمع كلمة " خسر " فاعرف أن الأمر يتعلق بتجارة ما، والخسارة( ٤ ) تعني : أن يفقد الإنسان المتاجر إما جزءا من رأس المال، أو رأس المال كله.
ومراحل التجارة- كما نعرف- إما كسب يزيد رأس المال المتاجر فيه، وإما ألا يكسب التاجر ولا يخسر ؛ لكنه يشعر بأن ثمن عمله ووقته في هذه التجارة قد ضاع، وكل ذلك يحدث في الصفقات.
ونجد الحق سبحانه وتعالى يصف العملية الإيمانية في الدنيا بقوله :﴿ يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم( ١٠ ) تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون( ١١ ) ﴾[ الصف ]، ويقول سبحانه :﴿ إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور( ٥ ) ( ٢٩ ) ﴾[ فاطر ] : والتجارة تعتمد على أنك لا تقبل على عقد صفقة إلا إذا غلب على ظنك أن هذه الصفقة سوف تأتي لك بأكثر مما دفعت فيها.
ولذلك يقول الحق سبحانه عن الصفقات الخاسرة :﴿ أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين( ١٦ ) ﴾[ البقرة ].
ويقول أيضا :﴿ وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما.. ( ١١ ) ﴾[ الجمعة ].
وشاء الله الحق سبحانه أن يجعل معنى التجارة واضحا ومعبرا عن كثير من المواقف ؛ لأن التجارة تمثل جماع كل حركة الحياة ؛ فهذا يتحرك في ميدان ؛ وينفع غيره، وغيره يعمل في ميدان آخر ؛ فينفع نفسه، وينفع غيره.
وبهذا يتحقق نفع الإنسان من حركة نفسه وحركة غيره، وهو يستفيد من حركة غيره أكثر مما يستفيد من حركته هو، ومن مصلحة أي إنسان أن يحسن كل إنسان حركته ؛ فيرتاح هو ؛ لأن ما سوف يصل إليه من حركة الناس سيكون جيد الإتقان.
والتجارة تحمل أيضا الوساطة بين المنتج والمستهلك.
ولذلك حين أراد الله سبحانه أن نستجيب لأذان الجمعة قال :﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم عن كنتم تعلمون( ٩ ) ﴾[ الجمعة ]، ولم يقل الله سبحانه : اتركوا الزراعة أو اتركوا الصناعة، أو اتركوا التدريس، بل اختار من كل حركات الحياة حركة البيع ؛ لأن فيه تجارة، والتجارة هي الجامعة لكل حركات الحياة.
والتاجر وسيط بين منتج ومستهلك وتقتضي التجارة شراء وبيعا، والشراء يدفع فيه التاجر ثمنا، أما في البيع فهو يأخذ الثمن، والغاية من كل شيء أن يتمول الإنسان.
لذلك فالبيع أفضل عند التاجر من الشراء، فأنت قد تشتري شيئا وأنت كاره له، لاحتياجك إليه، ولكنك عند بيع البضاعة تشعر بالسعادة والإشراق، ولأن الشراء فيه أخذ، والبيع فيه عطاء، والعطاء يرضي النفس دائما ؛ لأن ثمرة الصفقة تأتيك في لحظتها.
وإن كنت مزارعا فأنت تعد الأرض، وتحرثها، وتبذر البذور، وترويها، وتشذب النبات، وتنتظر إلى أن ينضج الزرع، وكذلك تقضي الكثير من الوقت في إتقان الصنعة إن كنت صانعا، لكن البيع في التجارة يأتي لك بالكسب سريعا، فكأن ضرب المثل في التجارة، جاء من أصول التجارة بالبيع ولم يأت بالشراء.
إذن : لا بد أن نعتبر أن دخولك في صفقة الإيمان تجارة، تأخذ منها أكثر من رأسمالك، وتربح، أما إن تركت بعضا من الدين ؛ فأنت تخسر بمقدار ما تركت، بل وأضعاف ما تركت.
وأنت في أية صفقة قد تعوض ما خسرت فيما بعد، وإن استمرت الخسارة فإن أثرها لا يتجاوز الدنيا، ويمكن أن تربح بعدها، وإذا لم تربح، فسيضيع عليك تعبك فقط ؛ ولأن الدنيا محدودة الزمن ؛ فخسارتها محتملة، أما الخسارة في الزمان غير الموقوت-الزمن الدائم- فهي خسارة كبيرة ؛ لأن الآخرة ليس فيها أغيار كالدنيا، وأنت في الآخرة إما في جنة ذات نعيم مقيم، وفي هذا ربح وكسب كبير، وإما إلى نار، وهذه هي الخسارة الحقيقية.
والخسران الحقيقي أن يكذب الإنسان، لا بنعيم الله فقط، ولكن بلقاء الله أيضا.
يقول الحق سبحانه :﴿ قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله.. ( ٤٥ ) ﴾[ يونس ] : أي : أن الله سبحانه لم يكن في بالهم، وهم حين تقوم الساعة يجدون الله-سبحانه وتعالى –أمامهم. ولذلك يقول الحق سبحانه :﴿ والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة( ٦ ) يحسبه الظمآن ماء.. ( ٣٩ ) ﴾[ النور ] : والسراب كما نعلم يراه السائر في الصحراء، وهو عبارة عن انعكاس للضوء ؛ فيظن أن أمامه ماء، ولكن إن سار إليه الإنسان لم يجده ماء، وهكذا شبه الحق سبحانه عمل الكافر بمن يسير في صحراء شاسعة ويرى السراب ؛ فيظنه كماء، لكنه سراب، ما إن يصل إليه حتى ينطبق عليه قول الحق سبحانه :﴿ حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده.. ( ٣٩ ) ﴾[ النور ] : أي : أنه يفاجأ بوجود الله سبحانه وتعالى، فيوفيه الله حسابه.
ولذلك فالذي يكفر بالله ويعمل ما يفيد البشر، فإنه يأخذ حسابه ممن عمل له، ولا يحسب له ذاك في الآخرة، وتجد الناس يكرمونه، ويقيمون له التماثيل أو يمنحونه الجوائز وينطبق عليه قول الرسول صلى الله عليه وسلم :" فعلت ليقال، وقد قيل " ( ٧ ).
وهنا يقول الحق سبحانه عن الذين كذبوا بلقاء الله تعالى :﴿ وما كانوا مهتدين( ٤٥ ) ﴾[ يونس ] : أي : لم يكونوا سائرين على المنهج الذي وضعه لهم خالقهم سبحانه ؛ هذا المنهج الذي يمثل قانون الصيانة لصنعه الله تعالى، وقد خلق الله سبحانه الإنسان لمهمة، والله سبحانه يصون الإنسان بالمنهج من أجل أن يؤدي هذه المهمة.
والهداية هي الطريق الذي إن سار فيه الإنسان فهو يؤدي به إلى تحقيق المهمة المطلوبة منه ؛ لأن الحق سبحانه قد جعله الخليفة في الأرض.
ومن لا يؤمن برب المنهج سبحانه وتعالى ولا يطبق المنهج فهو إلى الخسران المبين، أي : الخسران المحيط.
١ لبث: مكث..
٢ الساعة: أصلها جزء من الزمن غير محدد يلاحظ فيه القلة، قال تعالى:﴿يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة..(٥٥)﴾[الروم] أي: مدة قليلة، وقوله:﴿ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون(٣٤)﴾[الأعراف] أي: لا يتأخرون لحظة، والساعة يوم القيامة قال تعالى:﴿ويوم تقوم الساعة..(٥٥)﴾[الروم] أي: القيامة..
٣ ولذلك يقول الحق سبحانه:﴿ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا(١٩)﴾[الإسراء]، فالسعي للآخرة لابد أن يكون بالنسبة إلى عظم هذا اليوم الأخير..
٤ خسر: أي خسر الرجل في تجارته خسرا و خسارا وخسارة وخسرانا، وغبن فيها ولم يربح وأصابه النقص. وخسر الرجل: ضل. فهو خاسر، وهو خسير، وقال تعالى:﴿قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله..(٣١)﴾[الأنعام][. وخسر نفسه: أهلكها بالضلال، وقوله تعالى:﴿خسر الدنيا والآخرة..(١١)﴾[الحج].
ومن الفعل اللازم قوله تعالى:﴿فقد خسر خسرانا مبينا(١١٩)﴾[النساء]، وقد يأتي متعديا، مثله قوله تعالى:﴿قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة..(١٥)﴾[الزمر][القاموس القويم]..

٥ تجر من باب نصر- تجرا وتجارة: باع واشترى طلبا للربح، وتطلق التجارة على المال الذي يتجر فيه التاجر- وتطلق التجارة مجازا على العمل الذي يترتب عليه خير، كأن الثواب ربح، وكأن الحرمان منه خسارة، وقال تعالى:﴿إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم..(٣٨٢)﴾[البقرة]، التجارة هي المتجر فيه، وقوله:﴿إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور(٢٩)﴾[فاطر] هي الأعمال الصالحة، وقوله:﴿يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم(١٠)﴾[الصف]، هي التجارة بالمعنى المجازي أي العمل الصالح.[القاموس القويم].
٦ السراب: ما يرى في نصف النهار من اشتداد الحر كالماء في الصحراء يلتصق بالأرض. وهو من خداع البصر. وقد سمي السراب سرابا لألنه يسرب سروبا، أي: يجري جريا، أي: يتحرك حركة تخدع الرائي من بعيد؛ فيظنه ماء وهو ليس بماء، بل خداع ضوئي وبصري ناتج عن الحالة النفسية للشخص عند شدة عطشه ووجوده في صحراء قاحلة؛ فأي حركة من بعيد بظنها ماء؛ ويجري إليها؛ ليفاجأ بعدم وجود شيء.[اللسان: مادة (س ر ب) بتصرف].
والقيعة: ارض واسعة مستوية لا تنبت الشجر. قال الفراء: القيعة جمع القاع، والقاع: ما انبسط من الأرض. قال تعالى:﴿فيذرها قاعا صفصفا(١٠٦)﴾[طه].[اللسان: مادة (ق و ع) بتصرف].
.

٧ عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" إن أول الناس يقضي يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتى به فعرفه نعمه فعرفها. قال: فما علمت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت. قال: كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال: جرىء فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقى في النار، ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتى به فعرفه نعمه فعرفها. قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن. قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: هو قارىء. فقد قيل. ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقى في النار.." الحديث أخرجه مسلم في صحيحه (١٩٠٥) والنسائي في سننه (٦/٢٣)) طبعة دار الكتب العلمية-بيروت..
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعكم ثم الله شهيد على ما يفعلون( ٤٦ ) ﴾ :
وقول الحق سبحانه :﴿ وإما ﴾ مكونة من " إن " و " ما " مدغومتين، وهنا يبين لنا الحق سبحانه أنه يعد الذين كذبوا رسوله صلى الله عليه وسلم بالعذاب والهوان والعقاب والفضيحة. أي : يا محمد، إما أن ترى ما قلناه فيهم من خذلان وهوان، وإما أن نتوفينك قبل أن ترى هذا في الدنيا، ولكنك ستراه في الآخرة حين تشاهدهم في الهوان الأبدي الذي يصيبهم في اليوم الآخر.
وفي هذا تسرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وقول الحق سبحانه :﴿ وإما نرينك.. ( ٤٦ ) ﴾ أي : أن نريك ما وعدناهم من الخذلان والهوان في هذه الحياة، وإن لم تره في الحياة الدنيا فلسوف ترى هوانهم في الآخرة، حيث المرجع إلى الله تعالى ؛ لأنه سبحانه سيصيبهم في أنفسهم بأشياء فوق الهوان الذي يرى في الناس ؛ كحسرة في النفس، وكبت للأسى حين يرون نصر المؤمنين.
أما الذي يرى فهو الأمر الظاهر، أي : الخذلان، والهزيمة، والأسى، والقتل، وأخذ الأموال، وسبي النساء والأولاد، أو غير ذلك مما سوف تراه فيهم-بعد أن تفيض روحك إلى خالقها- فسوف ترى فيهم ما وعدك الله به.
وأنت لن تحتاج إلى شهادة من أحد عليهم، لأنه سبحانه :﴿ شهيد على ما يفعلون( ٤٦ ) ﴾، وكفاك الله سبحانه شهيدا :﴿ وكفى بالله شهيدا( ٧٩ ) ﴾[ النساء ].
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط( ١ ) وهم لا يظلمون( ٤٧ ) ﴾ :
والحق سبحانه لا يظلم أحدا، ولا يعذب قوما إلا بعد أن يكفروا بالرسول الذي أرسله إليهم، وهو سبحانه القائل :﴿ وإن من أمة إلا خلا( ٢ ) فيها نذير ( ٢٤ ) ﴾[ فاطر ]، وهو سبحانه القائل أيضا :﴿ لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون( ١٣١ ) ﴾[ الأنعام ] : فلا تجريم ولا عقوبة إلا بنص وببيان لتجريم هذا الفعل أو ذاك، بإرسال الرسل ؛ حتى لا يحتج أحد بأنه لم يصل إليه شيء يحاسب بمقتضاه.
والحق سبحانه هنا يبين أن لكل أمة رسولا يتعهدها بأمور المنهج.
وقد خلق الحق سبحانه كل الخلق، وكانوا موحدين منذ ذرية آدم- عليه السلام- ثم اقتضت الأحداث أن يتباعدوا، وانتشروا في الأرض، وصارت الالتقاءات بعيدة، وكذلك المواصلات، وتعدد الآفات بتعدد البيئات.
ولكن إذا تقاربت الالتقاءات، وصارت المواصلات سهلة، فما يحدث في الشرق تراه في لحظتها وأنت في الغرب، فهذا يعني توحد الآفات أو تكاد تكون واحدة ؛ لذلك كان لا بد من الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم، أما في الأزمنة القديمة، فقد كانت أزمة انعزالية، تحيا كل جماعة بعيدة عن الأخرى ؛ ولذلك كان لابد من رسول لكل جماعة ؛ ليعالج داءات البيئة، أما وقد التقت البيئات، فالرسول الخاتم يعالج كل الداءات( ٣ ). ولذلك يقول الحق سبحانه :﴿ ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون( ٤٧ ) ﴾[ يونس ]، وقد حكى التاريخ لنا ذلك، فكل رسول جاء آمن به البعض، وكفر به البعض الآخر، والذين آمنوا به انتصروا، ومن كفروا به هزموا. أو أن الآية عامة ﴿ ولكل أمة رسول ﴾ أي : تنادى كل أمة يوم القيامة باسم رسولها، يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ويا أمة موسى، ويا أمة عيسى... الخ.
والحق سبحانه يقول :﴿ فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا( ٤ )( ٤١ ) يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا( ٤٢ ) ﴾[ النساء ].
إذن : فالحق سبحانه هنا يبين أن لكل أمة رسولا جاءها بالبلاغ عن الله، وقد آمن به من آمن، وكفر به من كفر، وما دام الإيمان قد حدث-وكذلك الكفر-فلا بد من القضاء بين المؤمنين والكافرين.
لذلك يقول الحق سبحانه :﴿ فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون( ٤٧ ) ﴾[ يونس ] : وما دام في الأمر قضاء، فلا بد أن المؤمن يعتبر الكافر منازعا له، وأن الكافر يعتبر المؤمن منازعا له، ويصير الأمر قضية تتطلب الحكم ؛ لذلك يقول الحق سبحانه :﴿ قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون( ٤٧ ) ﴾[ يونس ] :
أي : يقضى بينهم بالعدل، فالمؤمنون يتقصى الحق سبحانه حسناتهم ويزيدها لهم، أما الكافرون فلا توجد لهم حسنات ؛ لأنهم كفروا بالله الحق ؛ فيوردهم النار، وهم قد أبلغهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سيأتي يوم يسألون فيه عن كل شيء، فاستبعدوا ذلك وقالوا :﴿ أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون( ١٦ ) وآباؤنا الأولون( ١٧ ) ﴾[ الصافات ] : لقد تعجبوا من البعث وأنكروه، لكنهم يجدونه حتما وصدقا.
ويشاء الحق سبحانه أن يدخل عليهم هذه المسألة دخولا إيمانيا، فيقول :﴿ أفعيينا بالخلق الأول.. ( ١٥ ) ﴾[ ق ] : فأنتم إذا متم وتحللتم في التراب، أيعجز الله سبحانه أن يخلقكم من جديد ؟ لا ؛ إنه سبحانه القائل :﴿ قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ( ٤ ) ﴾[ ق ] : أي : أنه سبحانه يأمر العناصر الخاصة بكل إنسان أن تتجمع كلها، وليس هذا بعسير على الله الذي خلقهم أولا.
وهم قد كذبوا واستنكروا واستهزأوا بمجيء يوم القيامة والبعث، وبلغ استهزاؤهم أن استعجلوا( ٥ ) هذا اليوم، وهذا دليل جهلهم، وكان على الواحد منهم أن يفر من هول ذلك اليوم.
ولذلك يقول الحق سبحانه بعد ذلك على ألسنتهم :﴿ ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين( ٤٨ ) ﴾ :
١ قسط يقسط-كضرب-قسطا وقسوطا، وقسط يقسط قسطا كنصر: ظلم أو عدل، من الأضداد، وتفهم بالقرائن، واستعمله القرآن بمعنى ظلم في قوله تعالى:﴿وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا(١٥)﴾[الجن] وأقسط: عدل وأزال الظلم، واستعمله القرآن بمعنى العدل في قوله تعالى:﴿قل أمر ربي بالقسط..(٢٩)﴾[الأعراف]. والقسطاس: الميزان والعدل."القاموس القويم"..
٢ خلا: مضى وسلف. ومنه قوله تعالى:﴿كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية (٢٤)﴾[الحاقة] أي: الماضية..
٣ وذلك لأن رسالة الإسلام هي جماع القيم لكل دين سابق، مصدقا لقوله تعالى:﴿شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب(١٣)﴾[الشورى]..
٤ عن عبد الله بن مسعود قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اقرأ علي" فقلت: يا رسول الله أقرأ عليك وعليك أنزل. قال:"نعم، إني أحب أن أسمعه من غيري" فقرات سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية:﴿فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا(٤١)[النساء] فقال صلى الله عليه وسلم:"حسبك الآن" فإذا عيناه تذرفان. أخرجه البخاري في صحيحه (٥٠٥٠) وأحمد في مسنده (١/٣٨٠).
واللغة تقول: الشهيد صيغة مبالغة في الشاهد، والشهيد من أسماء الله الحسنى:{عن الله كان على كل شيء شهيدا(٣٣)﴾
[النساء] وقوله:﴿ولا يضار كاتب ولا شهيد..(٢٨٢)﴾[البقرة] أي شاهد. والشهيد من قتل في سبيل الله، والشهادة: خبر قاطعن والشاهد اسم فاعل وجمعه شهد وشهود.[القاموس القويم]..

٥ وقد قال رب العزة عنهم:﴿ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده..(٤٧)﴾[الحج]، ويقول سبحانه في آية أخرى:﴿ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب..(٥٣)﴾[العنكبوت}..
هذا الإنكار والتكذيب والاستهزاء هو منطق المشركين والملحدين( ١ ) في كل زمان ومكان، وفي العصر القريب قاله الشيوعيون عندما قاموا بثورتهم الكاذبة، وذبحوا الطبقة العليا في المجتمع بدعوى رفع الظلم عن الفقراء.
وإذا ما كانوا قد آمنوا بضرورة الثواب والعقاب، فمن الذي يحكم ذلك ؟ هل الظالم يحكم على ظالم، فتكون النتيجة أن الظالم سيهلك بالظالم، وقد حدث، فأين الشيوعيون الآن ؟
لماذا لم يلتفتوا إلى أن لهذا الكون خالقا يعاقب من ظلموا من قبل، أو من يظلمون من بعد ؟
إنهم لم يلتفتوا ؛ لأنهم اتخذوا المادة إلها، وقالوا : لا إله، والحياة مادة، فأين هم الآن ؟
وإن كنتم قد تملكتم في المعاصرين لكم، وادعيتم أنكم نشرتم العدل بينهم، فماذا عن الذين سبقوا، والذين لحقوا ؟
هم-إذن- لم يلتفتوا إلى أن الله سبحانه وتعالى قد شاء ألا يموت ظالم إلا بعد أن ينتقم الله منه( ٢ ).
وهم لم يلتفتوا إلى أن وراء هذه الدار دارا أخرى يجازى فيها المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.
وكان المنطق يقتضي أن يؤمن هؤلاء بأن لهذا الكون إلها عادلا، ولابد أن يجيء اليوم الذي يجازى فيه كل إنسان بما عمل، ولكنهم سخروا مثل سخرية الذين كفروا من قبلهم، وجاء خبرهم في قول الله سبحانه على ألسنتهم :﴿ ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين( ٤٨ ﴾[ يونس ].
ولكن وعد الله حق، ووعد الله قادم، ومحمد صلى الله عليه وسلم رسول من الله، يبلغ ما جاء من عند الله تعالى، فرسول الله صلى الله عليه وسلم لا يملك لنفسه شيئا.
ولذلك يقول القرآن بعد ذلك :
﴿ قل لا أمللك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله لكل أمة أجل إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون( ٤٩ ) ﴾ :
١ الملحدون: جمع ملحد، وهو الطاعن في الدين، المائل عنه. قال تعالى:﴿إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا..(٤٠)﴾[فصلت].[المعجم الوسيط: مادة (لحد)]..
٢ يقول الحق:﴿ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار(٤٢) مطعين مقنعي رءوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء(٤٣)﴾[إبراهيم]، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم:"إن الله لملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته"..
والرسول صلى الله عليه وسلم يبرئ نفسه من كل حول وطول( ١ )، ويعلن ما أمره الحق سبحانه أن يعلنه، فهو صلى الله عليه وسلم لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ؛ لأن النفع أو الضر بيد خالقه سبحانه، وهو سبحانه وتعالى خالقكم، وكل أمر هو بمشيئته سبحانه.
وهذه الآية جاءت ردا على سؤالهم الذي أورده الحق سبحانه في الآية السابقة :﴿ ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين( ٤٨ ) ﴾[ يونس ] : لقد تساءلوا بسخرية عن هذا الوعد بالعذاب، وكأنهم استبطأوا نزول العذاب تهكما، وهذا يدل على أن قول الحق سبحانه :﴿ ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون( ٤٧ ) ﴾[ يونس ] : هذه الآية لم تنزل ليوم القيامة، بل نزلت لتوضح موقف من كفروا برسول الله صلى الله عليه وسلم والذين قالوا بعد ذلك :﴿ متى هذا الوعد إن كنتم صادقين( ٤٨ ) ﴾[ يونس ] : وهذا يعني أنهم قالوا هذا القول قبل أن تقوم القيمة، والآية التي توضح أن لكل أمة رسولا تؤيدها آيات كثيرة، مثل قوله سبحانه :﴿ وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا( ١٥ ) ﴾[ الإسراء ]، وكذلك قول الحق سبحانه :﴿ لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون( ١٣١ ) ﴾[ الأنعام ]، وكذلك قول الحق سبحانه :﴿ ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا.. ( ١٣٤ ) ﴾[ طه ] : وكل ذلك يؤيد أن الرسول المرسل إلى الأمة هو الرسول الذي جاء بمنهج الله تعالى ؛ فآمن به قوم، وكذب به آخرون، وقضى الله بين المؤمنين والكافرين بأن خذل الكافرين ونصر المؤمنين.
وإن استبطأ الكافرون الخذلان فلسوف يرونه ؛ ولذلك أمر الحق سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم :﴿ قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا.. ( ٤٩ ) ﴾[ يونس ] : أي : أنكم إن كنتم تسألون محمدا صلى الله عليه وسلم عن الضر والنفع، فهو صلى الله عليه وسلم مبلغ عن الله تعالى، ولا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا، فضلا عن أن يملك لهم هم ضرا أو نفعا، وكل هذا الأمر بيد الله تعالى، ولكل أمة أجل( ٢ ) ينزل بالذين كفروا فيها بالعذاب، ويقع فيها القول الفصل.
وقول الحق سبحانه :﴿ إلا ما شاء الله لكل أمة أجل.. ( ٤٩ ) ﴾[ يونس ] : يفيد أن مشيئة الله هي الفاصلة، ويدل على أن النبي والناس لا يملكون لأنفسهم الضر أو النفع ؛ لأن الإنسان خلق على هيئة القسر( ٣ ) في أمور، وعلى هيئة الاختيار في أمور أخرى، والاختيار هو في الأمور التكليفية مصدقا لقوله سبحانه :﴿ فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.. ( ٢٩ ) ﴾[ الكهف ] : وأنت حر في أن تطيع أو أن تعصي، وكل ذلك داخل في نطاق اختيارك، وإن صنع الإنسان طاعة، فهو يصنع لنفسه نفعا، وإن صنع معصية، صنع لنفسه ضرا.
إذن : فهناك في الأمور الاختيارية ضر ونفع. ومثال ذلك : من ينتحر بأن يشنق نفسه، فهو يأتي لنفسه بالضر، وقد ينقذه أقاربه، وذلك بمشيئة الله سبحانه. إذن : ففي الأمور الاختيارية يملك الإنسان-بمشيئة الله- الضر أو النفع لنفسه، والله سبحانه يبين لنا أن الكل امة أجلا، فلا تحددوا أنتم آجال الأمم ؛ لأن آجالهم-استئصالا، أو عذابا-هي من عند الله سبحانه وتعالى.
والعباد دائما يعجلون، والله لا يعجل بعجلة العباد، حتى تبلغ الأمور ما أراد سبحانه، فالله تعالى منزه أن يكون موظفا عند الخلق، بل هو الخالق الأعلى سبحانه وتعالى.
وهو سبحانه القائل :﴿ سأريكم آياتي فلا تستعجلون( ٣٧ ) ﴾[ الأنبياء ]، وهو سبحانه القائل :﴿ ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا( ٤ ) ( ١١ ) ﴾[ الإسراء ] :
إذن : فالحق سبحانه يؤخر مراداته رحمة بالخلق، وإذا جاء الأجل فهو لا يتأخر عن ميعاده، ولا يتقدم عن ميعاده.
لذلك يقول الحق سبحانه :﴿ إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون( ٤٩ ) ﴾[ يونس ]، وقوله سبحانه :﴿ ويستقدمون ﴾ ليست من مدخلية جواب الشرط الذي جاء بعد ﴿ إذا( ٥ ) جاء أجلهم.. ( ٤٩ ) ﴾[ يونس ] : لأن الجواب هو :﴿ فلا يستأخرون ﴾. فهم لا يستقدمون قبل أن يحين الأجل.
١ الحول: الحذق وجودة النظر والقدرة على دقة التصرف في الأمور.
والطول: الفضل والغنى واليسر. قال تعالى:﴿ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم..(٢٥)﴾[النساء].[المعجم الوسيط]..

٢ الأجل- مدة الشيء، وغاية الوقت ووقت الحياة، أو وقت الدين أو وقت العمل. والأجل نفس الوقت الذي أجل له الأمر:﴿فلما قضى موسى الأجل..(٢٩)﴾[القصص] أي: أتم المدة المحددة له، وأجل الشيء: حدد له أجلا مستقبلا:﴿لأي يوم أجلت(١٢)﴾[المرسلات] أي: حد الموت أو الهرم وقوله:﴿ثم قضى أجلا مسمى عنده..(٢)﴾[الأنعام] الأول: هو مدة البقاء في الدنيا، والثاني: هو مدة البقاء في القبور إلى يوم القيامة، أو مدة الحياة الآخرة، وقوله:﴿فإذا بلغن أجلهن..(٢٣٤)﴾[البقرة]. أي: نهاية مدة العدة. والآجل ضد العاجل، والآجلة ضد العاجلة.[القاموس القويم]..
٣ القسر: القهر والإجبار..
٤ عجولا: صيغة مبالغة التعجل في الأمور. واستعجل الأمر طلبه عاجلا سريعا، قال تعالى:﴿ولو يعجل الله للناس استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم..(١١ح﴾[يونس] والعاجل: السريع ضد الآجل، والعاجلة الدنيا، والآجلة الآخرة، يقول الحق:﴿كلا بل تحبون العاجلة(٢٠)﴾[القيامة]. أي: الدنيا، وعجل الأمر طلبه قبل أوانه بدافع الشهوة، وعجل الأمر سبقه. قال الحق سبحانه:﴿إنما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا بئسما خلفتموني من بعدي أعجلتم أمر ربكم..(١٥٠)﴾[الأعراف]..
٥ إذا: تأتي لمعنيين شرطية وفجائية. إذا الشرطية: اسم شرط للزمن المستقبل، فتختص بالدخول على الجملة الفعلية، وتعرب إذا ظرف لما يستقبل من الزمان خافض لشرطه منصوب بجوابه، قال تعالى:﴿وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم..(٥٤)﴾[الأنعام]، وتدخل أحيانا على الأسماء المرفوعة، فيكون المرفوع بعدها فاعلا لفعل محذوف يفسره الفعل الذي بعده مثل:﴿إذا السماء انشقت(١)﴾[الانشقاق] أي: إذا انشقت السماء، وإذا تكون حرفا للمفاجأة، وتخفض بالجملة الاسمية، قال تعالى:﴿فألقاها فإذا هي حية تسعى(٢٠)﴾[طه]"القاموس القويم"..
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون( ٥٠ ) ﴾ :
وهذا رد شاف على استعجالهم للعذاب، فإن جاءكم العذاب فلنر ماذا سيكون موقفهم ؟
وهم باستعجالهم العذاب يبرهنون على غبائهم في السؤال عن وقوع العذاب.
وقول الحق سبحانه :﴿ أرأيتم ﴾. أي : اخبروني عما سوف يحدث لكم.
وشاء الحق سبحانه أن يأتي أمر العذاب هنا مبهما من جهة الزمان فقال سبحانه :
﴿ إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا.. ( ٥٠ ) ﴾[ يونس ] : والبيات مقصود به الليل ؛ لأن الليل محل البيتوتة، والنهار محل الظهور. والزمن اليومي مقسوم لقسمين : ليل، ونهار.
وشاء الحق سبحانه إبهام اليوم والوقت، فإن جاء ليلا، فالإنسان في ذلك الوقت يكون غافلا نائما في الغالب، وإن جاء نهارا، فالإنسان في النهار مشغول بحركة الحياة.
والحق سبحانه يقول في موضع آخر :﴿ أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا( ١ ) بياتا وهم نائمون( ٩٧ ) ﴾[ الأعراف ]، ويقول سبحانه :﴿ أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون( ٩٨ ) ﴾[ الأعراف ] : ولو نظرت إلى الواقع لوجدت أن العذاب يأتي في الليل وفي النهار معا ؛ لأن هناك بلادا يكون الوقت فيها ليلا، وفي ذات الوقت يكون الزمن نهارا في بلاد أخرى.
وإذا جاء العذاب بغتة، وحاولوا إعلان الإيمان، فلن ينفعهم هذا الإيمان ؛ لأن الحق سبحانه يقول فيمن يتخذ هذا الموقف :﴿ آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين( ٩١ ) ﴾[ يونس ] : فإن جاءكم العذاب الآن لما استقلتم منه ؛ لأنه لن ينفعكم إعلان الإيمان، ولن يقبل الله منكم، وبذلك يصيبكم عذاب في الدنيا، بالإضافة إلى عذاب الآخرة، وهذا الاستعجال منكم للعذاب يضاعف لكم العذاب مرتين، في الدنيا، ثم العذاب الممتد في الآخرة.
١ بأسنا: عذابنا والبأس القوة، قال تعالى:﴿وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد..(٢٥)﴾ [الحديد]، أي: قوة وصلابة، قوله تعالى:﴿عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا..(٨٤)﴾[النساء] شدتهم وقوتهم فيصدهم عنكم، قوله تعالى الحق:﴿وحين البأس..(١٧٧)﴾[البقرة]، أي: وقت الحرب الشديدة، وقول الحق:﴿وسرابيل تقيكم بأسكم..(٨١)﴾[النحل]، أي: شدتكم وقوتكم في الحرب، فتحفظكم الدروع من أخطار الحرب. والبأساء: الفقر والشدة، ويقول الحق:﴿والصابرين في البأساء والضراء..(١٧٧)﴾[البقرة] في وقت الفقر والحاجة..
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ أثم إذا ما وقع آمنتم به آلآن وقد كنتم به تستعجلون( ٥١ ) ﴾ :
أي : إذا ما وقع العذاب فهل ستؤمنون ؟
إن إعلان إيمانكم في هذا الوقت لن يفيدكم، وسيكون عذابكم بلا مقابل.
إذن : فاستعجالكم للعذاب لن يفيدكم على أي وضع ؛ لأن الإيمان لحظة وقوع العذاب لا يفيد. ومثال ذلك : فرعون( ١ ) حين جاءه الغرق ﴿ قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل.. ( ٩٠ ) ﴾[ يونس ].
١ وذلك أن فرعون خرج في جيش كبير يقدر بمائة ألف ولحق بموسى عند حافة البحر وقت شروق الشمس، فأوحى الله إلى موسى أن يضرب البحر بعصاه:﴿فأوحينا على موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم(٦٣)﴾[الشعراء]، ثم يقول سبحانه:﴿وجاوزنا ببني لإسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت إنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو لإسرائيل وأنا من المسلمين(٩٠)﴾[يونس]
وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لما أغرق الله فرعون قال: آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل. قال جبريل: يا محمد فلو رأيتني وأنا آخذ من حال البحر (أي: طين البحر) فأدسه في فيه (أي: فمه) مخافة أن تدركه الرحمة" أخرجه الترمذي في سننه وقال: حديث حسن. وانظر تفسيري ابن كثير(٢/٤٣٠) والقرطبي (٤/٣٣٠٥)..

ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ ثم قيل للذين ظلموا ذوقوا عذاب الخلد( ١ ) هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون( ٥٢ ) ﴾ :
وهذا إخبار عن العذاب القادم لمن كفروا ويلقونه في اليوم الآخر، فهم بكفرهم قد ظلموا أنفسهم في الدنيا، وسيلقون العذاب في الآخرة، وهو ﴿ عذاب الخلد ﴾ أي : عذاب لا ينتهي.
وينهي الحق سبحانه الآية بقوله :﴿ هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون ﴾. أي : أن الحق سبحانه لم يظلمهم، فقد بلغهم برسالة الإيمان عن طريق رسول ذي معجزة، ومعه منهج مفصل مؤيد، وأمهلهم مدة طويلة، ولم يستفيدوا منها ؛ لأنهم لم يؤمنوا.
إذن " فسيلقون عذاب الخلد، وقد جاء سبحانه هنا بخبر عذاب الخلد ؛ لأن عذاب الدنيا موقوت، فيه خزي وهوان، لكن محدوديته في الحياة يجعله عذابا قليلا بالقياس إلى عذاب الآخرة المؤبد.
وجاء الحق سبحانه بأمر عذاب الخلد كأمر من كسبهم، والكسب زيادة عن الأصل، فمن يتاجر بعشرة جنيهات، وقد يكسب خمسة جنيهات.
وهنا سؤال : هل الذي يرتكب معصية يكسب زيادة عن الأصل ؟ نعم ؛ لأن الله سبحانه حرم عليه أمرا، وحلله هو لنفسه، فهو يأخذ زيادة في التحليل، وينقص من التحريم وهو يظن أنه قد كسب( ٢ ) بمفهومه الوهمي الذي زين له مراد النفس الأمارة، وهذا يعني انه ينظر إلى واقع اللذة في ذاتها، ولا ينظر إلى تبعات( ٣ ) تلك اللذة، وهو يظن أنه قد كسب، رغم أنه خاسر في حقيقة الأمر.
١ الخلد: الدوام، والمراد انه عذاب دائم.[اللسان: مادة (خ ل د)]..
٢ قال الله تعالى:﴿لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت..(٢٨٦)﴾[البقرة] فالذي يحلل الحرام وأدخله على نفسه عليه أن يحتمل التبعات المترتبة على هذا، فله بعمله الصالح الكسب، وعليه بعمله الشيء جزاء ما اكتسب..
٣ تبعة الشيء: نتيجته وعاقبته وما يترتب عليه من أثر.[المعجم الوسيط: مادة (ت ب ع)]..
وبعد ذلك يقول الحق سبحانه :
﴿ ويستنبئونك أحق هو قل إي( ١ ) وربي إنه لحق وما أنتم بمعجزين( ٢ ) ( ٥٣ ) ﴾ :
وهم قد قالوا من قبل :﴿ متى هذا الوعد.. ( ٤٨ ) ﴾[ يونس ] : وهم هنا قد عادوا للتساؤل. ﴿ ويستنبئونك ﴾أي : يطلبون منك النبأ. والنبأ هو الخبر المتعلق بشيء عظيم، وهم يطلبون الخبر منك يا رسول الله ويتساءلون : أهو حق ؟ وكلمة " حق " هنا لها معطيات كثيرة ؛ لأن ﴿ هو ﴾ يمكن أن تعود على أصل الدين قرآنا ؛ ونبوة، وتشريعا، وهي كلمة تحمل التصديق بأن القرآن حق، والتشريع حق، والنبوة لمحمد صلى الله عليه وسلم حق، والقيامة والبعث حق، والكلام عن العذاب في الدنيا بخذلانهم ونصرة المؤمنين عليهم حق.
إذن : فقولهم :﴿ ويستنبئونك( ٣ ) أحق هو.. ( ٣٥ ) ﴾ لها أكثر من مرجع، كأنهم سألوا : هل القرآن الذي جئت به حق ؟ وهل النبوة التي تدعيها حق ؟ وهل الشرائع- التي تقول : إن الله أنزلها كمنهج يحكم حركة الإنسان-حق ؟
وهل القيامة والبعث حق ؟ وهل العذاب في الدنيا حق ؟ إنها كلمة شاملة يمكن أن تؤول إلى أكثر من معنى.
ويأتي الجواب من الله تعالى :﴿ قل أي ربي إنه لحق.. ( ٣٥ ) ﴾ [ يونس ] : وأنت حين يستفهم منك أحد قائلا : هل زيد موجود ؟ فأنت تقول : نعم موجود. ولا تقول له : والله إن زيدا موجود ؛ لأنك لن تؤكد الكلام لمن يسألك ؛ لأنه لا ينكر وجود زيد.
إذن : فأنت لن تؤكد إجابة ما إلا إذا كان هناك في السؤال شبهة إنكار. إذن : فأنت تستدل من قول الحق سبحانه :﴿ ويستنبئونك أحق هو.. ( ٣٥ ) ﴾ على أن سؤالهم يحمل معاني الإنكار والاستهزاء ؛ ولذلك جاء الجواب ب " إي " ( ٤ ) وهو حرف جواب يعني : " نعم "، وتأتي " إي " دائما مع القسم.
ولكل حرف من حروف الجواب مقام، فهناك " بلى " وهي تأتي في جواب سؤال منفي، مثل قوله تعالى :﴿ ألست بربكم قالوا بلى.. ( ١٧٢ ) ﴾[ الأعراف ]، وقول الحق سبحانه هنا :﴿ إي وربي.. ( ٥٣ ) ﴾[ يونس ] : تعني : نعم وأقسم بربي إنه لحق. وأنت لا تقسم على شيء إلا إذا كان السائل عنده شبهة إنكار، وتأتي ب " إن " لمزيد من هذا التأكيد.
ومثال ذلك في قوله سبحانه :﴿ واضرب لهم مثلا أصحاب القرية( ٥ ) إذ جاءها المرسلون( ١٣ ) إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا( ٦ ) بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون( ١٤ ) ﴾[ يس ]. وماذا كان رد من بعث إليهم الثلاثة ؟
﴿ قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمان من شيء إن أنتم إلا تكذبون( ١٥ ) ﴾[ يس ] : هكذا كان إنكار المكذبين للرسل الثلاثة شديدا. فقال لهم الرسل :
﴿ ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون( ١٦ ) ﴾[ يس ] : فكان قولهم هذا مناسبا لإنكار الكافرين الشديد.
إذن : فالتأكيد في أسلوب المسئول إنما يأتي على مقدار الإنكار، فإن لم يكن هناك إنكار ؛ فلا يحتاج الأمر إلى تأكيد.
أما إذا صادف الكلام إنكارا قليلا، فالتأكيد يأتي مرة واحدة. وإن صادف الكلام لجاجة في الإنكار جاء التأكيد مرتين. أما إذا ما صادف الكلام تبجحا في الإنكار فالتأكيد يأتي ثلاث مرات.
وقد علم الحق سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم هنا أن يرد على استنبائهم بأن يقول لهم :﴿ إي وربي إنه لحق.. ( ٥٣ ) ﴾[ يونس ] : وهنا يقسم الرسول صلى الله عليه وسلم بالرب ؛ لأن الرب هو من كلفه، ثم يؤكد ﴿ إنه لحق ﴾ لأن سؤالهم تضمن الإنكار والاستهزاء.
وما دام قد قال :﴿ إي وربي لحق ﴾ فهم إن لم يؤمنوا فسوف يلقون العذاب ؛ لأنه ليس هناك منجى من الله تعالى، ولن تعجزوا الله هربا، ولن تعجزوه شفاعة من أحد، ولن تعجزوه بيعا، ولن تعجزوه خلة تتقدم لتشفع لكم.
ثم يأتي قوله سبحانه في نهاية الآية :﴿ وما أنتم بمعجزين( ٥٣ ) ﴾[ يونس ] : وقد أراد الحق سبحانه أن يفسر لمحة من الإعجاز، ذلك أن الله سبحانه وتعالى من الممكن أن يقبل شفاعة الشافعين، ومن الممكن أن يقبل الفداء( ٧ ) ؛ ولذلك جاء الإيضاح في الآية التالية، فيقول سبحانه :
﴿ ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به وأسروا الندامة( ٨ ) لما رأوا العذاب وقضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون( ٥٤ ) ﴾ :
١ إي: نعم. حرف جواب..
٢ أي: أنكم لن تعجزوا الله عن أن يعيدكم بعد موتكم وأن يحشركم وأن يعذبكم بما كنتم تكسبون..
٣ النبأ: الخبر، أو الخبر ذو الشأن، قال تعالى:﴿عم يتساءلون(١) عن النبأ العظيم(٢)﴾[النبأ] وهذا النبأ هو البعث. وأنبأه بالشيء وبنأه به: اخبر به، وأنبأ يتعدى لمفعول به واحد، مثل قوله تعالى:﴿أنبئهم بأسمائهم..(٣٣)﴾[البقرة]، ويتعدى لمفعولين مثل:﴿قالت من أنبأك هذا..(٣)﴾[التحريم]، وقد يتعدى بحرف الجر(عن) كقوله:﴿ونبئهم عن ضيف إبراهيم(٥١)﴾[الحجر] أي: حدثهم. واستنبأه: طلب أن ينبئه كقوله تعالى:﴿ويستنبئونك أحق هو قل أي وربي انه لحق..(٥٣)﴾[يونس].
٤ إي: حرف جواب، مثل نعم. ويقع بعد القسم كقوله تعالى:﴿ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي إنه لحق..( ٥٣)﴾[يونس].
٥ قيل هي أنطاكية، بين سوريا وتركيا وقد تكزون قرية أخرى، وكان ملكها يعبد الأصنام، فبعث الله تعالى إليه ثلاثة من الرسل فكذبهم. من تفسير ابن كثير(٣/٥٦٨) بتصرف..
٦ عززنا: أيدنا وقوينا..
٧ الفداء: ما يقدم من مال ونحوه لتخليص المفدى. قال تعالى:﴿وفديناه بذبح عظيم(١٠٧)﴾[الصافات].[المعجم الوسيط: مادة (ف د ى)]..
٨ ندم على ما فعل يندم وندامة، ومن باب فرح: أسف وتحسر وتمنى أنه لم يفعله، قال تعالى:﴿وأسروا الندامة لما رأوا العذاب..(٥٤)﴾[يونس] ونادم اسم فاعل قال الحق:﴿فأصبح من النادمين..(٣١)﴾[المائدة]..
وساعة يأتي العذاب فالإنسان يرغب في الفرار منه، ولو بالافتداء.
وانظر كيف يحاول الإنسان أن يتخلص من كل ما يملك افتداء لنفسه، حتى ولو كان يملك كل ما في السماوات وما في الأرض( ١ ).
ولكن هل يأتي لحد-غير الله سبحانه- أن يملك السماوات والأرض ؟ طبعا لا.
إذن : فالشر لا يتأتى. وهب أنه تأتى، فلن يصلح الافتداء بملك ما في السماوات وما في الأرض ؛ لأن الإنسان الظالم في الدنيا قد أخذ حق الغير، وهذا الغير قد كسب بطريق مشروع ما أخذه الظالم منه، والظالم إنما يأخذ ثمرة عمل غيره، ولو صح ذلك لتحول البعض إلى مغتصبين لحقوق الغير، ولأخذوا عرق وكدح غيرهم، ولتعطلت حركة الحياة.
ولذلك إن لم يردع الله-سبحانه وتعالى- الظالم في الدنيا قبل الآخرة لاستشرى الظلم، وإذا استشرى الظلم في مجتمع، فالبطالة تنتشر فيه، ويحاول كل إنسان أن يأخذ من دم وعرق غيره، وبهذا يختل ميزان العدل وتفسد حركة الحياة كلها.
وهب أن الظالم أخذ ملك الدنيا كلها، وأراد أن يفتدى به نفسه ساعة يأتي العذاب، ويفاجأ بأن كسبه من حرام لا يقبل فداء، أليس هذا هو الخسران الكبير ؟ وهذه ظاهرة موجودة في دنيا الناس.
وهب أن واحدا ارتشى أو اختلس أو سرق، ويفاجئه القانون ليمسكه من تلابيبه( ٢ ) فيقول : خذوا ما عندي واتركوني. ولن يقبل القائمون على القانون ذلك. وإن كان مثل هذا التنازل يحدث في ( الجمارك ) فنرى من يتنازل عن البضائع المهربة مقابل الإفراج عنه، هذا ما يحدث في الدنيا، لكنه لن يحدث في الآخرة.
وفي سورة البقرة يقول الحق سبحانه :﴿ واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل( ٣ ) ولا هم ينصرون( ٤٨ ) ﴾[ البقرة ].
وقال الحق سبحانه في آية أخرى :﴿ واتقوا يوما لا تجزى نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون( ١٢٣ ) ﴾[ البقرة ] :
وقال بعض المشككين أن الآيتين متشابهتان، ولم يلتفتوا إلى أن كل آية تختلف عن الأخرى في التقديم للعدل، والتأخير للشفاعة.
والبلاغة الحقة تتجلى في الآيتين ؛ لأن القارئ لصدر كل آية منهما، والفاهم للملكة اللغوية العربية يعرف أن عجز كل آية يناسب صدرها.
ومن يقرأ قول الحق سبحانه :﴿ واتقوا يوما لا تجزى نفس عن نفس.. ( ٤٨ ) ﴾[ البقرة ].
يرى أنه أمام نفسين : النفس( ٤ ) الأولى هي التي تقدم الشفاعة، والنفس الثانية هي المشفوع لها. والشفاعة هنا لا تقبل من النفس الأولى الشفاعة، وكذلك لا يقبل العدل.
وفي الآية الثانية لا تقبل الشفاعة ولا العدل من النفس المشفوع لها، فهي تحاول أن تقدم العدل أولا، ثم حين لا ينفعها تأتي بالشفيع.
وهكذا جاء التقديم والتأخير في الآيتين مناسبا للموقف في كل منهما.
وهنا يقول الحق سبحانه :﴿ ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به.. ( ٥٤ ) ﴾[ يونس ] : وفي هذا القول تعذر النفس الواحدة لكل ما في الأرض، ولو افترضنا أن هذه النفس ملكته فلن تستطيع الافتداء به ؛ وتكون النتيجة هي ما يقوله الحق سبحانه :﴿ وأسروا الندامة لما رأوا العذاب.. ( ٥٤ ) ﴾[ يونس ] : أي : أخفوا الحسرة التي تأتي إلى النفس، وليس لها ظاهر من انزعاج لفظي أو حركي.
إن كلا منهم يكتم همه في قلبه، لأنه ساعة يرى العذاب ينبهر ويصعق ويبهت( ٥ ) من هول العذاب، فتجمد دماؤه، ولا يستطيع حتى أن يصرخ، وهو بذلك إنما يكبت ألمه في نفسه، لأن هول الموقف يجمد كل دم في عروقهم، ويخرس ألسنتهم، ولا يستطيع أن ينطق، لأنه يعجز عن التعبير الحركي من الصراخ أو الألم.
ونحن نعلم أن التعبير الحركي لون من التنفيس البدني، وحين لا يستطيعه الإنسان، فهو يتألم أكثر.
هم- إذن- يسرون الندامة حين يرون العذاب المفزع المفجع، والكلام هنا عن الظالمين، وهم على الرغم من ظلمهم، فالحق سبحانه يقول :﴿ وقضي بينهم بالقسط( ٦ ) وهم لا يظلمون( ٥٤ ) ﴾[ يونس ] : وهؤلاء رغم كفرهم واستحقاقهم للعذاب يلقون العدل من الله، فهب أن كافرا بالله بمنأى عن الدين ظلم كافرا آخر، أيقف الله سبحانه من هذه المسألة موقفا محايدا ؟
لا، لأن حق خلق الله سبحانه- الكافر المظلوم- يقتضي أن يقتص الله سبحانه له من أخيه الكافر الظالم، لأن الظلم الكافر، إنما ظلم مخلوقا لله، حتى وإن كان المظلوم كافرا.
ولذلك يقضي الله بينهم بالحق، أي : يخفف عن المظلوم بعضا من العذاب بقدر ما يثقله على الظالم.
هذا هو معنى ﴿ وقضي بينهم ﴾ لأنها تتطلب قضاء، أي : عدم تحيز، وتتطلب الفصل بين خصومتين.
ويترتب على هذا القضاء حكم ؛ لذلك يبين لنا الحق سبحانه أنهم-وإن كانوا كافرين به- إلا أنه إن وقع من أحدهم ظلم على الآخر، فالحق رب الجميع وخالق الجميع، كما أعطاهم بقانون الربوبية كل خير مثلما أعطى المؤمنين، فهو سبحانه الذي أعطى الشمس، والماء، والهواء، وكل وسائل الرزق والقوت لكل الناس- مؤمنهم، وكافرهم-فإذا ما حدث ظلم بين متدينين بدين واحد، أو غير متدينين، فلا بد أن يقضي فيه الحق سبحانه بالفصل والحكم بالعدل.
١ يقول سبحانه:﴿يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه(١١) وصاحبته وأخيبه(١٢) وفصيلته التي تؤويه(١٣) ومن في الأرض جميعا ثم ينجيه(١٤)﴾[المعارج]..
٢ التلابيب: مجامع ثياب الرجل. والتلبيب: هو جمع الثوب الذي يلبسه عند صدره ونحره، وجره.[اللسان مادة لبب]..
٣ العدل: الفدية المماثلة، قال تعالى:﴿ولا يؤخذ منها عدل..(٤٨)﴾[البقرة] أي: لا ينجيها من العذاب دفع فدية مماثلة ولا تقبل منها. وعدل الشيء وعدله أقامه وسواه، قال الحق:﴿الذي خلقك فسواك فعدلك(٧)﴾[الانفطار] وعدل المشرك بربه: جعل له مساويا. قال تعالى:﴿ثم الذين كفروا بربهم يعدلون..(١)﴾[الأنعام] وما كان ينفى أن يعدلوا غيره، فليس كمثله شيء، ومثلها قوله:﴿أإله مع الله بل هو قوم يعدلون(٦٠)﴾[النمل]. أي: يجعلون له شريكا مساويا. وأما قوله:﴿وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون(١٨١)﴾[الأعراف] أي: يحكمون بالعدل [القاموس القويم]..
٤ أي: فالآية الأولى تتحدث عن عدم القبول من النفس الشافعة، والآية الثانية تتحدث عن عدم قبول العدل أولا والشفاعة ثانيا من النفس المشفوع لها، هذا ما يفهم من مرادات الشيخ رضي الله عنه..
٥ يبهت: أي: يتملكه هول ما يحدث، فينقطع عن الكلام أو غيره..
٦ القسط: المراد به هنا العدل..
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ ألا إن لله ما في السماوات والأرض ألا إن وعد( ١ ) الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون( ٥٥ ) ﴾ :
و " ألا " في اللغة يقال عنها " أداة تنبيه " وهي تنبه السامع أن المتكلم سيقول بعدها كلاما في غاية الأهمية، والمتكلم-كما نعلم- يملك زمام لسانه، بحكم وضعه كمتكلم، لكن السامع يكون في وضع المفاجأ.
وقد يتكلم متكلم بما دار في ذهنه ليبرزه على لسانه للمخاطب، ولكن المخاطب يفاجأ، وإلى أن ينتبه قد تفوته كلمة أو اثنتان مما يقوله المتكلم.
والله سبحانه وتعالى يريد ألا يفوت السامع لقوله أي كلمة، فأتى بأداة تنبيه تنبه إلى الخبر القادم بعدها، وهو قول الحق سبحانه :﴿ إن لله ما في السماوات والأرض.. ( ٥٥ ) ﴾[ يونس ] : هكذا شاء الحق سبحانه أن تأتي أداة التنبيه سابقة للقضية الكلية، وهي أنه سبحانه مالك كل شيء، فهو الذي خلق الكون، وخلق الإنسان الخليفة، وسخر الكون للإنسان الخليفة، وأمر الأسباب أن تخضع لمسببات عمل العامل ؛ فكل من يجتهد ويأتي بالأسباب ؛ فهي تعطيه، سواء أكان مؤمنا أو كافرا.
وإذا خدمت الأسباب الإنسان، وكان هذا الإنسان غافلا عن ربه أو عن الإيمان به، ويظن أن الأسباب قد دانت له بقوته، ويفتن بتلك الأسباب، ويقول مثلما قال قارون :﴿ إنما أوتيته( ٢ ) على علم عندي.. ( ٧٨ ) ﴾[ القصص ].
فالذي نسى مسبب الأسباب، وارتبط بالأسباب مباشرة، فهو ينال العذاب، وإن لم يكن في الدنيا ففي الآخرة ؛ فكأن الحق سبحانه ينبههم : تنبهوا أيها الجاهلون، وافهموا هذه القضية الكبرى :﴿ إن لله ما في السماوات والأرض.. ( ٥٥ ) ﴾[ يونس ].
فإياك أيها الإنسان أن تغتر بالأسباب، أو أنك بأسبابك أخذت غير ما يريده الله لك، فهو سبحانه الذي أعطاك وقدر لك، وكل الأسباب تتفاعل لك بعطاء وتقدير من الله عز وجل.
وفي أغيار الكون الدليل على ذلك، ففكرك الذي تخطط به قد تصيبه آفة الجنون، والجوارح مثل اليد أو القدم أو اللسان أو العين أو الأذن قد تصاب أي منها بمرض ؛ فلا تعرف كيف تتصرف.
وكل ما تأتي فيه الأغيار ؛ فهو ليس من ذاتك، وكل ما تملكه موهوب لك من مسبب الأسباب.
فإياك أن تنظر إلى الأسباب، وتنسى المسبب ؛ لأن لله ملك الأشياء التي تحوزها والأدوات التي تحوز بها ؛ بدليل أنه سبحانه حين يشاء يسلبها منك، فتنبه أيها الغافل، وإياك أن تظن أن الأسباب هي الفاعلة، بدليل أن الله سبحانه وتعالى يخلق الأسباب ؛ ثم يشاء ألا تأتي بنتائجها، كمن يضع بذور القطن-مثلا- ويحرث الأرض، ويرويها في مواعيدها، ثم تأتي دودة القطن لتأكل المحصول. إذن : فمرد كل مملوك إلى الله تعالى.
واعلم أن هناك ملكا، وأن هناك ملكا، والملك( ٣ ) هو ما تملكه ؛ جلبابا ؛ أو بيتا، أو حمارا، إلى غير ذلك، أما الملك فهو أن تملك من له ملك، وتسيطر عليه، فالقمة-إذن-في الملك.
وانظر إلى قول الحق سبحانه :﴿ قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء.. ( ٢٦ ) ﴾[ آل عمران ] : إذن " فالملك في الدنيا كله لله سبحانه.
وكلمة " ألا " جاءت في أول الآية-التي نحن بصدد خواطرنا عنها- لتنبه الغافل عن الحق ؛ لأن الأسباب استجابت له وأعطته النتائج، فاغتر بها، فيجعل الله سبحانه الأسباب تختلف في بعض الأشياء ؛ ليظل الإنسان مربوطا بالمسبب.
ويقول الحق سبحانه في نفس الآية :﴿ إلا إن وعد الله حق.. ( ٥٥ ) ﴾[ يونس ] : والوعد إن كان في خير فهو بشارة بخير يقع، وإن كان بشر فهو إنذار بشر يقع ؛ ويغلب عليه كلمة " الوعيد ". إذن : ففي غالب الأمر تأتي كلمة " وعد " للاثنين : الخير والشر، أما كلمة " وعيد " فلا تأتي إلا في الشر.
والوعد : هو إخبار بشيء سيحدث من الذي يملك أن يحدث الشيء. وإنفاذ الوعد له عناصر : أولها الفاعل، وثانيها المفعول، وثالثها الزمان، ورابعها المكان، ثم السبب.
والحدث يحتاج إلى قدرة، فإن قلت :" آتيك غدا في المكان الفلاني لأكلمك في موضوع كذا " فماذا تملك أنت من عناصر هذا الحدث ؛ إنك لا تضمن حياتك إلى الغد، ولا يملك سماعك حياته، وكذلك المكان الذي تحدد فيه اللقاء قد يصيبه ما يدمره، والموضوع الذي تريد أن تتحدث فيه، قد يأتي لك خاطر ألا تتحدث فيه من قبل أن يتم اللقاء.
وهب أن كل العناصر اجتمعت، فماذا تملك أنت أو غيرك من عناصر الوعد ؟ لا شيء أبدا.
ولذلك يعلم الله سبحانه خلقه الأدب إعطاء الوعود، التي لا يملكونها، فيقول سبحانه :﴿ ولا تقولن( ٤ ) لشيء إني فاعل ذلك غدا( ٢٣ ) إلا أن يشاء الله.. ( ٢٤ ) ﴾[ الكهف ]. وحين تقدم المشيئة فإن حدث لك ما يمنع إنفاذ الوعد فلن تكون كذابا.
وهكذا يعلمنا ربنا صيانة أخبارنا عن الكذب، وجعلنا نتكلم في نطاق قدراتنا، وقدراتنا لا يوجد فيها عنصر من عناصر الحدث، لكن إذا قال الله سبحانه، ووعد، فلا راد لما وعد به سبحانه ؛ لأنه منزه عن أن يخلف الميعاد ؛ لأن عناصر كل الأحداث تخضع لمشيئته سبحانه، ولا تتأبى عليه( ٥ )، ووعده حق وثابت. أما أنت فتتحكم فيك الأغيار التي يجريها الحق سبحانه عليك.
وهب أنك أردت أن تبني بيتا، وقلت للمهندس المواصفات الخاصة التي تريدها في هذا البيت، لكن المهندس لم يستطع أن يشتري من الأسواق بعضا من المواد التي حددتها أنت، فأنت-إذن-قد أردت ما لا يملك المهندس تصرفا فيه.
لكن الأمر يختلف بالنسبة للخالق الأعلى سبحانه ؛ فهو الذي يملك كل شيء، وهو حين يعد يصير وعده محتم النفاذ، ولكن الكافرين ينكرون ذلك ؛ ولذلك قال الله سبحانه :﴿ ولكن أكثرهم لا يعلمون( ٥٥ ) ﴾[ يونس ]أي : أنهم لا يعلمون هذه الحقيقة، فقد سبق أن قالوا :﴿ متى هذا الوعد.. ( ٤٨ ) ﴾[ يونس ]، أو أن ﴿ أكثرهم لا يعلمون ﴾ تعني : أن الإنسان يجب ألا يضع نفسه في موعد دون أن يقدم المشيئة ؛ لأنه لا يملك من عناصر أي وعد إلا ما يشاؤه الله تعالى.
١ وعده شيئا يعده وعدا وعدة: أخبره أنه سيحققه له أو سيعطيه إياه، يتعدى لمفعولين، وقد يحذف أحد المقولين للعلم به، قال الحق:﴿وكلا وعد الله الحسنى..(٩٥)﴾[النساء] كلا: مفعول به أول مقدم، والحسنى مفعول به ثان. أي: أخبرهم الله أنه سيعطيهم أحسن الدرجات، والوعد يأتي للخير كثيرا، وللشر أحيانا كما في قوله:﴿الشيطان يعدكم الفقر..(٢٦٨)﴾[البقرة] أي: ينذركم ويخوفكم بالشر، والفعل متعد لمفعولين "كم" مفعول أول، والفقر مفعول ثان.[القاموس القويم-بتصرف]..
٢ وقد قال سبحانه:﴿إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين(٧٦)﴾[القصص]. وقارون هو ابن عم موسى عليه السلام، أعطاه الله من الأموال المودعة في الخزائن حتى أن مفاتيحها لا تستطيع الجماعة من الناس حملها لكثرتها وثقلها، فأهلكه الله ببغيه وفرحه بماله وتعظمه على الناس، وقوله:﴿إنما أوتيته على علم عندي..(٧٨)﴾[القصص] فكان جزاؤه:﴿فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين(٨١)﴾[القصص]..
٣ الملك: في الأعيان والمحسوسات حقيقة، وفي المعاني مجاز، فمن الملك الحقيقي قال تعالى:﴿إني وجدت امرأة تملكهم..(٢٣)﴾[النمل]، ومن المجاز قوله:﴿أمن يملك السمع والأبصار..(٣١)﴾[يونس].
ومالك اسم فاعل، وجمعه مالكون، قال الحق:﴿فهم لها مالكون..(٧١)﴾[يس] ومملوك اسم مفعول كقوله تعالى:﴿ضرب الله مثلا عبدا مملوكا..(٧٥)﴾[النحل] والملك مصدر، قال تعالى:﴿قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا..(٨٧)﴾[طه] أي: بإرادتنا واختيارنا. والملك مصدر بمعنى السلطان، قال تعالى:﴿على ملك سليمان..(١٠٢)﴾[البقرة] أي: على عهد ملك سليمان. والملك: الحاكم، قال تعالى:﴿وقال الملك ائتوني به استخلصه لنفسي..(٥٤)﴾[يوسف] هو فرعون، وقرئ ملم يوم الدين، ومالك يوم الدين. والملك والمالك والمليك من أسماء الله الحسنى، والملكوت: الملك العظيم، وهو لله خاصة، قال الحق:{بيده ملكوت كل شيء..(٨٣)[يس] والملك واحد الملائكة "القاموس القويم- بتصرف"..

