تفسير سورة الأحقاف

التفسير الوسيط للزحيلي
تفسير سورة سورة الأحقاف من كتاب التفسير الوسيط المعروف بـالتفسير الوسيط للزحيلي .
لمؤلفه وهبة الزحيلي . المتوفي سنة 1436 هـ

تفسير سورة الأحقاف
إثبات وحدانية الله تعالى
إثبات توحيد الله والبعث: هما أساس الخلاف الحادّ مع المشركين، لذا عنيت آيات القرآن الكريم بالرد على مزاعم هؤلاء المشركين حول تعدد الآلهة، وألوهية الأصنام، ونفي البعث، ومحور الرد يعتمد على إثبات القدرة الإلهية، بخلق السماوات والأرض وما بينهما من المخلوقات، وسلب القدرة الخلاقة على الخلق عن الآلهة المزعومة، ونفي إمكان نفعها لعابديها في الدنيا والآخرة، بل تكون أعداء لعابديها، وهذا هو الكلام الفصل في الآيات الآتية في مطلع سورة الأحقاف المكية:
[سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ١ الى ٦]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (٣) قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤)
وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (٥) وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (٦)
«١» «٢» [الأحقاف: ٤٦/ ١- ٦].
(١) أي بالواجب الحسن الذي قد حق أن يكون.
(٢) أي بقية ثابتة من علم صحيح. والأثارة: مصدر كالشجاعة والسماحة: وهي البقية من الشيء وكأنها أثره. [.....]
2409
افتتحت السورة بالأحرف المقطعة للتنبيه على ما يأتي في السورة، ولتحدي العرب بالإتيان بمثل القرآن أو آية منه. وتقترن هذه الأحرف غالبا بالتحدث عن القرآن، لإثبات نزوله من عند الله وإعجازه. وتنزيل القرآن الكامل في كل شيء حاصل من الله عز وجل، القوي الغالب لكل من حادّه أو عارضة، المحكم المتقن، الحكيم في تدبيره وصنعه، وأقواله وأفعاله، يضع كل أمر في موضعه المناسب له.
ما أوجدنا أو أبدعنا السماوات العليا، والأراضي السفلى، إلا بما يتفق مع الواجب الحسن، الذي حق أن يكون، وإلى مدة معينة لا تزيد ولا تنقص، وهي يوم القيامة. والذين جحدوا وحدانية الله: معرضون عن الإنذار، وإنزال الكتب، وإرسال الرسل، فهم لاهون عما يراد بهم.
ثم ردّ الله تعالى على عبدة الأوثان، آمرا نبيه أن يقول للمشركين الوثنيين:
أخبروني عما تدعون من غير الله كالأصنام وأهل القبور، بعد التأمل في الكون، وخلق السماوات والأرض وما بينهما، هل تمكّنوا من إبداع أو خلق شيء في الأرض؟ وهل لهم مشاركة في ملك السماوات والتصرف فيها؟ الواقع أنهم عجزة عجزا تاما عن خلق شيء، أحضروا لي دليلا مكتوبا قبل القرآن، مما نزل على الأنبياء كالتوراة والإنجيل، يدل على صحة عبادة الأصنام؟ أو هل لكم بقية من علم الأنبياء السابقين، أو أحد العلماء؟ يرشد إلى صحة هذا المنهج الذي سرتم عليه، ويقتضي عبادة الأصنام، إن كنتم صادقين في ادعائكم ألوهية الأصنام أو الأوثان؟
والمعنى: لا دليل لكم من النقل أو العقل على ذلك، وليس لكم كتاب منزل قبل القرآن، يتضمن عبادة صنم أو وثن.
وقوله تعالى مِنَ الْأَرْضِ من: للتبعيض، لأن كل ما على وجه الأرض من حيوان ونحوه فهو من الأرض.
2410
ثم وبّخ الله تعالى عبدة الأصنام، مبينا أنه لا أحد أضل ممن هذه صفته، بعبادة الأصنام من دون الله، فإنه يدعو من لا يسمع إلى يوم القيامة، والأصنام غافلون عمن دعاهم، لا يسمعون ولا يعقلون، لكونهم جمادات. والمراد: أنه ليس للأصنام قدرة على شيء، ولا علم لديها بشيء، فهي جمادات، وعبادة الجماد: محض الضلال، فهم لا يتأملون ما هم عليه في دعاء من هذه صفته.
وعبر عن الأصنام بقوله: وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ كخطاب العقلاء، معاملة لها كالعقلاء، في مزاعم أصحابها وعبدتها.
ومما يؤكد نفي العلم الدال على عبادة الأصنام: أنه إذا جمع الناس الكفار، [والأصنام يوم القيامة في موقف الحساب، كانت الأصنام لهم أعداء، تظهر التبري منهم والإنكار عليهم، وتصبّ اللعنة عليهم، وتقول كما حكى القرآن الكريم عنهم:
تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ [القصص: ٢٨/ ٦٣] وكانت الأصنام جاحدين مكذبين بتلك العبادة. وكذلك تتبرأ الملائكة والمسيح عيسى ابن مريم وعزير والشياطين ممن عبدوهم يوم القيامة.
