تفسير سورة الطور

الكشاف أو تفسير الزمخشري
تفسير سورة سورة الطور من كتاب الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل المعروف بـالكشاف أو تفسير الزمخشري .
لمؤلفه الزمخشري . المتوفي سنة 538 هـ
مكية ‏. ‏ وهي تسع وأربعون آية

سورة الطور
مكية، وهي تسع وأربعون، وقيل: ثمان وأربعون آية [نزلت بعد السجدة] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الطور (٥٢) : الآيات ١ الى ١٠]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَالطُّورِ (١) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (٢) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (٣) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (٤)
وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (٥) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (٦) إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (٧) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (٨) يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (٩)
وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (١٠)
الطور: الجبل الذي كلم الله عليه موسى وهو بمدين. والكتاب المسطور في الرق المنشور، والرق: الصحيفة. وقيل: الجلد الذي يكتب فيه الكتاب الذي يكتب فيه الأعمال. قال الله تعالى وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً وقيل: هو ما كتبه الله لموسى وهو يسمع صرير القلم. وقيل: اللوح المحفوظ. وقيل القرآن، ونكر لأنه كتاب مخصوص من بين جنس الكتب، كقوله تعالى وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها. وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ الضراح «١» في السماء الرابعة. وعمرانه: كثرة غاشيته من الملائكة. وقيل: الكعبة لكونها معمورة بالحجاج والعمار والمجاورين وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ السماء وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ المملوء. وقيل: الموقد، من قوله تعالى وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ وروى أن الله تعالى يجعل يوم القيامة البحار كلها نارا تسجر بها نار جهنم. وعن على رضى الله عنه أنه سأل يهوديا: أين موضع النار في كتابكم؟ قال: في البحر.
قال على: ما أراه إلا صادقا، «٢» لقوله تعالى وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ. لَواقِعٌ لنازل. قال
(١). قوله «والبيت المعمور الضراح في السماء» في الصحاح «الضراح» بالضم: بيت في السماء، وهو البيت المعمور. عن ابن عباس. (ع)
(٢). أخرجه الطبري من رواية داود بن أبى هند عن سعيد بن المسيب قال: قال على لرجل من اليهود: أين جهنم؟ قال: البحر. قال. ما أراه إلا صادقا: وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ، وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ.
جبير بن مطعم: أتيت رسول الله ﷺ أكلمه في الأسارى فألفيته في صلاة الفجر يقرأ سورة الطور، فلما بلغ: إن عذاب ربك لواقع: أسلمت خوفا من أن ينزل العذاب «١» تَمُورُ السَّماءُ تضطرب وتجيء وتذهب. وقيل: المور تحرك في تموّج، وهو الشيء يتردد في عرض كالداغصة في الركبة «٢».
[سورة الطور (٥٢) : الآيات ١١ الى ١٦]
فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١١) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (١٢) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (١٣) هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٤) أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (١٥)
اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٦)
غلب الخوض في الاندفاع في الباطل والكذب. ومنه قوله تعالى وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ، وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا الدع: الدفع العنيف، وذلك أن خزنة النار يغلون أيديهم إلى أعناقهم، ويجمعون نواصيهم إلى أقدامهم، ويدفعونهم إلى النار دفعا على وجوههم وزخا في أقفيتهم «٣». وقرأ زيد بن علىّ: يدعون، من الدعاء أى يقال لهم: هلموا إلى النار، وادخلوا النار دَعًّا مدعوعين، يقال لهم: هذه النار أَفَسِحْرٌ هذا يعنى كنتم تقولون للوحى هذا سحر، أفسحر هذا؟ يريد: أهذا المصداق أيضا سحر؟ ودخلت الفاء لهذا المعنى أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ كما كنتم لا تبصرون في الدنيا، يعنى: أم أنتم عمى عن المخبر عنه كما كنتم عميا عن الخبر، وهذا تقريع وتهكم سَواءٌ خبر محذوف، أى: سواء عليكم الأمران: الصبر وعدمه، فإن قلت: لم علل استواء الصبر وعدمه بقوله إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ؟
قلت: لأنّ الصبر إنما يكون له مزية على الجزع، لنفعه في العاقبة بأن يجازى عليه الصابر جزاء الخير، فأما الصبر على العذاب الذي هو الجزاء ولا عاقبة له ولا منفعة، فلا مزية له على الجزع.
