تفسير سورة الأنعام

أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
تفسير سورة سورة الأنعام من كتاب أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن .
لمؤلفه الشنقيطي - أضواء البيان . المتوفي سنة 1393 هـ

قوله تعالى :﴿ ثْمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ﴾.
في قوله تعالى ﴿ يَعْدِلُونَ ﴾ وجهان للعلماء :
أحدهما : أنه من العدول عن الشيء بمعنى الانحراف، والميل عنه، وعلى هذا فقوله ﴿ بِرَبّهِمْ ﴾ متعلق بقوله ﴿ كَفَرُواْ ﴾، وعليه فالمعنى : إن الذين كفروا بربهم يميلون وينحرفون عن طريق الحق إلى الكفر والضلال، وقيل على هذا الوجه : إن «الباء » بمعنى «عن » أي يعدلون عن ربهم، فلا يتوجهون إليه بطاعة، ولا إيمان.
والثاني : أن «الباء » متعلقة بيعدلون، ومعنى يعدلون يجعلون له نظيراً في العبادة من قول العرب : عدلت فلاناً بفلان إذا جعلته له نظيراً وعديلاً. ومنه قول جرير :
أثعلبة الفوارس أم رياحا*** عدلت بهم طهية والخشابا
يعني أجعلت طهية والخشاب نظراء وأمثالاً لبني ثعلبة، وبني رياح، وهذا الوجه الأخير يدل له القرآن، كقوله تعالى عن الكفار الذين عدلوا به غيره :﴿ تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [ الشعراء : ٩٧-٩٨ ]، وقوله تعالى :﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ﴾ [ البقرة : ١٦٥ ]، وأشار تعالى في آيات كثيرة إلى أن الكفار ساووا بين المخلوق والخالق قبحهم الله تعالى كقوله :﴿ أَمْ جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ﴾ [ الرعد : ١٦ ]، وقوله :﴿ أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ﴾ [ النحل : ١٧ ]، وقوله :﴿ ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً مِّنْ أَنفُسِكُمْ هَلْ لَّكُمْ مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِّن شُرَكَآءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَآءٌ ﴾ [ الروم : ٢٨ ] الآية، إلى غير ذلك من الآيات، وعدل الشيء في اللغة مثله، ونظيره، قال بعض علماء العربية : إذا كان من جنسه، فهو عدل بكسر العين وإذا كان من غير جنسه، فهو عدل بفتح العين ومن الأول قول مهلهل :
على أن ليس عدلاً من كليب إذا برزت مخبأة الخدور
على أن ليس عدلاً من كليب إذا اضطرب العضاه من الدبور
على أن ليس عدلاً من كليب غداة بلابل الأمر الكبير
يعني أن القتلى الذين قتلهم من بكر بن وائل بأخيه كليب الذي قتله جساس بن مرة البكري لا يكافئونه، ولا يعادلونه في الشرف.
ومن الثاني قوله تعالى :﴿ أَو عَدْلُ ذالِكَ صِيَاماً لِّيَذُوقَ ﴾ [ المائدة : ٩٥ ]، لأن المراد نظير الإطعام من الصيام، وليس من جنسه، وقوله :﴿ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ ﴾ [ الأنعام : ٧٠ ]، وقوله :﴿ وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ ﴾ [ البقرة : ١٢٣ ] والعدل : الفداء، لأنه كأنه قيمة معادلة للمفدي تؤخذ بدله قوله تعالى :﴿ وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِى الأرض يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ ﴾ في هذه الآية الكريمة ثلاثة أوجه للعلماء من التفسير وكل واحد منها لا مصداق في كتاب الله تعالى :
الأول : أن المعنى، وهو الله في السماوات وفي الأرض، أي وهو الإله المعبود في السماوات والأرض، لأنه جل وعلا هو المعبود وحده بحق في الأرض والسماء، وعلى هذا فجملة «يعلم » حال، أو خبر وهذا المعنى يبينه، ويشهد له قوله تعالى :﴿ وَهُوَ الذي فِي السَّمآءِ إِلَاهٌ وَفِى الاٌّرْضِ إِلَاهٌ ﴾ [ الزخرف : ٨٤ ] أي، وهو المعبود في السماء والأرض بحق، ولا عبرة بعبادة الكافرين غيره، لأنها وبال عليهم يخلدون بها في النار الخلود الأبدي، ومعبوداتهم ليست شركاء لله سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً، ﴿ إِنْ هِي إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَءَابَآؤُكُم مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ ﴾ [ النجم : ٢٣ ] ﴿ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ شُرَكَآءَ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ ﴾ [ يونس : ٦٦ ].
