تفسير سورة البقرة

الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه
تفسير سورة سورة البقرة من كتاب الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه .
لمؤلفه مكي بن أبي طالب . المتوفي سنة 437 هـ

﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلنَّصَارَىٰ وَٱلصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾

قولُه تعالى: ﴿إنَّ الذِينَ آمَنُوا والَّذِين هَادُوا﴾ إلى قوله ﴿وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون﴾.
أكثرُ العلماء على أنها محكمةٌ، ونزلَت في مَن كان قبلَ بَعْد النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم.
وروَى (عليُّ بنُ أبي طلحة) عن ابن عباس أنه قال: هي منسوخةٌ بقولِه تعالى: ﴿ومَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسلامِ ديناً فلَن يُقْبَلَ مِنه﴾ [آل عمران: ٨٥] - الآية -.
والصَّوابُ أن تكونَ مُحْكَمةً؛ لأنها خبرٌ مِن الله بما يفعلُ (بعبادِه)الّذينَ (كانوا) على أديانِهم قبلَ مَبْعَثِ النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وهذا لا يُنْسَخُ. لأَِنَّ الله لا يضيعُ أجرَ مَن أحسن عملاً من الأوَّلينوالآخرين.

﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ ٱللَّهَ وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ ﴾

قوله تعالى: ﴿وقُولُوا للنَّاسِ حُسْناً﴾:
من قال: إن معنى الآية: سالموا الناسَ وقابلوهم بالقول الحَسَنِ جعلَها منسوخةً بآيةِ السَّيفِ - وهو قولُ قتادة -.
ومن قال معناها: مُروهم بالمعروف وانهوهُم عن المنكر (قال: هيمحكمةٌ، إِذْ لا يَصْلُح نسخُ الأمر بالمعروف والنَّهيِ عن المنكر، - وهو قولُعطاء -).

﴿ يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ ٱنْظُرْنَا وَٱسْمَعُواْ وَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾

قوله تعالى: ﴿لاَ تَقُولُوا رَاعِنَا﴾:
هذه الآية - عندَ عطاء - ناسخةٌ لما كانَ عليه الأنصارُ في الجاهليَّةوبُرهةً من الإِسلام، كانوا يقولون للنبي - صلى الله عليه وسلم -: راعِنا سمعَك، أي، فَرِّغْلنا سمعَك لما نقولُ لك. وكانت هذه الكلمةُ عندَ اليهود سبّاًفنسخَها الله من كلامِ المسلمين، ونهى أن تقالَ لئَلاّ يجدَ اليهود سبباً إلى سبِّ النبي - عليه السلام -.
وقد كان حقُّ هذا ألاّ يُذْكَرَ في الناسخ لأنهُ لم يَنْسَخ قرآناً؛ إنما نَسَخما كانوا (عليه). وأكثرُ القرآن على ذلك. وقد بيَّنا هذا.

﴿ وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلْحَقُّ فَٱعْفُواْ وَٱصْفَحُواْ حَتَّىٰ يَأْتِيَ ٱللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾

قوله تعالى: ﴿فَاعْفُوا واصْفَحُوا حتَّى يأتِىَ اللهُ بأَمْرِه﴾.
هذه الآيةُ - عند السُّدِّي - منسوخَةٌ بالأمرِ بالقتالِ في (سورة) براءَةوغيرِها، وقد أعلمَنا اللهُ في نَصِّها أنه سيأتي بأمره وينسخُها.
وقد قال جماعةٌ: إنها ليست مِن هذا البابِ، (ولا) نسخَ فيها، لأنَّاللهَ عزَّ وجلَّ قد جعلَ (للعفو والصَّفح) أَجلاً بقولِه: ﴿حتّى يأتىَ اللهبأمرِه﴾. فهو فرضٌ أَعلَمَنا (الله) أنه سينقُلُنا عنه في وقتٍ آخر. والمنسوخُ لا يكونُ محدوداً بوقتٍ، إنما يكون مُطلقاً.
(قال أبو محمد): والقولُ بأنها منسوخةٌ أَبْيَن لأنَّ الوقتَ الّذي تعلَّقَبه الأمرُ بالعفوِ والصَّفْح غيرُ معلوم حَدُّه وأَمَدُه.
ولو حَدَّ الوقتَ وبيَّنه فقال: إلى وقتِ كذا لكان كونُ الآيةِ غيرَ (منسوخة) أبين.
وكِلا القولين حسنٌ - إن شاء الله -.

﴿ وَللَّهِ ٱلْمَشْرِقُ وَٱلْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾

قوله تعالى: ﴿فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ الله﴾
ظاهرُ هذا يَدُلُّ على جوازِ الصَّلاةِ إلى كُلِّ جهةٍ من شرقٍ وغربٍ وغيرِه.
وهو منسوخٌ - عند مالك وأصحابه - بقوله: ﴿فولِّ وجهَكَ شَطْرَالمَسْجِدِ الحَرام﴾ [البقرة: ١٤٤، ١٤٩، ١٥٠] فيكونُ هذا مما نُسِخَ قبل العمل به؛ لأنه لم يثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابُه صلَّوا في سفرٍ ولا حضرٍ فريضةً إلى حيثما توجَّهوا. ونَسْخُها بقوله: ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَام﴾ وهوأيضاً قولُ قتادة، وابنُ زيد، وهو مرويٌّ عن ابن عباس والحسن.
وللعلماء في هذه الآية خمسة أقوال غيرَ القول الذي ذكرنا:
الأول: قولُ مجاهد والضحاك: قالا: هي ناسخةٌ للصَّلاة إلى بيتالمقدس لأن اليهودَ أنكروا رجُوعَ النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الكعبةِ وتركَ بيتالمقدس، وقالوا: ﴿مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ التِى كَانُوا عَلَيْهَا﴾؟ [البقرة: ١٤٢] فأنزل الله:﴿قُلْ لِلَّهِ المَشْرِقُ والمغْرِبُ﴾ وأنزل تعالى: ﴿فأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّوجْهُ الله﴾ [البقرة: ١١٥] أي: فثمّ جِهةُ الله التي أمر بها.
وقيل: الذين أنكروا ذلك همُ العربُ الكفارُ، وهم السّفهاء.
الثاني: قول النخعي: قال: هي مخصوصةٌ محكمةٌ نزلت فيمن جَهِل القبلةَ له أن يُصَلِّي أينما تَوَجَّه ولا إعادةَ عليه. وعليه الإِعادةُ عند مالكوأصحابه في الوقت. وهو خارجٌ عن الأصول.
الثالث: قاله بعضُ أهل المعاني: قالوا هي محكمةٌ مخصوصةٌ في صلاةِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - على النجاشي حينَ صلَّى عليه، واستقبل جِهَتَهُ إلى غيرِقبلة، فهي خصوصٌ للنبي - عليه السلام -.
الرابع: قاله بعضُ أهل المعاني، قالوا: الآيةُ مخصوصةٌ فيالدُّعاء، ومعناها: ادعوا كيف شِئْتُم مستقبلين القبلةَ وغيرَ مستقبلين، اللهيسمع ذلك كُلَّه.
الخامس: قيل إنها مخصوصةٌ في صلاةِ المسافر للنوافل على راحِلَته، يُصَلِّي أينما توجَّهت به راحِلَتُه، وهو جارٍ على مذهب مالكوأصحابه.

﴿ قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي ٱلسَّمَآءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا ٱللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ﴾

قوله تعالى: ﴿فولِّ وَجْهَكَ شطرَ المسجدِ الحرامِ وحَيْثُما كُنتم فولُّوا وجوهَكُم شطرَه﴾:
هذه الآيةُ عند أكثرِ (المفسرين) وأهلِ المعاني ناسخةٌ (لِلصّلاة إلى بيتِ) المقدسِ، وهي عندَهم أَوَّلُ ما نُسِخ.
وإذا (كان) هذا أَوَّلَ ناسخٍ ومنسوخٍ - على قول جميعِهم - والناسخ والمنسوخ مدنيُّ - فواجبٌ أن لا يكونَ ناسخٌ ومنسوخٌ مكيّاً؛ إِذ أَوَّلُ النسخِعندَهُم إنّما حدَث بالمدينة، وكان نسخُ القبلةِ بعدَ الهجرة بستَّةَ عشرَ شهراً، وقيل سبعةَ عشَرَ شهراً، إلا أن يكونوا أرادوا بقولِهم (هذا): أَوَّلَناسخٍ ومنسوخٍ، يعنون: بالمدينة، فيجوز أن يكون ثَمَّ مكيٌّ نَسَخَ مكِّياً. ولم أَجدْه مجمعاً عليه، وسترى ما وجَدْتُ منه.
واختُلِفَ في صَلاةِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إلى بيتِ المقدس، هل كان بأمرٍمن الله - عزَّ وجلَّ - أو باختيارِه؟
فقال جماعةٌ: كانَ بأمرٍ مِن الله، بدليل قوله: ﴿وما جَعَلْنَا القِبْلَةَ التي كُنْتَ عَلَيْهَا﴾ - يعني بيتَ المقدس -
وقد قيل: القِبلَةُ في هذه الآية: الكعبة، و"كُنْتَ": بمعنى: أنت. فلاحُجَّةَ فيه لمن استدلَّ به على أَن النَّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - إلى بيت المقدِسبأمرٍ (مِن) الله - على هذا القول -؛ لأَِنَّ القبلةَ في قوله: ﴿الَّتى كُنْتَعليها﴾ مرادٌ بها الكعبة.
(وعلى) القول الأول، يراد بها بيتُ المقدس.
و"كنتَ" بمعنى: أنت، جائزٌ على أن (تكون "كان" زائدةً). وقد قيلفي قوله: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أمَّةٍ﴾ معناه: أنتُم خيرُ أُمَّة.
قال ابنُ زيد: كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابُه بِمكَّةَ يُصَلُّونَ نحو الكعبةثمانيَ سنين. قال وكانوا يُصَلُّونَ ركعتيْنِ بالغداةِ وركعَتيْنِ بالعشيّ، فلما فَرَضَاللهُ "خمسَ صلواتٍ"؛ إِذْ عَرَجَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - صارت الركعتان لِلمسافر. قال: فلما هاجَرَ النبيُّ - عليه السلام - إلى المدينة أَمرَه (الله - عزَّ وجيل -)بالصَّلاة نحو بيتِ المقدس.
وعنه أيضاً أنه قال: لما قَدِم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - المدينةَ، قال: ما ندري أين نتوجه؟ فأنزل اللهُ: ﴿وَلِلَّهِ المشرقُ والمغربُ فأينما تُولُّوا فَثَمَّ وجهُ الله﴾ [البقرة: ١١٥]فصلّى النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوَ بيتِ المقدس ستَّةَ عشَرَ شهراً، فتكلَّمَت اليهودُفقالوا: ما درى محمدٌ وأصحابُه. ولا اهتدوا لِقِبْلَتِهم إلا بنا، فشقَّ ذلك على النبيِّ - عليه السلام فَنَسَخَ اللهُ القبلةَ، (وأَمرَه) بالصَّلاة نحو الكعبة.
وقال ابنُ حبيب: كان الله - جلّ وعزَّ - قد أَمرَ نبيَّه أن يقتدِيَ بمن كانقبلَه من الأنبياء، يريدُ بقوله: ﴿فَبِهُداهُمُ اقْتَدِه﴾ [الأنعام: ٩٠]. قال: فلمَّا قَدِمَ النبي- صلى الله عليه وسلم - المدينةَ صلّى نحو البيت المقدس؛ لأنها كانت قبلةَ جماعةٍ من الأنبياء قبلَه. ثم شقَّ على النبي قولُ اليهود في القبلةِ. فنسخَ اللهُ ذلك بالكعبة.
وقد قيل: إن الله - جلَّ ذكرُه - كان قد فرضَ على إبراهيم [- خليله -الصَّلاَةَ نحو الكعبة، ودلَّ (على) ذلك قولُه ﴿واتَّخذُوا مِن مَقام إبراهِيم]مُصَلَّى﴾ - على قراءة من قرأ بفتح الخاء - على الخبر -.
ثم أمر الله نبيّه - بغير قرآن - بالصَّلاة نحو بيت المقدس، فصلَّىنحوها (بضعةَ عشرَ) شهراً، وكان يُحِبُّ التَّوَجُّهَ إلى الكعبةِ.
فَنَسَخَ (الله) الصَّلاة نحو بيتِ المقدس بالصَّلاة إلى الكعبةِ، فصارالمنسوخُ ناسخاً لِما نسخَه اللهُ قبلُ. وهذا قليلُ النَّظير في الناسخوالمنسوخ.
فهذا كُلُّه يدُلُّ على أن الصلاةَ نحو بيتِ المقدس [كان بأمرِ الله له، فهو نَسْخُ قرآن بقرآن.
وقد رُوِيَ أن الأنصارَ (صلَّت نحو بيت المقدس] قبلَ قدومالنبي - صلى الله عليه وسلم - حَوْلين).
فلما قَدِمَ النبي - صلى الله عليه وسلم - صلّى نحو (بيتِ المقدس) بضعةَ عشرَشهراً، وكانت نفسُه تائقةً إلى قِبلة أبيه إبراهيم. فأمره اللهُ باستقبالها.
وقيل: بل صلَّى نحو بيتِ المقدِس لِيَتأَلَّفَ بذلك اليهود؛ وذلك أنه هاجرَ إلى المدينة، وكان أكثرُ أهلِها ومَنْ حواليها اليهودَ، فصلَّى نحو بيتِالمقدس، ليتألَّفَ بذلك اليهودَ، فطعنوا في ذلك وتكلَّموا فيه بما شقَّ على النبيِّ وأصحابِه. فأمر اللهُ بالصلاةِ نحو الكعبةِ.
فيكون - على هذا القولِ - مِن نَسْخِ السُّنة بالقرآن -.
والشَّطْر: النحو - في الآية -.

﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ ٱلْبَيِّنَاتِ وَٱلْهُدَىٰ مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي ٱلْكِتَابِ أُولَـٰئِكَ يَلعَنُهُمُ ٱللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ ٱللاَّعِنُونَ ﴾

قوله تعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ يكتمونَ ما أنزلنا من الْبَيِّنَات والهُدَى مِن بعدِما بيَّناه للنَّاس في الكتاب أُولئِك يلعنُهم الله ويلعنُهُمُ اللاَّعِنُون﴾
ذكر ابنُ حبيبٍ أنه منسوخٌ بقوله: ﴿إلاَّ الَّذِينَ تَابُوا﴾ [البقرة: ١٦٠].
وهذا غلطٌ ظاهرٌ، ليس هو من الناسخ والمنسوخ؛ إنما هو استثناءٌ- استثنى الله جلّ ذِكرُه - في التائبين من الموصوفين قبلَه.
ولا يحسنُ أن يقالَ في الاستثناء إنه نسخٌ؛ لأَِنَّ الاستثناءَ لا يكون إلاَّبحرفٍ [يدُلُّ على معنى استثناءِ] كذا ولا يكونُ الاستثناءُ إلا لبيانِ الأعيان.
والنَّسخُ إنّما هو لبيانِ الأزمان التي انتهى إليها الفرضُ الأَوَّل، وابتدأ منهاالفرضُ الثاني. وقد بيَّنا هذا فيما تقدَّم.
وكذلك ذكر ابنُ حبيب آياتٍ كثيرةً من الاستثناء أدخلَها في الناسخوالمنسوخ. وهو وَهْمٌ ظاهر.

﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِصَاصُ فِي ٱلْقَتْلَى ٱلْحُرُّ بِالْحُرِّ وَٱلْعَبْدُ بِٱلْعَبْدِ وَٱلأُنثَىٰ بِٱلأُنْثَىٰ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَٱتِّبَاعٌ بِٱلْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ بَعْدَ ذٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾

قوله تعالى: ﴿يا أَيُّها الذين آمنوا كُتِبَ عليكُمُ القِصاصُ في القتلى﴾ الآية.
يجبُ مِن ظاهِر لفظِ الآية أن لا يُقْتَلَ الرَّجُلُ بالمرأة، ولا المرأةُ بالرَّجُل، ولا العبدُ بالحُرِّ (ولا الحُرُّ بالعبد).
وقال ابن عباس: هذا منسوخٌ بقوله في المائدة: ﴿النَّفْس بالنَّفْس﴾ [المائدة: ٤٥].
فهذه (الآيةُ) أَوْجَبَت قَتْلَ الرَّجُلِ بالمرأةِ، والمرأةِ بالرَّجُل، والعبدَبالحُرِّ، وهذا لا يجوزُ عند جماعةٍ مِن العلماء؛ لأَنَّ ما فرضَه الله علينا لاينسخُه ما حكى اللهُ لنا من شريعةِ غيرِنا؛ إنّما أخبرنا الله - فيالمائدةِ - بما شَرَع لِغيرنا، لم يفرضْه علينا، فيكونَ ناسخاً لما تقدَّم من سُنَّةِالفرضِ علينا.
وَلكِنْ: الآيتانِ مُحْكمتان لا نسخَ في واحدةٍ منهما، على ما نبيِّنُه بعد- إن شاءَ الله تعالى -.
وفي هذه الآية أَربعةُ أقوالٍ غير (القول الأول) الذي ذكرناه:
الأول: قاله الشعبي وغيرُه، قالوا: آيةُ البقرةِ مخصوصةٌ نزلت في قوم تقاتلوا، فقُتِلَ منهم خلقٌ كثيرٌ وكانت إحدى الطَّائفتين أعزَّ منالأُخرى، فقالت العزيزةُ: لا يُقتلُ العبدُ منّا إلا بالحرِّ مِنكُم، ولا بالأنثى منّاإلا بالرَّجلُ منكُم، فنزلت الآيةُ في ذلك، ثم هي في كُلِّ مَن أراد أنيفعلَ كفِعْلِهِم، فهي محكمة.
الثاني: قاله السُّدِّي، قال: هي مخصوصةٌ في فريقين تقاتلاعلى عهدِ النبي - عليه السلام - ووقع بينَهما قتلى، فأمر النبيُّ - صلّى اللهعليه وسلم - أن يفادَى بينهم، ديّاتُ النّساء بديّات النّساء، وديّات الرّجال بديّاتالرّجال، فهي في شيءٍ بعينِه، (وهي تعَبُّدٌ) لمن يأتي بعدَهم، فهي محكمة.
الثالث: قاله الحسنُ البصريُّ، قال: نزلت آيةُ البقرةِ في نسخِ التَّراجُعالذي كانوا يفعلونَه، وذلك أنهم كانوا يَحْكُمون فيما بينَهم أَنَّ الرّجُلَ (إذَا قتل امرأةً، كان أولياءُ المرأة بالخيار، إن شاؤوا قتلوا الرَّجُلَ)، وأَدَّوْانصفَ دِيَتِه، وإن شاؤا أخذوا نصفَ دِيَة رجل. وإذا قتلت المرأة رجلاً، كان أولياء الرجل مخيّرين إن شاءوا قتلوا المرأة وأخذوا نصف دية الرجل وإن شاءوا أخذوا الدِّيَة كاملةً، ولم يقتلوا المرأةَ، فنسخَ اللهُ ذلك مِن فِعْلِهم. وقد روي هذا القولُ عن عليٍّ - رضي الله عنه - فتكونُ هذه الآيةُ - على هذاالقول - محكمةً ناسخةً لما كانوا يفعلونه.
الرابع: قاله أبو عبيد، قال: (آيةُ المائدة مفسِّرةٌ لآية البقرة؛ لأنأَنْفُسَ) الأحرارِ متساويةٌ فيما بينَهم.
وعلى هذا أكثرُ الفقهاء.
يُقْتَلُ الحرُّ بالحرِّ والأنثى بالأنثى بآية البقرة وآية المائدة.
ويقتلُ الرَّجلُ بالمرأة، والمرأةُ بالرَّجُلِ بآية المائدة.
والآيةُ - عند مالك - محكمةٌ، ورُوِي عنه أنه قال: أَحسنُ ما سمعنافي هذه الآية، أنها يُراد بها الجِنسُ، الذَّكَرُ والأنثى فيه سواء. وأشار أَبو عبيدٍ إلى أَن قولَه هو مذهبُ ابن عباس.
ومعنى قوله تعالى: ﴿فَمَنْ عُفِىَ لَهُ مِنْ أخِيهِ شَيءٌ فاتِّباعٌبالمعروفِ﴾ [البقرة: ١٧٨] - الآية -:
قال مؤلفو النّاسخ والمنسوخ: هذا ناسخٌ لما كان عليه بنو إسرائيل من امتناع أخذِ الدِّيَةِ، فخفَّف الله عن هذه الأُمَّة، وأباحَ لهم العفوَ عن القاتل عَمْداً وأَخْد الدِّيَة.
(قال أبو محمد): وقد كان يجبُ أَلاَّ (يَذكروا) هذه الآيةَ وشبهَهَافي الناسخ والمنسوخ؛ لأنها كآي القرآن كُلِّها التي نَسَخَت شرائعَ الكفارِوأهلِ الكتاب، ولو نسخَت آيةً أخرى (لوجبَ) ذكرُها. وقد بيّنا هذا.
وفي هذه الآية إشكالٌ - على مذهب مالك - نُبَيِّنهُ إن شاء الله تعالى: المعروفُ مِن مذهبِ مالكٍ وأَصحابِه: أن المعفوَّ له بالديّة وليُّ الدَّم، عُفِيَ لهبديّة أُعْطِيَها عِوَضاً من قتل القاتل (فَقبِلَها) والعافي: القاتل عفا عن نفسه بأن بذل الديّة.
والتقدير: فمن أُعْطيَ ديّة فقبِلَها فعليه أن يتبعَ المعْطِيَبالمعروف، وعلى المعطي أن يُؤدِّيَ ما بذل بإحسانٍ.
فـ "مَنْ". في قوله: ﴿فَمنْ عُفِيَ له﴾: اسم وليّ الدم.
فاتِّباعٌ بالمعروف: أَمرٌ للوليّ أن يَتْبَعَ القاتلَ فيما بذلَ له من الدِّيَةبمعروف.
(وقولُه): وأداءٌ إليه بإحسان: أَمْرٌ للقاتِل أُمِرَ أَن يُؤدِّيَ إلى الوَليِّ مابذلَ له من الدِّية بإحسان.
وفي رجوع الهاءات بيانُ هذا المعنى: فالهاء في "له" وفي "أخيه"، وفي "إليه" يعُدْنَ على الوليّ.
والأخُ: هو القاتل.
وعفي له - على هذا القول - معناه: يُسِّرَ.
(فهذا مذهب مالكٍ وأصحابه).
وقال عبدُ العزيز بنُ أَبي سلمَة: معناها:
من أُعطِيَ لَه (من أخيه شيءٌ مِن) العَقْلِ فرضيَ به فِلْيَتْبَعْهُبالمعروف، وليؤدِّهِ إليه القاتلُ بإِحسان.
ومذهبُ غيرِ مالكٍ:
أن المعفوَّ له: هو القاتِل.
والعافي: وليُّ الدم.
وعفي: بمعنى: ترك - على هذا القول -.
فاتباع بالمعروف: أمر للوليِّ - مثلُ القول الأول -.
وأَداء إليه بإحسان: أمرٌ للقاتل - كالقول الأول -.
والأخ - في هذا القول -: وليُّ الدم.
و "مَنْ" - في هذا القول -: اسم (القاتل)..
والهاء في "له" وفي "أخيه" - على هذا القول -: تعودان على القاتل.
والهاء في "إليه" (تعود) على الوليِّ - كالقول الأول -.
فأما الترجيح بين المذهبين فليس هذا موضِع ذِكْرِه.
وقد قال مالك في قوله تعالى: ﴿أوْ يَعْفُوَا الّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكَاح﴾ [البقرة: ٢٣٧]:
إن العافي: الوليّ بِتَرْكِ ما وجب لابنتِه البكر أو لأَِمَتِه سُمِّيَ عافياً، لأنهُتركَ ما وجبَ له، وهو ضدُّ قوله في هذه الآية.
وقال غيرُه: العافي: هو الزوج.
(قال أبو محمد): ولا عفوَ (له) إذا أَدَّى ما عليه.
وهو ضدُّ قوله (في) آية القتل.
فَكُلُّ واحدٍ على ضِدِّ قولِه في الآية الأخرى.
وإنما شرحْتُ معناها على المذهبين؛ لأني ما رأيتُ أحداً بيَّن ذَلِك ولا كَشفه.

﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً ٱلْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَٱلأَقْرَبِينَ بِٱلْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى ٱلْمُتَّقِينَ ﴾

قوله تعالى: ﴿الوَصِيَّةُ للوَالِدَيْنِ والأَقْرَبِين﴾:
الأشهرُ في هذه الآية أنها منسوخةٌ. واختُلِفَ في الناسخ لها ما هو؟فَمَن أجاز أن تنسخ السُّنةُ المتواترةُ القرآنَ قال: نسخ فرضَ الوصية للوالدينما تواتر نقلُه من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا وصيَّةَ لوارث". - وقدحكاه أبو الفرج عن مالك كذلك -. ونسخت آية المواريث فرضَ الوصِيَّةللأقربين.
ومن منع نسخ القرآن بالسُّنة قال:
نُسِختْ الوصِيَّةُ للوالِدَيْن بقوله: ﴿ولأَبويْهِ لِكُلِّ واحد منهماالسُّدُسُ﴾ [النساء: ١١] - وكذلك قال مالك في الموطأ - ونُسخت الوصيَّةُ للأقربينبالمواريث.
ولا حُجَّةَ لمن قال هذا على من قال له: ولمَ (لا) تثبت الوصيَّةَوالفرضَ لهما؟ - لأنَّه مُطْلَقٌ في الموضعين (لم يقل: لا شيء) لوالديه إلا السُّدسان فيكون ناسخاً للوصية. إنما قال: لهما السدسان فرضاً، وقال: لهما الوصية -.
(فلا) بُدَّ من استعمال قولِ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا وصيَّة لوارث".
وقد يحتجُّ مَن قال: نَسختْ آيةُ المواريث الوصيَّةَ بأن المواريث قد حدَّفيها قدراً معروفاً، والوصيَّةُ لم يحُد فيها قدراً معروفاً، فكان المحدود أولىمن غير المحدود، وله من الحجَّةِ غيرُ ذلك.
وقد روى ابنُ وهبٍ وابنُ القاسم عن مالك أنه قال: نزلَت هذه الآيةُ قبل الفرائض، ثم أنزل اللهُ فرائضَ المواريث، فنسخَت المواريثُالوصيةَ للوالدين ولكل وارث، إلا أن يأذنَ الورثةُ - وكذلك قال ابنُ شهابوالحسنُ وعطاء وزيد بن أسلم -.
وقيل: الأحسنُ: أن يكونَ نسخَ الوصيةَ للوالدين قولُهُ: "لا وصيةَ لوارث". لأن الله لما ذكر فرض الوالديْن، قال بعدَه: ﴿مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ﴾، فقد كان يجوز أن يُثْبِتَ لهما الفرضَ المذكورَ مِن بعد ما يوصي لهما به بنصِّ القرآن، فَنَسْخُ الوصية للوالدين بآية المواريث فيه إشكال لاتِّصال قوله:﴿مِن بعدِ وصيَّةٍ يوصي بها أو ديْن﴾ بفرضِ الوالديْن. فالنَّسخُ بالسنّة أولىبه إِذْ لا إشكالَ في ذلك.
- على أنه قد أجمعَ (المفسرون) أنّ قولَه: ﴿الوصيّةُ للوَالِدَيْن﴾نزل قبل نزولِ آيةِ المواريثِ، ففي هذا قُوَّةٌ لِنسخِ الوصيَّة للوالديْن بآيةِالمواريث -.
وكذلك الكلام في نسخ الوصيَّة للزّوجات، في قوله: ﴿وصيّةًلأَزوَاجِهِم﴾ [البقرة: ٢٤٠]؛ لأن بعدَ فرضِهِنّ: ﴿مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ﴾، فنسخ ذلك بالسُّنة(أولى) وأحسنُ عند قوم لما ذكرنا أولاً فافهمه.
وقد قيل: بل نَسخَ الوصيَّة للأقربين التخصيصُ في قوله: ﴿وإذا حَضَرَالقِسْمَةَ أُولُوا القُرْبَى واليَتَامَى﴾ [النساء: ٨] - الآية -.
فحضّ الله على أن يعطوا إذا حضروا، ولو لم يُفْرَض لهم ذلك، بدَلالة الإِجماع على أن اليتامى والمساكين المذكورين مع أُولي القربى إذا حضروا القسمةَ (لا فرضَ) لهم يُعطَوْنَه، وقد عُطفوا على الأقربين، فالحكم فيهم واحد لا فرض لجميعِهم. ولكنَّه نَدْبٌ نَسخَ ما كان فرضاً منالوصيَّة لِلأَقربين. وبيَّنَت السُّنَّة أَنَّا غير مُخيَّرين في الوصيَّةِ للوالديْنالمنسوخةِ وتركِها؛ إذ قال - صلى الله عليه وسلم - "لا وصيَّة لوارثٍ".
وبقي التَّخييرُ لنا في الوصيَّةِ للأقربين غير الوارثين المنسوخة، إن شئنا فَعَلْنا ذلك، وإن شئنا لم نفعلْه، وفعلُه أفضلُ كصوم عاشوراء - وهذا قولمالك وأصحابه وهو مروي عن ابن عباس، وهو قول مجاهد وابن زيد، وهوقول ابن عمر والسُّدِّي -.
وقال قتادةُ والحسن (في هذه) الآية: نُسِخَ منها الوصية للوالدين بآية المواريث، وبقي فرض الوصية للأقربين ممّن لا يرث، وهو اختيار الطبري.
وقد قال الضحاك: من مات ولم يوصِ لذي قرابته فقد ختم عمله بمعصية.
وقال الحسن: إذا أوصى الرَّجلُ لغير ذي قرابته بثلثه فلهم ثُلُثُالثلث، والباقي من الثلث لقرابتهِ - وقاله طاووس -.
وقال الشعبي والنخعي: (الوصيَّةُ للوالدين والأقربين في الآية على الندب) لا على الفرض. فمنعت السنةُ (من جواز الوصية للوالدين وبقيتالوصيَّةُ للأقربين على الندب).

﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾

قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَليكُمُ الصِّيامُ كما كُتِبَ على الذين من قَبلِكُم لعلّكُم تتقون﴾ الآية.
قال ابنُ حبيب: هذا من قوله: ﴿فَبِهُداهُمُ اقتَدِه﴾ [الأنعام: ٩٠] وكانالمسلمون يقتدون بصيام أهل الكتاب وفِعْلِهم، فكانوا إذا صلُّوا العشاءَحرُمَ عليهم الطعامُ والشَّرابُ والوطءُ إلى مثلِها من اللَّيْلَةِ القابِلَة.
وقيل: كان يلزمُهم ذلك إذا ناموا.
فخفَّفَ اللهُ ذلك عنهُم، ونسخَه بقوله: ﴿وكُلُوا واشْرَبُوا حتَّى يتبيَّنَلَكُمْ الخَيْطُ الأَبيضُ من الخيطِ الأسودِ﴾ [البقرة: ١٨٧] الآية. وبقوله: ﴿أُحِلَّ لكمليلةَ الصيام الرَّفَثُ إلى نسائِكم﴾ [البقرة ١٨٧] - الآية -.
ونُسِخَ فرضُ صيام من كان قبلَنا بفرض رمضان.
قلتُ: فالآية على قوله منسوخةٌ، أعلَمنا الله فيها أنه فرَضَ علينا مثلَ ما فرض على من كانَ قبلَنا. ثم نسخَ ذلك. وهو قول السُّدِّي وأبيالعالية.
وقيل: الآيةُ ناسخةٌ وليست بمنسوخةٍ واختُلِفَ في ذلك:
فقيل: هو ناسخٌ لما فرَضَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على أُمتِه من صوم يوم عاشوراء. قالت عائشةُ - رضي الله عنها -: "كان يومُ عاشوراء يوماً تصومُهقريش في الجاهلية، فلمَّا قدِم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، صامه وأَمَر بصيامه. فلما فُرض رمضانُ كان هو الفريضة. وتُرِكَ صيامُ يوم عاشوراء، فمنشاءَ صامه ومن شاء تَرَكَه" - وقاله جابر بن سمرة وغيره -.
وقد قال قومٌ: إن فرضَ صومِ يومِ عاشوراء باقٍ إلى الآن، وهو قول شاذٌّ، غيرُ معمولٍ به.
والنَّسخُ (لِصومِ) يومِ عاشوراء كان بالمدينةِ لحديث عائشة- رضيَ الله عنها - وقولها: فلما قَدِم رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - المدينةَ صامه، وأمرَالناس بصيامه؛ لأَن صومَ رمضان بالمدينة فُرِض.
وقال ابنُ عباس: هذا ناسخ لما كان (أَمرَ به) النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أمَرَ بصيام ثلاثة أيام مِن كُلِّ شهر في أوَّل قدومِه المدينة، وقاله معاذٌ وغيرهوقال عطاء: هو ناسخٌ لما فُرِض على من كان قبلنا، كان فُرِض عليهم صومثلاثة أيام من كُلِّ شهر، وهو قولُ قتادة.
قال أبو محمد: وقولُه تعالى: ﴿عَلِمَ اللهُ أنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانونَ أَنْفُسَكُمْفَتَابَ عَلَيْكُم وَعَفَا﴾ [البقرة: ١٨٧]، يدُلُّ (على) أن الله فرضَ علينا ما كان فرَضه على من كان قبلَنا من الصيام وتركِ الطَّعام والشرابِ والوطءِ بعدَ النوم. فهومنسوخٌ (بما) بعدَه، دليلُ ذلك أن الخيانةَ لا تلْحَقُ إِلاَّ مَن تَرَكَ ما أُمِر بِهوفَعَلَ ما نُهِيَ عنه.
وقولُه: ﴿فَتَابَ عَلَيْكُمْ﴾، يدلُّ على ذنبٍ اكتسبوه وهو الوَطءُ والأَكْلُوالشُّرْبُ بعدَ النوم في ليالي الصيام.
وكذلك قولُه: ﴿وعَفَا عَنكُمْ﴾ يدلُّ على أنهم أَذنبوا ذنباً عفا لهم عنه، وهو ما ذكرنا. ولا يكونُ الذَّنْبُ إلاَّ عن ركوبِ نهيٍ أو تركِ أمر، فدلَّ علىأنه كان مفروضاً عليهم، ثم نُسخ بإباحة الأكل والشرب والوطءِ بعدَ النوم.
وقد قال الشعبيُ والحسنُ ومجاهد: الآيةُ محكمةٌ غيرُ ناسخة ولا منسوخة. وذلك أن الله - جلّ ذكره - كان قد افترضَ على من كان قبلَنا مِنالنصارى صومَ رمضان، فحولُّوه عن وقته، ثم زاد كل قَرْنٍ يوماً في أوله للاستبراء والاحتياط ويوماً في آخره حتّى صارَ إلى خمسينَ يوماً، ففرضَاللهُ علينا صومَه خاصَّة كما كان فرضاً عليهم بقوله: ﴿كُتِبَ عليكُمُ الصِّيامُكَمَا كُتِبَ عَلَى الذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون﴾ [البقرة: ١٨٣].
والكلامُ في إعراب الكاف من قوله: ﴿كما كُتِبَ﴾، (يصرحبالمعنى) وبُبَيِّنه، وقد ذكرناه في غيرِ هذا الكتاب.

﴿ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى ٱلَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾

قوله تعالى: ﴿وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مساكين﴾ الآية:
الأشهرُ المعوَّلُ عليه في هذه الآية أنها منسوخةٌ بقوله تعالى: ﴿فَمَنشَهِدَ منكُمُ الشَّهرَ فَلْيَصُمْه﴾ [البقرة: ١٨٥].
وذلك أن الله - جلَّ ذكْرُه - فرضَ صوم (شهر) رمضان، (وكان قد)أباحَ بهذه الآيةِ للمقيم القادرِ على الصَّوم أن يُفطِرَ ويطعِمَ عن كل يوممسكيناً، بقوله: ﴿وعلى الذينَ يُطيقونَه فديةٌ طعامُ مساكين﴾ أي: علىالذين يطيقون الصَّومَ ويفطرون فديةٌ، ثم بيَّن الفديةَ، فقال: طعام مسكينيعني: عن كل يوم.
ثم نسخَ ذلك بقوله: ﴿فَمَن شَهِدَ منكُمُ الشَّهرَ فَلْيَصُمْه﴾، [أي: فمن شهده في المصر صحيحاً فليصُمْه] فأوجبَ عليه الصَّومَ.
قال معاذُ بنُ جبل: لما قال الله - جلَّ ذِكْرُه -: ﴿وعلى الذينَ يطيقونَه فديةٌ طعامُ مساكين﴾، كان مَن شاءَ صام ومن شاء أَفطر وأَطعَم مسكيناً عن كُلِّ يوم. قال: ثُمَّ أَوجَبَ اللهُ الصِّيامَ على الصحيح المقيم بقوله: ﴿فَمَنشَهِدَ منكُمُ الشَّهْرَ فليَصُمْه﴾، وثبتَ الإِطعامُ على مَن لا يُطيقُ الصَّومَ إذاأفطرَ مِن كِبَرٍ - وهو قولُ ابن عمر وعِكرمة والحسن وعطاء، وعليه جماعةٌمن العلماء -.
وقال مالك: الآيةُ منسوخةٌ والإِطعامُ عَلى الكبير إذا أفطر ولم يُطِق الصَّومَ، وروي عنه أنه استحبَّ الإِطعامَ للكبيرين إذا (أفطرا) ولم يطيقا الصومَ مِنغير إيجاب.
وأما الحاملُ تخافُ على نَفْسِها فتفطر فعلَيْها القضاءُ إذا وضَعَت. ولا إِطعامَ عليها لأَِنها مريضةٌ.
والمرْضِعُ إذا خَشِيَت على ولدِها فأفطرت فالإِطعامُ عليها مع القضاءإيجابٌ، بخلافِ الحامل والكبيرين؛ (ولأنها) صحيحةٌ، وإنما أَفطرت منأجل ولَدها.
فأما المريضُ فلا إطعامَ عليه إذا أفطر ولم يقدِر على الصَّوم، وعليهالقضاءُ إذا صحَّ. وكذلك المسافرُ لقوله تعالى: ﴿فَمَن كَانَ مِنكُم مَرِيضاً أوعَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ﴾ [البقرة: ١٨٤] أي: فعليه صومُ عِدَّةِ ما أفطر من أيامأُخَر، لا غير.
وقد روى ابنُ وهب، قال، قال لي مالكٌ في الآية:
إنما ذلك في الرَّجُل يمرضُ فيفطرُ ثُمَّ يبرأُ فلا يقضي ما أفطرَ حتَّىيدركَه رمضانٌ آخر من قابل، فعليه أن يبدأَ برمضان الذي أدركَه، ثم يقضي الذي فاته بعد ذلك، ويُطعِمُ عن كلِّ يوم مُدّاً من حنطة.
قال مالك: وأما رجل اتَّصَل به المرض إلى أن دخل عليه رمضانالمقبل، فليس عليه إطعام وعليه القضاءُ على كُلِّ حال.
(قال أبو محمد): وهذا التأويلُ يدلُّ على أن الآيةَ: محكمةعندَه (في هذه) الرِّواية -، ومعنى ﴿الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ﴾ - على هذاالتأويل -: أي: يطيقون قضاءَ ما عليهم فلا يقضون حتى يأتيَ رمضانٌ آخرفعليهم صومُ الداخل وقضاءُ الفائت بعدَ ذلك وإطعام مُدٍّ عن كل يومفهي محكمة - على هذا التأويل - وهو قول زيدِ بن اسلم. وقاله ابن شهابأيضاً. وعنه أنها منسوخةٌ.
وقال قتادةُ: إنما كانَت الرُّخصةُ في الإِفطار والإِطعام للكبيرين يطيقان الصَّومُ، ثم نُسِخَ ذلك بقوله: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُم الشَّهْرَ فَلْيَصُمْه﴾، قال: والرُّخصَةُ باقية للكبيرين اللَّذيْن لا يطيقان الصومَ، يُفْطران ويُطعِمان. وقدروي [مثلُ ذلك] عن ابن عباس. روي (عنه) أنه قال: نزلَت فيالكبيرين اللَّذَيْن لا يطيقان الصَّومَ والمريضِ فهي محكمةٌ غيرُ منسوخةٍ- على هذا القول -.
قال أبو محمد: وهذا التأويلُ إنما يَصِحُّ على قراءَة مَن قرأ: "وعلىالذين يُطَوَّقونه - بالتشديد وفتح الطاء - على معنى: يكلفون الصَّومَ ولا يقدرون عليه فيفطرون، وهي قراءة مرويةٌ عن عائشة - رضي الله عنها -وبذلك قرأ ابن جُبَيْر وعطاء وعكرمة.
وقرأ مجاهد: وعلى الذين يَطّوَّقونه - بفتح الياء وتشديد الطَّاء والواو -على معنى: يتكلفونه. أي: يتكلفونَ الصوم ولا يقدرون عليه.
فهي محكمةٌ غيرُ منسوخة - هاتين القراءتين -. وقد رُوِي عن ابن عباس أنه قرأ: يَطيَّقونه - بفتح الياء الأولى وبياء مشددة مفتوحة بعد الطاء -.
وقد طُعِنَ في هذه القراءة - بالياء -؛ لأن الفعل عينه "واو" ومعناهاكمعنى القراءتين اللَّتَيْنِ قبلها في أن الآية محكمةٌ في الكبيرين والمريض.
يُفطِرون إذا لم يقدروا على الصَّوم ويُطعِمون، إلا أنَّ المريضَ يقضي إذاصَحّ، ولا يقضي الكبيران؛ لأنهما لا ينتقلان إلى غير الكِبَر إلاّ أن يكونامريضين، (أو كانا) صحيحين يقدران على الصوم فيُفْطِرن للمرَض، فلا بدَّ من القضاء - عليهما -.
وأكثرُ النَاس على أنه لا إطعام على المريض.
وقد ذكر الأشعريُّ عن الحسن في هذه الآية قولاً غريباً قال: إنالمعنى: وعلى الذين يُطيقون الإِطعامَ ويعجزون عن الصِّيام طعامُ مساكينوقال: هذا قولٌ مروي عن السَّلَف - وهو قولُ الحسن -.
وذكرَ ذلك ابن الأنباري ولم يذكر الحسَن.
قال: وذهبَ ذاهبونَ إلى أن الهاء راجعةٌ على الفداء، وقدَّروه: وعلى الذين يطيقونَ الفداء إذا كرهوا الصَّومَ فديةٌ طعامُمساكين فَنُسِخَ ذلك بما بعدَه.
قال: وبنى آخرونَ على أن الهاءَ تعودُ على الفداء أيضاً. والآيةُ غيرُمنسوخة. وقالوا: نزلت الرُّخْصَةُ في الشيخ الفاني والعجوز الهرمة فالمعنى - على هذا القول -: وعلى الذين يُطيقونَ الفداءَ، ولا يطيقون الصومَ فديةٌطعام مساكين. وهذا هو قول الأشعري الذي (حكينا) عنه. قال ابنُالأنباري: وإنما رجعَت الهاءُ على الفداء، وإن لم يتقدّم ذكرُه، كما رجعتالهاء في قوله: ﴿فَأَصْلَح بَيْنَهُمْ﴾ [البقرة: ١٨٢] على غير مذكورين، يريد (أن)الخطابَ يدُلُّ على صاحب الإِضمار، وقد ذكرنا حُكْمَ الشيخ والعجوزوشبهَهُما (في الإِفطار) إذا لم يُطيقوا الصوم.

﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ ٱلصِّيَامِ ٱلرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَٱلآنَ بَٰشِرُوهُنَّ وَٱبْتَغُواْ مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ٱلْخَيْطُ ٱلأَبْيَضُ مِنَ ٱلْخَيْطِ ٱلأَسْوَدِ مِنَ ٱلْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ ٱلصِّيَامَ إِلَى ٱلَّليْلِ وَلاَ تُبَٰشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَٰكِفُونَ فِي ٱلْمَسَٰجِدِ تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ ءَايَٰتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾

قوله تعالى: ﴿فالآن باشروهن﴾ الآية:
أباح الله تعالى المباشرةَ لِلنّساء ليالي الصِّيام كُلّه إباحةً عامةً، والمباشرةُ: الجماعُ لا اختلافَ في هذا، لقوله تعالى: ﴿وابْتَغُوا مَا كتَبَاللهُ لَكُمْ﴾ [البقرة: ١٨٧] يعني: الولد.
وقد توهَّم قومٌ أنَّ هذا الحُكْمَ منسوخٌ بقوله تعالى: ﴿فاعْتَزِلُواالنِّساءَ فِي المَحِيض﴾ [البقرة: ٢٢٢]، وليس الأمرُ كذلك. وإنما هو على أحد وجهين:
- إما أن يكون تحريمُ وطء الحائض نزلَ قبلَ إباحةِ الوطء ليلةَ الصيام، فنزل ذلك وقد استقرَّ في أنفُسِهم تحريمُ وطء الحائض، فصارت المباشرةُ المباحةُ مخصوصةً (ليلَ الصَّوم) في غيرِ الحائض مِن زوجةٍ أَمَة.
- وإمّا أن يكون تحريمُ وطءِ الحائضِ نزلَ بعدَ هذه الآية، فتكون مبيِّنةًلها ومخصِّصةً أنها في غير ذوات الحيض.
فلا يجب أن يدخل هذا في الناسخ والمنسوخ.
ولو نسخَ إباحةَ المباشرة لم ينسخ (إِلاّ) بمنع ذلك كُلِّه، (فيعودُ)الأمرُ إلى منع الوطءِ في ليلِ الصَّوم. وهذا لا يجوزُ لِلنَّصِّ والإِجماعِ على إباحتِه.

﴿ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ ﴾

قوله تعالى: ﴿ولا تعتدوا﴾ الآية:
قال ابنُ زيد: نسخَها الأمرُ بالقتال وبالقتل للمشركين.
وقيل: إنَّها أَوَّلُ ما نزل في إباحة القتال. أُبيحَ لهم أن يقاتلوا من قاتَلهم، (ولا يعتدوا فيقاتلوا من لم يقاتلهم) ثم نُسِخَ النهيُ عن قتال مَنلم يقاتِلُهم بالأمر بالقتال والقتل.
وقيل: أَوَّلُ ما نزل في إباحة القِتال، قولُه تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَيُقاتَلون بأنهم ظُلموا﴾ [الحج: ٣٩]، فهي مكيَّة وقيل: مدنية.
وعن ابن عباس وعمر بن عبد العزيز ومجاهد أن الآيةَ محكمةٌ غيرُ منسوخةٍ، لكنَّها مخصوصةٌ في النّهي عن قتل الصِّبيان والنّساء والشيخ الفاني ومن ألقى السَّلَم وكفَّ يدَه. وقد نهى - صلى الله عليه وسلم - عن قتلِ هؤلاء، وعن قتل الرُّهبان. فيكونُ معنى الآية: وقاتلوا في سبيل الله الذين فيهم مقدرةٌ على قتالكم، ولا تعتدوا فتقتلوا مَن لَيس له مقدِرةٌ على القتال، ولا مَن (لَيس)من عادته القتالُ، (كالنِّساء والصِّبيان)، والكبير، والرهبان.
فهذا كُلُّه محكَمٌ وحكمهُ باق معمولٌ به.

﴿ وَٱقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم وَأَخْرِجُوهُمْ مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَٱلْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ ٱلْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ حَتَّىٰ يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَٱقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَآءُ ٱلْكَافِرِينَ ﴾

قوله تعالى: ﴿ولا تُقاتِلوهم عندَ المسجدِ الحرامِ حتَّى يقاتلوكُمفيه﴾:
قال قتادة: هذا منسوخٌ بقوله: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حتّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ [البقرة: ١٩٣، الأنفال: ٣٩]، أي: شرك وبقوله: ﴿وقَاتِلُوا المُشْرِكينَ كَافَّةً﴾ [التوبة: ٣٦].
وقد قال إسماعيلُ بنُ أُويس: إن قوله: ﴿وَلاَ تُقَاتِلوهُم عِندَ المَسْجِدِالحَرَام﴾ - الآية - ناسخٌ لِقوله: ﴿واقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾ [النساء: ٩١] - فيالنساء -، قال: ثم نسخَها (الله) بقوله في براءة: ﴿فاقتلوا المشركينَ حيثُ وجدتموهم﴾ [التوبة: ٥]، فصارت الآية ناسخةً ومنسوخةً، وهو قليلُالنَّظير.
وقال مجاهد: الآيةُ محكمةٌ غيرُ ناسخةٍ ولا منسوخةٍ، لكنَّها مخصوصةٌ(في) النهي عن القتال في الحرم، ولا يحلُّ القتالُ في الحرم إلاّ أنيقاتلوك، وهو قول طاووس.
والبيِّن الظاهرُ في الآية أنها منسوخةٌ. وهو قولُ أكثر العلماء؛ لأن قتالَالمشركين فرضٌ لازمٌ في كل موضعٍ كانوا فيه، بقوله (في) براءة: ﴿فاقتلوا المشركينَ حيثُ وجدتموهم﴾ - وبراءة نزلت بعد البقرة بمدةطويلة -.

﴿ ٱلشَّهْرُ ٱلْحَرَامُ بِٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ وَٱلْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلْمُتَّقِينَ ﴾

قوله تعالى: ﴿الشَّهْرُ الحَرَامُ بالشَّهْرِ الحَرَامِ، والحُرُماتُ قِصَاصٌ، فَمَن اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُم﴾.
قال ابنُ عبّاس: إباحةُ الاعتداء منسوخٌ، لأَنَّ الله جلَّ ذكره ردَّه إلى السلطان، ولا يجوز لأحدٍ أن يقتصَّ ممّن اعتدَى عليه إلاَّ بالسلطان، ولا يقطعُ يدَ سارقٍ إلاَّ بالسلطان.
(قال أبو محمد): وهذا القولُ إنما يجوزُ على مذهب من أجاز نسخَالقرآن بالسُّنَّة المتواترة.
وقد روي عن ابن عباس أنه قال: نسخها قولُه تعالى: ﴿ومَن قُتِلَمَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلطاناً﴾ [الإسراء: ٣٣] قال: يأتي السلطانَ حتى ينتصفَ منه له.
قال أبو محمد: وهذا (لا) يصِحُّ عن ابن عباس، لأَنَّ السُّلطانَهاهنا: الحجَّة؛ ولأنَّ سورة "سبحان" مكيةٌ، والبقرة: مدنيةٌ. ولا ينسخُالمكيُّ المدنيَّ؛ لأنه نزل قبلَ المدني، والناسخ لا يصِحُّ أن يكونَ نزولُه إلاَّبعد المنسوخ. وأيضاً فإنَّ الرُّجوعَ إلى السُّلطان في القصاص، إنما أُخِذَبالإِجماع، والإِجماع لا ينسخُ القرآنَ لكنه يبيِّنهُ كما تبيِّنُه الأخبارُ من السُنن.
فهذا مثل قوله ﴿وجزاءُ سيِّئةٍ سيّئةٌ مثلُها﴾ [الشورى: ٤٠].
وقيل: الآيةُ نزلَت في إباحة قتال مَن قاتلهم إلى الآن في الشَّهرِالحرام، وفُهِمَ منها منعُ قتال من لم يقاتِلْهُمْ في الشَّهرِ الحرام، وإباحةُ ذلكفي غير الشهر الحرام، ثم نُسِخَ ذلك بالأمر بالقتال في الشّهر الحرام، وإن لم يقاتلوهم، بقوله تعالى: ﴿فاقتلوا المشركينَ حيثُ وَجَدتموهم﴾ [التوبة: ٥] في براءة.
(قال أبو محمد): وهذا القولُ أَبينُ الأقوال فيها، لكنَّه نسخَ مفهومَالتلاوة. وله نظائرُ ستراها.
وقال مجاهد: الآيةُ محكمةٌ غيرُ منسوخةٍ، والمعنى: فمن اعتدى عليكم في الحرم فاعتدوا عليه بمثلِ ما اعتدى عليكُم، أي: من قاتلكم (فيالحرمِ) فقاتلوه فيه، ولا يحلّ أن تبدؤا بالقتال في الحرَم - عندَه - (إلىالآن).
وأكثرُ الناس على خلافه.

﴿ وَأَتِمُّواْ ٱلْحَجَّ وَٱلْعُمْرَةَ للَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ ٱلْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِٱلْعُمْرَةِ إِلَى ٱلْحَجِّ فَمَا ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي ٱلْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذٰلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ ﴾

قوله تعالى:﴿وَلاَ تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُم حَتّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّه﴾:
ثم أباحَ ذلك لمن كان مريضاً، أو به أذىً من رأسِه، وأوجَبَ عليهالفديةَ.
فقال قوم: هذا ناسخٌ للنَّهْيِ عن حَلْقِ الرّأس حتى يبلُغَ الهديُ مَحِلَّه.
(والظَّاهِرُ في هذا البيِّنُ) أنه ليس فيه نَسخٌ، لأَنّه متَّصِلٌ بالأَوّل غيرُ منفصلمنه. وإنما يكونُ الناسخُ منفصلاً من المنسوخ. (فهي) أحكامٌ مختلفةٌ فيشروطِها متَّصِلٌ بعضُها ببعض لا ينسخُ بعضُها بعضاً.
قوله تعالى: ﴿وأتمّوا الحجَّ والعمرةَ لِلَّه﴾:
أمرَ اللهُ المسلمين بإتمام ما دخلوا فيه وعقدوه على أَنفُسِهِم من حَجٍ أو عمرةٍ.
ولا دليلَ في هذا على فرضِ العُمْرَة إنّما هو أمرٌ بإتمام ما دخلوا فيه من ذلك.
ويبيِّنُ أن العمرة ليست بفرض قراءةُ الشعبي: "والعمرةُ للهِ" - بالرفع -فهذه القراءةُ لا تأويل فيها لفرضِ العمرة. وقوله: ﴿وأتموا الحجَّ﴾ ولميقل: حجّوا واعتمروا (يدلُّ على أن) ذلك مرادٌ به غيرُ الفرض.
وإنما هو مثلُ قوله: ﴿أوفُوا بِالعُقُود﴾ [المائدة: ١] فمن عقَدَ بِرّاً على نفسِهوجبَ عليه إتمامُه.
وقراءة ابن مسعود: "والعمرة للبيت لله" وعنه: "والعمرة إلى البيت لله". يدل على أن العمرةَ ليست بفرضِ - قرىء بنصب العمرة أو برفعها -.
وكما أن ذِكرَ الحجّ في هذه الآية ليس يوجبُ فرضَ الحج، إنما وجبَفرض الحجِّ بقوله تعالى: ﴿وللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ﴾ [آل عمران: ٩٧]. كذلك ذِكْرُالعمرَةِ فيها لا يوجب فرضَها. ولا آية أُخرى توجِبُ فرضَ العمرة في القرآن (فبانَ أنّ) العُمْرَةَ ليست بِفَرض. وقد ذكرَ أهلُ المعاني والتفسيرأنَّ هذه الآيةَ ناسخةٌ لما رُوِيَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر أصحابَه بعد أن أَحرموا(بالحجِّ) أن يفسخوه في عمرة.
(والآيةُ) محكمةٌ، (تدُلُّ) على أنَّ مَن دخَلَ في طاعة وعقدَهاعلى نفسه أن عليه إتمامَها.
وقد أبى مِن فَسْخِ الحجّ في عُمرة (أبو بكر وعثمان وعلي)- رضي الله عنهم - بحكم ظاهر الآية.
وأجازه ابن عباس لإباحة النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك.
وذهب أبو عبيد: إلى أنَّ فسخَ الحجِّ في عمرة منسوخٌ بفعل الخلفاءالراشدين، يعني الذين ذكرنا. وعلى منعِه أكثرُ العلماء مالكٌ وغيرُه.
وقد قيل: إنه إنما أباح النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ذلك لِعِلَّةٍ، وذلك أنهم كانوا لا يرونَ العُمرةَ في أشهرِ الحج جائزةً، ويرونَه ذنباً، فأَمرَهُم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بفَسخِالحجِّ وتحويلِه إلى عُمرة في أشهر الحجّ، ليعلموا أن العمرةَ جائزةٌ فيأشهر الحجّ. فَفِعْلُه ذلك كان لِعِلَّةٍ، فبزوال تلك العلة يزولُ الحكمُ. وله نظائرُ في القرآن.
وقيل: إن ذلكَ مخصوصٌ للنبي - صلى الله عليه وسلم - ورُويَ عنه أنه سئل عن ذلك فقال: (إنه) لنا خاصَّة.
(قال أبو محمد): ومعنى فسخ الحجِّ في عُمرة: هو أن يُهِلَّ الرَّجُلُبالحجّ ولا هَدْيَ معه، فعليه أن يدخلَ مكةَ فيطوفَ ويبقى على إحرامه حتَّىيحجَّ ويقضيَ مناسكَه من الوقوفِ بعرفاتٍ والمزدلفة و (من) رمي الجمارِوغيرِ ذلك، وهو على إحرامِهِ، ويحلق ويطوفَ طوافَ الإِفاضة، وعليه السَّعْيُبين الصّفا والمروةِ بعدَ الطَّواف، ويُحِلُّ مِن حجّته بعد ذلك كُلِّه، فهذا لازمٌله، وبه يُتِمَّ ما عقدَه من الحجّ.
(فإن فسخَ حجَّه في عمرة) - على قول ابن عباس - فإنما عليه أنيَدخلَ مكة ويطوفَ ويسعى ويَحْلِقَ وَيُحِلّ.
فذلك الأولُ عملُ الحج.
وهذا عملُ العمرة.
فإذا (حَلَّ) مِن عمرته التي فسخَ الحجَّ (فيها) ابتدأَ الإِهلالَ بالحجِّ مِن مكة أو من الحِلِّ إن شاء، وبه يتمُّ حَجُّه على ما ذكرنا.
وإن تمادى (في) حَجِّه ولم يفسخْه في عُمرةٍ، وأرادَ العمرةَ، فإنه إذا حَلَّ من حجِّه خرجَ إلى التنعيم (إلى الحِلِّ)، أو إلى الحِلِّ مِن أي ناحيةٍ شاء، فأَحرَم ولبَّى ودخلَ مكةَ فطاف وسعى وحلَق، وحلَّ من عُمرته.

﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ﴾

قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُم القِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ﴾ [البقرة: ٢١٦] الآية:
أكثرُ العلماءِ على أنّ هذه الآية ناسخةٌ لِكُلِّ رخصةٍ في القرآنفي تركِ القتال. إلاّ أنه فرضٌ يحملُه بعضُ الناس عن بعض. وإن احتيج إلى الجماعة كان فرضاً عليهم الخروجُ. ومثلُه الصَّلاةُ على الجنائز. وردُّ السلام.
وقد قيل: هي منسوخةٌ بقوله - عزّ وجلّ -: ﴿وما كان المؤمنونَ لينفرواكافةً﴾ [التوبة: ١٢٢].
وقيل: هي على الندب.
قال أبو محمد: والأمرُ لا يحملُ على النّدب إلا بقرينةٍ ودليل.

﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ ٱللَّهِ وَٱلْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ ٱلْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِن اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلـٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَأُوْلـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾

قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَن الشَّهْرِ الحَرَامِ قِتالٍ فِيهِ، قُلْ قِتَالٌ فِيهكَبير﴾
أكثرُ العلماءِ أنَّ هذه الآيةَ منسوخةٌ؛ لأنَّ اللهَ عظَّمَ القتالَ في الشَّهرالحرام. ثم نسخَ ذلك في براءة بقوله: ﴿فَاقْتُلوا المُشْرِكينَ حَيْثُوَجَدتُمُوهم﴾ [التوبة: ٥] وبقوله: ﴿قَاتِلوا الذِينَ لاَ يؤمِنُونَ باللهِ ولاَ باليَومِالآخِر﴾ [التوبة: ٢٩]. فأباح قتلَهم وقتالهم في كُلِّ موضِعٍ، وفي كُلِّ وقتٍ من شهرٍحرامٍ وغيره، وهو (قولُ) ابنِ عبَّاس، وقتادة، والضَّحَّاك، والأوزاعي، وابنِ المسَيِّب. وقال عطاءٌ ومجاهدٌ: الآيةُ محكمةٌ، ولا يجوزُ القتالُ في الأشهرِ الحُرمِ. والجماعةُ على خلاف ذلك.
والأَشهُرُ الحرُمُ التي كان الله قد حرَّم فيها القتالَ ثُمَّ نسخَه لميُخْتَلَف فيه أعيانها، وهي: المحرَّمُ، ورجبٌ، وذو القعدة وذو الحجّة. واختُلِفَ في ترتيبها:
فقال (قوم مِن) أهلِ المدينة: هي ذو القعدة وذو الحجة والمحرمورجب. يجعلونها من سنتين.
وقال بعض المدنيين: أوّلُها رجب، وهي من سنتين؛ لأن النبيَّ - عليه السلام - قدم المدينة (في ربيع الآخر وقد قيل) في ربيع الأول (وأول شهرٍكان بعد قدومه من الحُرُم) رجب.
وقال الكوفيون: هي من سنة واحدة، وأولها المحرّم، وهيالمذكورة في قوله تعالى: ﴿مِنْهَا أربَعَةٌ حُرُم﴾. [التوبة: ٣٦].
وأمّا الأشهرُ الحرُمُ المذكورة في أول سورة براءة في قوله: ﴿فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُر الحُرُمُ﴾ [التوبة: ٥] (فليست الحُرُمَ) التي كان قد حُرِّمَ فيهاالقتالُ المذكور في (سورة) البقرة، ولا هي المذكورةُ في قوله تعالى:﴿مِنْهَا أربَعَةٌ حُرُم﴾ [التوبة: ٣٦].
إنما هي أربعةُ أشهرٍ بعد يوم النَّحْرِ من ذلك العام، وهو عهدٌ كان بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين قريش، ويقال لها: أَشهرُ السِّياحة، أمرَ الله المؤمنين أن يَقتلوا المشركين حيثُ وجدوهم بعد انقضاءِ أربعةِ أشهرٍ من يوم النّحر مِنذلك العام، وهي آخرُ العهدِ الذي انعقَد بين النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وبين قريش.
وأشهرُ الحجِّ: شوّال وذو القعدة وعَشْرٌ مِن ذي الحجَّة، (هذا قولُ أبيحنيفة) - رضي الله عنه -.
وقال الشافعي: تسعٌ من ذي الحجة.
وعن مالك: وذو الحجّة كُلُّه.

﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ ٱلْعَفْوَ كَذٰلِكَ يُبيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلأيَٰتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ﴾

قوله تعالى: ﴿يَسْألونَكَ عَن الخَمْرِ والمَيْسِر﴾ الآية:
أكثرُ العلماءِ على أنها ناسخةٌ لما كان مباحاً من شُربِ الخمر؛ لأنه تعالى أخبرنا أن في الخمر إثماً، وأخبرنا أن الإِثم محرمٌ بقوله تعالى:﴿قُلْ إنّما حَرّم رَبّي الفَوَاحِشَ ما ظَهَرَ مِنْهَا ومَا بَطَنَ والإِثمَ والبَغيَ بغيرِالحقّ﴾ [الأعراف: ٣٣] فنصَّ على أن الإِثم محرمٌ، وأخبر أن في شربِ الخمر إثماً، فهي محرّمةٌ بالنصّ الظّاهر الذي لا إشكالَ فيه. وما حَرُمْ: كثيرُه وقليلُه حرام، كلحم الخنزير والميتة والدّم.
وسورة البقرة مدنيةٌ، فلا يعترضُ على ما فيها (بما) نزل في الأنعامالمكيّة (في قوله): ﴿قُلْ لاَ أجدُ فِيمَا أُوحِيَ إليَّ محرماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهإلاَّ أن يَكُونَ﴾ [الآنعام: ١٤٥] الآية -؛ لأن هذا تحريمٌ نزل بمكّة (والخمر نزل تحريمُهابالمدينة).
وزادنا (الله تأكيداً في تحريم الخمرِ بقوله: ﴿فهل أنتُم منتهون!!!﴾فهذا تهديدٌ ووعيدٌ يَدلاَّن على تأكيد التحريم للخمر. وزاد ذلك بياناً قولُ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "حُرِّمَت الخمرُ بعينها والسَّكر من غيرها".
وأكَّد اللهُ ذلك وحقَّقَه بقوله تعالى: ﴿فاجْتَنِبُوه لَعَلّكُمْتُفْلِحُون﴾ [المائدة: ٩٠]. و "لعلّ" من الله واجبةٌ، فضمانُ الفلاح في اجتنابها، فنظيرُه الخسرانُ مع مواقعتِها.
وكما أنه تعالى حرَّمَ أكلَ لحم الخنزير، وقليلُه ككثيرهِ حرامبإجماع - كذلك يجبُ أن يكونَ الخمرُ والمسكرُ من (غيرها فيالتحريم قليلُها ككثيرِها في التحريم)، وزادَ ذلك بياناً قولُه - عليه السلام -:"ما أسكرَ كثيرُه فقليلُه حرام".
قال ابنُ جُبَيْر: لما نزلت: ﴿قُلْ فِيهِمَا إثمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُللنّاس﴾ [البقرة: ٢١٩] كَرِهَ الخمرَ قومٌ للإِثم، وشربَها قومٌ للمنافع، حتى نزل: ﴿لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وأنتم سُكارى﴾ [النساء: ٤٣] فتركوها عندَ الصَّلاة حتى نزلَت:﴿فَاجْتَنِبُوه لعلّكُمْ تُفْلِحُون﴾ [المائدة: ٩٠] فحرِّمَت.
فهذا يدلّ على أن آيةَ البقرةِ منسوخةٌ بآيةِ المائدة، والمائدةُ نزلت بعد البقرة بلا شك.
وقوله تعالى: ﴿ومنافعُ للناس﴾: منسوخٌ إباحةُ منافعِها بِنَسْخِ الخمر. والمنافعُ: هي ما كانوا ينحرون على الميسر من الجزور للضُّعفاءولأَنفُسِهم، وذلك قِمار، حرَّمه الله لأنه من أكل المال بالباطل المحرَّمبنصّ القرآن.
وقال ابنُ حبيب: المنافعُ التي في الخمر: هي أنّ الرّجلَ كان إذا أصابتْهُ مصيبةٌ تُكْرِبُه وتُغِمُّه، سُقِيَ الخمرَ فذهب عنه ذلك الغمّ.
وقيل: المنافعُ في الخمر: ما يصيبون من لذّتها وسرورها عندَ شُربها.
قوله تعالى: ﴿ويَسْألُونَكَ ماذا يُنفِقُون، قل العَفوَ﴾ [البقرة: ٢١٩].
قال ابنُ عباس: [هي منسوخةٌ بفرض الزكاة].
وقيل: هي محكمةٌ غيرُ منسوخةٍ والمراد بالعفو: الزّكاةُ بعينِها.
وقيل: هي محكمةٌ مخصوصةٌ في التطوّع. والعفو - عند ابن عباس -: القليلُ الذي لا يتبينُ خروجُه من المال.
وقال طاووس: العفو: اليسيرُ من كُلّ شيء.
وقال الحسنُ وعطاء: العفو: ما لا يكون إسرافاً ولا إقتاراً.
وقال مجاهد: العفو: الصدقةُ عن ظهرِ غنى.
وقال الربيعُ: العفو: ما طاب من المال.
وقال قتادةُ: العفو أفضلُ المال وأطيبُه.

﴿ وَلاَ تَنْكِحُواْ ٱلْمُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنْكِحُواْ ٱلْمُشِرِكِينَ حَتَّىٰ يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَـٰئِكَ يَدْعُونَ إِلَى ٱلنَّارِ وَٱللَّهُ يَدْعُوۤاْ إِلَى ٱلْجَنَّةِ وَٱلْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾

قوله تعالى: ﴿ولاَ تَنكِحُوا المُشْرِكاتِ حتّى يُؤْمِنَّ﴾ الآية:
الظاهرُ في هذه الآيةِ أنها محكمةٌ مخصَّصةٌ مبيَّنةٌ بآيةِ المائدةِ في جوازِنكاح الكتابيّات. وقد تقدَّم ذكرُ هذا - وقاله قتادةُ وابنُ جبير -.
وعن ابن عباس: أنَّها في المشركاتِ مِن الكتابيّات وغيرهنّ اللواتي في دار الحرب، لا يَحِلُ نِكاح كتابيةٍ مُقيمةٍ في دارِ الحرب لأَنّها ليست من أهل ذمّة المسلمين، وهو قولُ أكثرِ العلماء. فالآيةُ محكمةٌ - على هذا القول -غيرُ عامّة وغيرُ منسوخةٍ ولا مخصَّصةٍ.
وآيةُ المائدةِ في الكتابيّات من أهل الذمَّة ذوات العهد المقيماتِ مع المسلمين.
(فالآيةُ) مخصوصةٌ في غيرِ الكتابيّات اللواتي بدار الإِسلام، فهي محكمةٌ غيرُ منسوخةٍ وغيرُ مخصَّصَةٍ].
وقد رُوِيَ عَن مالك أَنه قال: (هي) في غيرِ أَهلِ الكتاب، قالمالكٌ: قال اللهُ - جلَّ ذكرُه -: ﴿ولاَ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الكوافر﴾ [الممتحنة: ١٠]، فهيعندَه محكمةٌ لم يُنْسَخ منها شيءٌ، إلا أنَّها غيرُ عامة، أُريدَ بها الخصوصُ في كل مشركةٍ من غيرِ أهلِ الكتاب، وبيَّن تخصيصَها آيةُ المائدة في تحليل نكاح الكتابيّات.
وروُيَ عن ابن عمر أنه قال: هذه الآيةُ محكمةٌ، لا يجوزُ نكاحُ مُشركَةٍكتابيةٍ ولا غيرِها. وقيل عنه: إنه إنّما كَرِه ذلك ولم يُحَرِّمْه. ولا يَصِحُّعنه تحريمُ (نكاح) الكتابياتِ ذواتِ الذِّمَّة؛ لأنَّ نصَّ القرآنِ يدُلُّ على تحليل الكتابية ذميَّةً كانت أو غيرَ ذِمِّيَّةٍ.
وعن مالك: أَنه كَرِهَ نكاحَ الكتابيّةِ التي في دار الحرب، ولم يُحرِّمه.
وعلى تحريمه جماعةٌ من العلماء، جعلوا آيةَ المائدة في الكتابيّات ذواتِ الذمّة خاصةً.
وهي عامّة في كُلِّ كتابيةٍ - عندَ مالكٍ وغيرِه، وعليه أكثرُ الصَّحابةِوالعلماء؛ لقوله: ﴿والمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إذَاآتَيْتُمُوهُنَّ أُجورَهُنّ﴾ [المائدة: ٥] فعمَّ.
فآيةُ المائدة مُحْكَمَةٌ غيرُ منسوخَةٍ، لكنّها مخصِّصةٌ ومبيِّنةٌ لآيةِ البقرة.
وقد رُوِيَ عن ابنِ عباسٍ أنه قال: آيةُ البقرة منسوخةٌ بآية المائدة. وهو أيضاً مرويٌ عن مالك، وسفيان بن سعيد وعبد الرحمن بن عمرو (الأوزاعي).
قال أبو محمد: وهذا إنما يجوزُ على أن تكونَ آيةُ البقرة في الكتابيات خاصة ثم نسخَتْها آيةُ المائدة، ويكونَ تحريمُ نكاح المشركات منغير أهل الكتاب بالسنّة.
وحَمْلُ آية البقرة على العموم في كل المشركات ثم خصَّصَتْهاوبَيَّنَتْها آيةُ المائدة أولى وأحسن؛ ليكونَ تحريمُ نكاح المشركات منغير أهل الكتاب بِنَصِّ القرآن.
وعن ابن عباس أيضاً أنه قال: استثنى اللهُ منها نساءَ أهل الكتابفأَحَلَّهُنّ بآية المائدة، وهذا معنى مفهومٌ مِن قوله، وإن كان بغير لفظ الاستثناء، فهو تخصيصٌ وبيان، كما أن الاستثناءَ بيانٌ أيضاً.
وقد قال الحسنُ وعِكرِمَةُ في آية البقرة: نسَخَ اللهُ منها نساءَ أهل الكتاب فأَحلَّ نكاحَهُنَّ. وقد ذكرنا هذه الآية فيما تقدّم.

﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَٱعْتَزِلُواْ ٱلنِّسَآءَ فِي ٱلْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ ٱللَّهُ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلتَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ ٱلْمُتَطَهِّرِينَ ﴾

قوله تعالى: ﴿ويَسْألونَكَ عَن المَحِيضِ﴾.
أكثرُ العلماء على أنها ناسخةٌ لشريعة بني إسرائيل؛ لأنهم كانوا لا يجتمعون مع الحائضِ في بيتٍ، ولا يأكلونَ ولا يشربون معَها، فَنَسخَ الله ذلك من شريعتهم، و أمرنا باعتزال الحائض مِن الوطءِ لا غير.
قال أبو محمد؛ وإنما أُدْخِلَ هذا وأشباهُه في الناسخوالمنسوخ، وهو لم ينسخ قرآناً، لقوله تعالى: ﴿فَبِهُداهُمُ اقْتَدِه﴾ [الأنعام: ٩٠] - علىقولِ مَن قال -: تلزمُنا شريعتُهم حتى نؤمَر بتركها.
فأمّا من قال: لا يلزمُنا من شريعتِهم إلاّ ما أَمَرَنا به منها، فلا يجبُأن يُدْخِل هذا (ونحوه) في الناسخ والمنسوخ؛ إذ لم يَنْسخ قرآناً، وهو الصّواب - إن شاء الله تعالى - لأن معنى: ﴿فَبهُداهم اقتَدِه﴾ يعني: فيالتوحيد خاصة، لا في الشّرائع. ويدلُّ على أنه ليس يُرادُ به الشرائعُ التي كانوا عليها، قولُه: ﴿لِكُلٍّ جعلنا مِنكُم شِرْعَةً ومنهاجاً﴾ [المائدة: ٤٨].
ويدلُّ على ذلك أيضاً أنَّ شرائعَ مَن كان قبلَنا مختلفةٌ في الأحكام، ولا سبيل لنا إلى الجمع بين (التّحريم والتّحليل) في شيء واحد، ولاإلى فعل شيءٍ وتركِه في عبادةٍ واحدةٍ. فقد كانت لحومُ الإِبل وألبانُها وشحومُالبقر والغنم حلالاً لمن كان قبلَ يعقوب من الأنبياء، ثم حُرِّمَت على يعقوبوعلى بني إسرائيل، فلا سبيلَ إلى الجمعِ بين الشَّريعتين البتَّة. والله - جلَّ ذكره - لم يخصَّ الأمرَ بالاقتداء بشريعةِ واحدٍ من الأنبياء، (وإنما جَمَعَهُم) فقال: ﴿فَبهُداهُمُ اقْتَدِه﴾. وهم لم يجتمعوا إلاَّ على التّوحيدوالتّصديق بالله ورسلِه وكُتُبِه. واختلفوا في الشرائع التي شرعَ (الله لهم)على (ما شرع) لكُلِّ نبي.
فليس علينا أن نقتديَ من فعلِهم إلا بما اجتمعوا عليه. وما اختلفوا فيه لا سبيلَ إلى فعلِه لاختلاف أحكامه في شرائِعهم. وإنما نفعلُ مِنشرائعهم ما أُمِرْنا به. فعلى هذا القول: كان يجب ألاّ تُدْخَل هذه الآيةُونحوها في الناسخ والمنسوخ؛ لأنها لم تنسخ قرآناً.
ومذهب مالك في هذا الباب: أنّ ما أنزلَ الله علينا في كتابة وأعلَمنا أنهكان فرضاً عليهم ولم يأمرنا بخلافه، ولا بِتَرْك العمل به فواجبٌ علينا العملُبه، نحو قوله تعالى: ﴿وكَتَبْنَا علَيْهِمْ فِيهَا أنّ النَّفْسَ﴾ [المائدة: ٤٥] الآية. وقد اعتُرِضَعلى هذا المذهب بقصَّة أَيوب في يمينه، وبتزوُّجِ موسى (إحدىالمرأتين)، ولا يقول مالك بشيءٍ مِن ذلك. و(عن هذا) أجوبةٌ يطولُ ذكرُها، ليست مِن هذا العلم، سنذكرُها في غير هذا الكتاب إن شاء الله.
وهذه المعاني من الأصول لها مواضعُ يُتَقَصَّى الكلامُ فيهاويُبَيِّن في غير هذا الكتاب - إن شاء الله - (فهيَ) أصلُ الفقه والدِّين، وعليها بنى الفقهاءُ مسائلَهم وفُتْياهم، وإنما اختلفوا في الفُتْيا على نحواختلافِهم في معاني الأُصول. فمعرفةُ الأُصول عليها العُمْدَةُ عندَ أهلالفَهْم والنظر. ومعرفةُ المسائلِ (بغير معرفة) الأُصولِ إنما هو للمقلِّدينالضعفاء في الأفهام.

﴿ لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَآءُو فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾

قوله تعالى: ﴿لِلَّذِينَ يُؤْلونَ مِن نسائِهم تَرَبُّصُ أَربَعَةِ أَشْهُرٍ﴾.
قال بعضُ العلماء: هذه الآيةُ ناسخةٌ لما كانوا عليه، كان الرَّجُلُ يُؤْلي(مِن) امرأتِه السَّنةَ والسنتيْن وأكثر، ولا تطلق عليه، فنسخَ اللهُ ذلكبأربعةِ أشهر، فإذا رافَعَته (إلى السلطان) استوفى له أربعة أشهر. فإن رجَع إلى الوطء، وإِلاّ طَلُقَت عليه واحدة.
ولا إيلاء على من حلف أَلاّ يطأ أقلَّ مِن أَربعةِ أشهر.
ولا تعدُّ الأبعةُ الأشهرُ إلاّ من (وقتِ تَرفَعُه إلى السلطان) إذا كانت يمينُه على غير الوطء (مما يمنع معه) الوطء.
(فإن كان) يمينه على الوطء بعينه فأجَلُهُ أربعةُ أشهر من يوم يمينه إذا رفعته إلى السلطان.
هذا كُلُّه مذهبُ مالك، وفيه اختلافٌ ليس هذا موضعَ ذكره.
وإيجابُ النّسخ بهذه الآية لما كانوا عليه مروي عن ابن عباس- رضي الله عنه -.

﴿ وَٱلْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوۤءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ فِيۤ أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوۤاْ إِصْلاَحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ ٱلَّذِي عَلَيْهِنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾

قوله تعالى: ﴿والمطلَّقَاتُ يتربَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثلاثَةَ قروء﴾.
قال قتادة: نُسِخَ منها التي لم يُدخل بها، لا عدَّة عليها، بقوله - جلّوعزّ -: ﴿فَمَا لَكُم عَلَيهِنَّ مِن عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها﴾ [الأحزاب: ٤٩].
ونُسِخَ منها أيضاً التي يَئِست من المحيض، والتي لم تحض، والحامل، بقوله تعالى: ﴿واللائِي يَئِسْنَ مِن المَحِيضِ مِن نِسَائِكُمْ﴾ [الطلاق: ٤] إلىقوله: ﴿أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾ [الطلاق: ٤].
والأَحْسَنُ الأَوْلى: أن تكون آيةُ الأحزاب والطّلاق مُخَصِّصَتَيْنِ لآيةالبقرة مُبَيِّنَتَيْنِ لها، فلا يكونُ في الآية نسخٌ.
وتكون آيةُ البقرة مخصوصةً في المدخول بهنَّ من المطلَّقات ذواتِالحيض - في وقت الطَّلاق - بيَّنَ (ذلك) آيةُ الأحزاب وآيةُالطَّلاق.
وقوله: ثَلاثةَ قُروء، يَدُلُّ على أن المراد ذواتُ الحيض- في وقت الطلاق - وقد تقدّم ذكْر هذا وبيانُه].

﴿ ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَٰنٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا ٱفْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ ﴾

قوله تعالى: ﴿الطَّلاَق مَرَّتان﴾ الآية:
هذا ناسخ لقوله: ﴿وَبُعولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ في ذَلِكَ﴾ [البقرة: ٢٢٨] يعني: فيالعِدَّة، أو هي حامل.
قال ابن أَبي أُويس: كان الرَّجُلُ في أوّل الإِسلام يطلِّق زوجتَه ثلاثاً، وهي حُبلى، وهو أحقُّ برَجْعَتِها ما دامت في العدّة، فنسخ الله ذلك بقوله:﴿الطَّلاقُ مرَّتَان فإمساكٌ بِمَعروفٍ أوْ تَسْرِيحٌ بإِحْسَان﴾.
وقال جماعةٌ من أهل المعاني: هذه الآيةُ ناسخةٌ لما كانوا عليه فيالجاهلية (وفي) أَوَّل الإِسلام، كان (الرَّجُلُ يُطَلِّقُ) امرأته ما شاء مِن الطلاق، واحدةً بعد واحدة، فإذا كادت تحلّ مِن العدّة راجعها ما شاء، فنسخذلك من فعلهم بهذه الآية. والمعنى: آخرُ عدد الطلاق الذي يملك معه الرَّجعة تطليقتان.
وقد كان يجب ألاّ تذكرَ هذه الآيةُ في الناسخ والمنسوخ - على هذا القول -؛ لأنها لم تنسخ قرآناً. ويلزم ذكرُها - على القول الأول -.
وقد قيل: إنها منسوخةٌ بقوله: ﴿فَطلِّقوهُنَّ لِعِدَّتِهِنّ﴾ [الطلاق: ١].
قال أبو محمد: وهذا قول بعيدٌ، بل الآيتان محكمتان في معنيينمختلفين، لا ينسخ أَحدُهما الآخرَ آيةُ البقرة ذكر الله فيها (بيانَ) عددالطَّلاق، وآيةُ الطَّلاقِ ذكرَ الله فيها بيانَ وقتِ بالطَّلاق. فهما حُكْمان مختلفان معمولٌ بهما، لا ينسخ أَحدُهما الآخر لتبايُنِ معنييهما.
قوله تعالى: ﴿ولاَ يَحِلُّ لكُمْ أن تأخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيئاً إلاَّ أن يَخَافَاأَلاَّ يُقِيما حُدودَ الله﴾ [البقرة: ٢٢٩] الآية:
أدخل أبو عبيد هذه الآية في الناسخ والمنسوخ. وليست منه إنما هو استثناءٌ بحرفِ الاستثناء.
وقد قيل: إنه منسوخٌ بقوله: ﴿فإن طِبْنَ لَكُم عن شيءٍ منهُ نَفْساًفَكُلُوه﴾ [النساء: ٤].
والأوْلى والأَحْسن: أن تكونَ الآيتان محكمتيْنِ في حُكميْنمختلِفَيْن، لا ينسخُ أَحدُهما الآخرَ:
آية البقرة في (منع) ما يأخذ الزَّوج من زوجتِه - على الإِكراهوالمضارَّة بها -.
وآية النساء في جواز ما يأخذ منها - على التطوُّع وطيب النفس منغير مضارَّة منه لها -.
فهما حكمان مختلفان.

﴿ وَٱلْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ ٱلرَّضَاعَةَ وَعلَى ٱلْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى ٱلْوَارِثِ مِثْلُ ذٰلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُوۤاْ أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ آتَيْتُم بِٱلْمَعْرُوفِ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾

قوله تعالى: ﴿والوَالِداتُ يُرْضِعْنَ أولادَهُنَّ حَوْلَينِ كامِلَيْن﴾:
فأمر الله - جلّ ذكرُه - بالحولين.
ثم قال: ﴿فَإِنْ أرَادا فِصالاً عَن تَراضٍ منهُمَا وتَشَاوُرٍ، فَلاَ جُناحَ عَلَيْهِمَا﴾ [البقرة: ٢٣٣].
فأباح (مع التَّشاور والرضا أن يفطما المولودَ قبل الحولين.
فنسخ (الله) الأول.
فذهب قوم إلى هذا.
(قال أبو محمد): ولا يجوز أن يكون فيه نسخٌ؛ لأنه تعالى قالأولاً: ﴿لمن أراد أن يُتِمَّ الرَّضاعة﴾، فهو تخيير وليس بإلزام فلا نسخَفيه.
قوله تعالى: ﴿وعَلَى الوَارثِ مِثْلُ ذَلِك﴾ [البقرة: ٢٣٣]:
روى ابن القاسم عن مالك أنه قال: هذا منسوخٌ ولم يذكر ما نسخَه، ولا كيف كان الحكمُ المنسوخُ.
وتأويل ذلك فيما نرى - والله أَعلم -: أنه كان الحكم في الآية: أن على وارث المولود نفقَته إذا لم يكن له مال، ولا أب. وهو مذهب جماعةمن العلماء، مِمَّن لم يرَ في الآية نسخاً، فنُسِخَ ذلك بالإِجماع على أن منماتَ وترك حَمْلاً، ولا مال للميت، أنه لا نفقة للحامل على وارث الحمل، وقد كانت النفقة تلزم الزوج لو كان حيّاً.
فكأنه كانت الإِشارةُ بذلك إلى النَّفقة، فصارت إلى ترك المضارَّة، وهو مذهب مالك المشهور عنه، أن الإِشارة في قوله: ["وعلى الوارثِ مثلُ ذلك" إلى ترك المضارَّة، وقد رواه عن مالك ابن وهب وأشهبُ. والنسخبالإِجماع لا يقول به مالك.
وقد قال جماعة من العلماء: الإِشارةُ] بذلك إلى النفقة، ولا نسخفي الآية.
واخْتُلِفَ في الوارث مَن هو؟
فقيل: هو وارث المولود لو مات.
وقيل: هو وارث الولاية على المولود. وهو الصواب - إن شاء الله -: يكون عليه من نفقة أُم المولود من مال المولود مثل (ما) كان على الأب، إن حَمَلْتَ الإِشارةَ على النفقة.
فإن حملْتَها على ترك المضارَّة كان معناه: وعلى وارث ولاية المولودأن لا يضارَّ بالأُم.
وكِلا القولين على هذا المعنى حَسَنٌ صواب.
ويجوز أن تَحْمِلَ الإِشارةَ بذلك على النَّفقة وعلى ترك المضارَّةجميعاً، أي على مَن يرثُ الولايةَ على المولود ترك مضارَّة الأم، وعليهالنفقةُ عليها من مال المولود.
وقال السُّدِّي وقتادة: على وارث الطِّفل مثلُ الذي على الأب لو كانحيّاً (من النفقة) - وقاله الحسن -.
وفي "الوارث" ومعناه أقوال غيرُ هذا تركتُ ذِكرَها لضعفها.
والاختيار: أن يكون "الوارثُ" معناه: وارثُ الولاية على المولود - علىما قدَّمنا -.
ولا ينكر أن يسمى انتقال الوِلاية وراثةً، فقد قال زكريَّا - صلى الله عليه وسلم -:﴿فَهَبْ لِي مِن لَدُنكَ وَلِيّاً يَرِثُنِى ويَرِثُ مِن آلِ يعقُوب﴾ [مريم: ٦]، قيل معناه: يَرِثُ النبوَّة لا المال.
وقد قيل: معنى الآية: وعلى الصبيِّ المولود - وهو وارث الأب -نفقة أُمِّه من ماله إن كان له مال، ولم يكن له أب - وهو اختيار الطبري، وهو قول الضّحاك -.
فالوارثُ - على هذا القول -: اسم المولود. لأنه وارثُ الزَّوج - وهوالأبُ الميِّتُ، والدُه - وهو قولٌ حسن.
وعن ابن عباس في معنى ذلك: وعلى وارث الصَّبيِّ من أَجرالرّضاع مثلُ ما كان على أبيه إن لم يكن للصَّبىِّ مال.
وقال قتادةُ: على ورثة الصَّبِيِّ أن ينفقوا عليه على قدر ميراثِ كُلِّ واحدٍمنهم. وبه قال أَهلُ العراق.
فالآية محكمةٌ عندهم.

