ﰡ
[الجزء الاول]
مقدمة
بسم الله الرّحمن الرّحيم المحمود الله، جلت آلاؤه، والمصلى عليه محمد وآله.وبعد: فإنا لنشاهد في عصرنا الحاضر ميل الناس إلى التزيد في الثقافة الدينية، ولا سيما تفسير الكتاب الكريم والسنة النبوية، وكثيرا ما سئلت أىّ التفاسير أسهل منالا، وأجدى فائدة للقارئ في الزمن القليل؟ فكنت أقف واجما حائرا لا أجد جوابا عن سؤال السائل، علما منى بأن كتب التفسير على ما فيها من فوائد جمة، وأسرار دينية عظيمة وإيضاح لمغازى الكتاب الكريم، قد حشيت بالكثير من مصطلحات الفنون:
من بلاغة ونحو وصرف وفقه وأصول وتوحيد إلى نحو أولئك مما كان عقبة كأداء أمام قارئيها، إلى ما فيها من أقاصيص مجانفه، لوجه الصواب متنكّبة عن حظيرة العقل ووجوه المعارف التي يصح تصديقها، إلى تفسير للقضايا العلمية التي أشار إليها القرآن العزيز بحسب ما أيده العلم فى تلك العصور، وقد أثبت العلم فى هذا العصر وأيد الدليل والبرهان أنه لا ينبغى التعويل على مثل ما كان معروفا حينئذ، إلى أن هذه المؤلفات وضعت
ومن ثم نهج الناس فى التأليف منهج السهولة والسلاسة مع تحقيق المسائل العلمية حتى تعتز بمظاهرة الدليل والبرهان لها، ونفى الزائف الذي لا يقوم على ساقين، أو يستند إلى عضوين، من تجربة واختبار، وحجة وبرهان.
من جرّاء هذا رأينا مسيس الحاجة إلى وضع تفسير للكتاب العزيز يشاكل حاجة الناس فى عصرنا فى أسلوبه وطريق رصفه ووضعه، ويكون دانى القطوف، سهل المأخذ يحوى ما تطمئن إليه النفس من تحقيق علمى تدعمه الحجة والبرهان، وتؤيده التجربة والاختبار، ويضم إلى آراء مؤلفه آراء أهل الذكر من الباحثين فى مختلف الفنون التي ألمع إليها القرآن على نحو ما أثبته العلم فى عصرنا، وتركنا الروايات التي أثبتت فى كتب التفسير، وهى بعيدة عن وجه الحق مجانفة للصواب، والله أسأل أن يوفقنا للرشاد، ويهدينا إلى سواء السبيل؟
أول المحرم عام ١٣٦٥ هـ أحمد مصطفى المراغي
كتاب الله هو دستور التشريع، ومنبع الأحكام التي طلب إلى المسلمين أن يعملوا بها، ففيه بيان الحلال والحرام والأمر والنهى، هو معين الآداب والأخلاق التي أمروا أن يستمسكوا بها، لتكون مصدر سعادتهم، ومنبع هدايتهم، ونيلهم الزّلفى عند ربهم في جنات النعيم فهى الوسيلة لإصلاح حال المجتمع الإسلامى إذا أخذوا بها ولم يحيدوا عن طريقها، وينحرفوا عن سننها.
ومما ساعد على العمل بها أنه نزل منجّما بحسب الحوادث والوقائع في نيف وعشرين سنة، وقد كانت تنزل على الرسول ﷺ الآية أو الآيات فى واقعة بعينها فيتدارسها مع صحبه، ويفصل لهم مجملها، ويوضح لهم مبهمها، ويفسر لهم مشكلها، حتى لا تبقى فى النفس بقية من لبس، وكان عليه الصلاة السلام الهادي لهم إلى سواء السبيل، والفاتح لهم ما استغلق من أمر دينهم، والمفسر لكتاب الله بسنته القولية وسنته الفعلية كما قال تعالى: (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) وظلّ دائبا هكذا حتى لحق بالرفيق الأعلى.
فلا غرو أن كان تفسيره وإيضاح ما أشكل عليهم فهمه منه- هجيراهم من بدء التنزيل في حياة الرسول ﷺ وبعد وفاته، وما زال الأمر كذلك في كل العصور حتى عصرنا، وما طفقت التفاسير تترى وهى مختلفة المناجى والمناهج، فما من عصر إلا جدّت فيه تفاسير تشاكل حاجة ذلك العصر ما بين مطوّل ومختصر كما نشاهد ذلك رأى العين، وإن كتاب الله لفيه من الأسرار ما لم يقف على كنهه جهابذة المفسرين وسيفسره الزمن وتقدم العلوم والفنون، ورقىّ الفكر الإنساني كما قال سبحانه وتعالى:
(وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا).
١- التفسير فى عصر الصحابة:
طفق المسلمون بعد وفاة الرسول ﷺ يتدارسون القرآن، ويتفهمون معناه بطريق الرواية عن صحبه الذين كانوا يجلسون فى حضرته كثيرا.
وقد اشتهر بالتفسير عشرة من الصحابة: الخلفاء الراشدون الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلىّ، ثم عبد الله بن مسعود، وابن عباس، وأبيّ بن كعب، وزيد بن ثابت وأبو موسى الأشعري، وعبد الله بن الزبير وأكثر من روى عنه التفسير من الخلفاء على بن أبي طالب، والرواية عن الثلاثة الباقين نادرة، وروى عن ابن مسعود المتوفى بالمدينة سنة ٣٢ هـ أكثر مما روى عن علىّ رضى الله عنه.
أما عبد الله بن عباس المتوفى بالطائف سنة ٦٨ هـ فهو ترجمان القرآن، وحبر الأمة، وشيخ المفسرين، فقد روى عنه فى التفسير ما لا يحصى كثرة،
دعا له النبي ﷺ فقال: اللهمّ فقّهه فى الدين وعلّمه التأويل.