٤ ذكر محمد بن إسحاق أن كفار قريش وفدا منهم إلى أحبار لليهود يسألونه عن صفة الرسول صلى الله عليه وسلم قائلين لهم: إنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم ما ليس عندنا من علم الأنبياء، فأوصى اليهود كفار قريش بسؤال محمد صلى الله عليه وسلم عن ثلاثة أمور، منها:"سلوه عن فتية في الدهر الأول ما كان من أمرهم فإنهم قد كان لهم حديث عجيب" فسألوه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أخبركم غدا عما سألتم عنه" ولم يستثن-أي: لم يقل: إن شاء الله، فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة لا يوحى إليه في ذلك شيء فنزلت هذه الآية. ذكره ابن كثير في تفسيره(٣/٧١)..
٥ التأبى: هو الامتناع وعدم الانصياع. والإباء: أشد الامتناع.[اللسان: مادة أبى]..
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ هو يحي ويميت وإليه ترجعون( ٥٦ ) ﴾ :
ونحن نعلم أن حركة الحياة، والملك والملك، هي فروع من الأحياء، وهو سبحانه حي ؛ لأنه مالك الأصل، وهو القادر على لأن يميت، وكل ما يصدر عن الحياة يسلبه( ١ ) الله سبحانه بالموت، فهو مالك الأشياء، والأسباب التي تنتج الأشياء، ولا يفوته شيء من وعد ولا وعيد، ونحن نحيا بمشيئته سبحانه، ونموت بمشيئته سبحانه، فلن نفلت منه. لذلك قال سبحانه :﴿ وإليه ترجعون ﴾ فمن لا يعتبر بأمر الأحياء ؛ عليه أن يرتدع بخوف الرجعة.
١ سلبه الشيء ويسلبه من باب نصر سلبا: فزعه منه قهرا أو اختلسه، يقول الحق:﴿وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقدوه منه..(٧٣)﴾[الحج] أي: ينزع منهم شيئا، وهو فعل يتعدى لمفعولين "القاموس القويم"..
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين( ٥٧ ) ﴾ :
والخطاب هنا للناس جميعا ؛ لأن الحق سبحانه حين يخاطب المؤمنين بقوله تعالى :
﴿ يا أيها الذين آمنوا.. ( ١٠٤ ) ﴾[ البقرة ] : فهذا خطاب لمن آمن بالمنهج.
والحق سبحانه وتعالى يخاطب الناس كافة بأصول العقائد، مثل قول الحق سبحانه :
﴿ يا أيها الناس اتقوا ربكم.. ( ١ ) ﴾[ النساء ] : أما المؤمنون فسبحانه يكلفهم بخطابه إليهم، من مثل قول الحق سبحانه :﴿ يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام.. ( ١٨٣ ) ﴾[ البقرة ].
ومثل قول الحق :﴿ يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص( ١ ) في القتلى.. ( ١٧٨ ) ﴾[ البقرة ] : أي : أن خطابه سبحانه للمؤمنين يكون دائما في الأحكام التي يخاطب بها المؤمنين، أما في أصول العقائد والإيمان الأعلى بالواجد الموجد، فهذا يكون خطابا للناس كافة.
والحق سبحانه يقول هنا :﴿ يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة.. ( ٥٧ ) ﴾[ يونس ] : والآية هنا تصور الموعظة وكأنها قد تجسدت وصار لها مجيء، رغم أن الموعظة هي كلمات، وأراد الله تعالى بذلك أن يعطي للموعظة صورة الحركة التي تؤثر وتحض على الإيمان.
والموعظة( ٢ ) هي الوصية بالخير والبعد عن الشر بلفظ مؤثر، ويقال : فلان واعظ متميز، أي : أن كلامه مستميل وأسلوبه مؤثر وجميل، والموعوظ دائما أضعف من الواعظ، وتكون نفس الموعوظ ثقيلة، فلا تتقبل الموعظة بيسر إلا ممن يجيد التأثير بجمال الكلمة وصدق الأداء( ٣ ) ؛ لأن الموعوظ قد يقول في نفسه : لقد رأيتني في محل دونك وتريد أن ترفعني، وأنت أعلى مني. فإذا قدر الواعظ هذا الظرف في الموعوظ فهو يستميل نفسه.
ولنتذكر الحكمة التي تقول :" النصح ثقيل، فلا تجعلوه جدلا، ولا ترسلوه جبلا، واستعيروا له خفة البيان " ؛ وذلك لتستميل أذن السماع إليك فتأتى له بالأسلوب الجميل المقنع الممتع الذي يعجبه، وتلمس في نفسه صميم ما ترغب أن يصل إليه.
والموعظة تختلف عن الوصية ؛ لأن الوصية عادة لا تتأتى إلا في خلاصة حكمة الأشياء، وهب أن إنسانا مريضا وله أولاد، وحضرته الوفاة، فيقوم بكتابة وصيته، ويوصيهم بعيون( ٤ ) المسائل.
والحق سبحانه يقول هنا :﴿ قد جاءتكم موعظة.. ( ٥٧ ) ﴾[ يونس ] : والموعظة إما أن تسمعها أو ترفضها، ولأنها موعظة قادمة ﴿ من ربكم ﴾ فلا بد من الالتفات والانتباه، وملاحظة أن الحق سبحانه قد اختص الموعظة بأنها من الرب، لا من الإله ؛ لأن الإله يريدك عابدا، لكن الرب هو المربي والكفيل، وإن كفرت به.
وهذه الموعظة قادمة من الرب، أي : أنها من كمالات التربية، ونحن نعلم أن متعلقات الربوبية تتوزع ما بين قسمين : القسم الأول هو مقومات الحياة التي يعطيها الحق سبحانه من قوت ورزق-وهذه المقومات للمؤمن، وللكافر- والقسم الآخر هو مقومات القيم التي ترسم منهج حركة الحياة، وهذه للمؤمن فقط.
إذن : فالموعظة هي نوع من التربية جاءت من ربكم المأمون عليكم ؛ لأنه هو الذي خلق من عدم وأمد من عدم، ولم يختص بنعمة الربوبية المؤمنين فقط، بل شملت نعمته كل الخلق.
إذن : فالموعظة تجيء من يعطي ولا ينتظر منك شيئا، فهو سبحانه منزه عن الغرض ؛ لأنه لن ينال شيئا منك( ٥ ) فأنت لا تقدر على شيء مع قدرته سبحانه.
والموعظة القادمة بالمنهج تخص العقلاء الراشدين ؛ لأن حركة العاقل الراشد تمر على عقله أولا، ويختار بين البدائل، أما حركة المجنون فهي غير مرتبة ولا منسقة، ولا تمر على عقله ؛ لأن عقله مختل الإدراك وفاقد للقدرة على الاختيار بين البدائل.
ولكن لماذا يفسد العاقل الاختيار بين البدائل( ٦ ) ؟ إن الذي يفسد حركة اختيار العاقل هو الهوى، والهوى إنما ينشأ مما في النفس والقلب ؛ ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها :﴿ قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور.. ( ٥٧ ) ﴾[ يونس ] : أي : أنه سبحانه قد أنزل عليكم ما يشفي صدوركم من غل يؤثر في أحكامكم، وحقد، وحسد، ومكر، وينقي باطن الإنسان ؛ لأن أي حركة من حركات الإنسان لها نبع وجداني، ولا بد أن يشفى النبع الوجداني ؛ ليصح ؛ حتى تخرج الحركات من الجوارح وهي نابغة من وجدان طاهر مصفى وسليم ؛ وبذلك تكون الحركات الصادرة من الإنسان سليمة( ٧ ).
ولذلك قال الحق سبحانه :﴿ وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين( ٥٧ ) ﴾[ يونس ] : وجاءت كلمة " لشفاء " أولا ؛ لتبين أن الهداية الحقة إلى الطريق المستقيم تقتضي أن تخرج ما في قلبه من أهواء، ثم تدله إلى المنهج المستقيم.
وإن سأل سائل عن الفارق بين الشفاء والرحمة ؟ نجيب : إن الشفاء هو إخراج لما يمرض الصدور، أما الرحمة فهي إتباع الهداية بما لا يأتي بالمرض مرة أخرى، واقرأ عن شئت قول الحق سبحانه :﴿ وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين.. ( ٨٢ ) ﴾[ الإسراء ] : وهكذا يتبين لنا أثر الموعظة : شفاء، وهدى، ورحمة، إنها تعالج ليس ظواهر المرض فقط، ولكن تعالج جذور المرض.
إذن : فشفاء الصدور يجب أن يتم أولا ؛ لذلك نجد الطبيب الماهر هو من لا ينظر إلى ظواهر المرض فقط ليعالجها، ولكنه يبحث عما خلف تلك الظواهر، على عكس الطبيب غير المدرب العجول الذي يعالج الظواهر دون علاج جذور المرض.
ومثال ذلك : طبيب الأمراض الجلدية غير الماهر حين يرى بثورا ؛ فهو يعالجها بما يطمسها ويزيلها مؤقتا، لكنها تعود بعد قليل، أما الطبيب المدرب الفاهم فهو يعالج الأسباب التي تنتج البثور، ويزيلها بالعلاج الفعال ؛ فيقضي على أسباب ظهورها.
وفي القرآن الكريم نجد قصة ابتلاء سيدنا أيوب عليه السلام، فقد قال له الحق سبحانه :﴿ اركض( ٨ ) برجلك هذا مغتسل بارد وشراب( ٤٢ ) ﴾[ ص ] : أي : اضرب برجلك ذلك المكان يخرج لك منه ماء بارد، فتغسل منه ؛ فيزيل الأعراض الظاهرة، وتشرب منه ليعالج أصل الداء.
إذن : فالموعظة وكأنها تجسدت، فجاءت من ربكم-المأمون عليكم- شفاء حتى تعالج المواجيد( ٩ ) التي تصدر عنها الأفعال، وتصبح مواجيد سليمة مستقيمة، لا تحلل فيها، وهدى إلى الطريق الموصل إلى الغاية الحقة، ورحمة إن اتبعها الإنسان لا يصاب بأي داء، وهذه الموعظة تؤدي إلى العمل المقبول عند الله سبحانه.
ولكن إن صحت لك الأربعة النابعة من الموعظة : الشفاء، والهدى، والرحمة والعمل الصالح، فإياك أن تفرح بذلك ؛ ففوق كل ذلك فضل الله عليك ؛ ولذلك يقول الحق سبحانه :
﴿ قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون( ٥٨ ) ﴾ :
١ القصاص: هو توقيع العقاب على ما قتل أو جرح غيره بمثل ما قتل أو جرح، وهي شريعة جاءت التوراة بها وأقرتها شريعة الإسلام، قال تعالى:﴿وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص..(٤٥)﴾[المائدة].
٢ وعظه يعظه وعظا وعظة: نصحه بالطاعة والعمل الصالح، وأرشده إلى الخير. قال تعالى مصورا عناد الكافرين:﴿قالوا سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين(١٣٦)﴾ [الشعراء] فهم لعنادهم يتساوى عندهم الأمران. والموعظة ما يوعظ به من قول أو فعل كقوله تعالى:﴿وموعظة للمتقين(٦٦)﴾[البقرة] وقال:﴿ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة..(١٢٥)﴾[النحل]، والموعظة لها مقدمات بلاغية من منطق إيماني. مادة وعظ بتصرف. من " القاموس القويم"..
٣ وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة والمثل الأعلى في الموعظة الحكيمة، فعن العرباض بن سارية قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذات يوم، فوعظنا موعظة بليغة، وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون.." الحديث أخرجه ابن ماجه في سننه(٤٢) والترمذي (٢٦٧٦) وأحمد في مسنده (٤/١٢٧، ١٢٦)..
٤ في عيون المسائل: أي: أصولها، والمهم منها، وعين كل شيء: خياره.[اللسان: مادة (عين)]..
٥ وقد أعطانا القرآن مثالا لهذا عن الهدى الذي يذبحه الحجيج، فيقول سبحانه:﴿لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم كذلك سخرها لكمم لتكبروا الله على ما هداكم وبشر المحسنين(٣٧)﴾[الحج]..
٦ بدل الشيء غيره، وبدل الكلام: غيره وحرفه، قال تعالى:﴿فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون(٥٩)﴾[البقرة] أي: غيروه بكلام آخر، ويقول الحق:﴿إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم(١١)﴾[النمل] أي: عمل الخير والحسن بعد عمل السوء، وأبدله الشيء من الشيء، وأبدل الشيء جعله بدلا منه، وتبدل الشيء بالشيء ومن الشيء جعله بدلا منه، كقوله:﴿لا يحل لك النساء من بعدد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن إلا ما ملكت يمينك وكان الله على كل شيء رقيبا(٥٢)﴾[الأحزاب]..
٧ عن النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب" أخرجه البخاري في صحيحه (٥٢) ومسلم في صحيحه (١٥٩٩)..
٨ ابتلى اله سبحانه عبده ونبيه أيوب-عليه السلام-بالمرض في جسده وفقد ماله وأولاده. واستمر هذا البلاء مدة ثماني عشرة سنة عاشها صابرا على قضاء الله، ولم يبق معه إلا زوجته التي اضطرت للعمل في خدمة الناس حتى توفر لنفسها ولزوجها الطعام، ولما دعا أيوب ربه:﴿وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين(٨٣)﴾[الأنبياء] استجاب الله له وأزال عنه الضر إذ قال له:﴿اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب(٤٢)﴾[ص] لقد أمره الله أن يقوم ويركض الأرض برجله ففعل، فانبع الله في الأرض عينا وأمره أن يغتسل منها، فأذهب جميع ما كان في بدنه من الأذى، ثم أمره أن يضرب الأرض في مكان آخر ففعل فأنبع الله له عينا أخرى وأمره أن يشرب منها؛ فأذهبت جميع ما كان في باطنه من السوء، وتكاملت له العافية ظاهرا وباطنا.[ذكرها ابن كثير في تفسيره ٤/٤٠، ٣٩] وقال عنه سبحانه:﴿إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب..(٤٤)﴾[ص]..
٩ المواجيد: المقصود بها أعمال القلب التي إن استقامت استقامت الجوارح..
وأنت وكل المؤمنين مهما عملوا في تطبيق منهج الله، فكلنا بعباداتنا لن نؤدي حق النعم الموجودة عندنا قبل أن نكلف، وعلينا أن نتدبر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لن يدخل أحدكم الجنة بعمله ". قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال :" ولا أنا إلا أن يتغمدني( ١ ) الله برحمته( ٢ ) ". إذن : فإن افتخر إنسان بطاعته لله، فهذه الطاعة تعود على العبد في دنياه، وهو لن يؤدي بطاعته حق كل النعم التي أسبغها الله عليه. ومثال ذلك : إن العبد لا يكلف إلا عند البلوغ، أي : في سن الخامسة عشرة تقريبا، فإن نظر إلى النعم التي أسبغها الله تعالى عليه حتى وصل إلى هذه السن، فهو لن يحصيها( ٣ )، فما بالنا بالنعم التي تغمرنا في كل العمر، وحين يجازينا الحق في الآخرة، فهو لا يجازينا بالعدل، بل يعاملنا بالفضل.
إذن : إياك أن تقول : أنا تصدّقت بكذا، أو صلّيت كذا ؛ حتى لا تورثك استجابتك لمنهج الله غرورا بعملك التعبّديّ، وتذكّر القول المأثور :" ربَّ معصية أورثت ذلا وانكسارا، خير من طاعة أورثت عزّا واستكبار ".
١ تغمده الله برحمته: أدخله فيها وغمر بها. قال أبو عبيد: قوله"يتغمدني": يلبسني ويتغشاني ويسترني.[لسان العرب: مادة (غ م د)]..
٢ متفق عليه. أخرجه البخاري في صحيحه (٦٤٦٣) ومسلم في صحيحه (٢٨١٦) عن أبي هريرة..
٣ وقد قال الحق سبحانه:﴿وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها..(١٨)﴾[النحل] وقد أفرد سبحانه النعمة هنا؛ لأن كل نعمة من نعم الله عليك وإن اعتبرها واحدة في نظرك فهي مشتملة على نعم لا تحصى ولا تعد، فما بالك بالنعم مجتمعة..
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل الله أذن لكم أم على الله تفترون( ٥٩ ) ﴾ :
إن تمتع الإنسان في الحياة بالمُلك والمِلك، فكل ذلك يحتاج إلى استبقاء الحياة بالرزق الذي يهبنا الحق سبحانه إيّاه، وكذلك استبقاء النوع بالتزاوج بين الذكر والأنثى.
ولكن الرزق الذي يستبقي الحياة لا بد أن يكون حلالا ؛ لذلك حدّد لنا الحق سبحانه وتعالى المحرّمات فلا تقربها، وأنت عليك بالالتزام بما حدده الله، فلا تدخل أنت على ما حلّل الله لتحرّمه( ١ ) ؛ لأن الحق سبحانه حدد لك من الطعام ما سيستبقي حياتك ويعطيك وقودا لحركة الحياة، فعامل نفسك كما تعامل الآلة التي تصنعها، فأنت تعطي كل آلة الوقود المناسب لها لتؤدي مهمتها، كذلك جعل الله سبحانه لك المواصفات التي تنفعك وتستفيد منها وتؤدي حركات الحياة بالطاقة التي يمدّك بها ما حلّله الله لك. وكذلك حرّم الله عليك ما يضرّك.
وإياك أن تقول : ما دامت هذه الأشياء تضرني فلماذا خلقها الله ؛ لأن عليك أن تعرف أن هناك فارقا بين رزق مباشر، ورزق غير مباشر، وكل ما في الكون هو رزق، ولكنه ينقسم إلى رزق مباشر تستفيد منه فورا، وهناك رزق غير مباشر. ومثال ذلك : النار، فأنت لا تأكل النار، لكنها تنضج لك الطعام. إذن : فهناك شيء مخلوق لمهمة تساعد في إنتاج ما يفيدك.
والحق سبحانه قد حلل لك-على سبيل المثال- لحم الضأن والماعز، والإبل والبقر وغيرها، وحرم عليك لحم الخنزير( ٢ )، فلا تسأل : لماذا خلق الله الخنزير ؛ لأنه خلقه لمهمة أخرى، فهو يلملم قاذورات الوجود ويأكلها، فهذا رزق غير مباشر، فاتركه للمهمة التي أراده الله لها.
وبعض الناس قد حرّم على نفسه أشياء حلّلها الله تعالى( ٣ )، وهم بذلك يضيقون على أنفسهم، ويظن البعض أنه حين يحلّل ما حرم الله أنه يوسع على نفسه، فيأمر الحق سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول :﴿ أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق.. ( ٥٩ ) ﴾[ يونس ] : أي : أخبروني ما أنزل الله لكم من رزق، وهو كل ما تنتفعون به، إما مباشرة، وإما بالوسائط، فكيف تتدخلون بالتحليل والتحريم، رغم أن الذي أنزل الرزق قد بيّن لكم الحلال والحرام ؟ !
وكلمة ﴿ أنزل ﴾ تفيد أن الرزق كله قادم من أعلى( ٤ )، وكل ما ترونه حولكم هو رزق، تنتفعون به مباشرة، أو بشكل غير مباشر، فالمال الذي تشتري به أغلب الأرزاق لا يأكله الإنسان، بل يشتري به ما يأكله.
وكلمة ﴿ أنزل ﴾ تعني : أوجد، وخلق من أعلى، وما دام كل شيء قد وجد بمشيئته من هو أعلى من كل الوجود، فكل شيء لصالحك مباشرة أو بوسائط.
ولا تأخذ كلمة ﴿ أنزل ﴾ من جهة العلو الحسية، بل خذها من جهة العلو المعنوية، فالمطر-مثلا ينزل من أعلى حسيا، ويختلط بالأرض فيأخذ النبات غذاءه منها، والرزق بالمطر ومن الأرض مقدّر ممن خلق، وهو الأعلى سبحانه.
وقد قال الحق سبحانه :﴿ لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس( ٥ ).. ( ٢٥ ) ﴾[ الحديد ].
نعم، فقد أنزل الحق سبحانه منهجه على الرسل عليهم السلام لتصلح حياة الناس، وأنزل الحديد أيضا، هذا الذي نستخرجه من الجبال ومن الأرض.
إذن : فالمراد هنا بالإنزال، أي : الإيجاد ممن هو أعلى منك لصالحك أيها الإنسان.
وما دام الحق سبحانه هو الذي أنزل الرزق، وبين الحلال والحرام، فلماذا تدخلون أنوفكم في الحلال والحرام، وتجعلون بعض الحلال حراما، وبعض الحرام أو كل الحرام حلالا ؟ لماذا لا تتركون الجعل لمن خلق وهو سبحانه أدرى بمصلحتكم ؟
﴿ قل الله أذن لكم.. ( ٥٩ ) ﴾[ يونس ] أي : هل أعطاكم الله سبحانه تفويضا في جعل الحلال حراما، والحرام حلالا ؟ ﴿ أم على الله تفترون( ٥٩ ) ﴾ أي : على الله تتعمدون الكذب.
وقد جاء الحق سبحانه بالحلال والحرام ليبيّن لنا مدى قبح السلوك في تحريم ما أحلّ الله، وتحليل ما حرّم الله.
ويشير الحق سبحانه-في إجمال هذه الآية إلى آيات أخرى فصلت الحرام، وسبق أن تناولناها بخواطرنا، مثل قوله تعالى :﴿ ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون( ١٠٣ ) ﴾[ المائدة ] : والبحيرة-كما ذكرنا- هي الناقة التي أنجبت خمس بطون آخرها ذكر، وكانوا يشقّون أذنها، ويعلنون أنها قامت بواجبها ويتركونها سائمة( ٦ ) غير مملوكة، لا يركبها أحد، ولا يحمل عليها أحد أيّ حمل، ولا يحلبها أحد، ولا يجز صوفها أحد، ثم يذبحها خدّام الآلهة التي كانوا يعبدونها، وسمَّوها " بحيرة " ( ٧ ) ؛ لأنهم كانوا يشقون آذانها علامة على أنها أدّت مهمتها.
أما السائبة فهي غير المربوطة ؛ لأن الربط يفيد الملكية، وكان الواحد منهم إذا شفى من مرض أو أراد شيئا( ٨ ) وهب أن يجعل ناقة لخدام الأصنام، واسمها سائبة، وهي أيضا لا تركب، ولا تحلب، ولا يحمل عليها، ولا أحد يتعرّض لها.
والوصيلة : هي الأنثى تلدها الناقة في بطن واحدة مع ذكر، فيقولون :" وصلت أخاها " ؛ فلا يذبحونه للأصنام من أجل أخته.
﴿ ولا حام ﴾ والحام : هو الفحل الذي يحمي ظهر نفسه بإنجاب عشرة أبطن، فلا يركبه أحد بعد ذلك، ولا يحمل عليه، ويترك لخدّام الأصنام.
هذه هي الأنعام المحللة التي حرموها على أنفسهم، بينما يأكلها خدام الأصنام، وفي ذكر عدم تحريم تلك الأنعام ورأفة بهم. وهناك أيضا قول الحق سبحانه :﴿ ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين نبئوني بعلم إن كنتم صادقين( ١٤٣ ) ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين قل آلذكرين حرم أو الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم إن الله لا يهدي القوم الظالمين( ١٤٤ ) ﴾[ الأنعام ] : إذن : فقد حرموا بعضا مما أحل الله لهم، وقالوا ما أورده القرآن :﴿ وجعلوا لله مما ذرأ( ٩ ) من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم( ١٠ ) وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله و ما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون( ١٣٦ ) ﴾[ الأنعام ]. وأجمل الحق سبحانه كل ذلك في قوله الحق :﴿ قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل الله أذن لكم أم على الله تفترون( ٥٩ ) ﴾ وهكذا تدخّلوا في تحريم بعض الحلال وحللوا بعضا من الحرام، وفي هذا تعدّ ما كان يجب أن يقترفوه( ١١ ) ؛ لأن الحق سبحانه هو خالقهم، وهو خالق أرزاقهم، وفي هذا كذب متعمد على الله سبحانه.
١ يقول رب العزة سبحانه:﴿إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به..(١١٥)﴾[النحل]..
٢ يقول الحق سبحانه:﴿يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين(٨٧) وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون(٨٨)﴾[المائدة]..
٣ يقول الحق سبحانه عن يعقوب عليه السلام:﴿كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين(٩٣)﴾[آل عمرا]..
٤ يقول الحق سبحانه:﴿وفي السماء رزقكم وما توعدون(٢٢)﴾[الذاريات] فنزول المطر من السماء هو رزق ينزله الله سبحانه، فتحيا به الأرض الميتة فتنبت الزرع فيأكل منه كل كائن حي على الأرض من إنسان أو حيوان،﴿إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام..(٢٤)﴾[يونس]..
٥ البينات: الآيات الواضحة. والقسط هنا: العدل. والبأس: القوة.[لسان العرب]..
٦ السائبة: الغنم والماشية ترعى حيث شاءت. والسائم: الذاهب على وجهه حيث يشاء.[اللسان مادة سوم]..
٧ وسبب التسمية بالبحيرة هو أن شق أذنها يكون شقا واسعا فأشبه البحر في سعته.(بتصرف من أحكام القرآن للجصاص ٢/٦٠٨)؛ وفي تحديد المقصود بالبحيرة-هل هي الناقة التي ولدت خمسة أبطن أم بنتها التي ولدت في آخر بطن؟-اختلاف. انظر في هذا تفسير ابن كثير (٢/١٠٨، ١٠٧) وكذا أحكام القرآن للجصاص، ولذلك قيل في بعض الأقوال أن السائبة هي أم البحيرة..
٨ كان الرجل في الجاهلية إذا قدم من سفر بعيد، أو من علة، أو نجته دابة من مشقة أو حرب قال: ناقتي سائبة أي: تسيب فلا ينتفع بظهرها، ولا تحلأ عن ماء، ولا تمنع من كلأ، ولا تركب،.[ذكره ابن منظور في اللسان مادة (سيب)]..
٩ ذرأ: خلق. والحرث: هو الزرع والثمار..
١٠ بزعمهم، أي: بقولهم الكذب [لسان العرب]...
١١ وقد أجمل الحق سبحانه المحرمات من المطاعم في قوله:﴿قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم(١٤٥)﴾[الأنعام]..
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون( ٦٠ ) ﴾ :
وهذه الآية توضح أن كل أمر بحساب، فالذين يفترون على الله الكذب سيجدون حسابهم يوم القيامة عسيرا، فالحق سبحانه منزه عن الغفلة ولو ظنوا أنه لا توجد آخرة ولن يوجد حساب ؛ فهم يخطئون الظن. ولو استحضروا ما أعدّه الله لهم من العذاب والنكال( ١ ) يوم القيامة لما فعلوا ذلك، ولكنهم كالظّان بأن الله-سبحانه وتعالى-غافل عن أفعالهم، وكأنها أفعال لا حساب عليها، ولا كتابة لها، ولا رقيب يحسبها.
ثم يقول الحق سبحانه :﴿ إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشركون( ٦٠ ) ﴾[ يونس ] : إن الله سبحانه متفضّل على كل خلقه- وأنتم( ٢ ) منهم- بأشياء كثيرة ؛ فلم تحرمون أنفسكم من هذا الفضل ؟ ! ولو شكرتم الله تعالى على هذا التفضل لزاد من عطائكم، لكنكم تنسون الشكر.
١ النكال: إيقاع العقوبة والعذاب على وجه يجعل من يفعل هذا الفعل عبرة لغيره، وهذا نحو قوله تعالى:﴿والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم(٣٨)﴾[المائدة]..
٢ المقصود بهم أهل مكة، يقول الحق سبحانه:﴿أو لم يروا أنا جعلنا حراما آمنا ويتخطف الناس من حولهم أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون(٦٧)﴾[العنكبوت]، وقال أيضا:﴿أو لم نمكن لهم حرما آمنا يجبي إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون(٥٧)﴾[القصص]..
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :﴿ وما تكون في شأن وما تتلوا منه من قرآن ولا تعلمون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب( ١ ) عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر في كتاب مبين( ٦١ ) ﴾ :
والخطاب هنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أي : ما تكون يا محمد في شأن. والشأن : هو الحال العظيم المتميز الذي يطرأ على الأمر.
ونحن في حياتنا اليومية نقول : ما شأنك اليوم أو ما حالك ؟ وهنا يجيب السامع بالشيء الهام الذي حدث له أو فعله، ويتناسى التافه من الأمور. ولذلك يصف الله تعالى نفسه فيقول :﴿ كل يوم هو في شأن( ٢٩ ) ﴾[ الرحمن ] : أي : لا تظنوا أن ربنا- سبحانه وتعالى-خلق النواميس والقوانين، وقال لها : اعملي أنت، لا فهو سبحانه كل يوم في شأن.
ولذلك حين سئل أحد العلماء( ٢ ) : ما شأن ربك الآن ؛ وقد صحّ أن القلم قد جفّ ؟ فقال :" أمور يبديها ولا يبتديها ". أي : أنه سبحانه قد رسم كل شيء، وجعل له زمانا ليظهر، فهو سبحانه قيّوم، أي : مُبالغ في القيام على مصالحكم ؛ ولذلك يطمئننا سبحانه-وقد جعل الليل لنومنا وراحتنا-بأنه سبحانه قيوم لا تأخذه سنة ولا نوم، وهو يراعينا.
فالحديث في الآية التي نحن بصددها موجَّه لرسول الله صلى الله عليه وسلم :
﴿ وما تكون في شأن.. ( ٦١ ) ﴾[ يونس ] : وشأن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يهتم به ليس المأكل ولا المشرب، إنما المهم بالنسبة له هو بلاغ الرسالة بالمنهج ب " افعل " و " لا تفعل :. ﴿ وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن.. ( ٦١ ) ﴾[ يونس ].
و " منه " هنا بمعنى اللام، أي : ما تتلوا له( ٣ )، وتعني تأبيدا لآيات القرآن. وهناك في موضع آخر من القرآن يقول الحق سبحانه :﴿ مما خطيئاتهم( ٤ ) أغرقوا.. ( ٢٥ ) ﴾[ نوح ]أي : أغرقوا لأجل خطيئاتهم.
وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها نفهم ما تكون في شأن وما تتلو لأجل هذا الشأن من قرآن، فالنبي صلى الله عليه وسلم في شأن هام هو الرسالة، ويتلو من القرآن تأبيدا لهذا الشأن وهو البلاغ بالمنهج. ويدخل في هذا الشأن ما فوّض رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه حسب قول الحق سبحانه :﴿ وما آتاكم( ٥ ) الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا.. ( ٧ ) ﴾[ الحشر ] : ومثال ذلك : تحديد كيفية الصلاة وعدد ركعات كل صلاة، وكذلك نصاب( ٦ ) الزكاة، وهذه أمور لم يأت بها القرآن تفصيلا، ولكن جاءت بها الأحاديث النبوية.
إذن : فهناك تفويض من الحق للرسول صلى الله عليه وسلم ليكتمل البلاغ بمنهج الله، بنصوص القرآن، وبتفويض الله تعالى له أن يشرّع.
إذن : فكل شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إما بلاغ عن الله بالنص القرآني، وإما تطبيق فعلي للنص القرآني بالحديث النبوي، وبالأسوة التي تركها لنا صلى الله عليه وسلم في سنّته.
والحجَّة على الحكم-أي حُكم- يأتي بها القرآن، فغن كانت الأحكام غير صادرة من الله مباشرة، فيكفي فيها أنها صدرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتفويض من الله تعالى ليشرّع.
وبذلك نردُّ على المنافقين الذين إذا حدّثوا بشيء من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا :" بيننا وبينكم كتاب الله " ( ٧ )، وهدفهم أن يردّوا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم-فعلا، أو قولا، أو إقرارا.
ثم ينقل الحق سبحانه الخطاب من المفرد على الجماعة فيقول جلَّ شأنه :﴿ ولا تعلمون من عمل إلا كنا عليكم شهودا.. ( ٦١ ) ﴾[ يونس ] : وفي هذه انتقال للسامعين للقرآن، المبلّغ إليهم هذا المنهج، فكل عمل إنما يشهده الحق سبحانه.
والعمل هو مجموع الأحداث التي تصدر عن الإنسان، فكل حدث يصدر من الإنسان-ولو بنيَّة القلب-يسمَّى عملا ؛ لن عمل القلوب هو النية. ولكن إذا صدر الحدث من اللسان كان قولا، وإذا صدر الحدث من بقية الجوارح كان فعلا.
وهكذا ينقسم العمل إلى قسمين : قول، وفعل. وقد اختصَّ حدث اللسان باسم القول ؛ لأن أصل مستندات التكليف كلها قولية.
ثم يقول الحق سبحانه :﴿ إذ تفيضون فيه ﴾ أي : تسرعون إلى العمل بنشاط وحيوية وإقبال مما يدل على حسن الاستجابة للمنهج فور أن يبلّغه الرسول صلى الله عليه وسلم.
والإقبال على العمل التكليفي بهذا الشوق، وتلك اللهفة، وحسن الاستقبال، وإخلاص الأداء، كل هذه المعاني يؤول إليها قول الحق سبحانه :﴿ إذ تفيضون فيه ﴾ كما يفيض ماء الإناء إذا امتلأ لينزل. أي : أن تقبلوا على أعمال التكليف بسرعة وانصباب وانسكاب. وقد قال الحق سبحانه :﴿ فإذا أفضتم( ٨ ) من عرفات.. ( ١٩٨ ) ﴾ ]البقرة ].
أي : شرعتم( ٩ ) في الذهاب مسرعين ؛ لأنكم أدَّيتم نسكا أخذتم منه طاقة، وتقلبون بها على نسك ثان. إذن : فالحق سبحانه يشهد كل عمل منكم، لكن ماذا عن النَّيات وما يبيًَّت فيها من خواطر ؟
ها هو الحق سبحانه يخبرنا أن كل شيء مهما صغر واختفى فهو معلوم ومحسوب. يقول الحق سبحانه :﴿ وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين( ٦١ ) ﴾[ يونس ] : أي : أن كل أمورك، وأمور الخلق، والمخلوقات كلها معلومة لله تعالى، ومكتوبة في كتاب مبين واضح، فلا أحد بقادر على أن يختلس حركة قلب، أو يختلس حركة ضمير، وكلمة " يعزب " تعني : يغيب ويختفي.
والحق سبحانه يخبرنا أنه لا يضيع عنده جزاء أي عمل أو نية مهما بلغ العمل أو النية أدنى درجة من القلّة.
ولم يوجد عند العرب ما يضرب به المثل على الوزن القليل إلا الذّرّة، وهي النملة الدقيقة الصغيرة جدّا، ثم أطلقت الذرة على الهباء الشائع في الجو، ويمكنك أن ترى هذا البهاء إن جلست في حجرة مظلمة مغلقة، ثم دخلها شعاع من ضوء، هنا ترى هذا الضوء وهو يمر من الثقب وكأنه سهم، وترى مكوّنات هذا السهم من ذرات الهباء المتحركة الموجودة في الجو، تلك الذرات التي لا تراها وأنت في الضوء فقط أو في الظلام فقط، ولكن التناقض بين الضوء والظلام يبرزها.
وأنت لا تدرك الشيء ولا تحسه لأمرين : إما لتناهيه في الصغر، وإما لتناهيه في الكبر ؛ فلا تحيط به، وحين تقدم العلم التطبيقي اخترعوا المجاهر التي تكبّر الشيء المتناهي في الصغر آلاف، أو ملايين المرات.
وأنت لو وضعت جلدك تحت عدسة المجهر فتسرى فجوات وكأنها آبار لم تكن تراها أو تحسها من قبل ؛ لأنها بلغت من الدقة والصّغر بحيث لا تستطيع عيناك أن تدركها، فإن رأيتها بالمجهر كبرت فترى فجوات وتعاريج وعلوّا وانخفاضا-مهما كان الجلد الذي تراه تحت المجهر ناعما.
وكذلك أنت لا تقدر على إدراك الشيء الضخم، وقد تفصل بينك وبين الشيء الكبير مسافة ؛ فتراه أصغر من حجمه، وكلما ابتعد صغر، فأنت إذا رأيت-مثلا- رجلا طويلا على مسافة كبيرة، فأنت تراه وكأنه طفل صغير، وكلما اقتربت منه زاد طوله في عينيك. إذن : لا الضخامة ولا البعد، ولا القلّة تمنع من علم الحق سبحانه لأي شيء.
وقد خاطب الحق سبحانه العرب بأصغر ما عرفوه، وهو الذرة، أي : النملة الصغيرة.
وأنت إذا وطأت نملة في أرض رملية فهي لا تموت، بل تدخل في فجوات الرمل، وتجد لنفسها طريقا إلى سطح الأرض مرة أخرى.
قد بيّن الحق سبحانه هذه المسألة حين تحدّث عن سليمان-عليه السلام- في وادي النمل، فقال تعالى :﴿ .. قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون( ١٨ ) ﴾[ النمل ] : أنهم لا يرونهم ؛ لحجمهم المتناهي في الصغر.
وهكذا يعطينا الحق سبحانه بيانا عن كل أمة في الحياة، وأن من بينهم جنودا يحرسون بيقظة، فالنملة قامت بإنذار قومها من سليمان وجنوده، لأنهم لن يروا النمل الصغير( ١٠ ). إذن : الذّرُّ إما أن يكون النمل الصغير، وإما أن يكون الذرّات الهبائية. وأراد الله سبحانه أن يضرب لنا مثلا بإحاطة علمه في أنه لا يعزب عنه مثقال ذرة. ويعزب، أي : يغيب، ويقال :" هذا البئر ماؤه عازب "، أي : قادم من عمق بعيد، ويحتاج استخراجه إلى دلو وحبال طويلة. ونسمّي الرجل الذي يبعد عن أهله " عزب ".
وقول الحق سبحانه :" وما يعزب ". أي : لا يبعد ولا يغيب عنه أصغر شيء ولا أكبر شيء. يقول سبحانه ذلك ؛ ليطمئننا أن كل خاطرة من خواطر الإنسان إنما يشهدها الله، ويعلمها، وهو المجازي عليها.
وإن استطاع إنسان أن يعمّي على قضاء الأرض، فلن يستطيع أن يعمّي على قضاء السماء( ١١ ). ومسألة الذّرة والصغر يقول عنها الحق سبحانه :﴿ فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره( ٧ ) ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره( ٨ ) ﴾ [ الزلزلة ] : هذا للمتساوي في الثقل والوزن، إما إن كان أصغر من الذرة، فقد ذكره الحق سبحانه هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها فقال :﴿ ولا أصغر من ذلك ولا أكبر.. ( ٦١ ) ﴾[ يونس ].
وعلى زمن نزول القرآن الكريم لم يكن أحد يعرف أن هناك ما هو أصغر من الذرة، وكنا جميعا حتى ما قبل الحرب العالمية الأولى لا نعلم أن هناك شيئا أصغر من الذرة، وكان العلماء يعتقدون أن الذرة هي الجزء الذي لا يتجزّأ ؛ لأنها أصغر ما يقع عليه البصر، فضرب الله مثلا بالأقل في زمن نزول القرآن.
ولما تقدم العلم بعد الحرب العالمية الأولى واخترعت ألمانيا آلة لتحطيم الذرة قيل عنها : إنها آلة تحطيم الجوهر الفرد. أي : الشيء الذي لا ينقسم، وهذه الآلة مكونة من اسطوانتين مثل اسطوانتي عصّارة القصب، والمسافة بين الاسطوانتين لا تكاد ترى، وحين حطّمت ألمانيا ما قيل عنه " الجوهر الفرد " تحول إلى ما هو أقل منه، وتفتت الذرة. وقد جعل الحق سبحانه المقياس في الصغر هو الذرة.
وحين اخترعت ألمانيا تلك الآلة توجس المتصلون بالدين وخافوا أن يقال : إن الحق سبحانه لم يذكر ما هو أقل من الذرة، ولكنهم التفتوا إلى الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها، فقرأوا قول الحق سبحانه :﴿ وما يعزب عن ربك مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين( ٦١ ) ﴾[ يونس ]. و﴿ ما يعزب ﴾ أي : لا يبعد أو يغيب ﴿ عن ربك ﴾ أي : عن علمه ﴿ من مثقال ذرة ﴾. أي : وزن ذرة.
وقديما قلنا : إن البعض يقول : إن " من " قد تكون حرفا زائدا في اللغة، كقولنا :" ما جاءني من رجل " وتعرب كلمة " من " : حرف جر زائد، و " رجل " فاعل مرفوع بالضمة الظاهرة التي منع من ظهورها اشتغال المحل وهو " اللام " بحركة حرف الجر الزائد.
ولكن في كلام الله لا يوجد حرف زائد( ١٢ )، ف " من " في قوله :﴿ من مثقال ذرة ﴾. أي : من بداية ما يقال له " مثقال :".
ويقول الحق سبحانه في آية أخرى :﴿ وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض.. ( ٣ ) ﴾[ سبأ ] : وكلمة ﴿ وربي ﴾ مقسم به، وحرف " الواو " هو حرف الجر، ولم يأت هنا بالشهادة، وجاء بالغيب، ولم يأت بعلم الغيب في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها.
وعالم الشهادة، تعني : أنه عالم بكل ما يشهد، ويظن البشر أنها غير محاط بها لعظمتها ؛ أو لأن الله غيب فلا يرى إلا الغيب، لكن الحق سبحانه يرى ويعلم الغيب والشهادة.
لقد قال الحق سبحانه كلمة " مثقال ذرة " ثلاث مرات : مرة حين قال سبحانه :﴿ فمن يعمل مثقال ذرة.. ( ٧ ) ﴾[ الزلزلة ]، ومرة حين قال هنا :﴿ من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء.. ( ٦١ ) ﴾[ يونس ] : وجاء ب " من " هنا ليبين أنه لا يغيب ع
١ تفيضون فيه: أي: تندفعون فيه وتنبسطون فغي ذكره. ما يعزب: لا يبعد، ولا يغيب عن عمله سبحانه.[لسان العرب]..
٢ هو: الحسين بن الفصل، وذلك أن عبد الله بن طاهر دعاه ليفسر له ثلاث آيات أشكلت عليه، منها هذه الآية، فقال: إنها شئون يبديها لا شئون يبتديها. ذكره القرطبي في تفسيره (٩/٦٥٦٧)..
٣ ما تتلو له: أي: لهذا الشأن. وهذا يتوافق مع ما ذكره الفراء والزجاج أن الهاء في "منه" تعود على الشأن، أي: تحدث شأنا، فيتلى من أجله القرآن، فيعلم كيف حكمه. ذكره القرطبي في تفسيره (٤/٣٢٨٣)..
٤ هم قوم نوح عليه السلام..
٥ آتاكم: أمركم..
٦ نصاب الزكاة: هو المقدار الذي إذا بلغه مال المسلم أو ماشيته أو تجارته وجبت فيه الزكاة، بالمقادير التي حددتها السنة..
٧ عن المقدام بن معد يكرب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"يوشك الرجل يتكئ على أريكته يحدث بحديثي فيقول: بيني وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه حلالا استحللناه، وما كان فيه حراما حرمناه، وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حرم الله". أخرجه أحمد في مسنده (٤/١٣٢) والترمذي (٢٦٦٤) وابن ماجه (١٢) والدار قطني (٤/٢٨٦) في سننهم، واللفظ للدارقطني..
٨ يسن الإفاضة من عرفة بعد غروب الشمس، ولكن بالسكينة رفقا بالناس؛ لأن هذا اليوم يتزاحم فيه الناس ويدفع بعضهم بعضها؛ ولذلك سميت إفاضة. انظر فقه السنة (١/٥١٨) وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يضم إليه زمام ناقته "حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله، ويقول بيده اليمنى: أيها الناس السكينة السكينة" أخرجه مسلم في صحيحه (١٢١٨) من حديث جابر بن عبد الله..
٩ شرعت في الأمر: بدأته ودخلت فيه..
١٠ قال تعالى:﴿وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون(١٧)﴾[النمل] وسار سليمان بموكبه العظيم هذا:﴿حتى إذا أتوا على واد النمل..(١٨)﴾[النمل] أي: مروا على وادي النمل فقالت نملة لإخوانها:﴿ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون(١٨)﴾[النمل] فهي خافت على النمل أن تحطمها الخيول بحوافرها فأمرتهم بالدخول إلى مساكنهم، ففهم ذلك سليمان:﴿فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن اعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين(١٩)﴾[النمل]. أي: ألهمني أن أشكر نعمك التي أنعمت بها علي من تعليمي منطق الطير والحيوان وعلى والدي بالإسلام لك.[ابن كثير: ٣/٣٥٧-٣٥٩]..
١١ عن أم سلمة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنكم تختصمون إلي، وإنما أنا بشر، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو مما أسمع منه، فمن قطعت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه، فإنما أقطع له به قطعة من النار: أخرجه البخاري في صحيحه(٢٦٨٠) ومسلم(١٧١٣)..
١٢ "حرف الجر زائد" مصطلح نحوي يقصد به النحاة الزيادة اللفظية في الكلام. والحق أن حروف الجر"الزائدة" تلك ليست بزائدة لأن لها وظيفة بلاغية. فكلمة "من" في جملة "ما جاءني من رجل" تفيد تأكيد معنى النفي. وهناك مثال آخر كثيرا ما يذكره فضيلة الشيخ في مقولاته، بضرب هذه الأمثلة؛ لأن الحرف ما دام موظفا فلا يكون زائدا. فيقول:"ما معي مال" و"ما معي من مال". فكلمة "من" في الجملة الأخيرة تفيد تأكيد نفي وجود أي مال مع المتكلم، وهذا التأكيد ليس موجودا في جملة "ما معي مال"..
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون( ٦٢ ) ﴾ :
وجاءت هذه الآية بعد كلامه الحق عن نفسه سبحانه بأنه عالم الغيب، ولا يخفى عليه شيء، وشاء الله سبحانه بذلك أن يعلّمنا أنه قد يفيض على بعض خلقه فيوضات الإمداد على قدر رياضات المرتاضين، فهب أن الله قد امتن عليك بنفحة، فإياك أن تقول إنها من عندك، بل هي من عند عالم الغيب سبحانه الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
وعلى ذلك فلا يقال : عن فلانا قد علم غيبا وليّ لله، بل لنقل :" إن فلانا معلم غيب " لأن الغيب هو ما غاب عن الناس، وما يغيب عنك ولا يغيب عن غيرك فهو ليس غيبا مطلقا.
ومثال ذلك : الرجل الذي سرق منه شيء، وهو لا يعرف أين يوجد الشيء الذي سرق منه، ولكن اللص يعرف، وكذلك من ساعد اللص وأخفاه وأخفى له المسروقات، كل هؤلاء يعلمون، وأيضا الجن الذين كانوا في نفس مكان السرقة يعلمون، وهذا ليس غيبا مطلقا.
وأيضا أسرار الكون التي كانت غيبا موقوتا، مثل جاذبية الأرض، والسالب والموجب في الكهرباء، وتلقيح الرياح للسحاب( ١ ) لينزل الماء، كل ذلك كان غيبا في زمن ما، ثم شاء الحق سبحانه فحدّد لكل أمر منها ميعاد كشف، فصارت أمورا مشهورة.
وقد شاء الحق سبحانه ذلك ؛ ليعمل الإنسان ويجتهد ليكشف أسرار الكون.
ومن العجيب أن الباحث قد يعمل من أجل كشف معين، فيصادف كشفا آخر ؛ لأن الله تعالى قد أذن لذلك الكشف الذي كان غيبا أن يولد، وإن لم يبحث عنه أهل الأرض.
ومن اكتشف " البنسلين " رأى العفن الأخضر حول بعض المواد العضوية فبحث عن أسرار ذلك، واكتشف " البنسلين ".
و " أرشميدس " الذي اكتشف قانون الطفو، واستفادت منه صناعات السفن والغواصات، وكل ما يسير في البحر، وقد تم اكتشاف قانون الطفو صدفة.
إذن : ففي الكون غيب قد يصير مشهدا، وإما بمقدّمات يتبعها خلق الله بالبحث، وإما أن تأتي صدفة في أثناء أي بحث عن شيء آخر.
ومثال ذلك : عصر البخار الذي بدأ من رجل رأى إناء مغطّى يغلى فيه الماء، فظل غطاء يرتفع ليخرج بعضا من البخار، وانتبه الرجل إلى أن البخار يمكن أن يتحول إلى طاقة تجر العربات التي تسير على عجل، وهكذا جاء عصر البخار.
إذن : فميلاد بعض من أسرار الكون كان تنبيها من الله تعالى لأحد عباده لكي يتأمل ؛ ليكتشف سرّا من تلك الأسرار( ٢ ).
وأغلب أسرار الكون تم اكتشافها صدفة، لنفهم أن عطاء الله بميلادها-دون مقدمات من الخلق- أكثر مما وصل إليه بالعطاء من مقدمات الخلق.
ولذلك تجد التعبير الأدائي في القرآن عن لوني الغيب، تعبيرا دقيقا لنفهم أن هناك غيبا عن الخلق جميعا وليست له مقدمات، ولا يشاء الله سبحانه له ميلادا، واستأثر الله بعلمه ؛ فلا يعلمه إلا هو سبحانه.
يقول الحق سبحانه :﴿ يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء.. ( ٢٥٥ ) ﴾[ البقرة ] : هذا هو الغيب الذي يكشفه الله سبحانه لهم، إما بالمقدمات، أو بالصدفة، وقد نسب المشيئة له سبحانه، والإحاطة من البشر، وهذا هو غيب الابتكارات.
أما الغيب الآخر الذي لا يعلمه أحد إلا هو سبحانه ولا يجلّيه إلا الرسول صلى الله عليه وسلم، فيقول الحق عنه :
﴿ عالم الغيب فلا يظهر( ٣ ) على غيبه أحدا( ٢٦ ) إلا من ارتضى من رسول.. ( ٢٨ ) ﴾[ الجن ] : إذن : فالحق سبحانه يفيض من غيبه الذاتي على بعض خلقه، والقرآن الكريم فيه الكثير من الغيب، وأفاضه الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم، وتحققت الأحداث كما جاءت في القرآن.
والحق سبحانه يهب بعضا من خلقه بعضا من فيوضاته، وقد أعطى الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بعضا من الهبات وحدّد من يعطيه بعضا من الغيب :
﴿ إلا من ارتضى من رسول.. ( ٢٧ ) ﴾ ]الجن ] : وهي ليست للحصر ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أسوة( ٤ )، ويقال فيه الحق سبحانه :﴿ لقد كان لكم في الرسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا( ٢١ ) ﴾[ الأحزاب ] : ومن يعمل بعمل الرسول صلى الله عليه وسلم ويقتدى به ؛ يهبه الله تعالى هبة يراها الناس فيعرفون أن من يتّبع الرسول صلى الله عليه وسلم كقدوة يعطيه الله سبحانه الهبات النورانية، ولكن هذه الهبة ليست وظيفة، وليست ( دكّانا ) للغيب، بل هي من عطاءات الله تعالى.
وانظر إلى دقة القرآن حين يقول :﴿ وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو( ٥ ).. ( ٥٩ ) ﴾[ الأنعام ] : أي : أنه سبحانه لم يعط مفتاح الغيب لأحد، والوليّ من أولياء الله إنما يأخذ الهبة منه سبحانه، لكن مفتاح الغيب هو عند الله وحده.
وعندما نتأمل قول الحق سبحانه :﴿ ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون( ٦٢ ) ﴾[ يونس ] : نجد أن كلمة " وليّ " من وليه، يليه، أي : قريب منه، وهو أول مفزع يفزع إليه إن جاءه أمر يحتاج فيه إلى معاونة من غيره، وإن احتاج إلى نصرة فهو ينصره، وخيره يفيض على من والاه.
ومن يقرب عالما يأخذ بعضا من العلم، ومن يقرب قويا يأخذ بعضا من القوة، ومن يقرب غنيا، إن احتاج، فالغني يعطيه ولو قرضا.
إذن : فالولي هو القريب الناصر المعين الموالي. وتطلق " الولي " مرة لله سبحانه، وقد قال القرآن :﴿ فالله هو الوليّ.. ( ٦ ) ( ٩ ) ﴾[ الشورى ] : لأنه سبحانه القريب من كل خلقه، عكس الخلق الذين يقتربون من بعضهم أو يتباعدون حسب إمكاناتهم، أما الله سبحانه وتعالى فهو الوليّ المطلق، فقربه من خلق لا يبعده عن خلقه، ولا يشغله شيء عن شيء، فهو الوليّ الحقّ، وهو سبحانه يقول :﴿ هنالك الولاية لله الحق.. ( ٤٤ ) ﴾[ الكهف ] : فمن يحتاج على الولاية الحقّة فليلجأ إلى الله، وهو سبحانه يفيض على الأوفياء لمنهجه من الولاية.
ونجد التعبير القرآني الدقيق :﴿ الله ولي الذين آمنوا( ٢٥٧ ) ﴾[ البقرة ] : فهو سبحانه يقرب من عباده المؤمنين، والمؤمنون يقربون من الله تعالى في قول الحق سبحانه :
﴿ ألا إن أولياء الله.. ( ٦٢ ) ﴾[ يونس ] : إذن : فالولاية المطلقة لله، وإن قيّدت بشيء مضاف ومضاف إليه، فهي مرة تكون من المؤمنين لله، ومرة تكون من الله للمؤمنين.
والحق سبحانه لا تحكمه قوانين ؛ فبطلاقة قدرته سبحانه إذا رأى في إنسان ما خصلة من خير، فيكرمه أولا، فيصير هذا العبد طائعا من بعد ذلك.
وتسمع من يقول : إن فلانا قد خطف من المعصية أي : أنه كان عاصيا، ثم أحب الله تعالى خصلة خير فيه، فهداه.
ومثال ذلك : الرجل الذي سقى كلبا، بل احتال ليسقيه بأن ملأ خفّه بالماء من البئر ليروي ظمأ الكلب ؛ فغفر الله-سبحانه وتعالى-له سيئاته( ٧ ).
هذا الرجل لم يكن ليروي الكلب نفاقا للكلب، ولكن لأن الرجل شعر بالعطف على كائن ذي كبد رطبة.
إذن : فليست المسائل عند الله تعالى آلية أو ميكانيكية، بل طلاقة قدرته سبحانه تقدر كل موقف كما قدرت اختلاف الخلق، ولذلك قال سبحانه :﴿ ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم( ٨ ) وألوانكم.. ( ٢٢ ) ﴾[ الروم ] : فليس عند الله تعالى قالب يضع فيه الخلق، بل سبحانه يخلق الطويل والقصير والسمين والرفيع والشقر والزنجي، وهذا بعض من طلاقة قدرته سبحانه، وبرحمته سبحانه قرب من خلقه الذين آمنوا أولا، وقربه سبحانه منهم :﴿ يخرجهم من الظلمات إلى النور.. ( ٢٥٧ ) ﴾[ البقرة ].
فمن يتبع المنهج يأخذ النور، فإذا علم الله سبحانه عمله بمنهجه فهو سبحانه يقربه قربا أكثر فيعطيه هبة اصطفائية يراها الذين حوله وقد يقتدون به.
والحق سبحانه يريد من المؤمن الأدب مع خلق الله، فإذا علم سيئة عن إنسان فعليه أن يسترها ؛ لأن الحق سبحانه يحب الستّر ويحب من يستر.
وأنت قد تكره إنسانا تعلم عنه سيئة ما، وقد تكره كل حسنة من حسناته، فيريد الله ألا يحرمك من حسنات من له سيئة فيسترها عنك لتأخذ بعضا من حسناته، ويأمرك الحق ألا تحتقر هذا المسيء ؛ لأنه قد يتمتع بخصلة خير واحدة، فيكرمه الله سبحانه من أجلها أولا، ثم يطيعه هذا العبد ثانيا.
والحق سبحانه يقول في الحديث القدسي :" يا ابن آدم أنا لك محبّ فبحقي عليك كن لي محبا ". ويقول الله سبحانه في حديث قدسي :" أنا عند ظن عبدي بي، وأما معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم ".
وفي هذا القول يضع مسئولية القرب من الله في يد الخلق، ويضيف الحق سبحانه :
" وإن تقرب إليّ شبرا تقربت إليه ذراعا، وإن تقرب إليّ ذراعا تقربت إليه باعا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة " ( ٩ ).
ومن يريد أن يأتيه الله هرولة فليذهب إلى الله ماشيا. إذن : فالإيمان بالله يسلم المؤمن مفتاح القرب من الله.
ومن يكن من أصحاب الخلق الملتزمين بالمنهج يقرّبه الله منه أكثر وأكثر.
إذن : فمن الناس من يصل بطاعة الله إلى كرامة الله، ويدق على باب الحق، فينفتح له الباب، ومن الناس من يصل بكرامة الله أولا إلى طاعة الله ثانيا.
ولله المثل الأعلى : أنت كواحد من البشر قد يدق بابك إنسان يحتاج إلى لقمة أو صدقة فتعطيه، وهناك إنسان آخر تحب أنت أن تعطيه، وعندما تعطيه يطيعك من منطق الإحسان إليه، فما بالنا بعطاء الحق لعباده ؟
إذن : فمنهم من يصل بكرامة الله إلى طاعة الله، ومنهم من يصل بطاعة الله إلى كرامة الله، وحين يصل الإنسان إلى القرب من الله، ويقرب الله من العبد، هنا يكون العبد في معية الله، وتفيض عليه هذه المعية كثيرا.
وقد قال أوب المعري لمحبوبته( ١٠ ) : أنت الحبيب ولكني أعوذ به من أن أكون حبيبا غير محبوب : أي : أنه يستعيذ بالله من أن يكون محبا لمن يرفض حبّه، ولكن محبة الله تختلف عن محبة البشر، وسبحانه لا يعامل محبيه كذلك، فأنت حين تحب الله يقرّبك أكثر وأكثر، ويسمّى ذلك " المصافاة "، فإذا أفاض الله سبحانه على بعض خلقه هبات من الكرامات فعلى العباد الذين اختصهم الحق سبحانه بذلك أن يحسنوا الأدب مع الله، وألا يتبجّح واحد منهم متفاخرا بعطاء الله سبحانه له.
فالمباهاة بالكرامات تضيعها، ويسلبها الحق سبحانه من الذي يتبجّح بها ويتفاخر ويتباهى، فمن تظاهر بالكرامة ليس له كرامة.
إذن : فالحق سبحانه يريد أن يكون العبد دائما في معيّته، وهو سبحانه الذي بدأ وبيَّن بالآية الواضحة أنه سبحانه ولي المؤمنين ؛ ولذلك سيخرجهم من الظلمات إلى النور( ١١ ). فقال :﴿ والله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور.. ( ٢٥٧ ) ﴾[ البقرة ] : ونحن نعلم أنه سبحانه يأتي بالمحسَّات ليبيّن المعنويات ؛ لأن إلف الإنسان أولا بالمحسّات، وهي أقرب إلى تقريب المراد، فحين يضرب الحق سبحانه لنا المثل بالكفر والإيمان، يصف الكفر بالظلمة، والإيمان بالنور، إنما يريد الحق أن يجعل لك المراد واضحا موصولا بمفهومك.
وإذا كنا نتجنّب معاطب الظلمات الحسية، أليس الأجدر بنا-أيضا-أن نتجنب معاطب الظلمات المعنوية، إن الظلمة الحسية تستر الأشياء فلا نرى الأشياء، وقد نرتطم بأضعف شيء فنحطمه أو نصطدم بأقوى شيء فيحطمنا.
إذن : فحجب المرائي يسبّب الكوارث، أما حين يأتي النور ؛ فهو يبيّن ملامح الأشياء فتسير على هدى وأنت مطمئن.
وهب أنك في مكان مظلم ويوجد شيء آخر في مكان منير، فأنت في الظلمة ترى من يوجد النور، وهذه مسألة لم يفطن لتفسيره
١ يقول الحق سبحانه:﴿وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين(٢٢)﴾[الحجر] والرياح لواقح أي: أنها تحمل حبوب اللقاح التي تلقح بها النبات والشجر، أو أنها تستدر السحب لينزل منها الماء.[بتصرف من اللسان]..
٢ من الغيب ما يصير شاهدا عند الإذن بميلاده يأمر الله سبحانه، غما بمقدمات أو بغير مقدمات رحمة للبشرية، مصدقا لقوله تعالى:﴿أتى أمر الله فلا تستعجلوه..(١)﴾[النحل]، وهناك غيب لله لا يظهره لحد إلا من ارتضى من رسول..
٣ ظهر الشيء يظهر ظهورا من باب فتح بمعنى تبين، وبرز بعد الخفاء، قال الحق:﴿قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن..(٣٣)﴾[الأعراف] وظهر على خصمه غلبه، يقول الحق:﴿إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم..(٢٠)﴾
[الكهف] أي: إن ينتصروا عليكم يقتلوكم رميا بالحجارة، وأظهر الرجل على عدوه نصره عليه حتى تمكن منه، ومنه قوله تعالى:﴿ليظهره على الدين كله..(٣٣)﴾[التوبة] أي: لينصره على جميع الأديان (حرف الظاء-القاموس القويم)..

٤ الأسوة: القدرة.[لسان العرب: مادة (أ س ى)]. أي: الاقتداء بفعل واتخاذه مثلا يتحذى، سواء أكان في الخير أوفي الشر، وشاع استخدامها في الخير..
٥ قال الزجاج جاء في التفسير أنه عنى قوله:﴿إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت..(٣٤)﴾[لقمان]. قال: فمن ادعى أنه يعلم شيئا من هذه الخمس فقد كفر بالقرآن؛ لأنه قد خالفه.[لسان العرب: مادة (ف ت ح)]..
٦ تقول اللغة:: الولي: هو القريب بالنسب أو بالمحبة أو بالطاعة، أو الولي الصديق، وهو ضد العدو، والولي: المطر بعد المطر والولي من يلي أمر إنسان، ويقوم على شئونه، كالوكيل، ويجمع على أولياء، وأولياء الله هم المؤمنون المتقون، يقول الحق:﴿ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون(٦٢)الذين آمنوا وكانوا يتقون(٦٣)﴾[يونس] والولي: من تولاه الله بالرعاية، وتولى هو منهج الله بالسلوك للهداية، ولذلك يقول سبحانه:﴿لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم(٦٤))﴾[يونس](حرف الواو-القاموس القويم)..
٧ وذلك أن أبا هريرة روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:﴿بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش، فوجد بئرا فنزل فيها فشرب، ثم خرج فإذا بكلب يلهث، يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ بي، فنزل البئر، فملأ خفه، ثم أمسكه بفيه(بفمه) فسقى الكلب، فشكر الله له، فغفر له:. قالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم أجرا؟ فقال:"في كل ذات كبد رطبة أجر". أخرجه البخاري في صحيحه(٦٠٠٩)، مسلم في صحيحه (٢٢٤٤)..
٨ اختلاف الألسنة: اختلاف اللغات..
٩ أخرجه البخاري في صحيحه(٧٤٠٥) ومسلم (٢٦٧٥) عن أبي هريرة. والذراع من الإنسان من طرف المرفق إلى طرف الإصبع الوسطى. والذارع من المقاييس، ومن أشهر أنواعه الذراع الهاشمية وهي ٣٢ إصبعا أو ٦٣ سنتيمترا.[المعجم الوسيط: ذرع]. والباع: مسافة ما بين الكفين إذا انبسطت الذراعان يمينا وشمالا، والمراد: المبالغة في الاتساع [المعجم الوسيط: ب و ع]. والهرولة: الإسراع..
١٠ هو احمد بن عبد الله **، شاعر فيلسوف، ولد ٣٦٣هـ ومات في معرة النعمان (٤٤٩هـ) عن** وهو ابن إحدى عشرة سنة. ولما مات وقف على قبره ٨٤ شاعرا يرثونه.[الأعلام للزركلي(١/١٥٧)]..
١١ يقول الحق:{يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا(٤١) وسبحوه بكرة وأصيلا(٤٢) هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات على النور وكان بالمؤمنين رحيما(٤٣)﴾[الأحزاب] فقد عبر القرآن بالظلمات، والمراد بها الكفر، وبالنور والمراد به الإيمان، وهذه هي بلاغة الإعجاز في كتاب الله..

ويبيّن الله سبحانه لنا شروط الولاية فيقول :﴿ الذين آمنوا وكانوا يتقون( ٦٣ ) ﴾ :
والإيمان هو الأمر الإعتقادي الأول الذي يبنى عليه كل عمل، ويقتضي تنفيذ منهج الله، والأمر في الأمر، والنهي في النهي، والإباحة في الإباحة.
والتقوى-كما علمنا- هي اتقاء صفات الجلال في الله تعالى، وأيضا اتقاء النار، وزاد رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفات من تصدر عنه التقوى ؛ لأنها مراحل، فقال صلى الله عليه وسلم يصف المتقين :" هم قوم تحابوا بروح الله على غير أرحام بينهم، ولا أموال يتعاطونها، فوالله عن وجوههم لنورن وإنهم لعلى نور " ( ١ ).
وقد سئل عمر-رضي الله عنه- عن المتقين فقال :" الواحد منهم يزيدك النظر إليه قربا من الله ". وكأنه-رضي الله عنه- يشرح لنا قول الحق سبحانه :﴿ سيماهم( ٢ ) في وجوههم من آثر السجود.. ( ٢٩ ) ﴾[ الفتح ] : وساعة ترى المتقي لله تسرّ وتفرح به، ولا تعرف مصدر هذا السرور إلا حين يقال لك :
إنه ملتزم بتقوى الله، وهذا السرور يلفتك إلى أن تقلده ؛ لأن رؤياه تذكرك بالخشوع( ٣ )، والخضوع، والسكينة( ٤ )، ورقّة السّمت، وانبساط الأسارير.
والواحد من هؤلاء ينظر إلى الكون ولا يجد في هذا الكون أي خلل، بل يرى كل شيء في موضعه تماما، ولا يرى أي قبح في الوجود، وحتى حين يصادف القبح، فهو يقول : إن هذا القبح يبيّن لنا الحسن، ولولا وجود الباطل ومتاعبه لما عشق الناس الحقّ، وهكذا يصير الباطل من جنود الحق. إن وجود الشرّ يدفع الناس إلى الخير ؛ ولذلك يقال : كن جميلا في دينك تر الوجود جميلا ؛ لأنك حين ترى الأشياء وتقبل قدر الله فيها، هنا يفيض الله عليك بهبات من الفيض الأعلى، ولكما تقرّبت إلى الله زاد اقتراب الله سبحانه منك، ويفيض عليك من الحكمة وأسرار الخلق( ٥ ).
ومثال ذلك : العبد الصالح الذي آتاه الله من عنده رحمة وعلّمه من لدنه علما، هذا العبد يعلم موسى عليه السلام( ٦ )، فحين قارن بين خرق العبد الصالح لسفينة سليمة، ولم يكن يعلم أن هناك حاكما ظالما يأخذ كل سفينة غصبا ؛ ولذلك ناقش موسى العبد الصالح، وتساءل : كيف تخرق سفينة سليمة ؟ وهنا بين له العبد الصالح أن الملك الظالم حين يجد السفينة مخروقة فلن يأخذها، وهي سفينة يملكها مساكين( ٧ ).
وحين قتل العبد الصالح غلاما، كان هذا الفعل في نظر سيدنا موسى جريمة، ولم يعلم سيدنا موسى ما علمه العبد الصالح أن هذا الولد سوف يسيء إلى أهله، وأمر الله العبد الصالح بقتله قبل البلوغ حتى لا يفتن أهله( ٨ )، وسوف يدخل هذا الولد الجنة ويصير من دعاميص الجنة( ٩ ).
ويقال : إن من يموت من قبل البلوغ ليس له مسكن محدد في الجنة، بل يذهب حيث يشاء ؛ فهو كالطفل الصغير الذي يدخل قصرا، ولا يطيق البقاء في مكان واحد، بل يذهب هنا وهناك، وقد يذهب إلى حيث سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أو أبو بكر الصديق، أو عند صحابي جليل.
وأيضا حين دخل سيدنا موسى-عليه السلام- مع العبد الصالح على قرية واستطعما أهلها فرفضوا أن يطعموهما-وطلب الطعام. هو أصدق ألوان السؤال-فأبى أهل القرية أن يطعموهما، وهذا دليل الخسّة واللؤم ؛ فأقام العبد الصالح الجدار الآيل للسقوط في تلك القرية.
ولم يكن سيدنا موسى-عليه السلام- قد علم ما علمه العبد الصالح من أن رجلا صالحا قد مات وترك لأولاده كنزا تحت هذا الجدار، وبناه بناية موقوتة بزمن بلوغ الأبناء لسن الرشد ؛ فيقع الجدار ليجد الأبناء ما ترك لهم والدهم من كنز، ولا يجرؤ أهل القرية اللئام على السطو عليه( ١٠ ).
إذن : هذه هبات من فيض الحق سبحانه على عباده الصالحين، وهو سبحانه وتعالى يجعل مثل هؤلاء العباد كالصواري المنصوبة التي تهدي الناس، أو كالفنار الذي يهدي السفن في الظلمة.
١ أخرجه أبو داود في سننه(٣٥٢٧) من حديث عمر بن الخطاب، وتمامه:"إن ممن عباد الله لأناسا ما هم بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من الله تعالى" قالوا: يا رسول الله، تخبرنا: من هو؟ قال:"هم قوم تحابوا بروح الله على غير أرحام بينهم، ولا أموال يتعاطونها، فوالله إن وجوههم لنور، وإنهم لعلى نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس" وقرأ هذه الآية:﴿ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون(٦٢)﴾[يونس].
٢ سيماهم: علامات التقوى والإيمان، وهو ذلك النور في وجوههم..
٣ خشع (خشوعا) إذا خضع، وخشع في صلاته ودعائه. وقيل: بقلبه على ذلك، وهو مأخوذ من (خشعت) الأرض إذا سكنت واطمأنت [المصباح المنير]..
٤ وخضع لغريمه (يخضع) خضوعا: ذل واستكال فهو خاضع وأخضعه الفقر: أذله. والخضوع قريب من الخشوع إلا أن الخشوع أكثر ما يستعمل في الصوت ومنه:﴿وخشعت الأصوات للرحمن..(١٠٨)﴾[طه] والخضوع في الأعناق ومنه قول الفرزدق: خضع الرقاب نواكس الأبصار.[المصباح المنير]..
٥ ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبهن فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر بهن ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه" أخرجه البخاري في صحيحه (٦٥٠٢) وأحمد في مسنده (٦/٢٥٦) عن أبي هريرة..
٦ قال سبحانه عن موسى وفتاه في لقائهما بالخضر عليه السلام:﴿فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما(٦٥) قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا(٦٦) قال إنك لن تستطيع معي صبرا(٦٧) وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا(٦٨) قال ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا(٦٩) قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا(٧٠)﴾[الكهف]..
٧ القسط: وذلك أن موسى استنكر عليه فعله هذا فقال:﴿أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا غمرا(٧١)﴾[الكهف] فكان رده عليه فيما بعد:﴿أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا(٧٩)﴾[الكهف]..
٨ قال موسى:﴿أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا(٧٤)﴾[الكهف] فنبأه الخضر بتأويل ما لم يستطع فهمه أو استيعابه فقال له:﴿وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشيا أن يرهقهما طغيانا وكفرا(٨٠) فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما(٨١)﴾[الكهف]..
٩ دعاميص: هم صغار الأطفال، فسر بالدويبة التي تكون في مستنقع الماء، قال: والدعموص: الدخال في الأمور، أي: أنهم سياحون في الجنة دخالون في منازلها، لا يمنعون من موضع، كما أن الصبيان في الدنيا لا يمنعون من الدخول على الحرم، ولا يحتجب منهم أحد.[لسان العرب: مادة (د ع م ص)].
١٠ وهذا أمر ذكره رب العزة في كتابه فقال عن موسى والخضر:﴿فانطلقا حتى إذا أتيا قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدار يريد أن ينقض فأقامه قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا(٧٧)﴾[الكهف]. فقال له الخضر فيما بعد:﴿وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وما فعلته عن أمري..(٨٢)﴾[الكهف]..
ويقول الحق سبحانه :
﴿ لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم( ٦٤ ) ﴾ :
والبشرى( ١ ) : من البشر والبشارة والتبشير، وكلها مأخوذة من البشرة، وهي الجلد ؛ لأن أي انفعال في باطن النفس الإنسانية إنما ينضح على البشرة، فإذا جئت للإنسان بأمر سارّ تجد أثر هذا السرور على أساريره، وإن جئت للإنسان بخبر سيّء تجد الكدر وقد ظهر على بشرته، فالبشرة هي أول منفعل بالأحداث السارة أو المؤلمة.
وحين يقال :" بشرى " فهذا يعني كلاما إذا سمعه السامع يظهر على بشرته إشراق وسرور ؛ لأنه كلام مبشّر بخير.
وحين سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البشرى، قال :" إنها الرؤية الصالحة ترى للمؤمن أو يراها "، وقال صلى الله عليه وسلم :" إنها جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة " ( ٢ ).
وقد أوحى للنبي صلى الله عليه وسلم بالرؤيا ستة أشهر، وأوحى إليه في اليقظة ثلاثة وعشرين عاما، فإذا نسبت الستة أشهر إلى الثلاثة والعشرين عامان تجد أن الستة أشهر تمثل جزءا من ستة وأربعين جزءا.
والرؤيا ليست هي الحلم ؛ لأن الرؤيا هي شيء لم يشغل عقلك نهارا، وليس للشيطان فيه دخل.
والمثل العامي يقول :" الجوعان يحلم بسوق العيش " فإن كان ما يراه الإنسان في أثناء النوم له علاقة بأمر يشغله، فهذا هو الحلم، وليس الرؤيا، وإن كان ما يراه الإنسان في أثناء النوم شيئا يخالف منهج الله، فهذه قذفة من الشيطان( ٣ ). إذن : فهنالك فارق بين الرؤيا والحلم، وأضغاث الأحلام( ٤ ).
البشرى- إذن- هي الرؤيا الصالحة، أو هي المقدمات التي تشعر خلق الله بهم فتتجه قلوب الناس إلى هؤلاء الأولياء، وقد تجد واحدا أحبه الله تعالى في السماء، فيقول الله سبحانه وتعالى لجبريل عليه السلام :{ إني أحب فلانا فأحبّه. قال : فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل في السماء فيقول : إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء. قال : ثم يوضع له القبول في الأرض " ( ٥ ).
وساعة تراه مكتوبا له القبول، فالكل يجمعون على أن في رؤيتهم لهذا المحبوب من السماء سمتا طيبا، وهذه هي البشرى.
أو أن البشرى تأتي لحظة أن يأتي ملك الموت، فيلقي عليه السلام، ويشعر أن الموت مسألة طبيعية، مصدقا لقول الحق سبحانه :﴿ الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون( ٣٢ ) ﴾[ النحل ].
أو ساعة يبيضّ الوجه حين يأخذ الإنسان من هؤلاء كتابه بيمينه، وهذه بشرى في الدنيا وفي الآخرة.
والحق سبحانه يقول :﴿ إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون( ٣٠ ) نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا.. ( ٣١ ) ﴾[ فصلت ] : إذن : فهؤلاء الأولياء( ٦ ) يتلقون من فيوضات( ٧ ) الله عليهم بواسطة الملائكة ويتميزون عن غيرهم ؛ لأن الواحد منهم قد يفرض على نفسه نوافل فوق الفروض ؛ لأن الفروض هي أقل القليل في التكاليف.
وقد يرى واحد منهم أن القيام بالفروض لا يتناسب مع حبه لله تعالى ؛ فيزيد من جنسها على ما فرض الله، ويصلّي-بدلا من خمسة فروض- عشرة أخرى نوافل، أو يصوم مع رمضان شهرا أو اثنين، أو يصوم يوم الاثنين والخميس من كل أسبوع.
وهذا دليل على أنه وجد أن الفروض قليلة بالنسبة لدرجة حبه لله تعالى، وأن الله تعالى يستحق أكثر من ذلك، وهذا معناه أن مثل هذا العبد قد دخل في مقام الود( ٨ ) مع الله تعالى، وهنا يفيض الله سبحانه وتعالى عليه بما يشاء، وينال من رضوان الله ما جاء في الحديث القدسي :" من عادى لي وليّا فقد آذنته بالحرب، وما تقرّب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي عليها، وإن سألني لأعطينّه، ولئن استعاذني لأعيذنّه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته " ( ٩ ).
وهكذا تختلف المقاييس بين عبد يحب الله تعالى ويؤدي فوق ما عليه، وعبد آخر يقوم بالتكاليف وحدها.
وينهي الحق سبحانه الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها بقوله :﴿ لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم( ٦٤ ) ﴾[ يونس ] : وما دام الحق سبحانه قد قال :﴿ لا تبديل لكلمات الله.. ﴾ فلن تجد أحدا قادرا على ذلك، كما أن الخلق مقهورين كلهم يوم القيامة ؛ ومن كان يبيح له الله تعالى أن يملك شيئا في الدنيا لم يعد مالكا لشيء، بدليل أن الكل سيسمع قول الحق سبحانه :﴿ لمن الملك اليوم لله الواحد القهار( ١٦ ) ﴾[ غافر ] : وما دام الحق سبحانه قد وعد ببشرى الدنيا وبشرى الآخرة، فلا تبديل لما حكم به الله، فلا شيء يتأبّى على حكم الله تعالى، والوعد بالبشريات في الدنيا وفي الآخرة فوز عظيم مؤكد.
١ بشر بكذا، ويبشر، مثل: فرح، وزنا ومعنى، وهو الاستبشار، والمصدر: البشور واسم الفاعل من المخفف: بشير، وهو البشير في الخير أكثر من الشر، والبشر. والبشرى: فعلى من ذلك، والبشارة إذا أطلقت اختصت بالخير. والبشر: طلاقة الوجه. والبشرة: ظاهر الجلد. وبين البشرى بمعنى السرور، والبشرة ظاهر الجلد تفاعل يظهر مرئيا في السرور وغيره.[المصباح المنير-بتصرف]..
٢ متفق عليه. أخرجه البخاري في صحيحه (٦٩٧٣) ومسلم (٢٢٦٤) عن أنس بن مالك أنه صلى الله عليه وسلم قال:"الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة"..
٣ ونحو ذلك رواه جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انه قال لأعرابي جاءه فقال: إني حلمت أن رأسي قطع فأنا أتبعه، فزجره النبي صلى الله عليه وسلم وقال:"لا تخبر بتعلب الشيطان بك في المنام" أخرجه مسلم في صحيحه(٢٢٦٨)..
٤ أضغات الأحلام: الرؤيا التي لا يمكن تأويلها لاختلاطها والتباسها، والضغث: الحلم الذي لا تأويل له ولا خير فيه، وفي التنزيل العزيز:﴿قالوا أضغاث أحلام..(٤٤)﴾[يوسف] أي: رؤياك أخلاط ليست برؤيا بينة،﴿وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين(٤٤)﴾[يوسف] أي: ليس للرؤيا المختلطة عندنا تأويل.[لسان العرب: مادة (ض غ ث)]. وهم قالوا هذا لعجزهم عن تأويلها، ولكن يوسف فسرها للملك، فلا تكون أضغاث أحلام..
٥ متفق عليه. أخرجه البخاري في صحيحه (٣٢٠٩) ومسلم (٦٢٣٧) من حديث أبي هريرة. واللفظ لمسلم، وتمامه عنده ّوإذا أبغض عبدا دعا جبريل فيقول: إني أبغض فلانا فأبغضه. قال: فيبغضه جبريل. ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يبغض فلانا فأبغضوه. قال: فيبغضونه. ثم توضع له البغضاء في الأرض"..
٦ هؤلاء الأولياء الذين تخلوا عن المعاصي وتحلوا بالطاعات فتجلى سبحانه عليهم بالفيوضات ومن هذا الفيض القبول والرؤيا الصالحة..
٧ من عطاءات القبول باقي الآيات في قوله تعالى:﴿نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون(٣١) نزلا من غفور رحيم(٣٢)﴾[فصلت] وهناك عطاءات وإمدادات لا نعلمها، والله يعلمها، وهو علام الغيوب..
٨ ود: أحب. والاسم: المودة. وودود، أي: محب، يستوي فيه الذكر والأنثى.[المصباح المنير]..
٩ سيماهم: المساءة: تفيض المسرة، وأصلها: مسوأة، على مفعلة، ولهذا ترد الواو في الجمع فيقال: هي (المساوى) لكن استعمل الجمع مخففا، وبدت مساويه أي: نقائصه، والسوءة: العورة، والجمع: سوءات، وسميت سوأة لأنها بانكشافها تسوء صاحبها.[المصباح المنير].
والحديث أخرجه البخاري في صحيحه (٦٥٠٢) وأحمد في مسنده (٦/٢٥٦) عن أبي هريرة..

ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ ولا يحزنك قولهم إن العزة لله جميعا هو السميع العليم( ٦٥ ) ﴾ :
تجيء هذه الآية بعد أن بيّن لنا الله سبحانه وتعالى اعتراضات الكفار، وإيذاءهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتكذيبهم له وقولهم فيه ما قالوه، وفيما قالوه ما أحزنه صلى الله عليه وسلم ؛ لذلك طلب منه الحق سبحانه ألاّ ينفعل لما قالوه انفعال الحزين، فقد قالوا : ساحر، وكاذب، ومفتر، ومجنون، وقد نفى عنه الحق سبحانه كل ما قالوه، فلو كان محمد صلى الله عليه وسلم ساحرا فلماذا لم يسحرهم هم أيضا، وهل للمسحور إرادة مع الساحر ؟ !
إذن : كذّب قولهم في أنه صلى الله عليه وسلم سحر عبيدهم وأولادهم.
وقالوا : مجنون، ولم يكن في سلوكه صلى الله عليه وسلم أدنى من جنون، وفنّد أقوالهم هذه بقوله سبحانه :﴿ ن والقلم وما يسطرون( ١ ) ما أنت بنعمة ربك بمجنون( ٢ ) وإن لك لأجرا غير ممنون( ١ ) ( ٣ ) وإنك لعلى خلق عظيم( ٤ ) ﴾[ القلم ] :
فالمجنون لا يكون على خلق عظيم أبدا.
وحين قالوا : إنه افترى القرآن، تحداهم أن يأتوا بسورة من مثل ما قال( ٢ )، وعجزوا عن ذلك رغم أنهم مرتاضون( ٣ ) للشعر والأدب والبيان.
وقول الحق سبحانه :﴿ ولا يحزنك قولهم.. ( ٦٥ ) ﴾ لأن أقوالهم لا حصيلة لها من الوقوف أمام الدعوة ؛ لأن ﴿ .. العزة لله جميعا.. ( ٦٥ ) ﴾ والعزة هي القوة، والغلبة، ويقال : هذا الشيء عزيز، أي : لا يوجد مثله، وهو سبحانه العزيز المطلق ؛ لأنه لا إله إلا هو لا يغلب ولا يقهر.
وتلحظ حين تقرأ هذه الآية وجود حرف " الميم " فوق كلمة ﴿ قولهم ﴾( ٤ ) وتعني : ضرورة الوقف هنا.
ولسائل أن يقول : كيف يلزم الوقف هنا مع أن القرآن مبنّي على الوصل ؛ وآخر حرف في كل سورة تجده منوَّنا، وليس في القرآن ما يلزم الوقف للقارئ ؟
وأقول ردّا على هذا التساؤل : إن العلماء حين لاحظوا ضعف ملكة اللغة ؛ جاءوا بهذا الوقف ليتفهم القارئ-الذي لا علم له بالبيان العربي- كيف يقرأ هذه الآية، فهب أن واحدا لا يملك فطنة الأداء، فينسب ﴿ .. إن العزة لله جميعا.. ( ٦٥ ) ﴾ إلى ﴿ ولا يحزنك قولهم.. ( ٦٥ ) ﴾. ويخطئ الفهم، ويظن-معاذ الله- أن العزة لله هي أمر يحزن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لذلك جاء العلماء بالوقف هنا لندقّق القراءة ونحسن الفهم.
ولذلك علينا أن نقرأ ﴿ .. ولا يحزنك قولهم.. ( ٦٥ ) ﴾ ثم نتوقف قبل أن نتابع القراءة ﴿ إن العزة لله جميعا.. ( ٦٥ ) ﴾ ؛ وبهذا نفهم المعنى : يجب ألا تحزن يا محمد ؛ لأن أقوالهم لن تغيّر في مجرى حتمية انتصارك عليهم.
ويريد الحق سبحانه هنا أن يطمئن رسوله صلى الله عليه وسلم في أمر محدد، هو أنه صلى الله عليه وسلم مهمته هي البلاغ فقط، وليس عليه أن يلزمهم بالإيمان برسالته والتسليم لمنهجه.
وبيّن له الحق سبحانه : أنهم إذا ما صدّوا بعد بلاغك، فلا تحزن مما يقولون ؛ فأقوالهم لا يقوم عليها دليل، ولا تنهض لها حجّة، وقد جاء فيهم قول الحق سبحانه :﴿ وجحدوا بها واستيقنتها( ٥ ) أنفسهم.. ( ١٤ ) ﴾[ النمل ] : وأقوالهم لن تقف في سبيل دعوتك، وسيتمّ الله نوره، ولا يوجد أعز من الله سبحانه وتعالى، ولن يجير أحد على الله أحدا، فهو سبحانه يجير ولا يجار عليه.
وإذا كانت العزة هي القهر والغلبة، وقد تكون عزة حجّة، وقد تكون عزة حلف، وقد تكون عزة حكمة، وكل واحد من خلق الله سبحانه قد توجد له عزة مجال ما أو محيط ما، لكن العزة لله سبحانه شاملة مطلقة في كل محيط وفي كل مجال، شاملة لكل شيء وأي شيء.
ولماذا لم يأت الحق سبحانه بأسلوب القصر( ٦ ) في هذه الآية ؟ أي : أن تأتي الصفة للموصوف وتنفيها عما عداه ؛ كأن نقول :" لزيد مال ليس لغيره ". وإذا قدمنا الجار والمجرور-وهو المتعلق-فنقول :" لفلان كذا "، وهذا يعني أن غير فلان ليس له كذا.
وإن قلنا :" فلان له كذا " فيصح أن نقول :" ولفلان كذا، ولفلان كذا، ولفلان كذا ".
أما إذا قلت :" لفلان كذا " فمعناه : امتناع أن يكون لغير فلان شيء من مثل ما قلت.
وهنا يقول الحق سبحانه :﴿ .. إن العزة لله جميعا.. ( ٦٥ ) ﴾ : وجاء بالتأكيد ولم يأت لها بأسلوب القصر الذي يعطي العزة لله سبحانه وينفيها عن غيره ؛ لأنه لا يوجد لهذه الآية مناهض، وهو كلام ابتدائي يخبر به الله سبحانه خبرا كونيا بأن العزة لله جميعا.
وما دام الحق سبحانه هو الذي يقول ذلك- وهو خالق الخلق- فلن تأتي قضية كونية تناقضها، ولو وجدت-معاذ الله- قضية كونية تناقضها، فالآية لن تكون صادقة. وهذا لم ولن يحدث أبدا مع آيات الحق سبحانه ؛ لأنه هو خالق الكون، وهو منزل الآيات ؛ فلا يكن أن يحدث تناقض أبدا بين الكون وكلام خالق الكون سبحانه وتعالى.
وقد حدث أن ادعى بعضهم العزة( ٧ ) لنفسه وقالوا :﴿ .. لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل.. ( ٨ ) ﴾[ المنافقون ] : وكان مغزى قولهم هو ادعاء العزة لأنفسهم، وادعاء الذلة للمؤمنين، إذن : فالعزة قد ادّعيت، وما دامت قد ادعيت فلماذا لم تأت بأسلوب القصر ؟ نقول : لا، لقد شاء الحق سبحانه أن يقول :﴿ .. ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين.. ( ٨ ) ﴾[ المنافقون ] : فالعزة لله لا تتعداه، ولكنه سبحانه شاء أن تكون عزة رسوله صلى الله عليه وسلم وعزة المؤمنين من باطن عزة الله تعالى.
وقوله الحق سبحانه هنا :﴿ .. إن العزة لله جميعا.. ﴾ أي : في كل ألوانها هي لله سبحانه وتعالى، إن كانت عزة حكمة فهو الحكيم، وإن كانت عزة القبض على الأمور فهو العزيز، وإن كانت عزة الحلم فهو الحليم، وإن كانت عزة الغضب والانتقام فهو المنتقم الجبّار، وكلّ ألوان العزة لله تعالى :﴿ .. هو السميع العليم( ٦٥ ) ﴾[ يونس ] : وما دامت العزة هي الغلبة والقهر، فالله سبحانه يسمع من يستحق أن يقهر منه، وما دام الأمر فيه قول فهو يجيء بالسمع، وإن كان فيه فعل، فهو يأتي بصفة العليم، فهو السميع لما يقال والعليم بما يفعل.
ونحن نعلم أن المنهّي عنه هنا هو :﴿ ولا يحزنك قولهم.. ( ٦٥ ) ﴾[ يونس ] : لذلك كان المناسب أن يقال :﴿ هو السميع.. ﴾ أولا.
ويريد الحق سبحانه أن يدلّل على هذه القضية دلالة كونية في آيات الله تعالى في الكون، وليس في الوجود أو الكون من يقف أمامه سبحانه ؛ لذلك لا بد أن نلحظ أن قانون " العزة لله جميعا " محكوم بأن لله تعالى ما في السماوات وما في الأرض.
لذلك يقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ ألا إن لله من في السماوات ومن في الأرض وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون( ٨ ) ( ٦٦ ) ﴾ :
١ من عليه بالعتق وغيره (منا) من باب قتل. وامنن عليه به: أنعم عليه به. والاسم المنة، والجمع (منن) والمنة بالضم: القوة، وهي من الأضداد. ومننت عليه: أي: عددت له ما فعلت له من الصنائع. وفي هذا تكدير وتغيير تنكسر منه القلوب. لهذا نهى الشارع عنه في قوله:﴿يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شيء مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين(٢٦٤)﴾[البقرة].
ومننت الشيء أيضا إذا قطعته فهو ممنون. والمن: شيء يسقط من السماء. فيجنى.[المصباح-بتصرف]..

٢ وذلك قوله تعالى:﴿أم يقولون افتراه قل فاتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين(٣٨)﴾[يونس]..
٣ مرتاضون للشعر: أي: لهم دربة على قول الشعر ونظمه..
٤ وهذا هو الموقف اللازم، ومثله قوله تعالى:﴿إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله..(٣٦)﴾[الأنعام]..
٥ الجحود: الإنكار رغم العلم. واستيقن الأمر: علمه على سبيل اليقين.[لسان العرب: مادة (ى ق ن)]..
٦ أسلوب القصر (أو الحصر): هو تخصيص أمر بآخر بطريق مخصوص، وهو إثبات الحكم للمذكور ونفيه عما عداه. وينقسم إلى: قصر الموصوف على الصفة، وقصر الصفة على الموصوف؛ وكل منهما إما حقيقي وإما مجازي.[الإتقان في علوم القرآن، لجلال الدين السيوطي-٣/١٤٩]..
٧ ود: هو عبد الله بن أبي رأس النفاق في المدينة، وكان ذلك في غزوة بني المصطلق في شهر شعبان في السنة السادسة من الهجرة، وذلك أنه وصف محمدا وصحبه فقال:"قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا، والله ما أعدنا وجلابيب قريش إلا كما قال الأول: سمن كلبك يأكلك، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. ثم اقبل على من حضره من قومه فقال لهم: هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم" أورده ابن هشام في السيرة النبوية (٣/٢٩١، ٢٩٠)..
٨ ود: يخرصون: يتبعون ظنونهم وكذبهم وإفكهم [تفسير ابن كثير (٢/٤٢٤)]..
فالحق سبحانه-إذن-لن يخرج كائن من كان عن ملكه.
وساعة تجد الحق سبحانه يبيّن الشيء وضده، فهو يأتي بالقانون والإطار﴿ لله ما في السماوات وما في الأرض.. ( ٢٨٤ ) ﴾[ البقرة ] : ومثال ذلك : حين تابع قوم فرعون موسى-عليه السلام- وقومه، قال أصحاب موسى :﴿ إنا لمدركون( ٦١ ) ﴾[ الشعراء ] :
قالوا ذلك ؛ لأنهم رأوا البحر أمامهم، فشاء الحق سبحانه أن يبيِّن لهم أن البحر لن يعوق مشيئته سبحانه، ولم ينفلت البحر من قوة الله تعالى ؛ لأن لله ما في السماوات وما في الأرض، والبحر منها ؛ لذلك انفلق البحر، فكان كل فرق كالطود العظيم( ١ ).
فلا شيء يخرج عن ملكه سبحانه تعالى ؛ ولذلك يأتي الحق سبحانه بالنقيض، فبعد أن جعل الحق سبحانه لهم مسلكا في البحر، وكل فرق كالطود العظيم، ويظل البحر مفلوقا فيدخل قوم فرعون فيه.
والحق سبحانه يقول لموسى عليه السلام :﴿ واترك البحر رهوا إنهم جند مغرقون( ٢٤ ) ﴾[ الدخان ] : فيأمر الحق سبحانه البحر أن يعود كما كان ؛ فيغرق قوم فرعون بعد أن أنجى الله-سبحانه وتعالى-موسى-عليه السلام- ومن معه، فأهلك وأنجى بالشيء الواحد ؛ لأنه سبحانه له ما في السماوات وما في الأرض، وليبيِّن الحق سبحانه لنا أنه لا شيء في كون الله تعالى يقوم مقام عزته سبحانه أبدا.
وهناك مثال آخر : حين يقول نوح-عليه السلام-لابنه :﴿ يا بني اركب معنا.. ( ٤٢ ) ﴾[ هود ]، فيرد الابن قائلا :﴿ سآوي إلى جبل يعصمني من الماء( ٢ ).. ( ٤٣ ) ﴾[ هود ] : وهذا كلام صحيح من ناحية أن الجبل يعلو مستواه عن مستوى المياه، ولكن ابن نوح نسى أن لله تعالى جنديا آخر هو الموج ؛ فكان من المغرقين.
صحيح أن ابن نوح فطن إلى أن السفينة سوف تستوي على " الجودي " ( ٣ )، وأن من يركبها لن يغرق، وكذلك من يأوي إلى الجبل العالي، لكنه لم يفطن إلى الموج الذي حال بينه وبين الجبل ؛ فكان من المغرقين.
إذن : فكل كائن هو مؤتمر بأمر من الله تعالى، وما دامت العزة لله جميعا فمصداقها أن لله تعالى ما في السماوات وما في الأرض، وليس هنالك كائن في الوجود يتأبى على أن يكون جنديا من جنود الحق سبحانه، فيكون جنديا للإهلاك، وجنديا للنجاة في نفس الوقت( ٤ ).
وقول الحق سبحانه هنا :( ألا ) نعلم منه أن ( ألا ) أداة تنبيه للسامع فلا يؤخذ على غرة، ولا تفوته حكمة من حكم الكلام، وينتبه إلى أن هناك خطابا عليه أن يجمع عقله كله ليحسن استقبال ما ففي هذا لا الخطاب.
ويقول الحق سبحانه :﴿ ألا إن لله من في السماوات ومن في الأرض.. ( ٦٦ ) ﴾[ يونس ] :
ولقائل أن يقول : هناك كثير من الكائنات غير العاقلة، وقوله هنا ﴿ من ﴾ مقصود به الكائنات العاقلة ؟
ولنا أن نتساءل للرد على هذا القائل : وهل هناك أي شيء في الوجود لا يفهم عن الله ؟ طبعا لا، والله سبحانه وتعالى هو القائل عن الأرض :﴿ يومئذ تحدث أخبارها( ٤ ) بأن ربك أوحى لها( ٥ ) ﴾[ الزلزلة ].
إذن : فكل الكائنات في عرف الاستقبال عن الله سبحانه سواء ب " من " أو ب " ما "، وكل من في الوجود يفهم عن الله.
ونلحظ أن الحق سبحانه يأتي مرة بالقول :﴿ وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها.. ( ٨٣ ) ﴾[ آل عمران ]، ومرة يقول الحق سبحانه :﴿ إلا إن لله من في السماوات ومن في الأرض.. ( ٦٦ ) ﴾[ يونس ] : كما جاء في هذه الآية التي نحن بصددها الآن.
﴿ شاء الحق سبحانه ذلك ﴾ لأن هناك جنسا في الوجود يوجد في السماء ويوجد في الأرض، وهم الملائكة المدبرات( ٥ ) أمرا، هؤلاء هم المقصودون بأن لله ما في السماوات والأرض.
ولله سبحانه وتعالى أيضا جنس في السماوات لا يوجد في الأرض وهم الملائكة المهيمون( ٦ ) العالين، وليس لهم وجود على الأرض، كما أن لله تعالى جنودا في الأرض ليس لهم وجود في السماء، فإن لاحظنا الملائكة المدبرات أمرا، نجد أن قول الحق سبحانه :﴿ لله ما في السماوات والأرض.. ( ٢٨٤ ) ﴾[ البقرة ] : مناسب لها.
وإن لاحظنا أن لله ملائكة مهيمين في السماء، وجنودا في الأرض لا علاقة لهم بالسماء يكون مناسبا لذلك قول الحق سبحانه :﴿ لله من في السماوات ومن في الأرض.. ( ٦٦ ) ﴾[ يونس ] : وما دام كل شيء في الكون مملوكا لله تعالى فلا شيء يخرج عن مراده سبحانه، فلا يوجد مثلا غار يدخله كائن فرارا من الله ؛ لأنه سبحانه قادر على أن يسد الغار، وإن شاء الله سبحانه أن يساعد من دخل الغار فهو تعالى يعمي بصر من يرقب الغار( ٧ ).
إذن : فلن يجير( ٨ ) شيء على الله تعالى، وستظل له صفة العزة لا يخدشها خادش من وجود الله في الكون.
ثم يقول الحق سبحانه :﴿ وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء.. ( ٦٦ ) ﴾[ يونس ] :
ومعنى إتباعهم شركاء كأن هناك شركاء، رغم أن الأصل والحقيقة ألا شركاء له سبحانه.
إذن : فهم يتبعون غير شيء ؛ والدليل على ذلك موجود في طي القضية، فهم يعبدونهم من دون الله تعالى، ومعنى العبادة أن يطاع أمر وينهي نهى، وما يعبدونه من أشياء لا أوامر لها ولا نواهي ؛ فليس هناك منهج جاءوا به.
إذن : فلا ألوهية لهم. إذن : فالأصل ألا شركاء لله تعالى، ولو كان له شركاء لأنزلوا منهجا ولأوجدوا أوامر، وكان لهو نواه ؛ لأن الذي يقول :" اعبدني " إنما يحدد طريقة وأسلوب العبادة. وهاتوا واحدا من الذين تتبعونهم وتدعون لهم يكون له منهج، ولن يستطيعوا ذلك، والحق سبحانه هو القائل :﴿ قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا( ٤٢ ) ﴾[ الإسراء ] : أي : أننا لو افترضنا أن هناك آلهة ولها مظهر قوة كالشمس التي تضيء والقمر الذي ينير، والمطر الذي ينزل من السماء، والملائكة التي تدبر الأمر، لو صدقنا أن كل هؤلاء آلهة، فهم سيبحثون عن الإله الواحد الأحد ؛ ليأخذوا منه القوة التي ظننتم أنها لهم.
ولذلك يقول الحق سبحانه :﴿ وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون( ٩١ ) ﴾[ المؤمنون ] : إذ لو كان هذا الأمر صحيحا لكانت هناك ولايات إلهية.
ولذلك قال الحق سبحانه :﴿ أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة.. ( ٥٧ ) ﴾[ الإسراء ] : وهم قالوا إنهم يعبدون الملائكة، وعليهم أن يعلموا أن الملائكة نفسها تعبد الله سبحانه وتعالى، وما دام لا يوجد شركاء لله لتتبعوهم ؛ إذن : فأنتم تتبعون الظن.
لذلك جاء قول الحق سبحانه :﴿ إن يتبعون إلا الظن( ٩ ) وإن هم إلا يخرصون( ١٠ ) ( ٦٦ ) ﴾[ يونس ] :
ونحن نجد الذين أولعوا بأن يوجدوا في القرآن ظاهر تعارض ليشككوا فيه، قالوا : إن هذه الآية مثال على ذلك ؛ فيقولون : في بداية الآية يقول :﴿ وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء.. ( ٦٦ ) ﴾[ يونس ].
فينفي أن المشركين يتبعون شركاء لله، ثم يأتي في آخر الأية فيقول إنهم يتبعون الظن والخرص، ففي أولها ينفي الإتباع، وفي أخرها يثبته.
وهذا جهل ممن قال بهذا وادعى أن هناك تناقضا في الآية، فالله سبحانه ينفي أن يكون ما يدعوه هؤلاء المشركون شركاء لله في ملكه، فلله من في السماوات ومن في الأرض، ولكنه يثبت أنهم يتبعون الظن والخرص والتخمين.
ونقول : ما هو الظن ؟ وما هو الخرص ؟
إن الظن حكم بالراجح كما أوضحنا من قبل في النسب من أن هناك نسبة إن لم تكن موجودة فهي مشكوك فيها، أو نسبة راجحة، أو أن نسبة يتساوى فيها الشك مع الإثبات، فإن كان الشك مساويا للإثبات فهذا هو الشك. وإن رجحت، فهذا هو الظن. أما المرجوح فنسميه وهما.
الظن-إذن-حكم بالراجح. والخرص : هو التخمين، والقول بلا قاعدة أو دليل.
والحق سبحانه يقول هنا :﴿ إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون( ٦٦ ) ﴾[ يونس ].
والقرآن حين يوجه خطابا فهو يأتي بالخطاب المستوعب لكل ممكن، وهو سبحانه حكم عليهم هنا أنهم يتبعون الظن والخرص.
ونحن نعلم أن الكافرين قسمان : قسم يعلم حقيقة الشيء، ولكنه يغير الحقيقة إلى إفك( ١١ ) وإلى خرص، وقسم آخر لا يعرف حقيقة الشيء، بل يستمع إلى من يعتقد أنه يعرف.
إذن : فهناك متبع-بكسر الباء- وهناك متبع-بفتح الباء- المتبع-بفتح الباء-يعلم أن ما يقوله هو كلام ملتو، يشوه الحقيقة ويزينها، أما المتبع-بكسر الباء-فيظن أنه يتبع أناسا عاقلين أمناء فأخذ كلامهم بتصديق.
إذن : فالمتبع ( بكسر الباء ) يكون الظن من ناحيته، أما المتبع ( بفتح الباء ) فيكون الخرص والكذب الافتراء من ناحيته ؛ ولذلك يقول لنا الحق سبحانه :﴿ ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون( ٧٨ ) ﴾[ البقرة ] : هؤلاء-إذن-يصدقون ما يقال لهم ؛ لأنهم أميون، والكلام الذي يقال لهم راجح، وهم لو فكروا بعقولهم لما انتهوا إلى أنه كلام راجح.
أما الآخرون فيقول فيهم الحق سبحانه :﴿ فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا.. ( ٧٩ ) ﴾[ البقرة ] : وهؤلاء هم الذين يأتي منهم الخرص والإفك وقول الزور والبهتان( ١٢ ).
إذن : فالكفار إن كانوا من الأميين فهم من أهل الظن، وينطبق عليهم قول الحق سبحانه :﴿ إن يتبعون إلا الظن.. ( ٦٦ ) ﴾.
وإن كانوا من القادة والرؤساء فهؤلاء هم من ينطبق عليهم قول الحق سبحانه :﴿ وإن هم إلا يخرصون( ٦٦ ) ﴾.
١ يقول رب العزة سبحانه:﴿فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون(٦١) قال كلا إن معي ربي سيهدين(٦٢) فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم(٦٣) وأزلفنا ثم الآخرين(٦٤) وأنجينا موسى ومن معه أجمعين(٦٥) ثم أغرقنا الآخرين(٦٦) إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين(٦٧) وإن ربك لهو العزيز الرحيم(٦٨)﴾[الشعراء].
والفرق: الفلق أو الجزء منه. والطود: الجبل الكبير.[ذكره ابن كثير في تفسيره(٣/٣٣٦)، و[ولسان العرب: مادة (ف ر ق)]..

٢ يقول رب العزة سبحانه:﴿قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين(٤٣)﴾[هود] لقد اعتقد ابن نوح بجهله أن الطوفان لا يبلغ إلى رءوس الجبال، وأنه لو تعلق في رأس جبل لنجاه ذلك من الغرق.[تفسير ابن كثير ٢/٤٤٦]..
٣ يقول رب الجودي: قال مجاهد: هو جبل بالجزيرة، وهو الذي رست عليه سفينة نوح-عليه السلام.[تفسير ابن كثير ٢/٤٤٦]. وقيل: إنه جبل أرارات في شرق تركيا بالأناضول..
٤ القسط: يقول تعالى:﴿ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عليما حكيما(٤)﴾[الفتح] ويقول أيضا:﴿وما يعلم جنود ربك إلا هو..(٣١)﴾[المدثر]..
٥ المدبرات أمرا: هي الملائكة تدبر الأمر من السماء على الأرض بأمر ربها-عز وجل..
٦ المهيمون: الذين يهيمون في عبادة الله وطاعته، فمن الملائكة من لا شغل لهم إلا العبادة فتجد منهم القائمين فلا يركعون، والركع فلا يسجدون، والسجود فلا يرفعون. وهناك الملائكة الكروبيون، وهم أقرب الملائكة لحملة العرش الثمانية، قال عنهم سبحانه:﴿الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا..(٧)﴾[غافر]..
٧ استجار به: طلب حمايته. قال تعالى:﴿وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله..(٦)﴾[التوبة] وأجاره: تكفل بحمايته. قال تعالى:﴿.. وهو يجير ولا يجار عليه..(٨٨)﴾[المؤمنون] أي: أنه يتكفل بحمايته من يلجأ إليه ولا يستطيع أحد أن يجير من يريد الله عقابه.[القاموس القويم-بتصرف]..
٨ هذا إشارة إلى ما حدث في هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر من مكة إلى المدينة عندما دخلوا الغار واثبت الله على بابه شجرة وأوجد حمامتين ترقدان على البيض، وعنكبوتا كبيرا قد سد باب الغار بخيوط علاها تراب وكأنه تراب السنين..
٩ الظن: ما يحصل في النفس عن إمارة، فهو شك راجح وفعله من أفعال الرجحان، من باب نصر.
والظن مصدر، والظن: اسم لهذا الخاطر الذي حصل في النفس. قال تعالى:﴿وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا(٢٨)﴾[النجم] وجمعه: ظنون، ويستعمل الظن بمعنى اليقين مجازا كقوله تعالى:﴿إني ظننت أني ملاق حسابيه(٢٠)﴾[الحاقة] بمعنى تيقنت.[القاموس القويم-بتصرف]..

١٠ الخرص: الكذب والقول بغير علم. وقال تعالى:﴿قتل الخراصون(١٠)﴾[الذاريات] قال الزجاج: أي: الكذابون.[لسان العرب: مادة (خ ر ص)-بتصرف]..
١١ أفك، يأفك ويأفك-من باب "فرح" و"ضرب": كذب وافترى باطلا والإفك بكسر الهمزة: الكذب: وأفاك صيغة مبالغة أي: كثير الكذب. قال تعالى:﴿ويل لكل أفاك أثيم(٧)﴾[الجاثية].[القاموس القويم] بتصرف..
١٢ البهتان: الافتراء والكذب. قال تعالى:﴿ولا يأتين ببهتان يفترينه..(١٢)﴾[الممتحنة][لسان العرب: مادة (ب هـ ت)]..
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون( ٦٧ ) ﴾ :
وشاء الحق سبحانه بعد أن بين الإيمان والمؤمنين، وما يمكن أن يدعيه الكافرون في نبي الرسالة، وبعد أن بين المنهج، ها هو سبحانه يأتي بالكلام عن آياته سبحانه في الكون تأييدا للمطلوب بالموجود.
فالمطلوب أن يؤمن برسول يبلغ منهجا عن الله ؛ ليكون هذا المنهج نافعا لنا، وإن أراد أحد دليلا على ذلك فلينظر إلى الآيات التي وجدت للإنسان من قبل أن يكلف، أهي في مصلحته أم في غير مصلحته ؟
وما دامت الآيات الموجودة في الكون-والمسخرة للإنسان-تفيد الإنسان في حياته، فلماذا لا يشكر من أعطاه كل تلك النعم، وقد أعطى الحق-سبحانه وتعالى-الإنسان من قبل التكليف الكثير من النعم، وفور أن يصل إلى البلوغ يصير مكلفا.
إذن : فالله سبحانه لم يكلف أحدا إلا بعد أن غمره بالنعم النافعة له باعتقاد من العبد، وصدق من الواقع.
فإذا ما جاء لك التكليف، فقس ما طلب منك على ما وجد لك، فإذا كنت تعتقد أن الآيات الكونية التي سبقت التكليف نافعة لك قبل أن يطلب منك " افعل كذا " و " لا تفعل كذا " ؛ فخذ منها صدقا واقعا يؤيد صدق ما طلب منك تكليفا، فكما نفعك في الأولى، فالحق سبحانه سينفعك بإتباعك التكليف، واستقبل حركة الحياة على ضوء هذا التكليف ؛ لتسعد( ١ ).
ونحن نعلم أن الأصل في الإنسان أن يرتاح أولا ليتحرك، ثم يتعب ثم يرتاح ؛ ولذلك نجد التكاليف قد جاءت على نفس المنوال، فقد أراحك الحق سبحانه إلى سن البلوغ وأخذت نعم الله تعالى وتمتعت بها إلى سن البلوغ، ارتحت اختيارا، وارتحت في مراداتك، ثم تجيء " افعل " و " لا تفعل " لتلتزم بما يصلح لك كل أحوالك.
وإذا كان التكليف سيأخذ منك بعضا من الجهد، فهناك فاصل زمني للراحة، وأنت في حياتك تجد وقتا للراحة، ووقتا للحركة، والراحة تجعلك تسعى بنشاط إلى الحركة، والحركة تأخذ منك الجهد الذي تحب أن ترتاح بعده.
إذن : فالحركة تحتاج للراحة، والراحة تحتاج للحركة. وجاء الحق سبحانه إلى الفترة الزمنية المسماة " اليوم "، فبين لنا أنه كما قسم الوجود الإنسان إلى مرحلتين :
الأولى : هي ما قبل البلوغ ولا تكليف فيها.
والثانية : هي ما بعد البلوغ وفيها التكليف.
فقد قسم الله سبحانه أيضا " اليوم " إلى وقت للراحة ووقت للحركة، فقال تعالى :﴿ هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا.. ( ٦٧ ) ﴾[ يونس ].
فكما خلق الحق سبحانه لنا اليوم وفيه وقت للراحة، ووقت للحركة، كذلك شرع الحق سبحانه منهج الدين ؛ لتستقيم حركة الحياة ؛ لأن الإنسان-الخليفة في الأرض-لابد أن يتحرك، ولا بد أن تكون حركته على مقتضى " افعل كذا " و " لا تفعل كذا "، وما لم يرد فيه " افعل " و " لا تفعل " فهو مباح ؛ إن شاء فعله، وإن شاء لم يفعله( ٢ ).
وكل فعل، وكل نهي يتطلب حركة، وإياك أن تتصور أن النهي لا يتطلب حركة ؛ لأنك تتحرك في أمر ما ثم يأتيك قرار التوقف، وقد تتوهم أن التوقف لا يحتاج إلى حركة ؛ لأنه سلبك ملكة القيام بما تعمل، ولكنك تنسى أن هناك حركة داخلية، وهي الدوافع التي كانت تلح عليك أن تقوم بما تشتهيه نفسك ولا يواكب منهج الله، وأنت تكتب تلك الدوافع وتكبح جماحها( ٣ ) ؛ لأن الله سبحانه قد أمرك بذلك.
وما دامت هناك حركة فلا بد أن يأتي منها تعب ؛ لذلك جعل الله تعالى لك حقا في الراحة.
وكذلك عمر الإنسان، لم يكلف الله –تعالى-الإنسان إلا بعد البلوغ، وترك له الفترة الأولى من عمره دون تكليف منه وحساب، لكنه سبحانه لم يقطع عنه التكليف في تلك المرحلة بتاتا، وإنما منع حسابه على ما " يفعل " أو " لا يفعل "، وترك مسئولية التدريب على التكليف للأب مثلا، فالأب يقول لابنه :" لا تكذب " فإن كذب ؛ فالأب يعاقبه، وهكذا يكون الأمر من الوالد، والنهي للولد والأمر والنهي يتطلب ثوابا أو عقابا.
ويبيِّن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الأمر فيقول :" مروا أولادكم بالصلاة لسبع سنين، واضربوهم عليها لعشر سنين " ( ٤ ).
والذي يأمر هنا الابن بالصلاة هو الأب، وهو أيضا الذي يعاقب على ترك الصلاة، وهو الذي يثب ابنه إن أراد أن يجعل الصلاة محبوبة للابن، وأن يجعل للابن أنسا بالعبادة.
وحين يكلف الأب ابنه بالصلاة، فالابن يطيع ؛ لأن الأب هو الذي يقضي حاجات الابن، ويحقق له مصالحه، والابن يعلم أن والده لن يكلفه إلا بما يحقق تلك المصالح، وهو يفعل ذلك ؛ لأنه يحبه ؛ لذلك جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمر والنهي من النافع للابن ؛ لتوجد حيثية قبول في النفس.
وما إن يأت البلوغ فيكون التكليف من الله والأمر من الله، والثواب والعقاب منه سبحانه.
إذن : فالأمر والنهي قبل البلوغ يأتيان من الأب ؛ ليتعود الإنسان استقبال الأمر والنهي ومن ربه ورب أبيه.
وإذا كانت الحياة والسير فيها على ضوء منهج الله تعالى يقتضي حركة في " افعل " و " لا تفعل " فلا بد أن يحتاج الإنسان إلى راحة من الحركة ؛ لذلك يبين لنا الله سبحانه أنه جعل في " اليوم " ليلا ونهارا، ولكل مهمة، فإياك أن تضع مهمة شيء مكان شيء آخر ؛ حتى لا ترتبك الأمور، ولكن الظروف قد تضطرك إلى ذلك، فهناك من يسهر للحراسة، وهناك من يسهر للعمل في المخابز، أو إعداد طعام الإفطار للناس ؛ ولذلك فهناك احتياط قدري، فقال الحق سبحانه في آية ثانية :
﴿ ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله.. ( ٢٣ ) ﴾[ الروم ] : لأن الحق سبحانه قد علم أزلا أن هناك مصالح لا يمكن إلا أن تكون ليلا، فالذي يعمل ليلا يرتاح نهارا، ولو أن الآية جاءت عمومية ؛ لقنا لمن ينام( ٥ ) بالنهار : لا، ليس هذا وقت السكن والراحة.
ولكن شاء الحق سبحانه أن يضع الاحتياطي القدري ؛ ليرتاح من يتصل عمله بالليل.
وهنا يقول الحق سبحانه :﴿ هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه.. ( ٦٧ ) ﴾[ يونس ] : ونحن نعلم أن هناك فارقا بين " الخلق "، و " الجعل "، و " الملك "، والمثال على الخلق : أنه سبحانه خلق الزمن، ثم جاء لهذا الزمن ليجعل منه ليلا ونهارا( ٦ ).
إذن : فالجعل هو توجيه شيء مخلوق لمهمة. ومثال ذلك- ولله المثل الأعلى- وهو منزه عن أي تشبيه أو مثل : تجد صانع الفخار وهو يمسك بالطين ؛ ليجعل منه إبريقا، فهو يصنع الطين أولا بأن يخلط الماء بالتراب ويعجنهما معا، ثم يجعل من الطين إبريقا أو أصص زرع أو زهرية ورد، وهو بذلك إنما يحول مخلوقا إلى شيء له مهمة.
والزمن كله لله سبحانه، وجعل منه قسم الليل، وقسم النهار، ومثلما خلق الإنسان، ووجه جزءا منه ؛ ليجعله سمعا، وجزءا آخر ؛ ليجعله بصرا، وجزءا آخر ؛ ليصير مخا، وجزءا آخر ؛ ليكون رئة، كل ذلك مأخوذ مما خلقه الحق سبحانه. أي : أنه سبحانه جعل أشياء مما خلق أصلا ؛ لتؤدي مهمة للمخلوق.
وفي حياتنا-ولله المثل الأعلى-نجد من يغزل من القطن خيوطا، وهناك من ينسج من تلك الخيوط قماشا، وبعد ذلك نجد من يأخذ هذا القماش ؛ ليجعل منه جلبابا أو بنطلونا أو قميصا أو لحافا.
إذن : فالجعل هو أخذ من شيء مخلوق لمهمة. والخلق قد يترتب عليه ملك، والجعل أيضا قد يترتب عليه ملك ؛ فمن عمل قدرا من الطين هو مالكه، ومن جعل من الطين إبريقا إنما يملكه.
وهكذا نجد الخلق والجعل قد يترتب عليهما ملكية ما، لكن الملكية المنسحبة بعد الخلق والجعل تجعلك تنتفع بالأشياء وقد لا تملكها ؛ لذلك نجد قول الحق سبحانه :
﴿ أمن يملك السمع والأبصار.. ( ٣١ ) ﴾[ يونس. ]
والحق سبحانه خلق لنا الأنعام، وذللها لنا، وملكها لنا، وإذا قال الحق سبحانه :" ملك " فملكيته سبحانه لا تنتهي لأحد أبدا سواء من الخلق أو الجعل، بل يظل مملوكا ؛ ولذلك قلنا : إن نقل الأعضاء هو تحكم فيما لا يملكه المخلوق، بل يملكه الخالق سبحانه وتعالى.
يذكر الحق سبحانه الليل والنهار فيقول :﴿ هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا.. ( ٦٧ ) ﴾[ يونس ].
وكان مقتضى الكلام أن يقول : جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار لتتحركوا.
وشاء سبحانه أن يأتي هنا بالأداء القرآني المعجز فقال :﴿ والنهار مبصرا ﴾.
فهل النهار هو الذي يبصر أم نحن ؟
هل النهار مبصر أم مبصر فيه ؟
وقديما لم يكونوا قد وصلوا إلى الحقيقة العلمية التي وصلنا إليها الآن، فقد كانوا يعتقدون أن الضوء( ٧ ) يخرج من العين على المرئي فتراه، إلى أن جاء " الحسن بن الهيثم " العالم العربي المسلم، وأوضح بالتجربة أن الضوء إنما ينعكس من المرئي إلى العين، بدليل أن المرئي إن كان في النور وأنت في الظلام، فأنت تراه، وإذا كان الأمر بالعكس فأنت لا تراه.
إذن : فقد سبق القرآن كل النظريات، وبيَّن لنا أن النهار إنما يأتي بالضوء فينعكس الضوء من الكائنات والموجودات إلى العين فتراه.
إذن : فالنهار هو المبصر ؛ لأنه جاء بالضوء اللازم لانعكاس هذا الضوء من المرائي إلى العيون.
ونحن نجد القرآن حين يتعرض لليل والنهار يقول :﴿ ومن آياته الليل والنهار.. ( ٣٧ ) ﴾[ فصلت ]، ويقول :﴿ وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا( ٨ ) آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة.. ( ١٢ ) ﴾[ الإسراء ] : وهي مبصرة كما أثبت الحسن بن الهيثم العالم المسلم، وإن كانت في ظاهر الأمر مبصرة فيها.
ويعطي لنا الحق سبحانه تجربة حية مع موسى عليه السلام، وذلك في قوله سبحانه لموسى –عليه السلام :﴿ وما تلك بيمينك يا موسى( ١٧ ) قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى( ١٨ ) قال ألقها يا موسى( ١٩ ) فألقاها فإذا هي حية تسعى( ٢٠ ) ﴾[ طه ] : وشاء الحق سبحانه ذلك ؛ ليتعرف موسى بالتجربة على ما سوف يحدث من عصاه أمام فرعون، ثم أمام السحرة، ثقة منه سبحانه أن موسى حين يراها تنقلب إلى حية أمام عينيه لأول وهلة سوف يفزع ؛ فيطمئنه الحق سبحانه بقوله :﴿ .. خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى( ٩ ) ( ٢١ ) ﴾[ طه ] : وكانت المرة الأولى لتحول العصا إلى حية، هي تجربة للاستعداد ؛ حتى لا يجزع موسى-عليه السلام- أو يخاف لحظة أن يمر بالتجربة العملية، وحتى يقبل على تقديم المعجزة وهو واثق تمام الثقة أمام فرعون.
ثم قال الحق سبحانه لموسى-عليه السلام :﴿ وأدخل يدك في جيبك( ١٠ ).. ( ١٢ ) ﴾[ النمل ].
والجيب : هو المكان الذي تنفذ منه الرقبة في الجلباب ويسمى ( القبة )، فلا يظن أحد أن الجيب المقصود هنا هو مكان وضع النقود ؛ لأن مكان وضع النقود قديما كان يوجد من داخل الجلباب، مثل جيب ( الصديري ) الذي يرتديه أهل الريف، وقد سمي الجيب الذي نضع فيه النقود جيبا ؛ لأن اليد لا تذهب إلى الجيب إلا إذا دخلت في الفتحة التي تخرج منها الرقبة.
وقد قال الحق سبحانه لموسى-عليه السلام :﴿ وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء.. ( ١٢ ) ﴾[ النمل ]، ويخبره الحق سبحانه :﴿ في تسع آيات إلى فرعون وقومه إنهم كانوا قوما فاسقين( ١٢ ) فلما جاءتهم آياتنا مبصرة.. ( ١٣ ) ﴾[ النمل ] : هكذا كانت الآيات مبصرة( ١١ ) وكأنها تقول للعين : أبصريني.
وهنا في الآية- التي نحن بصدد خواطرنا عنها-يقول الحق سبحانه :﴿ هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا.. ( ٦٧ ) ﴾[ يونس ]. ولم يقل : لتتحركوا فيه، بل جاء بما يضمن سلامة
١ مصدقا لقوله تعالى:﴿إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون(٣٠) نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون(٣١)﴾[فصلت]..
٢ لأن كلمة (افعل) يندرج تحتها الأمر من الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في الواجبات والفرائض والسنن والمندوبات والمستحبات. وكلمة (لا تفعل) يندرج تحتها النهي من الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وذلك في الحرم والمكروه. أما غير ذلك فهو مباح..
٣ تكبح جماحها: تمنعها عن المعاصي. مأخوذة من كبح الدابة أي: جدبها إليه باللجام، وضرب فاهابه؛ كي تقف ولا تجري.[لسان العرب: مادة (ك ب ح)]..
٤ أخرجه أحمد في مسنده (٢/١٨٧) وأبو داود في سننه (٤٩٥) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص. واللفظ لأحمد..
٥ نام فلان نوما: اضطجع أو نعس وإليه سكن واطمأن ووثق به ومن حاجته فغل عنها ولم يهتم بها وأنامه: أرقده، ونوم فلان: أرقده. والتناوم التظاهر بالنوم. واستنام: نام واطمأن. والنوم من آيات الله؛ لأنه راحة وسكن، والراحة مع السكن تعطي قوة الحركة والثبات في التفكير والتركيز.[المعجم الوجيز-بتصرف]..
٦ يقول سبحانه:﴿قل أرأيتم عن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون(٧١) قل أرأيتم عن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون(٧٢) ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون(٧٣)﴾[القصص]..
٧ الضوء-بفتح الضاد والضوء-بضمها والضياء، والضواء: النور الذي ينتشر من الأجسام المضيئة، وقد يخص الضوء لما كان صادرا من شيء مضيء بنفسه كضوء الشمس، وقد يخصص بالنور لما كان مستمدا من ضوء، كنور القمر. قال تعالى:﴿هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا..(٥)﴾[يونس].[القاموس القويم] بتصرف..
٨ جعل الله ليل آية وهي القمر، وجعل للنهار آية وهي الشمس، وجعل آية النهار مبصرة أي: منيرة تنير الكون كله، أما القمر فقد محا آيته وهو سواد القمر الذي فيه. بتصرف من تفسير ابن كثير (٣/٢٧)..
٩ أي: سنعيدها كملا كانت (عصا)..
١٠ الجيب: النحر والصدر. قال تعالى:﴿وليضربن بخمرهن على جيوبهن..(٣١)﴾[النور]..
١١ بصر به: رآه ببصره، فهو بصير، وبصر بالأمر: علمه كأنه رآه ببصره. وقوله:﴿فبصرت به عن جنب..(١١)﴾[القصص] أي: رأته من احد جوانب البيت. وأبصر: رأى. قال تعالى:﴿وأبصر فسوف يبصرون(١٧٩)﴾[الصافات] أي: انظر وترقب. وأبصره: جعله يبصر، وجعله يعلم علم من يبصر. قال تعالى:﴿وأبصرهم فسوف يبصرون(١٧٥)﴾[الصافات]. والبصير: من أسماء الله الحسنى، والبصير: من له عينان يبصر بهما، ضد الأعمى. قال تعالى:﴿هل يستوي الأعمى والبصير..(٥٠)﴾[الأنعام] والبصيرة: نور القلب والحجة الواضحة ومن المجاز قولهم: نهار مبصر، أي: مضيء. قال تعالى:﴿هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا..(٦٧)﴾[يونس]، وقوله:﴿وجعلنا آية النهار مبصرة..(١٢)﴾[الإسراء] وقوله:﴿وآتينا ثمود الناقة مبصرة..(٥٩)﴾[الإسراء] أي: معجزة واضحة. وقوله:﴿.. إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون(٢٠١)﴾[الأعراف] أي: عارفون الحق.[القاموس القويم-بتصرف]..
ونفس نص الآية الكريمة يكذبهم فيما يدعونه. ومثال ذلك : أنك حين تقول :" اتخذ فلان بيتا " أي : أن فلانا له ذاتية سابقة على اتخاذه للبيت، وبها اتخذ البيت، فإذا قيل :﴿ اتخذ الله ولدا.. ( ٦٨ ) ﴾[ يونس ] : فهذا اعتراف منهم بكمال الله تعالى وذاتيته قبل أن يتخذ الولد.
وهم قد اختلفوا في أمر هذا الولد، فمنهم من قال : إن الملائكة هن بنات الله وكذبهم الحق سبحانه في ذلك، ومنهم من قال : عزيز ابن الله وهم اليهود( ١ ) وقد كذبهم الله سبحانه في ذلك، وطائفة من المسيحيين قالوا : إن المسيح ابن الله( ٢ )، وكذبهم الحق سبحانه في ذلك( ٣ ).
ثم ما الداعي أن يتخذ الله الولد ؟
هل استنفد قوته حتى يساعده الولد ؟ !
وهل يمكن أن يضعف سبحانه-معاذ الله- فيمتد بقوة الولد أو يعتمد عليه ؟ !
مثلما يقال حين يواجه شيخ شابا، ويعتدي الشاب على الشيخ، فيقال للشاب : احذر ؛ إن لهذا الشيخ ولدا أقوى منك ؛ فيرتدع الشاب، أو أن يقول الشيخ للشاب : إن أبنائي يفوقونك في القوة، وفي هذا اعتداد بالأولاد.
ويريد الحق سبحانه أن يغفل كل هذه الدعاوى ولتكون حركة الحياة متماسكة متلازمة، لا متعارضة ولا متناقضة ؛ لذلك ينبغي أن يكون المحرك إلها واحدا تصدر منه كل الأوامر، فلا تعارض في تلك الأوامر ؛ لأن الأوامر إن صدرت عن متعدد فحركة الحياة تتصادم بما يبدد الطاقة ويفسد الصالح.
ولذلك لا بد أن يكون الأمر صادرا من آمر واحد يسلم له كل أمر، وهذا الإله منزه عن كل ما تعرفه من الأغيار، فله تنزيه في ذاته ؛ فلا ذات تشبه ذاته، ومنزه في صفاته ؛ فلا صفة تشبه صفته، ومنزه في أفعاله ؛ فلا فعل يشبه فعله( ٤ ).
وحتى نضمن هذه المسالة لا بد أن يكون الإله واحدا، ولكن بعضا من القوم جعلوا لله شركاء، ومن لم يجعل له شريكا، وتوهم أن له ابنا وولدا.
ونقول لهم : إن كلمتكم :﴿ اتخذ الله ولدا.. ( ٦٨ ) ﴾ ترد عليكم ؛ لأن معنى اتخاذ الولد أن الألوهية وجدت أولا مستقلة، وبهذه الألوهية اتخذ الولد.
ومن المشركين من قال : إن الملائكة بنات الله.
فرد عليهم الحق سبحانه :﴿ ألكم الذكر وله الأنثى( ٢١ ) تلك إذا قسمة ضيزى( ٥ )( ٢٢ ) ﴾[ النجم ] والكمال كله لله سبحانه فهو كمال ذاتي ؛ ولذلك يأتي في وسط الآية ويقول تعالى :﴿ سبحانه هو الغني.. ( ٦٨ ) ﴾[ يونس ] : وسبحانه تعني : التنزيه، وهو الغني أي : المستغنى عن معين كما تستعينون أنتم بأبنائكم، وهو دائم الوجود ؛ فلا يحتاج إلى ابن مثل البشر، وهم أحداث تبدأ وتنتهي ؛ لذلك يحبون أن يكون لهم أبناء كما يقول الشاعر :
*ابني يا أنا بعد ما أقضى*
ويقال :" من لا ولد له لا ذكر له "، كان الإنسان لما علم أنه يموت لا محالة أراد أن يستمر في الحياة في ولده.
ولذلك حين يأتي الولد للإنسان يشعر الإنسان بالسرور والسعادة، والجاهل هو من يحزن حين تلد له زوجته بنتا ؛ لأن البنت لن تحمل الاسم لمن بعدها، أما الولد والحفيد فيحملان اسم الجد، فيشعر الجد أنه ضمن الذكر في جيلين.
إذن : فاتخاذ الولد إما استعانة وإما اعتداد، والحق سبحانه غنيُّ عن الاستعانة، وغني عن الاعتداد ؛ لأنك تعتد بمن هو أقوى منك، وليس هناك أقوى من الله تعالى، وهو سبحانه لا يحتاج لامتداد ؛ لأنه هو الأول وهو الآخر، وعلى ذلك ففكرة اتخاذ الولد بالنسبة لله تعالى لا تصح على أي لون من ألوانها.
ولذلك يقول الحق سبحانه مرادفا لتلك الفكرة :﴿ سبحانه( ٦ ) ﴾ لأنها تقطع كل احتمالات ما سبقها، ويتبع ذلك بقوله :﴿ هو الغني ﴾ لأنه غنى عن اتخاذ الولد، وغنى عن كل شيء، وقوله :﴿ سبحانه ﴾ تنزيه له، والتنزيه : ارتفاع بالمنزَّه عن مشاركة شيء له-في الذات أو الأفعال.
وإذا ورد شيء هو لله وصف ولخلقه وصف، فإياك أن تأخذ هذه الصفة مثل تلك الصفة.
فإن قابلت غنيا من البشر، فالغني في البشر عرض، أما غنى الله تعالى ففي ذاته سبحانه.
وأنت حي( ٧ ) والله سبحانه حي، ولكن أحياتك كحياته ؟ لا ؛ لأن حياته سبحانه لم يسبقها عدم، وحياتك سبقها عدم، وحياته سبحانه لا يلحقها عدم، وأنت يلحق حياتك العدم.
والله موجود وأنت موجود، لكن وجوده سبحانه وجود ذاتيُّ، ووجودك وجود عرضيُّ.
وإذا قال الحق سبحانه : إن له- سبحانه وتعالى-يدا ﴿ يد الله فوق أيديهم.. ( ١٠ ) ﴾[ الفتح ] : فلا يمكن أن تكون يد الله سبحانه مثل يدك ؛ لأن ذاته سبحانه ليست كذاتك، وصفاته سبحانه ليست كصفاتك، وهو سبحانه القادر الأعلى، ولا يمكن أن يكون مقدورا لأحد.
ولذلك حين يتجلى الله سبحانه لخلقه، فسوف يتجلى بالصورة التي تختلف عن كل خيال العبد، وهذه الصورة تختلف من عبد إلى آخر، ولو كانت الصورة التي يتجلى بها الله سبحانه مقدورا عليها لكان معنى ذلك أن هناك ذهنا بشريا قد قدر على الإحاطة بها. وما خطر ببالك فالله سبحانه بخلاف ذلك ؛ لأن ما خطر بالبال مقدور عليه لأنه خاطر، والله سبحانه لا ينقلب أبدا إلى مقدور عليه.
وأنت حين تأتي بمسالة في الحساب أو الهندسة-مثلا-وتعطيها لتلميذ ويقوم بحلها، فمعنى ذلك أن عقله قد قدر عليها، أما إن جئت لتلميذ في المرحلة الإعدادية-مثلا-بمسألة هندسية مقررة على طلبة كلية الهندسة ؛ فعقله لن يقدر عليها.
إذن : لو أن الإنسان قد أذرك شيئا عن الله غير ما قاله الله لانقلب الإله إلى مقدور عليه، والحق سبحانه منزَّه عن ذلك ؛ لأنه القادر الأعلى الذي لا ينقلب أبدا إلى مقدور.
لذلك يعلمنا الحق سبحانه أن نقول تنزيها لله تعالى كلمة ﴿ سبحانه ﴾، وهو التنزيه الواجب عن كل شيء يخطر ببال الإنسان عن الله تعالى، وهذه السبحانية أو هذا التنزيه هو صفة ذاتية في الله تعالى، قبل أن يوجد شيء، وبعد أن خلق الخلق، فعلى كل المخلوقات تنزيهه، وبدأ الخلق في التسبيح.
والتسبيح فعل مستمر لا ينقطع ولا ينقضي ؛ لذلك تجد استدلالات القرآن في السور التنزيهية( ٨ ) تؤكد ذلك، فيقول الحق سبحانه :﴿ سبحان الذي أسى بعبده ليلا من المسجد الحرام على المسجد الأقصى الذي باركنا حوله.. ( ١ ) ﴾[ الإسراء ].
وإياك أن تظن أن محمدا صلى الله عليه وسلم قد سرى بقرار من نفسه، بل الذي أسرى به هو الحق سبحانه، فلا تظن أن المسافة يمكن أن تمنع مشيئة الحق المطلقة، ولا المكان، ولا الزمن ؛ لأن الفعل منسوب لله تعالى، ولا يمكن أن نقيس فعلا منسوبا لله تعالى بقياس الزمان والمكان، أو حسب قانون الحركة النسبية ؛ لأن الحق سبحانه له طلاقة القدرة، وأنت بشر مجرد حادث محدود الزمان والمكان.
وأنت إذا سرت من هنا إلى الإسكندرية-مثلا- على قدميك فستقطع المسافة في أسابيع، وإن امتطيت دابة فقد تأخذ في الوصول إلى الإسكندرية أياما، وإن ركبت سيارة فسوف تقطع المسافة في ساعتين، وإن ركبت صاروخا، فستصل خلال دقائق. أي : أنك كلما زادت قوة أداة الوصول قلَّ زمن الوصول، وهذا موجز نظرية الحركة، وإذا كان الذي أسرى هو الله سبحانه، وهو قوة القوى ؛ لذلك لا يمكن أن يقاس بالنسبة لمشيئة قوة أخرى، أو أن يقاس الأمر ببعد أو قرب المكان أو كيفية الزمان الذي تعرفه.
وإياك أن تفهم أن إسراء الله تعالى مثل إسرائك ؛ لأن الفعل إنما يأخذ قوته من الفاعل، وما دام الفاعل هو الله سبحانه فلا أحد بقادر أن يحدَّ أفعاله بزمن.
وقد استهل الحق سبحانه سورة الإسراء بالسبحانية وآياتها الأولى تتكلم في أدق شيء تكلم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذاته بأنه قد أسرى به، وبذلك أثبت بحادث الإسراء حقيقة المعراج، وأن الناموس( ٩ ) قد خرق له، وحدَّثنا عما نعلم لنصدّق حديثه عما لا نعلم، وحتى نقيس ما لا نعلم على ما نعلم، فيتأكد لنا صدقه صلى الله عليه وسلم في حديثه عما لا نعلم.
كلمة " سبحانه " -إذن- هي للتنزيه، وهي لله تعالى أزلا قبل أن يخلق الخلق، فقد شهد سبحانه لذاته أنه إله واحد، ثم شهدت الملائكة، ويتكرر التسبيح من كل المخلوقات التي أوجدها الله سبحانه.
وأنت تجد سور القرآن الكريم التي جاء فيها التسبيح مؤكدة أنه سبحانه منزَّه، وله التسبيح من قبل أن يخلق الخلق، ثم خلق الخلق ؛ ليسبّحوا، ففي سورة الحديد يقول سبحانه :﴿ سبح لله ما في السماوات والأرض.. ( ١ ) ﴾[ الحديد ]، ويقول سبحانه في سورة الحشر :﴿ سبح لله ما في السماوات وما في الأرض.. ( ١ ) ﴾[ الحشر ] : فهل سبَّح كل من في السماوات ومن في الأرض مرة واحدة وانتهى الأمر ؟ لا ؛ لأن الله سبحانه يقول :﴿ يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض الملك القدوس.. ( ١ ) ﴾[ الجمعة ]،
ويقول سبحانه في سورة التغابن :﴿ يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير( ١ ) ﴾[ التغابن ] : إذن : فالسبحانية لله أزلا، وسبَّح ويسبّح الخلق وكل الوجود بعد أن خلقه الله سبحانه، سموات وأرض وما فيهما، وما بقي إلا أنت أيها الإنسان فسبّح باسم ربك الأعلى.
وفي الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الحق سبحانه :﴿ قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه.. ( ٦٨ ) ﴾[ يونس ] : وعلة التسبيح والتنزيه عن أن يكون له ولد يأتي في قوله تعالى :﴿ هو الغني ﴾ ؛ لأن اتخاذ الولد إنما يكون عن حاجة، إما استعانة، وإما اعتمادا، وإما اعتدادا، وإما امتدادا، وكل هذه أمور باطلة بالنسبة له سبحانه، وهو الحق الأعلى، وهو سبحانه القائل في آية أخرى :﴿ وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون( ١١٦ ) ﴾[ البقرة ] : والقنوت( ١٠ ) معناه : الإقرار بالعبودية لله تعالى والخضوع له وإطاعته.
ويقول سبحانه في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها :﴿ إن عندكم من سلطان بهذا أتقولون على الله ما لا تعلمون( ٦٨ ) ﴾[ يونس ] : و " إن " قد تأتي للنفي في مثل قول الحق سبحانه :﴿ إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم.. ( ٢ ) ﴾[ المجادلة ] وفي قول الحق سبحانه هنا :﴿ إن عندكم من سلطان بهذا.. ( ٦٨ ) ﴾[ يونس ] : أي : ليس عندكم حجَّة تدل على أن الله تعالى اتخذ ولدا.
ولذلك ينهي الحق سبحانه الآية بقوله :﴿ أتقولون على الله ما لا تعلمون( ٦٨ ) ﴾[ يونس ] : أي : أنكم لا تملكون إعلاما من الله تعالى بذلك، فلا إعلام عن الله إلا من الله، وليس لأحد أن يعلم عن ربه، فهو سبحانه من يعلم عن نفسه.
١ يقول رب العزة سبحانه وتعالى:﴿وقالت اليهود عزيز ابن الله..(٣٠)﴾[التوبة]..
٢ يقول الله عز وجل:﴿وقالت النصارى المسيح ابن الله..(٣٠)﴾[التوبة]..
٣ يقول الله تعالى:﴿ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون(٣٠)﴾[التوبة]..
٤ وذلك مصداق لقوله تعالى:﴿ليس كمثله شيء وهو السميع البصير(١١)﴾[الشورى]، فهو سبحانه لا مثل له في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله..
٥ ضاز في الحكم: أي: جار. وقسمة ضيزى وضوزى أي: جائرة ليس فيها حق ولا عدل.[لسان العرب: مادة (ض ى ز)-بتصرف]..
٦ سبح يسبح من باب فتح: سبحا، وسباحة: عام ومرَّ في الماء. ومن المجاز سبح الجواد، أي جرى كأنه يسبح في الماء، ومن المجاز سبحت النجوم، أي: سارت في أفلاكها. قال تعالى:﴿.. كل في فلك يسبحون(٣٣)﴾[الأنبياء] وعوملت معاملة العقلاء لانتظامها في سيرها. وسبّْح اسم ربك: نزّه اسمه عن كل نقص وصفه بكل كمال أو قل: سبحان الله ومعناها أنزه الله تنزيها عن النقص وأصفه بالكمال، وهو منصوب على المصدرية، ومصدر نائب عن فعله.[القاموس القويم-بتصرف].
٧ حي يحيا، كرضي يرضى وحي بالإدغام يحيا حياة وحيوانا ضد مات فهو حي، وهو خاص بكل ذي روح، ويطلق مجازا على الأرض. قال تعالى:﴿فأحيينا به الأرض بعد موتها..(٩)﴾[فاطر] ويستعار أيضا لمعنى الصلاح والإيمان، قال تعالى:﴿أو من كان ميتا فأحييناه..(١٢٢)﴾[الأنعام] والحي من أسماء الله الحسنى، قال تعالى:﴿الله لا إله إلا هو الحي..(٢٥٥)﴾[البقرة] والحياة الدنيا تقابلها الحياة الآخرة، قال تعالى:﴿.. وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور(١٨٥)﴾[آل عمران] والمحيا: مصدر ميمي بمعنى الحياة، قال تعالى:﴿قل عن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين(١٦٢)﴾[الأنعام] أي: حياتي وموتي..
٨ فتجد التسبيح في الماضي:﴿سبح لله ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم(١)﴾[الحديد] وفي المضارع:﴿يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير(١)﴾[التغابن] وفي الأمر:﴿سبح اسم ربك الأعلى(١)﴾[الأعلى] وفي المصدر سبحانه، وبهذا نلاحظ أن الماضي يسبحه، والمستقبل يسبحه والحال يذكره، والكون مع الزمن في تسبيح مستمر:﴿.. وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا(٤٤)﴾[الإسراء]..
٩ نواميس الكون: الأسرار التي أودعها الله-سبحانه وتعالى- في الكون، من قوانين تنظم حركة أجزائه ومكوناته..
١٠ قنت يقنت كنصر-ذل وخضع ليده، وقنت المؤمن بالله: أطاعه وأقر له العبودية، وقنت في صلاته خشع واطمأن، وقنت دعا وأطال الدعاء، والقنوت الطاعة والدعاء. قال تعالى:﴿ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين..(٣١)﴾[الأحزاب] وقوله:﴿وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون(١١٦)﴾[البقرة] أي: خاضعون معترفون بألوهية مطيعون-[القاموس القويم-بتصرف]..
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون( ٦٩ ) ﴾ :
والحق سبحانه وتعالى حينما يتكلم عن الإيمان وثمرته ونهايته يأتي بالفلاح كنتيجة لذلك الإيمان، فهو سبحانه القائل :﴿ قد أفلح من زكاها( ١ )( ٩ ) ﴾[ الشمس ]، وهو سبحانه القائل :﴿ قد أفلح المؤمنون( ١ ) ﴾[ المؤمنون ]، ويقول أيضا :﴿ أولئك هم المفلحون( ٢٥٧ ) ﴾[ الأعراف ] : وكلها من مادة " الفلاح " وهي مأخوذة من الأمر الحسي المتصل بحياة الكائن الحي، فمقومات وجود الكائن الحي : نفس، وماء، وطعام، والتنفس يأتي من الهواء الذي يحيط بالأرض، والماء ينزل من السماء أو يستنبط مما تسرب في باطن الأرض. والطعام يأتي من الأرض، وكل ما أصله من الأرض يستخرج بالفلاحة.
لذلك نقول : إن الفلاحة هي السبب الاستبقائي للحياة، فكما يفلح الإنسان الأرض، ويشقها ويبذر فيها البذور، ثم يرويها، ثم تنضج وتخرج الثمرة، ويقال : أفلح، أي : أنتجت زراعته نتاجا طيبا. وشاء الحق سبحانه أن يسمي الحصيلة الإيمانية الطيبة بالفلاح.
وبيَّن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الدنيا مزروعة الآخرة، فإن كنت تريد ثمرة فابذل الجهد.
وإياك والظن أن الدين حينما يأخذ منك شيئا في الدنيا أنه ينقص ما عندك، لا، بل هو ينمّي لك ما عندك( ٢ ).
والمثل الذي أضربه دائما-ولله المثل الأعلى-نجد الفلاح حين يزرع فدانا بالقمح، فهو يأخذ من مخزنه إردبا ؛ ليستخدمه كبذور في الأرض، ولو كانت امرأته حمقاء لا تعرف أصول الزراعة ستقول له :" أنت أخذت من القمح، وكيف تترك عيالك وأنت تنقصهم من قوتهم ؟ "
هذه المرأة لا تعلم أنه أخذ إردبَّ القمح المخزَّن ؛ ليعود به بعد الحصاد عشرة أو خمسة عشر إردبًّا من القمح.
كذلك مطلوب الله سبحانه في الدنيا قد يبدو وكأنه ينقصك أشياء، لكنه يعطيك ثمار الآخرة ويزيدها.
إذن : فالفلاح مادة مأخوذة من فلح الأرض وشقها وزرعها لتأخذ الثمرة.
وكما أنك تأخذ حظك من الثمار على قدر حظك من التعب ومن العمل، فذلك أمر الآخرة وأمر الدنيا.
ومثال ذلك : الفلاح الذي يحرث الأرض، ويحمل للأرض السماد على المطية( ٣ )، ثم يستيقظ مبكرا في مواعيد الري، تجد هذا الفلاح في حالة من الانشراح والفرح في يوم الحصاد، وأمره يختلف عمن يهمل الأرض ويقضي الوقت على المقهى، ويسهر الليل أمام التليفزيون، ويأتي يوم الحصاد ليحزن على محصوله الذي لم يحسن زراعته.
وقول الحق سبحانه :﴿ إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون( ٤ )( ٦٩ ) ﴾[ يونس ] :
أي : هؤلاء الذي يقولون عن الله تعالى أو في الله تعالى بغير علم من الله، هم الذين لا يفلحون.
وأوضحت من قبل أن كل ما يتعلق بالله تعالى لا يعلم عنه إلا عن طريق الله. لكن ما الذي يحملهم على الافتراء ؟
نعم، إن كل حركة في الحياة لابد أن يكون الدافع إليها نفعا، وتختلف النظرة على النفع وما يترتب عليه، فالطالب الكسول المتسكع في الشوارع، الرافض للتعلم، نجده راسبا غير موفق في مستقبله، أما التلميذ الحريص على علومه، فهو من يحصل على المكانة اللائقة به في المجتمع، والتلميذ الأول كان محدود الأفق ولم ير امتداد النفع وضخامته، بل قصر النفع على لذة عاجلة مضحيا بخير آجل. والذي جعل هؤلاء يفترون على الله الكذب هو انهيار الذات، فكل ذات لها وجود ولها مكانة، فإذا ما انهارت المكانة، أحس الإنسان أنه بلا قيمة في مجتمعه.
والمثل الذي ضربته من قبل بحلاَّق الصحة في القرية، وكان يعالج الجميع، ثم تخرَّج أحد شباب القرية في كلية الطب وافتتح بها عيادة، فإن كان حلاق الصحة عاقلا، فهو يذهب إلى الطبيب ليعمل في عيادته ممرضا، أو ( تمرجيا )، أما إن أخذته العزة بالإثم، فهو يعاند ويكابر، ولكنه لن يقدر على دفع علم الطبيب.
وكذلك عصابة الكفر ورؤساء الضلال حينما يفاجأون بمقدم رسول من الله، فهم يظنون أنه سوف يأخذ السيادة( ٥ ) لنفسه، رغم أن أي رسول من رسل الله تعالى-عليه السلام-إنما يعطي السيادة لصاحبها، ألا وهو الحق الأعلى سبحانه.
وحين يأخذ منهم السيادة التي كانت تضمن لهم المكانة والوجاهة والشأن والعظمة، فهم يصابون بالانهيار العصبي، ويحاولون مقاومة الرسول دفاعا عن السلطة الزمنية.
ومثال ذلك : هو مقدم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وكان البعض يعمل على تنصيب عبد الله بن أبَّى ليكون ملكا( ٦ ) ؛ ولذلك قاوم الرجل الإسلام، وحين لم يستطع آمن نفاقا، وظل على عدائه للإسلام، رغم أنه لو أحسن الإسلام واقترب من رسول الله صلى الله عليه وسلم لنال أضعاف ما كان سيأخذه لو صار ملكا.
وهكذا قادة الضلال وأئمة الكفر، هم مشفقون على أنفسهم وخائفون على السلطة الزمنية ؛ لأن الرسول حينما يجيء إنما يسوّي بين الناس ؛ لذلك يقفون ضد الدعوة حفاظا على السلطة الزمنية. ولذلك يقول الحق سبحانه عن سبب افترائهم الكذب :
﴿ متاع( ٧ ) في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون( ٧٠ ) ﴾ :
١ زكاها: طهرها وبرأها من أقدار البدن والنفس..
٢ يقول الحق سبحانه:﴿ما عندكم ينفد وما عند الله باق..(٩٦)﴾[النحل] وقوله:﴿وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم..(٦٠)﴾[الأنفال] وقوله:﴿من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها..(١٦٠)﴾[الأنعام] وقوله:﴿إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم ويغفر لكم..(١٧)﴾[التغابن].
٣ الدابة، وهي الناقة التي يركب مطاها أي: ظهرها. وجمعها: مطايا.[لسان العرب: مادة (م ط ى)]..
٤ يفترون الكذب: يكذبون، أو يقولون بغير علم. لا يفلحون: لا يفوزون ولا ينتصرون. قال تعالى:﴿وقد خاب من افترى(٦١)﴾[طه]..
٥ وهذا مخالف لمنطق الرسول صلى الله عليه وسلم ومفهوم الدعوة، حيث عرض عليه الكفار المال والملك والسلطان والجاه، فاختار رب الكل، وقال قولته التي سجلها الزمن وحفظتها العقول الواعية:"والله ولو وضعوا الشمس في يميني والقمر في ساري على أن اترك هذا الأمر حتى يظهره الله، أو أهلك فيه ما تركته" أورده ابن هشام في السيرة النبوية(١/٢٦٦)..
٦ أورد ابن إسحاق في السيرة أن قوم عبد الله بن أبىَّ كانوا"قد نظموا له الخرز ليتوجوه ثم يملّكوه عليهم، فجاءهم الله برسوله وهم على ذلك، فلما انصرف قومه عنه إلى الإسلام ضغن ورأى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استلّبه ملكا، فلما رأى قومه قد أبوا إلا الإسلام دخل فيه كارها مضرا على نفاق وضغن" سيرة ابن هشام (٢/٢١٦)..
٧ المتاع: التمتع، وهو كل ما ينتفع به ويرغب في اقتنائه، كالطعام، وأثاث البيت، والسلعة، والأداة، والمال [المعجم الوسيط] والمراد أن الله سبحانه وتعالى يترك الكفار يتمتعون بمتاع الدنيا الزائل-لأن الدنيا كلها لا تساوي عند الله سبحانه جناح بعوضة-ولكنه سيعاقبهم على كفرهم بالعذاب الشديد في الآخرة ويحرمهم من نعيم الجنة. ويقصد بالمتاع أيضا الزوجة الصالحة مصدقا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "الدنيا متاع، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة".
أخرجه مسلم في صحيحه كتاب الرضاع-باب خير متاع الدنيا المرأة الصالحة، حديث (٥٩) عن عبد الله بن عمرو، وعند أبي نعيم في حلية الأولياء (٣/٣١٠) زيادة "إن نظر إليها سرته، وإن أمرها أطاعته"..