إن العقل الإنساني السوي، وعزة الإنسان وكرامته، يأبى كل ذلك الخضوع الإرادي لصنم أو وثن، لا يضر ولا ينفع، ولا يعقل ولا يسمع، ولا يفهم ولا يستجيب لشيء، ومع كل هذه الأدلة القاطعة والبراهين المحسوسة يظل البدائيون في بعض البلاد الإفريقية وغيرها عاكفين على أصنامهم في القرن العشرين، على الرغم من دراساتهم العلمية في الجامعات الأمريكية والأوربية، بعد عودتهم لبلادهم، كما هو مشاهد ومعروف.
2411
شبهات المشركين
حاول المشركون الدفاع عن أفكارهم ومعتقداتهم، بإلقاء الشبهات الفارغة حول القرآن الكريم، والوحي الإلهي والنبوة، فوصفوا القرآن بالسحر، وكذبوا بالنبوة، فزعموا أن محمدا افترى القرآن من عند نفسه، لا بوحي من ربه، وطالبوا بمعجزات مادية عجيبة للتحدي والإرباك، وبأن يخبرهم عن بعض الغيبيات، واستعلوا على فئة الضعفاء، وأنفوا من مجالستهم، وقالوا: لو كان هذا الدين خيرا ما سبقونا إليه، فأبطل القرآن دعاويهم، وأوضح مهمة القرآن من إنذار الظلمة وتبشير المحسنين، وبيان عاقبة المستقيمين من الخلود في الجنان، وإبعاد المخاوف والأحزان عنهم، قال الله تعالى واصفا ذلك:
[سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ٧ الى ١٤]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٨) قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (١١)
وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (١٢) إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٣) أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤)
«١» «٢» «٣» «٤» [الأحقاف: ٤٦/ ٧- ١٤].
(١) أي واضحات.
(٢) تندفعون إليه وتأخذون فيه.
(٣) مبتدعا ليس له مثيل.
(٤) كذب قديم.
2412
المعنى: إذا تليت آيات القرآن الواضحة على المشركين، وصفوا الحق الذي أتاهم وهو القرآن بأنه سحر واضح، وتمويه كاذب، أي إنهم كفروا وافتروا وكذّبوا.
بل إنهم يقولون: افترى محمد القرآن، واختلقه من عند نفسه، كذبا على الله، فقل أيها الرسول لهم: لو افتريته وكذبت على الله، على سبيل الافتراض، لعاقبني الله تعالى أشد العقاب، ولا تملكون أن تعملوا لي شيئا، أو تسعفوني وتنقذوني. والله أعلم بما تقولون في القرآن وتخوضون فيه، من تكذيبه، ووصفه بالسحر والكهانة، كفى بالله شاهدا صادقا يشهد لي: بأن القرآن من عند الله، وبتبليغه إياكم، ومع هذا فالله غفور لمن تاب وآمن، وصدق بالقرآن وعمل به، وهو رحيم به، حيث لا يعاقبه على ما سبق منه، وفي هذا جمع بين الوعيد والترهيب، والترغيب لهم في التوبة والإنابة.
وقل لهم أيها الرسول على اقتراح المعجزات: لست بأول رسول في العالم، ولا مبتدعا شيئا لا مثيل له، بل هناك رسل كثيرون قبلي، ولا أعلم ما يفعل بي ولا بكم في المستقبل، وإنما أتبع الوحي الذي أنزله الله علي في القرآن والسنة، ولا أبتدع شيئا من عندي، ولست إلا نذيرا لكم، أنذركم عقاب الله وأخوّفكم عذابه، وأوضح ما جاء من عند الله عز وجل.
ثم أكد الله خسارة المشركين، فقل أيها الرسول لهم: أخبروني إن كان هذا القرآن من عند الله في الحقيقة، ثم كفرتم به، وشهد شاهد من بني إسرائيل، العالمين بالتوراة على صحته وعلى ما قلت، فآمن هذا الشاهد: وهو عبد الله بن سلام الذي أسلم بعد الهجرة، ثم تكبرتم عن الإيمان به، فقد ظلمتم أنفسكم، والله لا يوفق الظالمين إلى الخير.
أخرج البخاري ومسلم عن سعد بن أبي وقاص قال: في عبد الله بن سلام نزلت
2413
هذه الآية، وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ، ثم قال مشركو مكة حينما رأوا إيمان جماعة من الفقراء المستضعفين، كعمار وصهيب وابن مسعود: لو كان هذا الدين خيرا، ما سبقنا إليه هؤلاء، وحين لم يهتدوا بالقرآن ظهر عنادهم، وسيقولون بعدئذ: هذا كذب مأثور عن الأقدمين. نزلت كما أخرج الطبري عن قتادة قال: قال ناس من المشركين: نحن أعز، ونحن ونحن، فلو كان خيرا ما سبقنا إليه فلان وفلان، فنزل: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا.. وقال قتادة أيضا: هي مقالة أشراف قريش، يريدون عمارا وصهيبا وبلالا ونحوهم ممن أسلم، وآمن بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.