قال صاحب كشف الظنون ما نصه:
وأصح الطرق فى الرواية عنه:
(١) طريق علىّ بن أبي طلحة الهاشمي المتوفى سنة ١٤٣ هـ، وعليها اعتمد البخاري فى صحيحه.
(٢) طريق قيس بن مسلم الكوفي المتوفى سنة ١٢٠ هـ عن عطاء بن السائب.
(٣) طريق ابن إسحاق صاحب السيرة.
(٤) طريق أبى النصر محمد بن السائب الكلبي المتوفى سنة ١٤٦ هـ وهى أوهى الطرق، ولا سيما إذا وافقتها طريق محمد بن مروان السّدّى الصغير المتوفى سنة ١٨٦ هـ.
وروى عن أبيّ بن كعب المتوفى سنة ٢٠ هـ تفسير كبير رواه عنه أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبى العالية، وهو أحد الأربعة الذين جمعوا القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أقرأ الصحابة وسيد القراء.
وزيد بن ثابت الأنصاري المتوفى سنة ٤٥ هـ أحد كتاب الوحى، وهو الذي جمع المصحف أولا في عهد أبى بكر، ثم كان رئيس الجماعة الذين كتبوا المصحف فى عهد عثمان.
وأبو موسى الأشعري هو عبد الله بن قيس الأشعري المتوفي سنة ٤٤ هـ.
٢- التفسير في عهد التابعين
أعلم الناس بالتفسير فى هذا العصر:
(ا) علماء مكة أصحاب عبد الله بن عباس، وأشهرهم:
(١) مجاهد بن جبر المتوفى سنة ١٠٣ هـ وقد قال: عرضت القرآن على ابن عباس ثلاثين مرة، واعتمد على تفسيره الشافعي والبخاري.
(٢) سعيد بن جبير المتوفى سنة ٩٤ هـ.
(٣) عكرمة مولى ابن عباس المتوفى بمكة سنة ١٠٥ هـ.
(٤) طاوس بن كيسان اليماني المتوفى بمكة سنة ١٠٦ هـ.
(٥) عطاء بن أبي رباح المكي المتوفى سنة ١١٤ هـ.
قال سفيان الثوري: خذوا التفسير عن أربعة: عن سعيد بن جبير، ومجاهد، وعكرمة، والضحاك. وقال قتادة: كان أعلم التابعين أربعة، كان عطاء بن أبى رباح أعلمهم بالمناسك، وكان سعيد بن جبير أعلمهم بالتفسير، وكان عكرمة أعلمهم بالسير، وكان الحسن «١» أعلمهم بالحلال والحرام.
(١) علقمة بن قيس المتوفى سنة ١٠٢ هـ.
(٢) الأسود بن يزيد المتوفى سنة ٧٥ هـ.
(٣) إبراهيم النخعي المتوفى سنة ٩٥ هـ.
(٤) الشعبي المتوفى سنة ١٠٥ هـ.
(ح) علماء المدينة أصحاب زيد بن أسلم العدوى المدني المتوفى سنة ١٣٦ هـ، وله تفسير يعدّ من أمهات التفاسير، ومن أشهرهم:
(١) ابنه عبد الرحمن بن زيد المتوفى سنة ١٨٢ هـ.
(٢) مالك بن أنس المتوفى سنة ١٧٩ هـ.
(٣) الحسن البصري المتوفى سنة ١٢١ هـ.
(٤) عطاء بن أبى مسلم الخراسانى المتوفى سنة ١٣٥ هـ.
(٥) محمد بن كعب القرظي المتوفى سنة ١١٧ هـ.
(٦) أبو العالية رفيع بن مهران الرياحي المتوفى سنة ٩٠ هـ.
(٧) الضحاك بن مزاحم المتوفى سنة ١٠٥ هـ.
(٨) عطية بن سعيد العوفى المتوفى سنة ١١١ هـ.
(٩) قتادة بن دعامة السدوسي المتوفى سنة ١١٧ هـ.
(١٠) الربيع بن أنس المتوفي سنة ١٣٩ هـ.
(١١) إسماعيل بن عبد الرحمن السّدى الكبير المتوفى سنة ١٢٧ هـ.
٣- طبقة ثالثة جمعت أقوال الصحابة والتابعين:
وأشهر هؤلاء:
(١) سفيان بن عيينة المتوفى سنة ١٩٨ هـ.
(٢) وكيع بن الجراح الكوفي المتوفى سنة ١٩٧ هـ.
(٤) يزيد بن هرون السّلمى.
(٥) عبد الرازق المتوفى سنة ٢١١ هـ.
(٦) آدم بن أبي إياس المتوفى سنة ٢٢١ هـ.
(٧) إسحاق بن راهويه الإمام الحافظ النيسابوري المتوفى سنة ٢٣٨ هـ.
(٨) روح بن عبادة المتوفى سنة ٢٠٥ هـ.
(٩) عبد الله بن حميد الجهني.
(١٠) أبو بكر بن أبى شيبة الإمام الحافظ الكوفي المتوفى سنة ٣٣٥ هـ.
٤- الطبقة الرابعة طبقة ابن جرير:
تلت هؤلاء طبقة أخرى، منها:
(١) علىّ بن أبى طلحة المتوفى سنة ٣٤٣ هـ.
(٢) ابن أبى حاتم عبد الرحمن بن محمد الرازي المتوفى سنة ٣٢٧ هـ.
(٣) ابن ماجه الحافظ أبو عبد الله محمد القزويني المتوفى سنة ٢٧٣ هـ.
(٤) ابن مردويه أبو بكر أحمد بن موسى الأصفهانى المتوفى سنة ٤١٠ هـ.
(٥) أبو الشيخ بن حبان البستي المتوفى سنة ٣٥٤ هـ.
(٦) إبراهيم بن المنذر المتوفى سنة ٢٣٦ هـ.