ويعز-إذن-على قادة الكفر وأئمة الضلال أن يسلبهم الرياسة والسيادة داع جديد إلى الله سبحانه وتعالى، ويخافون أن يأخذ الداعي الجديد لله الأمر منهم جميعا، لا إلى ذاته، ولكن إلى مراد به.
ولو كان الداعي إلى الله تعالى يأخذ السلطة الزمنية لذاته ؛ لقلنا : ذات أمام ذات، ولكنه صلى الله عليه وسلم أوضح أنه يعود-حتى فيما يخصه-إلى الله سبحانه وتعالى.
ويكشف لنا الحق سبحانه الكسب القليل الذي يدافعون عنه أنه :﴿ متاع في الدنيا.. ( ٧٠ ) ﴾ ؛ لأن كُلا منهم يحب أن يقنع نفسه، بحمق تقدير المنفعة، وكلمة " الدنيا " لا بد أن منها حقيقة الشيء المنسوبة إليه.
والأسماء-كما نعلم- هي سمات مسميات، فحين تقول : إن فلانا طويل، فأنت تعطيه سمة الطول.
وحين تقول :" دنيا " فهي " الدّنوّ " أو " الدناءة ". وإن اعتبرت الدنو هو طريق موصل على القمة، فهذا أمر مقبول ؛ لأن الدرجة الأولى في الوصول إلى الأعلى هي الدنو، وتلتزم بمنهج الله تعالى فتصد علوَّا وارتفاعا إلى الآخرة.
إذن : فمن يصف الدنيا بالدناءة على إطلاقها نقول له : لا، بل هي دنيا بشرط أن تأخذها طريقا إلى الأعلى، ولكن من لا يتخذها كذلك فهو من يجعل مكانته هي الدنيئة، أما من يتخذها طريقا إلى العلو فهو الذي أفلح باتّباع منهج الله تعالى.
إذن : فالدنيا ليست من الدناءة ؛ لأن الدين ليس موضوعه الآخرة، بل موضوعه هو الدنيا، ومنهج الدين يلزمك ب " افعل " و " لا تفعل " في الدنيا، والآخرة هي دار الجزاء، والجزاء على الشيء ليس عين موضوعه، وأنت تستطيع أن تجعل الدنيا مفيدة لك إن جعلتها مزرعة للآخرة.
وإياك أن تعمل على أساس أن الدنيا( ١ ) عمرها ملايين السنين ؛ لأنه لا يعنيك كعائش في الدنيا إن طال عمرها أم قصر، بل يعينك في الدنيا مقدار مكثك فيها، وعمرك فيها مظنون، بل وزمن الدنيا كله مظنون، وهناك من يموت وعمره ستة أشهر، وهناك من يموت وعمره مائة سنة، وكل يتمتع بقدر ما يعيش، ثم يرجع إلى الله سبحانه وتعالى.
وهؤلاء الذين ضلّوا وقالوا على الله سبحانه افتراء، هؤلاء لن يفلتوا من الله ؛ لأن مرجعهم إليه سبحانه ككل خلقه، وهؤلاء المضلّون لم يلتفتوا إلى عاقبة الأمر، ولا إلى من بيده عاقبة الأمر، ولم يرتدعوا.
ولكن من نظر إلى عاقبة الأمر وأحسن في الدنيا فمرجعه إلى حسن الثواب والجنة، ومن لم ينظر إلى عاقبة الأمر وافترى على الله-سبحانه وتعالى-الكذب فالمآب والمآل( ٢ ) إلى العذاب مصدقا لقوله تعالى :﴿ ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون( ٧٠ ) ﴾[ يونس ] : ودرجة العذاب تختلف باختلاف المعذب، فإن كان المعذب ضعيفا، فتعذيبه يكون ضعيفا، وإن كان المعذب متوسط القوة ؛ فتعذيبه يكون متوسطا، أما إن كان المعذّب هو قوة القوى فلا بد أن يكون عذابه شديدا، وهو سبحانه الحق القائل :﴿ إن أخذه أليم شديد( ٣ ) ( ١٠٢ ) ﴾[ هود ] : وبعد أن تكلم الحق سبحانه عن مبدأ تنزيه الألوهية عن اتخاذ الولد، فهو سبحانه الغني الذي له ما في السماوات والأرض، وبيَّن لنا سبحانه أننا يجب أن نأخذ المنهج من مصدر واحد وهو الرسل المبلّغون عن الله تعالى، شاء الحق سبحانه أن يكلمنا عن موكب الرسالات ؛ لأن الكلام حين يكون كلاما نظريا ليس له واقع يسنده، فقد تنسحب النظرية عليه.
أما إن كان للكلام واقع في الكون يؤيد الكلام النظري، فهذا دليل على صحة الكلام النظري ؛ ولذلك فنحن حين نحب أن نضخّم مسألة من المسائل في داء اجتماعي، نحاول أن نصنع منه رواية، أي : أمر لم يحدث حقيقة، ولكننا نتخيل أنه حقيقة ؛ لنبيَّن الأمر النظري في واقع متخيّل.
ويقص علينا الحق سبحانه في القرآن قصصا من الموكب الرسالي ؛ ليبيَّن للكفار : أنكم لن تستطيعوا الوقوف أمام هذه الدعوة، وأمامكم سجل التاريخ، وأحداث الرسل مع أممهم ؛ المؤيدين بالمؤمنين ؛ والكفار المعاندين والمعارضين، فإن كان قوم من السابقين قد انتصروا على رسولهم، فللكفار الحق في أن يكون لهم أمل في الانتصار على رسول الله صلى الله عليه وسلم( ٤ ).
ولا بد أن يكون هذا الكلام موجها على أناس لهم علم ببعض أحداث الموكب الرسالي. ولكن قد يكون علم هذا قد بهت ؛ فلأن الزمان قد طال عليه.
١ وقد وصف لنا رب العزة سبحانه الدنيا فقال:﴿قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى..(٧٧)﴾[النساء] وقال تعالى:﴿إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون(٢٤)﴾[يونس].
٢ المآب والمآل: المرجع والمصير..
٣ أليم: صيغة مبالغة من الأم، وشديد: صيغة مبالغة من الشدة، أي: شديد الألم..
٤ وقد جاءت آيات كثيرة في القرآن الكريم تحث الكافرين وغيرهم على النظر في عاقبة المكذبين والمجرمين، نحو قوله تعالى:﴿قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين(١١)﴾[الأنعام]. وقوله تعالى:﴿قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين(٦٩)﴾]النمل]..
وهنا يقول الحق سبحانه :﴿ واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون( ١ ) ( ٧١ ) ﴾ :
ولقائل أن يقول : ولماذا جاء الله سبحانه هنا بخبر نوح-عليه السلام-ولم يأت بخبر آدم-عليه السلام-أو إدريس-عليه السلام- وهما من الرسل السابقين على نوح عليه السلام ؟
ومن هنا جاءت الشبهة في أن آدم لم يكن رسولا ؛ لأن البعض قد ظن أن الرسول يجب أن يحمل رسالته إلى جماعة موجودة من البشر، ولم يفطن هؤلاء البعض إلى أن الرسول إنما يرسل لنفسه أولا.
وإذا كان آدم-عليه السلام-أول الخلق فهو مرسل لنفسه، ثم يبلغ من سوف يأتي بعده من أبنائه.
وقد أعطى الله سبحانه وتعالى التجربة لآدم-عليه السلام-في الجنة، فكان هناك أمر، وكان هناك نهي هو﴿ وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة.. ( ٣٥ ) ﴾[ البقرة ].
وحذره من الشيطان( ٢ )، ثم وقع آدم عليه السلام في إغواء الشيطان، وأنزله الله تعالى إلى الأرض واجتباه( ٣ )، وتاب عليه، ومعه تجربته، فإن خالف أمر ربه فسوف يقع عليه العقاب، وحذره من إتباع الشيطان حتى لا يخرج عن طاعة الله تعالى.
إذن : فقد أعطاه الحق سبحانه المنهج، وأمره أن يباشر مهمته في الأرض ؛ في نفسه أولا، ثم يبلغه لمن بعده.
وكما علمه الحق سبحانه الأسماء كلها، علم آدم الأسماء لأبنائه فتكلموا : وكما نقل إليهم آدم الأسماء نقل لهم المنهج، وقد علمه الحق سبحانه الأسماء ؛ ليعمر الدنيا، وعلمه المنهج ؛ ليحسن العمل في الدنيا ؛ ليصل إلى حسن جزاء الآخرة.
واقرأ قول الحق سبحانه وتعالى :﴿ وعصى آدم ربه فغوى( ١٢١ ) ﴾[ طه ]، ويتبعها الحق سبحانه بقوله تعالى :﴿ ثم اجتباه.. ( ١٢٢ ) ﴾[ طه ] : ومعنى الاجتباء : هو الاصطفاء بالرسالة لنفسه أولا، ثم لمن بعده بعد ذلك، والحق سبحانه هو القائل :﴿ فإما يأتينكم مني هدى.. ( ٣٨ ) ﴾[ البقرة ] : والهدى : هو المنهج المنزَّل على آدم عليه السلام، والرسالة ليست إلا بلاغ منهج وهدى من الله سبحانه للخلق.
وإذا كان الحق سبحانه وتعالى هو القائل :﴿ وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا( ١٥ ) ﴾[ الإسراء. ]
فالسابقون لنوح-عليه السلام-هم من أبلغهم آدم عليه السلام، والدليل هو ما جاء من خبر ابني آدم في قول الحق سبحانه :﴿ واتل عليهم نبأ آدم بالحق إذ قربا قربانا( ٤ ).. ( ٢٧ ) ﴾[ المائدة ] : وهما قد قدما القربان إلى الله تعالى.
إذن : فخبر الألوهية موجود عند ابني آدم بدليل قول الحق سبحانه :﴿ إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين( ٢٧ ) ﴾[ المائدة ] : إذن : فهم قد أقروا بوجود الله تعالى، وأيضا عرفوا النهي ؛ لأنه في إحدى الآيتين قال :﴿ لئن بسطت( ٥ )إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين( ٢٨ ) ﴾[ المائدة ] : إذن : فالذين جاءوا بعد آدم-عليه السلام-عرفوا الإله الواحد، وعلموا المنهج. إذن : فالذين يقولون : إن آدم-عليه السلام- لم يكن رسولا، نقول لهم : افهموا عن الله جيدا، كان يجب أن تقولوا : هذه مسألة لا نفهم فيها، وكان عليهم أن يسألوا أهل الذّكر ليفهموا عنهم أن آدم-عليه السلام- رسول، وأن من أولاده قابيل وهابيل، وقد تكلما في التقوى.
أما لماذا جاء الحق سبحانه هنا بالحديث عن نوح، عليه السلام، فلنا أن نعلم أن آدم عليه السلام هو الإنسان الأول، وأنه قد نقل لأولاده المنهج المبلغ له، ودلهم على ما ينفعهم، ثم طال الزمن ونشأت الغفلة، فجاء إدريس عليه السلام، ثم تبعته الغفلة، إلى أن جاء نوح عليه السلام.
وهنا يأتي لنا الحق سبحانه بخبر نوح-عليه السلام- في قوله :﴿ واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه.. ( ٧١ ) ﴾[ يونس ] : والنبأ : هو الخبر الهام الذي يلفت الذهن، وهو الأمر الظاهر الواضح.
والحق سبحانه يقول :﴿ عم يتساءلون( ١ ) عن النبأ العظيم( ٢ ) الذي هم فيه مختلفون( ٣ ) ﴾[ النبأ ] : إذن : فالنبأ هو الخبر الهام الملفت، وقد جاء هنا خبر نوح-عليه السلام- الذي يبلغ قومه أي : يخاطبهم، وهو قد شهد لنفسه أنه رسول يبلّغ منهجا.
وكلمة ﴿ قوم ﴾ لا تطلق في اللغة إلا على الرجال( ٦ )، يوضح القرآن ذلك في قول الحق سبحانه :﴿ لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهم.. ( ١١ ) ﴾[ الحجرات ]
إذن : فالقوم هو الرجال، والمرأة إنما يبنى أمرها على السر، والحركة في الدنيا للرجل، وقد شرحنا ذلك في حديث الحق سبحانه لآدم-عليه السلام-عن إبليس، فقال تعالى :﴿ إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى( ١١٧ ) ﴾[ طه ].
ولأن الخطاب لآدم فقد قال الحق سبحانه :﴿ فتشقى( ١١٧ ) ﴾[ طه ] : ولم يقل : فتشقيا ؛ مما يدل على أن المرأة لا شأن لها بالأعمال التي خارج البيت والتي تتطلب مشقة، فالمرأة تقرُّ( ٧ ) في البيت ؛ لتحتضن الأبناء، وتهيّئ السكن للرجل بما فيها من حنان وعاطفة وقرار واستقرار.
أما القيام والحركة فللرجل.
والحق سبحانه يقول :﴿ فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى( ١١٧ ) ﴾[ طه ] : إذن : فالكدح للرجل ومتطلبه القيام لا القعود.
ثم يقول الحق سبحانه على لسان نوح-عليه السلام :﴿ يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي.. ( ٧١ ) ﴾[ يونس ] : وهنا يحنن نوح قومه بإضافات التحنن، أي : جاء بالإضافة التي تشعر المخاطبين بأنه منهم وهم منه، وأنه لا يمكن أن يغشهم فهم أهله، مثل قول النائب الذي يخطب في أهل دائرته الانتخابية :" أهلي وعشيرتي وناخبي " وكلها اسمها إضافة تحنن.
وكذلك مثل قول لقمان لابنه :﴿ يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم( ١٣ ) ﴾[ لقمان ]، وقوله :﴿ يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل( ٨ ) فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير( ١٦ ) ﴾[ لقمان ]، وقوله : يا بني أقم الصلاة.. ( ١٧ ) }[ لقمان ] : وهذه إضافات التحنن وفيها إيناس للسامع أن يقرب ويستجيب للحق.
﴿ يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي.. ( ٧١ ) ﴾[ يونس ] : و " الكاف والياء والراء " تأتي لمعنيين : الأول : كبر السن، وهي : كبر يكبر.
والثاني : العظمة والتعظيم، إلا أن التعظيم يأتي ليبيّن أنه أمر صعب على النفس، مثل قول الحق سبحانه :﴿ .. كبرت( ٩ ) كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا( ٥ ) ﴾[ الكهف ] : أي : أن هذه الكلمة التي خرجت من أقوالهم أمر صعب وشاق، وهي قولهم :﴿ قالوا اتخذ الله ولدا( ٤ ) ﴾[ الكهف ] : وهذه الكلمة إنما تعظم على المؤمن، وهي مسألة صعبة لا يمكن قبولها فلا يوجد مؤمن قادر على أن يقبل ادعاء خلق من خلق الله تعالى أن له سبحانه ولدا.
ومرة تكون العظمة من جهة أخرى، مثل قول الحق سبحانه :﴿ كبر على المشركين ما تدعوهم إليه.. ( ١٣ ) ﴾[ الشورى ] : أي : عظم على المشركين، وصعب على أنفسهم، وشقّ عليهم ما تدعوهم إليه من أن الإله هو واحد أحد، ولا سلطان إلا له سبحانه.
وهكذا، إن كانت الكلمة مناقضة للإيمان فهي تكبر عند المؤمنين، وإن كانت الكلمة تدعو الكافرين إلى الإيمان فهي تشق عليهم.
وهنا يأتي على لسان سيدنا نوح عليه السلام :﴿ إن كان كبر عليكم مقامي( ١٠ ).. ( ٧١ ) ﴾[ يونس ].
ونحن نعلم أن سيدنا نوحا-عليه السلام- مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما.
أي : أن حياته طالت كثيرا بين قومه، كما أن تقريعه للكافرين جعله ثقيلا عليهم.
أو أن :﴿ كبر عليكم مقامي.. ( ٧١ ) ﴾[ يونس ].
ونحن نعلم أن سيدنا -نوح عليه السلام – مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما. أي : أن حياته طالت كثيرا بين قومه، كما أن تقريعه للكافرين جعله ثقيلا عليهم.
أو أن :﴿ كبر عليكم مقامي.. ( ٧١ ) ﴾[ يونس ]. تعني : أنه حمَّلهم ما لا يطيقون ؛ لأن نوحا-عليه السلام-أراد أن يخرجهم عما ألفوا من عبادة الأصنام، فشقّ عليهم ذلك.
إذن : فمبدأ عبادة الإله الواحد يصعب عليهم. أو أن الأصل في الواعظ أو المبلّغ أن يكون على مستوى القيام وهم قعود، وكان سيدنا عيسى عليه السلام يتكلم مع الحواريين وهو واقف، والوقوف إشعار بأن مجهود الهدى يقع على سيدنا عيسى-عليه السلام- بينما يقعد الحواريون ليستمعوا له في راحة.
إذن : فقول الحق سبحانه :﴿ إن كان كبر عليكم مقامي.. ( ٧١ ) ﴾[ يونس ] كأي : إن صعب عليكم ما أدعوكم إليه.
ويصح أن نأخذها من ناحية طول الوعظ والتكرار في ألف سنة إلا خمسين عاما، أو أن مقامي كبر عليكم، بمعنى : أننا انقسمنا إلى قسمين ؛ لأن المنهج الذي أدعوا إليه لا يعجبكم، وكنت أحب أن نكون قسما واحدا.
وها هو ذا سيدنا عمر بن الخطاب-رضي الله عنه، وأرضاه-حين أحس أن الخلافة تقتضي أن يسمى من يخلفه من بعده، قال له بعض الناس : لماذا لا تولي علينا عبد الله بن عمر، فقال ابن الخطاب : بحسب آل خطاب أن يسأل منهم عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم رجل واحد. ثم أضاف : أعلم أنكم مللتم حكمي ؛ لأني شديد( ١١ ) عليكم.
إذن : فقد أحس نوح-عليه السلام-أنه انقسم هو وقومه إلى قسمين : هو قد أخذ جانب الله سبحانه الذي يدعو إلى عبادته، وهم أخذوا جانب الأصنام التي ألفوا عبادتها.
لذلك يقول الحق سبحانه على لسان نوح-عليه السلام :﴿ فعلى الله توكلت.. ( ٧١ ) ﴾[ يونس ] : أي : أنني لن أتنازل عن دعوتي، ونلحظ أنك إن قلت :" توكلت على الله " فقد يعني هذا أنك قد تقول : وعلى فلان، وفلان، وفلان، لكنك إن قلت :﴿ فعلى الله توكلت.. ( ٧١ ) ﴾[ يونس ] : فأنت قد قصرت توكُّلك على الله فقط.
وهكذا واجه نوح-عليه السلام-قومه، ورصيده في ذلك هو الاعتماد والتوكل على من أرسله سبحانه، ويحاول أن يهديهم، لكنهم لم يستجيبوا، وقال لهم :﴿ فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة.. ( ٧١ ) ﴾[ يونس ] : ومعنى جمع الأمر :( أي : جمع شتات الآراء كلها في رأى واحد )، أي : اتفقوا يا قوم على رأى واحد، وأنتم لن تضروني. وجمع أمر الأجيال التي ظل سيدنا نوح-عليه السلام- يحاول هدايتها تحتاج إلى جهد ؛ لأن الجيل العقلي ينقسم إلى عشرين سنة.
وقد ظل سيدنا نوح-عليه السلام-يدعو القوم بعدد ما عاش فيهم، أي : ألف سنة إلى خمسين، فكم جيل-إذن- ظل نوح يعالجه ؟
إنها أجيال متعددة، ومع ذلك لم يظفر إلا بقدر قليل من المؤمنين( ١٢ ) يحمل سفينة واحدة، ومعهم الحيوانات أيضا، فضلا عن أن ابنه خرج-أيضا- مع القوم الكافرين، وناداه نوح-عليه السلام-ليركب معه وأن يؤمن، فرفض، وآثر أن يظل في جانب الكفر، بما فيه من فناء للقوم الكافرين، وظن أنه قادر على أن يأوي إلى جبل يعصمه من الطوفان، ولم ينظر ابن نوح إلى جندي آخر من جنود الله سبحانه يقف عقبة في سبيل الوصول إلى الجبل، وهو الموج.
إذن : فقول نوح عليه السلام :﴿ فعلى الله توكلت.. ( ٧١ ) ﴾[ يونس ]. له رصيد إيماني ضمني، فلا يوجد مجير على الله من خلق الله ؛ لأن الخلق كله-جماده ونباته وحيوانه-إنما ينصاع لأمر الله تعالى في نصرة نوح-عليه السلام-ولن يتخلف شيء.
هكذا كان توكُّل نوح-عليه السلام-على الله تعالى بما في هذا التوكل من الرصيد الإيماني المتمثل في :﴿ لله ملك السماوات والأرض.. ( ١٢٠ ) ﴾[ المائدة ]، و﴿ لله ما في السماوات وما في الأرض.. ( ٢٨٤ ) ﴾[ البقرة ]. ولن يخرج شيء عن ملكه سبحانه.
١ كبر: عظم وشق عليكم. مقامي: إقامتي بينكم. تذكيري بآيات الله: دعوتي إياكم إلى الإيمان بالله تعالى. فعزمتم على قتالي وطردي، فبالله آمنت، وبه وثقت، وعليه اعتمدت وتوكلت. فأجمعوا أمركم: اعزموا على ما تعزمون عليه وادعوا شركاءكم. غمة: ملتبسا مبهما، أي: كونوا جميعا يدا واحدة ضدي، واقضوا إلي: أي امضوا على ما في أنفسكم وافرغوا منه. ولا تنظرون: لا تؤخرون ولا تمهلون. وشدة إيمان نوح-عليه السلام- بالله تعالى وثقته في نصرته إياه هي التي دعته لأن يتحدى قومه الكافرين هذا التحدي؛ فكان نصر الله له، والغرق والهلاك لأعدائه بالطوفان.[مختصر تفسير الطبري-بتصرف]..
٢ الشيطان: كل عاد متمرد من الإنس والجن، والشيطان من الجن مخلوق حيث خلق من النار، وهو عدو للإنسان يغريه بالشر إلا من حفظه الله بإيمانه يقول الحق:﴿وحفظناها من كل شيطان رجيم(١٧)﴾[الحجر] أي: حفظ السماء من عبث الشياطين وقال تعالى:﴿إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا..(٦)﴾[فاطر] وقال:﴿وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن..(١١٢)﴾[الأنعام] [القاموس القويم-بتصرف]..
٣ اجتباه: اصطفاه واختاره، ومصداقه قوله تعالى عن آدم:﴿ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى (١٢٢)﴾[طه]..
٤ القربان: هو ما يتقرب به العبد إلى الله أو إلى الآلهة المزعومة، وقد كان احد أبناء آدم صاحب غنم، وفقرب أكرم غنمه وأسمنها وأحسنها طيبة بها نفسه، أما الآخر فكان صاحب حرث فقرب أشر حرثه غير طيبة بها نفسه، فتقبل الله قربان صاحب الغنم الذي قدم أفضل ما عنده طيبة بها نفسه. انظر تفسير ابن كثير (٢/٤٢)..
٥ بسطت: مددت..
٦ القوم: جماعة من الرجال ليس معهم نساء، ويستعمل لفظ القوم فيشمل الأمة كلها رجالا ونساء، مثل قوم نوح وقوم إبراهيم. قال ابن منظور في اللسان(مادة قوم):"ربما دخل النساء فيه على سبيل التبع؛ لأن قوم كل نبي رجال ونساء"..
٧ القر في البيت: الاستقرار فيه، وذلك قوله تعالى:﴿وقرن في بيوتكن ولا تبرحن تبرج الجاهلية الأولى(٣٣)﴾]الأحزاب]..
٨ مثقال حبة من خردل: زنة حبة من خردل. والخردل: نبات عشبي ينبت في الحقول وعلى حواشي الطرق، تستعمل بزوره في الطب، ومنه بزور يتبل بها الطعام. الواحدة خردلة. ويضرب به المثل في الصغر، فيقال: ما عندي خردلة من كذا. بالمعجم الوسيط: مادة (خ ر د ل)}..
٩ ﴿كبرت كلمة تخرج من أفواههم..(٥)﴾[الكهف] ا]: أن قول الكفار بأن لله-سبحانه وتعالى عما يقولون-ولدا، قول فيه خطأ كبير؛ لأن الله سبحانه منزه عن الصاحبة والأولاد، وعن الشركاء والأنداد. قال تعالى:﴿إن كل من في السماوات والأرض إلا آتى الرحمن عبدا(٩٣)﴾[مريم]. وقال سبحانه:﴿أتقولون على الله ما لا تعلمون(٦٨)﴾[يونس] من إثبات الولد له، والولد يقتضي المجانسة والمشابهة، والله تعالى لا يجانس شيئا، ولا يشابه شيئا..
١٠ المقام: مصدر ميمي بمعنى القيام واسم مكان القيام الحسي، ويطلق مجازا على المكانة والمنزلة الأدبية، وقوله:﴿واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى..(١٢٥)﴾[البقرة] أي: مكان قيامه المسجد الحرام. وقوله:﴿وكنوز ومقام كريم(٥٨)﴾[الشعراء] ا]: موطن فيه خيرات. وقوله:﴿وما منا غلا له مقام معلوم(١٦٤)﴾[الصافات] أي: منزلة معلومة. وقوله:﴿يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله..(٧١)﴾[يونس] أي: قيامي بالدعوة إلى الله وتذكيركم، ومقام هنا مصدر ميمي.
والمقام (بالضم) مصدر ميمي من أقام الرباعي المزيد بالهمزة بمعنى الإقامة. واسم مكان واسم زمان. وقوله تعالى:﴿وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا(١٣)﴾[الأحزاب] أي: لا إقامة لكم في أمن مع المجاهدين فارجعوا إلى بيوتكم..[القاموس القويم-بتصرف]..

١١ فسيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يردها ملكا وإنما أرادها للرأي والشورى ليضرب المثل للأجيال أن الأمر في حياة الاستقرار للشورى مصدقا لقوله تعالى:﴿وأمرهم شورى بينهم..(٣٨)﴾[الشورى] ولكنه أجاب جوابا ذكيا يحمل ما يريده، وما يراد منه..
١٢ يقول ومصداق ذلك قوله تعالى:﴿قلنا أحمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل(٤٠)﴾]هود] فعن ابن عباس: كانوا ثمانين نفسا منهم نساؤهم، وعن كعب الأحبار: كانوا اثنين وسبعين نفسا، وقيل: كانوا عشرة. وقيل غير ذلك. وأيا كان عددهم فهو قليل جدا بالنسبة لمدة مكث نوح فيهم..
أي : إن توليتم عن دعوتي لعبادة الإله الحق، فأنا لا أدعوكم إلى مثيل لكم هو أنا، بل أدعوكم إلى من هو فوقي وفوقكم، فأنا لا أريد أن أستولي على سلطة الزمنية منكم، ولا أبحث عن جاه، فالجاه كله لله تعالى.
والله لا يحتاج إلى جاه منكم لأن جاهه سبحانه ذاتي فيه، ولكن لنمنع جبروتكم وتجبركم ؛ لتعيشوا على ضوء المنهج الحق ؛ لتكون حياتكم صالحة، وكل ذلك لمصلحتكم.
﴿ فإن توليتم فما سألتكم من أجر.. ( ٧٢ ) ﴾ فهل يمالئ( ١ ) نوح-عليه السلام-أعداءه.
إن الإنسان يمالئ العدو ؛ لأنه يخاف أن يوقع به شرا، ونوح عليه السلام لا يخافهم ؛ لأنه يعتمد على الله تعالى وحده، بل هو يدلُّهم على مواطن القوة فيهم، وهو يعلم أن قوتهم محدودة، وأن شرهم مهما بلغ فهو غير نافذ، وقد لا يكون منهم شر على الإطلاق، فهل هناك نفع سيعود على نوح-عليه السلام- ويمنع عنه ؟
لا ؛ لأنه يعلن أنه لا يأخذ أجرا على دعوته.
هم-إذن-لا يقدرون على ضرّه، ولا يقدرون على نفعه، وهو لا يريد منهم نفعا ؛ لأن مركزه بإيمانه بالله الذي أرسله مركز قويُّ.
وهو لا يسألهم أجرا، وكلمة " أجرا " ( ٢ ) تعني : ثمن المنفعة، والأثمان تكون عادة في المعاوضات، إما أن تكون ثمنا للأعيان والذوات، وإما أن تكون ثمنا للمنفعة.
ومثال ذلك : أن إنسانا يرغب في شراء " شقة " في بيت فيذهب إلى رجل يملك بيتا، ويطلب منه أن يبيع له عددا من الأسهم بقيمة الشقة.
وهناك خر يريد أن يستأجر شقة فيذهب إلى صاحب البيت ؛ ليدفع له قيمة إيجار شقة في البيت، أي : يدفع له قيمة الانتفاع بالشقة، والأجر لا يدفع إلا لطلب منفعة ملحة.
وكان على نوح-عليه السلام- أن يطلب منهم أجرا ؛ لأنه يهديهم إلى الحق، هذا في أصول التقييم للأشياء ؛ لأنه يقدم لهم نفعا أساسيا، لكنه يعلن أنه لا يطلب أجرا وكأنه يقول : إن عملي كان يجب أن يكون له أجر ؛ لأن منفعته تعود عليكم، وكان من الواجب أن آخذ أجرا عليه.
ولكن نوحا-عليه السلام- تنازل عن الأجر منهم ؛ لأنه أراد الأجر الأعلى، فلو أخذ منهم ؛ فلسوف يأخذ على قدر إمكاناتهم، ولكن الأجر من الله تعالى هو على قدر إمكانات الله سبحانه وتعالى، وفارق بين إمكانات المحدود العطاء وهو البشر، ومن له قدرة عطاء لا نهاية لها وهو الله سبحانه وتعالى.
وهنا يقول :﴿ فإن توليتم.. ( ٧٢ ) ﴾[ يونس ] : فهذا التولي والإعراض لا يضرني ولا ينفعني ؛ لأنكم لا تملكون لي ضرا ولا تملكون لي نفعا ؛ لأني لن آخذ منكم أجرا.
ومن العجيب أن كل مواكب الرسل-عليهم السلام-حين يخاطبون أقوامهم يخاطبونهم بهذه العبارة :﴿ ما أسألكم عليه من أجر.. ( ٨٦ ) ﴾[ ص ] : إلا في قصة سيدنا إبراهيم-عليه السلام-وقصة موسى عليه السلام، فعن قصة سيدنا إبراهيم يأتي قول الحق سبحانه :﴿ واتل عليهم نبأ إبراهيم( ٦٩ ) إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون( ٧٠ ) قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين( ٣ )( ٧١ ) قال هل يسمعونكم إذ تدعون( ٧٢ ) أو ينفعونكم أو يضرون( ٧٣ ) قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون( ٧٤ ) ﴾[ الشعراء ]. ولم يأت الحق سبحانه فيها بشيء عن عدم السؤال عن الأجر.
وأيضا في قصة سيدنا موسى-عليه السلام-قال الحق سبحانه :﴿ قال رب إني أخاف أن يكذبون( ١٢ ) ويضيق صدري ولا ينطلق لساني فأرسل إلي هارون( ١٣ ) ولهم على ذنب فأخاف أن يقتلون( ١٤ ) قال كلا فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون( ١٥ ) فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين( ١٦ ) أن أرسل معنا بني إسرائيل( ١٧ ) ﴾[ الشعراء ] : وهنا أيضا لا نجد قولا لموسى-عليه السلام- في عدم السؤال عن الأجر.
أما هنا في قصة نوح-عليه السلام-فنجد قول الحق سبحانه :﴿ فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله و أمرت أن أكون من المسلمين( ٧٢ ) ﴾[ يونس ].
وكذلك جاء نفس المعنى في قصة هود عليه السلام، حيث يقول الحق سبحانه :
﴿ كذبت عاد المرسلين( ١٢٣ ) إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون( ١٢٤ ) إني لكم رسول مبين( ١٢٥ ) فاتقوا الله وأطيعون( ١٢٦ ) وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين( ١٢٧ ) ﴾[ الشعراء ]، وجاء نفس المعنى أيضا في قوة ثمود، إذ قال الحق سبحانه :{ كذبت ثمود المرسلين( ١٤١ ) إذ قال لهم أخوهم صالح ألا تتقون( ١٤٢ ) إني لكم رسول أمين( ١٤٣ ) فاتقوا الله وأطيعون( ١٤٤ ) وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين( ١٤٥ )[ الشعراء ].
وكذلك جاء نفس القول على لسان لوط عليه السلام، فيقول الحق سبحانه :﴿ كذبت قوم لوط المرسلين( ١٦٠ ) إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون( ١٦١ ) إني لكم رسول أمين( ١٦٢ ) فاتقوا الله وأطيعون( ١٦٣ ) وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين( ١٦٤ ) ﴾[ الشعراء ]، ونفس القول جاء على لسان شعيب عليه السلام في قول الحق سبحانه :﴿ كذب أصحاب الأيكة( ٤ ) المرسلين( ١٧٦ ) إذ قال لهم شعيب ألا تتقون( ١٧٧ ) إني لكم رسول أمين( ١٧٨ ) فاتقوا الله وأطيعون( ١٧٩ ) وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين( ١٨٠ ) ﴾[ الشعراء :]
إذن : فغالبية الموكب الرسالي يأتي على ألسنتهم الكلام عن الأجر :﴿ وما أسألكم عليه من أجر.. ( ١٦٤ ) ﴾[ الشعراء ] : فكأن الرسل عليهم السلام يقولون للبشر الذين أرسلوا إليهم : لو أنكم فطنتم إلى حقيقة الأمر لكان من الواجب أن يكون لنا أجر على ما نقدمه لكم من منفعة، لكنا لا نريد منكم أنتم أجرا، إنما سنأخذ أجرنا من رب العالمين ؛ لأن المنفعة التي نقدمها لكم لا يستطيع بشر أن يقوّمها، وإنما القادر على تقييمها هو واضع المنهج-سبحانه-ومنزله على رسله.
وها هو القرآن الكريم يأتي على لسان رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، ويقول :﴿ قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى.. ( ٢٣ ) ﴾[ الشورى ] : أما لماذا لم تأت مسألة الأجر على لسان سيدنا إبراهيم-عليه السلام- فنحن نعلم أن إبراهيم عليه السلام أول ما دعا ؛ دعا عمه، وكان للعم حظ تربية إبراهيم، وله على سيدنا إبراهيم حق الأبوة.
وكذلك سيدنا موسى عليه السلام، فقد دعا فرعون، وفرعون هو الذي قام بتربية موسى، وكانت زوجة فرعون تريده قرة عين لها ولزوجها، حتى إن فرعون فيما بعد قد ذكّره بذلك، وقال :﴿ ألم نربك فينا وليدا ولبثت( ٥ ) فينا من عمرك سنين( ١٨ ) ﴾[ الشعراء ].
أما هنا في دعوة سيدنا نوح-عليه السلام- فيأتي قول القرآن على لسان نوح بما يوضح الأمر لقوم نوح : فإن توليتم فلا حزن لي، ولا جزع ؛ لأنكم لن تصيبوني بضرّ، ولن تمنعوا عني منفعة ؛ لأنكم لم تسألوني أن آتى لكم بالهدى لآخذ أجري منكم، ولكن الحق سبحانه هو الذي بعثني، وهو الذي سيعطيني أجري، وقد أمرني سبحانه أن أكون من المسلمين له حقا وصدقا.
وفي حياتنا نجد أن صديقا يرسل إلى صديقه عاملا من عنده ليصلح شيئا، فهو يأخذ الأجر من الرسل، لا من المرسل إليه، وهذا أمر منطقي وطبيعي.
١ يمالئ: يعاون ويساعد. قال أبو عبيد: يقال للقوم إذا تتابعوا برأيهم على أمر: قد تمالؤوا عليه.[لسان العرب: مادة (م ل أ)]..
٢ الأجر: الجزاء على العمل، والجمع: أجور. والأجر: الثواب؛ وقد أجره الله يأجره أجرا وآجره. أي: أعطاه الثواب.[لسان العرب: مادة (أ ج ر)]..
٣ العكوف على الشيء هو الإقامة والاستمرار عليه، أي: أنهم مقيمون مستمرون على عبادة الأصنام [تفسير ابن كثير (٣/٣٣٧)]..
٤ أصحاب الأيكة: هم أهل مدين-على الصحيح- وكان نبي الله شعيب، عليه السلام، من أنفسهم، وإنما لم يقل سبحانه هنا: أخوهم شعيب؛ لأنهم نسبوا إلى عبادة الأيكة، وهي شجرة كانوا يعبدونها.[ذكره ابن كثير في تفسيره(٣/٣٤٥)]..
٥ لبثت: عشت ومكثت بيننا..
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ فكذبوه فنجيناه ومن معه في الفلك( ١ ) وجعلناهم خلائف( ٢ ) وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا فانظر كيف كان عاقبة المنذرين( ٧٣ ) ﴾ :
وكأن الأمر الذي وقع من الحق سبحانه نتيجة عدائهم للإيمان كان من الممكن أن يشمله ؛ لأنه لا يقال : نجَّيتك من كذا إلا إذا كان الأمر الذي نجيتك منه، توشك أن تقع فيه، وكان هذا بالفعل هو الحال مع الطوفان، فالحق سبحانه يقول :﴿ ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر( ٣ )( ١١ ) وفجرنا الأرض عيونا.. ( ١٢ ) ﴾[ القمر ] : ومن المتوقع أن تشرب الأرض ماء المطر، لكن الذي حدث أن المطر انهمر من السماء والأرض أيضا تفجرت بالماء ؛ ولذلك نجد الحق سبحانه وتعالى يقول :﴿ فالتقى الماء على أمر قد قدر( ١٢ ) ﴾[ القمر ] : أي : أن ذلك الأمر كان مقدَّرا ؛ حتى لا يقولن أحد : إن هذه المسألة ظاهرة طبيعية.
لا إنه أمر مقدَّر، وقد كانت السفينة موجودة بصناعة من نوح عليه السلام ؛ لأن الحق سبحانه قد أمره بذلك في قوله تعالى في سورة هود :﴿ واصنع الفلك بأعيننا ووحينا.. ( ٣٧ ) ﴾[ هود ].
ويقول الحق سبحانه في الآية التي بعدها :﴿ ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ( ٤ ) من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون( ٣٨ ) ﴾[ هود ].
ويركب نوح-عليه السلام- السفينة، ويركب معه من آمن بالله تعالى، وما حملوا معهم من الطير والحيوان من كلّ نوع اثنين ذكرا وأنثى.
وقول الحق سبحانه :﴿ فنجيناه ومن معه.. ( ٧٣ ) ﴾[ يونس ] : يوحي أن الذي صعد على السفينة هم العقلاء من البشر، فكيف نفهم مسألة صعود الحيوانات والطيور إلى السفينة ؟
نقول : إن الأصل في وجود هذه الحيوانات وتلك الطيور أنها مسخَّرة لخدمة الإنسان، وكان لا بد أن توجد في السفينة ؛ لأنها ككائنات مسخَّرة تسبّح الله( ٥ )، وتعبد الحق سبحانه، فكيف يكون علمها فوق علم العقلاء الذين كفر بعضهم، ثم أليس من الكائنات المسخَّرة ذلك الغراب الذي علَّم " قابيل " كيف يواري سوأة أخيه( ٦ ) ؟ ! إنه طائر، لكنه علم ما لم يعلمه الإنسان !.
والحق سبحانه هو القائل :﴿ فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه.. ( ٣١ ) ﴾[ المائدة ] ثم يقول الحق سبحانه في الآية التي نحن بصددها الآن :﴿ فكذبوه فنجيناه ومن معه في الفلك وجعلناهم خلائف وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا فانظر كيف كان عاقبة المنذرين( ٧٣ ) ﴾[ يونس ] : وكلمة " الفلك " من الألفاظ التي تطلق على المفرد وتطلق على الجماعة.
وقول الحق سبحانه :﴿ فنجيناه ﴾ نعلم منه أن الفعل من الله تعالى، وهو سبحانه حين يتحدث عن أي فعل له، فالكلام عن الفعل يأتي مثل قوله سبحانه :﴿ إنا نحن نزلنا الذكر( ٧ ) وإنا له لحافظون( ٩ ) ﴾[ الحجر ].
ولكنه حين يتحدث عن ذاته، فهو يأتي بكلمة تؤكد الوحدانية وتكون بضمير الإفراد مثل :﴿ إنني أنا الله.. ( ١٤ ) ﴾[ طه ].
وهنا يقول الحق سبحانه :
﴿ فنجيناه ومن معه في الفلك.. ( ٧٣ ) ﴾[ يونس ] : كلمة " أنجى " للتعددية، وكلمة " نجى " تدل على أن هناك معالجة شديدة للإنجاء، وعلى أن الفعل يتكرر.
وقول الحق سبحانه :﴿ وجعلناهم خلائف( ٨ ).. ( ٧٣ ) ﴾[ يونس ] : تعني : أن الخليفة هو من يجيء بعد سابق، وكلمة " الخليفة " تأتي مرة للأعلى، مثل الحال هنا حيث جعل الصالح خليفة للصالح، فبعد أن أنجى الله سبحانه العناصر المؤمنة في السفينة، أغرق الباقين.
إذن : فالصالحون على ظهر السفينة أنجبوا الصالحين من بعدهم.
ومرة تأتي كلمة " الخليفة " للأقل، مثل قول الحق سبحانه :﴿ فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتَّبعوا الشَّهوات.. ( ٥٩ ) ﴾[ مريم ] : فهنا تكون كلمة الخليفة موحية بالمكانة الأقل، وهناك معيار وضعه الحق سبحانه لتقييم الخليفة، هو قول الحق سبحانه :﴿ ثمَّ جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون( ١٤ ) ﴾[ يونس ].
ولأن الإنسان مخيَّر بين الإيمان والكفر، فسوف يلقى مكانته على ضوء ما يختار.
ويقول الحق سبحانه :﴿ وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنَّهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكّننَّ لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنَّهم من بعد خوفهم أمنا.. ( ٥٥ ) ﴾[ النور ] : إذن : فالخليفة إما أن يكون خليفة لصالح، وإما ان يكون صالحا يخلف فاسدا.
وهنا يقول الحق سبحانه :
﴿ وجعلناهم خلائف وأغرقنا الذين كذَّبوا بآياتنا.. ( ٧٣ ) ﴾[ يونس ] :
والآيات-كما قلنا من قبل- إما آيات الاعتبار التي تهدي إلى الإيمان بالقوة الخالقة، وهي آيات الكون كلها، فكل شيء في الكون يدلُّك على أن هذا الكون مخلوق على هيئة ولغاية، بدليل أن الأشياء في هذا الكون تنتظم انتظاما حكيما.
وإذا أردت أن تعرف دقة هذا الخلق، فانظر إلى ما ليدك فيه دخل، وما ليس ليدك فيه دخل ؛ ستجد كل ما ليس ليدك فيه دخل على درجة هائلة من الاستقامة، والحق سبحانه يقول :﴿ لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا اللّيل سابق النّهار وكلّ في فلك( ٩ ) يسبحون( ٤٠ ) ﴾[ يس ].
أما ما ليدك فيه دخل، فاختيارنا حين يتدخل فهو قد يفسد الأشياء.
وهكذا رأينا أن الآيات الكونية تلفت إلى وجود الخالق سبحانه وهي مناط والاستدلال العقلي على وجود الإله، أو أن الآيات هي الأمور العجيبة التي جاءت على أيدي الرسل-عليهم السلام- لتقنع الناس بأنهم صادقون في البلاغ عن الله سبحانه وتعالى.
ثم هناك آيات القرآن الكريم التي يقول فيها الحق سبحانه :﴿ هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أمُّ الكتاب.. ( ٧ ) ﴾[ آل عمران ] : وهي الآيات التي تحمل المنهج.
وحين يقول الحق سبحانه :﴿ وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا.. ( ٧٣ ) ﴾[ يونس ] : فهو يعلّمنا أنه أغرق من كذبوا بالآيات الكونية ولم يلتفتوا إلى بديع صنعه سبحانه، وحكمه تكوين هذه الآيات، وترتيبها ورتابتها( ١٠ )، هو أيضا كذبوا الآيات المعجزات، وكذلك كذبوا بآيات الأحكام التي جاءت بها رسلهم.
وينهي الحق سبحانه وتعالى هذه الآية بقوله :﴿ فانظر كيف كان عاقبة المنذرين( ١١ ) ( ٧٣ ) ﴾[ يونس ]والخطاب هنا لكل من يتأتى منه النظر، وأولهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وهو أول مخاطب بالقرآن.
وأنت حين تقول :" انظر " ؛ فأنت تلفت إلى أمر حسي، إن وجهت نظرك نحوه جاء الإشعاع من المنظور إليه، وليرسم أبعاد الشيء ؛ فتراه.
والكلام هنا عن أمور غائبة، فهي أحداث حسية وقعت مرة واحدة ثم صارت خبرا، فإن أخبرك بها مخبر فيكون تصديقك بها على مقدار الثقة فيه.
فمن رأى عصا موسى-عليه السلام-وهي تلقف الحبال التي ألقاها السحرة ؛ آمن بها، مثلما آمن من شاهد النار عاجزة عن إحراق إبراهيم عليه السلام، ومن رأى عيسى عليه السلام وهو يشفي الأكمة والأبرص( ١٢ ) ويحي الموتى بإذن الله تعالى، فقد آمن بها رأى، أما من لم ير تلك المعجزات فإيمانه يتوقف على قدر توثيقه لمن أخبر، فإن كان المخبر بذلك هو الله سبحانه وفي القرآن الكريم فإيماننا بتلك المعجزات هو أمر حتمي ؛ لأننا آمنا بصدق المبلغ عن الله تعالى.
ونحن نفهم أن الرسالات السابقة على رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، كانت رسالات موقوتة زمانا ومكانا، لكن الإسلام جاء لينتظم الناس الموجه إليهم منذ أن أرسل الله رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم إلى أن تقوم الساعة.
لذلك جاء القرآن آيات باقيات إلى أن تقوم الساعة، وهذا هو السبب في أن القرآن قد جاء معجزة عقلية دائمة يستطيع كل من يدعو إلى منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول : محمد رسول من عند الله تعالى، وتلك هي معجزته.
وساعة يقول الحق سبحانه :﴿ فانظر ﴾ فمثلها مثل قول الحق سبحانه وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم :﴿ ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل( ١٣ )( ١ ) ﴾[ الفيل ].
وحادثة الفيل قد حدثت في العام الذي ولد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبطبيعة الحال فسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ير حادثة الفيل، ولكن الذين رأوها هم الذين كانوا يعيشون وقتها، وهذا ما يلفتنا إلى فارق الأداء، فعيونك قد ترى أمرا، وأذنك قد تسمع خبرا، ولكن من الجائز أن تخدعك حواسك، أما الخبر القادم من الله تعالى، وإن كان غائبا عنك الآن وغير مسموع لك فخذه على أنه أقوى من رؤية العين.
ولقائل أن يقول : لماذا لم يقل الحق :" ألم تعلم " وجاء بالقول :﴿ ألم تر.. ( ١ ) ﴾[ الفيل ] :
وأقول : ليدلنا الله سبحانه على أن العلم المأخوذ من الله تعالى عن أمر غيبي عليك أن تتلقاه بالقبول أكثر من تلقيك لرأى العين.
إذن :﴿ فانظر ﴾ تعني : اعلم الأمر وكأنه مجسم أمامك ؛ لأنك مؤمن بالله تعالى وكأنك تراه، ومبلغك عن الله سبحانه هو رسول تؤمن برسالته، وكل خبر قادم من الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يتسرب إليه الشك، ولكن الشك لا يمكن أن يتسرب إلى المخبر الصادق أبدا.
ولقائل أن يقول : ولماذا لم يقل الحق :" فانظر كيف كان عاقبة الكافرين " بدلا من قول الحق سبحانه :﴿ فانظر كيف كان عاقبة المنذرين( ٧٣ ) ﴾ ؟ [ يونس ]، وهنا نقول :
إن الحق سبحانه وتعالى قد بين أنه لن يعذب قبل أن ينذر( ١٤ )، فهو قد أنذر أولا، ولم يأخذ القوم على جهلهم.
" فانظر " -كما نعلم- هي خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يشمل أمته أيضا، وجاء هذا الخبر تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن صادف من قومك يا محمد ما صادف قوم نوح-عليه السلام-فاعلم أن عاقبتهم ستكون كعاقبة قوم نوح.
وفي هذا تحذير وتخويف للمناوئين لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
١ الفلك: السفينة..
٢ خلفه يخلفه من باب نصر: جاء بعده فصار مكانه-خلفا وخلافه وخلفه خلفا: صار خلفه قال تعالى:﴿قال بئسما خلفتموني من بعدي..(١٥٠)﴾[الأعراف] والخلف: القرن من الناس بعد القرن، أي الجيل بعد الجيل، والخلف الولد الصالح أو غير الصالح. قال تعالى:﴿فخلف من بعدهم خلف..(١٦٩)﴾[الأعراف] والخلف بالفتح: البعض والبدل والولد الصالح أو الولد غير الصالح. والخليفة من يخلف غيره، أو ينوب عنه، قال تعالى:﴿إني جاعل في الأرض خليفة..(٣٠)﴾[البقرة]، وخليفة جمعها خلفاء وخلائف يقول تعالى:﴿واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح..(٦٩)﴾[ الأعراف] وقال:﴿وهو الذي جعلكم خلائف الأرض..(١٦٥)﴾[الأنعام].[القاموس القويم-بتصرف]..
٣ ماء منهمر: مطر غزير..
٤ ملأ: جماعة..
٥ يقول الحق سبحانه وتعالى:﴿وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا(٤٤)﴾[الإسراء]..
٦ يواري سوأة أخيه: يخفي جسد أخيه "هابيل" الذي قتله أخوه بغير حق. أي: يدفنه..
٧ الذكر: القرآن الكريم. قال تعالى:﴿وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون(٤٤)﴾[النحل]..
٨ خلائف: جمع خليفة وهو الذي يخلف من سبقه. وتجمع أيضا على "خلفاء". قال تعالى﴿واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح..(٦٩)﴾[الأعراف]..
٩ الفلك: المدار يسبح فيه الجرم السماوي. والجمع: أفلاك.[المعجم الوسيط: مادة(ف ل ك)]..
١٠ رتابتها: أي: سيرها على نظام واحد لا يتخلف، يقول الحق سبحانه:﴿لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون(٤٠)﴾[يس]..
١١ عاقبة: عقاب وجزاء ونهاية. المنذرين: اسم مفعول يشير إلى من وقع عليهم الإنذار، وهو قوم نوح الذين انذرهم نبيهم، فلم يؤمنوا؛ فاستحقوا العقاب والعذاب..
١٢ الكمه: العمى الذي يولد به الإنسان. أما البرص فهو: مرض جلدي عبارة عن بقع بيضاء تكون في الجسد. انظر اللسان..
١٣ أصحاب الفيل، هم جيش "أبرهة" الحبشي حين قدموا لهدم الكعبة، فمزقهم الله شر ممزق وأرسل عليهم طيورا من السماء وترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم الله كعصف مأكول. ووافق ذلك قبل مولد النبي صلى الله عليه وسلم بخمس وخمسين ليلة، فهو لم ير الحادث بعينيه، ولكن إخبار الله له أمر لا يحتمل إلا الصدق، فكأنه قد رآه بعينيه فعلا..
١٤ يقول الحق سبحانه:﴿وإن من امة إلا خلا فيها نذير(٢٤)﴾[فاطر] ويقول:﴿وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا(١٥)﴾[الإسراء] النذير والإنذار نذر، قال تعالى:﴿ما جاءنا من بشير ولا نذير..(١٩)﴾[المائدة]
والنذير هنا: هو الرسول المنذر بالعذاب. والنذر اسم مصدر بمعنى الإنذار كقوله تعالى:﴿فالملقيات ذكرا(٥)عذرا أو نذرا(٦)﴾[المرسلات] وقوله:﴿.. وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون(١٠١)﴾[يونس] يحتمل أنها الإنذارات. أو المنذرون من الرسل جمع نذير، قوله:﴿قد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه..(٢١)﴾[الأحقاف]، والمراد بالنذر هم الرسل المنذرين..

ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ ثم بعثنا من بعده رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات( ١ ) فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل كذلك نطبع( ٢ ) على قلوب المعتدين( ٧٤ ) ﴾ :
وكلمة " بعث " هنا تستحق التأمل، فالبعث إنما يكون لشيء كان موجودا ثم انتهى، فيبعثه الله تعالى.
وكلمة " بعثنا " هذه تلفتنا إلى أن الحق سبحانه أول ما خلق الخلق أعطى المنهج لآدم عليه السلام، وأبلغه آدم لأبنائه، وكل طمس أو تغيير من البشر للمنهج( ٣ ) هو إماتة للمنهج.
وحين يرسل الحق سبحانه رسولا، فهو لا ينشىء منهجا، بل يبعث ما كان موجودا، ليذكر الفطرة السليمة.
وهذا هو الفرق بين أثر كلمة " البعث " عن كلمة " الإرسال "، فكلمة البعث تشعرك بوجود شيء، ثم انتهاء الشيء، ثم بعث ذلك الشيء من جديد، ومثله مثل البعث في يوم القيامة، فالبشر كانوا يعيشون وسيظلون في تناسل وحياة وموت إلى يوم البعث، ثم يموت كل الخلق ليبعثوا للحساب.
ولم يكن من المعقول أن يخلق الله سبحانه البشر، ويجعل لهم الخلافة في الأرض، ثم يتركهم دون منهج ؛ وما دامت الغفلة قد طرأت عليهم من بعد آدم-عليه السلام- جاء البعث للمنهج على ألسنة الرسل( ٤ ) المبلغين عن الله تعالى.
وبعد نوح-عليه السلام-بعث الحق سبحانه رسلا، وهنا يقول الله سبحانه وتعالى :
{ ثم بعثنا من بعده.. ( ٧٤ )[ يونس ] : أي : من بعد نوح، فمسألة نوح-عليه السلام-هنا تعني مقدمة الركب الرسالي ؛ لأن نوحا عليه السلام قد قالوا عنه أنه رسول عام للناس جميعا أيضا، مثله مثل محمد صلى الله عليه وسلم، وهو لم يبعث رسولا عاما للناس جميعا، بل كان صعوده إلى السفينة هو الذي جعله رسولا لكل الناس ؛ لأن سكان الأرض أيامها كانوا قلة.
والحق سبحانه قد أخذ الكافرين بذنبهم وأنجى المؤمنين من الطوفان، وكان الناس قسمين : مؤمنين، وكافرين، وقد صعد المؤمنون إلى السفينة، وأغرق الحق سبحانه الكافرين.
وهكذا صار نوح-عليه السلام- رسولا عاما بخصوصية من بقوا وهم المرسل إليهم بخصوصية الزمان والمكان( ٥ ).
وهنا يقول الحق سبحانه : ثم بعثنا من بعده رسلا على قومهم.. ( ٧٤ ) }[ يونس ] : فهل قص الله تعالى كل أخبار الرسل عليهم السلام ؟ لا ؛ لأنه سبحانه وتعالى هو القائل :﴿ منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك.. ( ٧٨ ) ﴾[ غافر ].
وجاء الحق عز وجل بقصص أولى العزم منهم( ٦ )، مثلما قال سبحانه :﴿ وأرسلناه على مائة ألف أو يزيدون( ٧ )( ١٤٧ ) ﴾[ الصافات ].
فمن أرسله الله تعالى إلى من هم أقل من مائة ألف، فقد لا يأتي ذكره، ونحن نعلم أن الرسول إنما كان يأتي للأمة المنعزلة ؛ لأن العالم كان على طريقة الانعزال، فنحن مثلا منذ ألف عام لم نكن نعلم بوجود قارة أمريكا، بل ولم نعلم كل القارات والبلاد إلا بعد المسح الجوي في العصر الحديث، وقد توجد مناطق في العالم نعرفها كصورة ولا نعرفها كواقع.
ونحن نعلم أن ذرية آدم-عليه السلام- كانت تعيش على الأرض، ثم انساحت( ٨ ) في الأرض ؛ لأن الأقوات التي كانت تكفي ذرية آدم على عهده، لم تعد تكفي بعدما اتسعت الذرية، فضاق الرزق في رقعة الأرض التي كانوا عليها، وانساح بعضهم إلى بقية الأرض.
والحق سبحانه هو القائل :﴿ ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة( ٩ ).. ( ١٠٠ ) ﴾[ النساء ]. وهكذا انتقل بعض من ذرية آدم-عليه السلام- إلى مواقع الغيث( ١٠ )، فالهجرة تكون إلى مواقع المياه ؛ لأنها أصل الحياة.
ويلاحظ مؤرخو الحضارات أن بعض الحضارات نشأت على جوانب الأنهار والوديان، أما البداوة فكانت تتفرق في الصحارى، مثلهم مثل العرب، وكانوا في الأصل يسكنون عند سد مأرب، وبعد أن تهدم السد وأغرق الأرض، خاف الناس من الفيضان ؛ لأن العدوَّين اللذين لم يقدر عليهما البشر هما النار والماء.
وحين رأى الناس اندفاع الماء ذهبوا على الصحارى، وحفروا الآبار التي أخذوا منها الماء على قدر حاجتهم ؛ لأنهم عرفوا أنهم ليسوا في قوة المواجهة مع الماء.
وهكذا صارت الانعزالات بين القبائل العربية، ومثلها كانت في بقية الأرض، ولذلك اختلفت الداءات باختلاف الأمم ؛ ولذلك بعث الحق سبحانه إلى كل أمة نذيرا، وهو سبحانه القائل :﴿ وإن من أمة خلا فيها نذير( ١١ ).. ( ٢٤ ) ﴾[ فاطر ]. وقص علينا الله سبحانه قصص بعضهم، ولم يقصص قصص البعض الآخر.
يقول الحق سبحانه :﴿ منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله.. ( ٧٨ ) ﴾[ غافر ]، وهنا يقول الحق سبحانه :﴿ ثم بعثنا من بعده رسلا على قومهم فجاءوهم بالبينات.. ( ٧٤ ) ﴾[ يونس ].
فهل هؤلاء هم الرسل الذين لم يذكرهم الله ؟ لا ؛ لأن الحق سبحانه أرسل بعد ذلك هدا إلى قوم عاد، وصالحا إلى ثمود، وشعيبا إلى مدين، ولم يأت بذكر هؤلاء هنا، بل جاء بعد نوح-عليه السلام-بخبر موسى عليه السلام، وكأنه شاء سبحانه هنا أن يأتي لنا بخبر عيون الرسالات( ١٢ ).
وما دام الحق سبحانه قد أرسل رسلا إلى قوم، فكل قوم كان لهم رسول، وكل رسول بعثه الله تعالى إلى قومه.
وكلمة " قوم " ( ١٣ ) في الآية جمع مضاف، والرسل جمع، ومقابلة الجمع بالجمع تقتضي القسمة آحادا، مثلما نقول : هيا اركبوا سياراتكم، والخطاب لكم جميعا، ويعني : أن يركب كل واحد منكم سيارته.
وجاء كل رسول إلى قومه بالبينات، أي : بالآيات الواضحات الدالة على صدق بلاغهم عن الله تعالى.
ثم يقول الحق سبحانه في نفس الآية :﴿ فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل كذلك نطبع على قلوب المعتدين( ٧٤ ) ﴾ : أي : أن الناس جميعهم لو آمنوا لانقطع الموكب الرسالي، فموكب إيمان كل البشر لم يستمر، بل جاءت الغفلة( ١٤ )، وطبع الله تعالى على قلوب المعتدين. والطبع-كما نعلم-هو الختم.
ومعنى ذلك أن القلب المختوم لا يخرج ما بداخله، ولا يدخل إليه ما هو خارجه ؛ فما دام البعض قد عشق الكفر فقد طبع الله سبحانه على هذه القلوب ألا يدخلها إيمان، ولا يخرج منها الكفر، والطبع هنا منسوب لله تعالى.
وبعض الذين يتلمسون ثغرات في منهج الله تعالى يقولون : إن سبب كفرهم هو أن الله هو الذي طبع على قلوبهم.
ونقول : التفتوا إلى أنه سبحانه بيَّن أنه قد طبع على قلوب المعتدين، فالاعتداء قد وقع منهم أولا، ومعنى الاعتداء أنهم لم ينظروا في آيات الله تعالى، وكفروا بما نزل إليهم من منهج، فهم أصحاب السبب في الطبع على القلوب بالاعتداء والإعراض.
وجاء الطبع لتصميمهم على ما عشقوه وألفوه، والحق سبحانه وتعالى هو القائل في الحديث القدسي :" أنا أغنى الشركاء عن الشرك " ( ١٥ ).
ولله المثل الأعلى، فأنت تقول لمن يسدر( ١٦ ) في غيه : ما دمت تعشق ذلك الأمر فاشبع به.
ومثل هؤلاء الذين طبع الله سبحانه وتعالى على قلوبهم، مثل الذين كذبوا من قبل وكانوا معتدين.
١ بالبينات: أي: بالحجج والأدلة والبراهين على صدق ما جاءوهم به.[ذكره ابن كثير في تفسيره (٢/٤٢٦)]..
٢ الطبع: هو الختم على القلب، ولكنه لا يمحي ولا يفك أبدا. أما الختم فقد يفكن وقد تكون له مدة معلومة، وقد يقبل مع التوبة الخالصة. وبكلا الأمرين ورد القرآن:﴿أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم(١٠٨)﴾[النحل]. وقال سبحانه:﴿ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة..(٧)﴾[البقرة]..
٣ نهج الطرق من باب فتح، نهجا: سلكه. ونهج الطريق له: أوضحه، والنهج والمنهج والمنهاج: الطريق الواضح والمذهب حسيا ومعنويا، قال تعالى:﴿لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا..(٤٨)﴾[المائدة] أي: مذهبا أو طريقة أو دينا، فهو هنا معنوي..
٤ الرسالة: اسم لما يرسل منقولة عن المصدر، ورسالة الرسول ما أمر بتبليغه عن الله للناس، ودعوته الناس إلى ما أوحى إليه. و الرسول: المرسل. والرسول مصدر بمعنى الرسالة، وإذا وصف بالمصدر فلا يؤنث ولا يثنى ولا يجمع. قال الزمخشري: الرسول يكون بمعنى المرسل، وبمعنى الرسالة فجعله القرآن في سورة طه بمعنى الرسل، فلم يكن بد من تثنيته. يقول الحق:﴿إنا رسولا ربك..(٤٧))﴾[طه] أما في آية الشعراء فبمعنى الرسالة، فجازت التسوية فيه إذا وصف به بين المفرد والمثنى، فلهذا قال:﴿إنا رسول رب العالمين(١٦)﴾[الشعراء] وأرسل تأتي لمجرد البعث والإطلاق مثل:﴿فأرسل معي بني إسرائيل..(١٠٥)﴾[ الأعراف](الزمخشري-بتصرف)..
٥ أما رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فهي لعامة الزمان والمكان، وهذا مما خص به الله رسوله صلى الله عليه وسلم وأمته، ويدل عليه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي المغانم ولم تحل لأحد من قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت على الناس عامة" أخرجه البخاري في صحيحه(٣٣٥) ومسلم (٥٢١) من حديث جابر بن عبد الله..
٦ أولو العزم من الرسل هم: محمد صلى الله عليه وسلم، وإبراهيم، ونوح، وموسى وعيسى عليهم السلام. قال تعالى:﴿فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل..(٣٥)﴾[الأحقاف]..
٧ هو يونس-عليه السلام-أنجاه الله سبحانه وتعالى من بطن الحوت ثم أرسله إلى قومه وهم أهل "نينوى" بجهة الموصل، وكان عددهم مائة ألف أو يزيد على المائة ألف-على اختلاف بين المفسرين.[تفسير الجلالين ص ٣٩٦] و[تفسير ابن كثير(٤/٢٢)]، و[صفوة التفاسير للصابوني(٣/٢٤)].. بتصرف..
٨ انساح: من السياحة وهي الذهاب في الأرض، أو الهجرة من مكان إلى مكان.[لسان العرب: مادة (س ى ح)]..
٩ مراغما كثيرا: المراغمة الهجران والتباعد. والمراد: أنه يجد أماكن كثيرة تصلح لأن يهاجر إليها ليعيش فيها.[اللسان-بتصرف].
وسعة: أي: بعيدا عن تضييق المشركين، وقيل: سعة، أي: كثرة في الرزق.[مختصر تفسير الطبري] بتصرف..

١٠ الغيث: المطر..
١١ إن: نافية بمعنى (ما). أي: ما من أمة إلا أرسل الله إليهم من ينذرهم. خلا: مضى وسبق. قال تعالى:﴿كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم..(٣٠)﴾[الرعد]
نذير: صيغة مبالغة من الإنذار، أي: كثير الإنذار لهم بعذاب الله إذا لم يؤمنوا به. قال تعالى:﴿قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير..(١٩)﴾[المائدة]..