﴿ وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِيۤ أَنْفُسِهِنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾

قوله تعالى: ﴿والذينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُم ويَذَرُونَ أَزوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّأَربعةَ أَشْهُرٍ وعَشْراً﴾.
أكثرُ العلماء على أن الآيةَ ناسخةٌ للآية التي بعدها، وهي قوله:﴿والذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ ويَذَرُونَ أزواجاً وصيَّةً لأَِزْوَاجِهِم مَتَاعاً إِلَى الحَوْلِ غيرَإخراج﴾ [البقرة: ٢٤٠].
فَأَوجَبَت هذه الآيةُ للمتوفى عنها زوجُها أن يُنْفِقَ عليها سنةً من مالالمتوفَّى، وتسكنَ سنةً ما لم تخرج وتتزوج.
ثم نُسِخَت النفقة بآيةِ المواريث في النساء، وبقوله - عليه السلام -:"لاَ وَصِيَّةَ لِوارث" ونُسِخَ الحولُ بأربعةِ أشهرٍ وعشراً.
وذكر ابنُ حبيب أن الحرَّةَ (كانت) إذا توفِّيَ عنها زوجُها خُيِّرت إن شاءت أن تقيمَ في بيتِ زوجها وينفق عليها من ماله سنة فإن أَبَت إلا الخروج لم يكن لها شيءٌ (من) ماله فَنُسِخَ ذلك بالمواريث في النساء.
وهذا مما تَقَدَّم الناسخُ فيه على المنسوخ في رُتبةِ التَّأليف للقرآن، وحقُّالناسخ في النّظر أن يأتيَ بعد المنسوخ: لأَن الناسخَ ثانٍ أبداً، والمنسوخَمتقدمٌ أبداً.
وإنما استُغْرِبَ هذا؛ (لأنه) في سورةٍ واحدةٍ، ولو كان في سورتينلم يُنْكَر أن يكونَ الناسخُ في الترتيبِ قبلَ المنسوخ، فهو كثيرٌ من سورتين، لأن السورةَ لم تُؤَلَّف في التَّقديم والتأخير على النزول، أَلا ترى أنّ كثيراًمن المكِّيِّ بعد المدني، والمكيُّ نزل أولاً.
وإنّما (حُكِمَ في) هذا بأن الأَوَّلَ نسخ الثاني دونَ أن ينسخَ الثانيالأَولَ على رتبة الناسخ والمنسوخ بالإِجماع (على أَنَّ) المتوفى عنها زوْجهاليس عليها أن تعتدَّ سنةً، وأَنَّ عِدَّتَها أربعةُ أَشهرٍ وعشراً، ولحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قال: "إنَّما هيَ أربعةُ أشهرٍ وعشرٌ، وقد كانت إحداكُنَّفي الجاهلية ترمي بالبَعَرَة عند رأس الحول". فبيَّن أن الحولَ أمرٌ كانفي الجاهليَّة وأن العِدَّةَ في الإِسلام أربعةُ أشهرٍ وعشر، والنبي - عليه السلام -. يبيّن القرآن فقد بيَّنه، فَعُلِمَ أن الأولَ ناسخٌ للثاني وعُلِمَ أن الأُولى في التلاوة نزلت بعد الثانية ناسخةً لها.
وقد قيل: إنَّ هذا ليس بنسخ؛ وإنما هو نقصانٌ من الحول لم ينسخ الحولُ كُلُّه إنما نقص منه.
ويلزم قائلَ هذا أن يكونَ قولُه تعالى: ﴿وإن يكُن مِنكُم مائةٌ صابِرةٌيغلبوا مائتين﴾ ليس بناسخٍ لما قبلَه إنما هو نقصانٌ مما قبلَه.
وكونُه منسوخاً أَبينُ في المعنى وعليه أَكثرُ العلماء؛ لأنه إزالةُ حُكْمٍووضعُ حُكْمٍ آخرَ مَوْضِعَه مُنْفَصلٍ منه. وقد قال ابنُ مسعود: إنَّ قولَه:﴿يَتَرَبَّصْنَ بأَنفُسِهِنَّ أَربعةَ أَشهرٍ وعشراً﴾ نُسِخَ منها الحواملُ بقولِه:﴿وَأُولاتُ الأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾ [الطلاق: ٤] والذي عليه أهلُ النَّظر أنهتخصيصٌ وبيانٌ بأَنَّ آيةَ البقرةِ في غيرِ الحواملِ والمعنى: ويذرون أزواجاًغيرَ حوامل يتربصْنَ بعدهم أربعة أشهرٍ وعشراً.

﴿ وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ ٱلنِّسَآءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِيۤ أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَـٰكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً وَلاَ تَعْزِمُوۤاْ عُقْدَةَ ٱلنِّكَاحِ حَتَّىٰ يَبْلُغَ ٱلْكِتَابُ أَجَلَهُ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِيۤ أَنْفُسِكُمْ فَٱحْذَرُوهُ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ﴾

قوله تعالى: ﴿إلاَّ أَن تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً﴾:
أكثرُ النَّاس على أنه محكَمٌ أباح به التعريضَ بالنكاح للمعتدَّة.
وقال ابنُ زيد: هو منسوخٌ بقوله: ﴿وَلاَ تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتّى يَبْلُغَالكتابُ أَجَلَه﴾ [البقرة: ٢٣٥]. فمنع من التعريض وغيره في العِدَّة.

﴿ لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ ٱلنِّسَآءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى ٱلْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى ٱلْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعاً بِٱلْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى ٱلْمُحْسِنِينَ ﴾

قوله تعالى: ﴿لاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّساءَ مَا لمْ تَمَسُّوهُنَّ﴾:
أمر الله في هذه الآية بالمتعة على مَن طلَّق قبلَ الدخول ولم يَفْرِض. قال ابنُ المسَيِّب: كانت المتعةُ واجبةً لمن لم يُدخَل بها من النساء، بقوله في الأحزاب: ﴿فَمَتِّعوهُنَّ وسَرِّحوهنَّ سراحاً جَميلاً﴾ [الأحزاب: ٤٩]، وبقوله في هذه السُّورة: ﴿ومَتِّعوهُنَّ على المُوسِعِ قَدَرُهُ، وعَلَى المُقْتِرِ قَدَرُهُ﴾ [البقرة: ٢٣٦]. فنسخذلك بقوله: ﴿وإن طَلَّقْتُموهُنَّ مِن قَبْلِ أن تمسُّوهُنَّ وقَد فَرَضْتُم لَهُنَّ فَريضةًفَنِصْفُ ما فَرَضتُم﴾ [البقرة: ٢٣٧].
وعنه أيضاً أنه قال: كانت المتعَةُ واجبةً بالآية التي في الأحزابقولُه: ﴿فَمَتِّعُوهُنَّ وسَرِّحُوهُنَّ سراحاً جَمِيلاً﴾، قال: ثُمَّ نَسَخَها بالآية التيفي البقرة، قولُه: ﴿حقَّاً على المُحْسِنين﴾، ولم يقل عليكُم ولا واجبٌ عليكم.
قال أبو محمد: ويلزَمُ من قالَ بهذا القولِ أن يكونَ المنسوخُ منهاالتي قد فُرض لها خاصة، وتكون التي لم يُفرَض لها باقيةً على حكم إيجابالمتعة؛ لأنه قال في الآية النَّاسِخة: ﴿وقد فَرَضْتُم لَهنَّ فريضةً﴾، فإذا كانتالمطلَّقَةُ قبلَ الدَّخولِ بها لم يُفْرَض لها شيءٌ، فهي باقيةٌ على حكمالآيةِ الأُولى في إيجابِ المتعة - وهو قولُ ابنِ عباس وجماعةٍ من الفقهاء -.
لكن إيجابَ ذلك على المتقين وعلى المحسنين دونَ غيرِهم يدلُّ علىأنه ندبٌ غيرُ فرض؛ إذ لم يقُل حقاً عليكم (وإذ لم يأت بتحديد ما يمتّع)به في كتابٍ ولا سُنَّةٍ ولا إجماعٍ. فالنَّدبُ أولى به؛ (إذ) لا يُعْلَمُقدرُه.
وعن علي - رضي الله عنه - أنه قال: المتعةُ واجبةٌ لِكُلِّ مُطَلَّقةٍ - وبهقال الحسنُ وابنُ جبيرٍ والضَّحاك -.
وقال شُريح: المتعةُ: نَدَبَ الله إلى فعلِها عبادَه: قال: ولو كانتواجبةً لم تجب على المحسنين وعلى المتقين دونَ غيرِهم، ولكان يقول: حقاً عليكُم. وكان شُرَيح يقول: مَتِّعْ إن كنتَ من المحسنين. ألا تحبُّ أنتكون من المتقين.
وهذا القول هو الاختيارُ وهو مذهب مالك.
وأكثرُ الفقهاء يأمر مَن عقَدَ النِّكاحَ على التعريض ولم يَفْرِضوطَلَّق قبل الدخول بالمتعة، ولا يحكُم عليه بها.
ويكونُ قولُه تعالى في الأحزاب: ﴿فَمَتِّعوهُنَّ﴾، على الندب بدلالةآية البقرة في قوله: ["على المحسنين"، "وعلى المتقين"]؛ وبدَلالة (أنها غيرُ محدودةٍ) "ولا مُقَدَّرةٍ"، من كتاب الله ولا من سُنَّةِ رسول الله ولا مِن إجماع.
فَمَن مَتَّعَ بدرهمٍ فأقل وَجَبَ له اسمُ (الإِمتاع)، وكذلك مَنْ مَتَّعَبألفِ مثقال.
وليس لهذا في الفروض نظيرٌ يُحْمَل عليه. فهو بالنَّدْبِ أولى مِنه بالفرض. وهو قولُ عامَّة الفقهاء والصَّحابة والتابعين إلا اليسير (منهم).
وقد أجمعوا على أن المطلَّقَةَ قبلَ الدخول لا تَضْرِبُ مع الغرماء بالمتعةكان قد فرض لها أو لم يفرض، وتضربُ معَهُم بنصفِ ما فُرِض لها. فدلَّذلك على أن المتعةَ غيرُ واجبةٍ.
وليس قول من احتجَّ بأن سورةَ الأحزاب نزلَت بعد البقرة فلا يَنْسَخُما في البقرة ما (في) الأحزاب بشيءٍ، لأنه لا يَدّعي أَحدٌ أن البقرةَ كُلَّهانزلت بعد الأحزاب. بل نزلَ منها (شيءٌ) قبل الأحزاب وبعدَها.
فقد قال ابنُ عباسٍ وعمرُ بن عبدِ العزيز: آخرُ (آيةٍ) نزلت:﴿واتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلى الله﴾ [البقرة: ٢٨١].
(وقال) عمرٌ - رضي الله عنه -: آخر (ما نزل) آية الرِّبا.
ورُوِيَ أن قولَه: ﴿واتَّقوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلى الله﴾ نزل قبل موتالنبي - صلى الله عليه وسلم - بثلاث ساعات، فقال: اجعلوها بعد ثمانين ومائتين منالبقرة. فهذا يَدُلُّ على أنَّ أشياءَ من البقرة نزلت بعد الأحزاب. ولستا نعيّن شيئاً من ذلك إلا برواية صحيحة.
فلا حُجَّةَ في أن الأحزابَ نزلت بعد البقرة.
وعن ابن عباس: أَنَّ المتعةَ واجبةٌ للتي طُلِّقَت قبل الدخول ولم يُفْرَضلها. وبه قال العراقيون غيرَ أَنَّهم حدّوا (ما تُمَتَّع به)، فقالوا: إذا طلَّق قبل الدخول ولم يفرض لها، مَتَّعَها بمثل نصف صَداق مثلها.

﴿ حَافِظُواْ عَلَى ٱلصَّلَوَٰتِ وٱلصَّلَٰوةِ ٱلْوُسْطَىٰ وَقُومُواْ للَّهِ قَٰنِتِينَ ﴾

قوله تعالى: ﴿حافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاةِ الوُسْطى وقُومُوا لِلَّهِ قانتين﴾.
[تواترت الأخبارُ عن عائشةُ - رضي الله عنها - أنها قرأت: والصَّلاةالوسطى] وصلاة العصر.
فقال بعضُ العلماء: إن هذا مما نُسِخَ من التِّلاوة وبقي حفظُه فيالقلوب.
وقيل: هي قراءةٌ على التفسير، وهذا إنما يَصِحُّ بحذف الواو من"وصلاة العصر".
وهذا كُلُّه صحَّ فإنما نَسَخَهُ الإِجماعُ على ما في المصحف، لأنَّه لايزادُ فيه شيءٌ يخالف خَطَّه.
وقد رُوِيَ عن البراء بن عازب أن قال: كُنَّا نقرأُ على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (قال): ثم إنَّ الله نسخَها بقوله: ﴿حَافِظُوا عَلَىالصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الوُسْطَى﴾.
فمَن قال: الوسطى: صلاةُ العصر، قال: كان لها إسمان نُسِخَ أَحدُهمابالآخر.
ومن قال: الوسطى غيرُ صلاة العصر، لم يجعل لِلعصر إلا اسماً واحداًنُسخ بصلاةٍ أخرى.
والوسطى - عند مالك - صَلاة الصُّبْح لأنها بين صلاتين من اللَّيلوصلاتينِ من النهار، ولأنها أَفضَلُ الصلوات الخمس (بدلائل) قد ذكرناهافي غير هذا. وفيها اختلافٌ كثيرٌ قد ذكرناه في غير هذا الكتاب.
قوله تعالى: ﴿وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِين﴾ [البقرة: ٢٣٨]:
قال بعضُ العلماء: هذا ناسخٌ لما كانوا عليه من الكلام في الصَّلاةللنوائب، وردِّ السلام، وتشميتِ العاطس في الخُطبة، والأمرِ بقضاءالحوائج، ونُسِخَ النَّفْخُ في الصلاة بما نُسِخَ به الكلامُ أيضاً، وكذلك، التَّنَحْنُحُ.
وقد رُوِيَ أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَعَلَهُما في الصَّلاةِ قبلَ نسخ الكلام فيالصَّلاة، ثم نُسِخا بما نُسِخَ به الكلامُ.
قال أبو محمد: وقد كان يجبُ ألا يُذْكَر هذا؛ (لأنه) لم ينسخقرآناً، إنما نسخ أمراً كانوا عليه بغيرِ إباحةٍ من الله (ورسولِه) (لَهم)، ولا نهى عنه. والقرآنُ كُلُّه على هذا المعنى (نزل).
وأصلُ القنوت: الطاعة، فالواجبُ حملُه على أصله، ويكون معناه: الأمر باطاعة لله على كل حال لا يخص صلاة دون غيرها.
ويكونُ تركُ الكلام في الصَّلاة بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاتهِ بهمأكثرَ ما أقام بينَهُم، فهو من التَّواتر المقطوع على تغييبه.
فَمَن قال (نُسِخَ الكلامُ في الصلاة بقوله: ﴿وقُومُوا لله قَانِتِين﴾قال): نُسِخَ ذلك في المدينة.
ومَن قال: نُسِخَ (ذلك) بالسُّنَّة، قال: نُسِخَ الكلامُ في الصَّلاة بمكة - وهو مذهبُ الشافعي -.