(٧) أبو جعفر محمد بن جرير الطبري المتوفى سنة ٣١٠ هـ وهو من أشهر مفسرى هذا العصر. قال السيوطي فى الإتقان: وكتابه أجل التفاسير وأعظمها، فإنه يتعرض لتوجيه الأقوال وترجيح بعضها على بعض وللإعراب، والاستنباط، فهو يفوق بذلك تفاسير الأقدمين اهـ. وقال النووي النيسابورى الشافعي في تهذيبه: كتاب ابن جرير فى التفسير لم يصنف أحد مثله، وقال أبو إسحاق الاسفرائينى: لو سافر رجل إلى الصين حتى يحصل له تفسير ابن جرير لم يكن ذلك كثيرا، وروى أن ابن جرير قال لأصحابه:
٥- الطبقة الخامسة طبقة المفسرين بحذف الأسانيد:
ألف بعد هؤلاء جماعة من المفسرين لهم تفاسير مشحونة بالفوائد محذوفة الأسانيد، من أشهرهم:
(١) أبو إسحاق الزجاج إبراهيم بن السرىّ النحوي المتوفي سنة ٣١٠ هـ وقد سمى تفسيره (معانى القرآن).
(٢) أبو على الفارسي الحجة الثبت فى اللغة والبلاغة، وصاحب المؤلفات الكثيرة فى مختلف الفنون، توفى سنة ٣٧٧ هـ.
(٣) أبو بكر محمد بن الحسن المعروف بالنقاش الموصلي المتوفى سنة ٣٥١ هـ.
(٤) أبو جعفر النحاس النحوي المصري المتوفى سنة ٣٣٨ هـ.
(٥) مكىّ بن أبى طالب القيسي النحوي المغربي المتوفى سنة ٤٣٧ هـ.
(٦) أبو العباس أحمد بن عمار المهدوى المتوفي سنة ٤٣٠ هـ وله تفسير يسمى (التفصيل الجامع لعلوم التنزيل).
وقد دخل فى التفسير فى هذه الفترة الدخيل، إذ نقلت الأقوال بترا محذوفة الأسانيد، فالتبس الصحيح بالعليل، وصار كل من سنح له قول يورده، ومن خطر بباله شىء يعتمده، غير ملتفت إلى ما روى عن السلف الصالح فى ذلك، ومن هم القدوة فى هذا الباب.
٦- عصر المعرفة الإسلامية:
التقت فى البلاد الإسلامية تيارات العقل البشرى حاملة تراث المدنيات والحضارات
ولما كان القرآن كتابا سماويا تنزل على قلب أكمل الأنبياء، مشتملا على معارف عالية ومطالب سامية، يجد المنقّب عنها من الهيبة والجلال ما يكاد يحول بينه وبين الوصول إليها- سهل سبحانه الأمر علينا، فلم يطلب منا إلا الفهم والتدبر فى كلامه، لأنه نزّله نورا وهدى للناس، وجعله حاويا للشرائع والأحكام التي لا يمكن العمل بها إلا إذا فهمت حق الفهم، واستوضحت مغازيها، وكشفت أسرارها ومراميها، من حيث هى دين إلهى، وهدى سماوى، ترشد الناس إلى ما فيه سعادتهم فى حياتيهم الدنيوية والأخروية، وما سوى ذلك من وجوه النظر والبحث، فتابع لذلك، ووسيلة إليه فى التحصيل، ولا يعنينا العناية التي نهتم لها اهتمامنا بالمطلب الأول، لكنّ كثيرا من المفسرين، جعلوا عنايتهم تكاد تكون وقفا على الوسائل دون المقاصد:
(١) فمنهم من وجه النظر إلى البحث فى أساليب الكتاب ومعانيه، وبيان ما احتوى عليه من بلاغة وفصاحة، وأطنب فى ذلك وجعل مقصده بيان ميزته عن غيره من الكلام وإظهار إعجازه للناس، ليتبين لهم كيف أعجز مقاويل العرب وفصحاءهم، وكيف استخذوا أمامه ووقفوا وأجمعين؟ وكيف لجئوا إلى السيف والسنان، دون مقابلة البرهان بالبرهان؟ وكيف عمّى عليهم الأمر؟ فلم يجدوا لرد التحدي سبيلا.
وقد سلك هذا المسلك الزمخشري فى كشافه، فألمّ بالكثير من مقاصد البلاغة، وأبدع فيها أيّما إبداع، ونحا نحوه خلق كثير.
(٢) ومنهم من وجه النظر إلى إعرابه وتوسع فى بيان وجوهه، حتى كأن القرآن
(٤) ومنهم من وجّه همه إلى الأحكام الشرعية من عبادات ومعاملات وكيفية استنباطها من الآيات، وربما استطردوا إلى إقامة الأدلة عليها، والرد على المخالفين مما لا تعلق له بالتفسير كما فعل القرطبي فى تفسيره.
(٥) ومنهم من عنى بالكلام فى أصول العقائد ومقارعة الزائغين، ومحاجة المخالفين وللإمام الرازي المتوفى سنة ٦١٠ هـ فى ذلك القدح المعلّى فى تفسيره الكبير المسمى بمفاتيح الغيب، فقد خرج فيه من باب إلى باب، حتى ليقضى الناظر العجب من صنيعه. ومن ثمّ قال أبو حيان الأندلسى فى البحر المحيط: جمع الرازي فى تفسيره أشياء كثيرة طويلة لا حاجة إليها فى علم التفسير، ولذلك قال بعض العلماء: تفسيره فيه كل شىء إلا التفسير اهـ.
(٦) ومنهم من اتجه إلى الوعظ والرقائق ممزوجة بحكايات المتصوفة والعبّاد، وفى بعضها خروج عن حدود الفضائل والآداب التي جرى عليها القرآن.
(٧) ومنهم من سلك طريق التفسير بالإشارة إلى دقائق لا تنكشف إلا لأرباب السلوك، ويمكن إرادتها مع إرادة ظاهر المعنى، وقال إن ذلك من كمال الإيمان ومحض العرفان.