ومما يدل على أن القرآن حق وصدق، وأنه من عند الله: اعترافكم أيها المشركون بإنزال التوراة على موسى، الذي هو إمام وقدوة يقتدى به في الدين، وهو رحمة لمن آمن به، وهذا القرآن الموافق للتوراة في أصول الشرائع، مصدق لكتاب موسى ولغيره من الكتب المتقدمة، أنزله الله لينذر به النبي من عذاب الله الذين ظلموا أنفسهم، وهم مشركو مكة، ويبشّر به المؤمنين الذين أحسنوا عملا.
ثم ذكر الله تعالى حال المؤمنين، وجزاءهم الأخروي، فإن الذين جمعوا بين التوحيد والاستقامة على منهج الشريعة، لا يخافون من وقوع مكروه بهم في المستقبل، ولا يحزنون من فوات محبوب في الماضي. والخوف: هو الهمّ بما يستقبل، والحزن:
هو الهمّ بما مضى، وقد يستعمل فيما يستقبل استعارة، لأنه حزن لخوف أمر ما.
أولئك المؤمنون الموحدون المستقيمون على أمر الله: هم أهل الجنة ماكثون فيها على الدوام، مقابل ما قدموه من أعمال صالحة في الدنيا، أي إن الجزاء بسبب العمل الصالح في الدنيا، على منهج العدل والحق. وهذا دليل على أن الله تعالى جعل الأعمال أمارات على جزاء الإنسان، لا أنها توجب على الله تعالى شيئا، لكن لا يكون دخول الجنة إلا بفضل من الله وإحسان.
2414
الإيصاء ببرّ الوالدين
- ١- البارّ بوالديه
الوالدان: سبب وجود الولد، ولهما الفضل بتربيته ورعايته، صغيرا وكبيرا، لذا كانت الوصية من الله تعالى لعباده ببر الأبوين، والإحسان إليهما، وكان برّ الوالدين في الشريعة واجبا بآيات كثيرة في القرآن العظيم، وعقوقهما كبيرة من الكبائر،
روى الإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن نبي الله صلّى الله عليه وسلّم كان يقول: «ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد على ولده».
وألزم القرآن الكريم في آياته الأولاد برّ آبائهم وأمهاتهم، ونهى عن عقوقهم، وذكر الله تعالى حق الأمهات على الأبناء والبنات، وجعل الأم في أربع مراتب، والأب في مرتبة واحدة، كما في هذه الآيات:
[سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ١٥ الى ١٦]
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (١٦)
«١» «٢» «٣» [الأحقاف: ٤٦/ ١٥- ١٦].
نزلت هذه الآية- كما ذكر الطبري- في شأن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ثم
(١) فطامه وهو الرضاع المنتهي بالفطام.
(٢) أي كمل عقله ورأيه وقوته، وأقله ثلاثون سنة.
(٣) ألهمني ووفقني ورغبني.
2415
هي تتناول من بعده. وقال السدّي والضحاك: نزلت في سعد بن أبي وقاص، والأولى أنها للعموم الشامل لهاتين الواقعتين وغيرهما.
والمعنى: وصينا الإنسان وأمرناه أن يحسن لوالديه، في الحياة وبعد الموت.
والتوصية: الأمر المقترن بالوعظ والإشعار بالعناية بالشيء المأمور به. والإحسان:
بالحنو عليهما والكلام اللطيف معهما، والإنفاق عليهما عند الحاجة، والبشاشة عند لقائهما. وذكرت الأم مرة في قوله تعالى: بِوالِدَيْهِ ثم ذكرت في مراتب ثلاث أخرى وهي حمل الأم ثم وضعها، ثم رضاعها الولد الذي عبر عنه بالفصال، وهذا يناسب ما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين جعل للأم ثلاثة أرباع البر، والربع للأب. وذلك حين
قال له رجل: «يا رسول الله، من أبرّ؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أباك» «١».
والحمل والوضع بكره، أي بمشقة. حتى إذا بلغ الولد أشده، أي كمل عقله ورأيه، واشتد ساعده، وذلك: ستة وثلاثون، في أقوى الأقوال، وبلغ أربعين سنة، قال: رب ألهمني ووفقني أن أشكر نعمتك التي أنعمت بها علي، وعلى والديّ، من نعمة الهداية إلى الدين الحق والتوحيد، وغير ذلك من نعم الدنيا، كسلامة العقل والصحة، ووفرة العيش، وكمال الخلقة، وحنان الأبوين في الصغر، وألهمني ووفقني للعمل الصالح الذي ترضاه مني: وهو الصلوات، وأصلح لي في ذريتي بجعلهم أهل طاعة وخيرية، ومعنى الآية: أن هكذا ينبغي للإنسان أن يفعل، وهذه وصية الله تعالى في كل الشرائع.