[سورة الطور (٥٢) : الآيات ١٧ الى ٢٠]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (١٧) فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (١٨) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٩) مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٢٠)
(١). لم أجده هكذا. والذي جاء في الصحيح «أن ذلك في صلاة المغرب» وأنه قال لما سمع أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ- إلى آخره: كاد قلبي يطير».
(٢). قوله «كالداغصة في الركبة» هي العظم المدور الذي يتحرك على رأس الركبة، كما في الصحاح. (ع) [.....]
(٣). قوله «وزخا في أقفيتهم» في الصحاح «زخه» أى: دفعه في وهدة اه. (ع)
فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ في أية جنات وأى نعيم، بمعنى الكمال في الصفة. أو في جنات ونعيم مخصوصة بالمتقين خلقت لهم خاصة. وقرئ: فاكهين وفكهين وفاكهون: من نصبه حالا جعل الظرف مستقرا، ومن رفعه خبرا جعل الظرف لغوا، أى: متلذذين بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ. فإن قلت: علام عطف قوله وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ؟ قلت: على قوله فِي جَنَّاتٍ أو على آتاهُمْ رَبُّهُمْ على أن تجعل ما مصدرية، والمعنى: فاكهين بإيتائهم ربهم ووقايتهم عذاب الجحيم. ويجوز أن تكون الواو للحال وقد بعدها مضمرة. يقال لهم كُلُوا وَاشْرَبُوا أكلا وشربا هَنِيئاً أو طعاما وشرابا هنيئا، وهو الذي لا تنغيص فيه. ويجوز أن يكون مثله في قوله:
هنيئا مريئا غير داء مخامر لعزّة من أعراضنا ما استحلّت «١»
أعنى: صفة استعملت استعمال المصدر القائم مقام الفعل مرتفعا به ما استحلت كما يرتفع بالفعل» كأنه قيل: هناء عزة المستحل من أعراضنا، وكذلك معنى هَنِيئاً هاهنا: هناءكم الأكل والشرب.
أو هناءكم ما كنتم تعملون، أى: جزاء ما كنتم تعملون. والباء مزيدة كما في كَفى بِاللَّهِ والباء متعلقة بكلوا واشربوا إذا جعلت الفاعل الأكل والشرب. وقرئ: بعيس «٢» عين.
[سورة الطور (٥٢) : الآيات ٢١ الى ٢٤]
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (٢١) وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢٢) يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (٢٣) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (٢٤)
(١).
يكلفها الخنزير شتمي وما بها هواني ولكن للمليك استذلت
هنيئا مريئا غير داء مخامر لعزة من أعراضنا ما استحلت
لكثير بن صخر صاحب عزة، كان ينشد أشعاره في حلقة البصرة، فمرت به مع زوجها فقال لها: لتغضبنه أو لأضربنك، فقالت: كذا وكذا بفم الشاعر، فقال ذلك. وقيل: خرجت تطلب سمنا فصادفها كثير فتحادثا، وسكب من أداوة معه في إنائها حتى بل ثوبها، وأنكر ذلك زوجها، فقصت عليه القصص، فأمرها بشتمه فقال ذلك. والمليك: مالك أمرها. وما بها هواني: أى ليست مريدة له. وهنيئا مريئا: صفتان مستعملتان استعمال المصدر النائب عن فعله، وما استحلت: مرفوع محلا بأحدهما على التنازع، وغير نصب على الحال. ومن أعراضنا بيان لما بعده. والهنيء والمريء: الذي لا تنغيص فيه، المحمود العاقبة، والمخامر: المخالط، وشبه عرضه بالشراب السائغ على طريق المكنية. وهنيئا مريئا: تخييل. ويجوز أن التجوز فيهما على طريق التصريحية.
