تفسير سورة الحديد

زاد المسير
تفسير سورة سورة الحديد من كتاب زاد المسير في علم التفسير المعروف بـزاد المسير .
لمؤلفه ابن الجوزي . المتوفي سنة 597 هـ
سورة الحديد وفيها قولان :
أحدهما : أنها مدنية، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال الحسن، ومجاهد، وعكرمة، وجابر بن زيد، وقتادة، ومقاتل.
والثاني : أنها مكية، قاله ابن السائب.

سورة الحديد
وفيها قولان: أحدهما: أنها مدنيّة، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال الحسن، ومجاهد، وعكرمة، وجابر بن زيد، وقتادة، ومقاتل. والثاني: أنها مكّيّة، قاله ابن السّائب.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الحديد (٥٧) : الآيات ١ الى ٧]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤)
لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٥) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٦) آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (٧)
قوله عزّ وجلّ: سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أمّا تسبيح ما يعقل، فمعلوم، وتسبيح ما لا يعقل، قد ذكرنا معناه في قوله عزّ وجلّ: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ «١». قوله عزّ وجلّ: هُوَ الْأَوَّلُ قال أبو سليمان الخطّابي: الأول هو السابق للأشياء وَالْآخِرُ الباقي بعد فناء الخلق وَالظَّاهِرُ بحجّته الباهرة، وبراهينه النَّيِّرة، وشواهده الدَّالة على صِحَّة وحدانيته. ويكون: الظاهر فوق كل شيء بقدرته.
وقد يكون الظهور بمعنى العلوِّ، ويكون بمعنى الغلبة. والباطن: هو المحتجب عن أبصار الخلق الذي لا يستولي عليه توهُّم الكيفية، وقد يكون معنى الظهور والبطون: احتجابه عن أبصار الناظرين، وتجلِّيه لبصائر المتفكِّرين. ويكون معناه: العالم بما ظهر من الأمور والمطَّلع على ما بطن من الغيوب. قوله:
هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مفسّر في الأعراف «٢» إلى قوله عزّ وجلّ: يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وهو مفسر في سبأ «٣» إلى قوله عزّ وجلّ: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ أي: بعلمه وقدرته. وما بعده ظاهر إلى قوله عزّ وجلّ: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ قال المفسرون: هذا الخطاب لكفار قريش وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ يعني: المال الذي كان بأيدي غيرهم، فأهلكهم الله، وأعطى قريشاً ذلك المال، فكانوا فيه خلفاء من مضى.
(١) الإسراء: ٤٤.
(٢) الأعراف: ٥٤.
(٣) سبأ: ٢.

[سورة الحديد (٥٧) : الآيات ٨ الى ١١]

وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٩) وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٠) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١١)
قوله عزّ وجلّ: وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ هذا استفهام إِنكار، والمعنى: أيُّ شيء لكم من الثواب في الآخرة إذا لم تؤمنوا بالله وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ قرأ أبو عمرو «أُخذ» بالرفع. وقرأ الباقون «أخذ» بفتح الخاء مِيثاقَكُمْ بالفتح. والمراد به: حين أُخرجتم من ظهر آدم إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بالحجج والدلائل. قوله: عزّ وجلّ: هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ يعني: محمداً صلّى الله عليه وسلم آياتٍ بَيِّناتٍ يعني:
القرآن لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ يعني الشرك إلى نور الإيمان وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ حين بعث الرسول ونصب الأدلة. ثم حثهم على الإنفاق فقال: وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي: أي شيءٍ لكم في ترك الإنفاق ممّا يقرّب إلى الله عزّ وجلّ وأنتم ميتون تاركون أموالكم؟! ثم بين فضل من سبق بالإنفاق فقال: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وفيه قولان: أحدهما: أنه فتح مكة، قاله ابن عباس، والجمهور. والثاني: أنه فتح الحديبية، قاله الشعبي. والمعنى: لا يستوي من أنفق قبل ذلك وَقاتَلَ ومن فعل ذلك بعد الفتح. قال المفسرون: نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق. أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً قال ابن عباس: أعظم منزلةً عند الله. قال عطاء: درجات الجنة تتفاضل، فالذين أنفقوا من قبل الفتح في أفضلها. قال الزجاج: لأن المتقدمين كانت بصائرهم، أنفذ.