إني تبت من الذنوب، ورجعت إليك من العيوب، وإني من المنقادين لطاعتك، المخلصين لتوحيدك.
(١) رواه البخاري ومسلم، ولفظهما: «من أحق الناس بحسن صحابتي؟».
2416
وجزاء هؤلاء الصالحين: أن الله تعالى يتقبل من أولئك الموصوفين بالصفات المتقدمة أحسن أعمالهم، وهو ما قدّموه من صالح العمل، وعمل الخير في الدنيا، المتفق مع أمر الله تعالى، ويعفو عنهم، ويتجاوز عن سيئاتهم وذنوبهم، فلا يعاقبهم عليها، لأنها تتلاشى بالحسنات، كما قال الله سبحانه: إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ [هود: ١١/ ١١٤]. وهم من جملة أصحاب الجنة، الذين سبقت لهم رحمة الله تعالى، وقد وعد الله أهل الإيمان بالقبول، وعدا صادقا منجزا.
وقوله تعالى: أُولئِكَ بالإشارة إلى البعيد، لبيان علو منزلتهم، وهو إشارة إلى الإنسان المذكور باعتبار الجنس، في قوله تعالى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ وجمعه باعتبار أفراد الإنسان، الذين تحقق فيهم ما ذكر من الأوصاف، بمعرفة حقوق الوالدين، والرجوع إلى الله بسؤال التوفيق للشكر، وذلك مشعر بأن هذه الأوصاف: هي أوصاف الإنسان الكامل. وقوله: أَحْسَنَ ما عَمِلُوا أي حسن ما عملوا، فيشمل الحسن والأحسن. وقوله: وَعْدَ الصِّدْقِ مصدر مؤكد لما قبله، أي وعدهم ذلك وعد الصادق في قوله وفعله، وتنفيذ وعده.
واستفيد من هذه الآية: وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً ومن آية لقمان: وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ [لقمان: ٣١/ ١٤] أن أقل الحمل ستة أشهر، لأن الرضاع يكون في حولين كاملين في آية: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ [البقرة:
٢/ ٢٣٣] فإذا كان أكثر مدة الرضاع حولين كاملين، بقي للحمل من الثلاثين شهرا:
ستة أشهر. وكان علي رضي الله عنه أول من استدل بهاتين الآيتين، للدلالة على أقل مدة الحمل، وهي ستة أشهر.
2417
- ٢- العاق لوالديه
الموازنة أو المقارنة بين الأضداد تظهر الفوارق، وتحمل الإنسان على تبين الاتجاه الأفضل، وترك التوجه الأدنى أو الأسوأ. فإذا كان البارّ بوالديه يتبوأ عند الله المنزلة العالية، ويرضى عنه، ويدخله جنته، فإن العاق لوالديه، في غضب الله وسخطه، وتعرضه لعذاب النار، وتحقق خسارته.
وقد أنزل الله تعالى آيات تفيد العموم في حال البارّ والعاقّ، ولم يصح كون آيات العقوق نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر، بدليل قول عائشة رضي الله عنها: والله ما نزل في آل أبي بكر من القرآن غير براءتي، وإني لأعرف فيمن نزلت هذه الآية:
وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ وهذه هي الآيات الآتية في العاق لوالديه:
[سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ١٧ الى ٢٠]
وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٧) أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (١٨) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٩) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (٢٠)
«١» «٢» «٣» «٤» [الأحقاف: ٤٦/ ١٧- ٢٠].
قال ابن عطية: الأصوب أن تكون هذه الآية في أهل هذه الصفات، ولم يقصد بها عبد الرحمن بن أبي بكر ولا غيره من المؤمنين، والدليل القاطع على ذلك قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ وكان عبد الرحمن
(١) كلمة تفيد التضجر.
(٢) أباطيلهم التي سطروها في الكتب.
(٣) الهوان والذل.
(٤) تخرجون عن طاعة الله.
2418
رضي الله عنه من أفضل الصحابة ومن الأبطال، وممن له في الإسلام غناء، ويكفيه مقامه مع مروان يوم اليمامة وغيره.
والمعنى: والذي قال لأبويه حينما دعواه إلى الإيمان بالله واليوم الآخر: أفّ لكما، أي أتضجر وأتبرم مما تقولانه، أتخبرانني أنني سأبعث من قبري بعد الموت لموعد الله؟ إن هذا البعث مستنكر، فقد مضت الأمم الكثيرة من قبلي، كعاد وثمود، ماتوا ولم يبعث منهم أحد. ووالده يسألان الله أن يوفقه للإيمان، ويقولان له:
ويلك آمن بالله وبالبعث، أي هلاكا لك، إن وعد الله حق لا خلف فيه، والمراد:
الحث على الإيمان، فيقول هذا الولد مكذبا لما قال والده: ما هذا الذي تقولانه من البعث إلا أباطيل السابقين التي سطروها في الكتب، والبعث باطل في زعمه.