١٢ عيون الرسالات: أكبرها وأهمها ذكرها تفصيلا، وذكر غيرها إجمالا..
١٣ القوم: جماعة الرجال ليس معهم نساء. قال تعالى:﴿لا يسخر قوم من قوم..(١١)﴾[الحجرات]، ثم قال:﴿ولا نساء من نساء..(١١)﴾[الحجرات] فدل على أن المقصود بالقوم هنا الرجال فقط، ويستعمل لفظ القوم فيشمل الأمة كلها رجالا ونساء، مثل قوم نوح وقوم إبراهيم.[القاموس القويم] وانظر[ لسان العرب مادة: قوم]..
١٤ الغفلة: سهو يعتري الإنسان من قلة التحفظ وعدم اليقظة، قال تعالى:﴿لقد كنت في غفلة من هذا..(٢٢)﴾[ق]، أي: غافلا عن إدراك القيامة وغافلا عن أحداث مات بعد الموت.[القاموس القويم]..
١٥ أخرجه مسلم في صحيحه (٣٩٨٥) وابن ماجه في سننه (٤٢٠٢) عن أبي هريرة رضي الله عنه..
١٦ السادر في غيه: الممعن في ضلاله المستمر عليه لا يهتم لشيء ولا يبالي ما صنع.[اللسان مادة: سدر]..
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون إلى فرعون وملأيه( ١ ) بآياتنا فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين( ٧٥ ) ﴾ :
وكل من موسى وهارون-عليهما السلام- رسول، وقد أخذ البعث لهما مراحل، والأصل فيها أن الله تعالى قال لموسى-عليه السلام :﴿ وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى( ١٣ ) ﴾[ طه ]، وقال الحق سبحانه وتعالى لموسى-عليه السلام :﴿ اذهبا إلى فرعون إنه طغى( ٤٣ ) ﴾[ طه ]، ثم سأل موسى-عليه السلام- ربه سبحانه وتعالى أن يشد عضده بأخيه، فقال الحق سبحانه وتعالى :﴿ قد أوتيت سؤلك يا موسى( ٣٦ ) ﴾[ طه ] : لأن موسى-عليه السلام-أراد أن يفقه قوله، وقد رجى موسى ربه سبحانه وتعالى بقوله :﴿ واحلل عقدة( ٢ ) من لساني( ٢٧ ) يفقهوا قولي( ٢٨ ) ﴾[ طه ].
وبعد ذلك جاء تكليف هارون بالرسالة مع موسى عليه السلام.
وقال الحق سبحانه :﴿ اذهب إلى فرعون إنه طغى( ٣ )( ٢٤ ) ﴾[ طه ] :
فالأصل-إذن-كانت رسالة موسى-عليه السلام- ثم ضم الله سبحانه هارون إلى موسى إجابة لسؤال موسى، والدليل على ذلك أن الآيات كلها المبعوثة في تلك الرسالة كانت بيد موسى، وحين يكون موسى هو الرسول، وينضم إليه هارون، لا بد –إذن-أن يصبح هارون رسولا.
ولذلك نجد القرآن معبرا عن هذا :﴿ إنا رسولا ربك.. ( ٤٧ ) ﴾[ طه ] : أي : أنهما رسولان من الله.
وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه :﴿ فأتيا فرعون فقولا إنا رسل رب العالمين( ١٦ ) ﴾[ الشعراء ] : فهما الاثنان مبعوثان في مهمة واحدة، وليس لكل منهما رسالة منفصلة، بل رسالتهما واحدة لم تتعدد، وإن تعدد المرسل فكانا موسى وهارون. ومثال ذلك-ولله المثل الأعلى-حين يوفد ملك أو رئيس وفدا إلى ملك آخر، فيقولون : نحن رسل الملك فلان.
وفي رسالة موسى وهارون نجد الأمر البارز في إلقاء الآيات كان لموسى. ولكن هارون له أيضا أصالة رسالية ؛ لذلك قال الحق سبحانه :﴿ إنا رسولا.. ( ٤٧ ) ﴾[ طه ] :
ذلك أن فرعون كان متعاليا سمجا( ٤ ) رذل( ٥ ) الخلق، فإن تكلم هارون ليشد أزر( ٦ ) أخيه، فقد يقول الفرعون : وما دخلك أنت ؟
ولكن حين يدخل عليه الاثنان، ويعلنان أنهما رسولان، فإن رد فرعون هارون، فكأنه يرد موسى أيضا.
أقول ذلك حتى نغلق الباب على من يريد أن يتورك( ٧ ) القرآن متسائلا : ما معنى أن يقول القرآن مرة " رسول " ومرة " رسولا " ؟ وفي هذا رد كاف على هؤلاء المتوركين.
ويقول الحق سبحانه هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها :﴿ ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون إلى فرعون وملئه بآياتنا فاستكبروا.. ( ٧٥ ) ﴾[ يونس ] : والملأ : هو أشراف القوم ووجوهه وأعيانه والمقربون من صاحب السيادة العليا، ويقال لهم :" ملأ " ؛ لأنهم هم الذين يملأون العيون، أي : لا ترى العيون غيرهم.
وفرعون-كما نعلم- لم يصبح فرعونا إلا بالملأ ؛ لأنهم هم الذين نصبوه عليهم، وكان " هامان " مثلا يدعم فكرة الفرعون، وكان الكهنة يؤكدون أن الفرعون إله.
ولكل فرعون ملأ يصنعونه، والمثل الشعبي في مصر يقول :" قالوا لفرعون من فرعنك، قال : لم أجد أحدا يردني ".
أي : أنه لم يجد أحدا يقول له : تعقل. ولو وجد من يقول له ذلك لما تفرعن.
والآيات( ٨ ) التي بعث بها الله سبحانه إلى فرعون وملئه مع موسى وهارون من المعجزات الدالة على صدق نبوة موسى وهارون-عليهما السلام، وفيها ما يلفت إلى صدق البلاغ عن الله.
أو أن الآيات هي المنهج الذي يثبت وجود الخالق الأعلى، لكن فرعون وملأه استكبروا. والاستكبار : هو طلب الكبر، مثلها مثل " استخرج " أي : طلب الإخراج، ومثل " استفهم " أي : طلب الفهم. ومن يطلب الكبر إنما يفتعل ذلك ؛ لأنه يعلم أن مقوماته لا تعطيه هذا الكبر.
وينهي الحق سبحانه هذه الآية بقوله :﴿ .. وكانوا قوما مجرمين( ٧٥ ) ﴾[ يونس ] : وشر الإجرام هو ما يتعدى على النفس، فقد يكون من المقبول أن يتعدى إجرام الإنسان إلى أعدائه، أما أن يتعدى الإجرام إلى النفس فهذا أمر لا مندوحة( ٩ ) له، وإجرام فرعون وملئه أودى بهم إلى جهنم خالدين مخلدين فيها ملعونين، وفي عذاب عظيم ومهين.
١ ملئه: قومه. وقيل: هم أشراف القوم ووجوههم ورؤساؤهم الذين يرجع إلى قولهم.[اللسان، مادة: ملأ]..
٢ العقدة: تطلق على رتة اللسان وصعوبة النطق، قال تعالى حاكيا عن موسى عليه السلام:﴿واحلل عقدة من لساني(٢٧)يفقهوا قولي(٢٨)﴾[طه]..
٣ طغى: تجاوز الحد. ومنه قوله تعالى:﴿الذين طغوا في البلاد(١١)﴾[الفجر] أي: ظلموا وتجاوزوا الحد في العصيان. وقال تعالى:﴿إنا لما طغا الماء حملناكم في الجارية(١١)﴾]الحاقة]..
٤ سمج الشيء: قبح. والسمج والسميج: الذي لا خير فيه [لسان العرب: مادة (س م ج)-بتصرف]..
٥ الرذل والرذيل: الدون من الناس، وقيل: هو الخسيس. وقيل: هو الرديء من كل شيء.[لسان العرب: مادة (ر ذ ل)]..
٦ الأزر: القوة والشدة، وأزره وآزره: أعانه وساعده.[لسان العرب: مادة (أزر)]..
٧ التوريك: إضافة الذنب أو النقص إلى الشيء، وحمله عليه على غير الحقيقة، وتحمل معنى إسقاط عيبه على غيره [انظر: لسان العرب-مادة: ورك] والمراد أنهم يحملون القرآن تناقضاتهم..
٨ قال تعالى:﴿ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات فاسأل بني إسرائيل إذ جاءهم فقال له فرعون إني لأظنك يا موسى مسحورا(١٠١)﴾[الإسراء] والآيات التي أرسل بها موسى عليه السلام هي: العصا، وإخراج يده بيضاء من غير سوء، وسنيّ الجدب، والبحر، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم..
٩ المندوحة: اتساع الأمر. والمراد: أن فعلهم هذا لا سبب معقول له، ولا مبرر.[لسان العرب: مادة (ن د ح) بتصرف]..
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا عن هذا لسحر( ١ ) مبين( ٧٦ ) ﴾ :
وقد جاءهم الحق على لسان الرسل-عليهم السلام-وعلى كل إنسان أن يفهم أنه حين يستقبل من الرسول رسالة الحق، فليفهم أنها رسالة ليست ذاتية الفكر من الرسول، بل قد أرسله بها الله الخالق الأعلى سبحانه وتعالى.
ولذلك فالمتأبى( ٢ ) على الرسول، لا يتأبَّى على مساو له ؛ لأن الرسول هو مبلغ عن الله تعالى، والله سبحانه هو الذي بعثه، ويجب على الإنسان أن يعرف قدر البلاغ القادم من الله الحق ؛ لأنه سبحانه هو الحق الأعلى، وهو الذي خلق كل شيء بالحق : سماء مخلوقة بالحق، وأرض مخلوقة بالحق، وشمس تجري بالحق، ومطر ينزل بالحق، وكل شيء ثابت ومتحرك بقوانين أرادها الحق سبحانه.
ولو سيطر الإنسان-دون منهج-على قوانين الكائنات لأفسدها ؛ لأن الفساد إنما يأتي مما للإنسان دخل فيه، ويدخل إليه بدون منهج الله.
والفساد إنما يجيء من ناحية اختيار الإنسان للبدائل التي لا يخضع فيها لمنهج الله تعالى.
ولذلك إن أردتم أن تستقيم حياتكم استقامة الكائنات العليا التي لا دخل لكم فيه، فامتثلوا لمنهج الحق وميزانه ؛ لأنه سبحانه هو القائل :﴿ والسماء رفعها ووضع الميزان( ٧ ) ألا تطغوا في الميزان( ٣ )( ٨ ) ﴾[ الرحمن ] : أي : إن كنتم تريدون أن تعتدل أموركم، وتنضبط انضباط الكائنات الأخرى فلتكن إرادة الاختيار المخلوقة لكم خاضعة لمنهج الله تعالى، وتسير في إطار هذا المنهج الرباني.
وحين نتأمل قول الحق سبحانه :﴿ فلما جاءهم الحق من عندنا.. ( ٧٦ ) ﴾[ يونس ] :
نجد في هذا القول توجيها إلى أن الحق لم يأت من ذوات الرسل ؛ فهذه الذوات لا دخل لها في الموضوع، وإياك أن تهاجم رسالة حق جاءتك من إنسان لا تحبه، بل ناقش الحق في ذاته، ولا تدخل في متاهة البحث عمن جاء بهذا الحق، وانظر إلى من كفروا بمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم من قالوا :﴿ لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم( ٤ ).. ( ٣١ ) ﴾[ الزخرف ] : وهم بذلك قد أدخلوا النازل عليه القرآن في الحكم، مع أن العقل كان يقتضي أن ينظروا إلى القرآن( ٥ ) في ذاته، وأن يأخذوا الحكمة من أي وعاء خرجت.
وعليك أنت أن تستفيد من هذا الأمر، وخذ الحكمة من أي قائل لها، ولا تنظر إلى من جاءت الحكمة منه، فإن كنت تكرهه فأنت ترفض أن تأخذ الحكمة منه، وإن كنت تحبه أخذتها. لا، إن عليك أن تأخذ الحكمة ما دامت قد جاءت بالحق ؛ لأنك إن لم تأخذها أضعت نفسك( ٦ ).
والحق هو الشيء الثابت، وإن ظهر في بعض الأحيان أن هناك من طمس الحق، وأن الباطل تغلب عليه، فهذا يعني ظهور المفاسد ؛ فيصرخ الناس طالبين الحق.
وانتشار المفاسد هو الذي يجعل الناس تستدعي الحق، وتتحمس له ؛ لأن الباطل حين يعضُّ الناس، تجدهم يتجهون إلى الحق ليتمسكوا به.
والحق سبحانه هو القائل :﴿ أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا( ٧ ) رابيا( ٨ ) ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء( ٩ ) وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال( ١٠ ) ( ١٧ ) ﴾[ الرعد ] : والحق سبحانه هنا يضرب المثل النازل كسيل من السماء على الجبال، فيأخذ كل واد أسفل الجبال على قدر احتماله، ويرتوي الناس، وترتوي الأرض، لكن السيل في أثناء نزوله على الجبال إنما يحمل بعضا من الطمي، والقش، ويستقر الطمي في أرض الأودية ؛ لتستفيد منه، أما القش والقاذورات فتطفو على سطح الماء، وتسمى تلك الأشياء الطافية زبدا، وساعة تضعها في النار، فهي تصدر أصواتا تسمى ( الطشطشة ).
ومثال ذلك : حين نوقد النار ؛ لنصهر الحديد، نجد الخبث هو الذي يطفو، ويبقى الحديد النقي في القاع.
هذا الزبد الذي يوجد فوق الماء ينزاح على الجوانب، ومثال ذلك : ما نراه على شواطئ البحر حين يقذف الموج بقاذورات على الشاطئ، هذه القاذورات التي ألقتها البواخر، فيلفظها البحر بالموج، وهذا الزبد يذهب جفاء، أما ما ينفع الناس فيبقى في الأرض ؛ لذلك يقول الحق سبحانه :﴿ كذلك يضرب الله الحق والباطل.. ( ١٧ ) ﴾[ الرعد ] : إذن : فالله سبحانه يترك للباطل مجالا، ولكن لا يسلم له الحق، بل يترك الباطل ؛ ليحفز غيرة الناس على الحق، فإن لم يغاروا على الحق غار هو عليه( ١١ ).
وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا إن هذا لسحر مبين( ٧٦ ) ﴾[ يونس ] : ولأنهم كانوا مشهورين بالسحر ؛ ظنوا أن الآيات التي جاءت مع موسى-عليه السلام-هي السحر المبين، أي : السحر الظاهر الواضح.
١ اللام في كلمة "لسحر" للتوكيد. والمعنى: أن ما جئت به ما هو إلا سحر قوي ظاهر، والسحر هو كل أمر يخفى سببه، ويتخيل على غير حقيقته بالتمويه والخداع، قال تعالى عن سحرة فرعون:﴿قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى(٦٦)﴾[طه]..
٢ التأبى: الرفض والكراهية.[اللسان: مادة (أ ب ى)]..
٣ لأن اعتدال الموازين ثبات الحق، وإذ ثبت الحق وأخذ طريقه استقامت موازين الحياة، وعند استقامتها لا نجد محروما ولا مظلوما..
٤ القريتان هما: مكة والطائف. واختلفت الأقوال في تحديد هذين الرجلين، فقيل: إنهما الوليد بن المغيرة، وعروة بن مسعود الثقفي. وقيل: إنهما عمير بن عمرو بن مسعود، وعتبة بن ربيعة، وقيل: ابن عبد ياليل. والمقصود أنه رجل كبير من أي البلدتين كان. انظر ابن كثير (٤/١٢٧)..
٥ وقد نقلت لنا كتب السيرة أن الوليد بن المغيرة قال في وصف القرآن: والله إن لقوه لحلاوة، وإن أصله لعذق، وإن فرعه لجناة، وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا ساحر، جاء بقول هو سحر يفرق به بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء وعشيرته" سيرة ابن هشام (١/٢٧٠) فرغم قوله في القرآن ومدحه فيه، إلا أنه مسايرة لقومه، وحفاظا على مكانته بينهم جحد القرآن واتهم محمدا صلى الله عليه وسلم بالسحر..
٦ عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الكلمة الحكمة ضالة المؤمن، فحيث وجدها فهو أحق بها" أخرجه الترمذي في سننه(٢٦٨٧) وابن ماجه في سننه(٤١٦٩). قال الترمذي: حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وإبراهيم بن الفضل، يضعف في الحديث من قبل حفظه..
٧ الزبد: هو ما يعلو ماء البحر إذا هاج موجه. وبحر مزبد، أي: مائج يقذف بالزبد. وزبد الماء: طفاوته وقذاه. والجمع: أزباد.[لسان العرب: مادة (ز ب د)]..
٨ رابيا: مرتفعا؛ لأنه يكون أعلى سطح الماء. [اللسان: مادة (ر ب ى)]..
٩ جفاء السيل: هو ما يقذفه من الزبد والوسخ ونحوهما.[اللسان: مادة (ج ف ى)]..
١٠ المثل: الصفة العجيبة يشبه بها غيرها. فالمثال تصور المعاني بصورة الأشخاص، أنها أثبت في الأذهان لاستعانة الذهن فيها بالحواس. وأمثال القرآن قسمان:
- قسم ظاهر مصرح به، مثل قوله تعالى:﴿مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون(١٧)﴾[البقرة].
- قسم كامن، مثل قوله تعالى:﴿والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما(٦٧)﴾[الفرقان] وهو يؤدي معنى مثل" خير الأمور أوساطها".[انظر: الإتقان في علوم القرآن٤/٤١]..

١١ عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ليس أحد أحب إليه المدح من الله، من أجل ذلك مدح نفسه، وليس أحد أغير من الله، من أجل ذلك حرم الفواحش" أخرجه مسلم في صحيحه(٢٧٦٠)، والبخاري في صحيحه(٤٦٣٤)..
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ قال موسى أتقولون للحق لما جاءكم أسحر هذا ولا يفلح الساحرون( ٧٧ ) ﴾ :
وفي هذه الآية ما يوضح رد سيدنا موسى عليه السلام :﴿ أتقولون للحق لما جاءكم أسحر هذا.. ( ٧٧ ) ﴾[ يونس ] : والذين يتوركون على القرآن يقولون : كيف يأتي القرآن ليؤكد أنهم قالوا إن هذا لسحر مبين، ثم يأتي في الآية التي بعدها ليقول إنهم قالوا متسائلين : أسحر هذا ؟
وفهم هؤلاء الذين يتوركون على القرآن أن كلمة ﴿ أسحر هذا ﴾ من كلماتهم، ولكن هذا هو قول موسى عليه السلام، وكأن موسى عليه السلام قد تساءل ؛ ليعيدوا النظر في حكمهم : هل ما جاء به سحر ؟ وهذا استفهام استنكاري، وأريد به أن يؤكد أن هذا ليس بسحر، ولكن جاء بصيغة التساؤل ؛ لأنه واثق أن الإجابة الأمنية ستقول : إن ما جاء به ليس سحرا.
ولو جاء كلام موسى- عليه السلام- كمجرد خبر لكان يحتمل الصدق، ويحتمل الكذب، لكنه جاء بصيغة الاستفسار ؛ لأن المكذب له سيجيب بلجلجة( ١ ).
ومثال ذلك-ولله المثل الأعلى-أنت حين تذهب لشراء قماش، فيقول لك البائع : إنه صوف خالص ونقي، فتمسك بعود كبريت وتشعل النار في خيط من القماش، فإن احترق الصوف كما يحترق البلاستيك أو القماش الصناعي، فأنت تقول للبائع : وهل هذا صوف نقي يا رجل ؟ وهنا لن يجب البائع إلا بالموافقة، أو بصمت العاجز عن حجب الحقيقة.
إذن : أنت إن طرحت الأمر باستفهام إنكاري فهذا أبلغ من أن تقوله كخبر مجرد ؛ لأن السامع لك لا بد أن يجيب.
وقول الحق سبحانه وتعالى على لسان موسى عليه السلام :﴿ أتقولون للحق لما جاءكم.. ( ٧٧ ) ﴾[ يونس ] : يفيد ضرورة النظر إلى الحق مجردا عمن جاء به.
ولذلك لم يقل موسى عليه السلام : أتقولون للحق لما جئناكم به : إنه سحر مبين ؟
إن القول الحكيم الوارد في الآية الكريمة هو تأكيد على ضرورة النظر إلى الحق مجردا عمن جاء به.
وينهي الحق سبحانه هذه الآية بقوله :﴿ .. أسحر هذا ولا يفلح الساحرون( ٧٧ ) ﴾[ يونس ] : إذن : فسيدنا موسى-عليه السلام-قد أصدر الحكم بأن السحر لا ينفع، ولكن الآيات التي جاء بها من الحق سبحانه قد أفلحت، فقد ابتلعت عصاه-التي صارت حية-كل ما ألقوه من حبالهم ؛ وكل ما صنعوه من سحر( ٢ ).
وأراد الحق سبحانه لعصا موسى أن تكون آية معجزة( ٣ ) من جنس ما نبغ فيه القوم.
فالله سبحانه حين يرسل معجزة على قوم ؛ يجعلها من جنس ما نبغوا فيه ؛ لتكون المعجزة تحديا في المجال الذي لهم به خبرة ودربة( ٤ ) ودراية ؛ فأنت لن تتحدى رجلا لا علم له بالهندسة ؛ ليبني لك عمارة، ولكنك تتحدى مهندسا أن يبني لك هرما ؛ لأن العلوم المعاصرة لم تتوصل إلى بعض ما اكتشفه القدماء ولم يسجلوه في أوراقهم، أو لم يعثر على كشف يوضح كيف فرغوا الهواء بين كل حجر وآخر فتماسكت الحجارة.
وقول الحق سبحانه وتعالى هنا :﴿ .. ولا يفلح الساحرون( ٧٧ ) ﴾[ يونس ] : يبين لنا أن الفلاح مأخوذ من العملية الحسية التي يقوم بها الفلاح من جهد في حرث الأرض ووضع البذور، وري الأرض وانتظار الثمرة بعد بذل كل ذلك الجهد.
والفلاح أيضا مأخوذ من فلح الحديد، أي : شق الحديد، ككتل أو كقطع، ولا يصلح إلا إذا أخذ الحديد الشكل المناسب للاستعمال.
وقول الحق سبحانه :﴿ ولا يفلح الساحرون.. ( ٧٧ ) ﴾[ يونس ] : هو لفت لنا أن السحر نوع من التخييل، وليس حقيقة واقعة.
ولذلك قال الحق سبحانه في موضع آخر من القرآن :﴿ سحروا أعين الناس.. ( ١١٦ ) ﴾[ الأعراف ].
وقال الحق سبحانه أيضا :﴿ .. فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى( ٦٦ ) ﴾[ طه ] : إذن : فالسحر هو التخييل فقط( ٥ ) وليس تغييرا للحقيقة.
ولأن معجزة موسى-عليه السلام-تحدت كل القدرات( ٦ ) ؛ لذلك أعلن فرعون التعبئة العامة بين كل من له علاقة بالسحر، الذي هم متفوقون فيه، أو حتى من لهم شبهة معرفة بالسحر( ٧ ).
ولأن السحر مجرد تخييل، وجدنا السحرة حين اجتمعوا وألقوا حبالهم وعصيهم، ثم ألقى موسى عصاه، فإذا بعصاه قد تحولت إلى حية تلقف( ٨ ) ما صنعوا، وهنا ماذا فعل السحرة ؟ يقول الحق سبحانه وتعالى في سورة طه :﴿ فألقى السحرة سجدا قالوا آمنا برب هارون وموسى( ٧٠ ) ﴾[ طه ] : لأن الساحر يرى ما يفعله على حقيقته، وهم خيلوا لأعين الناس، لكنهم يرون حبالهم مجرد حبال أو عصيهم مجرد عصى.
أما عصى موسى-عليه السلام-فلم تكن تخييلا، بل وجدها السحرة حية حقيقية، ولقفت بالفعل ما صنعوا ؛ لذل خروا( ٩ ) ساجدين، وأعلنوا الإيمان برب موسى وهارون.
هم-إذن-لم يعلنوا الإيمان بموسى وهارون، بل أعلنوا الإيمان :﴿ برب هارون وموسى.. ( ٧٠ ) ﴾[ طه ] : لأنهم عرفوا بالتجربة أن ما ألقاه موسى ليس سحرا، بل هو من فعل خالق أعلى.
وكان ثبات موسى-عليه السلام-في تلك اللحظة نابعا من التدريب الذي تلقَّاه من ربه، فقد سأله الحق سبحانه :﴿ وما تلك بيمينك يا موسى( ١٧ ) قال هي عصاي أتوكأ( ١٠ ) عليها وأهش( ١١ ) بها على غنمي.. ( ١٨ ) ﴾[ طه ].
وقد أجمل موسى وفصل في الرد على الحق سبحانه ؛ إيناسا وإطالة للأنس بالله تعالى، وحين رأى أنه أطال الإيناس أوجز وقال بأدب :﴿ .. ولي فيها مآرب( ١٢ ) أخرى( ١٨ ) ﴾[ طه ] : إذن : فقد أدركته أولا شهوة الأنس بالله تعالى، وأدرك ثانيا أدب التخاطب مع الله تعالى، ودرَّبه الحق سبحانه على مسألة العصا حين أمره أولا أن يلقيها، فصارت أمامه حية تسعى، ولو كانت من جنس السحر لما أوجس( ١٣ ) منها خيفة ولرآها مجرد عصا.
إذن : فالفرق بين معجزة موسى وسحرة فرعون، أن سحرة فرعون سحروا أعين الناس وخيل إلى الناس من سحرهم أن عصيهم وحبالهم تسعى، لكن معجزة موسى-عليه السلام-في إلقاء العصا، عرفوا هم بالتجربة أن تلك العصا قد تغيرت حقيقتها.
والعصا-كما نعلم- أصلها فرع من شجرة، وكان باستطاعة الحق سبحانه وتعالى أن يجعلها تتحول إلى شجرة مثمرة، لكنها كانت ستظل نباتا.
وشاء الحق سبحانه أن ينقلها إلى المرتبة الأعلى من النبات ؛ وهي المرحلة الحيوانية، فصارت حية تلقف كل ما ألقاه السحرة.
١ اللجلجة والتلجلج: التردد في الكلام، والاختلاط والاضطراب فيه. ولذلك قيل:"الحق أبلج، والباطل لجلج". أي: أن الحق واضح قوي ظاهر، أما الباطل فهو ضعيف مضطرب لا ثبات له.[لسان العرب: مادة (ل ج ج)-بتصرف]..
٢ يقول الحق سبحانه:﴿وأوحينا على موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون(١١٧) فوقه الحق وبطل ما كانوا يعملون(١١٨)﴾[الأعراف]..
٣ المعجزة هي: الأمر الخارق للعادة يجريها الله على يد النبي أو الرسول تأييدا له وتصديقا لرسالته، كمعجزات موسى وعيسى عليهما السلام انقلاب العصا حية وانفلاق البحر وإبراء الأكمه والأبرص. وخص صلى الله عليه وسلم بمعجزة القرآن الخالدة، وله صلى الله عليه وسلم معجزات حسية كنبوع الماء من بين يديه صلى الله عليه وسلم..
٤ دربة: عادة وخيرة آو تدريب..
٥ سحر قوم فرعون هو من نوع سحر التخييل والأخذ بالعيون، ومبناه على أن البصر قد يخطئ ويشتغل بالشيء المعين دون غيره؛ لذلك قال تعالى:﴿سحروا أعين الناس..(١١٦)﴾[الأعراف]. وقال تعالى:﴿.. يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى(٦٦)﴾[طه]..
٦ السحر: هو التأثير الشديد، فإن كان من المخلوق فهو تخيل وحيل، وإن كان من الخالق فهو إعجاز وتغيير ماهية الشيء بقدرته سبحانه؛ ولذلك انتصر موسى-عليه السلام-على السحرة؛ لأن الله سبحانه أعانه عليهم بقدراته التي لا راد لها..
٧ وذلك أن فرعون من مكره جعل الملأ من حوله هم الذين يصعدون المواجهة مع موسى بأن قال لهم:﴿.. إن هذا لساحر عليم(٣٤) يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون(٣٥)﴾[الشعراء]. فكان ردهم عليه أن قالوا له:﴿أرجه وأخاه وابعث في المدائن حاشرين(٣٦) يأتوك بكل سحار عليم(٣٧)﴾[الشعراء]..
٨ اللقف: سرعة الأخذ والتناول.[اللسان: مادة (ل ق ف)]..
٩ خر: سقط ووقع. والمراد أنهم أسرعوا بالسجود لله رب العالمين..
١٠ أتوكأ عليها: أتحمل واعتمد ؟استند عليها.[اللسان: مادة (و ك أ)[-بتصرف]...
١١ ﴿وأهش بها على غنمي..(١٨)﴾[طه] أي: أهز بها الشجر لتتساقط أوراقه لترعاه غنمي. نقله ابن كثير في تفسيره (٣/١٤٥)..
١٢ مآرب أخرى: أي: مصالح وحاجات ومنافع أخرى غير ذلك..
١٣ أوجس: أي: وقع في نفسه وقلبه الخوف والفزع.[انظر اللسان مادة وجس] وقد وقع هذا الخوف لاثنين من الأنبياء ذكرهما القرآن: الأول إبراهيم عليه السلام عندما جاءته الملائكة في صورة بشر ليبشروه بإسحاق ويعقوب، وقد ذكر هذا في القرآن مرتين: الأولى في سورة هود:﴿ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ(٦٩) فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط(٧٠)﴾]هود]. أما الثانية ففي سورة الذاريات آية ٢٨.
أما النبي الثاني فهو موسى عليه السلام:﴿قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى(٦٥) قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى(٦٦) فأوجس في نفسه خيفة موسى(٦٧) قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى(٦٨)﴾[طه].

ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ قالوا أجئتنا لتلفتنا( ١ ) عما وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما( ٢ ) الكبرياء( ٣ ) في الأرض وما نحن لكما بمؤمنين( ٧٨ ) ﴾ :
وهنا نجد سحرة فرعون ينسبون مجيء معجزة تحول العصا إلى حية، ينسبونها لموسى-عليه السلام-رغم أمن موسى عليه السلام قد نسب مجيء المعجزة إلى الله تعالى.
وكان واجب المرسل إليه-فرعون وملئه أن ينظر إلى ما جاءه به الرسول، لا إلى شخصية الرسول( ٤ ).
ولو قال فرعون لموسى :" جيء بك " لكان معنى ذلك أن فرعون يعلن الإيمان بأن هناك إلها أعلى، ولكن فرعون لم يؤمن لحظتها ؛ لذلك جاء قوله :﴿ أجئتنا ﴾ فنسب المجيء على لسان فرعون لموسى عليه السلام.
ولماذا المجيء ؟
يقول الحق سبحانه على لسان فرعون وقومه :﴿ أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا.. ( ٧٨ ) ﴾[ يونس ] : والالتفات هو تحويل الوجه عن شيء مواجه له، وما دام الإنسان بصدد شيء ؛ فكل نظره واتجاهه يكون إليه، وكان قوم فرعون على فساد وضلال، وليس أمامهم إلا ذلك الفساد وذلك الضلال.
وجاء موسى عليه السلام ؛ ليصرف وجوههم عن ذلك الفساد والضلال، فقالوا :﴿ أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا.. ( ٧٨ ) ﴾[ يونس ] : وهكذا يكشفون حقيقة موقفهم، فقد كانوا يقلدون آباءهم، والتقليد يريح المقلّد، فلا يعمل عقله أو فكره في شيء ليقتنع به، ويبني عليه سلوكه( ٥ ).
والمثل العامي يصور هذا الموقف بعمق شديد حين يقول :" مثل الأطرش في الزفة " أي : أن فاقد السمع لا يسمع ما يقال من أي جمهرة، بل يسير مع الناس حيث تسير، ولا يعرف له اتجاها.
والمقلد إنما يعطل فكره، ولا يختار بين البدائل، ولا يميز الصواب ليفعله، ولا يعرف الخطأ فيتجنَّبه.
وفرعون وملؤه كانوا على ضلال، هو نفس ضلال الآباء، والضلال لا يكلف الإنسان تعب التفكير ومشقة الاختيار، بل قد يحقق شهوات عاجلة.
أما تمييز الصواب من الخطأ وإتباع منهج السماء، فهو يحجب الشهوة، ويلزم الإنسان بعدم الانفلات عكس الضلال الذي يطيل أمد( ٦ ) الشهوة. إذن : فالمقلد بين حالتين :
الحالة الأولى : أنه لا يعمل عقله، بل يفعل مثل من سبقوه، أو مثل من يحيا بينهم.
والحالة الثانية : أنه رأى أن ما يفعله الناس لا يلزمه بتكليف، ولكن الرسول الذي يأتي إنما يلزمه بمنهج، فلا يكسب-على سبيل المثال- إلا من حلال، ولا يفعل منكرا، ولا يذم أحدا، وهكذا يقيد المنهج حركته، لكن إن اتبع حركة آبائه الضالين، فالحركة تتسع ناحية الشهوات.
ولذلك أقول دائما : إن مسألة التقليد هذه يجب أن تلفت إلى قانون التربية، فالنشء ما دام لم يصل إلى البلوغ فأنت تلاحظ أنه بلا ذاتية ويقلد الآباء، لكن فور أن تتكون له ذاتية يبدأ في التمرد، وقد يقول للآباء : أنتم لكم تقاليد قديمة لا تصلح لهذا الزمان، لكن إن تشرب النشء القيم الدينية الصحيحة ؛ فسيمتثل لقانون الحق، ويحجز نفسه عن الشهوات.
ونحن نجد أبناء الأسر التي لا تتبع منهج الله في تربية الأبناء وهم يعانون من أبنائهم حين يتسلط عليهم أقران( ٧ ) السوء، فيتجهون إلى ما يوسع دائرة الشهوات من إدمان وغير ذلك من المفاسد.
لكن أبناء الأسر الملتزمة يراعون منهج الله تعالى ؛ فلا يقلدون أحدا من أهل السوء ؛ لأن ضمير الواحد منهم قد عرف التمييز بين الخطأ والصواب.
ثم إن تقليد الآباء قد يجعل الأبناء مجرد نسخ مكررة من آبائهم، أما تدريب وتربية الأبناء على إعمال العقل في كل الأمور، فهذه هي التنشئة التي تتطور بها المجتمعات إلى الأفضل إن اتبع الآباء منهج الله تعالى، وتتكون ذاتية الابن على ضوء منهج الحق سبحانه، فلا يتمرد الابن متجها إلى الشر، بل قد يتمرد إلى تطوير الصالح ليزيده صلاحا.
التقليد-إذن-يحتاج إلى بحث دقيق ؛ لأن الإنسان الذي سوف تقلده، لن يكون مسئولا عنك ؛ لأن الحق سبحانه وتعالى هو القائل :﴿ يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزي والد عن والده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا.. ( ٣٣ ) ﴾[ لقمان ] : إذن : فأمر الابن يجب أن يكون نابعا من ذاته، وكذلك أمر الأب، وعلى كل إنسان أن يعمل عقله بين البدائل( ٨ ).
ولذلك تجد القرآن الكريم يقول على ألسنة من قلدوا الآباء :﴿ وإذ قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا( ٩ ) عليه آباءنا.. ( ١٧٠ ) ﴾[ البقرة ] : فإذا كانت المسألة مسألة تقليد، فلماذا يتعلم الابن ؟ ولماذا لا ينام الأبناء على الأرض ولا يشترون أسرة ؟ ولماذا ينجذبون على التطور في الأشياء والأدوات التي تسهل الحياة ؟
فالتقليد هو إلغاء العقل والفكر، وفي إلغائهما إلغاء التطور والتقدم نحو الأفضل.
إذن : فالقرآن يحثنا على أن نستخدم العقل ؛ لنختار بين البدائل، وإذا كان المنهج قد جاء من السماء، فلتهتد بما جاء لك ممن هو فوقك، وهذا الاهتداء المختار هو السمو نحو الحياة الفاضلة.
يقول الحق سبحانه :﴿ وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا( ١٠ ) ما وجدنا عليه آباءنا.. ( ١٠٤ ) ﴾[ المائدة ] : أي : أنهم أعلنوا أنهم في غير حاجة للمنهج السماوي فرد عليهم القرآن :﴿ .. أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون( ١٠٤ ) ﴾[ المائدة ] : وهكذا نجد أن القرآن قد جاء بموقفين في آيتين مختلفتين عن المقلدين :
الآية الأولى : هي التي يقول فيها الحق سبحانه وتعالى :﴿ .. بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون( ١٧٠ ) ﴾ [ البقرة ].
والآية الثانية : هي قول الحق سبحانه وتعالى :﴿ .. حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون( ١٠٤ ) ﴾ [ المائدة ] : وهم في هذه الآية أعلنوا الاكتفاء بما كان عليه آباؤهم.
وهناك فارق بين الآيتين، فالعاقل غير من لا يعلم ؛ لأن العاقل قادر على الاستنباط، ولكن من لا يعلم فهو يأخذ من استنباط غيره.
إذن : فالذين اكتفوا بما عند آبائهم، وقالوا :﴿ حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا.. ( ١٠٤ ) ﴾[ المائدة ] : هؤلاء هم الذين غالوا في الاعتزاز بما كان عند آبائهم ؛ لذلك جاء في آبائهم القول بأنهم لا يعلمون.
أي : ليس لهم فكر ولا علم على الإطلاق، بل يعيشون في ظلمات من الجهل.
وهنا يقول الحق سبحانه على لسان فرعون وقومه :﴿ قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما الكبرياء في الأرض.. ( ٧٨ ) ﴾[ يونس ] : أي : هل جئت لتصرفنا، وتحوّل وجوهنا أو جهتنا أو طريقنا وتأخذنا عن وجهة آبائنا الذين نقلدهم } لتأخذ أنت وأخوك الكبرياء في الأرض ؟
وهكذا يتضح أنهم يعتقدون أن الكبرياء الذي لهم في الأرض قد تحقق لهم بتقليدهم آباءهم، وهم يحبون الحفاظ عليه، والأمر هنا يشمل نقطتين :
الأولى : هي ترك ما وجدوا عليه الآباء.
والثانية : هيب الكبرياء( ١١ ) والعظمة في الأرض.
ومثال ذلك : حين يقول مقاتل لآخر :" ارم سيفك " وهي تختلف عن قوله :" هات سيفك "، فرمي السيف تجريد من القوة، لكن أخذ السيف يعني إضافة سيف آخر إلى ما يملكه المقاتل الذي أمر بذلك.
وهم هنا وجدوا في دعوة موسى عليه السلام مصيبة مركبة. الأولى : هي ترك عقيدة الآباء.
والثانية : هي سلب الكبرياء، أي : السلطة الزمنية والجاه والسيادة والعظمة والائتمار( ١٢ )، والمصالح المقضية، فكل واحد من بطانة( ١٣ ) الفرعون يأخذ حظه حسب اقترابه من الفرعون.
ولذلك أعلنوا عدم الإيمان، وقالوا ما ينهي به الحق سبحانه الآية الكريمة التي نحن بصددها :﴿ وما نحن لكما بمؤمنين( ٧٨ ) ﴾[ يونس ] : أي : أن قوم فرعون والملأ أقرُّوا بما حرصوا عليه من مكاسب الدنيا والكبرياء فيها، ورفضوا الإيمان بما جاء به موسى وهارون-عليهما السلام.
١ لتلفتنا: لتثنينا وتبعدنا عن آلهة الآباء والأجداد..
٢ لكما: أي: لموسى وهارون عليهما السلام..
٣ الكبرياء: العظمة والرياسة.[ابن كثير ٢/٤٢٦]..
٤ فمما قاله فرعون عن موسى يطعن في شخصيته ما حكاه رب العزة في قوله تعالى:﴿ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون(٥١) أو أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين(٥٢)﴾[الزخرف] وذلك أن موسى كان لسانه لا ينطلق بالكلام، وقد عبر عن ذلك في دعائه:﴿قال رب اشرح لي صدري(٢٥) ويسر لي أمري(٢٦) واحلل عقدة من لساني(٢٧) يفقهوا قولي(٢٨)﴾[طه]..
٥ وهذا التقليد نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه، فعن حذيفة بن اليمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا تكونوا إمعة، تقولون: إن أحسن الناس أحسنا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا فلا تظلموا" أخرجه الترمذي في سننه (٢٠٠٧) وقال: حيث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه..
٦ أمد الشهوة: غايتها. والأمد: منتهى الأجل. وقد وردت هذه اللفظة ثلاث مرات في القرآن، فقال تعالى:﴿قل إن أدري أقريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمدا(٢٥)﴾[الجن] أي: زمانا بعيدا. وقال سبحانه:﴿يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا..(٣٠)﴾[آل عمران] أي: في غاية البعد. وقال تعالى:﴿ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا(١٢)﴾[الكهف] أي: مدة وزمانا..
٧ أقران: جمع قرن(بكسر القاف وتسكين الراء) وهو النظير والمثيل. والمراد بأقران السوء: أصدقاء السوء ورفقاء الشر والرذائل.[لسان العرب: مادة (ق ر ن)-بتصرف]..
٨ البدائل: ما يصلح لن يختار منه الإنسان، فهي مواضع الاختيار في التكليف، فله أن يختار بين الإيمان والكفر، الطاعة والمعصية، قال تعالى:﴿ونفس وما سواها(٧) فألهمها فجورها وتقواها(٨) قد أفلح من زكاها(٩) وقد خاب من دساها(١٠)﴾[الشمس]..
٩ ألفينا: وجدنا. ألفى الشيء وجده. قال تعالى:﴿إنهم ألفوا آباءهم ضالين(٦٩)﴾[الصافات]، وقال:﴿وألفينا سيدها لدا الباب..(٢٥)﴾[يوسف] أي: وجداه..
١٠ حسبنا: يكفينا. وهناك فارق بين قوله الكافرين المقلدين لآبائهم هنا، وبين قول المؤمنين لهذه الكلمة:﴿حسبنا﴾، فالمؤمنون قالوا:﴿.. حسبنا الله ونعم الوكيل(١٧٣)﴾[آل عمران[، وقالوا:﴿حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله..(٥٩)﴾[التوبة]، فالمؤمنون اكتفوا بما جاءهم عن الله وأوكلوا الأمر إلى الله رغم معاداة الآباء لهم ورغم أن موقفهم هذا سيضرهم في دنياهم وقد يقطع أرزاقهم، فهم قد نظروا إلى الآخرة، أما الكافرون فإنهم يعيشون دنياهم بكل ما فيها من ملذات وشهوات..
١١ الكبرياء: العظمة والملك. وهي عبارة عن كمال الذات وكمال الوجود، ولا يوصف بها إلا الله تعالى. قال صاحب "القاموس القويم" هي العظمة والتجبر والسلطان والسيطرة، وهي في حق الله سبحانه العظمة الحق، والسلطان القوي، والسيطرة الكاملة" بتصرف..
١٢ الائتمار: التشاور في الأمر والتواصي به. ويسمى التشاور ائتمارا لأن المتشاورين يقبل بعضهم أمر بعض. ومنه قوله تعالى:﴿وجاء رجل من أقصا المدينة يسعى قال يا موسى عن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك..(٢٠)﴾[القصص].[القاموس القويم. وانظر تفسير ابن كثير ٣/٣٨٣]..
١٣ بطانة الرجل: خاصته.[لسان العرب: مادة (ب ط ن)]..
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ وقال فرعون ائتوني بكل ساحر عليم( ٧٩ ) ﴾ :
وكان فرعون يعلم تقدم السحرة في دولته، ويكفي أنه شخصيا خيل للناس أنه إله، وجاء أمره أن يأتي أعوانه بالسحرة، فور أن قال الأمر جيء بالسحرة.
وأورد الحق سبحانه في الآية التي بعد ذلك :
﴿ فلما جاء السحرة قال لهم موسى القوا ما أنتم ملقون( ٨٠ ) ﴾ :
وكأن المسافة بين نطق فرعون بالأمر وبين تنفيذ الأمر هي أضيق مسافة وقتية، وذلك حتى نفهم أن أمر صاحب السلطان لا يحتمل من الناس التأجيل أو التباطؤ في التنفيذ.
والقرآن حينما يعالج أمرا من الأمور فهو يعطي صورة دقيقة للواقع، ولا يأتي بأشياء تفسد الصورة.
يقول الحق سبحانه :﴿ فلما جاء السحرة قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون( ٨٠ ) ﴾[ يونس ] : وفي هذه الآية تلخيص للموقف كله، فحين علم السحرة أن فرعون يحتاجهم في ورطة( ١ ) تتعلق بالحكم، فهذه مسألة صعبة وقاسية، وعليهم أن يسرعوا إليه.
ولم يأت الحق سبحانه هنا بالتفصيل الكامل لذلك الموقف ؛ لأن القصة تأتي بنقاطها المختلفة في مواضع أخرى من القرآن، وكل آية توضح النقطة التي تأتي بذكرها( ٢ ).
لذلك لم يقل الحق سبحانه هنا : إن أعوان فرعون نادوا في المدائن( ٣ ) ليأتي السحرة، مثلما جاء في مواضع أخرى من القرآن( ٤ ).
ولم يقل لنا إن السحرة أرادوا أن يستفيدوا من هذه المسألة، وقالوا للفرعون( ٥ ) :
﴿ .. إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين( ١١٣ ) ﴾[ الأعراف ] : ووضع مثل هذا الشرط يوضح لنا بطبيعة العلاقات في ذلك المجتمع، فطلبهم للأجر، يعني أن عملهم مع الفرعون من قبل ذلك كان تسخيرا وبدون أجر، ولما جاءتهم الفرصة ورأوا الفرعون في أزمة ؛ طالبوا بالأجر.
ووعدهم فرعون بالأجر، وكذلك وعدهم أن يكونوا مقربين( ٦ ) ؛ لأنهم لو انتصروا بالسحر على معجزة موسى ؛ ففي ذلك العمل محافظة وصيانة للملك، ولا بد أن يصبحوا من البطانة المستفيدة، ووعدهم الفرعون بذلك شحذا لهمتهم ليبادروا بإبطال معجزة موسى ؛ ليستقر عرش الفرعون.
وشاء الحق سبحانه الإجمال هنا في هذه الآية-التي نحن بصدد خواطرنا عنها-وجاء ببقية اللقطات في المواضع الأخرى من القرآن.
وهنا يقول الحق سبحانه :﴿ فلما جاء السحرة قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون( ٨٠ ) ﴾[ يونس ] : وألقى السحرة عصيهم وحبالهم.
١ الورطة: الرحل تقع فيه الغنم فلا تقدر على التخلص منه. يقال: تورطت الغنم إذا وقعت في ورطة، ثم صار ممثلا لكل شدة وقع فيها الإنسان. وتورط فلان في الأمر، واستورط فيه" إذا ارتبك فيه، فلم يسهل له المخرج منه.[لسان العرب: مادة (و ر ط)]..
٢ وهذه ميزة القصص القرآني في الإشارة على قصصه عدا قصة يوسف عليه السلام..
٣ المدائن: جمع مدينة، وهي القرى الكبيرة. وقد ورد هذا الجمع في القرآن خاصا بقصة موسى ثلاث مرات، أما المفرد منه فقد جاء ١٤ مرة منها ٤ مرات خاصة بمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم [التوبة: ١٢٠، ١٠١][الأحزاب: ٦٠] [المنافقون: ٨]..
٤ وذلك في قوله تعالى عن سحرة فرعون:﴿قالوا أرجه وأخاه وأرسل في المدائن حاشرين(١١١)﴾[الأعراف]، وقال تعالى:﴿قالوا أرجه وأخاه وابعث في المدائن حاشرين(٣٦)﴾[الشعراء]..
٥ فرعنة: الفرعنة الكبر والتجبر، وفرعون الذي ذكر في كتاب الله ترك صرفه في قول بعضهم؛ لأنه لا سمى له وكإبليس فيمن أخذه من أبلسه. وقال ابن سيده: عن فرعون علم أعجمي. ولذلك لم يصرف. الجوهري: فرعون لقب الوليد بن مصعب ملك مصر، وكل عات فرعون، والعتاة الفراعنة، وقد تفرعن، وهو فرعنة أي دهاء وتكبرا. وقيل: الفرعون بلغة القبط: التمساح (لسان العرب) وقيل في القاموس القويم: فرعون لقب يسمى به كل ملك في مصر في الزمن القديم، وفرعون موسى هم منفتاح، وقيل رمسيس الثاني. والعبرة بالأحداث لا بذات فرعون، قال تعالى:﴿اذهب إلى فرعون إنه طغى(٣٤)﴾[طه] والله أعلم...
٦ ساقطة وذلك أن السحرة عندما طلبوا الأجر بقولهم:﴿.. إن لنا لأجر إن كنا نحن الغالبين(١١٣)﴾[الأعراف] قال فرعون:﴿.. نعم وإنكم لمن المقربين(١١٤)﴾[الأعراف] فزادهم القرب منه فوق الأجر؛ لذلك جاء عقابه لهم شديدا بعدما اتبعوا موسى؛ لأن ما وعدهم به كان عظيما، فجاء العقاب على قدره..
ويقول الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك :
﴿ فلما ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين( ٨١ ) ﴾ :
ونحن نعلم أن الحق سبحانه هنا شاء الإجمال، ولكنه بين بالتفصيل ما حدث، في آية أخرى، قال فيها سبحانه عن السحرة :﴿ قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين( ١١٥ ) ﴾[ الأعراف ] : ونحن نعلم أن المواجهة تقتضي من كل خصم أن يدخل بالرعب على خصمه ؛ ليضعف معنوياته.
وهنا أوضح لهم موسى-عليه السلام-أن ما أتوا به هو سحر ومجرد تخييل.
وقد أعلم الحق سبحانه نبيه موسى-عليه السلام- أن عصاه ستصير حية حقيقية، بينما ستكون عصيهم وحبالهم مجرد تخييل( ١ ) للعيون.
وقال لهم موسى-عليه السلام-حكم الله تعالى في ذلك التخييل :﴿ .. ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين( ٨١ ) ﴾[ يونس ] : وهكذا جاء القول الفصل الذي أنهى الأمر وأصدر الحكم فيما فعل فرعون وملؤه( ٢ ) والسحرة، فكل أعمالهم كانت تفسد في الأرض، ولولا ذلك لما بعث الله سبحانه إليهم رسولا مؤيدا بمعجزة من صنف ما برعوا فيه، فهم كانوا قد برعوا فيه، فهم كانوا قد برعوا في السحر، فأرسلا إليهم الحق سبحانه معجزة حقيقية تلتهم ما صنعوا، فإن كانوا قد برعوا في التخييل، فالله سبحانه خلق الأكوان بكلمة " كن " وهو سبحانه يخلق حقائق لا تخييلات.
ولذلك يقول الحق سبحانه من بعد ذلك :
﴿ ويحق الله الحق بكلماته( ٣ ) ولو كره المجرمون( ٨٢ ) ﴾ :
١ والخيال ما تشبه لك في اليقظة أو في النوم من صورة. والظل: ما يتصوره ذهنك من شيء-والخيال إحدى قوى العقل التي يتخيل بها الأشياء، ويتصورها.
قال تعالى:﴿.. يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى(٦٦)﴾[طه] أي: تشبه له، ويصور له بسبب سحرهم أنها تسعى كالحيات، والحقيقة أنها ليست حيات، ولكنه توهم وتخيل (القاموس القويم)..

٢ ملؤه: آل فرعون ومن يرجع إليهم..
٣ يحق: يثبت ويظهر. بكلماته: بمواعيده [تفسير الجلالين: ص ١٨٦]..
فالمسالة التي يشاؤها سبحانه تتحقق بكلمة " كن " فيكون الشيء.
وقوله سبحانه وتعالى :﴿ إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون( ٨٢ ) ﴾[ يس ] :
و " كن فيكون " عبارة طويلة بعض الشيء عند وقوع المطلوب، ولكن لا توجد عبارة أقصر منها عند البشر ؛ لأن الكاف والنون لهما زمن، وما يشاؤه الله سبحانه لا يحتاج منه إلى زمن، والمراد من الأمر " كن " أن الشيء يوجد قبل كلمة " كن " ؛ لأن كل موجود إنما يتحقق ويبرز بإرادة الله تعالى.
ويريد الحق سبحانه هنا أن يبين لنا أن الحق إنما يأتي على ألسنة الرسل، ومعجزاتهم دليل على رسالتهم ؛ ليضع أنوف المجرمين في الرغام( ١ )، وليريح العالم من إضلالهم ومن مفاسدهم.
١ الرغام: التراب. والمراد: إذلالهم وعقابهم على عصيانهم وإجرامهم..
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ فما آمن لموسى إلا ذرية( ١ ) من قومه على خوف من فرعون وملئهم( ٢ ) أن يفتنهم( ٣ ) وإن فرعون لعال( ٤ ) في الأرض وإنه لمن المسرفين( ٥ )( ٨٣ ) ﴾ :
وإذا كان السحرة-وهم عدة فرعون وعتاده لمواجهة موسى-أعلنوا الإيمان، فعاقبهم الفرعون وقال :﴿ آمنتم له قبل أن آذن لكم.. ( ٧١ ) ﴾[ طه ] : فهذا يدل على أن فكرة الألوهية كانت ما تزال مسيطرة على عقله ؛ ولذلك خاف الناس من إعلان الإيمان ؛ ولذلك قال الحق سبحانه :﴿ فما آمن لموسى إلا ذرية.. ( ٨٣ ) ﴾[ يونس ] : وكلمة " ذرية " تفيد الصغار الذين لم تلمسهم خميرة من الفساد الذي كان منتشرا، كما أن الصغار يتمتعون بطاقة من النقاء، ويعيشون في خلوّ من المشاكل، ولم يصلوا على مرتبة السيادة التي يحرص عليها، ومع ذلك فهم قد آمنوا :﴿ على خوف( ٦ ) من فرعون وملئهم.. ( ٨٣ ) ﴾[ يونس ] : وكلمة ﴿ على خوف ﴾ تفيد الاستعلاء، مثل قولنا :" على الفرس " أو " على الكرسي " ويكون المستعلي في هذه الحالة متمكنا من " المستعلي عليه " ؛ ومن يستعلي إنما يركب المستعلي، ويحمل المستعلي العبء.
ولكن من استعمالات " على " أنها تأتي بمعنى " مع ".
ومثال ذلك هو قول الحق سبحانه :﴿ ويطعمون الطعام على حبه.. ( ٨ ) ﴾[ الإنسان ] : أي : ويطعمون الطعام مع حبه.
وحين يأتي الحق سبحانه بحرف مقام حرف آخر فلا بد من علة لذلك. ومثال ذلك هو قول الحق سبحانه وتعالى :﴿ فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل.. ( ٧١ ) ﴾[ طه ] : جاء الحق سبحانه بالحرف " في " بدلا من " على " ؛ ليدل على أن عملية الصلب ستكون تصليبا قويا، بحيث تدخل أجزاء المصلوب في المصلوب فيه.
وكذلك قول الحق سبحانه وتعالى :﴿ ويطعمون الطعام على حبه.. ( ٨ ) ﴾[ الإنسان ] : فكأنهم هم المستعلون على الحب ؛ ليذهب بهم حيث يريدون.
وكذلك قول الحق سبحانه وتعالى :﴿ على خوف.. ( ٨٣ ) ﴾[ يونس ] : أي : أنهم فوق الخوف يسير بهم إلى دهاليز توقع الآلام( ٧ ).
وهم هنا آمنوا :﴿ على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم.. ( ٨٣ ) ﴾[ يونس ] : والكلام هنا من الحق الأعلى سبحانه يبين لنا أن الخوف ليس من فرعون ؛ لأن فرعون إنما يمارس التخويف بمن حوله، فمثلهم مثل زوار الفجر في أي دولة لا تقيم وزنا لكرامة الإنسان.
وفرعون في وضعه ومكانته لا يباشر التعذيب بنفسه، بل يقوم به زبانيته.
والإشارة هنا تدل على الخوف من شيعة فرعون وملئهم.
وقال الحق سبحانه هنا :﴿ يفتنهم ﴾، ولم يقل :" يفتنوهم " ؛ ليدلنا على ملحظ أن الزبانية لا يصنعون التعذيب لشهوة عندهم، بل يمارسون التعذيب لشهوة عند الفرعون. وهكذا جاء الضمير مرة جمعا، ومرة مفردا ؛ ليكون كل لفظ في القرآن جاذبا لمعناه.
وحين أراد المفسرون أن يوضحوا معنى ( ذرية ) قالوا( ٨ ) : إن المقصود بها امرأة فرعون( آسية )، وخازن فرعون، وامرأة الخازن، وماشطة فرعون، ومن آمن من قوم موسى-عليه السلام-وكتم إيمانه.
كل هؤلاء منعتهم خشية عذاب فرعون من إعلان الإيمان برسالة موسى ؛ لأن فرعون كان جبارا في الأرض، مدعيا للألوهية، وإذا ما رأى فرعون إنسانا يخدش ادعاءه للألوهية ؛ فلا بد أن يبطش به بطشة فاتكة.
لذلك كانوا على خوف من هذا البطش، فقد سبق وأن ذبح فرعون-بواسطة زبانيته-أبناء بني إسرائيل واستحيا نساءهم( ٩ )، وهم خافوا من هؤلاء الزبانية الذين نفذوا ما أراده فرعون.
ولذلك جاء الضمير مرة تعبيرا عن الجمع في قوله سبحانه وتعالى :﴿ وملئهم.. ( ٨٣ ) ﴾[ يونس ] : وجاء الضمير مفردا معبرا عن فرعون الآمر في قوله سبحانه وتعالى :﴿ أن يفتنهم.. ( ٨٣ ) ﴾[ يونس ] : فهم خافوا أن يفتنهم فرعون بالتعذيب الذي يقوم به أعوانه.
والحق سبحانه وتعالى هو القائل :﴿ .. وإن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين( ٨٣ ) ﴾[ يونس ] : والمسرف : هو الذي يتجاوز الحدود. وهو قد تجاوز في إسرافه وادعى الألوهية.
وقد قال الحق سبحانه ما جاء على لسان فرعون :﴿ .. أنا ربكم الأعلى( ٢٤ ) ﴾[ النازعات ].
وقال الحق سبحانه أيضا :﴿ وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري.. ( ٣٨ ) ﴾[ القصص ] : وعلا فرعون في الأرض علو طاغية من البشر على غيره من البشر المستضعفين.
وقال الحق سبحانه على لسان فرعون :﴿ أليس لي ملك مصر( ١٠ ) وهذه الأنهار تجري من تحتي.. ( ٥١ ) ﴾[ الزخرف ] : إذن : فقد كان فرعون مسرفا أشد الإسراف.
١ ذرية: طائفة (جماعة) من أولاد قوم فرعون [تفسير الجلالين ص ١٨٦]. وقيل: من بني إسرائيل [مختصر تفسير الطبري: ص ٢٣٩]..
٢ ملئهم: آل فرعون والمقربون منه والموافقون له..
٣ يفتنهم: يصرفهم عن دينهم بتعذيبه لهم..
٤ عال في الأرض: جبار مستكبر. والمراد بالأرض هنا أرض مصر..
٥ المسرفين: المتجاوزين الحد بإدعاء الربوبية.[تفسير الجلالين: ص ١٨٦]..
٦ الخوف هو الفزع حدوث مكروه، أو فوت أمر محبوب، والخوف ضد الأمن، قال تعالى:﴿الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف(٤)﴾[قريش] وقال:﴿فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم(١٨٢)﴾[البقرة] أي: فزع لتوقعه ظلم الموصى وجوره خوفه جعله يخاف. قال تعالى:﴿.. ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا(٦٠)﴾[الإسراء] وخوفه فلانا أي: جعله يخافه يتعدى لمفعولين قال تعالى:﴿إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه..(١٧٥)﴾[آل عمران]..
٧ من معاني الحرف (على): الاستعلاء؛ وهو أكثر معانيه استعمالا، نحو قوله تعالى:﴿تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض..(٢٥٣)﴾[البقرة]. والظرفية؛ نحو قوله تعالى:﴿ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها..(١٥)﴾[القصص] أي: في حين غفلة. والمصاحبة؛ نحو قوله تعالى:﴿.. وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم(٦)﴾[الرعد] أي: مع ظلمهم؛ ونحو قوله تعالى:﴿ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا(٨)﴾[الإنسان]. أي: مع حبهم للمال. ومن معانيها أيضا: أن تكون بمعنى (من) نحو قوله تعالى:﴿ويل للمطففين(١) الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون(٢)﴾[المطففين] أي: من الناس. ومن معاني (على) أيضا: المجاوزة، والتعليل، والإضراب، وأن تكون بمعنى الباء. انظر تفصيل ذلك في [النحو الوافي:(٢/٥٠٩-٥١٢)]..
٨ هذا قول ابن عباس، ذكره القرطبي في تفسيره(٤/٣٢٩٦) وعلى هذا يكون الضمير في ﴿قومه﴾ عائدا على فرعون. وقد ذكر القرطبي قولا آخرا-ونسبه للفراء-يجعل الضمير يحتمل عوده على موسى وفرعون في نفس الوقت، باعتبار أن الذرية أقوام آباؤهم من القبط أي: آل فرعون وأمهاتهم من بني إسرائيل..
٩ ساقطة استحياء النساء: أي: تركهم أحياء. وقد كان بنو إسرائيل واقعين تحت الإيذاء والاستضعاف من قبل أن يأتيهم موسى، فبطش فرعون بهم كان مستمرا، ولذلك قالوا لموسى:﴿قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا..(١٢٩)﴾[الأعراف]، وقد قال سبحانه عن فترة إيذاء فرعون لبني إسرائيل قبل مجيء موسى:﴿إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين(٤)﴾[القصص]..
١٠ المصر: البلد العظيم، قال تعالى:﴿واهبطوا مصرا..(٦١)﴾[البقرة] أي: بلدا عظيما كبيرا.
ومصر بغير تنوين هي بلادنا العزيزة، قال تعالى:﴿وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته..(٢١)﴾[يوسف] [القاموس القويم]..

ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين( ٨٤ ) ﴾ :
وهنا شرطان، في قوله تعالى :﴿ إن كنتم آمنتم بالله.. ( ٨٤ ) ﴾[ يونس ]، وجاء جواب هذا الشرط في قوله سبحانه :﴿ فعليه توكلوا.. ( ٨٤ ) ﴾[ يونس ]، ثم جاء بشرط آخر هو :﴿ إن كنتم مسلمين.. ( ٨٤ ) ﴾[ يونس ] : وهكذا جاء الشرط الأول وجوابه، ثم جاء شرط آخر، وهذا الشرط الآخر هو الشرط الأول وهو الإسلام لله ؛ لأن الإيمان بالله يقتضي الإسلام وأن يكونوا مسلمين.
ومثال ذلك في حياتنا : حين يريد ناظر إحدى المدارس أن يعاقب تلميذا خالف أوامر المدرسة ونظمها، ويستعطف التلميذ الناظر، فيرد الناظر على هذا الاستعطاف بقوله :" إن جئت يوم السبت القادم قبلتك في المدرسة إن كان معك ولي أمرك ؛ ومجيء ولي الأمر هنا مرتبط بالموعد الذي حدده الناظر لعودة التلميذ لصفوف الدراسة، وهكذا نجد أن الشرط الآخر مرتبط بالشرط الأول.
وهنا يتجلى ذلك في قول الحق سبحانه :﴿ .. إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين( ١ )( ٨٤ ) ﴾[ يونس ].
والإيمان-كما نعلم-عملية وجدانية قلبية، والإسلام عملية ظاهرية، فمرة ينفذ الفرد تعاليم الإسلام( ٢ )، وقد ينفك مرة أخرى من تنفيذ التعاليم رغم إيمانه بالله، ومرة تجد واحدا ينفذ تعاليم الإسلام نفاقا من غير رصيد من إيمان.
ولذلك نجد الحق سبحانه وتعالى يقول :﴿ الذين آمنوا وعملوا الصالحات.. ( ٢٥ ) ﴾[ البقرة ]، ونجده سبحانه يبين هذا الأمر بتحديد قاطع في قوله تعالى :﴿ قالت الأعراب آمنا.. ( ١٤ ) ﴾[ الحجرات ] : والإيمان عملية قلبية ؛ لذلك يأتي الأمر الإلهي :﴿ قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم.. ( ١٤ ) ﴾[ الحجرات ] : أي : أنكم تؤدون فروض الإسلام الظاهرية، لكن الإيمان لم يدخل قلوبكم بعد.
وهنا يقول الحق سبحانه :﴿ إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا.. ( ٨٤ ) ﴾[ يونس ] : وهكذا نرى أن التوكل مطلوب الإيمان، وأن يسلم الإنسان زمانه في كل أمر إلى من آمن به ؛ ولذلك لا ينفع الإيمان إلا بالإسلام، فإن كنتم مسلمين مع إيمانكم فتوكلوا على الله تعالى.
لكن إن كنتم قد آمنتم فقط ولم تسلموا الزمام لله في التكاليف إلى الله في " افعل " و " لا تفعل "، فهذا التوكل لا يصلح.
وهكذا يتأكد لنا ما قلناه من قبل من أنك إذا رأيت أسلوبا فيه شرط تقدم، وجاء جواب بعد الشرط، ثم جاء شرط آخر، فاعلم أن الشرط الأخير هو المقدَّم ؛ لأنه شرط في الشرط الأول( ٣ )، وبالمثل هنا فإن التوكل لن ينشأ إلا بالإسلام مع الإيمان.
١ لأنه لا لإيمان موصول إلا بالإسلام، ولا إسلام واصل إلا بالإيمان، فبينهما تلازم حقيقي لبلوغ المراد..
٢ الإسلام هو الانقياد لله تعالى ولما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الشرائع والأحكام، فهو الانقياد الظاهري لجميع أحكام الإسلام أما الإيمان فهو اعتقاد القلب وتصديقه الجازم الذي لا يدخله شك، قال تعالى:﴿قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا..(١٤)﴾[الحجرات]..
٣ يجوز أن تتوالى أداتان-أو أكثر- من أدوات الشرط، باتصال مباشر، أو غير مباشر. والتوالي مع الاتصال المباشر يكون الاعتبار فيه للأداة الأولى؛ فهي وحدها التي تحتاج لشرط وجواب. أما التوالي مع الاتصال غير المباشر فتكون لكل أداة جملتها الفعلية الشرطية التي تليها مباشرة، وتفصل بينها وبين الأداة الشرطية التي بعدها وتحتاج كل أداة بعد هذا إلى جملة جوابية تخضع لعدة أحكام، منها أنه إذا كان التوالي بغير عطف فالجواب للأداة الأولى وحدها ما لم تقم قرينة تعين غيرها. أما باقي الأدوات التالية فجواب أي منها محذوف لدلالة جواب الأداة الأولى عليه.. انظر تفصيل ذلك في [النحو الوافي: ٤/٤٩٠، ٤٨٩]..
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ فقالوا على الله توكلنا ربنا لا تجعلنا فتنة( ١ ) للقوم الظالمين( ٢ )( ٨٥ ) ﴾ :
أي : أنهم استجابوا لدعوة موسى-عليه السلام-بمجرد قولهم :﴿ على الله توكلنا ﴾.
وإذا تقدم الجار على المجرور فمعنى ذلك قصر وحصر الأمر، وهنا قصر وحصر التوكل على الله تعالى، ولا توكل على سواه.
ويأتي بعد ذلك دعاؤهم :﴿ .. ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين( ٨٥ ) ﴾[ يونس ] : والفتنة : اختبار، وهي-كما قلنا-ليست مذمومة في ذاتها، بل المذموم أن تكون النتيجة في غير صالح من يمر بالفتنة.
ويقال : فتنت الذهب، أي : صهرت الذهب، واستخلصته من كل الشوائب، ونحن نعلم أن صناع الذهب يخلطونه بعناصر أخرى ؛ ليكون متماسكا ؛ لأن الذهب غير المخلوط بعناصر أخرى لا يتماسك.
والفتنة التي قالوا فيها :﴿ .. ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين( ٨٥ ) ﴾[ يونس ] : هي فتنة الخوف من أن يرتد بعضهم عن الإيمان لو انتصر عليهم فرعون وعذبهم، وكأنهم يقولون : يا رب لا تسلط علينا فرعون بعذاب شديد.
هذا إن كانوا مفتونين، فماذا إن كانوا هم الفاتنين ؟
إنهم في هذه الحالة لو لم يتبعوا الدين التتبع الحقيقي لما علم فرعون وآله أن هؤلاء الذين أعلنوا الإيمان هم مسلمون بحق، وهم لو انحرفوا عن الدين لقال عنهم آل فرعون : إنهم ليسوا أهل لإيمان حقيقي.
ونجد سيدنا إبراهيم-عليه السلام-وهو أبو الأنبياء وله قدره العظيم في النبوة، يقول :﴿ ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا.. ( ٥ ) ﴾[ الممتحنة ].
ودعوة إبراهيم عليه السلام تعلمنا ضرورة التمسك بتعاليم الدين ؛ حتى لا ينظر أحد إلى المسلم أو المؤمن ويقول : هذا هو من يعلن الإيمان ويتصرف عكس تعاليم دينه.
ولذلك كان سيدنا إبراهيم-عليه السلام-يؤدي الأوامر بأكثر مما يطلب منه، ويقول فيه الحق سبحانه :﴿ وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن( ٣ ).. ( ١٢٤ ) ﴾[ البقرة ] : أي : أنه كان يتم كل عمل بنية وإتقان ؛ لأنه أسوة( ٤ )، فلم يقم بعمل إيماني بمظهر سطحي.
إذن : فإن كانوا هم المفتونين، فهم يدفعون الفتنة عن أنفسهم، وإن كانوا هم الفاتنين ؛ فعليهم التمسك بتعاليم الدين ؛ حتى لا يتهمهم أحد بالتقصير في أمور دينهم، فيزداد الكافرون كفرا وضلالا.
وجاء قول الحق سبحانه :﴿ .. ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين( ٨٥ ) ﴾[ يونس ] : ليدل على انشغالهم بأمر الدين، فاتنين أو مفتونين.
١ الفتنة: موضع عذاب.[كلمات القرآن: للشيخ حسنين محمد مخلوف]..
٢ لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين: أ]: لا تظهرهم علينا فيظنوا أنهم على الحق؛ فيفتتنوا بنا.[تفسير الجلالين: ص١٨٦]..
٣ ابتلى: اختبر. بكلمات: أوامر ونواه كلفه الله بها..
٤ أسوة: قدوة حسنة..
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ ونجينا برحمتك من القوم الكافرين( ٨٦ ) ﴾ :
وهنا توضح الآية الكريمة أنهم إن كانوا مشغولين بأمر الغير من الكافرين فهذا يعني أنهم طمعوا في إيمان العدو ؛ لعل هذا العدو يعود إلى رشد الإيمان.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه " ( ١ ).
وهم أرادوا لإيمان العدو رغم أنه ظالم.
وهكذا يعلم الحق-سبحانه وتعالى-الخلق أنه من حمق العداوة أن يدعو الإنسان على عدوّه بالشر ؛ لأن الذي يتعبك من عدوك هو شرُّه، ومن صالحك أن تدعو له بالخير ؛ لأن هذا الخير سيتعدى إليك.
وعلى المؤمن أن يدعو لعدوه بالهداية، لأنه حين يهتدي ؛ فلسوف يتعدى النفع إليك، وهذه من مميزات الإيمان أن نفعه يتعدى إلى الغير.
وهم حين دعوا ألا يجعلهم الله فتنة للقوم الظالمين، فإن ذلك يوضح لنا أن الظلم درجات، وأن فرعون وملأه كانوا في قمة الظلم ؛ لأن الحق سبحانه وتعالى هم القائل :﴿ .. إن الشرك لظلم عظيم( ١٣ ) ﴾[ لقمان ] : فقمة الظلم أن تأخذ حق الغير وتعطيه لغير صاحب الحق. وفرعون وملؤه أشركوا بالله-سبحانه وتعالى-فظن فرعون أنه إله، وصدقه من حوله.
فقمة الظلم هو الشرك بالله سبحانه، ثم بعد ذلك يتنزل إلى الظلم في الكبائر، ثم في الصغائر.
وقولهم في دعائهم للحق سبحانه :﴿ ونجنا برحمتك من القوم الكافرين( ٨٦ ) ﴾[ يونس ] : أي : اجعلنا بنجوة( ٢ ) من هؤلاء.
وكان الذي يخيف الأقدمين هو سيول المياه، حين تتدفق، ولا ينجو إلا من كان في ربوة عالية- والنجوة هي المكان المرتفع-وهذا هو أصل كلمة " النجاة ".
وهنا يقول الحق سبحانه على لسانهم :﴿ ونجنا برحمتك من القوم الكافرين( ٨٦ ) ﴾[ يونس ] : والرحمة هي الوقاية من أن يجيء الداء. والحق سبحانه يقول :﴿ وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة.. ( ٨٢ ) ﴾[ الإسراء ] : والشفاء إذا وجد الداء، والرحمة هي ألا يجيء الداء.
١ متفق عليه. أخرجه البخاري في صحيحه(١٣)، ومسلم في صحيحه (٤٥) كتاب الإيمان عن أنس بن مالك بلفظ:"والذي نفسي بيده، لا يؤمن عبد حتى يحب لجاره-أو قال: لأخيه-ما يحب لنفسه"..
٢ النجوة: المرتفع من الأرض. ويقال: هو بنجوة من هذا الأمر: بعيد عنه بريء سالم.[المعجم الوسيط: مادة (ن ج و)]..
وأراد الحق سبحانه أن يكرم-بعد ذلك-موسى عليه السلام وقومه فقال سبحانه وتعالى :
﴿ وأوحينا إلى موسى أن تبوءا( ١ ) لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة وبشر المؤمنين( ٨٧ ) ﴾ :
وأوضحنا من قبل أن موسى وهارون عليهما السلام رسولان برسالة واحدة، وأن الوحي قد جاء للاثنين برسالة واحدة.
فالحق سبحانه ساعة يختار نبيا رسولا، فإنما يختاره بتكوين وفطرة تؤهّله لحمل الرسالة والنطق بمرادات الله تعالى.
وإذا كان الخلق قد صنعوا آلات ذاتية الحركة من مواد جامدة لا فكر لها ولا روية( ٢ )، مثل الساعة التي تؤذن، أو المذياع الذي يذيع في توقيت محدد، إذا كان البشر قد صنعوا ذلك فما بالنا بالله سبحانه الخالق لكل الخلق والكون ومرسل الرسل ؟
إنه سبحانه وتعالى يختار رسله بحيث يسمح تكوين الرسول أن يؤدي مهمة الموكولة إليه في أي ظرف من الظروف.
وقوله الحق سبحانه هنا :﴿ وأوحينا إلى موسى وأخيه.. ( ٨٧ ) ﴾[ يونس ] : يبين لنا أن الوحي شمل كلا من موسى وهارون عليهما السلام، بحيث إذا جاء موقف من الموقف يقتضي أن يتكلم فيه موسى، فهارون أيضا يمكن أن يتكلم في نفس الأمر ؛ لن الشحنة الإيمانية واحدة، والمنهج واحد.
وقد حدث ذلك بعد أن غرق فرعون وقومه، وخلا لهم الجو، فجاء لهم الأمر أن يستقروا في مصر، وأن يكون لهم فيها بيوت.
ولكن لنا أن نسأل : هل فرعون هذا هو شخص غرق وانتهى ؟
لا.. إن فرعون ليس اسما لشخص، بل تصنيف لوظيفة، وكان لقب كل حاكم لمصر قديما هو " فرعون " ؛ لذلك لا داعي أن نشغل أنفسنا : هل هو تحتمس الأول ؟ أو رمسيس ؟ أو ما على ذلك. ؟ فهب أن فرعون المعنَّى هنا قد غرق، ألا يعني ذلك مجيء فرعون جديد ؟
نحن نعلم من التاريخ أن الأسر الحاكمة توالت، وكانوا فراعنة، وكان منهم من يضطهد المؤمنين، ولا بد أن يكون خليفة الفرعون أشد ضراوة وأكثر شحنة ضد هؤلاء القوم.
وقوله الحق سبحانه وتعالى في الآية الكريمة التي نحن بصدد خواطرنا عنها :﴿ وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا( ٣ ) لقومكما بمصر بيوتا.. ( ٨٧ ) ﴾[ يونس ] : نجد فيه كلمة " مصر " ( ٤ ) وهي إذا أطلقت يفهم منها أنها " الإقليم ".
ونحن هنا في بلدنا جعلنا كلمة " مصر " علما على الإقليم الممتد من البحر المتوسط على حدود السودان، أي : وادي النيل.
ومرة أخرى جعلنا من " مصر " اسما لعاصمة وادي النيل. ونحن نقول أيضا عن محطة القطارات في القاهرة :" محطة مصر ".
وقول الحق سبحانه هنا :﴿ .. أن تبوءا لقومكما( ٨٧ ) ﴾[ يونس ] : نفهم منه أن التبوء هو اتخاذ مكان يعتبر مباءة( ٥ ) ؛ أي : مرجعا يبوء الإنسان إليه.
التبوء-إذن-هو التوطن في مكان ما، والإنسان إذا اتخذ مكانا كوطن له فهو يعود إليه إن ذهب على أي بلد لفترة.
ويعتبر الخروج من الوطن مجرد رحلة تقتضي العودة، وكذلك البيت بالنسبة للإنسان ؛ فالواحد منا يطوف طوال النهار في الحقل أو المصنع أو المكتب، وبعد ذلك يعود إلى البيت للبيتوتة( ٦ ).
والبيوت التي أوصى الله سبحانه وتعالى بإقامتها لقوم موسى وهارون-عليهما السلام-كان لها شرط هو قول الحق سبحانه :﴿ واجعلوا بيوتكم قبلة.. ( ٨٧ ) ﴾[ يونس ].
والقبلة هي المتجه الذي نصلي إليه.
ومثال ذلك : المسجد، وهو قبلة من هو خارجه، وساعة ينادي المؤذن للصلاة يكون المسجد هو قبلتنا التي نذهب إليها، وحين ندخل المسجد نتجه داخله إلى القبلة، واتجاهنا إلى القبلة هو الذي يتحكم في وضعنا الصفي.
والأمر هنا من الحق سبحانه :﴿ واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة.. ( ٨٧ ) ﴾[ يونس ] :
فإقامة البيوت هنا مشروطة بأن يجعلوا بها قبلة لإقامة الصلاة بعيدا عن أعين الخصوم الذين يضطهدونهم، شأنهم شأن المسلمين الأوائل حينما كان الإسلام-في أوليته-ضعيفا بمكة، وكان المسلمون حين ذاك يصلون في قلب البيوت، وهذا هو سر عدم الجهر بالصلاة نهارا، وعدم الجهر يفيد في ألا ينتبه الخصوم إلى مكان المصلين.
وأما الجهر بالصلاة ليلا وفجرا، فقد كان المقصود به أن يعلمهم كيفية قراءة القرآن.
وهنا يقول الحق سبحانه :﴿ أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة.. ( ٨٧ ) ﴾[ يونس ] : وقد يكون المقصود بذلك أن تكون البيوت متقابلة.
وإلى يومنا هذا أنت إن نظرت إلى ساحات( ٧ ) اليهود في أي بلد من بلاد الدنيا تجد أنهم يقطنون حيا واحدا، ويرفضون أن يذوبوا في الأحياء الأخرى..
ففي كل بلد لهم حي يسكنون فيه، ويسمى باسم " حي اليهود ". وكانت لهم في مصر " حارات " كل منها تسمى باسم " حارة اليهود ".
وقد شاء الحق-سبحانه وتعالى-ذلك وقال في كتابه العزيز :﴿ وضربت عليهم الذلة والمسكنة.. ( ٦١ ) ﴾[ البقرة ] : وهم يحتمون بتواجدهم معا، فإن حدث أمر من الأمور يفزعهم ؛ يصبح من السهل عليهم أن يلتقوا.
أو﴿ واجعلوا بيوتكم قبلة.. ( ٨٧ ) ﴾[ يونس ] : أي : أن يكون تخطيط الأماكن والشوارع التي تبنى عليها البيوت في اتجاه القبلة.
وأي خطأ معماري مثل الذي يوجد في تربيعة بناء مسجد الإمام الحسين بالقاهرة، هذا الخطأ يوجب الاتجاه على اليمين قليلا مما يسبب بعض الارتباك للمصلين ؛ لأن الانحراف قليلا على اليمين في أثناء الصلاة يقتضي أن يقصر كل صف خلف الصف الآخر.
وحين نصلي في المسجد الحرام بمكة، نجد بعضا من المصلين يريدون مساواة الصفوف، وأن تكون الصفوف مستقيمة، فنجد من ينبه إلى أن الصف يعتدل بمقدار أطول أضلاع الكعبة، ثم ينحني الصف.
وكذلك في الأدوار العليا التي أقيمت بالمسجد الحرام نجد الصفوف منحنية متجهة إلى الكعبة.
ولذلك أقول دائما حين أصلي بالمسجد الحرام : إن معنى قول الإمام " سووا صفوفكم " أي : اجعلوا مناكبكم( ٨ ) في مناكب بعضكم البعض، أما خارج الكعبة فيكفي أن نتجه إلى الجهة التي فيها الكعبة، ونحن خارج الكعبة لا نصلي لعين الكعبة، ولكننا نصلي تجاه الكعبة ؛ لأننا لو كنا نصلي إلى عين الكعبة لما زاد طول الصف في أي مسجد عن اثني عشر مترا وربع المتر، وهو أطول أضلاع الكعبة.
وقول الحق سبحانه هنا :﴿ واجعلوا بيوتكم قبلة( ٩ ).. ( ٨٧ ) ﴾[ يونس ] : أي : خططوا في إقامة البيوت أن تكون على القبلة، وبعض الناس يحاولون ذلك، لكن تخطيط الشوارع والأحياء لا يساعد على ذلك.
ثم يقول الحق سبحانه :﴿ وأقيموا الصلاة.. ( ٨٧ ) ﴾[ يونس ] : وهذا الأمر نفهم منه أن الصلاة فيها استدامة الولاء( ١٠ ) لله تعالى، فنحن نشهد ألا إله إلا الله مرة واحدة في العمر، ونزكي-إن كان عندنا مال- مرة واحدة في السنة، ونصوم-إن لم نكن مرضى-شهرا واحدا هو شهر رمضان، ونحج-إن استطعنا-مرة واحدة في العمر.
ويبقى ركن الصلاة، وهو يتكرر كل يوم خمس مرات، وإن شاء الإنسان فليزدن وكأن الحق سبحانه وتعالى هنا ينبه إلى عماد الدين وهي الصلاة.
ولكن من الذي اختار المكان في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها ؟ هل هو موسى وأخوه هارون ؟ أم أن الخطاب لكل القوم ؟
نلحظ هنا أن الأمر بالتبوّء هو لموسى وهارون-عليها السلام-أما الأمر بالجعل فهو مطلوب من موسى وهارون والأتباع ؛ لذلك جاء الجعل هنا بصيغة الجمع.
وينهي الحق سبحانه الآية الكريمة بقوله :﴿ .. وبشر المؤمنين( ٨٧ ) ﴾[ يونس ] : وفي هذا تنبيه وإشارة إلى أن موسى هو الأصل في الرسالة ؛ لذلك جاء له الأمر بأن يحمل البشارة للمؤمنين.
ونلحظ هنا في هذه الآية أن الحق سبحانه جاء في التبوء، وجاء بالجمع في جعل البيوت، ثم جاء بالمفرد في نهاية الآية لينبهنا إلى أن موسى-عليه السلام-هو الأصل في الرسالة إلى بني إسرائيل.
والبشرى على الأعمال الصالحة تعني : التبشير بالجنة.
١ تبوءا: اتخذا واجعلا. قبلة: مصلى تصلون فيه لتأمنوا من الخوف. وكان فرعون قد منعهم من الصلاة. أقيموا الصلاة: أتموها. وبشر المؤمنين: بالنصر والجنة.[تفسير الجلالين: ص ١٨٦].
وذكر ابن كثير في تفسيره(٢/٤٢٩، ٤٢٨): أن الله تعالى أمر موسى وأخاه هارون عليهما السلام أن يتبوءا أي: يتخذا لقومهما بمصر بيوتا، واختلف المفسرون في معنى قوله تعالى:﴿واجعلوا بيوتكم قبلة..(٨٧)﴾ فعن ابن عباس: قال: أمروا أن يتخذوها مساجد. وعن ّإبراهيم النخعي قال: كانوا خائفين فأمروا أن يصلوا في بيوتهم، وكذا قال غير واحد من علماء التفسير، وكان هذا والله اعلم لما اشتد بهم البلاء من قبل فرعون وقومه وضيقوا عليهم أمروا بكثرة الصلاة كقوله تعالى:﴿يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة..(١٥٣))﴾[البقرة]. وقال سعيد بن جبير في تفسير هذه الآية (قبلة) أي: يقابل بعضها بعضا.[من تفسير ابن كثير.. بتصرف]..