ونالهم من المشقة أكثر وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى أي: وكلا الفريقين وعده الله الجنة. وقرأ ابن عامر «وكُلٌّ» بالرفع. قوله عزّ وجلّ: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ قرأ ابن كثير، وابن عامر «فيضعّفه» مشددة العين بغير ألف، إِلا أن ابن كثير يضم الفاء، وابن عامر يفتحها. وقرأ نافع وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي «فيضاعفُه» بالألف وضم الفاء، وافقهم عاصم إلا أنه فتح الفاء. قال أبو علي: يضاعِف ويضعِّف بمعنى واحد، إلا أن الرفع في «يضاعف» هو الوجه، لأنه محمول على «يُقرض». أو على الانقطاع من الأول كأنه قال: فهو يضاعف. ويحمل قول الذي نصب على المعنى، لأنه إذا قال: من ذا الذي يُقرض اللهَ، معناه: أيقرض اللهَ أحدٌ قرضاً فيضاعفه. والآية مفسرة في البقرة «١». والأجر الكريم: الجنّة.
[سورة الحديد (٥٧) : الآيات ١٢ الى ١٥]
يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (١٣) يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (١٤) فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٥)
(١) البقرة: ٢٤٥.
قوله عزّ وجلّ: يَسْعى نُورُهُمْ قال المفسرون: يضيء لهم نور عملهم على الصراط على قدر أعمالهم. قال ابن مسعود: منهم مَن نوره مثل الجبل، وأدناهم نورا نوره على إبهامه يطفئ مرة، ويوقد أخرى. وفي قوله عزّ وجلّ: وَبِأَيْمانِهِمْ قولان: أحدهما: أنه كتبهم يعطَونها بأيمانهم، قاله الضحاك.
والثاني: أنه نورهم يسعى، أي: يمضي بين أيديهم، وعن أيمانهم، وعن شمائلهم، والباء بمعنى:
«في». و «في» بمعنى «عن»، وهذا قول الفراء.
قوله تعالى: بُشْراكُمُ الْيَوْمَ هذا قول الملائكة لهم. قوله تعالى: انْظُرُونا نَقْتَبِسْ وقرأ حمزة:
«أنظِرونا» بقطع الهمزة، وفتحها، وكسر الظاء، قال المفسرون: تغشى الناس يوم القيامة ظلمة شديدة، فيعطَى المؤمنون النور، فيمشي المنافقون بنور المؤمنين، قالوا: انظرونا نقتبس من نوركم، قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ في القائل لهم قولان: أحدهما: أنهم المؤمنون، قاله ابن عباس. والثاني: الملائكة، قاله مقاتل، وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال: أحدها: ارجعوا إلى المكان الذي قبستم فيه النور، فيرجعون، فلا يرون شيئاً. والثاني: ارجعوا فاعملوا عملاً يجعله الله لكم نوراً. والثالث: أن المعنى: لا نور لكم عندنا. قوله: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ قال ابن عباس: هو الأعراف، وهو سُورٌ بين الجنة والنار باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وهي الجنة وَظاهِرُهُ يعني من وراء السور مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ وهو جهنم. وقد ذهب قوم إلى أنّ السور يكون ببيت المقدس في مكان السور الشرقي بين الوادي الذي يسمى: وادي جهنم، وبين الباب الذي يسمى: باب الرحمة، وإلى نحو هذا ذهب عبادة بن الصامت، وعبد الله بن عمر، وكعب.