(٢). قوله «وقرئ بعيس» في الصحاح: العيس- بالكسر-: الإبل البيض يخالط بياضها شيء من الشقرة، واحدها: أعيس، والأنثى: عيساء، ويقال: هي كرائم الإبل اه ولعله هنا استعارة للنساء. (ع)
410
وَالَّذِينَ آمَنُوا معطوف على بِحُورٍ عِينٍ أى قرناهم بالحور وبالذين آمنوا، أى:
بالرفقاء والجلساء منهم، كقوله تعالى إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ فيتمتعون تارة بملاعبة الحور، وتارة بمؤانسة الإخوان المؤمنين وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله يرفع ذرية المؤمن في درجته وإن كانوا دونه لتقرّبهم «١» عينه» ثم تلا هذه الآية. فيجمع الله لهم أنواع السرور بسعادتهم في أنفسهم، وبمزاوجة الحور العين، وبمؤانسة الإخوان المؤمنين، وباجتماع أولادهم ونسلهم بهم. ثم قال بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ أى بسبب إيمان عظيم رفيع المحل، وهو إيمان الآباء ألحقنا بدرجاتهم ذريتهم وإن كانوا لا يستأهلونها، تفضلا عليهم وعلى آبائهم، لنتم سرورهم ونكمل نعيمهم. فإن قلت: ما معنى تنكير الايمان؟
قلت: معناه الدلالة على أنه إيمان خاص عظيم المنزلة. ويجوز أن يراد: إيمان الذرية الداني المحل:
كأنه قال: بشيء من الإيمان، لا يؤهلهم لدرجة الآباء ألحقناهم بهم. وقرئ: وأتبعتهم ذريتهم واتبعتهم ذريتهم. وذرياتهم: وقرئ: ذرياتهم، بكسر الذال. ووجه آخر: وهو أن يكون وَالَّذِينَ آمَنُوا مبتدأ خبره بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وما بينهما اعتراض وَما أَلَتْناهُمْ وما نقصناهم.
يعنى: وفرنا عليهم جميع ما ذكرنا من الثواب والتفضل، وما نقصناهم من ثواب عملهم من شيء.
وقيل معناه: وما نقصناهم من ثوابهم شيئا نعطيه الأبناء حتى يلحقوا بهم، إنما ألحقناهم بهم على سبيل التفضل. قرئ: ألتناهم، وهو من بابين: من ألت يألت، ومن ألات يليت، كأمات يميت.
وآلتناهم، من آلت يؤلت، كآمن يؤمن. ولتناهم، من لات يليت. وولتناهم، من ولت يلت.
ومعناهنّ واحد كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ أى مرهون، كأن نفس العبد رهن عند الله بالعمل الصالح الذي هو مطالب به، كما يرهن الرجل عبده بدين عليه، فإن عمل صالحا فكها وخلصها، وإلا أوبقها وَأَمْدَدْناهُمْ وزدناهم في وقت بعد وقت يَتَنازَعُونَ يتعاطون ويتعاورون هم وجلساؤهم من أقربائهم وإخوانهم كَأْساً خمرا لا لَغْوٌ فِيها في شربها وَلا تَأْثِيمٌ أى لا يتكلمون في أثناء الشرب بسقط الحديث وما لا طائل تحته كفعل المتنادمين في الدنيا على الشراب في سفههم وعربدتهم، ولا يفعلون ما يؤثم به فاعله، أى: ينسب إلى الإثم
(١). أخرجه البزار وابن عدى. وأبو نعيم في الحلية وابن مردويه. والثعلبي من طريق قيس بن الربيع عن عمرو بن مرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مرفوعا. قال البزار تفرد قيس برفعه. ورواه الثوري موقوفا ورواه الحاكم والبيهقي في الاعتقاد والطبري وابن أبى حاتم من طريق الثوري عن عمرو بن مرة به موقوفا
411
لو فعله في دار التكليف من الكذب والشتم والفواحش، وإنما يتكلمون بالحكم والكلام الحسن متلذذين بذلك، لأنّ عقولهم ثابتة غير زائلة، وهم حكماء علماء. وقرئ: لا لغو فيها ولا تأثيم غِلْمانٌ لَهُمْ أى مملوكون لهم مخصوصون بهم مَكْنُونٌ في الصدف، لأنه رطبا أحسن وأصفى. أو مخزون لأنه لا يخزن إلا الثمين الغالي القيمة. وقيل لقتادة: هذا الخادم فكيف المخدوم؟ فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده إن فضل المخدوم على الخادم كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب» «١» وعنه عليه السلام: «إن أدنى أهل الجنة منزلة من ينادى الخادم من خدامه فيجيبه ألف ببابه: لبيك لبيك» «٢».