٢ الروية: النظر والتفكير في الأمور، وهي خلاف البديهة [المعجم الوسيط: مادة (ر و ى)]..
٣ تبوأ: نزل وسكن..
٤ ورد اسم "مصر" في القرآن الكريم أربع مرات علما على مصر فرعون في قوله تعالى:﴿وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا..(٨٧)﴾[يونس]. وفي قوله تعالى:﴿وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه..(٢١)﴾[يوسف]. وفي قوله تعالى:﴿.. وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين(٩٩)﴾[يوسف]. وفي قوله تعالى:﴿ونادى فرعون في قومه يا قوم أليس لي ملك مصر..(٥١)﴾[الزخرف]. أنما قوله تعالى:﴿اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم..(٦١)﴾[البقرة] فقد وقعت فيها كلمة مصر منونة، دلالة على انه ليس المقصود بها مصر فرعون العلم الأعجمي الذي يمنع من الصرف والتنوين، فهي مصر من الأمصار أي: بلد من البلاد..
٥ المباءة: المكان الذي ينزل به الإنسان ويسكن فيه.[لسان العرب: مادة (ب و أ)-بتصرف]..
٦ البيتوتة: مصدر للفعل بات يبيت، حيث إن البيت هو محل البيات والمبيت.[لسان العرب: مادة (ب ى ت)-بتصرف]..
٧ الساحات: جمع ساحة وهي الناحية من البيوت. وهي أيضا فضاء يكون بين بيوت الحي. وساحة الدار: باحتها.[اللسان مادة: س و ح] ومنه قوله تعالى:﴿أفبعذابنا يستعجلون(١٧٦)﴾فإذا نزل بساحتهم فساء صباح المنذرين(١٧٧)}[الصافات] أي: بالملحة أو الديار التي يسكنونها...
٨ المناكب: جمع منكب، وهو مجتمع عظم العضد والكتف.[لسان العرب: مادة (ن ك ب)]..
٩ القبلة: الوجهة. قال تعالى:﴿قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام..(١٤٤)﴾[البقرة]، وهي الجهة التي نتجه إليها في صلاتنا. ومعنى الآية هنا أن يبنوا بيوتهم، مواجهة للقبلة. أو: اجعلوها قبلة للناس يتجهون إليها لنيل الخير..
١٠ الولاء: الحب والنصرة. يقول سبحانه:﴿وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون(٣٤)﴾[الأنفال]...
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ وقال موسى ربنا إنك أتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدُّنيا ربنا ليضلُّوا عن سبيلك ربنا اطمس( ١ ) على أموالهم واشدد على قلوبهم( ٢ ) فلا يؤمنوا حَّتى يروا( ٣ ) العذاب الأليم( ٨٨ ) ﴾ :
والزينة : هي الأمر الزائد عن ضروريات الحياة ومقوماتها الأولى، فاستبقاء الحياة يكون بالمأكل لأي غذاء يسدُّ الجوع، وبالمشرب الذي يروي العطش.
أما إن كان الطعام منوَّعا فهذا من ترف الحياة، ومن ترف الحياة الملابس التي تستر العورة فقط، بل بالزي يتميز بجودة النسج والتصميم والتفصيل.
وكذلك من ترف الحياة المكان الذي ينام فيه الإنسان، بحيث يتم تأثيثه بفاخر الرياش( ٤ )، ولكن الضرورة في النوم يكفي فيها مكان على الأرض، وأي فراش يقي من برودة الأرض أو حرارتها.
إذن : فالزائد عن الضرورات هو زينة الحياة، والزينة تأتي من الأموال، والرصيد في الأموال هو الذهب، ثم تأخذ الفضة المرتبة الثانية.
ومن مقومات الاقتصاد أن الذهب يعتبر قيمة الرصيد لغنى أية دولة، مهما اكتشفوا من أحجار أغلى من الذهب.
وهذه الأحجار الكريمة-كالماس مثلا- إن كسرت أو خدشت تقل قيمتها، لكن الذهب مهما تفتَّت فأنت تعيد صهره، فتستخلص ذهبا مجمَّعا.
وكان الفراعنة الأقدمون يحكمون مصر حتى منابع النيل، وكانوا يسخّرون الناس في كل الأعمال، حتى استخراج الذهب سواء من المناجم أو من غربلة رمال بعض الجبال لاستخلاص الذهب منها.
وأنت قد تستطيع استخلاص الذهب من أماكن معينة، ولكن الفرق دائما غنما يكون في القيمة الاقتصادية لاستخراج الذهب، فحين يكون المنجم وفير العطاء، فيه كثير من عروق الذهب، هنا يصبح استخراج الذهب مسألة مربحة اقتصاديا.
أما إن كانت التكلفة أعلى من القيمة الاقتصادية للذهب المستخرج، فلا أحد يستخرج هذا الذهب.
وأنت إن نظرت إلى زينة الفراعنة تجد قناع " توت عنخ آمون " آية في الجمال، وكذلك كانت قصورهم في قمة الرفاهية، ويكفي أن ترى الألوان التي صنعت منها دهانات الحوائط في تلك الأيام ؛ لتعرف دقة الصنعة ومدى الترف، الذي هو أكثر بكثير من الضرورات.
وفي هذه الآية الكريمة يقول الحق سبحانه :﴿ وقال موسى ربَّنا إنَّك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدُّنيا ربَّنا ليضلُّوا عن سبيلك.. ( ٨٨ ) ﴾ ]يونس ] : وهم لم يضلُّوا فقط بل أرادوا أن يضلّوا غيرهم ؛ لذلك تحملوا وزر ضلالهم، ووزر إضلال غيرهم.
فهل أعطاهم الله سبحانه المال والزينة للضلال والإضلال ؟
لا، فليس ذلك علة العطاء، ولكن هناك لام العاقبة، مثلما تعطى أنت ابنك عشرة جنيهات وتقول له : افعل بها ما تريد، وأرجو أن تتصرف فيها تصرفا يعود عليك بالخير. وقد ينزل هذا الابن ليشتري شيئا غير مفيد ولا يشتري-مثلا كتبا تفيده.
هنا أنت أعطيت هذا الابن قوة شرائية لكنه لم يحسن التصرف فيها، وغاية الاختيار هدته إلى اللعب. وهذا ما يسمى لام العاقبة، ولام العاقبة لا يكون المقصود بها سبب الفعل، ولكنها تأتي لبيان عاقبة الفعل( ٥ ).
وحين أراد الحق سبحانه وتعالى أن ينجي موسى-عليه السلام-في طفولته من القتل أوحى إلى أم موسى-عليهما السلام-بقوله تعالى :﴿ فإذا خفت عليه فألقيه في اليم( ٦ ) ولا تخافي ولا تحزني.. ( ٧ ) ﴾[ القصص ] : ولا توجد أم تقبل على تنفيذ مثل هذا الأمر ؛ لأنه موت محقق ؛ لأن الابن إن خطف أو فقد فهذا كله موت مظنون، أما إلقاؤه في الماء فليس فيه موت مظنون، بل موت مؤكد، إن لم ينجه الله تعالى.
ولكن أم موسى-لإيمانها بالله- فعلت ما أوحى به الله-سبحانه وتعالى-لها ؛ لأن الوارد من الله تعالى لا يجد في الفطرة متنازعا له.
أما نزغات الشيطان فهي تجد ألف منازع في النفس، وكذلك هواجس النفس.
ولذلك نفذت أم موسى ما أوحى الله تعالى به إليها، وإن كان مخالفا للعقل والمنطق.
وحين التقطه آل فرعون، وقد كانوا يقتلون الأطفال( ٧ )، وألقى الحق سبحانه وتعالى محبة موسى في قلوبهم، قال :﴿ .. وألقيت عليك محبة مني( ٣٩ ) ﴾[ طه ] : فهم ساعة رؤيتهم لموسى-عليه السلام-وهو طفل، أحبوه فلم يقتلوه، وهكذا نفذت مشيئة الله تعالى ووعده لأمه :﴿ .. إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين( ٧ ) ﴾[ القصص ] : أي : أن موسى-عليه السلام-مهمة مسبقة أرادها له الحق سبحانه.
ولذلك نجد أن هناك أوامر متتابعة جاء بها القرآن الكريم في مسألة إلقاء أم موسى لابنها، فقال الحق سبحانه :﴿ إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى( ٣٨ ) أن اقذفيه في التابوت( ٨ ) فاقذفيه في اليم فليلقه اليم بالساحل( ٩ ).. ( ٣٩ ) ﴾[ طه ] : وكلها أوامر من الحق سبحانه، فتراه زوجة فرعون فتقول لزوجها :﴿ قرت عين( ١٠ ) لي ولك.. ( ٩ ) ﴾ [ القصص ] : فهل كان فرعون يعلم أن هذا الطفل الذي التقطه سيكون عدوا له ؟
لا، لقد التقطه وأعطاه حياة الترف ؛ ليكون قرة عين له، وهذه علة الالتقاط، ولكن العاقبة انتهت إلى أن يكون عدوا ؛ ولو كانت العلة هي العداوة لما التقطه فرعون أو لقتله لحظة الالتقاط.
ولذلك يترك الحق سبحانه وتعالى في كونه أشياء تكسر مكر البشر ؛ فأخذه فرعون ورباه، وكانت العاقبة غير ما كان يتوقع فرعون.
وقول الحق سبحانه هنا في الآية التي نحن بصددها :﴿ ليضلوا ﴾ نفهم منه أن-سبحانه وتعالى-لم يعطهم المال ليضلوا، ولكنهم هم الذين اختاروا الضلال. وقد أعطى الله سبحانه وتعالى الكثير من الناس مالا وجاها وأرادوا به الخير، وهكذا نرى اختيار الإنسان، إن له أن يضل أو يهتدي.
وقد قال موسى عليه السلام تنفيسا عن نفسه :﴿ ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم.. ( ٨٨ ) ﴾[ يونس ] : ومعنى الطمس أي : إخفاء المعالم ؛ مثل قول الحق سبحانه :﴿ من قبل أن نطمس( ١١ ) وجوها فنردها على أدبارها.. ( ٤٧ ) ﴾[ النساء ] : ومعنى الطمس هنا : إخفاء معالم تلك الوجوه ؛ فتكون قطعة واحدة بلا جبهة أو حواجب أو عينين أو أنف أو شفاه أو ذقن.
إذن : فالطمس هو إهلاك الصورة التي بها الشيء. ودعوة موسى-عليه السلام-هنا :﴿ اطمس على أموالهم.. ( ٨٨ ) ﴾[ يونس ] : أي : امسخها.
وقال بعض الرواة( ١٢ ) أنها مسخت، فمن كان يملك بعضا من سبائك الذهب وجدها حجارة، ومن كان يملك أحجارا كريمة كالماس وجدها زجاجا.
أو أن ﴿ اطمس على أموالهم.. ( ٨٨ ) ﴾[ يونس ]أي : أذهبهما ؛ لأن الأموال كانت وسيلة إضلال.
وقوله عليه السلام بعد ذلك :﴿ .. واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم( ٨٨ ) ﴾[ يونس ] : أي : أحكم يا رب الأربطة على تلك القلوب ؛ فلا يخرج ما فيها من كفر، ولا يدخل ما هو خارجها من الإيمان ؛ لأن هؤلاء قد افتروا افتراء عظيما، وأن تظل الأربطة على قلوبهم ؛ حتى يروا العذاب الأليم. ولماذا دعا موسى-عليه السلام-على آل فرعون هذا الدعاء، ولم يدع مثلما دعا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم :" اللهم أهد قومي فإنهم لا يعلمون " ؟ والإجابة : لابد أن الحق سبحانه وتعالى قد أطلعه على أن هؤلاء قوم لن تفلح فيهم دعوة الإيمان.
وكان خوف موسى-عليه السلام- لا من ضلال قوم فرعون، ولكن من استمرار إضلالهم لغيرهم.
إذن : فقد دعا عليهم موسى-عليه السلام- بما جاء في هذه الآية :﴿ .. ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم( ٨٨ ) ﴾[ يونس ] وفي موضع آخر من القرآن الكريم يقول الحق سبحانه :﴿ فلم يك ينفعهم إيمانهم لمَّا رأوا بأسنا.. ( ٨٥ ) ﴾[ غافر ] : وهكذا يتبن لنا الفارق بين إيمان الإلجاء والقصر( ١٣ ) وبلين إيمان الاختيار( ١٤ ).
فحين يأتي الرسول داعيا إلى الإيمان يصبح من حق السامع لدعوته أن يؤمن أو أن يكفر ؛ لأن الله تعالى قد خلق الإنسان وله حق الاختيار، أما إيمان الإلجاء والقصر فهو لا ينفع الإنسان.
ومثال ذلك : فرعون، فساعة أن جاءه العذاب أعلن الإيمان( ١٥ ). فالحق سبحانه وتعالى يقول :﴿ .. حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين( ٩٠ ) ﴾[ يونس ].
وإذا كان موسى-عليه السلام-قد دعا على قوم فرعون، فقد سبقه نوح عليه السلام في مثل هذا الدعاء مما أورده القرآن في قوله :﴿ .. رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا( ١٦ )( ٢٦ ) إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا( ٢٧ ) ﴾[ نوح ].
١ اطمس على أموالهم: قال ابن عباس ومجاهد: أي: أهلكها. وقال الضحاك وآخرون: جعلها الله حجارة منقوشة..
٢ اشدد على قلوبهم: اطبع عليها. وهذه الدعوة كانت من موسى عليه السلام غضبا لله ولدينه، على فرعون وملئه الذين تبين له أنهم لا خير فيهم ولا يجيء منهم شيء.[ذكره ابن كثير في تفسيره٢/٤٢٩]..
٣ رأى: نظر بعينه كأبصر. ورأى بفكره وقلبه بمعنى: علم. ورأى: اعتقد. ورأى في نومه رؤيا: حلم. والرؤيا: الحلم في النوم. ورأى: هنا هي البصرية. أي: حتى يروا العذاب بأعينهم ويعاينوه معاينة..
٤ في الرياش والريش: الخصب، والمعاش، والمال، والأثاث واللباس الحسن الفاخر. قال تعالى:﴿يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون(٢٦)﴾[الأعراف]..
٥ أي: أن فرعون لم تكن علة التقاطه لموسى أن يكون عدوا له بل ليتخذه ولدا، وأضافت امرأته أن يكون قرة عين لها ولفرعون، ولكن كانت العاقبة غير ذلك، أي: أن ما حدث كان عكس ما كان يريده فرعون..
٦ اليم: الماء الكثير المجتمع. والمراد به: نهو النيل في مصر..
٧ كان فرعون وزبانيته يذبحون أبناء بني إسرائيل ويستحيون نساءهم بعد أن سمع فرعون النبوءة التي قيلت عن أن ولدا من بني إسرائيل سيقضي على فرعون. قال تعالى:﴿إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين(٤)﴾[القصص] وقال تعالى:﴿.. ونرى فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون(٦)﴾[القصص]..
٨ التابوت: الصندوق الذي وضعت فيه أم موسى ابنها قبل إلقائه في اليم؛ ليحفظه من الماء..
٩ الساحل: شاطئ النهر القريب من قصر فرعون..
١٠ قرة عين: مسرة وفرح.[كلمات القرآن: للشيخ حسنين محمد مخلوف]..
١١ وردت مادة "الطمس" بالقرآن الكريم في خمسة مواضع، هي قول الله تعالى:﴿ولو نشاء لطمسنا على أعينهم فاستبقوا الصراط(٦٦)﴾[يس]، وقوله تعالى:﴿ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم فذوقوا عذابي ونذر(٣٧)﴾[القمر]، وقوله تعالى:﴿فإذا النجوم طمست(٨)﴾[المرسلات]، وقوله تعالى:﴿آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها..(٤٧)﴾[النساء]، وقوله تعالى:﴿ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم..(٨٨)﴾[يونس]..
١٢ قاله ابن عباس ومحمد بن كعب القرظي: صارت أموالهم ودراهمهم حجارة منقوشة كهيئتها صحاحا وأثلاثا وأنصافا، ولم يبق لهم معدن إلا طمس الله عليه فلم ينتفع به أحد بعد..
١٣ القصر والقسر: الإجبار على كره. ومنه: قصرت نفسي على الشيء إذا حبستها عليه وألزمتها إياه. انظر[لسان العرب مادة: قصر، قسر]..
١٤ قال تعالى:﴿وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر..(٢٩)﴾[الكهف] وقال تعالى:﴿إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا(٢) إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا(٣)﴾[الإنسان]..
١٥ قال تعالى:﴿الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين(٩١)﴾[يونس]. قيل: هو من قول الله تعالى. وقيل: هو من قول جبريل أو ميكائيل عليهما السلام. ففرعون الذي قال:﴿.. أنا ربكم الأعلى(٢٤)﴾[النازعات] وقال:﴿ما علمت لكمم من إله غيري..(٣٨)﴾[القصص] جاء الآن عندما عاين الموت وآية الله على صدق موسى فنطق بالإيمان، ورب العزة سبحانه يقول:﴿هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا قل انتظروا إنا منتظرون(١٥٨)﴾[الأنعام].
١٦ ديارا: أحدا. أي: استئصال كل نسمة كافرة من قوم نوح، حتى طال هذا ولده من صلبه، وقد أورد ابن كثير في تفسيره(٤/٤٢٧) حديث ابن عباس، وعزاه لابن أبي حاتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لو رحم الله من قوم نوح أحدا لرحم امرأة، لما رأت الماء حملت ولدها ثم صعدت الجبل، فلما بلغها الماء صعدت به منكبها، فلما بلغ الماء منكبها وضعت ولدها على رأسها، فلما بلغ الماء رأسها رفعت ولدها بيدها، فلو رحم الله منهم أحدا لرحم هذه المرأة". قال ابن كثير: هذا حديث غريب، ورجاله ثقات..
واستجاب الحق سبحانه لدعوة موسى عليه السلام :
﴿ قال قد أجيبت دعوتهما فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون( ٨٩ ) ﴾ :
ويلاحظ أن الذي دعا هو موسى عليه السلام، ولكن قوله سبحانه :﴿ وقد أجيبت دعوتكما.. ( ٨٩ ) ﴾ يدل على أن هارون-عليه السلام-قد دعا مع موسى.
وقد قلنا من قبل : إننا إن نظرنا إلى الأصالة في الرسالة لوجدنا موسى-عليه السلام- هو الأصيل فيها، وجاء هارون ليشد عضده( ١ )، وإن نظرنا إلى طبيعة الاثنين فكل منهما رسول، والاثنان لهما رسالة واحدة.
وما دام الحق سبحانه قد أرسل الاثنين لمهمة واحدة، فإن انفعل واحد منهما لشيء فلا بد أن ينفعل الآخر لنفس الشيء ؛ لذلك فلا يوجد ما يمنع أن هارون ساعة سمع أخاه داعيا بمثل هذا الدعاء، قد دعا هو أيضا بالدعاء نفسه، أو أنه-أي : هارون-قد دعا بهذا الدعاء سرا.
والدعاء معناه : أنك تفزع إلى من يقدر على تحقيق ما لا تقدر عليه، فأنت لا تدعو إلا في أمر عزّت عليك أسبابه ؛ فتقول : إن لي ربا أومن به، وهو يقدر على الأسباب لأنه خالق الأسباب، وقادر على أن يعطي بلا أسباب، والمؤمن الحق يستقبل الأحداث، لا بأسبابه، ولكن بقدرة من آمن به، وهو المسبب الأعلى سبحانه.
ولذلك تجد موسى عليه السلام ومعه قومه حين وصلوا إلى شاطئ البحر، وكان من خلفهم قوم فرعون يطاردونهم، فقال قوم موسى :﴿ .. إنا لمدركون( ٦١ ) ﴾[ الشعراء ]، فرد موسى عليه السلام :﴿ .. كلا إن معي ربي سيهدين( ٦٢ ) ﴾[ الشعراء ] : أي : لا ترتّبوا الأمر بترتيب البشر ؛ لأن معي رب البشر، فجاءه الإنقاذ :﴿ فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم( ٢ ) ( ٦٣ ) ﴾[ الشعراء ] : إذن : فالدعاء إنما يكون فزعا إلى من يقدر على أمر لا تقدر عليه.
والموضوع الذي كان يشغل موسى وهارون عليهما السلام هو بقاء آل فرعون على ضلالهم وإصرارهم على إضلال غيرهم، فلا بد أن يدعو كل منهما نفس الدعاء، ومثل هذا نجده في غير الرسل ونسميه " التخاطر "، أي : التقاء الخواطر في لحظة واحدة.
ومثال ذلك في التاريخ الإسلامي، لحظة أن كان سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه مشغولا بالتفكير في جيش المسلمين المقاتل في إحدى المعارك، وكان عمر في المدينة يخطب على المنبر، فإذا به يقول فجأة :" يا سارية( ٣ ) الجبل " وهي كلمة لا موضع لها في منطق الخطبة، ولكن كان فكره مشغولا بالقائد الذي يحارب، وسمع القائد-وهو على البعد-الأمر ؛ فانحاز إلى الجبل.
ويقال في هذه المسالة : إن الخاطر قد شغل مع الخاطر، مثلما تطلب أحدا في الهاتف فيرد عليك الشخص الذي تريد الكلام معه قائلا : لقد كنت على وشك أن اتصل بك هاتفيا، وهذا يعني أن الخاطرين قد انضبطا معا.
وإذا كان هذا ما يحدث في حياتنا العادية، فما بالنا بما يحدث في الأمور الصفائية ؛ وفي أرقى درجاتها وهي النبوة ؟
أو أن الذي دعا هو موسى وما كان هارون إلا مؤمنا( ٤ )، والمؤمن هو أحد الداعيين، وما دام الحق سبحانه قد قبل دعوة موسى عليه السلام، فقد قبل أيضا دعوة المؤمّن معه.
ويظن بعض الناس أن إجابة الدعوة هي تحقيق المطلوب فور الدعاء، ولكن الحقيقة أن إجابة الدعوة هي موافقة على الطلب، أما ميعاد إنجاز الطلب، فقد يتأجل بعض الوقت، مثلما حدث مع دعوة موسى عليه السلام على فرعون وملئه، فحين دعا موسى، وأمَّن هارون، جاءت إجابة الدعاء :﴿ قد أجيبت دعوتكما.. ( ٨٩ ) ﴾. بعد أربعين عاما، ويحقق الله سبحانه الطمس على المال.
فالسماء ليست موظفة عند من يدعو، وتقبل أي دعاء، ولكن قبول الدعوة يقتضي تحديد الميعاد الذي تنفذ فيه.
وهذه أمور من مشيئة الله سبحانه ؛ فالحق سبحانه وتعالى منزَّه عن أن يكون منفّذا لدعاء ما، ولكنه هو الذي بيده مقاليد كل أمر، فإذا ما أجيبت دعوة ما، فهو سبحانه بمشيئته يضع تنفيذ الدعوة في الميعاد الملائم ؛ لأنها لو أجيبت على الفور فقد تضر.
والحق سبحانه وتعالى هو القائل :﴿ ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا( ٥ )( ١١ ) ﴾[ الإسراء ] : لذلك يحدد الحق سبحانه ميعاد تطبيق الدعوة في مجال التنفيذ والواقع.
وهو سبحانه وتعالى يقول :﴿ .. سأريكم آياتي فلا تستعجلون( ٦ )( ٣٧ ) ﴾[ الأنبياء ].
والإنسان يعرف أنه قد يكون قد دعا بأشياء، فحقق الله سبحانه الدعاء وكان شرا، وكم من شيء يدعو به الإنسان ولم يحققه الله تعالى وكان عدم تحقيقه خيرا.
إذن : فالقدرة العليا رقيبة علينا، وتعلم ما في صالحنا ؛ لأننا لسنا آلهة تأمر بتنفيذ الدعوات، بل فوقنا الحكيم الأعلى سبحانه.
ولذلك نقول في بيان قول الحق سبحانه :﴿ ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم( ٧ ) بالخير لقضي إليهم أجلهم( ٨ ).. ( ١١ ) ﴾[ يونس ] : لأن الإنسان قد يدعو بالشر على نفسه( ٩ )، ألا تسمع أمًّا تدعو على ابنها أو ابنتها رغم حبها لهما، فلو استجاب الله لدعائها على أولادها الذين تحبهم أليس في ذلك شر بالنسبة للأم.
والولد قد يقول لأمه مغاضبا : يا رب تحدث لي حادثة ؛ حتى تستريحي مني. فهب أن الله استجاب لهذا الدعاء، أيرضي ذلك من دعا على نفسه أو يرضي أمه ؟
طبعا لا ؛ فإذا كان الله سبحانه قد أبطأ عليك بدعاء الشر فهذا خير لك، فعليك أن تأخذ إبطاء الله سبحانه عليك بدعاء الخير على أنه خير لك.
ولذلك شاء الحق سبحانه أن يقول لموسى وهارون عليهما السلام :﴿ .. قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون( ٨٩ ) ﴾[ يونس ] : أي : ابقيا على الطريق السوي، ولا تدخلا نفسيكما فيما لا علم لكما به. أليس الحق سبحانه هو القائل :﴿ ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين( ٤٥ ) قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك( ١٠ ) أن تكون من الجاهلين( ٤٦ ) ﴾[ هود ] : أي : كن مؤدَّبا مع ربك حين تدعو وتنفّس عن نفسك، ودع لحكمة الحكيم الإجابة أو عدمها، وقد تكون الإجابة فورية أو مؤجَّلة إلى حين أوانها، وكلاهما خير.
١ العضد من الإنسان وغيره: الساعد، وهو ما بين المرفق إلى الكتف، والمراد بالعضد هنا: العون والمساعدة. قال تعالى:﴿سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا..(٣٥)﴾[القصص]..
٢ الفرق: الجزء. والطود: الجبل الكبير.[تفسير ابن كثير:(٣/٣٣٦)]..
٣ هو سارية بن زنيم الدئلي. أمَّره عمر بن الخطاب على جيش وسيره إلى فارس سنة ٢٣ هـ، فرفع في خاطر عمر وهو يخطب يوم الجمعة أن الجيش المذكور لاقى العدو وهم في بطن واد قد هموا بالهزيمة وبالقرب منهم جبل فقال في أثناء خطبته " يا سارية: الجبل، الجبل" ورفع صوته فألقاه الله في سمع سارية فانحاز بالناس إلى الجبل، وقاتلوا العدو من جانب واحد، ففتح الله عليهم وانتصروا.[الإصابة في تمييز الصحابة للابن حجر العسقلاني: ٢/٥٣، ٥٢]..
٤ التأمين: هو قولهم آمين وراء الداعي. ومنه التأمين في الصلاة وراء الإمام...
٥ عجولا: صيغة مبالغة من العجل والعجلة وهو السرعة. والمراد: أن الإنسان مجبول على حب الخير، وعلى العجلة في طلبه لنفسه، ويلح في الدعاء، حتى لو كان الأمر شرا وهو يظن بجهله أنهى خير. قال تعالى:﴿خلق الإنسان من عجل..(٣٧)﴾[الأنبياء]. وقال تعالى:﴿أتى أمر الله فلا تستعجلوه..(١)﴾[النحل]..
٦ عجل يعجل-عجلا وعجلة. واستعجل استعجالا. قال تعالى:﴿أعجلتم أمر ربكم..(١٥٠)﴾[الأعراف] وقال:﴿وما أعجلك عن قومك يا موسى(٨٣)﴾[طه] وعجل الأمر: طلبه قبل أوانه بدافع الشهوة. وعجل الأمر: سبقه.[القاموس القويم].
.

٧ عجل يعجل-عجلا وعجلة. واستعجل استعجالا. قال تعالى:﴿أعجلتم أمر ربكم..(١٥٠)﴾[الأعراف] وقال:﴿وما أعجلك عن قومك يا موسى(٨٣)﴾[طه] وعجل الأمر: طلبه قبل أوانه بدافع الشهوة. وعجل الأمر: سبقه.[القاموس القويم]..
٨ الأجل: المدة من الزمن، والمراد: العمر..
٩ عجل. ثبت في صحيح مسلم النهي عن الدعاء على النفس والأولاد والأموال، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بطن بواط وهو يطلب المجدي بن عمرو الجهني، وكان الناضح يعتقبه منا الخمسة والستة والسبعة، فدارت عقبة رجل من الأنصار على ناضح له فأناخه فركبه ثم بعثه فتلدن عليه بعض التلدن فقال له: شأ لعنك الله. فقال صلى الله عليه وسلم:"من هذا اللاعن بعيره"؟ قال: أنا يا رسول الله. قال:"انزل عنه فلا تصحبنا بملعون، ولا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم، ولا توافقوا من الله ساعة يسأل فيها عطاء فيستجيب لكم: أخرجه مسلم (٣٠٠٩)..
١٠ الوعظ: النصح بالطاعة والعمل الصالح الإرشاد على الخير. قال ابن سيده: هو تذكيرك للإنسان بما يليّن قلبه من ثواب وعقاب.[ذكره ابن منظور في اللسان مادة: وعظ]. قال القرطبي في تفسيره(٤/٣٣٦٦):﴿إني أعظك..(٤٦)﴾[هود]. أي: إني أنهاك عن هذا السؤال وأحذرك لئلا تكون من الجاهلين. أي: الآثمين. قال ابن العربي: وهذه زيادة من الله وموعظة يرفع بها نوحا عن مقام الجاهلين..
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدا حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين( ١ )( ٩٠ ) ﴾ :
قال الحق سبحانه :
﴿ وجاوزنا ببني إسرائيل البحر.. ( ٩٠ ) ﴾ : لأن الاجتياز لم يكن بأسباب بشرية، بل بفعل يخرج عن أسباب البشر، فلو أن موسى عليه السلام قد حفر نفقا تحت الماء، أو لو كان قد ركب سفنا هو وقومه لكان لهم مشاركة في اجتياز البحر، لكن المجاوزة كانت بأسباب غير ملحوظة بالنسبة للبشر، فالحق سبحانه هو الذي أوحى لموسى :﴿ اضرب بعصاك البحر.. ( ٦٣ ) ﴾[ الشعراء ] : ومياه البحر كأية مياه أخرى تخضع لقانون السيولة، والاستطراق( ٢ ) هو وسيلة السيولة، وهي عكس التجمد الذي يتسم بالتحيز.
والاستطراق هو الذي قامت عليه أساليب نقل المياه من صهاريج المياه التي تكون في الأغلب أعلى من طول أي منزل، ويتم ضخ المياه إليها ؛ لتتوزع من بعد ذلك حسب نظرية الأواني المستطرقة على المنازل، أما إذا كانت هناك بناية أعلى طولا من الصهريج، هنا يقوم سكان المبنى بتركيب مضخة لرفع المياه على الأدوار العالية.
وإذا كان قانون البحر هو السيولة والاستطراق، فكيف يتم قطع هذا الاستطراق ؟
يقول الحق سبحانه :﴿ .. فكان كل فرق كالطود العظيم( ٦٣ ) ﴾[ الشعراء ].
فكيف تحول الماء إلى جبال يفصل بينها سراديب وطرق يسير فيها موسى عليه السلام وقومه ؟
كيف يسير موسى وقومه مطمئنين ؟
لا بد أنها معية الله سبحانه التي تحميه، وهي تفسير لقول الحق سبحانه :﴿ .. إن معي ربي سيهدين( ٦٢ ) ﴾[ الشعراء ].
ورغم ذلك يتبعهم فرعون وجنوده لعله يدركهم، وأراد سيدنا موسى-عليه السلام- بمجرد نجاحه في العبور هو وقومه أن يضرب البحر بعصاه ؛ ليعود إلى قانون السيولة، ولو فعل ذلك لما سمح لفرعون وجنوده أن يسيروا في الممرات التي بين المياه التي تحولت إلى جبال، ولكن الله-سبحانه وتعالى-يريد غير ذلك، فقد أراد الحق سبحانه أن ينجي ويهلك بالشيء الواحد، فأوحى لموسى عليه السلام :﴿ واترك البحر رهوا( ٣ ) إنهم جند مغرقون( ٢٤ ) ﴾[ الدخان ] : أي : اترك البحر على حاله ؛ فينخدع فرعون وجنوده، وما إن ينزل آخر جندي منهم إلى الممر بين جبال الماء ؛ سيعود البحر إلى حالة السيولة فيغرق فرعون وجنوده، وينجو موسى وقومه.
ويقول الحق سبحانه :﴿ فأتبعهم فرعون وجنوده.. ( ٩٠ ) ﴾[ يونس ] : فهل كان هذا الإتباع دليل إرادة الشر ؟
أكان من الممكن أن تكون نية الفرعون أن يدعو موسى وقومه إلى العودة إلى مصر ليستقروا فيها ؟
لا، لم تكن هذه هي نية الفرعون ؛ لذلك قال الحق سبحانه عن هذا الإتباع :﴿ بغيا وعدوا.. ( ٩٠ ) ﴾[ يونس ] : أي : أنه إتباع رغبة في الانتقام والإذلال والعدوان.
ويصور القرآن الكريم لحظة غرق فرعون بقوله :﴿ حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت.. ( ٩٠ ) ﴾[ يونس ] : والإدراك : قصد للمدرك أن يلحق بالشيء، والغرق معنى، فكيف يتحول المعنى إلى شيء يلاحق الفرعون ؟
نعم، فكأن الغرق جندي من الجنود، وله عقل ينفعل ؛ فيجري إلى الأحداث :﴿ .. حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من : المسلمين( ٤ )( ٩٠ ) ﴾[ يونس ] : والإيمان إذا أطلق فهو الإيمان بالقوة العليا، بدليل أن الحق سبحانه وتعالى قد قال :﴿ قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا.. ( ١٤ ) ﴾[ الحجرات ] : لأن الإيمان يتطلب انقياد القلب، والإسلام يقتضي إتباع أركان الإسلام، فالإيمان كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" قل آمنت بالله ثم استقم " ( ٥ ). وفي هذا القول ذكر محدد بأن الإيمان إنما يكون لله الأعلى.
لكن لو قلت-مثلا :" آمنت أنك رجل طيب " فهذا إيمان له متعلق، أما إذا ذكر الإيمان بإطلاق فهو ينصرف إلى الإيمان بالله تعالى ؛ ولذلك قال الله سبحانه للأعراب :
﴿ ولكن قولوا أسلمنا.. ( ١٤ ) ﴾[ الحجرات ].
وهنا يأتي القول على لسان فرعون :﴿ .. آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين( ٩٠ ) ﴾[ يونس ].
والخلاف هنا كان بين الفرعون كجهة كفر، وبين موسى وهارون وقومهما كجهة إيمان، وأعلن فرعون إيمانه، وقال أيضا :﴿ .. وأنا من المسلمين( ٩٠ ) ﴾[ يونس ]، ولم يقبل الله ذلك منه بدليل قول الحق سبحانه :
﴿ آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين( ٦ )( ٩١ ) ﴾ :
١ اتبعهم: اتبع أثرهم؛ ليدركهم. وكان موسى وقومه بنو إسرائيل في خروجهم ستمائة ألف وعشرين ألفا، وتبعهم فرعون مصبحا في ألفي ألف وستمائة ألف. بغيا وعدوا: أي: في حال بغي وظلم واعتداء. وقال المفسرون: بغيا: طلبا للاستعلاء بغير حق في القول،"وعدوا" في الفعل. أدركه الغرق: ناله ووصله. قال آمنت: أي: صدقت، أو آمنت-والإيمان لا ينفع حينئذ، والتوبة مقبولة قبل رؤية البأس.[ذكره القرطبي في تفسيره (٤/٣٣٠٥، ٣٣٠٤)-بتصرف]..
٢ الاستطراق: عدة أنابيب مختلفة الأحجام والأشكال، متصل بعضها ببعض بأنبوبة أفقية، فإذا وضع سائل في إحدى هذه الأنابيب ارتفع سطح السائل إلى مستوى أفقي واحد في جميع الأنابيب.[المعجم الوسيط-مجمع اللغة العربية]..
٣ قال الزهري: رهوا ساكنا من نعت موسى، أي: على هينتك. قال: وأجود منه أن تجعل رهوا من نعت البحر، وذلك أنه قام فرقاه ساكنين فقال لموسى: دع البحر قائما ماؤه ساكنا واعبر أنت البحر.[ذكره ابن منظور في اللسان، مادة: رها] فقوله تعالى:﴿واترك البحر رهوا..(٢٤)﴾[الدخان] أي: ساكن الأمواج ليغتروا فينزلوا فيه.
.

٤ وأنا من المسلمين، أي: من الموحدين المستسلمين بالانقياد والطاعة. وهو قول متأخر جدا جاء بعد فوات الأوان..
٥ عن سفيان بن عبد الله الثقفي قال: قلت يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسال عنه أحدا بعدك. قال:"قل آمنت بالله ثم استقم". أخرجه مسلم في صحيحه(٣٨) وأحمد في مسنده (٤/٣٨٥).
.

٦ قيل: هو من قول الله تعالى. وقيل: هو من قول جبريل. وقيل: ميكائيل، أو غيرهما من الملائكة-عليهم السلام- وقيل: هو من قول فرعون في نفسه، ولم يكن ثم قول باللسان، بل وقع ذلك في قلبه فقال في نفسه ما قال حيث لم تنفعه الندامة. ونظيره:﴿إنما نطعمكم لوجه الله..(٩)﴾[الإنسان] أثنى عليهم الرب سبحانه بما في ضميرهم، لا لأنهم قالوا ذلك بلفظهم. والكلام هنا هو كلام القلب.[ذكره القرطبي في تفسيره ٤/٣٣٠٦]-بتصرف..
وهذا يعني : أتقول إنك آمنت الآن وإنك من المسلمين. إن قولك هذا مردود ؛ لأنه جاء في غير وقته، فهناك فرق بين إيمان الإجبار وإيمان الاختيار، أتقول الآن آمنت وأنت قد عصيت من قبل، وكنت تفسد في الأرض.
وكان من الممكن أن يقبل الله سبحانه منه إيمانه وهو في نجوة( ١ ) بعيدة عن الشر الذي حاق( ٢ ) به.
فالحق سبحانه لا يقبل إيمان أحد بلغت روحه الحلقوم، فهذا إيمان إجبار، لا إيمان اختيار.
ولو كان المطلوب إيمان الإجبار لأجبر الحق سبحانه الخلق كلهم على أن يؤمنوا، ولما استطاع أحد أن يكفر بالله تعالى، وأمامنا الكون كله خاضع لإمرة الله-سبحانه وتعالى- ولا يتأبى فيه أحد على الله تعالى.
وقدرة الحق-عز وجل- المطلقة قادرة على إجبار البشر على الإيمان، لكنها تثبت طلاقه القدرة، ولا تثبت المحبوبية للمعبود.
وهذه المحبوبية للمعبود لا تثبت إلا إذا كان لك خيار في أن تؤمن أو لا تؤمن. والله سبحانه يريد إيمان الاختيار( ٣ ).
إذن : فالمردود من فرعون ليس القول، ولكن زمن القول.
ويقال : إنها ردت ولم تقبل-رغم أنه قالها ثلاث مرات-لأن قوم موسى في ذلك الوقت كانوا قد دخلوا في مرحلة التجسيم لذات الله وادعوا-معاذ الله-أن الله- تعالى الله عما يقولون-جلس على صخرة وأنزل رجليه في حوض ماء، وكان يلعب مع الحوت.. إلى آخر الخرافات التي ابتدعها بنو إسرائيل.
وحين أعلن فرعون أنه آمن بالإله الذي آمنت به بنو إسرائيل، فهذا يعني أنه لم يؤمن بالإله الحق سبحانه.
١ النجوة: ما ارتفع من الأرض..
٢ حاق به الشيء يحيق حيقا: نزل به، وأحاط به. وقيل: الحيق في اللغة هو أن يشتمل على الإنسان عاقبة مكروه فعله. قال تعالى:﴿فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب(٤٥)﴾[غافر] وقال تعالى:﴿.. إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون(٢٦)﴾[الأحقاف]..
٣ يقول الحق سبحانه:﴿ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين(٩٩)﴾[يونس].
.

ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون( ٩٢ ) ﴾ :
ونحن نعرف أن الإنسان مكون من بدن، وهو الهيكل المادي المصور على تلك الصورة التي نعرفها، وهناك الروح التي في البدن، وبها تكون الحركة والحياة.
وساعة نقول :" بدن "، فافهم أنها مجردة عن الروح، مثلها نقول : جسد. وإذا أطلقت كلمة " جسد " فمعناها الهيكل المادي المجرد من الروح.
والحق سبحانه هو القائل :﴿ ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا.. ( ٣٤ ) ﴾[ ص ].
وكان سيدنا سليمان-عليه السلام- يستمتع بما آتاه الله سبحانه من الملك ما لا ينبغي لأحد من بعده، وسخَّر له الجن والرياح وعلَّمه كل اللغات، وكان صاحب الأوامر والنواهي والهيمنة، ثم وجد نفسه قاعدا على كرسيه بلا حراك وبلا روح، ويقدر عليه أي واحد من الرعية، ثم أعاد الله له روحه إلى جسده، وهو ما يقوله الحق سبحانه :﴿ .. ثم أناب( ١ ) ( ٣٤ ) ﴾[ ص ] : أي : أنه أفاق لنفسه، فعلم أن كل ما يملكه هو أمر مفاض عليه، لا أمر نابع من ذاته.
وهنا في الآية الكريمة التي نحن بصددها الآن يقول الحق سبحانه :﴿ فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية( ٢ ).. ( ٩٢ ) ﴾[ يونس ] :
وبالله، لو لم يأمر الحق البحر بأن يلفظ جثمان فرعون، أما كان من الجائز أن يقولوا : إنه إله، وإنه سيرجع مرة أخرى ؟
ولكن الحق سبحانه قد شاء أن يلفظ البحر جثمانه كما يلفظ جيفة أي حيوان غارق ؛ حتى لا يكون هناك شك في أن هذا الفرعون قد غرق، وحتى ينظر من بقي من قومه إلى حقيقته، فيعرفوا أنه مجرد بشر، ويصبح عبرة للجميع، بعد أن كان جبارا مسرفا طاغية يقول لهم :﴿ ما علمت لكم من إله غيري.. ( ٣٨ ) ﴾[ القصص ].
وبعض من باحثي التاريخ يقول : إن فرعون المقصود هو " تحتمس " وإنهم حللوا بعضا من جثمانه، فوجدوا به آثار مياه مالحة.
ونحن نقول : إن فرعون ليس اسما لشخص، بل هو توصيف لوظيفة، ولعل أجساد الفراعين المحنطة تقول لنا : إن علة حفظ الأبدان هي عبرة ؛ وليتعظ كل إنسان ويرى كيف انهارت الحضارات، وكيف بقيت تلك الأبدان آية نعتبر بها.
وقد تعرض القرآن لمسألة الفرعون، فقال الحق سبحانه :﴿ وفرعون ذي الأوتاد( ٣ )( ١٠ ) ﴾[ الفجر ]، ويقول سبحانه في نفس السورة عن كل جبار مفسد :﴿ إن ربك لبالمرصاد( ٤ )( ١٤ ) ﴾[ الفجر ] : ونلحظ أن كلام الحق سبحانه عن فرعون في سورة الفجر كان كلاما يضم إلى جانب حضارة الفراعنة حضارات أخرى قديمة، مثل حضارة عاد وحضارة ثمود.
وكذلك تكلم الحق سبحانه عن الفرعون في أثناء لقطات قصة موسى عليه السلام، ولكن الكلام يختلف في قصة يوسف عليه السلام، فلا تأتي وظيفة الفرعون، بل يحدثنا الحق سبحانه عن وظائف أخرى، هي وظيفة " عزيز مصر " -أي : رئيس وزرائها-ويحدثنا الله سبحانه عن ملك مصر بقوله :﴿ وقال الملك ائتوني به.. ( ٥٠ ) ﴾[ يوسف ] : ولم يكتشف الفارق بين وظيفة " الفرعون " ووظيفة " الملك " في التاريخ المصري إلا بعد أن جاءت الحملة الفرنسية إلى مصر وفك " شامبليون " رموز اللغة الهيروغليفية من خلال نقوش حجر " رشيد "، عرفنا أن حكام مصر القديمة كانوا يسمون " الفراعنة " إلا في فترة كانت فيها مصر تحت حكم " ملوك الرعاة " أو " الهكسوس " الذين أغاروا على مصر، وحكموها حكما ملكيا وقضوا على حكم الفراعنة، ثم عاد الفراعنة إلى حكم مصر بعد أن خلصوها من سيطرة " الهكسوس ".
وهكذا نجد أن إشارة القرآن في قصة يوسف-عليه السلام-كانت إلى الملك، ولم يأت فيها بذكر فرعون، وهذا دليل على أن القرآن قد سبق بعلمه أي اكتشاف، وكلما جاء اكتشاف جديد أو ابتكار حقيقي، نجده يؤيد كتاب الله.
وينهي الحق سبحانه الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها بقوله :﴿ .. وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون( ٥ )( ٩٢ ) ﴾[ يونس ] : وهذا القول يوضح أن هناك من يغفل عن الآيات، وهناك من لا يغفل عنها، وينظر إلى تلك الآيات ويتأملها ويتدبرها، ويتساءل عن جدوى كل شيء، فيصل إلى ابتكارات واختراعات ينتفع بها الإنسان، أذن بميلادها عند البحث عنها ؛ لتستبين عظمة الله في خلقه.
وحين ينظر الإنسان في تلك الابتكارات سيجدها وليدة أفكار من نظروا بإمعان، وامتلكوا قدرة الاستنباط، ولو لم يغفل الناس عن النظر في لآيات الكون، والسماوات والأرض، لزادت الابتكارات والاختراعات، والحق سبحانه هو القائل :
﴿ وكأين من آية( ٦ ) في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون( ١٠٥ ) ﴾[ يوسف ].
وحين ننظر إلى مكتشف قانون الجاذبية " نيوتن " الذي رأى ثمرة تفاح تسقط من شجرتها، نجد أن هناك عشرات الآلاف أو الملايين من البشر شاهدوا من قبله مشهد سقوط ثمرة من على شجرة، ولكن نيوتن وحده هو الذي تفكر وتدبر ما يحدث أمامه إلى أن اهتدى على اكتشاف قانون الجاذبية.
وجاء من بعد نيوتن من بنى سفن الفضاء التي تستفيد من هذا القانون وغيره.
وكذلك نجد من صمّم الغواصات، والبواخر العملاقة التي تشبه المدن العائمة، هؤلاء اعتمدوا على من اكتشف قانون " الطفو " وقاعدة " أرشميدس " الذي لاحظ أنه كلما غطس شيء في المياه، ارتفع الماء بنفس حجم الشيء الغاطس فيه.
كل هؤلاء اكتشفوا-ولم يخلقوا-أسرارا كانت موجودة في الكون، وهم تميّزوا بالانتباه لها.
وكذلك العالم الذي اكتشف " البنسلين " قد لاحظ أن أصيصا( ٧ ) من المواد العضوية كانت تنزل منه قطرات من الماء العفن، ورأى الحشرات التي تقترب من هذا الماء تموت، فأخذ عينة من هذا العفن وأخذ يجري عليها بعض التجارب في معمله إلى أن اكتشف " البنسلين ".
وقول الحق سبحانه :﴿ وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون( ١٠٥ ) ﴾[ يوسف ] : فكأنهم لو لم يعرضوا لاستنبطوا من آيات الكون الشيء الكثير.
وكذلك القصص التي تأتي في القرآن، إنما جاءت ليعتبر الناس ويتأملوا، فحين يرسل الله رسولا مؤيّدا بمعجزة منه لا يقدر عليها البشر ؛ فعلى الناس أن يسلّموا ويقولوا :" آمنا "، لا أن يظلوا في حالة إعادة للتجارب السابقة ؛ لأن ارتقاءات البشر في الأمور المادية قد تواصلت ؛ لأن كل جيل من العلماء يأخذ نتائج العلم التي توصل إليها من سبقوه، فلماذا لا يحدث هذا في الأمور العقدية ؟
ولو أن الناس بدأوا من حيث انتهى غيرهم ؛ لوجدنا مؤمنا بالله تعالى، ولأخذ كل مولود الأمر من حيث انتهى أبوه، ولوصل خير آدم إلى كل من ولد بعد ذلك، لكن آفة البشر أن الإنسان يريد أن يجرب بنفسه.
ونحن نجد ذلك في أمور ضارة مثل : الخمر، نجدها ضارة لكل من يقرب منها، فإذا حرّمها الدين وجدنا من يتساءل : لماذا تحرّم ؟
وكذلك التدخين ؛ نجد من يجربه رغم أن التجارب السابقة أثبتت أضراره البالغة، ولو أخذ كل إنسان تجارب السابقين عليه ؛ فهو يصل عمره بعمر الآخرين.
١ أناب: رجع إلى الله تعالى بالتوبة.[كلمات القرآن: للشيخ حسنين محمد مخلوف]..
٢ ننجيك: نخرجك من البحر. ببدنك: بجسدك الذي لا روح فيه. لتكون لمن خلفك: بعدك. آية: عبرة؛ فيعرفوا عبوديتك ولا يقدموا على مثل فعلك. وعن ابن عباس أن بعض بني إسرائيل شكوا في موته فأخرج لهم ليروه.[تفسير الجلالين: ص ١٨٧]. وقد قرأ اليزيدي وابن السميقع " ننحّيك" بالحاء، أي: تكون على ناحية من البحر ليروك..
٣ قيل في معنى ذب الأوتاد: لأن فرعون كان يعذب الناس بأربعة أوتاد [مختصر تفسير الطبري: ص ٥١٣]. وذكر في تفسير الجلالين (ص ٣٩٨) أن فرعون كان يتد لكل من يغضب عليه أربعة أوتاد يشد إليها يديه ورجليه ويعذبه. وفي [كلمات القرآن للشيخ حسنين محمد مخلوف] الأوتاد: الجنود أو المباني القوية..
٤ إن ربك لبالمرصاد: يرقب أعمالهم ويجازيهم عليها.[كلمات القرآن].
.

٥ وإن كثيرا من الناس: أي: أهل مكة. عن آياتنا غافلون: لا يعتبرون بها.[تفسير الجلالين ص ١٨٧]..
٦ كأين من آية: كم من آية-كثير من الآيات.[كلمات القرآن: للشيخ حسنين محمد مخلوف]
.

٧ الأص (بفتح الهمزة، وبكسرها، وبضمها): الأصل. والأصيص: أصل الدن (إناه) أي: أسفله ويقال: هو كهيئة الجر له عروتان يحمل فيه الطن. وفي الصحاح: الأصيص ما تكسر من الآنية، وهو نصف الجر أو الخابية تزرع فيه الرياحين.[لسان العرب: مادة (أ ص ص)]. وتطلق هذه الكلمة على أوان من الفخار تصنع خصيصا لزراعة الأزهار والنباتات..
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق ورزقناهم من الطيبات فما اختلفوا حتى جاءهم العلم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون( ١ )( ٩٣ ) ﴾ :
وكلمة " تبوأ " تعني إقامة مباءة أي : البيوت التي يكون فيها السكن الخاص، وإذا أطلقت كلمة " مبوأ " فهي تعني الإقليم أو الوطن.
والوطن أنت تتحرك فيه وكذلك غيرك، أما البيت فهو للإنسان وأسرته كسكن خاص.
أما الثري فقد يكون له جناح خاص في البيت، وقد يخصص الثريُّ في منزله جناحا لنفسه، وآخر لولده وثالثا لابنته.
أما غالبية الناس فكل أسرة تسكن في " شقة " قد تتكون من غرفة أو اثنتين أو ثلاثة حسب إمكانات الأسرة.
إذن : فيوجد فرق بين تبوّء البيوت وتبوء المواطن، فتبوّء المواطن هو الوطن.
وسبق أن قال الحق سبحانه لموسى وهارون عليهما السلام :﴿ أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا.. ( ٨٧ ) ﴾[ يونس ]. هذا في التبوء الخاص، أما في التبوء العام فهو يحتاج إلى قدرة الحق تعالى، وهو سبحانه يقول هنا :﴿ ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق.. ( ٩٣ ) ﴾[ يونس ]
والحق سبحانه أتاح لهم ذلك في زمن موسى-عليه السلام-وأتاح لهم السكن في مصر والشام، وهو سبحانه القائل :﴿ سبحانه الذي أسرى( ٢ ) بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله.. ( ١ ) ﴾[ الإسراء ] وما دام الحق سبحانه قد بارك حوله فلا بد أن فيه خيرا كثيرا، ولا بد أن تكون الأرض التي حوله مبوأ صدق.
وكلمة " الصدق " تعني جماع الخير والبر ؛ ولذلك نجد الرسول صلى الله عليه وسلم حينما سئل : أيكون المؤمن جبانا ؟ قال :" نعم ". وحين سئل : أيكون المؤمن بخيلا ؟ قال :" نعم ". وحين سئل : أيكون المؤمن كذابا ؟ قال :" لا " ( ٣ ).
ولذلك فأنت تجد في الإسلام عقوبة على الزنا، وعقوبة تقام على السارق( ٤ )، أما الكذب فهو خصلة لا يقربها المسلم ؛ لأن عليه أن يكون صادقا. وكل خصال الخير هي مبوأ الصدق.
ولذلك نجد قول الحق سبحانه : وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق( ٥ )( ٨٠ ) }[ الإسراء ].
وقول الحق سبحانه :﴿ وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم( ٦ ).. ( ٢ ) ﴾[ يونس ].
وقول الحق سبحانه :﴿ واجعل لي لسان صدق في الآخرين( ٧ )( ٨٤ ) ﴾[ الشعراء ]. أي : اجعل لي ذكرى حسنة فلا يقال فلان كان كاذبا، وأما قدم الصدق فهي سوابق الخير التي يسعى إليها ؛ ولذلك كان الجزاء على الصدق هو ما يقول عنه الحق سبحانه :﴿ في مقعد صدق عند مليك مقتدر( ٨ )( ٥٥ ) ﴾[ القمر ] : وهو مقعد عند مليك لا يبخل، ولا يجلس في رحابه إلا من يحبه، ولا يضن بخيره على من هم في رحابه.
ومقعد الصدق هو جزاء لمن استجاب له ربه فأدخله مدخل صدق، وأخرجه مخرج صدق، وجعل له لسان صدق، وقدم صدق.
وبعد أن بوّأ الحق سبحانه بني إسرائيل مبوّأ صدق، في مصر والشام وبعد أن قال لهم :﴿ اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم( ٩ ).. ( ٦١ ) ﴾[ البقرة ] : أي : أن الحق سبحانه حقق قوله :﴿ ورزقناهم من الطيبات.. ( ٩٣ ) ﴾[ يونس ] : وأنجاهم من فرعون، وكان من المفترض أن تستقيم أمورهم.
ويقول الحق سبحانه :﴿ فما اختلفوا حتى جاءهم العلم.. ( ٩٣ ) ﴾[ يونس ] : والمقصود بذلك هو معرفتهم بعلامات الرسول الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم، ومنهم من ترقب مجيء النبي صلى الله عليه وسلم ليؤمن به، ومنهم من تمادى في الطغيان ؛ لذلك قطعهم الله-سبحانه-في الأرض أمما.
وحين ننظر إلى دقة التعبير القرآني نجده يحدد مسألة التقطيع هذه، فهم في كل أمة يمثلون قطعة، أي : أنه سبحانه لم يذبهم في الشعوب. بل لهم في كل بلد ذهبوا إليه مكان خاصّ بهم، ولا يذوبون في غيرهم.
والحق سبحانه يقول :﴿ وقلنا من بعده( ١٠ ) لبني إسرائيل اسكنوا الأرض.. ( ١٠٤ ) ﴾[ الإسراء ]. وقد يقول أحد السطحيين : وهل هناك سكن في غير الأرض ؟
ونقول : لنا أن نلحظ أن الحق سبحانه لم يحدد لهم في آية بقعة الأرض يسكنون، فكأن الحق سبحانه قد بين ما أصدره من حكم عليهم بالتقطيع في الأرض أمما ؛ فهو سبحانه القائل :﴿ وقطعناهم في الأرض أمما( ١١ ).. ( ١٦٨ ) ﴾[ الأعراف ]
وإذا كنا نراهم في أيامنا هذه وقد صار لهم وطن، فاعلم أن الحق سبحانه هو القائل :
﴿ وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا( ٤ ) ﴾[ الإسراء ].
وقد قال في آخر سورة الإسراء :﴿ وقلنا من بعده لني إسرائيل اسكنوا الأرض فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا( ١٢ ) ( ١٠٤ ) ﴾[ الإسراء ] : والمجيء بهم لفيفا إنما يعني أن يجمعهم في وطن قومي لتأتي لهم الضربة القاصمة التي ذكرها الحق سبحانه في قوله :﴿ .. فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا( ١٣ )( ٧ ) ﴾[ الإسراء ] : لأننا لن نستطيع أن نحاربهم في كل بلد من البلاد التي قطعهم الله فيها، لكنهم حين يجتمعون في مكان واحد، إنما يسهل أن ينزل عليهم قضاء الله.
وحين ننظر إلى رحلتهم نجد أن " يثرب " كانت المكان الذي اتسع لهم بعد اضطهادات المجتمعات التي دخلوا إليها، وحين اجتمعوا في يثرب صار لهم الجاه ؛ لأنهم أهل علم، وأهل اقتصاد، وأهل حرب.
وهم قد اجتمعوا في المدينة ؛ لأن المخلصين من أهل الكتاب أخبروهم أن هذه المدينة هي المهجر لنبي ورسول يأتي من العرب في آخر الزمان ؛ فمكثوا فيها انتظارا له، وكانوا يقولون لكفار قريش :" لقد أظل زمان يأتي فيه نبي نتبع، ونقتلكم فيه قتل عاد وإرم " ( ١٤ ).
وكان من المفروض أن يؤمنوا برسالته صلى الله عليه وسلم، لكنه ما إن أطل رسول الله صلى الله عليه وسلم بنور رسالته حتى أنكروه خوفا على سلطتهم الزمنية.
وهو ما تقول عنه الآية الكريمة التي نحن بصدد خواطرنا عنها :﴿ فما اختلفوا حتى جاءهم العلم.. ( ٩٣ ) ﴾[ يونس ] : أي : أن علمهم بمجيء الرسول صلى الله عليه وسلم هو مصدر اختلافهم، فمنهم من سمعوا إشارات عنه صلى الله عليه وسلم وعرفوا علاماته صلى الله عليه وسلم ؛ فآمنوا به، ومنهم من لم يؤمن به.
وهم لم يختلفوا من قبل وكانوا متفقين، وتوعّدوا المشركين من قريش. وما إن أهلّ الرسول صلى الله عليه وسلم وعلمت به " الأوس " و " الخزرج " أنه رسول من الله تعالى قد ظهر بمكة، فقالت الأوس والخزرج : إنه النبي الذي توعّدتنا به يهود، فهيا بنا لنذهب ونسبقهم إليه قبل أن يسبقونا فيقتلونا به.
فكان اليهود هم الذين تسببوا في هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ؛ لأن الأوس والخزرج سبقوهم إليه ؛ وهذا لنعلم كيف ينصر الله تعالى دينه بأعدائه.
ولذلك نجد أنهم في اختلافهم يأتي عبد الله بن سلام( ١٥ ) إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول : إن اليهود قوم بهت، وإذا أنا آمنت بك يا رسول الله سيقولون فيّ ما يسيء إليّ ؛ لذلك فقبل أن أعلن إسلامي اسألهم عنّي.
وكان ابن سلام في ذلك يسلك سلوكا يتناسب مع كونه يهوديا، ولما اجتمع معشر اليهود، سألهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال : ما تقولون في ابن سلام ؟
قالوا : حبرنا وشيخنا وهو الورع فينا، وبعد أن أثنوا عليه ثناء عظيما، قال ابن سلام : يا رسول الله أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله.
وهنا بدأ اليهود يكيلون له السّباب، فقال ابن سلام : ألم أقل لك يا رسول الله إنهم قوم بهت( ١٦ ) ؟
إذن : فمعنى قوله سبحانه :﴿ فما اختلفوا حتى جاءهم العلم.. ( ٩٣ ) ﴾[ يونس ] : أي : أن أناسا منهم بقوا على الباطل، وأناسا منهم آمنوا بالرسول الحق صلى الله عليه وسلم.
وينهي الحق سبحانه الآية الكريمة بقوله تعالى :﴿ .. إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون( ٩٣ ) ﴾[ يونس ] : أي : أن الله سبحانه وتعالى سوف يقضي بين من جاءوا في صف الإيمان، وبين من بقوا على اليهودية المتعصبة ضد الإيمان.
ونحن نلحظ أن كلمة " بينهم " توضح أن الضمير عام، لهؤلاء ولأولئك.
ونقول : إن الحق سبحانه وتعالى يقضي يوم القيامة بين المؤمنين والكافرين، ويقضي أيضا بين الكافرين، فمنهم من كان ظالما لكافر، ومنهم من كان مختلسا أو مرتشيا، ومنهم من عمل على غير مقتضى دينه ؛ لذلك يقضي الله سبحانه بينهم.
والآية تفيد العموم في القضاء ماضيا وحاضرا ومستقبلا بين كل مؤمن وكافر، وبين كل تائب وعاص.
١ بوأنا: أنزلنا. مبوأ صدق: منزل كرامة وهو مصر والشام. فما اختلفوا: بأن آمن بعضهم وكفر بعضهم.[تفسير الجلالين: ص ١٨٧-بتصرف].
.