وهذا القول في الآية أظهر الأقوال، واختاره القرطبي.
الوجه الثاني : أن قوله ﴿ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأرض ﴾ يتعلق بقوله ﴿ وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِى الأرض يَعْلَمُ سِرَّكُمْ ﴾ أي وهو الله يعلم سركم في السماوات وفي الأرض ويبين هذا القول ويشهد له قوله تعالى :﴿ قُلْ أَنزَلَهُ الذي يَعْلَمُ السِّرَّ في السَّمَاواتِ والأرض ﴾ [ الفرقان : ٦ ] الآية.
قال النحاس : وهذا القول من أحسن ما قيل في الآية نقله عنه القرطبي.
الوجه الثالث : وهو اختيار ابن جرير، أن الوقف تام على قوله في ﴿ السَّمَاواتِ ﴾ وقوله ﴿ وَفِى الأرض ﴾ يتعلق بما بعده، أي يعلم سركم وجهركم في الأرض، ومعنى هذا القول : إنه جل وعلا مستو على عرشه فوق جميع خلقه، مع أنه يعلم سر أهل الأرض وجهرهم لا يخفى عليه شيء من ذلك.
ويبين هذا القول، ويشهد له قوله تعالى :﴿ أَءَمِنتُمْ مَّن فِي السَّمَآءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأرض فَإِذَا هِي تَمُورُ أَمْ أَمِنتُمْ مِّن فِي السَّمَآءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً ﴾ [ الملك : ١٦-١٧ ] ؟ الآية، وقوله :﴿ الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾ [ طه : ٥ ]، مع قوله :﴿ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ﴾ [ الحديد : ٤ ]، وقوله :﴿ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ ﴾ [ الأعراف : ٧ ] وسيأتي إن شاء الله تحقيق هذا المقام بإيضاح في سورة الأعراف. واعلم أن ما يزعمه الجهميه «من أن الله تعالى في كل مكان » مستدلين بهذه الآية على أنه في الأرض ضلال مبين، وجهل بالله تعالى، لأن جميع الأمكنة الموجودة أحقر وأصغر من أن يحل في شيء منها رب السماوات والأرض الذي هو أعظم من كل شيء، وأعلى من كل شيء، محيط بكل شيء ولا يحيط به شيء، فالسماوات والأرض في يده جل وعلا أصغر من حبة خردل في يد أحدنا، وله المثل الأعلى، فلو كانت حبة خردل في يد رجل فهل يمكن أن يقال : إنه حال فيها، أو في كل جزء من أجزائها لا وكلا، هي أصغر وأحقر من ذلك، فإذا علمت ذلك فاعلم أن رب السماوات والأرض أكبر من كل شيء وأعظم من كل «شيء محيط بكل شيء ولا يحيط به شيء »، ولا يكون فوقه شيء ﴿ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأرض وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ﴾ [ سبأ : ٣ ]، سبحانه وتعالى علواً كبيراً لا نحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه ﴿ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً ﴾ [ طه : ١١٠ ].
قوله تعالى :﴿ وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ﴾.
ذكر في هذه الآية الكريمة أن الكفار لو نزل الله عليهم كتاباً مكتوباً في قرطاس، أي صحيفة إجابة لما اقترحوه، كما قال تعالى عنهم :﴿ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤهُ ﴾ [ الإسراء : ٩٣ ] الآية، فعاينوا ذلك الكتاب المنزل، ولمسته أيديهم، لعاندوا، وادعوا أن ذلك من أجل أنه سحرهم، وهذا العناد واللجاج العظيم والمكابرة الذي هو شأن الكفار بينه تعالى في آيات كثيرة كقوله :﴿ وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ ﴾ [ الحجر : ١٤-١٥ ].