قوله عزّ وجلّ: يُنادُونَهُمْ أي: ينادي المنافقون المؤمنين من وراء السور: أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ أي: على دينكم نصلي بصلاتكم، ونغزو معكم؟! فيقول لهم المؤمنون: بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ فيه قولان: أحدهما: تربَّصتم بالتوبة. والثاني: تربَّصتم بمحمد الموتَ، وقلتم: يوشك أن يموت فنستريح وَارْتَبْتُمْ شككتم في الحق وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ يعني ما كانوا يتمنَّون من نزول الدوائر بالمؤمنين حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وفيه قولان: أحدهما: أنه الموت. والثاني: إلقاؤهم في النار وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ أي غرّكم الشيطان بحكم الله وإمهاله فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وقرأ أبو جعفر، وابن عامر، ويعقوب «لا تؤخذ» بالتاء، أي: بدل وعوض عن عذابكم. وهذا خطاب للمنافقين، ولهذا قال عزّ وجلّ: وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا.
قوله عزّ وجلّ: هِيَ مَوْلاكُمْ قال أبو عبيدة: أي: أولى بكم.
[سورة الحديد (٥٧) : الآيات ١٦ الى ١٧]
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (١٦) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٧)
قوله عزّ وجلّ: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا اختلفوا فيمن نزلت على قولين:
(١٣٩٥) أحدهما: أنها نزلت في المؤمنين. قال ابن مسعود: ما كان بين إسلامنا، وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربع سنين، فجعل المؤمنون يعاتب بعضهم بعضاً.
والثاني: أنها نزلت في المنافقين، قاله أبو صالح عن ابن عباس «١». قال مقاتل: سأل المنافقون سلمان الفارسي فقالوا: حدِّثنا عن التوراة، فإن فيها العجائب، فنزلت هذه الآية «٢».
وقال الزجاج: نزلت هذه الآية في طائفة من المؤمنين حَثُّوا على الرِّقَّة والخشوع. فأما من كان وصفه الله عزّ وجلّ بالخشوع، والرِّقَّة، فطبقة من المؤمنين فوق هؤلاء. فعلى الأول: يكون الإيمان حقيقة. وعلى الثاني: يكون المعنى: «ألم يأن للذين آمنوا» بألسنتهم. قال ابن قتيبة: المعنى: ألم يحن.
تقول: آن الشيء: إذا حان.
قوله عزّ وجلّ: أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ أي تَرِقَّ وتلين لِذِكْرِ اللَّهِ. المعنى: أنه يجب أن يورثهم الذِّكْر خشوعاً وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ قرأ ابن كثير وعاصم وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي «وما نزَّل» بفتح النون والزاي مع تشديد الزاي. وقرأ نافع وحفص، والمفضل عن عاصم «نزل» بفتح النون وتخفيف الزاي. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وأبو العالية وابن يعمر، ويونس بن حبيب عن أبي عمرو، وأبان عن عاصم «نُزِّل» برفع النون وكسر الزاي مع تشديدها. وقرأ ابن مسعود وأبو رجاء «وما أَنزل» بهمزة مفتوحة وفتح الزاي. وقرأ أبو مجلز، وعمرو بن دينار مثله إلا أنه بضم الهمزة وكسر الزاي.
و «الحق» القرآن وَلا يَكُونُوا قرأ رويس عن يعقوب «ولا تكونوا» بالتاء كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يعني اليهود والنصارى فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ وهو الزمان. وقال ابن قتيبة: الأمد: الغاية. والمعنى: أنه بَعُد عهدهم بالأنبياء والصالحين فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ وهم الذين لم يؤمنوا بعيسى ومحمد عليهما السّلام اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها أي يخرج منها النبات بعد يبسها، فكذلك يقدر على إحياء الأموات قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ الدالة على وحدانيته وقدرته لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي لكي تتأمّلوا.
[سورة الحديد (٥٧) : الآيات ١٨ الى ١٩]
إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١٨) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١٩)
قوله عزّ وجلّ: إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ قرأ ابن كثير، وعاصم إلا حفصاً بتخفيف الصاد فيهما على معنى التصديق. وقرأ الباقون بالتشديد على معنى الصدقة. قوله عزّ وجلّ: أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ اختلفوا في نظم الآية على قولين «٣» : أحدهما: أن تمام الكلام عند قوله عزّ وجلّ:
هذا الأثر صحيح، أخرجه مسلم ٣٠٢٧ والنسائي في «التفسير» ٥٨٨ واستدركه الحاكم ٢/ ٤٧٩ كلهم عن ابن مسعود. وانظر «تفسير الشوكاني» ٢٤٥٦.