٢ سبحان الذي أسرى بعبده: تنزيها وتبرئة لله سبحانه وتعالى مما يقول فيه المشركون. والإسراء والسرى: السير في الليل. المسجد الأقصى: بيت المقدس. الذي باركنا حوله: لسكانه في معايشهم وأقواتهم.[مختصر تفسير الطبري: ص ٣١٣]..
٣ أخرجه الإمام مالك في موطئه (ص ٩٩٠) من حديث صفوان بن سليم مرسلا..
٤ قرر الكتاب والسنة عقوبات محددة لجرائم معينة هي جرائم الحدود، وهي: الزنا، والقذف، والسرقة، والسكر، والمحاربة، والردة، والبغي؛ وذلك لتحقيق صيانة المجتمع من نواحي: الدين، العقل، المال، العرض، النفس. ولكل جريمة من هذه الجرائم شروط يجب توافرها ليتم تنفيذ العقوبة الخاصة بها. انظر تفصيل هذا في كتب الفقه (أبواب الحدود)..
٥ وقل رب أدخلي مدخل صدق، أي: أدخلني المدينة إدخالا مرضيا لا أرى فيه ما أكره. وأخرجني: من مكة مخرج صدق: إخراجا لا ألتفت بقلبي إليها.[تفسير الجلالين: ص ٢٥١]..
٦ قدم صدق: سابقة فضل، ومنزلة رفيعة.[كلمات القرآن: للشيخ حسنين محمد مخلوف]..
٧ لسان صدق: ثناء حسنا وذكرا جميلا.[كلمات القرآن]..
٨ مقعد صدق: مكان مرضى.[كلمات القرآن]. عند مليك: ذي ملك. مقتدر: على كل ما يشاء، لا إله إلا هو.[مختصر تفسير الطبري: ص ٦٠٧]..
٩ اهبطوا: انزلوا. مصرا: من الأمصار، أي: بلدا من البلاد..
١٠ من بعده: أي من بعد إغراق فرعون..
١١ أي: فرقناهم في الأرض فرقا.[تفسير الجلالين: ص ١٤٦]..
١٢ لفيفا: جميعا..
١٣ أي: إذا أفسدتم الكرة الآخرة وجاء أعداؤكم ليسوءوا وجوهكم، أي: يهينوكم ويقهروكم ﴿وليدخلوا المسجد..(٧)﴾ أي: بيت المقدس ﴿كما دخلوه أول مرة..(٧)﴾ أي: في التي جاسوا فيها خلال الديار ﴿.. وليتبروا ما علوا تتبيرا(٧)﴾أي: يدمروا ويخربوا ما ظهروا عليه تدميرا. بتصرف من تفسير ابن كثير (٣/٢٦) وقد ذكر ابن كثير قول قتادة: قد عاد بنو إسرائيل فسلط الله عليهم هذا الحي محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه يأخذون منهم الجزية عن يد وهم صاغرون، وهذا لا ينفي أن يحدث عدة مرات، ولذلك قال رب العزة:﴿وإن عدتم عدنا..(٨)﴾[الإسراء]..
١٤ قال الحق سبحانه:﴿ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين(٨٩)﴾[البقرة] وعن أشياخ من الأنصار قالوا: كنا قد علوناهم قهرا دهرا في الجاهلية ونحن أهل شرك وهم أهل كتاب وهم يقولون: إن نبيا سيبعث الآن نتبعه، قد أظل زمانه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم، فلما بعث الله رسوله من قريش واتبعناه كفروا به. ذكره ابن كثير في تفسيره(١/١٢٤) نقلا عن ابن إسحاق..
١٥ هو: عبد الله بن سلام بن الحارث الإسرائيلي، أبوة يوسف، أسلم عند قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، كان اسمه الحصين وسماه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله، شهد مع عمر فتح بيت المقدس والجابية. ولما كانت الفتنة بين علي وعاوية اتخذ سيفا من خشب، واعتزلها، وأقام بالمدينة إلى أن مات عام ٤٣ هـ (العلام-للزركلي ٤/٩٠)..
١٦ عن أنس بن مالك أن عبد الله بن سلام بلغه مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، فأتاه يسأله عن أشياء فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي: ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة؛ وما بال الولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمه؟ قال: أخبرني به جبريل آنفا. قال ابن سلام: ذاك عدو اليهود من الملائكة. قال: أما أول أشراط الساعة فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت. وأما الولد فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزعت الولد. قال أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. قال: يا رسول الله، عن اليهود قوم بهت، فاسألهم عني قبل أن يعلموا بإسلامي. فجاءت اليهود، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أي رجل عبد الله بن سلام فيكم؟ قالوا: خيرنا وابن خيرنا. وأفضلنا وابن أفضلنا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أرأيتم إن أسلم عبد الله بن سلام؟ قالوا: أعاذه الله من ذلك. فأعاد عليهم؛ فقالوا مثل ذلك. فخرج إليهم عبد الله فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، قالوا: شرنا وابن شرنا، وتنقصوه، قال: هذا ما كنت أخاف يا رسول الله. أخرجه البخاري في صحيحه(٣٩٣٨) وأحمد في مسنده(٣/٢٧٢، ٢٧١، ١٠٨)..
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ فإن كنت في شك( ١ ) مما أنزلنا إليك فسئل( ٢ ) الذين يقرءون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين( ٣ )( ٩٤ ) ﴾ :
والخطاب هنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ونحن نعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد قال من البداية إنه لا يشك في رسالته، وحين وعده أهله بالسيادة قال :" والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله، أو أهلك فيه، ما تركته " ( ٤ ).
نقول : إن الحق سبحانه وتعالى يضمر خطاب الأمة في خطاب رسوله صلى الله عليه وسلم ؛ لأن الأتباع حين يقرأون ويسمعون الخطاب وهو موجّه بهذا الأسلوب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فهم لن يستنكفوا( ٥ ) عن أي أمر يصدر إليهم.
ومثال ذلك : لو أن قائدا يصدر أمرا لاثنين من مساعديه اللذين يقودان مجموعتين من المقاتلين، فيقول القائد الأعلى لكل منهما : إياك أن تفعل كذا أو تصنع كذا. والقائد الأعلى بتعليماته لا يقصد المساعدين له، ولكنه يقصد كل مرءوسيهم من الجند.
وجاء الأمر هنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لتفهم أمته أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما كان ليتأبّى على أمر من أوامر الله، بل هو صلى الله عليه وسلم ينفّذ كل ما يؤمر به بدقة( ٦ ) ؛ وذلك من باب خطاب الأمة في شخصية رسولها صلى الله عليه وسلم.
وقول الحق سبحانه :﴿ فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك.. ( ٩٤ ) ﴾[ يونس ] : هذا القول دليل على أن الذين عندهم علم بالكتاب من السابقين على رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعرفون الحقائق الواضحة عن رسالته صلى الله عليه وسلم.
وإن الذين يكابرون ويكفرون برسول الله صلى الله عليه وسلم ورسالته إنما يعرفونه كما يعرفون أبناءهم. وقد قال عبد الله بن سلام :" لقد عرفت محمدا حين رأيته كمعرفتي لابني، ومعرفتي لمحمد أشد " ( ٧ ).
لإذن : فالحق عندهم واضح مكتوب في التوراة( ٨ ) من بشارة به صلى الله عليه وسلم، وهذا يثبت أنك يا محمد صادق في دعوتك، بشهادة هؤلاء.
وينهي الحق سبحانه الآية بقوله تعالى :﴿ .. لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين( ٩٤ ) ﴾[ يونس ] : والحق القادم من الله تعالى ثابت لا يتغير ؛ لأنه واقع، والواقع لا يتعدد، بل يأتي على صورة واحدة.
أما الكذب فيأتي على صورة متعددة.
ولذلك فمهمة المحقّق الدقيق أن يقلّب أوجه الشهادات التي تقال أمامه في النيابة أو القضاء ؛ حتى يأتي حكمه مصيبا لا مدخل فيه لتناقض، ولا يعتمد على تخيّل أو أكاذيب.
وقول الحق سبحانه :﴿ لقد جاءك الحق.. ( ٩٤ ) ﴾[ يونس ] : إنما يدل على أن الذين قرأوا الكتاب قد عرفوا أنك رسول الله حقّا، ومنهم من ترك معسكر اليهودية، وجاء إلى معسكر الإيمان بك ؛ لأن الحق الذي جاء لا دخل للبشرية فيه، بل جاء من ربك :
﴿ .. فلا تكونن من الممترين( ٩٤ ) ﴾[ يونس ] : ومجيء الخطاب بهذا الشكل، هو كما قلت موجّه إلى الأمّة المؤمنة في شخص الرسول الله صلى الله عليه وسلم.
والحق سبحانه يقول :﴿ لئن أشركت ليحبطن عملك( ٩ ).. ( ٦٥ ) ﴾[ الزمر ] : هذا القول نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن غير المعقول أن يشرك النبي صلى الله عليه وسلم، وكل الآيات التي تحمل معاني التوجيه في الأمور المنزّه عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصّة بأمته.
وأيضا يقول الحق سبحانه :﴿ ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين( ٩٥ ) ﴾[ يونس ] : والقول الحكيم ساعة يوجّه إلى الخير قد يأتي بمقابله من الشر ؛ لتتضح الأشياء بالمقارنة.
ونحن في حياتنا اليومية نجد الأب يقول لابنه : اجتهد في دروسك، واستمع إلى مدرّسيك جيدا حتى تنجح، فلا تكن مثل فلان الذي رسب، والوالد في هذه الحالة يأتي بالإغراء الخيّر، ويصاحبه بمقابله، وهو التحذير من الشر.
وقد قال شاعر :
فالوجه مثل الصّبح مبيضّ**** والشَّعر مثل الليل مسودُّ
ضدَّان لمَّا استجمعا حسنا **** والضّدُّ يظهر حسنه الضّدَّ( ١٠ )
١ المخاطب بهذه الآية محمد صلى الله عليه وسلم والمراد به غيره، وكذلك الآية بعدها:﴿ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين(٩٥)﴾[يونس]، وقد تأول بعض العلماء الشك هنا بأنه ضيق الصدر، أي: إن ضاق صدرك بكفر هؤلاء فاصبر، واسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك يخبرونك صبر الأنبياء من قبلك على أذى قومهم وكيف عاقبة أمرهم.[تفسير القرطبي ٤/٣٣١٠]..
٢ فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك: من أهل التوراة والإنجيل، كعبد الله بن سلام. وقيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم-لما نزلت هذه الآية-قال:"ما أشك ولا أسأل". وقد علم الله ذلك منه، ومخرج هذا القول، كقول الرجل لابنه: إن كنت ابني فبرني-من البر-أي: كن بارا بي. وهو لا يشك في أنه ابنه. من الممترين: الشاكين.[مختصر تفسير الطبري: ص ٢٤١]..
٣ امترى في الشيء: شك فيه ولم يستيقن. وتمارى القوم به: تجادلوا. وتمارى في الشيء: تشكك فيه. قال تعالى:﴿فبأي آلاء ربك تتمارى(٥٥)﴾[النجم] أي: تشكك، ويتضمن معنى التكذيب.[القاموس القويم] وراجع: لسان العرب مادة [مرى]..
٤ أورده ابن هشام في السيرة النبوية (١/٢٦٦) معزوا لابن إسحاق، أن قريشا قالوا لأبي طالب: يا أبا طالب، إن لك سنا وشرفا ومنزلة فينا، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا، أو ننازله وإياك في ذلك، حتى يهلك أحد الفريقين، فبعث أبو طالب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: يا بن أخي، إن قومك قد جاءوني، فقالوا لي كذا وكذا، فأبق علي وعلى نفسك، ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه المقالة..
٥ الاستنكاف: الامتناع تكبرا وأنفة. ومنه قوله تعالى:﴿لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا(١٧٢)﴾[النساء]..
٦ ومصداق ذلك قوله يسبحانه:﴿فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم..(١٥)﴾[الشورى]..
٧ ذكره ابن كثير في تفسيره(٢/١٩٤) أن عمر بن الخطاب سأل عبد الله بن سلام: أتعرف محمدا كما تعرف ولدك؟ قال: نعم وأكثر، نزل الأمين من السماء على الأمين في الأرض بنعته فعرفته، وإني لا أدري ما كان من أمه..
٨ يقول تعالى:﴿الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون(١٥٧)﴾[الأعراف]
وعن عطاء بن يسار عن عبد الله بن عمرو، كان يقول: إن هذه الآية التي في القرآن:﴿يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا(٤٥)﴾[الأحزاب] هي في التوراة: يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك: التوكل، لست بفظ ولا غيظ ولا سخاب بالأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح، ولن نقبضه حتى نقيم به الملة العوجاء حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فيفتح بها أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا. أخرجه البخاري في كتاب التفسير(٨/٥٨٥ فتح) والبيهقي في الدلائل (١/٣٧٥)..

٩ أي: لئن أشركت بالله أحدا؛ ليبطلن عملك.[مختصر تفسير الطبري: ص٥٢٧] بتصرف. وحبوط الأعمال بطلانها وفسادها رغم تحصيلها. وأصله إذا حبطت الماشية. أي: تأكل فتكثر حتى تنتفخ بطونها ولا يخرج عنها ما فيها[انظر اللسان مادة: حبط]..
١٠ الأضداد: في ظهورها تظهر ميزات ما فيها، فنحن لا نعرف قيمة الحق إلا إذا تذوقنا مرارة الباطل، ولا نعرف قيمة النهار إلا إذا غشنا الليل في إظلامه، ولا نعرف جمال العدل إلا إذا اكتوينا بنار المظالم..
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين( ٩٥ ) ﴾ :
وآيات الله سبحانه كما نعرفها متعددة ؛ إما آيات كونية وهي الأصل في المعتقد الأول بأن خالقها هو الخالق الأعلى سبحانه، وتلفت هذه الآيات إلى بديع صنعه سبحانه، ودقة تكوين خلقه، وشمول قدرته.
وكذلك يقصد بالآيات ؛ المعجزات المنزلة على الرسل-عليهم السلام- لتظهر صدق كل رسول في البلاغ عن الله تعالى.
وآيات القرآن الكريم التي تحمل منهج الله.
وهم كانوا يكذّبون بكل الآيات.
والخطاب في هذه الآية هو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وجاء معطوفا على ما في الآية السابقة، حيث يقول الحق سبحانه :﴿ فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك.. ( ٩٤ ) ﴾[ يونس ] : وكل ما يرد من مثل هذا القول لا يصح أن نفهم منه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الممكن أن يشك، أو من المحتمل أن يكون من الذين كذبوا بآيات الله-سبحانه وتعالى- ولكن إيراد مثل هذا الأمر، هو إيراد لدفع خواطر البشرية، أيا كانت تلك الخواطر، فإذا وجدنا الخطاب المراد به رسول الله صلى الله عليه وسلم في التنزيل، فغاية المراد اعتدال موازين الفهم في أمته تعليما وتوجيها ؛ لأن المنهج منزل عليه لتبليغه لأمته فهو شهيد على الأمم( ١ ).
وإذا كانت الآية التي سبقت توضح : إن كنت في شك فاسأل، فهو سبحانه يعطيه السؤال ؛ ليستمع منه إلى الجواب، وليسمعه لكل الأمة ؛ الجواب القائل : أنا لا أشك ولا أسأل، وحسبي ما أنزل الله سبحانه عليّ.
ألم يرد في القرآن الكريم أن الحق سبحانه وتعالى يقول للملائكة يوم القيامة بمحضر من عبدوا الملائكة، ويشير إلى هؤلاء الذين عبدوا الملائكة ومخاطبا ملائكته :﴿ .. أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون( ٤٠ ) ﴾[ سبأ ]، ونحن نعلم أن الملائكة :﴿ .. لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون( ٦ ) ﴾[ التحريم ].
والحق سبحانه يعلم مسبقا جواب الملائكة، وهم يقولون :﴿ سبحانك أنت ولينا من دونهم.. ( ٤١ ) ﴾[ سبأ ] : ولكنه سبحانه وتعالى أراد أن يسمع من في الحشر كلهم جواب الملائكة وهم يستنكرون أن يعبدهم أحد من الخلق، فهؤلاء الخلق إنما عبدوا الجن.
إذن : فالسؤال جاء، ليبين الرد عليه، مثلما يرد عيسى عليه السلام حين يعبد من بعض قومه، ويسأله سبحانه عن ذلك :﴿ أنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله.. ( ١١٦ ) ﴾[ المائدة ]، فيأتي الجواب :﴿ سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق.. ( ١١٦ ) ﴾[ المائدة ] : إذن : فالمراد أن يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : أنا لا أشك ولا أسأل.
والشك( ٢ )-كما نعلم-معناه : تساوي كفة النفي وكفة الإثبات، فإن رجحت واحدة منهما فهذا ظن، وتكون المرجوحة وهما وافتراء وكذبا.
وكلمة " شك " مأخوذة من مسألة حسية، فنحن نرى الصيادين وهم يصعون كل سمكة بعد اصطيادها في خيط يسمى " المشكاك ".
وكذلك نرى من يقوم ب( لضم ) العقود، وهو يشك الحبة في الخيط( ٣ ). من هذا نأخذ أن الشك معناه : ضم شيء إلى شيء، ومنه الشكائك( ٤ )، وهي البيوت المنتظمة بجانب بعضها البعض.
ومنه " شاك السلاح( ٥ ) " أي : الذي ضم نفسه إلى الدرع.
فالشك هو ضم شيء إلى شيء، وفي النسب تضم النفي والإثبات معا ؛ لأنك غير قادر على أن ترجح أحدهما.
وكل خطاب في الشك يأتي على هذا اللون. والآية التي نحن بصددها تقول :﴿ ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين( ٩٥ ) ﴾[ يونس ].
ونحن نعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو نفسه آية من الآيات، وهكذا نرى أن الخطاب موجه لأمته، فمن المستحيل أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم من المكذّبين لآيات الله-سبحانه وتعالى-لأن التكذيب بآيات الله تعالى يعني : إخراج الصدق إلى الكذب، وإخراج الواقع إلى غير الواقع.
والذين كذبوا بالآيات إما أنهم لا يؤمنون بإله، أو يؤمنون بإله ولا يؤمنون برسول، أو يؤمنون بإله ويؤمنون برسول ولا يؤمنون بما أنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم.
والذي يؤيد هذا وجود آية في آخر السورة يقول فيها الحق سبحانه :﴿ قل يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون( ٦ ) الله.. ( ١٠٤ ) ﴾[ يونس ] : فكأن الخطاب المقصود منه الأمة.
١ وذلك مصدقا لقوله تعالى:﴿وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا..(١٤٣)﴾[البقرة]..
٢ الشك: حالة نفسية يتردد معها الذهن بين الإثبات والنفي، ويتوقف عن الحكم.[المعجم الوسيط]..
٣ شك الشيء واشتكه: ضم أجزاءه.[المعجم الوسيط: مادة (ش ك ك)]..
٤ الشكاك: جمع شكيكة، وهي مجموعة أشياء شك-أي ضم- بعضها إلى بعض.[المعجم الوسيط: مادة (ش ك ك)]..
٥ الشك: ما يحمل أو يلبس من السلاح.[المعجم الوسيط: مادة (ش ك ك)]..
٦ دون: نقيض فوق، وتكون ظرفا، وتأتي بمعنى أمام، وبمعنى وراء، وبمعنى غير، وبمعنى قرب أو جهة، وبمعنى قبل، وبمعنى أقل. والتمييز بين هذه المعاني يكون بالقرائن. وهي في الآية ﴿قل يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم وأمرت أن أكون من المؤمنين(١٠٤)﴾[يونس] بمعنى (غير).[القاموس القويم] بتصرف..
وقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ إن الذين حقت عليهم كلمت ربك( ١ ) لا يؤمنون( ٩٦ ) ﴾ :
وهذا القول يوضح لنا أن الحق سبحانه وتعالى قد علم علما أزليا بأنهم لن يوجهوا اختيارهم للإيمان.
فحكمه هنا لا ينفي عنهم مسئولية الاختيار، ولكنه علم الله الأزلي بما سوف يفعلون، ثم جاءوا على الاختيار فتحقق علم الله سبحانه وتعالى بهم من سلوكهم.
وحكمه سبحانه مبنيُّ على الاختيار، وهو حكم تقديري.
ومثال ذلك-ولله المثل الأعلى-حين يأتي وزير الزراعة، ويعلن أننا قدّرنا محصول القطن هذا العام، بحساب مساحة الراضي المنزرعة قطنا، وبالمتوسط المتوقع لكل فدان، وقد يصيب الحكم، وقد يخيب نتيجة العوالم والظروف الأخرى المحيطة بزراعة القطن، فمن المحتمل أن يصاب القطن بآفة من الآفات، مثل : دودة اللوزة، أو دودة الورقة.
إذن : ففي المجال البشري قد يصيب التقدير وقد يخطئ ؛ لأن الإنسان يقدّر بغير علم مطلق، بل بعلم نسبي.
أما التقدير الحق سبحانه فهو تقدير أزلي، وحين يقدّر الحق سبحانه فلا بد من وقوع ما قدّره.
ولذلك يجب أن نفرق بين قضاء حكم لازم قهري ليس للإنسان فيه تصرف، وبين قدر قد قدّر من الله تعالى أن يفعله الإنسان باختياره، وهذه هي عظمة علم الغيب.
ومثال ذلك : هو سلوك أبي لهب( ٢ )، فقد نزل فيه قرآن يتلى :﴿ تبت( ٣ ) يدا أبي لهب وتب( ١ ) ما أغنى عنه ماله وما كسب( ٢ ) ﴾[ المسد ] : وقد نزلت السورة وأبو لهب على قيد الحياة ؛ لأن الحق سبحانه قد علم أزلا أن خواطر أبي لهب لن تدفعه إلى الإيمان، ولو أن أبا لهب امتلك ذرة من ذكاء لجاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : أنت قلت عنيّ إنني سأصلى( ٤ ) النار، لكن ها أنذا أعلن أنني أشهد ألا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله.
لكن ذلك الذكاء لم يكن يملكه أبو لهب، فقد علم الله أزلا أن خواطره لن تدفعه إلى الإسلام، مثلما دفعت حمزة بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم وعمر بن الخطاب، وخالد بن الوليد، وعمرو بن العاص. وكان إسلام هؤلاء رغم وقوفهم ضد النبي صلى الله عليه وسلم أمرا واردا.
وقد يقدّر البشر التقدير، لكن هذا التقدير إنما يتم حسب المعلومات المتاحة لهم، ولا يملك إنسان علما كونيّا أزليّا بتقديراته، فعلمه محدود، وقد يأتي الأمر على غير ما يقدّر ؛ لأن الإنسان لا يملك ما يقدر.
ولا يقولنّ أحد، إن الله يعاقب بعد أن قدّر مسبقا ؛ لن تقدير الحق سبحانه نابع من علمه الأزلي، وهم كانوا يتمتعون بحق الاختيار. والله سبحانه هو القائل :﴿ وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون( ١٢٤ ) وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا( ٥ ) إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون( ١٢٥ ) ﴾[ التوبة ].
١ حقت: وجبت عليهم كلمة ربك العذاب [تفسير الجلالين: ص ١٨٧]..
٢ أبو لهب هو أحد أعمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، واسمه عبد العزى بن عبد المطلب، وكنيته أبو عتبة، وإنما سمي أبا لهب لاحمرار وجهه وإشراقه كأنه اللهب.
وسبب نزول السورة التي ذكر فيها، أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى البطحاء فصعد الجبل فنادى: يا صباحاه. فجتمعت إليه قريش فقال: أرأيتم إن حدثتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم، أكنتم تصدقوني؟ قالوا: نعم. قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. فقال أبو لهب: تبا لك، ألهذا جمعتنا؟ فأنزل الله:﴿تبت يدا أبي لهب(١)﴾إلى آخرها. أخرجه مسلم في صحيحه(٢٠٨) عن ابن عباس..

٣ تبت: هلكت أو خسرت أو خابت.[كلمات القرآن: للشيخ حسنين محمد مخلوف]..
٤ وهو قوله تعالى:﴿سيصلى نارا ذات لهب(٣)﴾[المسد] أي: سيشوى بنار جهنم..
٥ الرجس" القذر والنتن حسيا ومعنويا ويطلق على ما يستقبح في الشرع. والرجس والرجز معناهما واحد ويطلق الرجس على العذاب لأنه سبب عنه. قال تعالى:﴿قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب..(٧١)﴾[الأعراف] أي: عذاب بسبب الرجس الذي اقترفوه[القاموس القويم] بتصرف..
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم( ١ )( ٩٧ ) ﴾ :
إذن : فمجيء الآيات وتكرارها لن يفيدهم في الاتجاه إلى الإيمان ؛ لأن الحق سبحانه يعلم أنهم سيتوجهون باختيارهم إلى الكفر ؛ فقد قالوا-من قبل-ما أورده الحق سبحانه في كتابه العزيز :﴿ وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا( ٢ )( ٩٠ ) أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا( ٩١ ) أو تسقط السماء كما زعمت كسفا( ٣ ) أو تأتي بالله والملائكة قبيلا( ٤ )( ٩٢ ) أو يكون لك بيت من زخرف( ٥ ) أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحانه ربي هل كنت إلا بشرا رسولا( ٦ ) ( ٩٣ ) ﴾[ الإسراء ].
وكأن الحق سبحانه يأمر رسوله أن يقول موضحا : لست أنا الذي ينزل الآيات، بل الآيات من عند الله تعالى، ثم يأتي القرآن بالسبب الذي لم تنزل به تلك الآيات التي طلبوها، فيقول سبحانه :﴿ وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون.. ( ٥٩ ) ﴾[ الإسراء ] : إذن : فقد نزلت آيات كثيرة لمن سبق في المعاندة والمعارضة، ويقابل قضية عرض الإيمان عليه بكفر يملأ قلبه.
فإن كان هناك من يبحث عن الإيمان فليدخل على بحث الإيمان بدون معتقد سابق، ولينظر إلى المسألة، وما يسمح به قلبه فليدخله فيه ؛ وبهذا الاختيار القلبي غير المشروط بمعتقد سابق هو قمة القبول.
وقد قال الحق سبحانه في الآيات السابقة كلاما في الوحدانية، وكلاما في الآيات المعجزات، وكلاما في صدق النبوة، وكلاما عن القيامة، وقصّ لنا سبحانه بعضا من قصص مواكب الرسل، من نوح عليه السلام، ثم فصَّل قليلا في قصة موسى وهارون عليهما السلام، ثم سيأتي من بعد ذلك بقصة يونس عليه السلام.
ونحن نلحظ أن الحق سبحانه جاء بقصة نوح عليه السلام في إطناب( ٧ )، ثم جاء بخبر عن رسل لم يقل لنا عنهم شيئا، ثم جاء بقصة موسى وهارون عليهما السلام، ثم سيأتي من بعد ذلك بقصة يونس عليه السلام، فالسورة تضم ثلاثا من الرسالات : رسالة نوح، ورسالة موسى وهارون، ورسالة يونس، وهو الرسول الذي سميّت السورة باسمه.
ولسائل أن يقول : ولماذا جاء بهؤلاء الثلاثة في هذه السورة ؟
وأقول : لقد تعبنا كثيرا، ومعنا كثير من المفسرين حتى نتلمّس الحكمة في ذلك، ولماذا لم تأت في السورة قصة هود، وثمود، وشعيب، وكان لا بد أن تكون هناك حكمة من ذلك.
هذه الحكمة فيما تجلى لنا أن الحق سبحانه وتعالى يعرض موكب الرسالة وموكب المعارضين لكل رسول، والنتيجة التي انتهى إليها أمر الأعداء، وكذلك النتيجة التي انتهى إليها أمر الرسول ومن آمن به.
ونجد الذين ذكرهم الله سبحانه هنا قد أهلكوا إهلاكا متحدا بنوع في الجميع، فإهلاك قوم نوح كان بالغرق، وكذلك الإهلاك لقوم فرعون كان بالغرق، وكذلك كانت قصة سيدنا يونس لها علاقة بالبحر، فقد ابتلعه الحوت وجرى في البحر.
إذن : فمن ذكر هنا من الرسل كان له علاقة بالماء، أما بقية الموكب الرسالي فلم تكن لهم علاقة بالماء.
ونحن نعرف أن الماء به الحياة، وبه الإهلاك ؛ لأن واهب الحياة يهب الحياة بشيء، ويهلك بالشيء نفسه. وكأن الحق سبحانه يبيّن لنا الحكمة : أنا أهلكت بالغرق هناك، ونجَّيت من الغرق هنا.
إذن : فطلاقة القدرة الإلهية هي المستولية على هذه السورة، كما تظهر طلاقة القدرة في مجالات أخرى، وبألوان أخرى( ٨ ).
وسمّيت هذه السورة باسم يونس ؛ لأن الحق سبحانه أرسله إلى أكثر من مائة ألف( ٩ )، وهم الأمة الوحيدة في هذا المجال التي استثناها الحق سبحانه من الإهلاك، فقد أغرق قوم نوح، وأغرق قوم فرعون ؛ فكلاهما قد كذب الرسل، ولكن قوم يونس أول ما رأوا البأس( ١٠ ) آمنوا فأنجاهم الله سبحانه.
وسميت السورة باسم من نجا ؛ لأنه عاد إلى الحق سبحانه قبل أن يعاين العذاب، ولكنهم رأوا فقط بشائر العذاب، فنجّوا أنفسهم بالإيمان.
وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى :
﴿ فلولا( ١١ ) كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين( ١٢ )( ٩٨ ) ﴾ :
١ ولو جاءتهم ككل آية حتى يروا العذاب الأليم: فلا ينفعهم حينئذ.[تفسير الجلالين: ص ١٨٧]..
٢ الينبوع: العين التي لا ينضب ماؤها..
٣ كسفا: قطعا. والكسف: السحاب المقطع قطعا، ومنه قوله تعالى:﴿ويجعله كسفا فترى الودق يخرج من خلاله..(٤٨)﴾[الروم]..
٤ قبيلا: متقابلين. والمراد رؤيتهم عيانا..
٥ الزخرف هنا: هو الذهب. والزخرف: الزينة، وقد يقصد به التمويه والتزوير وتزيين الكذب، ومنه قوله تعالى:﴿وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا..(١١٢)﴾[الأنعام]..
٦ ينبوعا: عينا تنبع لنا بالماء ببلدنا هذا. جنة: بستان. فتفجر الأنهار: بأرضنا هذه التي نحن بها. خلالها: يعني: خلال النخيل والكروم. وخلالها: بينها في أصولها. تفجيرا: سيلا يسيل بينها. كسفا: قطعا. قبيلا: مقابلة أو جميعا، فنعاينهم معاينة. زخرف: ذهب. ترقي: تصعد في درج إلى السماء.[مختصر تفسير الطبري: ص٣٢٥، ٣٢٤] بتصرف..
٧ الإطناب والمساواة والإيجاز من فنون البلاغة فالإطناب: شرح بإفاضة. والمساواة: مساواة اللفظ للمعنى. والإيجاز: اللفظ القليل للمعنى الكبير ولكل مقام مقاله.[شرح دلائل الإعجاز] بتصرف..
٨ من طلاقة القدرة توظيف الشيء في ضده مثل النار، فوظيفتها الإحراق ولكنها كانت على سيدنا إبراهيم بردا وسلاما. والماء به الحياة وفيه الغرق، وبه النجاة؛ فقد نجى الله سبحانه موسى عليه السلام وأغرق به فرعون..
٩ يقول سبحانه:﴿وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون(١٤٧)﴾[الصافات] وهم من قرية "نينوى" جهة الموصل بالعراق الحالية..
١٠ البأس: العذاب. يقول تعالى:﴿كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا..(١٤٨)﴾[الأنعام]. ويقول:﴿وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا او هم قائلون(٤)﴾[الأعراف]. والبأس: شدة الحرب، يقول تعالى:﴿والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس..(١٧٧)﴾[البقرة]. والبأس: القوة. يقول تعالى عن قوم بلقيس ملكة سبأ حين شاورتهم في أمر سليمان:﴿قالوا نحن أولوا قوة وبأس شديد..(٣٣)﴾[النمل].
١١ لولا: حرف شرط لا يعمل ويدل على امتناع الجواب لوجود الشرط، وجملة الشرط (اسمية) ويحذف الخبر وجوبا إذا كان كونا عاما وإذا وليها مضمر يكون ضمير رفع منفصل [القاموس القويم]..
١٢ ﴿فلولا كانت قرية آمنت..(٩٨)﴾: يقول عز وجل: لم تكن قرية آمنت فنفعها الإيمان إذا نزل بهم بأس الله ﴿إلا قوم يونس..(٩٨)﴾ قيل: إنهم لما أظلهم العذاب، وظنوا أانه قد دنا منهم، وفقدوا يونس، قذف الله في قلوبهم التوبة، وفرقوا بين كل أنثى وولدها، وعجوا-أي: رفعوا صوتهم بالتلبية-إلى الله أربعين ليلة؛ فلما عرف صدق توبتهم كشف عنهم العذاب.﴿.. ومتعناهم إلى حين(٩٨)﴾: لم نعاجلهم بالعقوبة، واستمتعوا بآجالهم في الدنيا، على حين مماتهم ووقت فناء أعمارهم.[مختصر تفسير الطبري: ص ٢٤٢، ٢٤١]..
وهكذا يبين لنا الحق سبحانه أن هناك كثيرا من القرى لم تؤمن إلا وقت العذاب، فلم ينفع أيّا منهم هذا الإيمان، ولكن قوم يونس قبل أن تأتي بشائر العذاب والبأس أعلنوا الإيمان فقبل الحق سبحانه إيمانهم ؛ لأنه سبحانه لا يظلم عباده.
فمن وصل إلى العذاب، وأعلن الإيمان من قلب العذاب لا يقبل منه، ومن أحس واستشفَّ بواكير العذاب وآمن فالحق سبحانه وتعالى يقبله.
وكلمة " لولا " إذا سمعتها فمثلها مثل " لوما "، وإذا دخلت " لولا " على جملة اسمية فلها حكم يختلف عن حكمها لو دخلت على جملة فعلية، فحين تدخل على جملة اسمية مثل :" لولا زيد عندك لأتيتك " تفيد أن امتناع المجيء هو بسبب وجود زيد، لكنها إن دخلت على جملة فعلية فيقال عنها :" أداة تحضيض وحث " مثل قول الحق سبحانه :
﴿ فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين.. ( ١٢٢ ) ﴾[ التوبة ] : أي : أنه كان يجب أن ينفر من كل طائفة عدد ليتدارسوا أمور الدين.
والحق سبحانه وتعالى يقول هنا :﴿ فلولا قرية آمنت.. ( ٩٨ ) ﴾ [ يونس ]. أي : أنه لو أن هناك قرية آمنت قبل أن ينزل بها العذاب لأنجيناها كما أنجينا قوم يونس، أو كنا نحب أن يحدث الإيمان من قرية قبل أن يأتيها العذاب.
إذن : فقوم يونس هنا مستثنون ؛ لأنهم آمنوا قبل أن يأتيهم العذاب.
وهناك آية أخرى تتعلق بهذه القصة، يقول فيها الحق سبحانه :﴿ فلولا أنه كان من المسبحين( ١٤٣ ) للبث في بطنه إلى يوم يبعثون( ١ )( ١٤٤ ) ﴾[ الصافات ] : أي : أن الذي منع يونس عليه السلام أن يظل في بطن الحوت إلى يوم البعث هو التسبيح.
وهنا يبيّن الحق سبحانه الاستثناء الذي حدث لقوم يونس حين يقول :﴿ فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين( ٩٨ ) ﴾[ يونس ] أي : أن الإيمان نفع قرية قوم يونس قبل أن يقع بهم العذاب.
ولذلك يقول الحق سبحانه :﴿ .. لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين( ٩٨ ) ﴾[ يونس ].
ونحن نعلم أن كلمة " قرية " تعني : مكانا مهيّأ، أهله متوطنون فيه، فإذا ما مرَّ عليهم زائر في أي وقت وجد عندهم قرى( ٢ ) أي : وجبة طعام.
ونحن نجد من يقول عن الوطن كثير السكان كلمة " بلد "، وهؤلاء من يملكون طعاما دائما، أما من يكونون قلة قليلة في موطن ففي الغالب ليس عندهم من الطعام إلا القليل الذي يكفيهم ويكفي الزائر لمرة واحدة.
وتسمى مكة المكرمة " أم القرى " ( ٣ ) ؛ لأن كل القرى تزورها.
وقرية قوم يونس اسمها " نينوى " قد حكي عنها النبي صلى الله عليه وسلم في قصة الذهاب للطائف، وهي قرية العبد الصالح يونس بن متّى( ٤ )، وهي في العراق ناحية الموصل، ويونس هو من قال عنه الله سبحانه :﴿ وذا النون( ٥ ) إذ ذهب مغاضبا.. ( ٨٧ ) ﴾[ الأنبياء ] : وكلمة " مغاضب " غير كلمة " غاضب "، فالغاضب هو الذي يغضب دون أمن يغضبه أحد، لكن المغاضب هو من أغضبه غيره.
وكذلك كلمة " هجر "، ومهاجر، فالمهاجر هو من أجبره أناس على أن يهاجر، لكن من هجر هو من ذهب طواعية بعيدا.
والمغاضبة-إذن-تكون من جهتين، وتسمى " مفاعلة ".
والحق سبحانه يقول :﴿ وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين( ٨٧ ) ﴾ [ الأنبياء ] : وسمّي سيدنا يونس عليه السلام بذي النون ؛ لأنه اسمه اقترن بالحوت الذي ابتلعه.
وكلنا نعرف القصة، حينما دعا قومه على الإيمان وكفروا به في البداية ؛ لأن الرسول حين يجيء إنما يجيء ليقوّم الحياة الفاسدة ؛ فيضطهده من يعيشون على الفساد ؛ لأنهم يريدون الاحتفاظ بالجبروت الذي يسمح لهم بالسرقة والاختلاس وإرواء أهواء النفس، فلما فعلوا ذلك مع سيدنا يونس-عليه السلام-خرج مغاضبا، أي : أنهم أغضبوه.
والمغاضبة-كما قلنا- من المفاعلة وتحتاج إلى عنصرين، مثلما أوضحنا أن الهجرة أيضا مفاعلة ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يهجر مكة، بل ألجأه قومه على أن يهاجر، فكان لهم مدخل في الفعل.
وأبو الطيب المتنبي( ٦ ) يقول في هذا المعنى :
إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا**** ألا تغادرهم فالراحلون هم
أي : إن كنت تعيش مع قوم، وأردت أن تفارقهم وقد قدروا أن تعيش معهم، فالذي رحل حقيقة هم هؤلاء القوم.
ويقول الحق سبحانه وتعالى بعد خروج يونس غاضبا :﴿ فظن أن لن نقدر عليه.. ( ٨٧ ) ﴾[ الأنبياء ] : أي : أنه رجَّح أن الحق سبحانه لن يضيّق عليه الأرض الواسعة، وسيهيئ له مكانا آخر غير مكان المائة الألف أو يزيدون الذين بعثه الله تعالى إليهم.
وكان من المفروض أن يحتمل الأذى الصادر منهم تجاهه، لكن هذا الظن-والظن ترجيح حكم- يدلنا على أن معارضة دعوته كانت شديدة تحفظ( ٧ ) وتملأ القلب بالألم والتعب.
وكان عليه أن يوطّن نفسه على مواجهة مشقات الدعوة.
والقرية التي أرسل إليها يونس عليه السلام هي قرية " نينوى "، وهي التي جاء ذكرها في أثناء حوار بين النبي صلى الله عليه وسلم والغلام النصراني " عداس " الذي قابله صلى الله عليه وسلم في طريق عودته من الطائف.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد ذهب إلى الطائف ليطلب من أهلها النصرة بعد أن آذاه قومه في مكة فلم يجد النصير( ٨ )، وجلس النبي صلى الله عليه وسلم قريبا من حائط بستان.
فلما رآه صاحبا البستان-عتبة وشيبة ابنا ربيعة- وما لقي من السفهاء ؛ تحركت له رحمهما، فدعوا غلاما لهما نصرانيا، يقال له عدَّاس، فقالا له : خذ قطفا من هذا العنب، فضعه في هذا الطبق، ثم اذهب به إلى ذلك الرجل، فقل له يأكل منه، ففعل عدّاس، ثم أقبل به حتى وضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال له : كل، فلما وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه يده، قال : بسم الله، ثم أكل، فنظر عداس في وجهه، ثم قال : والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ومن أهل أيّ البلاد أنت يا عدّاس، وما دينك ؟ ". قال : نصراني، وأنا رجل من أهل نينوى ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من قرية الرجل الصالح يونس ابن متّى " ؛ فقال له عداس : وما يدريك ما يونس من متّى ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ذاك أخي، كان نبيا وأنا نبي "، فأكبّ عداس على رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبّل رأسه ويديه وقدميه.
ولما سأل صاحبا البستان عدّاسا عن صنيعه هذا. قال لهما : لقد أخبرني بأمر ما يعلمه إلا نبي( ٩ ).
ونحن نعلم أن العبد الصالح-يونس عليه السلام-قد تأثر وحزن وغضب من عدم استجابة قومه لرسالته الإيمانية، إلى أن رأوا غيما يملأ السماء وعواصف، وألقى الله تعالى في خواطرهم أن هذه العواصف هي بداية عذاب الله لهم( ١٠ ) ؛ فهرعوا إلى ذوي الرأي فيهم، فأشاروا عليهم بأن هذه هي بوادر العذاب، وقالوا لهم : عليكم بإرضاء يونس ؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي أرسله، فآمنوا به ليكشف عنكم الغمّة.
وهرع الناس إلى الإيمان بالحيّ الذي لا يموت، الحيّ حين لا حيّ، والقيوم والمحيي والمميت.
وذهب قوم يونس عليه السلام لاسترضائه ؛ وحين رضي عنهم بدأوا ينظرون في المظالم التي ارتكبوها، حتى إن الرجل منهم كان ينقض ويهدم جدار بيته ؛ لأن فيه حجرا قد اختلسه من جار له( ١١ ).
وكشف الله سبحانه وتعالى عنهم العذاب، وهنا يقول سبحانه :﴿ .. وكشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا( ١٢ ) ومتعناهم إلى حين( ٩٨ ) ﴾[ يونس ] : ومن لوازم قصة يونس عليه السلام، ليست المغاضبة فقط، بل قصته مع الحوت، فقد كان عليه السلام بعد مغاضبته لقومه قد ركب سفينة، فلعبت بها الأمواج فاضطربت اضطرابا شديدا، وأشرفت على الغرق بركابها ؛ فألقوا الأمتعة في البحر ؛ لتخفّ بهم السفينة ؛ فاستمر اضطرابها، فاعترفوا على أن يلقوا على البحر من تقع عليه القرعة، فوقعت القرعة على نبي الله يونس عليه السلام.
مثلما نركب مصعدا، فنجد الضوء الأحمر وقد أضاء إنذارا لنا بأن الحمولة زائدة، وأن المصعد لن يعمل فيخرج منه واحد أو أكثر حتى يتبقى العدد المسموح به، وعادة يكون الخارج من أحسن الموجودين خلقا، أنهم أرادوا تسهيل إعمال الآخرين.
كذلك كان الأمر مع السفينة التي ركبها يونس عليه السلام، كادت أن تغرق، فاقترعوا، وصار على يونس أن ينزل إلى البحر.
والحق سبحانه يقول :﴿ فساهم فكان من المدحضين( ١٣ )( ١٤١ ) ﴾[ الصافات ] : ونزل يونس عليه السلام على البحر فالتقمه( ١٤ ) الحوت وابتلعه.
ويقول الحق سبحانه وتعالى عن وجود سيدنا يونس عليه السلام في بطن الحوت :
﴿ فلولا أنه كان من المسبحين( ١٤٣ ) للبث في بطنه إلى يوم يبعثون( ١٤٤ ) ﴾[ الصافات ].
وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الحق سبحانه :﴿ كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا.. ( ٩٨ ) ﴾[ يونس ] : وعذاب الخزي في الحياة الدنيا يمكن أن تراه مجسّدا فيمن افترى وتكبر على الناس، ثم يراه الناس في هوان ومذلة، هذا هو عذاب الخزي في الدنيا، ولا بد أن عذاب الآخرة أخزى وأشدّ.
وينهي الحق سبحانه الآية بقوله :﴿ .. ومتعناهم إلى حين( ٩٨ ) ﴾[ يونس ] : أي : أنهم نجوا من الهلاك بالعذاب إلى أن انتهت آجالهم بالموت الطبيعي.
١ المسبحون: هم المصلون لله تعالى، قبل البلاء والعقوبة التي نزلت به. وقيل: المسبحون: هم الذاكرون، بقوله كثيرا في بطن الحوت:﴿.. لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين(٨٧)﴾[الأنبياء]
﴿.. للبث في بطنه إلى يوم يبعثون(١٤٤)﴾[الصافات]: لصار بطن الحوت قبرا له إلى يوم القيامة.[مختصر تفسير الطبري، وتفسير الجلالين]..

٢ القرى: هو طعام الضيفان. والقرية في اللغة: المصر أو البلد الكبير مثل: مصر، مكة، الطائف، نينوى، وغيرها مما أشار إليه القرآن، فقد وردت كلمة "القرية" فيه بهذا المعنى (٣٧ مرة) غير المثنى منها (١) والجمع (١٩) مرة..
٣ قال عنها الحق سبحانه:﴿وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها..(٩٢)﴾[الأنعام]، ويقول:﴿وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أم القرى ومن حولها..(٧)﴾[الشورى]..
٤ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قابل غلاما نصرانيا لعتبة وشيبة ابني ربيعة يقال له عداس، فعندما هم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأكل من عنب بستانهما قال: باسم الله. ثم أكل، فنظر عداس في وجهه، ثم قال: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد. فقال له صلى الله عليه وسلم: ومن أهل البلاد أنت يا عداس، وما دينك؟ قال: نصراني، وأنا رجل من أهل نينوى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قرية الرجل الصالح يونس بن متى. فقال له عداس: وما يدريك ما يونس بن متى؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذاك أخي، كان نبيا وأنا نبي، فأكب عداس على رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل رأسه ويديه وقدميه. أورده ابن هشام في السيرة النبوية (٢/٤٢١)..
٥ النون: الحوت. و (ذو، ذا، ذي) بمعنى: صاحب. أي: صاحب الحوت، وهو يونس عليه السلام..
٦ هو: أحمد بن الحسين المتنبي، شاعر حكيم، ولد بالكوفة عام ٣٠٣هـ، ونشأ بالشام، ثم تنقل في البادية يطلب الأدب وعلم العربية وأيام الناس. توفي مقتولا بالنعمانية ببغداد عام ٣٥٤هـ عن ٥١ عاما (الأعلام للزركلي ١/١١٥)..
٧ تحفظ: تغضب. والحفيظة: الغضب. ويقال: عن الحفائظ تذهب الأحقاد: أي: إذا رأيت حميمك يظلم حميت له، وإن كان عليه في قلبك حقد.[اللسان مادة حفظ]..
٨ لما يئس رسول الله صلى الله عليه وسلم من قومه بمكة الذين آذوه وآذوا المسلمين لجأ إلى "الطائف" يطلب نصرة "ثقيف" وكلمهم وعرض عليهم الإسلام، فما كان منهم إلا أن رفضوا الأمر، وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم، يسبونه ويصيحون به، حتى اجتمع عليه الناس، وألجأوه إلى حائط (بستان) لعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة. ورجع عنه سفهاء ثقيف، فعمد إلى ظل شجرة عنب فجلس فيه. وهنا دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه قائلا:"اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟ أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك، أو يحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا فقوة إلا بك"[السيرة النبوية لابن هشام: ٢/٤٢٠، ٤١٩].. بتصرف..
٩ انظر: تفصيل هذه القصة في السيرة النبوية لابن هشام (٢/٤١٩-٤٢١)..
١٠ وهذا يتوافق مع ما قاله الزجاج:"إنهم لم يقع بهم العذاب، وإنما رأوا العلامة التي تدل على العذاب، ولو رأوا عين العذاب لما نفعهم الإيمان" واختاره القرطبي في تفسيره (٤/٣٣١٢)..
١١ نقله القرطبي في تفسيره (٤/٣٣١٢) من قول ابن مسعود..
١٢ اختلف المفسرون، هل كشف عنهم العذاب الأخروي مع الدنيوي، أم كشف عنهم العذاب في الدنيا فقط؟ على قولين:
*الأول: إنما كان ذلك في الحياة الدنيا، على ظاهر الآية الكريمة.
*والثاني: كشف العذاب في الحياة وفي الآخرة؛ لقول الله تعالى:﴿وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون(١٤٧) فآمنوا فمتعناهم على حين(١٤٨)﴾[الصافات] فأطلق عليهم الإيمان؛ والإيمان منقذ من العذاب الأخروي، وهذا هو الظاهر، والله أعلم.[ذكره ابن كثير في تفسيره(٢/٤٣٣)]..

١٣ ساهم: قارع، أي: اشترك في الاقتراع. المدحضين: المغلوبين إذ وقع الاقتراع عليه. [ابن كثير ٤/٢٠-بتصرف]..
١٤ التقمه: ابتلعه في سرعة. قال سبحانه:﴿التقمه الحوت وهو مليم(١٤٢)﴾[الصافات]، والمليم: هو من أتى ذنبا يلام عليه..
ويقول الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك :
﴿ ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين( ١ ) ( ٩٩ ) ﴾ :
والحق سبحانه وتعالى يبين لنا أنه إن قامت معركة بين نبي مرسل ومعه المؤمنون به، وبين من كفروا به، فلا بد أن ينزل الحق سبحانه العذاب بمن كفروا. وإياك أن تفهم أن الحق سبحانه يحتاج إلى عبادة الناس ؛ لأن الله عزّ وجل قديم أزليّ بكل صفات الكمال فيه قبل أن يخلق الخلق، وبكماله خلق الخلق، وقوته سبحانه وتعالى في ذاته، وهو خالق من قبل أن يخلق الخلق، ورازق قبل أن يخلق الرزق والمرزوق، والخلق من آثار صفات الكمال فيه، وهو الذي أوجد كل شيء من عدم.
ولذلك يسمّون صفاته سبحانه وتعالى صفات الذات ؛ لأنها موجودة فيه من قبل أن يوجد متعلقها.
فحين تقول : حيّ، ومحي، فليس معنى ذلك أن الله تعالى موصوف ب " محي " بعد أن وجد من يحييه، لا، إنه محي، وبهذه الصفة أحيا.
ولله المثل الأعلى، وهو سبحانه منزّه عن كل تشبيه : قد نرى المصوّر أو الرسام الذي صنع لوحة جميلة، هنا نرى أثر موهبة الرسم التي مارسها، واللوحة ليست إلا أثرا لهذه الموهبة.
الحق سبحانه وتعالى-إذن-له كل صفات الكمال قبل أن يخلق الخلق، وبصفات الكمال خلق الخلق.
فإياك أن تفهم أن هناك أمرا قد جدّ على الله تعالى، فلا شيء يجدّ على الحق سبحانه، وهو سبحانه لا ينتفع من خلقه بل هو الذي ينفعهم.
ونحن نعلم أن الإيمان مطلوب من الإنسان، وهو الجنس الظاهر لنا ونحن منه، ومطلوب من جنس آخر أخبرنا عنه الله-تبارك وتعالى-وهو الجن( ٢ ). وأما بقية الكون فمسبح( ٣ ) مؤمن بالله تعالى، والكون عوالم لا حصر لها، ولكل نظام لا يحيد عنه. ولو أراد الله سبحانه وتعالى أن يدخل الثقلين-الإنس والجن- في نظام التسخير ما عزّ عليه ذلك، لكن هذا التسخير يثبت له القدرة ولا يثبت له المحبوبية.
ولذلك ترك الحق سبحانه الإنسان مختارا ليؤمن أو لا يؤمن، وهذا ما يثبت له المحبوبية إن جئته مؤمنا، وهذا يختلف عن إيمان القسر والقهر، فالإيمان المطلوب من الإنسان أو الجن هو إيمان الاختيار.
وأما إيمان القسر والقهر، فكل ما في الكون من عوالم مؤمن بالحق سبحانه، مسبّح له.
والحق سبحانه وتعالى يقول :
﴿ وإن من شيء إلا بتسبيح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم.. ( ٤٤ ) ﴾[ الإسراء ].
وهذا ليس تسبيح( ٤ ) دلالة ورمز، بل هو تسبيح حقيقي، بدليل قوله سبحانه وتعالى :﴿ ولكن لا تفقهون تسبيحهم.. ( ٤٤ ) ﴾[ الإسراء ] : فإن فقّهك الله تعالى في لغاتهم لعلمت تسبيح الكائنات، بدليل أنه علّم سليمان عليه السلام منطق الطير( ٥ )، وسمع النملة تقول :﴿ .. يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون( ١٨ ) ﴾[ النمل ] : والهدهد قال لسليمان عليه السلام ما رآه عن بلقيس ملكة سبأ :﴿ وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون( ٢٤ ) ﴾[ النمل ] : إذن : فكل ما في الكون مسبح لله تعالى، يسير على منهجه سبحانه ما عدا المختار من الثقلين : الإنسان والجان ؛ لأن كلا منهما فيه عقل، وله ميزة الاختيار بين البدائل.
ومن عظمة الحق سبحانه وتعالى أن خلق للإنسان الاختيار حتى يذهب المؤمن إليه اختيارا، ولو شاء الحق سبحانه وتعالى أن يجبر الإنسان على الإيمان لفعل.
أقول ذلك حتى لا يقولن أحد : ولماذا كل هذه المسائل من خلق وإرسال رسل، وتكذيب أناس، ثم إهلاك المكذبين ؟
ولذلك قال الحق سبحانه وتعالى :﴿ ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين( ٩٩ ) ﴾[ يونس ] : إذن : فالحق سبحانه خلق الإنسان وسخّر له كل الأجناس، ولم يجبره على الإيمان، بل يقول سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم :﴿ لعلك باخع( ٦ ) نفسك ألا يكونوا مؤمنين( ٣ ) ﴾[ الشعراء ].
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم محبا مخلصا لقومه وعشيرته، وذاق حلاوة الإيمان، وحزن لأنهم لم يؤمنوا، فينبهه الحق سبحانه وتعالى أن عليه مهمة البلاغ فقط، فلا يكلف نفسه شططا( ٧ ).
والحق سبحانه وتعالى شاء أن يجعل للإنسان حق الاختيار وسخر له الكون، ومن الناس من يؤمن، ومن الناس من يكفر، بل ومن المؤمنين من يطيع مرة، ويعصى أخرى، وهذه هي مشيئة الحق ليتوازن الكون، فكل صفة خيّرة إن وجد من يعارض فيها فهذا ما شاءه الله سبحانه وتعالى للإنسان، فلا تحزن يا رسول الله ؛ فالحق سبحانه وتعالى شاء ذلك.
وإن غضب واحد من أن الآخرين لم يعترفوا بصفاته الطيبة نقول له : إن الحق سبحانه هو خالق الكون وهو الرزاق، قد كفروا به وألحدوا، وجعلوا له شركاء، فتخلّقوا بأخلاق الله ؟
ولذلك قال الحق سبحانه :﴿ ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين( ٩٩ ) ﴾[ يونس ] : إنه سبحانه وتعالى يريد إيمان المحبة وإيمان الاختيار.
١ قبيلا: تكره الناس: تلزمهم وتلجئهم. أي: ليس ذلك عليك يا محمد-صلوات الله وسلامه عليه-بل الله تعالى يضل من يشاء ويهدي من يشاء. كما قال تعالى في ذلك:﴿ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين(١١٨) إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين(١١٩)﴾[هود]. وقال تعالى:﴿ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء..(٢٧٢)﴾[البقرة]. وقال تعالى:﴿إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء..(٥٦)﴾[القصص]. إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن الله سبحانه هو الفعال لما يريد، الهادي من يشاء، المضل لمن يشاء؛ لعلمه وحكمته وعدله-سبحانه.[تفسير ابن كثير: ٢/٤٣٣] بتصرف..
٢ وذلك في قوله سبحانه وتعالى:﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون(٥٦)﴾[الذاريات]..
٣ يقول رب العزة سبحانه:﴿تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن..(٤٤)﴾[الإسراء]. ويقول تعالى:﴿سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم(١)﴾[الحشر]..
٤ تسبيح الدلالة والرمز نلحظه يقينا فغي حركة الجماد وحركة ونمو وتنفس النبات، وحركة ونمو وتنفس وغريزة الحيوان، وحركة ونمو وتنفس وتعقل الإنسان؛ فكل حركة لها محرك، وفي الحركة تسبيح، وفوق ذلك نجد للأرض والسماء بكاء في قوله تعالى:﴿فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين(٢٩)﴾[الدخان]، والبكاء يصدر عن عاطفة والعاطفة تصدر عن علم، وهذه المراتب تسبيح بحقيقة لا يدركها عقل وقد يحسها قلب..
٥ فرب العزة سبحانه يقول عن سليمان عليه السلام:﴿وورث سليمان داود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين(١٦)﴾[النمل]..
٦ باخع: أي: مهلك نفسك، أي: مما تحرص وتحزن عليهم لعدم إيمانهم. وهذه تسلية من الله سبحانه وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم في عدم إيمان من لم يؤمن به من الكفار. كما قال تعالى:﴿فلا تذهب نفسك عليهم حسرات..(٨)﴾[فاطر]. وكقوله سبحانه:﴿فلعلك باخع نفسك على آثارهم..(٦)﴾[الكهف].
قال مجاهد وعكرمة وآخرون: باخع نفسك: أي: قاتل نفسك. وقد قال الشاعر:
ألا أيهذا الباخع الحزن نفسه لشيء نحته عن يديه المقادر
[ذكره ابن كثير في تفسيره (٣/٣٣١)[ بتصرف..

٧ الشطط: الجور ومجاوزة القدر في كل شيء، والمقصود: لا تظلم نفسك، ولا تتجاوز الحد في الحزن عليهم. ومنه قوله تعالى عن الخصمين اللذين طلبا حكم داود بينهما، فقالا له:﴿.. فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط وأهدنا إلى سواء الصراط(٢٢)﴾[ص]..
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس( ١ ) على الذين لا يعقلون( ١٠٠ ) ﴾ :
هكذا يبين لنا الحق سبحانه أن أحدا لا يؤمن إلا بإذن من الله تعالى ؛ لأن معنى أن تؤمن أن يكون إيمانك إيمان فطرة نتيجة تفكُّر في سماء ذات أبراج( ٢ )، وأرض ذات فجاج( ٣ )، وبحار تزخر( ٤ )، ورياح تصفر، كل ذلك يدل على وجود الخالق سبحانه.
لكن أترك الله سبحانه وتعالى الناس للفطرة ؟
لا، بل أرسل سبحانه لهم الرسل ليذكّروهم بالآيات الموجودة في الكون، ولينتبه الغافل ؛ لأنه سبحانه لا يريد أن يأخذ الناس على حين غفلة.
ولذلك يقول الحق سبحانه :﴿ .. لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون( ١٣١ ) ﴾[ الأنعام ] : لذلك ينبههم الحق سبحانه بأن هناك أشياء كان يجب أن تذكر، وكان الحق سبحانه يبيّن لنا : إياكم أن تفهموا أن أحدا يخرج عن ملكي إلا بإرادتي، فأنا بخلقي له مختارا سمحت له أن يكفر أو يؤمن، وسمحت له أن يطع أو أن يعصى.
كل ذلك من أجل أن يثبت لي صفة المحبوبية.
لذلك فلا أحد يؤمن إلا بإذن الله سبحانه وتعالى، ولا أحد يكفر إلا بإذنه سبحانه ؛ لأن من خلقه مختارا علم برضاء منه بما يكون من المخلوق، فالكافر لم يكفر قهرا، والمؤمن لم يؤمن قهرا من الله سبحانه.
وساعة يأتي الرسول ليعرض قضية الإيمان، يتذكر الإنسان إيمان الفطرة ويقول : لقد جاء هذا الرسول بهذا المنهج ليعدّل لي حياتي، فلا بد أن أرهف( ٥ ) له السمع.
وساعة يقبل العبد على الله تعالى، فسبحانه يأذن له أن يدخل إلى حظيرة الإيمان.
إن العبد منّا إذا ما ذهب للقاء عبد مثله له سيادة وجاه، ويدرك العبد صاحب السيادة والجاه-بفضل من الله-السبب الذي جاء من أجله العبد الآخر ؛ فيقول صاحب السيادة لمعاونيه : لا تدخلوه. وهو يقول ذلك ؛ لأن الله سبحانه أطلعه على ما في قلب العبد الآخر من غلّ ومن حقد ومن نفاق.
أما إذا دقّ بابه عبد آخر، فتجده يأمر معاونيه أن يدخلوه وأن يفسحوا له ؛ لأنه علم بما في قلبه من محبة ورغبة في صدق اللقاء والمودة.
إذا كان هذا يحدث بين العباد، وهم كلهم أغيار، فما بالنا بالحق سبحانه وتعالى ؟
والله سبحانه هو القائل في حديث قدسي :" من ذكرني في نفسه ذكرته في ملأ خير منه ".
ما بالنا بالعبد إذا دخل على الإيمان بالله غير مشحون بعقيدة عدا الله.
إذن : أقبل على الله سبحانه وعلى ذكر الله، وأنت إن ذكرت الله في نفسك، فالله يذكرك في نفسه، وإن ذكرته في ملأ ذكرك في ملأ خير منه، فالملأ الذي ستذكره فيه ملأ خطّاء، والله سبحانه سيذكرك في ملأ طاهر.
ويقول الحق سبحانه في ذات الحديث القدسي( ٦ ) :" إن تقرّب إليّ شبرا تقرّبت إليه ذراعا ". والذراع أطول من الشّبر.
ويقول :" وإن أتاني يمشي أتيته هرولة ".
فالمشي قد يتعب العبد، لذلك يسرع إليه الحق عز وجل، وهو سبحانه بكل ربوبيته ما إن يعلم أن عبدا قد صفا قلبه من خصومة الله تعالى في شيء، حتى يفتح أمامه أبواب محبته سبحانه، فيحبّب فيه خلقه، ويجعل له مدخل صدق في كل أمر ومخرج صدق من كل ضيق، وهو الحق القائل :﴿ والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم( ١٧ ) ﴾[ محمد ].
ونلحظ أن الحق سبحانه يؤكد في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها أنه لو شاء لآمن من في الأرض جميعا ؛ ليبيّن لنا أنه حتى إبليس الذي دخل في جدال مع الله، لو شاء الحق سبحانه لآمن إبليس.
وجاء الحق سبحانه بهذا التأكيد ؛ ليحكم الأمر حول كل خلقه ومخلوقاته، فلا يشذ منهم أحد.
ثم يقول الحق سبحانه في نفس الآية :﴿ .. أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين( ٩٩ ) ﴾[ يونس ].
أراد الحق سبحانه أن ينبّه رسول صلى الله عليه وسلم وكل المؤمنين أنه :﴿ لا إكراه في الدين.. ( ٢٥٦ ) ﴾[ البقرة ] : لأن مطلوبات الدين ليست هي المطلوبات الظاهرة فقط التي تقع عليها العين، فهناك مطلوبات أخرى مستترة، فهب أنك أكرهت قالبا أتستطيع أن تكره قلبا ؟ والحق سبحانه وتعالى يريد قلوبا لا قوالب( ٧ ).
وهكذا لا يصلح الإكراه في قضية الدين، ولكن على الإنسان ألا يسحب الإكراه إلى غير موضعه أو مجاله ؛ لأنك قد تجد مسلما لا يصلي فينهره صديقه، فيرد : لا إكراه في الدين. وهذا استخدام غير صحيح واستدلال خاطئ ؛ لأن الإكراه في الدين إنما يكون ممنوعا في القضية العقدية الأولى.
ولكن من أعلن أنه مسلم، وشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فهذا إعلان بالالتزام بكل أحكام الإسلام، وهو محسوب على الإسلام، فإن أخلّ بحكم من أحكام الإسلام فلا بد من محاسبته.
ولا إكراه في الدين، فيما يخصّ القضية العقدية الأولى، وأنت حرّ في أن تدخل إلى الإسلام أو لا تدخل، فإن دخلت الإسلام فأنت ملتزم بأحكام الإسلام ؛ لأنك آمنت به وصرت محسوبا عليه، وأحفظ حدود الإسلام ولا تكسرها ؛ لأنك على سبيل المثال-لا قدر الله-إن سرقت ؛ تقطع يدك، وإن زنيت ترجم أو تجلد( ٨ )، وإن شربت الخمر تجلد ؛ لأنك قبلت قواعد الإسلام وشريعته.
وإن رأى واحد مسلما يسرق، فلا يقولن إن الإسلام يسرّق، ولكن إن رآه يعاقب، فهو يعرف أن الإسلام يعاقب من يجرم. إذن : ف﴿ لا إكراه في الدين.. ( ٢٥٦ ) ﴾[ البقرة ] : تخص المنع عن الإكراه على أصل الدين، ولكن بعد أن تؤمن فأنت ملتزم بفرعيات الدين، وتعاقب إن خرجت على الحدود.
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول :" مثل القائم على حدود الله، والواقع فيها كمثل قوم استهموا( ٩ ) على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مرّوا على من فوقهم فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا، ونجوا جميعا " ( ١٠ ).
إذن : فالالتزام بفروع الدين أمر واجب ممن دخل الدين دون إكراه، وإن خدش حكما من الأحكام يعاقب.
وهناك ما هو أشدّ من ذلك، وهو حكم من ارتد عن الإسلام، وهو القتل( ١١ ).
وقد يقول قائل : إن هذا الأمر يمثل الوحشية. فنقول له : إن من التزم بالدين، إنما قد علم بداية أنه إن آمن ثم ارتد، فسوف يقتل ؛ ولذلك فليس له أن يدخل إلى الإسلام إلا بيقين الإيمان.
وهذا الشرط للدين ؛ لا على الدين. فلا تدخل على الدين إلا وأنت متيقّن أن أوامر الدين فوق شهواتك، واعلم أنك إن دخلت على الدين ثم تخلّيت عنه فسوف تقتل، وفي هذا تصعيب لأمر دخول الدين، فلا يدخله أحد إلا وهو واثق من يقينه الإيماني، وهذا أمر محسوب للدين لا ضد الدين.
وهنا يقول الحق سبحانه :﴿ .. ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون( ١٠٠ ) ﴾[ يونس ].
والرجس : هو العذاب، وهو الذنب، ويجعله الحق سبحانه وتعالى على الذين لا يعقلون ؛ لأن قضية الدين إذا طرحت على العقل بدون هوى ؛ لابد أن ينتهي العقل إلى الإيمان.
ولذلك تجد القمم الفكرية حين يدرسون الدين ؛ فهم يتجهون إلى الإسلام ؛ لأنه هو الدين الذي يشفى الغلّة( ١٢ )، أما الذين أخذوا الدين كميراث عن الآباء، فهم يظلون على حالهم. وبعض القمم الفكرية في العالم التي اتجهت إلى اعتناق الإسلام، لم تتجه إليه بسبب رؤيتهم لسلوك المسلمين ؛ لأن سلوك المنسوبين للإسلام في زماننا قد ابتعد عن الدين.
ولذلك فقد اتجهت تلك القمم الفكرية للإسلام إلى دراسة مبادئ الإسلام، وفرقوا بين مبادئ الدين، وبين المنتمين للدين، وهذا إنصاف في البحث العقلي ؛ لأن الدين حين يجرم عملا، فليس في ذلك التجريم إذن من الدين بحدوث مثل هذا الفعل المجرم، بدليل تقدير العقاب حسب خطورة الجريمة.
فالحق سبحانه قد قال :﴿ والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما.. ( ٣٨ ) ﴾[ المائدة ] : إنه الإذن باحتمال ارتكاب السرقة، وكذلك الأمر بالنسبة للزنا( ١٣ )، وغير ذلك من الجرائم التي جعل لها الحق سبحانه عقوبات تتناسب مع الضرر الواقع على النفس أو المجتمع من وقوعها، فإذا رأيت مسلما يسرق، فتذكّر العقاب الذي أوقعه الإسلام على السارق، وإن رأيت مسلما يزني، فتذكّر العقوبة التي حددها الحق سبحانه للزاني.
وهكذا الحال في جميع الجرائم.
وكبار المفكرين العالميين الذين يتجهون إلى الإسلام إنما يدرسون مبادئ الدين مفصولة عن سلوك المعاصرين، الذين ابتعدوا عن مبادئ الدين الحنيف.
وها هو ذا " جينو " المفكر الفرنسي يقول :" الحمد لله الذي هداني للإسلام قبل أن أعرف المسلمين، فلو كنت قد عرفت المسلمين قبل الإسلام لكان هناك احتمال لزلزلة في النفس تجعلني أتردد في الدخول إلى هذا الدين الرفيع المقام ".
إذن : فإعمال العقل الراقي لابد أن يؤدي إلى الإسلام لأنه فطرة الله، والإسلام ينميها، ويرتقي بها، والعقل هو مناط التكليف.
والرجس والذنب والعذاب كله إنما يقع على الذين لا يعلمون عقولهم وإعمال العقل المتعقل للقيم ينفي الرجس ؛ لأنهم سيقبلون على التدين بإذن الله تعال لهم أن يدخلوا على الإيمان به.
وإذا سألني سائل : ما هو العقل ؟ وما هو مناط التكليف ؟
نجد أن كلمة " عقل " مأخوذة من عقال البعير، وهو ما يشدّ على ركبته حتى لا ينهض، ويظل ساكنا، وحين يريد صاحبه أن ينهضه فهو يفكُّ العقال.
وأهل الخليج يضعون على رؤوسهم غطاء للرأس ( غترة ) ويثبتونه بنسيج مغزول على هيئة حلقتين، ويسمون هاتين الحلقتين " العقال " ؛ لأنه يمنع غطاء الرأس من أن يحركه الهواء، أو يطيّره.
إذن : فالعقل أراده الله سبحانه لنا ليحجزنا عن الانطلاق والفوضى في تحقيق شهوات النفس ؛ لأنه سبحانه قد خلق النفس البشرية، ويعلم أنها تحب الشهوات العاجلة، فأراد سبحانه للإنسان أن يكبح جماح تلك الشهوات بالعقل.
فحين يفكر الإنسان في تحقيق الشهوة العاجلة، يجد عقله وهو يهمس له : إنك ستستمتع بالشهوة العاجلة دقائق، وأنت قد تأخذها من غيرك ؛ من محارمه أو من ماله، فهل تسمح لغيرك أن يأخذ شهوته العاجلة منك ؟
إذن : عليك أن تعلم أن العقل إنما أراده الله سبحانه لك ليعقلك عن الحركة التي فيها هوى، وتحقق بها شهوة ليست لك، ومغبَّتها( ١٤ ) متعبة.
ويخطئ من يظن أن العقل يفتح باب أمام الانطلاق اللامسئول باسم الحرية، ونقول لمن يظن مثل هذا الظن : إن العقل هو مناط هو مناط التكليف، وهو الذي يوضّح لك آفاق المسئولية في مكل سلوك.
ومن عدالة الحق سبحانه أنه لم يكلف المجنون ؛ لأن حكم المجنون على الأشياء والأفعال هو حكم غير طبيعي ؛ لأنه يفتقد آلة الاختيار بين البدائل.
وكذلك لم يكلف الله سبحانه من لم ينضج بالبلوغ ؛ لأنه غير مستوف للملكات، ولم تستو لديه القدرة على إنجاب مثيل له.
وقد ضربنا من قبل المثل بالثمرة، وقلنا : إنه لا يقال إن الثمرة نضجت وصار طمعها مقبولا مستساغا إلا إذا أصبحت البذرة التي فيها قادرة على أن تنبت منها شجرة إن زرعناها في الأرض.
وأنت مثلا حين تقطع البطيخة، وتجد لبها أبيض اللون فأنت لا تأكلها، وتحرص على أن تأكل البطيخة ذات البذر الذي صار أسود اللون ؛ لأنه دليل نضج البطيخة، وأنت حين تأخذ هذا اللبّ وتزرعه ينتج لك بطيخا.
إذن : فاكتمال الإنسان بالبلوغ يتيح لعقله أن يزن السلوك قبل الإقدام عليه، والتكليف إنما يكون للعاقل البالغ غير المكره بقوة تقهره على أن يفعل ما ل
١ الرجس: الخيال والضلال.[ابن كثير ٢/٤٣٣]. قال الزجاج: الرجس في اللغة اسم لكل ما استقذر من عمل، فبالغ الله تعالى في ذم هذه الأشياء وسماها رجسا. وللرجس معان أخرى، فهو العذاب كالرجز، وهو المأثم وهو الشك في مثل قوله تعالى:﴿.. إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا(٣٣)﴾[الأحزاب]..
٢ الأبراج: جمع برج. وهي منازل الأفلاك في السماء أو هي الكواكب. وقيل: هي النجوم.[انظر لسان العرب: مادة برج]..
٣ فجاج: جمع فج. وهو الطريق الواسع بين جبلين. ومنه قوله تعالى:﴿والله جعل لكم الأرض بساطا(١٩)لتسكنوا منها سبلا فجاجا(٢٠)﴾[نوح]. وقال:﴿وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون(٣١)﴾[الأنبياء]. وقال تعالى في صيغة المفرد:﴿.. وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق(٢٧)﴾[الحج]..
٤ بحار تزخر: أي: كثر ماؤها وارتفعت أمواجها. وزخر القوم: جاشوا لنفير أو حرب.[لسان العرب، مادة: زخر] وهذه الجمل من خطبة خطبها قس بن ساعدة الإيادي في الجاهلية، كان أولها:"أيها الناس اسمعوا وعوا، من عاش مات، ومن مات فات، وكلا ما هو آت آت" انظر: البيان والتبيين-للجاحظ(١/٣٠٨)..
٥ إرهاف السمع: الإنصات الشديد. والرهافة في اللغة: الرقة واللطف.[اللسان: مادة رهف]..
٦ حديث متفق عليه. أخرجه البخاري في صحيحه(٧٤٠٥) ومسلم(٢٦٧٥)، وتمامه:"أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حيث يذكرني، والله، لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم يجد ضالته بالفلاة، من تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا، ومن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا، وإذا أقبل إلي يمشي أقلبت إليه أهرول"..
٧ عن أبي هريرة قال اقل رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم" أخرجه مسلم في صحيحه(٢٥٦٤) وأحمد في مسنده (٢/٥٣٩، ٢٨٥) وابن ماجه في سننه(٤١٤٣)، واللفظ لمسلم. والقلوب لها الوجدان والاختيار والحب والكره، والقوالب مادة تسير حسب الإدراك الذي انفعل بوجدان، ووجدان وضع أمامه البدائل ليختار، ويسمى (النزوع)..
٨ للزنا في شريعة الإسلام عقوبتان: الرجم، أو الجلد. أما الرجم فيعاقب به الزاني المحصن الذي قد أحصن بالزواج. أما الجلد مائة فهو لغير المتزوج أو لم يسبق له الزواج، فيجلد مائة جلدة تطبيقا لقول الله عز وجل:﴿الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين(٢)﴾[النور]..
٩ استهموا: اقترعوا..
١٠ الحديث أخرجه البخاري في صحيحه(٢٤٩٣) وأحمد في مسنده (٤/٢٦٨) والترمذي في سننه(٢١٧٣) وقال: حسن صحيح..
١١ عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من بدل دينه فاقتلوه". أخرجه البخاري في صحيحه(٦٩٢٢) وأحمد في مسنده (١/٣٢٣، ٢٨٣، ٢٨٢، ٢١٧) وابن ماجه في سننه(٢٥٣٥).
-وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث آخر عن ابن مسعود:"لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمفارق لدينه التارك للجماعة" أخرجه البخاري في صحيحه (٦٨٧٨) ومسلم(١٦٧٦)..