[سورة الطور (٥٢) : الآيات ٢٥ الى ٢٨]
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٥) قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (٢٦) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (٢٧) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (٢٨)
يَتَساءَلُونَ يتحادثون ويسأل بعضهم بعضا عن أحواله وأعماله وما استوجب به نيل ما عند الله مُشْفِقِينَ أرقاء القلوب من خشية الله. وقرئ، ووقانا، بالتشديد عَذابَ السَّمُومِ عذاب النار ووهجها ولفحها. والسموم: الريح الحارّة التي تدخل المسام فسميت بها نار جهنم لأنها بهذه الصفة مِنْ قَبْلُ من قبل لقاء الله تعالى والمصير إليه، يعنون في الدنيا نَدْعُوهُ نعبده ونسأله الوقاية إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ المحسن الرَّحِيمُ العظيم الرحمة الذي إذا عبد أثاب وإذا سئل أجاب. وقرئ: أنه بالفتح، بمعنى: لأنه.
[سورة الطور (٥٢) : آية ٢٩]
فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (٢٩)
فَذَكِّرْ فاثبت على تذكير الناس وموعظتهم، ولا يثبطنك قولهم: كاهن أو مجنون، ولا تبال به فإنه قول باطل متناقض، لأنّ الكاهن يحتاج في كهانته إلى فطنة ودقة نظر، والمجنون مغطى على عقله. وما أنت بحمد الله وإنعامه عليك بصدق النبوّة ورجاحة العقل أحد هذين.
[سورة الطور (٥٢) : الآيات ٣٠ الى ٤٣]
أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (٣٠) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (٣١) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٣٢) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٣٤)
أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (٣٥) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (٣٦) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (٣٧) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨) أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (٣٩)
أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٠) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤١) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٣)
(١). أخرجه عبد الرزاق أخبرنا معمر عن قتادة به قال فذكره، وأخرجه الثعلبي من رواية الحسن مرسلا
(٢). أخرجه الثعلبي من رواية عمر بن عبد العزيز البصري عن يوسف بن أبى طيبة عن وكيع عن هشام عن أبيه عن عائشة نحوه.
412
وقرئ: يتربص به ريب المنون، على البناء للمفعول. وريب المنون. ما يقلق النفوس ويشخص بها من حوادث الدهر. قال:
أمن المنون وريبه أتوجّع «١»
وقيل: المنون الموت، وهو في الأصل فعول، من منه إذا قطعه، لأن الموت قطوع، ولذلك سميت شعوب. قالوا: ننتظر به نوائب الزمان فيهلك كما هلك من قبله من الشعراء: زهير والنابغة مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ أتربص هلاككم كما تتربصون هلاكى أَحْلامُهُمْ عقولهم وألبابهم.
ومنه قولهم: أحلام عاد. والمعنى: أتأمرهم أحلامهم بهذا التناقض في القول، وهو قولهم:
كاهن وشاعر، مع قولهم مجنون. وكانت قريش يدعون أهل الأحلام والنهى أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ مجاوزون الحدّ في العناد مع ظهور الحق لهم. فإن قلت: ما معنى كون الأحلام آمرة؟ قلت:
(١).
أمن المنون وريبه أتوجع والدهر ليس بمعتب من يجزع
لأبى ذويب مطلع مرثية بنيه، والاستفهام للإنكار. وريب المنون: ما يقلق النفوس ويدهشها من حوادث الدهر.
والمنون: الموت، كالمنية، لأنه مقدر، فهو من منى إذا قدر. وقوله «والدهر... الخ» جملة حالية. ويقال:
أعتبه، إذا قبل عتابه وأزال شكواه، فشبه الدهر بإنسان مسيء على طريق المكنية، وإسناد الاعتاب تخييل.
والجزع: شدة الحزن.