٧- طريق كتابة القرآن الكريم:
من المعروف أن لكتابة القرآن طريقا خاصة تخالف الطريق التي اتبعها العلماء فيما بعد ودرجوا عليها، ودوّنوا فيها كتبا تعرف بعلم رسم الحروف، أو علم الإملاء، وبه كتبت جميع المؤلفات من القرن الثالث فما بعده إلى اليوم.
أما كتابة المصحف فهى تابعة للطريق التي كتب بها المصحف فى عهد عثمان ابن عفان الخليفة الثالث على يد جماعة من كبار الصحابة وتسمى (الرسم العثماني) وقد اتبع فيها نهج خاص يخالف ما اتبع فيما بعد فى كثير من المواضع، ومن ثم قيل:
خطان لا يقاس عليهما: خط العروض، وخط المصحف العثماني.
آراء العلماء فى التزام الرسم العثماني فى كتابة المصاحف
الرأى الأول- عبر عنه الإمام أحمد بقوله: تحرم مخالفة خط عثمان في واو أو ألف أو ياء أو غير ذلك. وقال أبو عمرو الداني: لا مخالف لما حكى عن مالك من وجوب الكتابة على الكتبة الأولى من علماء الأمة.
الرأى الثاني: أن رسم المصاحف اصطلاحى لا توقيفى، وعليه فتجوز مخالفته، ومن جنح إلى هذا الرأى ابن خلدون فى مقدمته، وممن تحمس له القاضي أبو بكر فى الانتصار، إذ قال: وأما الكتابة فلم يفرض الله على الأمة فيها شيئا، إذ لم يأخذ على كتّاب القرآن وخطاطى المصاحف رسما بعينه دون غيره أوجبه عليهم وترك ما عداه،
ولذلك اختلفت خطوط المصاحف، فمنهم من كان يكتب الكلمة على مخرج اللفظ، ومنهم من كان يزيد وينقص لعلمه أن ذلك اصطلاح، وأن الناس لا يخفى عليهم الحال، ولأجل هذا بعينه جاز أن يكتب بالحروف الكوفية والخط الأول، وأن يجعل اللام على صورة الكاف، وأن تعوّج الألفات، وأن يكتب على غير هذه الوجوه، وجاز أن يكتب المصحف بالخط والهجاء القديمين، وجاز أن يكتب بالخطوط والهجاء المحدثة، وجاز أن يكتب بين ذلك.
وإذا كانت خطوط المصاحف، وكثير من حروفها مختلفة متغايرة الصورة، وكان الناس قد أجازوا ذلك، وأجازوا أن يكتب كل واحد منهم بما هو عادته، وما هو أسهل وأشهر وأولى، من غير تأثيم ولا تناكر، علم أنه لم يؤخذ فى ذلك على الناس حدّ محدود مخصوص، كما أخذ عليهم فى القراءة والأذان.
والسبب فى ذلك أن الخطوط إنما هى علامات ورسوم تجرى مجرى الإشارات والعقود والرموز، فكل رسم دالّ على الكلمة مفيد لوجه قراءتها تجب صحته وتصويب الكتابة به على أىّ صورة كانت.
وبالجملة فكل من ادعى أنه يجب على الناس رسم مخصوص وجب عليه أن يقيم الحجة على دعواه، وأنّى له ذنك؟ اهـ.
واما كتابته (المصحف) على ما أحدث الناس من الهجاء فقد جرى عليه أهل الشرق بناء على كونها أبعد من اللبس، وثحاماه أهل المغرب بناء على قول الإمام مالك، وقد سئل هل يكتب المصحف على ما أحدث الناس من الهجاء؟ فقال: لا. إلا على الكتبة الأولى.
قال في البرهان: قلت وهذا كان فى الصدر الأول والعلم حىّ غض، وأما الآن فقد يخشى الالتباس، ولهذا قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: لا تجوز كتابة المصحف الآن على الرسم الأول باصطلاح الأئمة، لئلا يوقع في تغيير من الجهال، ولكن لا ينبغى إجراء هذا على إطلاقه، لئلا يؤدى إلى دروس العلم، وشىء قد أحكمه القدماء لا يترك مراعاة لجهل الجاهلين، ولن تخلو الأرض من قائم لله بهجته اهـ.
وقد جرينا على الرأى الذي أوجبه العز بن عبد السلام فى كتابة الآيات أثناء التفسير العلة التي ذكرها، وهى فى عصرنا أشد حاجة إليها من تلك العصور، على أن الخلاف بينهم فى المصحف لا فى القرآن ولو أثناء التفسير كما فعلنا.
لقد سعدت بخدمتي للغة العربية نحو نصف قرن درسا وتدريسا، وتأليفا وتصنيفا، أتتبع أساليبها فى آي القرآن الحكيم، وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، والشعر والنثر، حتى وجدتني كلفا، بأن أتوّج خدمتى لهذه اللغة بتفسير آي الذكر الحكيم مع تسميته «تفسير المراغي».
وقصاراى أن أسير فى قافلة الحاملين لمشعل المعرفة الإسلامية، مؤديا بعض ما يجب علىّ نحو الكتاب الكريم من الكشف عن بعض أسراره ومغازيه.
نهجنا الذي سلكناه فى هذا التفسير
رأينا أن ندلى إليك أيها القارئ الكريم، بالنهج الذي اتبعناه فى التأليف، لتكون على بينة من أمره:
(١) ذكر الآيات فى صدر البحث:
صدّرنا كل بحث بآية أو آيتين أو آيات من الكتاب الكريم، سيقت لتؤدى غرضا واحدا.
(٢) شرح المفردات:
أردفنا ذلك تفسير مفرداتها اللغوية، إن كان فيها بعض الخفاء على كثير من القارئين.