١٢ الغلة في اللغة: شدة العطش، فستعير لما يتلهف الإنسان لمعرفته ودرسه كالظمآن يطلب الماء..
١٣ يقول رب العزة سبحانه:﴿ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا(٣٢)﴾[الإسراء]. ويقول سبحانه:﴿الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين(٢) الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين(٣) والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون(٤) إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم(٥)﴾[النور]..
١٤ غب الأمر مغبته: عاقبته وآخره.[لسان العرب: مادة (غ ب ب)]..
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ قل انظروا ماذا في السماوات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون( ١ ) ( ١٠١ ) ﴾ :
وهنا يحدّثنا الحق سبحانه عن عالم الملك الذي تراه، ولا يتكلم عن عالم الملكوت الذي يغيب عنك، وكأنك إن اقتنعت بعالم الملك، وقلت : إن لهذا العالم خالقا إلها قادرا قويا، وتؤمن به ؛ هنا تهبّ عليك نفحات الغيب ؛ لتصل على عالم الملكوت ؛ لأنك اكتشفت في داخلك أمانتك مع نفسك، وأعلنت بالخلق سبحانه، ورأيت جميل صنعه في السماء والكواكب، وأعجبت بدقة نظام سير تلك الكواكب.
وترى التوقيت الدقيق لظهور الشمس والقمر ومواعيد الخسوف الكلي أو الجزئي، وتبهر بدقة المنظّم الخالق سبحانه وتعالى، ولن تجد زحام مرور بين الكواكب يعطل القمر أو يعطل الأرض، ولن يتوقف كوكب ما لنفاد وقوده، بل كما قال الله سبحانه وتعالى :﴿ لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل فلك يسبحون( ٢ ) ( ٤٠ ) ﴾[ يس ] : ونحن في حياتنا حين نرى دقة الصنعة بكثير فيما هو أقل من السماء والشمس والقمر، فنحن نكرّم الصانع، وقد أكرمت البشرية مصمّم التلغراف، ومصمم جهاز التليفزيون، فما بالنا بخالق الكون كله سبحانه.
ويكفي أن نعلم أن الشمس تبعد عنا مسافة ثماني دقائق ضوئية، والثانية الضوئية تساوي ثلاثمائة ألف كيلوا متر، وهي شمس واحدة تراها، غير آلاف الشموس الأخرى في المجرّات الأولى، وكل مجرّة فيها ملايين من المجموعات الشمسية، ويكفي أن تعلم أن الحق سبحانه قد أقسم بالشمس( ٣ )، وقال عن كوكب الشعري :
﴿ وأنه هو رب الشعرى( ٤ )( ٤٩ ) ﴾[ النجم ] لأن كوكب الشعري أكبر من الشمس.
وحين تتأمل السماوات والأرض تجد في الأرض جبالا شامخة، وتمر عليها فتدهش من دقة التكوين ودقة التماسك، وتجد في داخلها نفائس ومعادن بدرجات متفاوتة، وقد تجد أسطح الجبال مكوّنة من مواد خصبة بشكل هشّ، فإذا ما نزل عليها المطر، فهو يصحبها معه إلى الأرض، لأنها تكون مجرد ذرات كذرات برادة الحديد، وتتخلل الأرض التي شقّقتها حرارة الشمس.
والمثل الواضح على ذلك هو ما كان يحمله النيل من غرين( ٥ ) في أثناء الفيضان إلى الدلتا قبل بناء السد العالي، وكانت مياه النيل في أيام الفيضان تشبه مادة " الطحينة " من فرط امتزاجها بذارت الغرين، وفي مثل هذا الغرين يوجد الخصب الذي نأخذ منه الأقوات( ٦ ).
ولو أن الجبال كلها كانت هشّة التكوين، لأزالها المطر مرة واحدة، وجعلها مجرد مسافة نصف متر مضاف لسطح الأرض، ولاختفى الخصب من الأرض بعد سنوات، لكن شاء الحق سبحانه أن يجعل الجبال متماسكة، وجعل سطحها فقط هو الهش لينزل المطر في كل عام مرة ؛ ليحمل الخصب إلى الأرض.
ومن يتأمل هندسة التكوين في الاقتيات يجد الجبال مخازن للقوت.
فالبشر يحتاجون إلى الحديد ليصنعوا منه ما يفيدهم، سواء أكان آلات لحرث الأرض، أو أي آلات أخرى تساعد في تحميل الحياة، وتجد الحديد مخزونا في الجبال.
وكذلك نجد المواد الأخرى مثل الفوسفات أو المنجنيز، أو الرخام، أو الفيروز أو الغازات.
إذن : فالمطمور( ٧ ) في الجبال إما للاقتيات، أو وسيلة على الاقتيات، أو وسيلة للتّرف فوق الاقتيات.
وحين ينزل المطر فوق الجبال فهو يأخذ الخصب من الطبقة الهشّة( ٨ ) على سطح الجبال وتبقى المواد الأخرى كثروات للناس، ففي إفريقيا مثلا توجد مناجم للفحم والماس، وفي بلاد أخرى تجد عود الطيب، وهو عبارة عن جذور أشجار. وأنت لو شققت الأرض كقطاع من محيط الأرض إلى المراكز تجد الأرض الخصبة مع الصحراء، مع المياه، مع الجبال، متساوية في الخير مع القطاع المقابل للقطاع الأول.
وقد تختلف نوعيات العطاء من موقع إلى آخر على الأرض، فأنت لو حسبت مثلا ما أعطاه المطر للنيل من خصب الجبال من يوم أن خلق-عز وجل-النيل في أرض وادي النيل في إفريقيا، وحسبت ما أعطاه النفط( البترول ) في صحراء الإمارات مثلا، ستجد أن عطاء النيل يتساوى مع عطاء البترول، رغم أن اكتشاف البترول قد تمّ حديثا.
وكل قوت محسوب من مخازن الوقت، وكل قوت له زمن، فهناك زمن للفحم، وزمن للبترول، كل ذلك بنظام هندسي أنشأه الحكيم الله سبحانه.
وما دام الحق سبحانه وتعالى قد قال :﴿ يعقلون ﴾ في مجال النظر في السماوات وفي الأرض، فهذه دعوة لتأمل عجائب السماوات والأرض.
ومن تلك العجائب أن الجبال الشاهقة لها قمة، ولها قاعدة، مثلها مثل الهرم، وتجد الوديان على العكس من الجبال ؛ لأن الوادي يكون بين جبلين، وتجد رأس الوادي في أسفله، ورأس الجبل في قمته.
وحين ينزل المطر فهو يمرّ برأس الجبل الضيق ؛ ليصل إلى أسفل قاع الوادي الضيق، وكلما نزل المطر فهو يأخذ من سطح الجبل ؛ ليملأ مساحة الوادي المتسعة، وكلما ازداد الخلق، زاد الله سبحانه رقعة الاقتيات.
ومثال ذلك تجده في الغرين القادم من منابع النيل ؛ ليأتي إلى وادي النيل والدلتا، وكانت هذه الدلتا من قبل مجرد مستنقعات مالحة، وشاء لها الحق سبحانه أن تتحول إلى أرض خصبة.
وحين نتأمل ذلك نرى أن كل شيء في الكون قد أوجده الحق سبحانه بحساب.
والذي يفسد الكون هو أننا لا نقوم بتكثير ما تكاثر، بل ننتظر إلى أن تزدحم الأرض بمن عليها، ثم نفكر في استصلاح أراض جديدة، وكان يجب أن نفعل ذلك من قبل.
وكلما نزل المطر على الجبال فهي تتخلخل وتظهر ما فيها من معادن، يكتشفها الإنسان ويعمل عقله في استخدامها.
والمؤمن حين يرى ذلك يزداد إيمانا، وكلما طبّق المؤمن حكما تكليفا مأمورا به، يجد نور الإيمان وهو يشرق في قلبه.
وليجرّب أي مسلم هذه التجربة( ٩ )، فليجرب أن يعيش أسبوعا في ضوء منهج الله سبحانه وتعالى، ثم يزن نفسه ويقيّمها ليعرف الفارق بين أول الأسبوع وآخر الأسبوع، سيكتشف في هذا الأسبوع أنه يصلي في مواقيت الصلاة، وسيجد أنه يعرق في عمله ليكسب حلالا، وسيجد أنه يصرف ماله في حلال.
زن نفسك يقينيا في آخر الأسبوع ستجد أن نفسك قد شفّت شفافية رائعة ؛ لتجد ضوء ونور الإيمان وهو يصنع انسجاما بينك وبين الكون كله في أبسط التفاصيل واعقدها أيضا.
ومثال ذلك : إنك قد تجد الرجل من هؤلاء الذين أسبغ عليهم تطبيق منهج الله الشفافية تسأله زوجته : ماذا نطبخ اليوم ؟ فيقول لها : فلنقض اليوم بما بقي من طعام أمس، ثم يفاجأ بقريب له يزوره من الريف، وقد جاءه ومعه الخير.
لقد وصل الرجل إلى درجة من الشفافية تجعله منسجما مع الكون كله، فيصله رزق الله تعالى له من أيّ مكان.
وتجد الشفافية أيضا في اعقد الأمور، ألم يقل يعقوب عليه السلام :﴿ إني لأجد ريح يوسف.. ( ٩٤ ) ﴾[ يوسف ]. وكان إخوة يوسف-عليه السلام-ما زالوا على أبواب مصر خارجين منها للقاء أبيهم، حاملين قميص يوسف، الذي أوصاهم يوسف بإلقائه على وجه أبيه ليرتد إليه بصره( ١٠ ).
لقد جاءت ريح يوسف عليه السلام لأبيه يعقوب ؛ لأن يعقوب عليه السلام قد عاش في انسجام مع الكون، ولا توجد مضارة بينه وبين الكون.
والمثال الحي لذلك هو فرح الكون لمجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوم مولده، لقد فرح الكون بمقدم الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ لأن الكون عابد مسبّح لله سبحانه، فحين يأتي من يدعو العباد إلى التوحيد لا بدّ أن يفرح الكون، أما من يعص الله تعالى، فالكون كله يكرهه ويلعنه، ويتلاعن الاثنان.
وقد فرح الكون بمجيء الرسول الذي أراد الله سبحانه أن تنزل عليه الرسالة الإلهية ليعتدل ميزان الإنسان مع الكون.
وهنا يقول الحق سبحانه :﴿ قل انظروا ماذا في السماوات والأرض.. ( ١٠١ ) ﴾[ يونس ] : والكون كله أمامهم، فلماذا لا ينظرون ؟ إنهم يبصرون ولا يستبصرون، مثل الذي يسمع ولا يسمع ؛ ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى :﴿ .. وما تغنى الآيات والنذر( ١١ ) عن قوم لا يؤمنون( ١٠١ ) ﴾[ يونس ] : إذن : فعدم إيمانهم أفقدهم البصيرة والتأمل.
ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى :
﴿ فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم قل فانتظروا إني معكم من المنتظرين( ١٢ ) ( ١٠٢ ) ﴾ :
١ قل انظروا ماذا في السماوات والأرض: أمر للكفار بالنظر والاعتبار في المصنوعات الدالة على الصانع والقادر على الكمال، والآيات هنا بمعنى: الأدلة والبراهين على ألوهية الله ووحدانية، والآية تفيد عموم النظر في ملكوت الله لكل من أراد أن يتذكر أو يتدبر. والنذر: الرسل، جمع نذير، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم. عن قوم يؤمنون: أي: عمن سبق له في علم الله سبحانه أنه لا يؤمن.[تفسير القرطبي: ٤/٣٣١٤]-بتصرف..
٢ لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر: قال الثوري: أي: لا يدرك هذا ضوء هذا، ولا هذا ضوء هذا. وقال عكرمة: يعني أن لكل منهما سلطانا، فلا ينبغي للشمس أن تطلع بالليل. ولا الليل سابق النهار: قال مجاهد: يطلبان حثيثين يسلخ أحدهما من الآخر، والمعنى في هذا أنه لا فترة بين الليل والنهار، بل كل منهما يعقب الآخر بلا مهلة ولا تراخ؛ لأنهما مسخران دائبان والفلك: جمع أفلاك، وهي المدارات في السماء التي تدور فيها النجوم والكواكب؛ فكأنها تسبح في الفضاء.[تفسير ابن كثير: ٣/٥٧٣] بتصرف."وهذا دليل على تقدير العزيز العليم"..
٣ قال الحق في سورة الشمس:﴿والشمس وضحاها(١)﴾[الشمس]. وقد ذكر الله عز وجل الشمس في كتابه العزيز(٣٢) مرة، بل إنه سبحانه جعل سورة كاملة باسم هذا النجم..
٤ قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن زيد وغيرهم عن (الشعرى) إنه هو النجم الوقاد الذي يقال له مرزم الجوزاء، وكانت طائفة من العرب يعبدونه في الجاهلية.[تفسير ابن كثير: ٤/٢٥٩]..
٥ الغرين: ما بقي في أسفل الحوض والغدير من الماء أو الطين، وقيل: هو الطين الذي يحمله السيل فيبقى على وجه الأرض رطبا أو يابسا، وكذلك (الغريل). قال الأصمعي: الغرين أن يجيء السبل فيثبت على الأرض، فإذا جف رأيت الطين رقيقا على وجه الأرض قد تشقق.[لسان العرب: مادة (غ ر ن)]..
٦ أقوات: جمع قوت، وهو الرزق، ويطلق لفظ على كل ما يقتات به من رزق الله سبحانه وتعالى..
٧ طمر الشيء: وخبأه. وطمور: اسم مفعول من طمر، وطمر: إذا تغيب واستخفى، والمراد: خيرات الله المختفية داخل الأرض تنتظر إذن الله تعالى لها بالظهور..
٨ والشيء الهش الغير متماسك، وهشم الشيء اليابس هشما كسره قال تعالى:﴿.. كهشيم المحتظر(٣١)﴾[القمر] أي: كالحطب والخشب المحطم في يد المحتضر. أي: صانع الحظيرة [القاموس القويم ص ٣٠٣ باختصار]..
٩ هذه التجربة التريض الإيماني: فالمسلم الذي تخلى عن المعاصي وتحلى بالطاعات تجلى الله عليه بالفيوضات والنفحات..
١٠ وذلك أن يوسف عليه السلام بعدما تعرف عليه إخوته قال لهم:﴿قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين(٩٢) اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا وأتوني بأهلكم أجمعين(٩٣) ولما فصلت العير قال أبوهم إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون(٩٤)﴾[يوسف] أي: لولا أن تتهموني بفساد الرأي والخرف..
١١ النذر: جمع نذير، وهو الرسول بحججه وآياته وبراهينه..
١٢ خلوا: مضوا وسبقوا. أي: فما ينتظرون بكفرهم إلا مثل ما وقع للأمم التي سبقتهم من العذاب والعقاب.[تفسير الجلالين ص ١٨٨]..
وهؤلاء الذين لا يؤمنون يظلون في طغيانهم يعمهون( ١ )، وكأنهم ينتظرون أن تتكرر معهم أحداث الذين سبقوا ولم يؤمنوا، لقد جاءهم الرسول ببيان ككل المكذبين السابقين.
ونحن نعلم أن اليوم( ٢ ) هو وحدة من وحدات الزمن، وبعده الأسبوع، وبعد الأسبوع نجد الشهر، ثم نجد السنة، وكلما ارتقى الإنسان قسّم اليوم إلى ساعات، وقسّم الساعات على دقائق، وقسّم الدقائق إلى ثوان.
وكلما تقدمت الأحداث في الزمن نجد المقاييس تزداد دقة، واليوم-كما قلنا-جعله سبحانه وتعالى وحدة من وحدات الزمن، وهو مكوّن ليل ونهار.
ولكن قد يذكر اليوم ويراد به ما حدث فيه من أحداث ملفتة، مثلما، نقول :" يوم ذي قرد " ( ٣ ) و " يوم حنين " ( ٤ ) و " يوم احد ".
إذن : فقد يكون المقصود باليوم الحدث البارز الذي حدث فيه، وحين ننظر في التاريخ، ونجد كتابا اسمه " تاريخ أيام العرب "، فنجد " يوم بعاث " ( ٥ ) و " يوم أوطاس " ( ٦ ) وكل يوم يمثل حربا.
إذن : فاليوم ظرف زمني، ولكن قد يقصد به الحدث الذي كان في مثل هذا اليوم.
ومثال ذلك أنك قد تجد من أهل الزمن المعاصر من عاش في أزمنة سابقة فيتذكر الأيام الخوالي ويقول : كانت الأسعار قديما منخفضة، وكان كل شيء متوفرا، فيسمع من يرد عليه قائلا : لقد كانت أياما، أي : أنها أيام حدث الرخاء فيها.
إذن : فقد ينسب اليوم إلى الحدث الذي وقع فيه.
وهنا يقول الحق سبحانه :﴿ فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا.. ( ١٠٢ ) ﴾[ يونس ].
والذين خلوا منهم قوم نوح عليه السلام وقد أغرقهم الله سبحانه، قوم فرعون الذين أغرقهم الله تعالى أيضا.
والله سبحانه هو القائل :﴿ فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا( ٧ ) ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون( ٤٠ ) ﴾[ العنكبوت ] : وهذه أيام حدثت فيها أحداث يعلمونها، فهل هم ينتظرون أياما مثل هذه ؟
بالطبع ما كان يصحّ لهم أن يستمرئوا الكفر، حتى لا تتكرر معهم مآس كالتي حدثت لمن سبقهم إلى الكفر.
ونحن نجد في العامية المثل الفطري الذي ينطق بإيمان الفطرة، فتسمع من يقول :" لك يوم يا ظالم " أي : أن اليوم الذي ينتقم فيه الله تعالى من الظالم يصبح يوما مشهورا ؛ لأن الظالم إنما يفتري على خلق الله ؛ لذلك يأتي له الحق سبحانه بحدث ضخم يصيبه فيه الله تعالى ويذيقه مجموع ما ظلم الناس به. وقوله الحق سبحانه وتعالى :﴿ .. قل فانتظروا إني معكم من المنتظرين( ١٠٢ ) ﴾[ يونس ] : وقوله هنا :﴿ فانتظروا ﴾ فيه تهديد، وقوله :﴿ إني معكم من المنتظرين( ١٠٢ ) ﴾فيه بشارة ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم سينتظر هذا اليوم ليرى عذابهم، أما هو صلى الله عليه وسلم فسوف يتحقق له النصر في هذا اليوم.
١ يعمهون: يتحيرون ويترددون في الضلال. قال ابن الأثير: العمه في البصيرة كالعمى في البصر.[لسان العرب: مادة (ع م هـ)]..
٢ اليوم: في علم الفلك هو مقدار دوران الأرض حول محورها مرة، ومدته أربع وعشرون ساعة وجمعه أيام. وأيام العرب: وقائعهم. وأيام الله: جلت فيها نعمه وعذابه. القاموس القويم ص ٣٧٤..
٣ ذو قرد: مكان به ماء من أرض نجد، على مسافة يوم من المدينة من مما يلي بلاد غطفان. ذهب أكثر كتب السيرة على أنها كانت قبل الحديبية، أما البخاري في صحيحه فقد ذهب إلى أنها قبل خيبر بثلاث سنين، وذكرها بعد الحديبية. انظر: سيرة ابن هشام(٣/٢٨١) ودلائل النبوة(٤/١٧٨-١٩٣)..
٤ كان في السنة الثامنة للهجرة بعد فتح مكة، وقد قال سبحانه فيه:﴿لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويم حنين إذ أعجبتهم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين(٢٥)﴾[التوبة].
٥ يوم بعاث: هو يوم اقتتلت فيه الأوس والخزرج، وكان الظفر فيهى يومئذ للأوس على الخزرج، وكان على الأوس يومئذ حضير بن سماك الأشهلي أبو أسيد بن حضير، وعلى الخزرج عمروا بن النعمان البياضي، فقتلا جميعا.(سيرة ابن هشام ٢/٥٥٥)..
٦ يوم أوطاس هو نفسه يوم حنين وكان في سنة ثمان للهجرة بعد فتح مكة. وأوطاس: واد في ديار هوزان، كانت فيه وقعة حنين..
٧ الحصب: كل ما يلقي في النار، لتسعر به. قال تعالى:﴿إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم..(٩٨)﴾[الأنبياء]، وحصبه: قذفه بالحصى، قال تعالى:﴿أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا..(١٧)﴾[الملك] أي: إعصار شديدا يقذفكم بالحصى، فيهلككم، والرياح العاصفة تفعل أكثر من ذلك..
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا كذلك حقا علينا ننج المؤمنين( ١ )( ١٠٣ ) ﴾ :
والحق سبحانه قد أنجى-من قبل-رسله ومن آمنوا بهم، لتبقى معالم للحق والخير.
ومن ضمن معالم الخير والحق لابد أن تظل معالم الشر، لأنه لولا مجيء الشر بالأحداث التي تعضّ الناس لما استشرف الناس إلى الخير.
ونحن نقول دائما : إن الألم الذي يصيب المريض هو جندي من جنود العافية ؛ لأنه ينبه الإنسان إلى أن هناك خللا يجب أن يبحث له عن تشخيص عند الطبيب، وأن يجد علاجا له.
والألم يوجد في ساعات اليقظة والوعي، ولكنه يختفي في أثناء النوم، وفي النوم ردع ذاتي للألم.
وقوله الحق سبحانه هنا :﴿ ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا كذلك حقا علينا ننج المؤمنين( ١٠٣ ) ﴾[ يونس ] هذا القول يقرر البقاء لعناصر الخير في الدنيا.
وكلما زاد الناس في الإلحاد زاد الله تعالى في المدد، ففي أيّ بلد يفترى فيها على الإيمان ويظلم المؤمنون، ويكثر الطغاة ؛ تجد فيها بعض الناس منقطعين إلى الله تعالى، لتفهّم حقيقة القيم، وحين تضيق الدنيا بالظلمة والطغاة تجدهم يذهبون إلى هؤلاء المنقطعين لله، ويسألونهم أن يدعوا لهم.
وقد ألزم الحق-سبحانه وتعالى-هنا نفسه بأن ينجي المؤمنين في قوله سبحانه :﴿ .. كذلك حقا علينا ننج المؤمنين( ١٠٣ ) ﴾.
١ أي: أن الله سبحنه قد نجى رسله السابقين والذين آمنوا معهم من العذاب، وسينجي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والمؤمنين به حين تعذيب الكفار والمشركين.[تفسير الجلالين ص ١٨٨-بتصرف]..
ويقول الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك :
﴿ قل يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم وأمرت أن أكون من المؤمنين( ١٠٤ ) ﴾ :
والشّك( ١ ) معناه : وضع أمرين في كفتين متساويتين.
وهنا يأمر الحق سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يعرض على الكافرين قضية الدين، وأن يضعونها في كفة، ويضعوا في الكفة المقابلة ما يؤمنون به.
ويترك لهم الحكم في هذا الأمر.
هم-إذن-في شك : هل هذا الدين صحيح أم فاسد ؟
وعرض الرسول صلى الله عليه وسلم لأمر الدين للحكم عليه، يعني : أن أمر الدين ملحوظ أيضا عند أيّ كافر، وهو ينتبه أحيانا إلى قيمة الدين.
فإن كنتم في شكّ من الدين الذي أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهل ينتصر الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه عليهم، أم تكون لهم الغلبة ؟
وحين يعرض الرسول صلى الله عليه وسلم أمر الدين عليهم، ويترك لهم الحكم، فهذه ثقة منه صلى الله عليه وسلم بأن قضايا دينه إن نظر إليها الإنسان ليحكم فيها، فلا بد أن يلتجئ الإنسان على الإيمان.
ويحسم الحق سبحانه وتعالى أمر قضية الشرك به، ويستمر أمره إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقول :﴿ فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله ولكن أعبد الله.. ( ١٠٤ ) ﴾[ يونس ] : أي : أنه صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يعبد الشركاء وأن يعبد الله ؛ لأنه لن يعبد إلا الله ﴿ ولكن أعبد الله( ١٠٤ ) ﴾.
ثم جاء سبحانه بالدليل الذي لا مراء( ٢ ) فيه، والدليل القوي، وهو أن الحق سبحانه وتعالى وحده هو المستحق للعبادة ؛ لأنه ﴿ الذي يتوفاكم ﴾( ٣ )، ولا يوجد من يقدر أو يتأبى على قدر الله سبحانه وحين يميته.
وهنا قضيتان : الأولى : قضية العبادة في قوله سبحانه :﴿ فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم.. ( ١٠٤ ) ﴾[ يونس ].
وكان لا بد أن يأتي أمر المسألتين معا : مسألة عدم عبادة الرسول لمن هم من دون الله، ومسألة تخصيص الله تعالى وحده بالعبادة.
والفصل واضح بما يحدّد قطع العلاقات بين معسكر الإيمان ومعسكر الشرك، كما أورده الحق سبحانه في قوله :﴿ قل يا أيها الكافرون( ١ ) لا أعبد ما تعبدون( ٢ ) ولا أنتم عابدون ما اعبد( ٣ ) ولا أنا عابد ما عبدتم( ٤ ) ولا أنتم عابدون ما أعبد( ٥ ) لكم دينكم ولي دين( ٦ ) ﴾[ الكافرون ] : والذين يقولون : إن في سورة ( الكافرون ) ( ٤ ) تكرارا لا يلتفتون إلى أن هذا الأمر تأكيد لقطع العلاقات ؛ ليستمر هذا القطع في كل الزمن، فهو ليس قطعا مؤقّتا للعلاقات( ٥ ).
وهذا أول قطع للعلاقات في الإسلام، بصورة حاسمة ليست فيها آية فرصة للتفاهم أو للمساومة، ويظل كل معسكر على حاله.
يقول الحق سبحانه وتعالى في سورة النصر :﴿ إذا جاء نصر الله وفتح( ١ ) ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا( ٢ ) فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا( ٣ ) ﴾[ النصر ] : هنا يتأكد الأمر، فبعد أن قطع الرسول صلى الله عليه وسلم العلاقات مع معسكر الشرك، جاء نصر الله سبحانه وتعالى وفتحه، فهرع الناس من معسكر الشرك إلى معسكر الإيمان( ٦ ).
هم-إذن-جاءوا إلى الإيمان.. هذه هي القضية الأولى :
﴿ فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله ولكن أعبد الله.. ( ١٠٤ ) ﴾[ يونس ] : وهم كانوا يعبدون الأصنام المصنوعة من الحجارة.
وأنت إذا نظرت إلى الأجناس في الوجود، فأكرمها هو الإنسان الذي سخّر له الحق سبحانه بقية الأجناس لتكون في خدمته. والجنس الأقل من الإنسان هو الحيوان. ثم يأتي الجنس الأقل مرتبة من الإنسان والحيوان، وهو النبات. ثم يأتي الجماد كأدنى الأجناس مرتبة، وهم قد اتخذوا من أدنى الأجناس آلهة، وهذه هي قمة الخيبة.
وتأتي القضية الثانية في قول الحق سبحانه وتعالى :﴿ .. وأمرت أن أكون من المؤمنين( ١٠٤ ) ﴾ فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رفض العبادة لمن هم دون الله سبحانه، فمعنى ذلك أنه لن يعبد سوى الله تعالى.
وليس هذا موقفا سلبيا، بل هو قمة الإيجاب ؛ لأن العبادة تقتضي استقبال منهج الله بأن يطيع أوامره، ويجتنب نواهيه.
١ الشك: نقيض اليقين، وجمعه: شكوك. قال تعالى:﴿قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السماوات والأرض..(١٠)﴾[إبراهيم].[لسان العرب: مادة (ش ك ك)]..
٢ المراء، والمماراة، والتمارى، والامتراء: الجدال والشك. قال تعالى:﴿.. فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا ولا تستفت فيهم منهم أحدا(٢٢)﴾[الكهف]. وقال تعالى:﴿أفتمارونه على ما يرى(١٢)﴾[النجم]. وكذلك المرية (بكسر الميم، وبضمها)، قال تعالى:﴿ولا يزال الذين كفروا في مرية منه..(٥٥)﴾[الحج].[لسان العرب: مادة (م ر ى)] بتصرف..
٣ يتوفاكم: يميتهم ويقبض أرواحهم. وهو من توفية العدد، أي: يقبض أرواحكم أجمعين، فلا ينقص واحد منكم. ومن ذلك قوله عز وجل:﴿الله يتوفى الأنفس حين موتها..(٤٢)﴾[الزمر] أي: يستوفى مدد آجالهم في الدنيا.[لسان: مادة وفى]..
٤ نزلت سورة الكافرون في رهط من قريش قالوا: يا محمد، هلم ابتع ديننا ونتبع دينك، تعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة، فإن كان الذي جئت به خيرا مما بأيدينا قد شركناك فيه وأخذنا بحظنا منه، وإن كان الذي بأيدينا خيرا مما يدك قد شركت في أمرنا وأخذت بحظك، فقال: معاذ الله أن أشرك به غيره. فأنزل الله تعالى:﴿قل يا أيها الكافرون(١)﴾إلى آخر السورة، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الحرام وفيه الملأ من قريش، فقرأها عليهم حتى فرغ من السورة، فأيسوا منه عند ذلك. [أسباب النزول-للواحدي ص ٢٦١]..
٥ أقوال مفسري وعلماء سلفنا الصالح تتلاقى كلها فيما قال فضيلة الشيخ هنا. فقال البعض منهم البخاري وغيره أن المراد ب﴿لا أعبد ما تعبدون(٢) ولا انتم عابدون ما أعبد(٢)﴾[الكافرون] في الماضي و﴿ولا أنا عابد ما عبدتم(٤) ولا أنتم عابدون ما أعبد(٥)﴾[الكافرون] في المستقبل. وقال البعض الآخر: إن هذا تأكيد محض. وهناك قول آخر نصره الإمام ابن تيميه، وهو أن المراد بقوله:﴿لا أعبد ما تعبدون(٢)﴾[الكافرون] نفى الفعل لأنها جملة فعلية ﴿ولا أنا عابد ما عبدتم(٤)﴾[الكافرون] نفى قبوله لذلك بالكلية؛ لأن النفي بالجملة الاسمية آكد، فكأنه نفى الفعل وكونه قابلا لذلك، ومعناه نفى الوقوع، ونفى الإمكان الشرعي أيضا. انظر تفسير ابن كثير (٤/٥٦١)..
٦ كان بين سورتي "الكافرون"، و"النصر" ما يزيد على ١٥ سنة، فسورة الكافرون نزلت في بداعية الدعوة ومحاولة قريش إثناء رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الاستمرار في دعوته، ثم حدثت المفاصلة، ثم الهجرة، ثم الغزوات، إلى أن تم نصر الله بفتح مكة، ودخل الناس في دين الله أفواجا، فكانت سورة النصر. وهذا يؤكد ما قاله فضيلة الشيخ من امتداد القطع مع معسكر الشرك؛ ليشمل الزمن كله بالنسبة لقضية الإيمان ماضيا وحاضرا ومستقبلا..
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ وأن أقم وجهك للدين حنيفا( ١ ) ولا تكونن من المشركين( ١٠٥ ) ﴾ :
وما دام الخطاب موجّها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو ككل خطاب من الحقّ سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم، إنما ينطوي على الأمر لكل مؤمن.
وإذا ما عبد المؤمن الله سبحانه فهو يستقبل أحكامه ؛ ولذلك يأتي الأمر هنا بألا يلتفت وجه الإنسان المؤمن إلى غير الله تعالى، فيقول الحق سبحانه :﴿ أقم وجهك للدين حنيفا.. ( ١٠٥ ) ﴾[ يونس ].
فلا يلتفت في العبادة يمينا أو يسارا، فما دام المؤمن يعبد الله ولا يبعد غيره، فليعلم المؤمن أن هناك-أيضا-شركا خفيا( ٢ )، كان يعبد الإنسان من هم أقوى أو أغنى منه، وغير ذلك من الأشخاص التي يفتن بها الإنسان.
ونحن عرفنا من قبل قول الحق سبحانه :﴿ ومن أحسن دينا( ٣ ) ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة( ٤ ) إبراهيم حنيفا.. ( ١٢٥ ) ﴾[ النساء ] : والحنف( ٥ ) أصله ميل في الساق، وتجد البعض من الناس حين يسيرون تظهر سيقانهم متباعدة، وأقدامهم ملتفّة، هذا اعوجاج في التكوين.
أما المقصود هنا بكلمة ( حنيفا ) أي : معوج عن الطريق المعوج، أي : أنه يسير باستقامة.
ولكن : لماذا يأتي مثل هذا التعبير ؟
لأن الدين لا يجيء برسول جديد ومعجزة جديدة، إلا إذا كان الفساد قد عمّ ؛ فيأتي الدين ؛ ليدعو الناس إلى الميل عن هذا الفساد. وفي هذه اعتدال لسلوك الأفراد والمجتمع.
ويحذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن نقع في الشرك الخفي بعد الإيمان بالله تعالى.
ويأتي الكلام عن هذا الشرك الثاني في قول الحق سبحانه :﴿ .. ولا تكونن من المشركين( ١٠٥ ) ﴾[ يونس ]. وهذا الشرك الثاني هو أقل مرحلة من شرك العبادة، ولكن أن تجعل لإنسان أو لآيّ شيء مع الله عملا.
فإن رأيت-مثلا-للطبيب أو للدواء عملا، فقل لنفسك : إن الطبيب هو من يصف الدواء كمعالج، ولكن الله سبحانه وتعالى هو الذي يشفي، بدليل أن الطبيب قد يخطئ مرة، ويأمر بدواء تحدث منه مضاعفات ضارة للمريض. وعلى المؤمن ألا يفتن في أيّ سبب من الأسباب.
ونذكر مثالا آخر لذلك، وهو أن بلدا من البلاد ذات الرقعة الزراعية المتسعة أعلنت في أحد الأعوام أنها زرعت مساحة كبيرة من الأراضي بالقمح بما يكفي كل سكان الكرة الأرضية، ونبتت السنابل وأينعت، ثم جاءتها ريح عاصف أفسدت محصول القمح، فاضطرت تلك الدولة أن تستورد قمحها من دول أخرى.
١ حنيفا: مائلا عن كل طرق ومناهج الضلال، إلى طريق الحق وحده..
٢ الخفي: هو الرياء وطلب السمعة والصيت. فعن شداد بن أوس قال قال صلى الله عليه وسلم:"عن أخوف ما أتخوف على أمتي الإشراك بالله. أما أنا لست أقول: يعبدون شمسا ولا قمرا ولا وثنا. ولكن أعمالا لغير الله، وشهوة خفية" أخرجه ابن ماجه في سننه (٤٢٠٥)..
٣ الدين: الطاعة والانقياد والشريعة والجزاء، والعقيدة والمنهج والصراط المستقيم [القاموس القويم-باختصار صـ٢٣٩]..
٤ الملة (بكسر الميم، وتضعيف اللام): الشريعة، والدين. قال تعالى:﴿.. إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون(٣٧)﴾[يوسف]. وقال تعالى:﴿ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل..(٧٨)﴾[الحج].[لسان العرب: مادة م ل ل].. بتصرف..
٥ الحنف في القدمين: إقبال كل واحدة منهما على الأخرى بإبهامها. ورجل أحنف، وامرأة حنفاء، وبه سمى "الأحنف بن قيس"، واسمه "صخر"؛ لحنف كان في رجله. قال الجوهري: الحنف: الاعوجاج في الرجل. وقال أبو عمرو: الحنيف هو المائل من خير إلى شر، أو من شر إلى خير. وحنف عن الشيء وتحنف: مال. والحنيف: المسلم الذي يتحنف عن الأديان، أي: يميل إلى الحق، وقيل: هو الذي يستقبل قبلة البيت الحرام على ملة إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، قال تعالى:﴿ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما..(٦٧)﴾[آل عمران]. وقيل: الحنيف هو الذي يميل عن الضلال، ويبعد عنه ليتجه إلى الحق، وقد صارت هذه الكلمة علما على المسلمين.[لسان العرب: مادة (ح ن ف)-بتصرف]..
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين( ١٠٦ ) ﴾ :
والمشرك من هؤلاء لحظة أن عبد الصنم ودعاه من دون الله تعالى، فهل استجاب له ؟ وحين عبده هل قال الصنم له : افعل كذا، ولا تفعل كذا ؟
إن الأصنام التي اتخذها المشركون آلهة لم يكن لها منهج، ولا أحد منها ينفع أو يضر، وحين يجيء النفع لا يعرف الصنم كيف يمنعه، وحين يجيء الضرّ لا يقدر الصنم أن يدفعه.
إذن : فمن يدعو من دون الله-سبحانه وتعالى-هو دعاء لمن لا ينفع ولا يضر.
ومن يفعل ذلك يكون من الظالمين ؛ لأن الظلم هو إعطاء حقّ لغير ذي حق، سواء أكان في القمة، أو في غير القمة( ١ ).
١ أي: سواء كان ظلما في القمة-أي: بالإشراك بالله-أو ظلما في غير القمة بظلم العباد بأخذ حقوقهم والتعدي عليهم..
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم( ١٠٧ ) ﴾ :
هذا كلام الربوبية المستغنية عن الخلق، فالله سبحانه وتعالى خلق الناس، ودعاهم إلى الإيمان به، وأن يحبوه ؛ لأنه يحبهم، ويعطيهم، ولا يأخذ منهم ؛ لأنه في غنى عن كل خلقه.
ويأتي الكلام عن الضرّ هنا بالمسّ، ﴿ وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو.. ( ١٠٧ ) ﴾[ يونس ] : ونحن نعلم أن هناك " مسا " و " ولمسا " و " إصابة ".
وقوله سبحانه هنا عن الضر يشير إلى مجرد المسّ، أي : الضر البسيط، ولا تقل : إن الضر ما دام صغيرا فالخلق يقدرون عليه، فلا أحد يقدر على الضر أو النفع، قلّ الضر أم كبر، وكثر النفع أو قلّ، إلا بإذن من الله تعالى.
والحق سبحانه وتعالى يذكر الضر هنا بالمسّ، أي : أهون الالتصاقات، ولا يكشفه إلا الله سبحانه وتعالى.
ومن عظمته-جلّ وعلا-أنه ذكر مع المس بالضر، والكشف عنه، وهذه هي الرحمة.
ثم يأتي سبحانه بالمقابل، وهو " الخير "، وحين يتحدث عنه الحق سبحانه، يؤكد أنه لا يرده.
ونحن نجد كلمة ﴿ يصيب ﴾ في وصف مجيء الخير للإنسان، فالحق سبحانه يصيب به من يشاء من عباده.
وينهي الحق سبحانه وتعالى الآية بهذه النهاية الجميلة في قوله تعالى :﴿ .. وهو الغفور الرحيم( ١٠٧ ) ﴾[ يونس ] : وهكذا تتضح لنا صورة جلال الخير المتجلي على العباد، ففي الشر جاء به مسا، ويكشفه، وفي الخير يصيب به العباد، ولا يمنعه.
والله تعالى هو الغفور الرحيم ؛ لأنه سبحانه لو عامل الناس-حتى المؤمنين منهم-بما يفعلون لعاقبهم، ولكنه سبحانه غفور ورحيم ؛ لأن رحمته سبقت غضبه( ١ ) ؛ ولذلك نجده سبحانه في آيات النعمة يقول :﴿ وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها( ٢ ).. ( ١٨ ) ﴾[ النحل ].
وجاء الحق سبحانه بالشكّ، فقال﴿ إن ﴾ ولم يقل :" إذا تعدون نعمة الله " ؛ لأن هذا أمر لن يحدث، كما أن الإقبال على العدّ هو مظنة أنه يمكن أن يحصى ؛ فقد تعد النقود، وقد يعد الناظر طلاب المدرسة، لكن أحدا لا يستطيع أن يعد أو يحصى حبّات الرمال مثلا.
وقال الحق سبحانه وتعالى :﴿ وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها.. ( ١٨ ) ﴾[ النحل ] : وهذا شكّ في أن تعدوا نعمة الله.
ومن العجيب أن العد يقتضي التجمع، والجمع لأشياء كثيرة، ولكنه سبحانه جاء هنا بكلمة مفردة هي﴿ نعمة ﴾ ولم يقل :" نعم " فكأن كل نعمة واحدة مطمور فيها نعم شتّى.
إذن : فلن نستطيع أن نعدّ النّعم المطمورة في نعمة واحدة.
وجاء الحق سبحانه بذكر عد النعم في آيتين : الآية الأولى تقول :﴿ .. وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار( ٣ ) ( ٣٤ ) ﴾[ إبراهيم ].
والآية الثانية تقول :﴿ وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله غفور رحيم( ١٨ ) ﴾[ النحل ].
وصدر الآيتين واحد، ولكن عجز كل منهما مختلف، ففي الآية الأولى :﴿ .. إن الإنسان لظلوم كفار( ٣٤ ) ﴾[ إبراهيم ]، وفي الآية الثانية :﴿ .. إن الله غفور رحيم( ١٨ ) ﴾[ النحل ] : لأن النعمة لها منعم ؛ ومنعم عليه، والمنعم عليه-بذنوبه-لا يستحق النعمة ؛ لأنه ظلوم وكفار. ولكن المنعم سبحانه وتعالى غفور ورحيم، ففي آية جاء ملحظ المنعم، وفي آية أخرى جاء ملحظ المنعم عليه.
ومن ناحية المنعمة عليه نجده ظلوما كفّارا ؛ لأنه يأخذ النعمة، ولا يشكر الله عليها.
ألم تقل السماء : يا رب ! ائذن لي أن أسقط كسفا على ابن آدم ؛ فقد طعم خيرك، ومنع شكرك.
وقالت الأرض : ائذن لي أن انخسف بابن آدم ؛ فقد طعم خيرك، ومنع شكرك.
وقالت الجبال : ائذن لي أن أسقط على ابن آدم.
وقال البحر : ائذن لي أن أغرق ابن آدم الذي طعم خيرك، ومنع شكرك.
هذا هو الكون الغيور على الله تعالى يريد أن يعاقب الإنسان، لكن الله سبحانه رب الجميع يقول :" دعوني وعبادي، لو خلقتموهم لرحمتموهم، وإن تابوا إليّ فأنا حبيبهم، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم ".
١ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لما قضى الله الخلق كتب في كتابه، فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي غلبت غضبي" أخرجه البخاري في صحيحه(٣١٩٤) ومسلم(٢٧٥١)..
٢ الإحصاء: العد والحصر..
٣ ظلوم: صيغة مبالغة من (الظلم)، أي: كثير الظلم لنفسه أو لغيره، او لهما معا.
وكفار: صيغة مبالغة من (الكفر)، أي: شديد الكفر، والكفر في اللغة: الستر، من ستر الشيء إذا أخفاه. فكأن الإنسان بعدم شكر الله على النعمة يكون قد كفرها. أي: سترها وأخفاها ولم يؤد حقها من الذكر والشكر..

ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن يضل فإنما يضل عليها وما أنا عليكم بوكيل( ١ )( ١٠٨ ) ﴾ :
إذن : فالحق سبحانه لم يقصّر مع الخلق، فقد خلق لكم العقول، وكان يكفي أن تفكروا بها لتؤمنوا من غير مجيء رسول، وكان على هذه العقول أن تفكر في القويّ الذي خلق الكون كله، بل هي التي تسعى لتطلب أن يرسل لها القوى رسولا بما يطلبه سبحانه من عباده، فإذا ما جاء رسول ليخبرهم أنه رسول من الله ويحمل البلاغ منه، كان يجب أن تستشرف آذانهم لما يقول.
إذن : كان على العباد أن يهتدوا بعقولهم ؛ ولذلك نجد أن الفلاسفة حين بحثوا عن المعرفة، قالوا : إن هناك " فلسفة مادية " تحاول أن تتعرف على مادية الكون، وهناك " فلسفة ميتافيزيقية " ( ٢ ) تبحث عما وراء المادة.
فمن أعلم الفلاسفة-إذن-أن هناك شيئا وراء المادة.
وكان العقل المجرد ساعة يرى نظم الكون الدقيقة كان يجب أن يقول : إن وراء الكون الواضح المحسّ قوة خفية.
ولم يذهب الفلاسفة إلى البحث فيما وراء المادة، إلا لأنهم أخذوا من المادة أن وراءها شيئا مستورا.
والمستور الذي وراء المادة هو الذي يعلن عن نفسه، فهو أمر لا نعرفه بالعقل.
وقديما ضربنا مثلا في ذلك، وقلنا : وهب أننا جالسون في حجرة، ودقّ جرس الباب، فعلم كل من في الحجرة أن طارقا بالباب، ولم يختلف أحد منهم على تلك الحقيقة.
وهذا ما قاله الفلاسفة حين أقرّوا بوجود قوة وراء المادة، ولكنهم تجاوزوا مهمتهم، وأرادوا أن يعرفونا ماهية أو حقيقة هذه القوة، ولم يلتفتوا إلى الحقيقة البديهية التي تؤكد أن هذه القوة لا يمكن أن تعرف بالعقل ؛ لأننا ما دمنا قد عرفنا أن الباب طارقا يدق ؛ فنحن لا نقول هو، ولا نترك المسألة للظن، بل نتركه هو الذي يحد لنا من هو، وماذا يطلب ؟ لأن عليه هو أن يخبر عن نفسه.
اطلبوا منه أن يعلن عن اسمه وصفاته، وهذه مسائل لا يمكن أن نعرفها بالعقل.
إذن : فخطأ الفلاسفة أنهم لم يقفوا عند تعقّل أن هناك قوة من وراء المادة، وأرادوا أن ينتقلوا من التعقل إلى التصور، والتصورات لا تأتي بالعقل، بل بالإخبار.
وهنا يقول الحق سبحانه :﴿ قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم.. ( ١٠٨ ) ﴾[ يونس ] : والحق-كما نعلم- هو الشيء الثابت الذي لا يتغير أبدا، وأن يأتي الحق من الرب الذي يتولى التربية بعد أن خلق من عدم وأمد من عدّم( ٣ )، ولا يكلفنا بتكاليف الإيمان إلا بعد البلوغ، وخلق الكون كله، وجعلنا خلفاء فيه.
هو-إذن-مأمون علينا، فإذا جاء الحق منه سبحانه وتعالى، فلماذا لا نجعل المنهج من ضمن التربية ؟
لماذا أخذنا تربية المأكل والملبس وسيادة الأجناس ؟
كان يجب-إذن- أن نأخذ من المربّي-سبحانه وتعالى-المنهج الذي ندير به حركة الحياة ؛ فلا نفسدها.
وحين يقول الحق سبحانه :﴿ جاءكم الحق( ٤ ) من ربكم.. ( ١٠٨ ) ﴾[ يونس ] : فمعنى ذلك أنه لا عذر لأحد أن يقول :" لم يبلغني أحد بمراد الله "، فقد ترك الحق سبحانه العقول لتتعقل، لا أن تتصور.
وجاء التصوّر للبلاغ عن الله تعالى، حين أرسل الحق سبحانه رسولا يقول : أنا رسول من الله، وهو القوة التي خلقت الكون، وكان علينا أن نقول للرسول بعد أن تصدق معجزته : أهلا، فأنت من كنا نبحث عنه، فقل لنا : ماذا تريد القوة العليا أن تبلغنا به ؟
ثم يقول الحق سبحانه في نفس الآية :﴿ فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه.. ( ١٠٨ ) ﴾[ يونس ]
لان حصيلة هدايته لا تعود على من خلقه وهداه، بل تعود عليه هو نفسه انسجاما مع الكون، وإصلاحا لذات النفس، وراحة بال، واطمئنانا، وانتباها لتعمير الكون بما لا يفسد فيه، وهذا الحال عكس ما يعيشه من ضل عن الهداية.
ويقول الحق سبحانه عن هذا الصنف من الناس :﴿ ومن ضل فإنما يضل عليها.. ( ١٠٨ ) ﴾[ يونس ] وكلمة ﴿ ضل ﴾ تدل على أن الإنسان الذي يضل كانت به بداية هداية، لكنه ضلّ عنها.
وينهي الحق سبحانه الآية بقوله :﴿ وما أنا عليكم بوكيل( ١٠٨ ) ﴾[ يونس ] : وأنت لا توكّل إنسانا إلا لأن وقتك لا يسع، وكذلك قدرتك وعلمك وحركتك، وهنا يبلغ الرسول القوم : أنا لا أقدر أن أدفع عنكم الضلال، أو أجبركم على الهداية ؛ لأني لست وكيلا عليكم، بل عليّ فقط مهمة البلاغ ( ٥ ) عن الله سبحانه وتعالى، وهذا البلاغ إن استمعتم إليه بخلاء القلب من غيره، تهتدوا.
وإذا اهتديتم ؛ فالخير لكم ؛ لأن الجزاء سيكون خلودا في نعيم تأخذونه مقابل تطبيق المنهج الذي ضيّق على شهوات النفس، ولكنه يهدي حياة نعيم لا يفوته الإنسان، ولا تفوت النعم فيه الإنسان.
وإذا كان الإنسان منّا يقبل أن يتعب ؛ ليتعلّم حرفة أو عملا أو صنعة أو مهنة ؛ ليكسب الإنسان من إتقان هذا العمل بقية عمره.
أليس على هذا الإنسان أن يقبل على العبادة التي تصلح باله، وتسرع به إلى الغاية انسجاما مع النفس، ومع المجتمع، وتقويما وتهذيبا لشهوات النفس، وينال من بعد ذلك خلود النعيم في الآخرة.
أما من يستكثر على نفسه الجدّ والاجتهاد في تحصيل العلم، أو تعلم مهنة أو حرفة، فهو يحيا في ضيق وعدم ارتقاء، فهو لا يبذل جهدا في التعلم.
ونرى من يتعلم ويبذل الجهد، وهو يرتقي في المستوى الاجتماعي والاقتصادي ؛ ليصل إلى درجة الدكتوراة-مثلا-أو التخصص الدقيق الذي يأتي له بسعة الرزق.
وكلما كانت الثمرة التي يريدها الإنسان أينع( ٦ ) وأطول عمرا كانت الخدمة من أجلها أطول.
وقارن بين خدمتك لدينك في الدنيا بما ينتظرك من نعيم الآخرة ؛ وسوف تجد المسافة بين عطاء الدنيا وعطاء الآخرة شاسعا، ولا مقارنة.
وقول الحق سبحانه :﴿ زمن ضل( ٧ ) فإنما يضل عليها( ١٠٨ ) ﴾[ يونس ] : تجد فيه كلمة ﴿ عليها ﴾ وهي تفيد الاستعلاء على النفس، أي : أنك بالضلال-والعياذ بالله- تستعلي على نفسك، وتركب رأسك إلى الهاوية.
وفي المقابل تجد الحق سبحانه :﴿ فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه.. ( ١٠٨ ) ﴾[ يونس ] :
وتجد " اللام " هنا تفيد الملك ؛ لذلك يقال :" فلان له " و " فلان عليه ".
١ الوكيل: الكفيل الموكل بأرزاق الناس وأمورهم، والحفيظ الذي يحفظ أعمال الناس. قال سبحانه:﴿.. وما جعلناك عليهم حفيظا وما أنت عليهم بوكيل(١٠٧)﴾[النعام]، وقد نفى الله سبحانه هذا عن نبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم..
٢ الفلسفة: لفظ يوناني ومعناه البحث عن الحقيقة. والميتافيزيقا: ما رواء الطبيعة والكون. أي: الغيبيات التي لا تخضع لقوانين المادة..
٣ العدم والعدم والعدم: فقدان الشيء وذهابه. ومثله في ضبط حروف الكلمة: الرشد والرشد-الحزن والحزن. ومثله قوله تعالى:﴿لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي..(٢٥٦)﴾[البقرة]. وقوله تعالى:﴿.. ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا(١٠)﴾[الكهف]..
٤ الحق: المر الثابت ضد الباطل، والحق من أسماء الله الحسنى، والحق القرآن، والحق العدل والصدق والحكمة والبعث وكمال الأمر، والحق الواقع الثابت الذي لا خلاف فيه، قال تعالى:﴿ألا إن لله مات في السماوات والأرض إلا إن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون(٥٥)﴾[يونس]، والحق ما وجب عليك لغيرك[القاموس القومي بتصرف ص ١٦٥، ١٦٤]..
٥ وقد ورد تأكيد هذا في آيات كثيرة من القرآن الكريم، ومنه قوله تعالى:﴿فإن اعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا إن عليك إلا البلاغ..(٤٨)﴾[الشورى]. وقال تعالى:﴿.. وما على الرسول إلا البلاغ المبين(٥٤)﴾[النور]. فكل المطلوب من الرسول هو إبلاغ رسالته، وأن يكون هذا البلاغ مبينا جليا وواضحا..
٦ أينع نضجا. والينع: النضج. ومنه قوله تعالى:﴿انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه..(٩٩)﴾[الأنعام]..
٧ ضل الكافر: غاب عن الحجة المقنعة، وعدل عن الطريق المستقيم، ولم يعرف الحق. والضلال: النسيان والضياع. وضل الشيء: خفي وغاب فهو فعل لازم، وضل المسافر الطريق متعد: لم يعرفه.[القاموس القويم ص ٣٩٤-بتصرف]..
وبعد ذلك يقول الحق سبحانه في ختام سورة يونس :
{ واتبع ما يوحي إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين( ١٠٩ ) :
وإذا كان الحق سبحانه قد أورد على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم :﴿ يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم.. ( ١٠٨ ) ﴾[ يونس ] : فهذا يعني البلاغ بمنهج الله-تعالى-النظري، ولابدّ أن يثق الناس في المنهج، بأن يكون الرسول هو أول المنفذين للمنهج، لأنه-معاذ الله-لو غشّ الناس جميعا لما غشّ نفسه.
إذن : فبعد البلاغ( ١ ) عن الحق سبحانه، وتعريف الناس بأن الهداية لا يعود نفعها على الحق، بل هي للإنسان، فيملك نفسه ؛ ويملك زمام حياته، فيسير براحة البال في الدنيا إلى نعيم الآخرة، وأن الضلال لا يعود إلا باستعلاء الإنسان على نفسه ؛ ليركبها إلى موارد التهلكة.
والرسول صلى الله عليه وسلم ليس وكيلا عنكم، يأتي لكم بالخير حين لا تعملون خيرا، ولا يصرف عنكم الشر وأنتم تعملون ما يستوجب الشر.
وذلك كان على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون هو النموذج والأسوة :
﴿ لقد كان لكم في رسول الله أسوة( ٢ ) حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله( ٣ ) كثيرا( ٢١ ) ﴾[ الأحزاب ].
وهنا يقول الحق سبحانه :﴿ واتبع ما يوحى إليك.. ( ١٠٩ ) ﴾[ يونس ] : أي : عليك أن تكون الأسوة، وحين تتبع ما يوحى إليك ؛ ستجد عقبات ممن يعيشون على الفساد، ولا يرضيهم أن يوجد الإصلاح، فوطن العزم على أن تتبع ما يوحى إليك، وأن تصبر. ومجيء الأمر بالصبر دليل على أن هناك عقبات كثيرة، وعليك أن تصبر وتعطى النموذج لغيرك( ٤ )، والثقة في أنه لو لم يكن هناك خير في إتباع المنهج لما صبرت عليه ؛ حتى يأتي حكم الله ﴿ .. واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين( ١٠٩ ) ﴾[ يونس ] : وليس هناك أعدل ولا أحكم من الله سبحانه وتعالى.
وهذه السورة التي تختم بهذه الآية الكريمة، تعرضت لقضية الإيمان بالله، قمة في عقيدة لإله واحد يجب أن نأخذ البلاغ منه سبحانه ؛ لأنه الرب الذي خلق من عدم، وأمد من عدم، ولم يكلّفنا إلا بعد مرور سنوات الطفولة وإلى البلوغ ؛ حتى يتأكد أن المكلَّف يستحق أن يكلَّف بعد أن انتفع بخيرات الوجود كله، وتثبّت من صدق الربوبية.
ومعنى الربوبية هو التربية، وأن يتولى المربيّ المربىَّ إلى أن يبلغ حدّ الكمال المرجو منه.
وقد صدقت هذه القضية في الكون.
إذن : نستمع إلى الرب-سبحانه وتعالى-الذي خلق، حين يبيّن لنا مهمتنا في الحياة بمنهج تستقيم به حركة الحياة، ويستقيم أمر الإنسان مع الغاية التي يعرفها قبل أن يخطو أي خطوة.
ومن المحال أن يخلق-سبحانه وتعالى-المخلوق ثم يضيّعه، بل لا بد أن يضع له قانون صيانة نفسه( ٥ ) ؛ لأن كل صنعة إنما يضع قانونها ويحدد الغاية لها من صنعها، فإذا ما خالفنا ذلك نكون قد أحلنا( ٦ ) وغيّرنا الأمور، وأدخلنا العالم في متاهات، وصار لكل امرئ غاية، ولكل امرئ منهج، ولكل عقل فكر، ولصار الكون متضاربا ؛ لأن الأهواء ستتضارب، فتضعف قوة الأفراد ؛ لأن الصراع بين الأنداد( ٧ ) يضعف قوة الفرد عن معالجة الأمر الذي يجب أن يعالجه.
فأراد الله-سبحانه وتعالى-توحيدا( ٨ ) في العقيدة، وتوحيدا في المنهج.
وأراد الحق سبحانه وتعالى أن يضرب لنا مثلا تطبيقيا في مواكب الرسالات، فذكر لنا في هذه السورة قصة نوح-عليه السلام- وقصة موسى وهارون-عليهما السلام- وذكر بينهما القصص الأخرى.
ثم ذكر قضية يونس عليه السلام.
ثم ختم السورة بقوله سبحانه :﴿ واتبع ما يوحى إليك.. ( ١٠٩ ) ﴾[ يونس ] : بلاغا عن الله تعالى.
وما دمت تبلّغ، وأمتك أمة محسوبة-إلى قيام الساعة-أنها وارثة النبوة، ولم تعد هناك نبوة بعدك يا محمد صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا.
وأراد الحق سبحانه لأمتك أن يحملوا الدعوة للمنهج الذي نزل إليك. إذن : فرسول الله صلى الله عليه وسلم سيكون شهيدا بأنه قد بلّغ، ويجب أن تكون أمته شهيدة بأنها بلغت، وأوصلت رسالة الله إلى الدنيا( ٩ )، وهذا شرف مهمة أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
ولم يكن لأمة غيرها مثل هذا الشرف ؛ فقد كان الأمر قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن دعوة أيّ رسول تفتر، وتبهت تكاليفه( ١٠ )، ويغفل عنها الناس، فيرسل الله-سبحانه وتعالى-رسولا، ولكن الأمر اختلف بعد رسالة محمد عليه الصلاة والسلام، فلم تعد هناك نبوة، ولا رسالة، ولكن صار هناك من يحملون منهج الله تعالى.
والرسول صلى الله عليه وسلم هو الأسوة ؟ لأنه مبلغ منهج الله، وهو أسوة في تطبيق قانون صيانة الإنسان وحركته، ونموذج تطبيقي حتى لا يكلف الناس فوق ما تطيقه إنسانيتهم ؛ ولذلك كان يصر على أنه بشر، وأوضح القرآن الكريم ذلك بلا أدنى غموض :﴿ إنما أنا بشر مثلكم.. ( ٦ ) ﴾[ فصلت ]. ليؤكد صدق الأسوة ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لو لم يكن بشرا وطلب من الناس أن يفعلوا مثله لقالوا : لن نستطيع لأنك لست مثلنا.
ولذلك نلحظ أن القرآن يؤكد على بشرية رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه صلى الله عليه وسلم يزيد عن البشر باصطفاء الله سبحانه له ؛ ليكون رسولا يوحى إليه، فمهمته الرسالية الأولى أن يبلغ هذا الوحي، والمهمة الثانية أن يؤكد بسلوكه أنه مقتنع بهذا الوحي ويطبّقه على نفسه.
ويقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة( ١١ ).. ( ٢١ ) ﴾[ الأحزاب ].
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم من ناحية الثراء أقل الناس مالا، وهو غير متكبر ولا جبّار، وهو كنموذج سلوكي تتوازن فيه وبه كل الفضائل ؛ فلم يطلب لنفسه شيئا، بل إنه منع أقاربه وأهله من حقوق أقرها لغيرهم من المسلمين، فأقاربه لم يعطهم الحق في أن يرثوا شيئا مما يملكه بعد وفاته وقد حرمهم ؛ ليكون كل عمل صادر منه صلى الله عليه وسلم أو ممن ينتسبون بالقرابة إليه هو عمل خالص لوجه الله تعالى.
وهذا السلوك هو عكس سلوك الرئاسات البشرية، أو السلطات الزمنية، فهذه الرئاسات أو تلك السلطات تفيض أول ما تفيض على نفسها بالخير، ثم تفيضه على الدوائر القريبة منها حسب أقطار القرب ؛ فالقريب جدا يأخذ أولا وكثيرا، ومن يبعد في القرابة يأخذ الأقل حسب درجة بعده.
لكن الذي في دائرة القرابة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأخذ حتى ما يأخذه الفقير في أمة محمد عليه الصلاة والسلام، وكأن الله سبحانه وتعالى يدلنا بذلك على أنه من العيب أن يكون الإنسان منسوبا لآل بيت النبوة، ويكون موضعا لأخذ الزكاة.
إذن : فالاتّباع الذي أمر الله تعالى به، هو إتباع الوحي بلاغا، وإتباع ما يوحى به تطبيقا، وسيتطلب هذا مواجهة متاعب كثيرة، وسيلقى عقبات من الجبابرة المنتفعين بالفساد في الأرض، فلا بدّ أن يصادموا هذه الدعوات ؛ ليحافظوا على سلطتهم الزمنية، فيأمر الحق سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يصبر، وفي الأمر بالصبر إشارة إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم مقبل على عقبات فليعدّ نفسه لتحمّل هذه العقبات بالصبر( ١٢ ).
وفي آية أخرى يأمره الحق سبحانه وتعالى أن يصبر ويصابر هو والمؤمنون.. يقول سبحانه :﴿ اصبروا وصابروا ورابطوا( ١٣ ).. ( ٢٠٠ ) ﴾[ آل عمران ] : أي : إن صبرت، فقد يصبر خصمك أيضا، وهنا عليك أن تصابره، وكلمة " اصبر " توضح أن دعاة منهج الحق سبحانه لا بد أن يتعرضوا لمتاعب، وإلا ما كانت هناك ضرورة لأن يجيء، فلو كان العالم مستقيم الحركة، فما ضرورة المنهج إذن ؟
ولكن المنهج قد جاء ؛ لأن الفساد قد عم الكون، ويحتاج إلى إصلاح، وإلى مواجهة المفسدين، وهذا ما يرهق الداعين إلى الله تعالى، وليوطّن كل داعية نفسه على ذلك، ما دام قد قام ليدعو إلى منهج الحق سبحانه وتعالى.
وكل داع إلى الله لا يصيبه أذى، فهذا ينقص من حظه في ميراث النبوة ؛ لأن الذي يأتي له الأذى هو الذي يأخذ حظا من ميراث النبوة، فالأذى لا يجيء إلا بمقدار خطورة الداعي على الله سبحانه على الفساد والمفسدين، وهم الذين يتجمعون ضده.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" نضّر( ١٤ ) الله امرأ سمع مقالتي فوعاها( ١٥ ) وحفظها وبلّغها، فربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه " ( ١٦ ).
إذن : فنحن أمة محمد صلى الله عليه وسلم قد ورثنا منه البلاغ، وورثنا منه الأسوة الحسنة :﴿ لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا( ٢١ ) ﴾[ الأحزاب ].
إذن : فقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ واتبع ما يوحى إليك.. ( ١٠٩ ) ﴾[ يونس ] : هو دليل على أن الوحي بصدد الإنزال ؛ لأن الوحي لم ينزل بالقرآن دفعة واحدة، فقد كان
الوحي ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم طوال حياته( ١٧ ).
وهكذا تكون حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي مقام الاستقبال للوحي.
وقول الحق سبحانه :﴿ واصبر حتى يحكم الله.. ( ١٠٩ ) ﴾[ يونس ] : يوضح لنا أنه سبحانه قد وضع حدا تؤمل فيه أن الأمر لن يظل صبرا وأن القضية ستحسم من قريب بحكم من الله تعالى.
وكلمة ﴿ يحكم ﴾ توضح أن هناك فريقين ؛ كلّ يدّعى أنه على حق، ثم يأتي من يفصل في القضية، والحجة إما الإقرار أو الشهود، وبطبيعة الحال لن يقرّ الكفار بكفرهم، والشهود قد يكونون عدولا، أو يكونون ممن يدارون فسقهم في ظاهر العدالة. فإذا كان الله سبحانه وتعالى هو الحاكم، فهو لا يحتاج إلى شهود ؛ لأنه خير الشاهدين، والله سبحانه لا يحكم فقط دون قدرة إنفاذ الحكم، لا بل هو يحكم وينفذ.
إذن : فهو سبحانه قد شهد وحكم ونفّذ، ولا توجد قوة تقف أمام قدرة الله تعالى، أو تقف أمام حكم الله عز وجل.
ونحن في زماننا نرى القوى وهي تختلف، فنجد القويّ من الدول وقد تسلّط على الضعيف، فيلجأ الضعيف إلى الأمم المتحدة ومجلس الأمن، ويصدر كل منهما قرارات، وحتى لو افترضنا عدالة الحكم، فأين قوة التنفيذ ؟ إنها غير موجودة.
ولكن قدرة الحق الأعلى سبحانه هي قدرة خير الحاكمين، لأنه هو سبحانه الذي يشهد، وهو سبحانه لا يحتاج إلى من يدلّس عليه في الشهادة ؛ لأنك إن عمّيت على قضاء الأرض، فلن تعمّي على قضاء السماء( ١٨ ).
وبعد ذلك يحكم الحق سبحانه حكما لا هوى فيه ؛ لأن آفة الأحكام أن يدخلها الهوى فتميل، والحق سبحانه لا هوى له ؛ لأنه لا مصلحة له عند العباد، فهو الخالق عز وجل، ولن يأخذ مصلحة من مخلوق( ١٩ ).
ويطمئننا الحق سبحانه على أن رسوله صلى الله عليه وسلم أيضا لا ينطق عن الهوى.
فيقول رب العزة سبحانه :﴿ وما ينطبق عن الهوى( ٢٠ )( ٣ ) إن هو إلا وحي يوحى( ٤ ) ﴾[ النجم ] : أي : اطمئنوا إلى حكمه ؛ لأنه لا ينطبق عن هوى فليس في نفسه ما يريد تحقيقه إلا دعوة الخلق إلى حسن عبادة الخالق سبحانه.
وقد يقول قائل : ولكن الحق-عز وجل-عدَّل للرسول بعضا الأحكام.
ونقول : لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد ببشريته فيما لم ينزل الله فيه حكما، وحين ينزل الله حكما، فهو صلى الله عليه وسلم ينزل على أمر الله تعالى، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكم حتى فيما اجتهد فيه عن هوى، بل حكم بما رآه عدلا، وحين ينزل الحق سبحانه وتعالى حكما مغايرا فهو يبلغ المسلمين ويعدّل من الحكم.
إذن : فالتعديل للحكم هو قمة الأمانة مع البلاغ عن الله سبحانه وتعالى، ورسول الله صلى الله عليه و
١ البلاغ: اسم مصدر بمعنى الكفاية أو الإبلاغ أو التبليغ. قال تعالى:﴿هذا بلاغ للناس ولينذروا به..(٥٢)﴾[إبراهيم] وقال تعالى:﴿إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين(١٠٦)﴾[الأنبياء] أس: فيما ذكر من الأخبار والمواعظ.
ومبلغ الشيء: حده ونهايته التي يصل إليها، أو مقداره الذي ينتهي به. قال تعالى:﴿ذلك مبلغهم من العلم..(٣٠)﴾[النجم] [القاموس القويم-بتصرف ١/٨٤، ٨٣]..

٢ الأسوة: القدرة، والمثل الأعلى الذي يقتدى به. ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو أسوتنا وقدرتنا. وقد قال سبحانه عن إبراهيم عليه السلام أيضا:﴿قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا براء منكم ومما تعبدون من دون الله..(٤)﴾[الممتحنة] ثم قال تعالى:﴿لقد كان لكم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر..(٦)﴾[الممتحنة]..
٣ ورد الرجاء في القرآن على معان عدة:
-منها: الطلب والأمل في تحقق شيء، وذلك مثل قوله تعالى:﴿أولئك يرجون رحمت الله..(٢١٨)﴾[البقرة]. وقوله تعالى:﴿والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا..(٦٠)﴾[النور].
-منها: الخوف، مثل قوله تعالى:﴿إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون(٧)أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون(٨)﴾[يونس]..

٤ يقول سبحانه:﴿فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل..(٣٥)﴾[الأحقاف]. فالصبر هو اقتداء بالرسل العلام، الذين صبروا على إيذاء أقوامهم صبرا تعجز عنه قدرات البشر، مثل: نوح وموسى وعيسى وإبراهيم ومحمد صلى الله لعيه وسلم..
٥ يقول تعالى:﴿أيحسب الإنسيان أن يترك سدى(٣٦)﴾[القيامة]. قال ابن كثير في تفسيره (٤/٤٥٢):"الآية تعم الحالين. أي: ليس يترك في هذه الدنيا مهملا لا يؤمر ولا ينهى، ولا يترك في قبره سدى لا يبعث، بل هو مأمور منهي في الدنيا، محشور إلى الله في الدار الآخرة"..
٦ أحلنا الأمور: حولناها وبدلناها لغير ما وضعت له. وفي اللسان: كل شيء تغير عن الاستواء إلى العوج فقد حال واستحال. ويقال: حال الرجل يحول مثل تحول من موضع إلى موضع.(مادة: حول)..
٧ الأنداد: الأمثال والنظراء..
٨ الرسالات في جوهرها تسير بالتوحيد وعليه وبه، يقول الحق سبحانه:﴿شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه..(١٣)﴾[الشورى]..
٩ يقول رب العزة سبحانه وتعالى:﴿وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا..(١٤٣)﴾[البقرة]. وقال تعالى:﴿وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير(٧٨)﴾[الحج]..
١٠ أي: يطول عليهم الزمن فتنسى رسالة الرسول، ويقع فيها التحريف والتبديل والتغيير، وقد حدث أكثر هذا مع بني إسرائيل..
١١ الأسوة والإسوة: القدوة. ويقال: ائتس به، أي: اقتد به وكن مثله. قال الليث: فلان يتأسى بفلان، أي: يرضي لنفسه ما يرضيه ويقتدي به. وقال الهروى: تأسى به: اتبع فعله واقتدى به.[لسان العرب: مادة (أ س ا)]..
١٢ وقد كان الحق سبحتنه يعد نبيه صلى الله عليه وسلم لهذا، من نحو قوله تعالى:﴿ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين(٣٤)﴾[الأنعام]..
١٣ اصبروا على الطاعات والمصائب، واصبروا عن المعاصي. وصابروا الكفار فلا يكونوا أشد صبرا منكم. ورابطوا أي: جاهدوا وأقيموا عليه واستمرار فيه.[تفسير الجلالين: ص٦٤]. وصيغة "صابر" من "فاعل" تدل على شدة الفعل والمبالغة فيه، أي: شدة الصبر والتحمل. والاستمرار عليه حتى الوصول للهدف..
١٤ النضارة: إشراق الوجه ونوره..
١٥ وعاها: حفظها، فكان كالوعاء يعي ما يوضع فيه، وغن لم يدرك تفاصيل وما وعاه..
١٦ أخرجه الترمذي في سننه(٢٦٥٨) وأبو نعيم في حلية الأولياء(٧/٣٣١) من حديث عبد الله بن مسعود..
١٧ أي: كان ينزل منجما على حسب الأحوال والوقائع، وهذا جعل القرآن بالنسبة لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غضا رطبا، لأنه ينزل بنما يناسب حالهم. ومعلوم أن القرآن له تنزل آخر، حيث نزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا. راجع الإتقان في علوم القرآن (١/١١٦)..
١٨ عن أم سلمة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم"أنه سمع خصومة بباب حجرته، فخرج إليهم فقال: إنما أنا بشر، وإنه يأتيني الخصم، فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض، فاحسب أنه صدق فأقضي له بذلك، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار، فليأخذها أو ليتركها" أخرجه البخاري في صحيحه(٢٤٥٨) ومسلم(١٧١٣)..
١٩ يقول سبحانه:﴿لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم..(٣٧)﴾[الحج]. فالله تعالى هو الغني عما سواه، وقد كان أهل الجاهلية إذا ذبحوا الهدايا والضحايا لآلهتهم وضعوا عاليها من لحوم قرابينهم ونضحوا عليها من دمائها. فبين عز وجل أن ما يناله الله منهم هو التقوى وإخلاص القلب لله. (تفسير ابن كثير ٣/٢٢٤ بتصرف)..
٢٠ الهوى: هوى النفس، وإرادتها ومحبتها الشيء، قال تعالى:﴿.. ونهى النفس عن الهوى(٤٠)﴾[النازعات] أي: منعها عن المعاصي والشهوات، وإذا تكلم بالهوى مطلقا لم يكن إلا مذموما حتى ينعت بما يخرجه عن معناه كقولهم: هوى حسن، أو هوى موافق للصواب. أما المراد به في الآية فهو الهوى المذموم. قال تعالى:﴿.. فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا(١٣٥)﴾[النساء]. وقال تعالى:﴿فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله..(٢٦)﴾[ص]. وقال تعالى:﴿أرأيت من اتخذ إلهه هواه..(٤٣)﴾[الفرقان] وقال تعالى:﴿ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله..(٥٠)﴾[القصص]. وقال تعالى:﴿ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل..(٧٧)﴾[المائدة]. وقال تعالى:﴿وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم..(١١٩)﴾[الأنعام].[لسان العرب: مادة (هـ و ى)]-بتصرف]..
Icon