فكان جزاء هذا القائل ما ذكر الله تعالى: أولئك القائلون هذه المقالة هم الذين وجب عليهم العذاب، واستحقوا غضب الله، في جملة الأمم الكافرة المتقدمة، فهم منضمون في ذلك إليهم، سواء كانوا من الجن، أو الإنس الذين كذبوا الرسل، وهم من جملة الخاسرين، الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة. وقوله: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ يقتضي أن الجن يموتون كما يموت البشر قرنا بعد قرن.
ثم ذكر الله تعالى مراتب كل من فريقي الإحسان والإساءة، فلكل فريق منهم مراتب ومنازل عند الله يوم القيامة، أما المحسنون الأبرار: فهم في المراتب العليا، وأما المسيئون الأشرار: فهم في المراتب الدنيا. والله يوفي الفريقين جزاء أعمالهم من الخير والشر، ومن أجل ما عملوا منها، وليوفيهم جزاء أعمالهم بنحو تام، المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، وهم لا يظلمون شيئا بنقص ثواب، أو زيادة عقاب.
فقوله تعالى: وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ يعني لكل من المحسنين والمسيئين منازل.
وأحوال العقاب وأهوال القيامة شديدة كئيبة، فاذكر أيها النبي لقومك حين
2419
تعرض النار على الكفار، أي يعذبون فيها،. فهو عرض بالمباشرة، فيقال لهم تقريعا وتوبيخا: استوفيتم لذاتكم في الدنيا، وتمتعتم بها، باتباع الشهوات واللذات، وصرفتموها في معاصي الله سبحانه، دون مبالاة بالذنب، ففي هذا اليوم تجازون بالعذاب الشديد الذي فيه مذلة وهوان، بسبب تكبركم عن عبادة الله، والإيمان به وتوحيده بغير حق، وخروجكم من طاعة الله إلى دائرة الفسق والفجور، فقد آثرتم اللذة الفانية على الدائمة.
و (الطيبات) : الملاذ. و (عذاب الهون) العذاب الذي اقترن به هوان، وهو عذاب العصاة المواقعين ما قد نهوا عنه، وهذا واضح في الدنيا، فعذاب المحدود في معصية، كالحرابة ونحوها مقترن بالهوان، وعذاب المقتول في حرب ليس فيه هوان. والهون والهوان: بمعنى واحد.
وهذه الآية، وإن كانت في الكفار، فهي رادعة لأولي العقل (النّهى) من المؤمنين، عن الشهوات واستكمال الطيبات. ومن ذلك قول عمر رضي الله عنه: «أتظنون أنّا لا نعرف طيب الطعام؟ ذلك لباب (خالص) البر (القمح) بصغار المعزى، ولكنا رأينا الله تعالى نعى على قوم أنهم أذهبوا طيباتهم في حياتهم الدنيا». ذكر هذا في كلامه مع الربيع بن زياد.
العبرة من قصة هود عليه السّلام
لقد أورد القرآن الكريم أخبار مجموعة من قصص الأنبياء للعبرة والعظة، على النحو الجماعي والفردي. ومن هذه القصص قصة هود مع قومه عاد، وعاد قبيلة عربية من إرم، كانوا يسكنون الأحقاف: واد باليمن فيه منازلهم بين عمان ومهرة، والغاية من هذه القصة تذكير أهل مكة وأمثالهم، بقوم هود وما حل بهم، وقد كانوا
2420
أشد منهم قوة وأكثر جمعا، وقد أبادهم الله بالريح الصرصر العاتية، فهل من عاقل متعظ؟ هذا ما ذكرته الآيات الآتية:
[سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ٢١ الى ٢٨]
وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٢١) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٢) قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٣) فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٤) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلاَّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (٢٥)
وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٢٦) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٧) فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٨)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» «٧» [الأحقاف: ٤٦/ ٢١- ٢٨].
أمر الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلّم بذكر قصة هود عليه السّلام مع قومه عاد، على جهة المثال لقريش وأشباهها. اذكر أيها النبي لقومك أخا عاد: وهو هود عليه السّلام، وهذه الأخوة هي أخوة القرابة، لأن هودا عليه السّلام كان من أشراف قبيلته عاد، وليست أخوة في الدين، وذلك حين أنذر، أي خوّف قومه في وادي الأحقاف بحضرموت، وأخبرهم أن الرسل قبله وبعده أنذروا مثل إنذاره، وهو ألا يعبدوا غير الله تعالى، ولا يشركوا به شيئا، فإني أخشى أن يحل بكم عذاب شديد عظيم الأهوال، والنذر: جمع نذير، اسم فاعل، أي منذر.
(١) واد باليمن كما ذكرت.