(٣) المعنى الجملي للآيات:
أتبعنا ذلك بذكر المعنى الجملي لهذه الآية أو الآيات ليتجلّى للقارئ منها صورة مجملة حتى إذا جاء التفسير وضح ذاك المجمل.
أعقبنا ذلك بما ورد من أسباب النزول لهذه الآيات، إن صح شىء من ذلك لدى المفسرين بالمأثور.
(٥) الإعراض عن ذكر مصطلحات العلوم:
ضربنا صفحا عن ذكر مصطلحات العلوم: من نحو وصرف وبلاغة إلى أشباه ذلك، مما أدخله المفسرون فى تفاسيرهم، فكان من العوائق التي حالت بين جمهرة الناس وقراءة كتب التفسير، فقد وجدوا طلّسمات وألغازا يصعب عليهم فهمها والسير قدما فى استيعاب قراءة التفسير، لأنها من ألوان الصناعات التي يخصّ بها قوم من الناس، وتكون عونا لهم على فهم الأساليب العربية فهم دراسة وتعمق، كما يخصّ قوم من الأمة بالحياكة والنجارة والحدادة إلى أشباه ذلك.
(٦) أسلوب المفسرين:
رأينا أن الأساليب التي كتبت بها كتب التفسير وضعت فى عهود سحيقة بأساليب تناسب أهل العصور التي ألفت فيها ويسهل عليهم فهمها، وأن جمهرتهم أوجزوا فى القول وعدّوا ذلك مفخرة لهم.
ولما كان لكل عصر طابع خاص يمتاز به عن غيره فى آداب أهله وأخلاقهم وعاداتهم وطرائق تفكيرهم- وجب على الباحثين فى هذا العصر مجاراة أهله فى كل ما نقدّم، فكان لزاما علينا أن نتلمس لونا من التفسير لكتاب الله بأسلوب عصرنا موافقا لأمزجة أهله، فأساس التخاطب أن لكل مقام مقالا، وأن الناس يخاطبون على قدر عقولهم، وقد رأينا أن نشيد فيه بجهود السابقين معترفين بفضلهم، مستندين إلى آرائهم.
(٧) ميزة العصر الحاضر في وسائل التفاهم:
يمتاز هذا العصر بميل أهله لسهولة الكلام ليفهم الغرض المراد منه حين التخاطب، دون احتياج إلى النقاش وصنوف التأويل، ومن ثم كان أهم ما عنيت به أن أقرأ فى الموضوع الواحد ما كتبه أعلام المفسرين على اختلاف نزعاتهم وتباين أزمنتهم حتى إذا اطمأننت إلى فهم ما قرأت وتمثلته وهضمته، كتبته بأسلوب العصر الحاضر، وهذا هو نهجى فى تأليف هذا التفسير.
وما حملنى على ركوب هذا المركب الخشن، واقتحام هذه العقبات إلا انصراف القارئين عن قراءة كتب التفسير التي بين أيدينا، بدعوى أنها صعبة المدخل مفعمة بكثير من المصطلحات التي لا يعلمها إلا من أتقن هذه الفنون، واستبدلت بأساليب المؤلفين أسلوبا سهل المأخذ قليل الكلفة فى الفهم، حتى يستطيع القارئ أن يلمّ بأسرار كتاب الله دون كدّ ولا نصب.
أشار الكتاب الكريم إلى كثير من تاريخ الأمم الغابرة التي حلّ بها العذاب على ما اجترحت من الآثام، وإلى بدء الخلق وتكوين الأرض والسموات، ولم يكن لدى العرب من المعرفة ما يستطيعون به شرح هذه المجملات التي أشار إليها الكتاب، إذ كانوا أمة أمية في صحراء نائية عن مناهل العلم والمعرفة، والإنسان بطبعه حريص على استكناه المجهول، واستيضاح ما عزّت عليه معرفته، فألجأتهم الحاجة إلى الاستفسار من أهل الكتاب من اليهود والنصارى، ولا سيما مسلمتهم كعبد الله بن سلام وكعب الأحبار، ووهب بن منبّه، فقصّوا عليهم من القصص ما ظنوه تفسيرا لما خفى عليهم فهمه من كتابهم، ولكنهم كانوا فى ذلك كحاطب ليل، يجمع بين الشذرة والبعرة، والذهب والشبه، إذ لم تكن علوم القصّاص ممحّصة ولا مهذبة، بل كان ينقصها الميزان العلمي الذي به يتعرّف جيّد الرأى من بهرجه، وصحيحه من سقيمه، فساقوا إلى المسلمين من الآراء فى تفسير كتابهم ما ينبذه العقل، وينافيه الدين، وتكذبه المشاهدة، ويبعده كل البعد ما أثبته العلم فى العصور اللاحقة.
وما كان مثلهم ومثل العرب الذين استوضحوهم بعض ما استعصى عليهم فهمه، إلا مثل السائح الأوربى إذا جاء إلى سفح الأهرام بمصر، وسأل العرب الضاربين خيامهم حولها. لم بنيت الأهرام؟ ومن بناها؟ ومتى بنيت؟ وكيف بنيت؟ فيجيبونه إجابات بعيدة عن الحقيقة ومجانفة وجه الصواب.
ومن ثمّ رأينا ألا نذكر رواية مأثورة إلا إذا تلقاها العلم بالقبول، ولم نر فيها ما يتنافر مع قضايا الدين التي لا خلاف فيها بين أهله، وقد وجدنا أن ذلك أسلم لصادق المعرفة، وأشرف لتفسير كتاب الله، وأجذب لقلوب المثقفين ثقافة علمية، لا يقنعها إلا الدليل والبرهان ونور المعرفة الصادقة.
جعلت تفسيرى ثلاثين جزءا، لكل جزء من القرآن الكريم جزء خاص من التفسير، ليسهل على القارئ حمل هذا الجزء واستصحابه معه فى حله وترحاله، فى قطر السكك الحديدية، وفى الترام، وفى كل مكان ينتقل إليه.