__________
(١) موضوع. عزاه المصنف لأبي صالح، وهو متهم في ابن عباس، حيث روى وصاحبه الكلبي تفسير موضوعا عن ابن عباس، وهذا منه، فالآية المراد بها المؤمنون.
(٢) الخبر منكر جدا، أمارة الوضع لائحة عليه، ومقاتل هو ابن سليمان وهو كذاب.
(٣) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» ١١/ ٦٨٤: والذي هو أولى الأقوال عندي في ذلك بالصواب قول من قال:
الكلام والخبر عن الذين آمنوا، متناه عند قوله أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وأن قوله وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ خبر مبتدأ عن الشهداء.
أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ ثم ابتدأ فقال عزّ وجلّ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ هذا قول ابن عباس، ومسروق، والفراء في آخرين. والثاني: أنها على نظمها، والواو في «والشهداء» واو النسق، ثم في معناها قولان:
أحدهما: أن كل مؤمن صِدِّيق شهيد، قاله ابن مسعود ومجاهد. والثاني: أنها نزلت في قوم مخصوصين، وهم ثمانية نفر سبقوا إِلى الإسلام: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وحمزة بن عبد المطلب، وطلحة، والزبير، وسعد، وزيد، قاله الضحاك. وفي الشهداء قولان: أحدهما: أنه جمع شاهد. ثم فيهم قولان: أحدهما: أنهم الأنبياء خاصة، قاله ابن عباس. والثاني: أنهم الشاهدون عند ربهم على أنفسهم بالإيمان بالله، قاله مجاهد. والقول الثاني: أنه جمع شهيد، قاله الضّحّاك، ومقاتل.
[سورة الحديد (٥٧) : الآيات ٢٠ الى ٢١]
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (٢٠) سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢١)
قوله عزّ وجلّ: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا يعني: الحياة في هذه الدّار لَعِبٌ وَلَهْوٌ أي: غرور تنقضي عن قليل. وذهب بعض المفسرين «١» إلى أن المشار بهذا إلى حال الكافر في دنياه، لأنّ حياته تنقضي على لهو ولعب وتزيين الدنيا، وتفاخر يفاخر قرناءه وجيرانه، ويكاثرهم بالأموال والأولاد، فيجمع من غير حلّه، ويتطاول على أولياء الله بماله، وخدمه، وولده، فيفنى عمره في هذه الأشياء، ولا يلتفت إلى العمل للآخرة. ثم بين لهذه الحياة شبهاً، فقال: كَمَثَلِ غَيْثٍ يعني: مطراً أَعْجَبَ الْكُفَّارَ وهم الزُّرَّاع، وسموا كفاراً، لأن الزارع إذا ألقى البذر في الأرض كفره، أي: غطاه نَباتُهُ أي ما نبت من ذلك الغيث ثُمَّ يَهِيجُ أي ييبس فَتَراهُ مُصْفَرًّا بعد خضرته وَرِيَّه ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً أي ينحطم، وينكسر بعد يبسه. وشرح هذا المثل قد تقدم في يونس عند قوله عزّ وجلّ إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا «٢»، وفي الكهف عند قوله عزّ وجلّ: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا «٣». قوله عزّ وجلّ: وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ أي: لأعداء الله وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ لأوليائه وأهل طاعته. وما
(١) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٤/ ٣٧٠: هكذا الحياة الدنيا تكون أولا شابة، ثم تكتهل، ثم تكون عجوزا شوهاء، والإنسان كذلك يكون في أول عمره وعنفوان شبابه غضا طريا لين الأعطاف، بهيّ المنظر، ثم إنه يشرع في الكهولة فتتغير طباعه وينفد بعض قواه، ثم يكبر فيصير شيخا كبيرا ضعيف القوى قليل الحركة، يعجزه الشيء اليسير، كما قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ الروم: ٥٤ ولما كان هذا المثل دالا على زوال الدنيا وانقضائها وفراغها لا محالة، وأن الآخرة كائنة لا محالة، حذّر من أمرها ورغّب فيما فيها من الخبر، فقال:
وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ أي: وليس في الآخرة الآتية القريبة إلا إما هذا وإما هذا: إما عذاب شديد، وإما مغفرة من الله ورضوان.