(٢) لتصرفنا عن عبادة الآلهة. [.....]
(٣) سحابا عرض في أفق السماء.
(٤) نزل بهم.
(٥) بيّناها لهم.
(٦) كذبهم.
(٧) أي وافتراؤهم بجعل (ما) مصدرية، أو يفترونه بجعل (ما) بمعنى الذي.
2421
فأجابوه بقولهم: لقد أتيتنا لتصرفنا عن عبادة آلهتنا إلى عبادة الله، فأتنا بما تعدنا من العذاب العظيم، إن كنت صادقا في قولك ووعيدك.
فرد هود عليه السّلام قائلا: إنما العلم بوقت نزول العذاب محصور بالله تعالى، لا عندي، وشأني مقصور على أن أبلغكم ما أرسلت به من ربكم من الإنذار والتحذير من العذاب، لا أن آتي به، فليس ذلك في مقدوري، ولكني أراكم قوما تجهلون المخاطر في المستقبل، إذا أصررتم على الكفر، ولم تهتدوا بما جئتكم به.
وجاءت أمارات العذاب، حيث رأوا سحابا متجها نحو أوديتهم، فقالوا: هذا سحاب ممطر، ففرحوا به واستبشروا، بعد أن امتنع عنهم المطر، فلم يكن مطر رحمة، وإنما مطر عذاب، وهذا هو العذاب الذي تعجلتم بطلبه، وهو ريح سموم فيها عذاب أليم، وهو المذكور في الآية السابقة حين قلتم: فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ وضمير (رأوه) عائد على غير مذكور، دل عليه قوله: عارِضاً وهو الشيء المرئي الطالع عليهم، فصار في حكم المعلوم.
وتلك الريح تخرب وتهلك كل شيء مرت به، من نفوس وأموال، بإذن الله في ذلك، فأصبح قوم عاد جثثا هامدة، وبادوا عن آخرهم، ولم تبق لهم بقية، وأصبحوا لا يرى إلا آثار مساكنهم، وهذا الحكم كحكم كل من كذب رسلنا وخالف أمرنا، ومثل هذا الجزاء نجازي كل قوم أجرموا، فلم يؤمنوا بالله، والمقصود: تخويف أهل مكة وأمثالهم.
وقوله: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ ظاهره العموم، ومعناه الخصوص في كل ما أمرت بتدميره.
ولقد مكنا قوم عاد والأمم السالفة في الدنيا، من الأموال والأولاد، وقوة الأبدان، وطول العمر، بمقدار لم نجعل لكم يا أهل مكة مثله ولا نحوه، فقد كانوا
2422
أشد منكم قوة، وأكثر أموالا وأولادا، وأعز جانبا، وأمنع سلطانا. وإنهم أعرضوا عن هداية الله، على الرغم من منحهم السمع الجيد، والبصر السليم، والفؤاد الواعي، فما أفادهم كل ذلك شيئا، لعدم إعمال تلك الحواس في المفيد، لأنهم كانوا ينكرون آيات الله، وأحاط أو نزل بهم العذاب الذي كانوا يستعجلونه بطريق الاستهزاء بقولهم: فَأْتِنا بِما تَعِدُنا.
ومن الواجب على العقلاء الاتعاظ بهذا المصير، فلقد أهلكنا يا أهل مكة ما حولكم من البلاد، من القرى المكذبة بالرسل، مثل قرى ثمود، ومدائن لوط، ومدين في جوار الحجاز، وأهل سبأ باليمن، وبيّنا الآيات وأوضحناها، لكي يرجعوا عن كفرهم، فلم يرجعوا.
فهلا نصرتهم آلهتهم التي تقربوا بها إلى الله لتشفع لهم، ودفعت الهلاك عنهم، بل غابوا وذهبوا عنهم، ولم يحضروا لنصرتهم، وعند الحاجة إليهم، وسبب ذلك الضياع وانعدام نفع آلهتهم: هو إفكهم، أي كذبهم، وما كانوا يفترون، أي يكذبون ويختلقون. وفي هذا توبيخ لأهل مكة، وتنبيه إلى أن أصنامهم لا تنفعهم شيئا، فلو نفعت لأغنت من كان قبلهم.
وفادة الجن على النبي صلّى الله عليه وسلّم
الرسول محمد صلّى الله عليه وسلّم رسول لجميع العالمين من الإنس والجن، وقد بلّغ رسالته للفريقين، فكان فيهما من آمن، ومن كفر، فالمؤمن مثاب على إيمانه وعمله الصالح، والكافر معاقب على كفره وجحوده برسالة هذا النبي. أما طريقة التبليغ للإنس فمعروفة، وهي التبشير والإنذار، وإيضاح الدلالات الدالة على وجود الله وتوحيده ووجوب طاعته، بالحجة والإقناع، وأما طريقة تبليغ الجن فمجهولة لدينا، ولا
2423
يدركها العقل، وإنما نؤمن بما جاء في الخبر الصحيح، إما من القرآن الكريم وإما من السنة النبوية. وهذه آي تصف قصة الجن ووفادتهم على النبي صلّى الله عليه وسلّم.
[سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ٢٩ الى ٣٢]
وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (٢٩) قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٠) يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٣١) وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٢)
«١» «٢» «٣» «٤» [الأحقاف: ٤٦/ ٢٩- ٣٢].
أخرج ابن أبي شيبة عن ابن مسعود قال: إن الجن هبطوا على النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهو يقرأ القرآن ببطن نخلة، فلما سمعوه قالوا: أنصتوا، وكانوا تسعة، أحدهم زوبعة، فأنزل الله تعالى: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا الآية، إلى قوله: فِي ضَلالٍ مُبِينٍ.
وهذا تأنيب للمشركين حيث إن الجن آمنوا، وهم كفروا.
والمعنى: اذكر أيها النبي لقومك حين وجهنا إليك نفرا من الجن، لاستماع القرآن والاهتداء به، فلما حضروا تلاوته، قالوا: أنصتوا، لكي يفهموا ويتدبروا، فلما انتهى النبي صلّى الله عليه وسلّم من تلاوة القرآن في صلاة الفجر، عادوا إلى قومهم، مخوفين إياهم من مخالفة القرآن، ومحذرين لهم من العذاب. وكان هذا الوفد: من جن نصيبين أو من نينوى بالموصل، بعد رجوع النبي صلّى الله عليه وسلّم من الطائف لدعوتهم إلى الإسلام، وعددهم تسعة، وذلك في بطن نخلة: على بعد نحو ليلة من مكة، على طريق الطائف.
(١) أي جماعة دون العشرة.
(٢) انتهى أو فرغ من الشيء.
(٣) يحمكم من عذاب مؤلم.
(٤) أنصار يدفعون عنه العذاب.
2424
وفي قولهم: أَنْصِتُوا تأدب مع العالم، وتعليم كيف يكون التعليم.
وأكدت سورة الجن على هذا، باستماعهم القرآن وإيمانهم به، ومطلعها: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (١) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (٢) [الجن: ٧٢/ ١- ٢].
وأدى وفد الجن هذا مهمة تبليغ القرآن ورسالته إلى قومهم، فقالوا: يا قومنا، إننا سمعنا كتابا أنزله الله من بعد توراة موسى، مصدقا لما قبله من الكتب المنزلة على الرسل، يرشد إلى الدين الحق، وإلى طريق قويم نافع في العقيدة والعبادة والمعاملة والخبر.
وخصصوا موسى عليه السّلام بالذكر، لأحد أمرين: إما لأن هذه الطائفة من الجن كانت تتدين بدين اليهود، وإما لأنهم كانوا يعرفون أن موسى عليه السّلام قد ذكر محمدا صلّى الله عليه وسلّم وبشّر به.
وأضافت الجن قائلين: يا قومنا، أجيبوا داعي الله: وهو رسول الله خاتم النبيين، أو أجيبوا القرآن الداعي إلى توحيد الله وعبادته وطاعته، يغفر لكم بعض ذنوبكم التي هي من حقوق الله، ويحمكم ويمنعكم من عذاب موجع مؤلم، هو عذاب النار، والمؤمن يدخل الجنة، وتحميه الحفظة من النار.
وفي هذه الآية دلالة واضحة على أن الله تعالى أرسل محمدا صلّى الله عليه وسلّم إلى الثقلين: الجن والإنس، حيث دعاهم إلى الله تعالى، وقرأ عليهم سورة الرحمن التي فيها خطاب الفريقين، فكان النبي إذا قرأ: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٣) [الرحمن: ٥٥/ ١٣] قالوا: لا شيء من آلائك ربنا نكذّب، ربنا لك الحمد. ولما ولّت هذه الجماعة تفرقت على البلاد منذرة للجن، قال قتادة: ما أسرع ما عقل القوم.
وأتم الجن كلامهم لقومهم بعد الأمر بإجابة داعي الله، وبالتحذير من مخالفته،
2425
قالوا: ومن لا يجب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم محمدا إلى توحيد الله وطاعته، فلا يتمكن من الإفلات من الله، ولا يعجز الله أبدا، والمعجز: الذاهب في الأرض، لتعجيز طالبه، وليس له من غير الله أنصار ينصرونه ويمنعونه من عذاب الله، أولئك الذين لا يجيبون داعي الله في خطأ واضح، وانحراف ظاهر عن الحق، وهذا تهديد ووعيد، فجمع الجن في كلامهم على طريقة القرآن بين الترغيب والترهيب. ثم توالت وفود الجن إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وفدا وفدا.