وكان من فأل الطالع أن بدئ بطبع هذا التفسير فى أول العام الهجري الجديد عام ١٣٦٥ هـ.
والله أسأل أن يجعله خالصا لوجهه الكريم، وأن ينفع به الإسلام والمسلمين، وأن يوفقنا لخدمة دينه ولغة كتابه الكريم؟
أحمد مصطفى المراغي
(١) تفسير أبى جعفر محمد بن جرير الطبري المتوفى سنة ٣١٠ هـ.
(٢) تفسير الكشاف عن حقائق التنزيل لأبي القاسم جار الله الزمخشري المتوفى سنة ٥٣٨ هـ.
(٣) حاشية شرف الدين الحسن بن محمد الطيبي المتوفى سنة ٧١٣ هـ على الكشاف.
(٤) أنوار التنزيل للقاضى ناصر الدين عبد الله بن عمر البيضاوي المتوفى سنة ٦٩٢ هـ.
(٥) تفسير أبي القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهاني المتوفي فى رأس المائة الخامسة.
(٦) تفسير البسيط للإمام أبى الحسن الواحدي النيسابورى المتوفى سنة ٤٦٨ هـ.
(٧) التفسير الكبير المسمى بمفاتيح الغيب للإمام فخر الدين الرازي، المتوفي سنة ٦١٠ هـ.
(٨) تفسير الحسين بن مسعود البغوي المتوفى سنة ٥١٦ هـ.
(٩) غرائب القرآن لنظام الدين الحسن بن محمد القمّى.
(١٠) تفسير الحافظ عماد الدين أبي الفداء إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي المتوفى سنة ٧٧٤ هـ.
(١١) البحر المحيط لأثير الدين أبى حيان محمد بن يوسف الأندلسى المتوفى سنة ٧٤٥ هـ.
(١٢) نظم الدرر فى تناسب الآي والسور لبرهان الدين إبراهيم بن عمر البقاعي المتوفى سنة ٨٨٥ هـ.
(١٣) تفسير أبي مسلم الأصفهانى المتوفى سنة ٤٥٩ هـ.
(١٤) تفسير القاضي أبي بكر الباقلاني.
(١٥) تفسير الخطيب الشربينى المسمى بالسراج المنير.
(١٧) تفسير المنار للسيد محمد رشيد رضا وهو تفسير مقتبس من دروس الأستاذ الإمام محمد عبده، وقد كان له فضل كبير فيما اقتبسناه أثناء تفسير الأجزاء التي فسرها.
(١٨) تفسير الجواهر للأستاذ طنطاوى جوهرى.
(١٩) سيرة ابن هشام.
(٢٠) شرح العلامة ابن حجر للبخارى (٢١) شرح العلامة العيني للبخارى.
(٢٢) لسان العرب لابن منظور الإفريقى المتوفى سنة ٧١١ هـ.
(٢٣) شرح القاموس للفيروزبادى المتوفى سنة ٨١٦ هـ.
(٢٤) أساس البلاغة للزمخشرى المتوفى سنة ٥٤٨ هـ.
(٢٥) الأحاديث المختارة للضياء المقدسي.
(٢٦) طبقات الشافعية لابن السبكى.
(٢٧) الزواجر لابن حجر.
(٢٨) أعلام الموقعين لابن تيمية.
(٢٩) الإتقان فى علوم القرآن للعلامة السيوطي.
(٣٠) مقدمة ابن خلدون.
نسألك اللهم وأنت الوزر والنصير، أن تقينا أذى الحاسدين، وتدفع عنا كيد الكائدين، إنك أنت الملجأ والمعين.
سورة الناس
هى مكية، وآياتها ست، نزلت بعد سورة الفلق
[سورة الناس (١١٤) : الآيات ١ الى ٦]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (١) مَلِكِ النَّاسِ (٢) إِلهِ النَّاسِ (٣) مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ (٤)الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (٥) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (٦)
شرح المفردات
رب الناس: أي مربيهم ومنميهم ومراعى شؤونهم، الوسواس: أي الموسوس الذي يلقى حديث السوء فى النفس، والخناس: من الخنوس وهو الرجوع والاختفاء والجنة: واحدهم جنىّ، كإنس وإنسى.
الإيضاح
(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) أمر رسوله أن يستعين بمن يربى الناس بنعمه، ويودبهم بنقمه.
(إِلهِ النَّاسِ) أي المستولى على قلوبهم بعظمته، وهم لا يحيطون بكنه سلطانه بل يخضعون بما يحيط منها بنواحي قلوبهم، ولا يدرون من أىّ جانب يأتيهم، ولا كيف يسلط عليهم.
وإنما قدم الربوبية، لأنها من أوائل نعم الله على عباده، ثم ثنى بذكر المالكية لأن العبد إنما يدرك ذلك بعد أن يصير عاقلا مفكرا، ثم ثلّث بذكر الألوهية، لأن المرء بعد أن يدرك ويعقل يعلم أنه هو المستوجب للخضوع والعزة والمستحق للعبادة وإنما قال: رب الناس، ملك الناس، إله الناس، وهو رب كل شىء ومالك كل شىء وإله كل شىء من قبل أن الناس هم الذين أخطئوا فى صفاته وضلوا فيها عن الطريق السوىّ، فجعلوا لهم أربابا ينسبون إليهم بعض النعم، ويلجئون إليهم فى دفع النقم، ويلقبونهم بالشفعاء، ويظنون أنهم هم الذين يدبرون حركاتهم، ويرسمون لهم حدود أعمالهم.
وبحسبك أن تقرأ قوله تعالى: «اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ، وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ» وقوله: «وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ؟».
والخلاصة- إنه سبحانه أراد أن ينبه الناس بأنه هو ربهم، وهم أناس مفكرون، وملكهم وهم كذلك، وإلههم وهم هكذا، فباطل ما اخترعوا لأنفسهم من حيث هم بشر.
(مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ) أي ألجأ إليك ربّ الخلق وإلههم ومعبودهم أن تنجينا من شر الشيطان الموسوس الكثير الخنوس والاختفاء، لأنه يأتى من ناحية
وهذه الأحاديث النفسية إذا سلط عليها نظر العقل خفيت واضمحلت، ولكن الموسوس عند إلقائها.
وحديث النفس بالفواحش وضروب الأذى للناس، يذهب هباء إذا تنبهت النفس لأوامر الشرع، وهكذا إذا وسوس لك امرؤ وبعثك على فعل السوء ثم كرّته بأوامر الدين يخنس ويمسك عن القول، إلى أن تستح له فرصة أخرى.
وقد وصف الله هذا الوسواس الخناس بقوله:
(الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) أي إن هذا الوسواس الخناس الذي يوسوس فى صدور البشر، قد يكون من الجنة وقد يكون من الناس، كما جاء فى قوله تعالى: «وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ» فشيطان الجن قد يوسوس تارة ويخنس أخرى، وشيطان الإنس كذلك، فكثيرا ما يريك أنه ناصح شفيق، فإذا زجرته خنس وترك هذه الوسوسة، وإذا أصغيت إلى كلامه استرسل واستمر فى حديثه وبالغ فيه،
وقد ثبت عن النبي ﷺ أنه قال: «إن الله عز وجل تجاوز لأمتى عما حدّثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم به» رواه أبو هريرة وخرّجه مسلم.
وإنما جعل الوسوسة فى الصدور من قبل أنه عهد فى كلام العرب أن الخواطر فى القلب، والقلب مما حواه الصدر عندهم، ألا تراهم يقولون: إن الشك يحوك فى صدرك، ويجيش فى صدرى كذا، ويختلج ذلك بخاطري، وما الشك إلا فى نفسه وعقله، وأفاعيل العقل تكون فى المخ، ويظهر لها أثر فى حركات الدم وضربات القلب، وضيق الصدر وانبساطه.
قال الأستاذ الإمام: الموسوسون قسمان:
(١) قسم الجنة وهم الخلق المستترون الذين لا نعرفهم، وإنما نجد فى أنفسنا
(٢) قسم الناس، ووسوستهم ما نشاهده ونراه بأعيننا، ونسمعه بآذاننا.
وما أوردوه فى خرطوم الشيطان وخطمه ومنقاره وجثومه على الصدر أو على القلب ونحو ذلك فهو من قبيل التمثيل والتصوير اهـ ملخصا.
وقد بدئت السورة برب الناس، ومن كان مربيهم فهو القادر على دفع إغواء الشيطان ووسوستهم.
وقد أرشد فى هذه السورة إلى الاستعانة به تعالى شأنه، كما أرشد إليها فى الفاتحة للإشارة إلى أن ملاك الأمر كله هو التوجه إليه وحده، والإخلاص له فى القول والعمل والالتجاء فيما لا قدرة لنا على دفعه.
اللهم اجعلنا من المخلصين فى أعمالنا، وادفع عنا أذى شياطين الإنس والجن، وأبعد عنا شر الموسوسين، وقنا عذاب جهنم، ولا تفضحنا يوم العرض.
وصل ربنا على محمد وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه الذين ذادوا عن دينك، بقدر ما غرست فى قلوبهم من برد اليقين، وأثلجت صدورهم بمحبة هذا الدين.
حمدا لك اللهم على نعمائك، وشكرا لك على جزيل آلائك، سبحانك رب وفقتني لتفسير كتابك الكريم، وبيان أسراره ومغازيه لجمهرة المسلمين، بعد أن كانت تقوم أمامهم عقبات تلو عقبات فمن مصطلحات للعلوم لا تستسيغها إلا طوائف ممن تخصصوا لدرسها، ومن تفسير لنظريات طبية أو فلكية دلت أبحاث العلماء المحدثين على أن تفسير العلماء القدامى لها كان مجانفا للحقائق التي أثبتها العلم الحديث، ومن قصص دوّن فى كتب التفسير يعوزه الدليل النقلى الصحيح، ولا يوافق على صدقه العقل الرجيح، ولا سيما قصص الأنبياء وأخبار الأمم البائدة، وبدء التكوين، وخلق السموات والأرض.
وكم سهرت الليالى الطوال فى أيام القرّ، وإبّان الحرّ، لا تؤنسني إلا معونة الله وجميل توفيقه، وما أشعر به من لذة تخفف عنى ما أنقض ظهرى.
وحينما كنت أحس بسأم من العمل المضنى- آنس أن نفحة من روح الله يهب نسيمها على قلبى، فأنشط للعمل، وأدأب على المضي قدما، لمواصلة الدرس والتأليف.
وهكذا كانت تمر الليالى والأيام، فلا أجد مع ذلك الجهد إلا انشراحا وسرورا بمواصلة العمل. وقد أعاننى الله على إتمامه بعد سبع سنين دائبا العمل ليل نهار، صباح مساء.
وكان مسك الختام، وإنجاز التفسير فى سلخ ذى الحجة من سنة ١٣٦٥ خمس وستين بعد الثلاثمائة والألف من هجرة سيد ولد عدنان بمدينة حلوان من أرباض القاهرة قاعدة الديار المصرية.
ولله الحمد فى الآخرة والأولى، وإليه المرجع والمآب.
بسم الله الرّحمن الرّحيم حمدا لمن أنزل القرآن تبيانا للناس وهدى وموعظة للمتقين، وأرسل سيدنا محمدا بشيرا ونذيرا ورحمة للعالمين، ﷺ وآله وصحبه مصابيح الهدى وترجمان القرآن الذي هو حجة الله على الناس أجمعين.
أتى رب العالمين فيه بالبراهين الساطعة، والحجج الدامغة على انفراده سبحانه بالألوهية واختصاصه جل ذكره بالمعبودية. دمغ به الباطل وأزهقه، وزيف به عقائد العرب وبين لهم النجدين، فمنهم من مال إلى الإسلام، ومنهم من خضع بالسيف والسنان.