﴿ وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَّتَاعاً إِلَى ٱلْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِيۤ أَنْفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾

قوله تعالى: ﴿فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ مِنمَعروفٍ﴾:
ذكر ابنُ حبيبٍ أن قولَه تعالى: ﴿فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِيأنفُسِهِنَّ مِن مَعْرُوف﴾: منسوخٌ بقولِه: ﴿والذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُم ويَذَرُونَ أَزوَاجاًيَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أربعةَ أشهرٍ وعشراً﴾ [البقرة: ٢٣٤] فصار التربُّصُ عزيمةً لا خيارلهنَّ في ذلك، وكُنَّ في السُّنَّةِ مُخَيَّرات.

﴿ لاَ إِكْرَاهَ فِي ٱلدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشْدُ مِنَ ٱلْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِٱلطَّاغُوتِ وَيْؤْمِن بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسْتَمْسَكَ بِٱلْعُرْوَةِ ٱلْوُثْقَىٰ لاَ ٱنفِصَامَ لَهَا وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾

قوله تعالى: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّين﴾ الآية:
هذه الآيةُ عند جماعةٍ منسوخةٌ بقوله: ﴿يا أَيُّها النَّبِيُّ جَاهِد الكُفَّارَوالمُنَافِقِين واغلُظْ عَلَيْهِمْ﴾ [التوبة: ٧٣]، جعلوها عامَّة، فلم يرضَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -بعدَ نزولها من العربِ إِلاَّ بالإِسلام وإكراهِهِمْ عليه.
وقد رُوِيَ عن عمرَ أَنه عَرَض على مملوك له الإِسلامَ فأَبى فترَكَهولم يكْرِهْهُ، فهي - على هذا القول - محكمة.
وقد قيلَ: إن الآيةَ مخصوصةٌ نزلت في أهل الكتابِ ألاَّ يُكْرَهوا إذا أَدَّواالجزيةَ، ودلَّ على أنها في أَهلِ الكتاب قولُه: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ جَاهِد الكُفَّارَوالمُنَافِقِين﴾ [التوبة: ٧٣] ولم يذكُرْ (أهلاً لِكتاب).
ودلَّ على ذلك أيضاً قولُه: ﴿قَاتِلُوا الذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ باللهِ وَلاَ باليَومالآخِر ولا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّم اللهُ ورسولُه ولاَ يَدِينونَ دينَ الحقِّ مِن الذِينَ أُوتُواالكِتَابَ حتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَن يَدٍ وهُمْ صَاغِرون﴾ [التوبة: ٢٩]. فقد مَنع مِنقِتالهم وإكراهِهم إذا أَعطَوا الجزيةَ.
وقال ابنُ عباس: الآيةُ محكمةٌ مخضوضةٌ نزلت في أبناء الأنصار، وذلك أن الأنصارَ كان تتزوجُ في اليهودِ بني النضير، وكانت المرأةُ منهم تجعل على نفسِها إن عاشَ لها ولد أَن يُهَوِّدوه، فلما أجْلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بنيالنَّضير، وأَخرجَهم من جزيرة العرب، كان فيهم من أبناء الأنصار، فقالَتالأنصار: لا ندع أبناءَنا، فأَنزَل الله: لا إكراه في الدين، فكان مَن (شاءَلَحِقَ) بأبيه، ومَن شاء لَم يلْحَق.
وقال الشعبي: نزلت هذه الآيةُ في قومٍ من الأنصار كانوا يُهَوِّدونَأبناءَهم قبل الإِسلام، إذ لا يعلَمون ديناً أفضلَ من اليهوديَّةِ، فلمَّا أتى الله بالإِسلام وأسلَم الآباءُ أرادوا أن يُكْرِهوا أبناءَهم على الإِسلام، فأنزل اللهُ:﴿لاَ إكراهَ فِي الدِّين﴾.
وقال أبو عبيد: وَجْهُها عندي أن تكون لأَهل الذِّمَّة، يعني لا يكرهونعلى الإِسلام إذا أَدَّوا الجزية.
فالآية محكمة على هذه الأقوال. وهو الأظهر فيها والأولى.

﴿ وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾

قوله تعالى: ﴿وإن كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ﴾.
قال جماعة: هذه الآيةُ ناسخةٌ لما كانوا عليه من بيع المعسِر فيما عليهمن الدَّيْن، وروي أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمر أعرابياً ببيعِ رجلٍ معسرٍ (كان له عندهديْن) فأقبل الناس يَسومونَه فيه، وقالوا: نريد أن نفديَهُ منك، فقال: واللهما مِنكُم من أحدٍ أحوجَ إلى الله (مني) اذهبْ فقد أَعْتَقْتُك.
ورويَ أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - حدّث أن الخضر سأله مكاتَبٌ في صدقة، وحلَّفه بوجه الله، فأعطاه نفسه إعظاماً لوجه الله فباعه المكاتَب بأربع مائةِدرهم، (ثم أقام) مدَّةً مملوكاً حتى أعتقه مشتريه في قصّة طويلة ذكرنابعضها على المعنى - والله أعلم بصحة ذلك -.
قال أبو محمد: وقد كان يَجبُ ألاَّ تذكرَ هذه الآيةُ في الناسخوالمنسوخ؛ لأنها لم تنسخ قرآناً، ولا سُنَّةً ثَبَتت. إنما نَسَخَت فِعلاً كانوا عليهبغير أمرٍ مِن الله. والقرآنُ كُلُّه (أو أكثرُه) على هذا، نَقَلهُمْ حكمه عما كانواعليه. وقد قال شريح: الآيةُ في الربا خاصة.
والذي عليه جماعةُ العلماء أنها عامةٌ محكمةٌ فِي كُلِّ مُعْسِرٍ عليه دينمن ربا (وغيره)، يُنْظَرُ بالدَّيْنِ إلى يُسْره.

﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَٱكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِٱلْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ ٱللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ ٱلَّذِي عَلَيْهِ ٱلْحَقُّ وَلْيَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإن كَانَ ٱلَّذِي عَلَيْهِ ٱلْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِٱلْعَدْلِ وَٱسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَٱمْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ ٱلشُّهَدَآءِ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا ٱلأُخْرَىٰ وَلاَ يَأْبَ ٱلشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تَسْأَمُوۤاْ أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إِلَىٰ أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَٰدَةِ وَأَدْنَىٰ أَلاَّ تَرْتَابُوۤاْ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوۤاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾

قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا إِذا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمَّىًفاكْتُبُوه﴾.
أَمر اللهُ - جلَّ ذِكْرُه - في هذه الآية بكتابِ الدَّيْنِ للتَّوَثُّق من الذي عليه الدَّيْن لئلا يجحدَ أو يموت.
وقال بعد ذلك: ﴿وأَشْهِدوا إذَا تَبَايَعْتُمْ﴾، فأَمرَ بالإِشهادِ أَمراً عاماً.
وقال: ﴿وَلاَ تَسْأَمُوا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِه﴾، فأَكَّدَ إيجابَ ذلكَ عَلَيهم.
ثم نَسَخَ ذلك وخَفَّفَه بقولِه: ﴿فإِنْ أَمِنَ بَعضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الذِياؤتمِنَ أَمَانَتَه﴾ [البقرة: ٢٨٣] - وهذا قولُ أبي سعيد الخدري والحسن وابن زيد والحكموالشعبي ومالك وجماعةٍ من العلماء -.
فيكونُ هذا - على هذا القول - مِمَّا نُسِخَ فرضُه بغيرِ فرض. بل نحنُمُخَيَّرون في فعل الأوّلِ وتركِه، مَن شاءَ كَتَب (ومَن شاءَ لم يَكتُب) ومنشاءَ أشْهَد، ومن شاء لم يُشْهد.
وقال مالكٌ وغيرُه: هو نَدْبٌ وإرشَادٌ لا فرضٌ. فلا نسخَ فيه - على هذا القول -.
لكن يحتاجُ هذا القولُ إلى دليلٍ يُخْرِجُ لفظَ الأمرِ إلى معنى الإِرشادِوالنَّدب، وإلاَّ فالكلام على (ظاهره أمر) حتم. والذي يدل على أنه ندبٌغيرُ حتم، قولُه: ﴿فإن أَمِنَ بَعْضُكُم بعضاً فَلْيؤدِّ﴾ [البقرة: ٢٨٣] الآية، وقولُه: ﴿وأَحَلَّ اللهُ البَيْعَ وحَرَّمَ الرِّبَا﴾ [البقرة: ٢٧٥] - ولم يقل أَحلَّه ببيِّنة -. وحملُه على الإِرشاد والنّدبقولُ أكثر العلماء وهو الصواب - إن شاء الله -.
قال ابن شعبان. الأمر بالإِشهاد منسوخ بقوله: ﴿وأَحَلَّ الله البيعَ﴾، ولم يذكر معَه إشهاداً.
ويدلُّ على أن الإِشهادَ ليس بفرضٍ إِجماعُ العلماء أنَّ مَن ادّعى علىرجلٍ دَيْناً وقال لم أُشْهِد عليه، أنه يُحكَمُ له عليه باليمين إذا أنكر. فلو كانالإِشهادُ فرضاً لم يُحْكَم له عليه باليمين؛ لأنه ترك الفرضَ الذي لزمَه وأتى بدعوى فدلَّ ذلك على إجازةِ البيع بغيرِ إشهاد.
ولو كان البيعُ لا يجوز إلاَّ بإشهاد لانفسخت كُلُّ صفقةٍ تُعْقَد بلاإِشهاد، لأنهما عقدا على ما لا يَحِلّ إن كانَ الإِشهادُ فرضاً.
فدلَّ ذلكَ على أَنَّه ندبٌ غيرُ حَتْم.
وقالت طائفةٌ مِن العلماء: الآيةُ مُحْكَمةٌ. والإِشهادُ والكتابُ فرضٌوعلى مَنْ له دَيْنٌ أن يَكْتُبَه إذا وجد كاتباً، قالوا: وَقَولُه: ﴿فَإِن أَمِنَبعضُكُم بَعضاً﴾ - الآية - إنما ذلك عِندَ عَدَمِ الكاتب والشُّهودِ في السَّفر- وهو قولٌ رُوِيَ عن ابن عمر وابن عبّاس وأبي موسى الأشعري وابنسيرين وأبي قلابة والضَّحاك وجابر بن زيد ومجاهد -.
وقد قال عطاء: أَشْهِدْ إذا بِعْت (أو اشتريت) بدرهم أو بنصفدرهم، أو بثُلُثِ درهم - ومثلُه عن الشعبي، وإلى هذا القول ذهب داود، وبهقال الطَّبري - يريدون إذا كانَ التَّبايُع بدَيْنٍ في الثمن أو في المثمن -واستدلّوا على ذلك بأَنَّ الله تعالى قد جعل عِوَض الشُّهود أخذَ الرهن إذا عُدِمَالكاتبُ والشهودُ، (أو الكتابُ) والشاهدُ.
ثم ذكرَ الأمانةَ (بعد عدم) الشاهد والكاتب، فيتركُ أخذَ الرَّهنويأتمنه على مَالَهُ عليه. وإِنَّما الأمانة عندَ عدَم (الكاتِب والشَّاهد).
والعفوُ عن أخذ الرَّهن (إذ لا يجد معه رهناً).
والإِشهادُ واجبٌ إذا وجدَ الكاتب والشهودَ أو الشهودَ فقط.
وقال بعضُهم: الآيةُ على الأمر حتى يأتيَ ما يَدُلُّ على أنها ندبٌوإِرشادٌ. وقد ذكرنا ما يدلُّ على ذلك.
قال أبو محمد: وهذا المذهبُ فيه حَرَجٌ عظيم وضيقٌ يحتاجُالشيخُ الكبيرُ والعجوزُ الضعيفةُ القليلةُ الحيلةِ وغيرُهم إذا اشتروا أو باعوا فيالنهار عشرَ مرات فأكثر بثُلث درهم (وبنصف) درهم أن يُشْهِدوا في كل مرَّة إذا لم يقبضوا ما اشتروا في الوقت أو باعوا، وقد قال الله - جلَّذكرُه -: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِن حَرَج﴾ [الحج: ٧٨] فنفى فرضَ ما فيهالحرج، وهذا مِن أَعظَمِ الحَرَج.
وقد قال قومٌ: إنَّ هذه الآيةَ تدلُّ على جوازِ التَّبايُعِ إلى أجل عامَّةًفَتَدُلُّ على جواز السَّلَم في كل شيءٍ فهي ناسخة لنهيه - صلى الله عليه وسلم - عن بيع ماليس عندَك، إذ السَّلَمُ: هو بيعُ ما ليسَ عِندَك.
وقال آخرون: الحديثُ مخصوصٌ في غيرِ السَّلَم بإجازةِ النبي - صلى الله عليه وسلم -(السَّلَمَ) في الشيء المعلومِ إلى أجلٍ معلوم. [فالمعنى: أنه نهى عنبيع ما ليس عندَك مما ليس بسَلَم في شيءٍ معلومٍ إلى أجلٍمعلوم]. فالحديث مخصوصٌ محكم والآية محكمةٌ على النَّدب.

﴿ للَّهِ ما فِي ٱلسَّمَٰوٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِيۤ أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ ٱللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾

قوله تعالى: ﴿وإِن تُبدوا ما فِي أَنفُسِكُم أو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمبهِ الله﴾:
قال ابنُ عباس: هي منسوخةٌ (بقوله): ﴿لا يُكَلَّفُ اللهُ نَفْساً إلاّ وُسْعَها﴾ [البقرة: ٢٨٦].
وقال ابن مسعود: وعن أَحدِهما أيضاً أنه قال: هي محكمةٌ لا منسوخةٌ، وأن الله يحاسبُ كُلَّ نفسٍ بما أخفت فيغفرُ للمؤمنويعاقبُ الكافرَ، وهو قوله: ﴿فيغفرُ لِمن يَشَاء﴾ (وهو المؤمن)﴿ويُعَذِّبُ مَن يَشاء﴾. - وهو الكافر - وهذا قولٌ حسن.
وعن ابن عباسٍ أيضاً أنه قال: الآيةُ مخصوصةٌ محكمةٌ نَزَلَت فيكِتمان الشَّهادةِ خاصةً. ودلَّ على ذلك تَقَدُّمُ ذكر الشهادة والأَمرُ بتركِكِتمانها وأدائها - وهو قولُ عكرمة - فهذا أيضاً قولٌ صالح.

Icon