إثبات عقيدة البعث والأمر بالصبر
أثبت الله تعالى بالأدلة القاطعة مسألة المعاد بعد الموت، لأن المشركين الوثنيين كانوا ينكرونها، وذلك في مناسبات مختلفة، ومنها في سورة الأحقاف التي تهدف إلى إثبات أصول العقيدة الثلاثة: وهي التوحيد، والنبوة، والبعث، وناسب هذه الأصول الأمر بالصبر في الدعوة إلى هذه الأصول، كما صبر الأنبياء والرسل الكرام في دعوتهم، لتعليمنا وعظتنا. وهذا ما ذكرته الآيات الآتية:
[سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ٣٣ الى ٣٥]
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٣) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٤) فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (٣٥)
«١» «٢» «٣» [الأحقاف: ٤٦/ ٣٣- ٣٥].
الآية الأولى: أَوَلَمْ يَرَوْا خطاب لقريش، لأنهم قالوا: إن الأجساد لا يمكن أن
(١) ولم يعجز عنه ولم يضعف.
(٢) لا تتعجل إنزال العذاب بقومك.
(٣) خبر لمبتدأ محذوف تقديره هذا بلاغ، فحذف المبتدأ للعلم به.
2426
تبعث ولا تعاد، وهم مع ذلك معترفون بأن الله تعالى خلق السماوات والأرض، فأقيمت عليهم الحجة من أقوالهم.
والرؤية في قوله: أَوَلَمْ يَرَوْا رؤية القلب، أي أولم يتفكر القرشيون المنكرون للبعث، ويعلموا أن الذي خلق الكون من السماوات والأرض في ابتداء الخلق، ولم يعجز عن ذلك ولم يضعف عن الخلق، بل قال لها: كوني فكانت، بقادر على أن يحيي الموتى من قبورهم مرة أخرى؟! بلى (جواب بعد النفي المتقدم) أي بل إن الله قادر على ذلك كله، إنه سبحانه وتعالى قادر على أي شيء أراد خلقه، ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
وبعد لفت النظر هذا، جاء وعيد الكفار من قريش وسواهم، واذكر أيها الرسول لقومك يوم يعذّب الكافرون بالله في نار جهنم، ويعرضون مباشرة عليها، ويقال لهم توبيخا وتقريعا: أليس هذا العذاب الذي تعذّبونه حقا وعدلا وواقعا لا شك فيه، وقد كنتم تكذبون به؟ فيجيبون: بلى وربنا، فذلك تصديق حيث لا ينفع. قال الحسن البصري: إنهم ليعذّبون في النار، وهم راضون بذلك لأنفسهم، فيعترفون أنه العدل، فيقول لهم المحاور من الملائكة عند ذلك: فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ أي يقال لهم على سبيل الإهانة والتوبيخ: ذوقوا عذاب النار، بسبب كفركم به في الدنيا وإنكاركم له.
والداعية الناجح: هو الذي لم يترك سبيلا للإصلاح والإرشاد إلا سلكه، وتدرّع بالصبر، ولم يغضب ولم يضجر، لذا أمر الله نبيه بأن يصبر على تكذيب قومه، قائلا:
فاصبر يا محمد على تكذيب قومك كصبر أولي الجد والعزيمة من الرسل، وأنت منهم، وهم أصحاب الشرائع الكبرى: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم، ولا تستعجل يا محمد لهم العذاب، فإنه واقع بهم حتما.
2427
ومفعول الاستعجال محذوف: وهو العذاب، معناه: لا تستعجل لهم عذابا، فإنهم إليه صائرون.
كأن الكافرين حين يشاهدون الوعيد المحقق بالعذاب، لم يمكثوا في الدنيا إلا قدر ساعة من الساعات، لاحتقارهم ذلك، ولما يشاهدونه من الأهوال العظام، كما جاء في آية أخرى: قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (١١٢) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (١١٣) [المؤمنون: ٢٣/ ١١٢- ١١٣]. وآية: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (٤٦) [النازعات: ٧٩/ ٤٦] وهذا القرآن العظيم الذي يتم الوعظ به: تبليغ كاف، يقطع حجة الكافرين، والبلاغ: بمعنى التبليغ، فالقرآن بلاغ، كما قال تعالى: هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (٥٢) [إبراهيم: ١٤/ ٥٢]. وقال سبحانه:
إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (١٠٦) [الأنبياء: ٢١/ ١٠٦].
ولا يهلك الله بعذابه إلا القوم الفسقة الخارجين عن الطاعة، المنغمسين في المعصية، وهذا من عدل الله تعالى ألا يعذّب أحدا إلا بذنب. وفي هذه الآية وعيد عظيم وإنذار بيّن، لأن الله تعالى جعل الحسنة بعشر أمثالها، والسيئة بمثلها، وأمر بالطاعة ووعد عليها بالجنة، ونهى عن الكفر وأوعد عليه بالنار،
قال صلّى الله عليه وسلّم فيما أخرجه مسلم والدارمي وأحمد: «لا يهلك على الله إلا هالك».
قال الثعلبي: يقال إن قوله تعالى: فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ أرجى آية في كتاب الله تعالى للمؤمنين.
2428
Icon