ولقد وضح رسول الله ﷺ مقاصده، وبين مراميه وفسر بعض آياته، واقتدى به الصحابة ومن بعدهم فى ذلك.
ولله در حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الجليل الشيخ «أحمد مصطفى المراغي بك» حيث خاض لجة بحر علم تفسير القرآن، فشرح الألفاظ المفردة التي يصعب على القارئ فهمها لأول وهلة، ثم تلاها بالمعنى المراد من الآيات فى عبارة مختصرة، ثم ثلثها بإيضاح المعاني إيضاحا شاملا شافيا، مع تجنب القصص الإسرائيلية المدسوسة والخرافات الدخيلة على هذا العلم النفيس، فذكر منها الصريح والنقل الصحيح. اهتدى إلى ما لم يهتد إليه الفحول من متقدميه، واستدل بأحاديث الرسول فى بعض المواضيع، وبأشعار العرب، وبأقوال أهل اللغة والعلماء الموثوق بعلمهم ونقلهم، فهو كما قال القائل:
وإنى وإن كنت الأخير زمانه | لآت بما لم تستطعه الأوائل |
[شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابى الحلبي وأولاده بمصر] فلله درهم حيث قدموه لجمهور القراء بهذا الشكل البديع مع الاعتناء بتصحيحه بمعرفة لجنة التصحيح بالشركة.
الصفحة المبحث ٥ كان المشركون كثيرا ما يتحدثون فى شأن البعث والحساب فنزلت سورة عم ٨ للظلمة فوائد وللنور فوائد ٩ فى الشمس سر الحياة ١١ أمر الكائنات فى يوم الفصل على غير ما نعهد ١٤ ذكر جرائم الكفار التي استحقوا عليها العذاب ١٧ التمتع بالنساء فى الآخرة يكون على نهج يشاكل العالم الأخروى ١٩ الملائكة مخلوقات غيبية نصدق بما جاء فى الكتاب من أوصافها ٢٠ فى يوم القيامة تتجلى للمرء أعماله التي كانت فى حياته الأولى ٢٣ الإقسام ببعض المخلوقات فى الكتاب الكريم يكون لأحد أمرين ٢٥ استبعد المشركون أمر البعث لأسباب ثلاثة ٢٧ قصص موسى مع فرعون طاغية مصر ٣٠ البعث هين إذا قيس بخلق السموات والأرض ٣١ تعاقب الليل والنهار يهيىء الأرض للسكنى ٣٣ يوم القيامة يتذكر كل امرئ ما عمل فى الدنيا ٣٥ كان المشركون يسألون النبي ﷺ عن الساعة فأمره أن يقول لهم:
علمها عند ربى ٣٧ يوم القيامة يظن المشركون أنهم لم يلبثوا فى الدنيا إلا عشية أو ضحاها
٦٦ الإنسان لا يعيش كما يعيش سائر الحيوان ٦٧ لا يمنع الإنسان من التصديق بالبعث إلا العناد.
٧١ جزاء التطفيف فى الكيل والميزان ٧٣ التطفيف يكون فى غير الكيل والميزان ٧٥ مقالة المشركين فى القرآن.
٧٦ لا يكذب بيوم الدين إلا المعتدى الأثيم ٧٨ ما يقال للكفار يوم القيامة ٨٠ أعمال الأبرار فى كتاب يسمى عليين وأعمال الفجار فى كتاب يسمى سجينا
١٣٦ إقامة الحجة على المنكرين ليوم البعث ١٣٧ ضرب أمثلة دالة على قدرته تعالى.
١٤١ نعمة الله على عباده بتعاقب الليل والنهار ١٤٣ ذكر قصص الأمم الماضية وما فيها من سلوى لرسوله ﷺ ١٤٣ الإنسان لا يهتم إلا بشئون الدنيا ١٤٨ توبيخ الإنسان على زجر اليتيم والمسكين ١٥٠ إيثار الناس للحياة الدنيا على الآخرة ١٥١ يندم الإنسان على ما فرط منه حين لا يجدى الندم ١٥٢ وصف يوم القيامة وما فيه من أحداث ١٥٧ خلق الإنسان فى عناء ١٦١ الحض على مواساة اليتيم وإطعام المسكين ١٦٣ فعل البر لا يجدى نفعا إلا مع الإيمان واطمئنان القلب ١٦٦ الحكمة فى القسم بالشمس والقمر والليل والنهار
٢٣٠ زيارة القبور أعظم دواء للقلب القاسي ٢٣٢ يسأل الكفار عن النعيم الذي كانوا يتمتعون به فى الدنيا ٢٣٤ الدهر خلق من خلق الله تقع فيه الحوادث خيرها وشرها ٢٣٥ الناس فى خسر إلا من اتصفوا بأربع صفات ٢٣٨ سخط الله وعذابه لكل طعان فى الناس أكّال للحوم ٢٤٢ قصص أصحاب الفيل كما رواه الثقات.
٢٤٣ البعوض الذي أهلك أصحاب الفيل ٢٤٥ تعداد النعم على قريش ٢٤٨ الرياء على ضروب ٢٥١ أسباب نزول سورة الكوثر ٢٥٧ كان رسول الله ﷺ يضيق صدره لتكذيب قومه له ٢٦٢ كان أبو لهب يصدّ عن الحق وينفر الناس عن اتباعه ٢٦٤ ورد أن سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن.
٢٦٤ سورة الإخلاص تضمنت نفى الشرك بجميع أنواعه ٢٦٧ علمنا الله أن نتعوّذ به من أصناف من الخلق ٢٦٨ نفى تأثير السحر فى النبي ﷺ ٢٧١ الموسوسون قسمان ٢٧٣
خاتمة التفسير ٢٧٤
خاتمة الطبع