413
هو مجاز لأدائها إلى ذلك، كقوله تعالى أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وقرئ: بل هم قوم طاغون. تَقَوَّلَهُ اختلقه من تلقاء نفسه بَلْ لا يُؤْمِنُونَ فلكفرهم وعنادهم يرمون بهذه المطاعن، مع علمهم ببطلان قولهم، وأنه ليس بمتقوّل لعجز العرب عنه، وما محمد إلا واحد من العرب. وقرئ بحديث مثله على الإضافة، والضمير لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعناه: أن مثل محمد في فصاحته ليس بمعوز في العرب، فإن قدر محمد على نظمه كان مثله قادرا عليه، فليأتوا بحديث ذلك المثل: أَمْ خُلِقُوا أم أحدثوا وقدروا التقدير الذي عليه فطرتهم مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ من غير مقدّر أَمْ هُمُ الذين خلقوا أنفسهم حيث لا يعبدون الخالق بَلْ لا يُوقِنُونَ أى: إذا سئلوا من خلقكم وخلق السماوات والأرض؟ قالوا: الله، وهم شاكون فيما يقولون، لا يوقنون. وقيل: أخلقوا من أجل لا شيء من جزاء ولا حساب؟ وقيل:
أخلقوا من غير أب وأم؟ أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ الرزق حتى يرزقوا النبوّة من شاءوا. أو:
أعندهم خزائن علمه حتى يختاروا لها من اختياره حكمة ومصلحة؟ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ الأرباب الغالبون، حتى يدبروا أمر الربوبية ويبنوا الأمور على إرادتهم ومشيئتهم؟ وقرئ: المصيطرون بالصاد أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ منصوب إلى السماء يستمعون صاعدين فيه إلى كلام الملائكة وما يوحى إليهم من علم الغيب حتى يعلموا ما هو كائن من تقدم هلاكه على هلاكهم وظفرهم في العاقبة دونه كما يزعمون؟ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ بحجة واضحة تصدق استماع مستمعهم. المغرم: أن يلتزم الإنسان ما ليس عليه، أى: لزمهم مغرم ثقيل فدحهم «١» فزهدهم ذلك في اتباعك؟ أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ أى اللوح المحفوظ فَهُمْ يَكْتُبُونَ ما فيه حتى يقولوا لا نبعث. وإن بعثنا لم نعذب «٢» أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً وهو كيدهم في دار الندوة برسول الله ﷺ وبالمؤمنين فَالَّذِينَ كَفَرُوا إشارة اليهم أو أريد بهم كل من كفر بالله هُمُ الْمَكِيدُونَ هم الذين يعود عليهم وبال كيدهم ويحيق بهم مكرهم. وذلك أنهم قتلوا يوم بدر. أو المغلوبون في الكيد، من كايدته فكدته.
[سورة الطور (٥٢) : الآيات ٤٤ الى ٤٧]
وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ (٤٤) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (٤٥) يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٦) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٧)
(١). قوله «فدحهم فزهدهم» أى: أثقلهم وبهظهم. أفاده الصحاح. (ع)
(٢). قوله «وإن بعثنا لم نعذب» لعله: لا نعذب. (ع)
الكسف: القطعة، وهو جواب قولهم أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً يريد:
أنهم لشدّة طغيانهم وعنادهم لو أسقطناه عليهم لقالوا: هذا سحاب مركوم بعضه فوق بعض يمطرنا، ولم يصدقوا أنه كسف ساقط للعذاب. وقرئ: حتى يلقوا ويلقوا يُصْعَقُونَ يموتون. وقرئ: يصعقون. يقال. صعقه فصعق، وذلك عند النفخة الأولى نفخة الصعق وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا وإن. لهؤلاء الظلمة عَذاباً دُونَ ذلِكَ دون يوم القيامة: وهو القتل ببدر، والقحط سبع سنين، وعذاب القبر. وفي مصحف عبد الله: دون ذلك قريبا.
[سورة الطور (٥٢) : الآيات ٤٨ الى ٤٩]
وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (٤٨) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ (٤٩)
لِحُكْمِ رَبِّكَ بإمهالهم وما يلحقك فيه من المشقة والكلفة فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا مثل، أى:
بحيث نراك ونكلؤك. وجمع العين لأنّ الضمير بلفظ ضمير الجماعة. ألا ترى إلى قوله تعالى وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي. وقرئ: وبأعينا، بالإدغام حِينَ تَقُومُ من أى مكان قمت. وقيل:
من منامك وَإِدْبارَ النُّجُومِ وإذا أدبرت النجوم من آخر الليل. وقرئ: وأدبار، بالفتح بمعنى في أعقاب النجوم وآثارها إذا غربت، والمراد الأمر بقول: سبحان الله وبحمده في هذه الأوقات. وقيل التسبيح: الصلاة إذا قام من نومه، ومن الليل: صلاة العشاءين، وأدبار النجوم: صلاة الفجر.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الطور كان حقا على الله أن يؤمنه من عذابه وأن ينعمه في جنته» «١».
(١). أخرجه الثعلبي وابن مردويه والواحدي بأسانيدهم إلى أبى بن كعب رضى الله عنه.
Icon