(٢) يونس: ٢٤.
(٣) الكهف: ٤٥.
بعد هذا مذكور في آل عمران «١»، إلى قوله: ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ فبين أنه لا يدخل الجنّة أحد إلّا بفضل الله.
[سورة الحديد (٥٧) : الآيات ٢٢ الى ٢٤]
ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (٢٢) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (٢٣) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٤)
قوله عزّ وجلّ: ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ يعني: قحط المطر، وقلة النبات، ونقص الثمار وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ يعني الأمراض، وفقد الأولاد إِلَّا فِي كِتابٍ وهو اللوح المحفوظ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها أن نخلقها، يعني: الأنفس إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ أي: إنّ إثبات ذلك على كثرته هيِّن على الله عزّ وجلّ لِكَيْلا تَأْسَوْا أي: تحزنوا عَلى ما فاتَكُمْ من الدنيا وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ قرأ أبو عمرو- الا اختيار اليزيدي- بالقصر على معنى: جاءكم من الدنيا. وقرأ الباقون بالمدّ على معنى: ما أعطاكم الله منها. وأعلم أنه من علم أن ما قضي لا بدَّ أن يصيبه قبل حُزنه وفرحه. وقد روى قتيبة بن سعيد قال: دخلت بعض أحياء العرب، فإذا بفضاء من الأرض فيه من الإبل ما لا يحصى عدده كلُّها قد مات، فسألت عجوزاً: لمن كانت هذه الإبل؟ فأشارت إلى شيخ على تلٍّ يغزل الصوف، فقلت له: يا شيخ لك كانت هذه الإبل؟ قال: كانت باسمي، قلت: فما أصابها؟ قال: ارتجعها الذي أعطاها، قلت:
فهل قلت في ذلك شيئاً؟ قال: نعم، قلت:
لا والَّذي أَنَا عَبْدٌ في عِبَادَتِهِ والمَرْءُ في الدَّهْر نصْبَ الرُّزْءِ والحَزَنَ
ما سَرَّني أَنَّ إبْلي في مَبَارِكِها وما جرى في قضاء الله لم يَكُنِ
وما بعد هذا قد ذكرناه في سورة النساء «٢»، والذي قيل في البخل هناك هو الذي قيل هاهنا إلى قوله: وَمَنْ يَتَوَلَّ أي: عن الإيمان فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ عن عباده الْحَمِيدُ إلى أوليائه. وقد سبق معنى الاسمين في البقرة «٣». وقرأ نافع وابن عامر «فإن الله الغني الحميد» ليس فيها «هو» وكذلك هو في مصاحف أهل المدينة، والشّام.
[سورة الحديد (٥٧) : آية ٢٥]
لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢٥)
قوله عزّ وجلّ: لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ أي: بالآيات والحجج وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ ببيان الشرائع، والأحكام. وفي «الميزان» قولان: أحدهما: أنه العدل، قاله ابن عباس، وقتادة.
والثاني: أنه الذي يوزن به، قاله ابن زيد ومقاتل. فعلى القول الأول: يكون المعنى: أمرنا بالعدل.
وعلى الثاني: ووضعنا الميزان، أي: أمرنا به لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ أي: لكي يقوموا بالعدل. قوله عزّ وجلّ: وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فيه قولان: أحدهما: أن الله تعالى أنزل مع آدم السندان، والكلبتين، والمطرقة، قاله ابن عباس. والثاني: أن معنى «أنزلنا» : أنشأنا وخلقنا، كقوله عزّ وجلّ:
(١) آل عمران: ١٨٥.
(٢) النساء: ٣٧.
(٣) البقرة: ٢٦٧. [.....]
وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ «١». قوله عزّ وجلّ: فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ قال الزجاج: وذلك أنه يمتنع به، ويحارب به وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ يستعملونه في أدواتهم، وما ينتفعون به من آنية وغيرها. قوله عزّ وجلّ:
وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ هذا معطوف على قوله تعالى: لِيَقُومَ النَّاسُ، والمعنى: ليتعامل الناس بالعدل وليعلم الله مَنْ يَنْصُرُهُ بالقتال في سبيله، ونصرة دينه، وذلك أنه أمر في الكتاب الذي أنزل بذلك. وقد سبق معنى قوله عزّ وجلّ: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ في مواضع. وقوله عزّ وجلّ: بِالْغَيْبِ أي: ولم ير الله، ولا أحكام الآخرة، وإنما يجهد ويثاب من أطاع بالغيب.
[سورة الحديد (٥٧) : الآيات ٢٦ الى ٢٧]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٦) ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٧)
قوله عزّ وجلّ: وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ يعني: الكتب فَمِنْهُمْ يعني: من الذرية مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ فيه قولان: أحدهما: كافرون، قاله ابن عباس. والثاني: عاصون، قاله مقاتل. قوله عزّ وجلّ: ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ أي: أَتْبَعْنا على آثار نوح، وإبراهيم، وذريتهما بِعِيسَى وكان آخر أنبياء بني إِسرائيل، وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ يعني: الحواريين وغيرهم من أتباعه على دينه رَأْفَةً وقد سبق بيانها «٢» والمعنى أنهم كانوا متوادّين، كما وصف الله تعالى أصحاب نبينا عليه السّلام، فقال عزّ وجلّ: رُحَماءُ بَيْنَهُمْ «٣».
قوله عزّ وجلّ: وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ليس هذا معطوفاً على ما قبله، وإنما انتصب بفعل مضمر، يدل عليه ما بعده، تقديره: وابتدعوا رهبانيةً ابتدعوها، أي: جاءوا بها من قِبل أنفسهم، وهي غلوُّهم في العبادة، وحمل المشاق على أنفسهم في الامتناعِ عن المطعم والمشرب والملبس والنكاح، والتعبُّد في الجبال ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ أي: ما فرضناها عليهم.
وفي قوله عزّ وجلّ: إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ قولان:
أحدهما: أنّ الاستثناء يرجع إلى قوله عزّ وجلّ: ابْتَدَعُوها والمعنى ابتدعوها طلبا لرضوان الله، ولم يكتبها عليهم، وهذا قول الجمهور. وتقديره: ما كتبناها عليهم إلا أنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله، ذكره علي بن عيسى والرماني عن قتادة وزيد بن أسلم.
والثاني: أنه راجع إلى قوله عزّ وجلّ: «ما كتبناها» ثم في معنى الكلام قولان: أحدهما: ما كتبناها عليهم بعد دخولهم فيها تطوعاً إلا ابتغاء رضوان الله. قال الحسن: تطوّعا بابتداعها ثم كتبها الله عليهم. وقال الزجاج: لما ألزموا أنفسهم ذلك التطوع لزمهم إِتمامه، كما أن الإنسان إِذا جعل على نفسه صوماً لم يفترض عليه، لزمه أن يتمَّه. قال القاضي أبو يعلى: والابتداع قد يكون بالقول، وهو ما
(١) الزمر: ٦.
(٢) النور: ٢.
(٣) الفتح: ٢٩.
ينذره ويوجبه على نفسه، وقد يكون بالفعل بالدخول فيه. وعموم الآية تتضمن الأمرين، فاقتضى ذلك أن كل من ابتدع قربة، قولاً أو فعلاً، فعليه رعايتها وإِتمامها. والثاني: أن المعنى: ما أمرناهم منها إِلا بما يرضي الله عزّ وجلّ، لا غير ذلك، قاله ابن قتيبة.
قوله عزّ وجلّ: فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها في المشار إليهم قولان: أحدهما: أنهم الذين ابتدعوا الرهبانية، قاله الجمهور. ثم في معنى الكلام ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم ما رَعَوْها لتبديل دينهم وتغييرهم له، قاله عطية العوفي. والثاني: لتقصيرهم فيما ألزموه أنفسهم. والثالث: لكفرهم برسول الله صلّى الله عليه وسلم لما بُعث، ذكر القولين الزجاج: والثاني: أنهم الذين اتبعوا مبتدعي الرهبانية في رهبانيتهم، ما رَعوها بسلوك طريق أوليهم، روى هذا المعنى سعيد بن جبير عن ابن عباس.
قوله عزّ وجلّ: فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ فيهم ثلاثة أقوال: أحدها: الذين آمنوا بمحمّد صلّى الله عليه وسلم. وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ وهم الذين لم يؤمنوا به. والثاني: أن الذين آمنوا: المؤمنون بعيسى عليه السّلام والفاسقون: المشركون. والثالث: أن الذين آمنوا: مبتدعو الرهبانية، والفاسقون: متبعوهم على غير القانون الصحيح.
[سورة الحديد (٥٧) : الآيات ٢٨ الى ٢٩]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٨) لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩)
قوله عزّ وجلّ: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ عامة المفسرين على أن هذا الخطاب لليهود والنصارى، والمعنى: يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى اتقوا الله، وآمنوا برسوله محمد صلّى الله عليه وسلم يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ أي نصيبين، وحظَّين مِنْ رَحْمَتِهِ. قال الزجاج: الكفل: كساء يمنع الراكب أن يسقط، فالمعنى: يؤتكم نصيبين يحفظانكم من هلكة المعاصي. وقد بينا معنى «الكفل» في سورة النساء. وفي المراد بالكفلين هاهنا قولان: أحدهما: أنّ أحدهما لإيمانهم بمن تقدَّم من الأنبياء، والآخر لإيمانهم بمحمّد صلّى الله عليه وسلم، قاله ابن عباس. والثاني: أن أحدهما: أجر الدنيا. والثاني: أجر الآخرة، قاله ابن زيد.
قوله عزّ وجلّ: وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً. فيه أربعة أقوال: أحدها: القرآن، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. والثاني: تمشون به على الصراط، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثالث: الهدى، قاله مجاهد. والرابع: الإيمان، قاله ابن السّائب.
قوله عزّ وجلّ: لِئَلَّا يَعْلَمَ «لا» زائدة. قال الفراء: والعرب تجعل «لا» صلة في كل كلام دخل في آخره أو أوله جحد، فهذا مما جُعل في آخره جحد. والمعنى: ليعلم أَهْلُ الْكِتابِ الذين لم يؤمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلم أَلَّا يَقْدِرُونَ أي: أنهم لا يقدرون عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ والمعنى: أنه جعل الأجرين لمن آمن بمحمّد صلّى الله عليه وسلم ليعلم من لم يؤمن به أنه لا أجر لهم ولا نصيب في فضل الله وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ فآتاه المؤمنين. هذا تلخيص قول الجمهور في هاتين الآيتين.
239
(١٣٩٦) وقد ذهب قوم إلى أنه لما نزل في مسلمي أهل الكتاب قوله: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ إلى قوله عزّ وجلّ: أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ «١» افتخروا على المسلمين بزيادة الأجر، فشق ذلك على المسلمين، فنزلت هاتان الآيتان، وهذا المعنى في رواية أبي صالح عن ابن عباس، وبه قال مقاتل. فعلى هذا يكون الخطاب للمسلمين، ويكون المعنى: يؤتكم أجرين ليعلم مؤمنو أهل الكتاب أنهم لا يقدرون على شيء من فضل الله الذي خصّكم به فإنه فضَّلكم على جميع الخلائق. وقال قتادة: لما نزل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ الآية، حسد أهل الكتاب المسلمين، فأنزل الله تعالى: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ الآية.
عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وهذه رواية ساقطة، مدارها على الكلبي، وهو ممن يضع الحديث. وعزاه لمقاتل، وتقدم أنه يضع الحديث أيضا.
__________
(١) القصص: ٥٤.
240
Icon