وقوله :﴿ وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً مِّنَ السَّمَآءِ سَاقِطاً يَقُولُواْ سَحَابٌ مَّرْكُومٌ ﴾ [ الطور : ٤٤ ]، وقوله :﴿ وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَىْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ ﴾ [ الأنعام : ١١١ ]، وقوله ﴿ إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ ءايَةٍ ﴾ [ يونس : ٩٦- ٩٧ ] الآية، وقوله ﴿ وَمَا تُغْنِى الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ ﴾ [ يونس : ١٠١ ]، وقوله ﴿ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ ءَايَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا ﴾ [ الأنعام : ٢٥ ] إلى غير ذلك من الآيات، وذكر تعالى نحو هذا العناد واللجاج عن فرعون وقومه في قوله :﴿ وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن ءَايَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [ الأعراف : ١٣٢ ].
قوله تعالى :﴿ وقالوا لولا أنزل عليه ملك ﴾.
لم يبين هنا ماذا يريدون بإنزال الملك المقترح، ولكنه بين في موضع آخر أنهم يريدون بإنزال الملك أن يكون نذيراً آخر مع النَّبي صلى الله عليه وسلم، وذلك في قوله :﴿ وَقَالُواْ مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِى فِي الأسواق لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً ﴾ [ الفرقان : ٧ ]، الآية.
قوله تعالى :﴿ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِىَ الأمر ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ ﴾.
يعني أنه لو نزل عليهم الملائكة وهم على ما هم عليه من الكفر والمعاصي، لجاءهم من الله العذاب من غير إمهال ولا إنظار، لأنه حكم بأن الملائكة لا تنزل عليهم إلا بذلك، كما بينه تعالى بقوله :﴿ مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَا كَانُواْ إِذًا مُّنظَرِينَ ﴾ [ الحجر : ٨ ]. وقوله ﴿ يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لاَ بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ ﴾ [ الفرقان : ٢٢ ] الآية.
قوله تعالى :﴿ ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون ﴾.
أي لو بعثنا إلى البشر رسولاً ملكياً لكان على هيئة الرجل لتمكنهم مخاطبته والانتفاع بالأخذ عنه، لأنهم لا يستطيعون النظر إلى الملائكة من شدة النور، ولو كان كذلك لالتبس عليهم الأمر كما هم يلبسون على أنفسهم في قبول رسالة الرسول البشري.
وهذه الآية الكريمة تدل على أن الرسول ينبغي أن يكون من نوع المرسل إليهم، كما أشار تعالى إلى ذلك أيضاً بقوله :﴿ قُل لَوْ كَانَ في الأرض مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَآءِ مَلَكًا رَّسُولاً ﴾ [ الإسراء : ٩٥ ].
قوله تعالى :﴿ وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ ﴾.
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن الكفار استهزؤوا برسل قبل نبينا صلى الله عليه وسلم، وأنهم حاق بهم العذاب بسبب ذلك، ولم يفصل هنا كيفية استهزائهم، ولا كيفية العذاب الذي أُهلكوا به، ولكنه فصل كثيراً من ذلك من مواضع أُخَر متعددة في ذكر نوح وقومه وهود وقومه، وصالح وقومه، ولوط وقومه، وشعيب وقومه، إلى غير ذلك.
فمن استهزائهم بنوح قولهم له «بعد أن كنت نبياً صرت نجاراً »، وقد قال الله تعالى عن نوح :﴿ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ ﴾ [ هود : ٣٨ ]، وذكر ما حاق بهم بقوله :﴿ فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ ﴾ [ العنكبوت : ١٤ ] وأمثالها من الآيات.
ومن استهزائهم بهود ما ذكره الله عنهم من قولهم :﴿ إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ ءَالِهَتِنَا بِسُوءٍ ﴾ [ هود : ٥٤ ]، وقوله عنهم أيضاً :﴿ قَالُواْ يا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بتاركي ءالِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ ﴾ [ هود : ٥٣ ] الآية. وذكر ما حاق بهم من العذاب في قوله. ﴿ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ ﴾ [ الذاريات : ٤١ ] الآية، وأمثالها من الآيات.
ومن استهزائهم بصالح، قولهم فيما ذكر الله عنهم ﴿ يَا صَالحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [ الأعراف : ٧٧ ] وقولهم ﴿ يا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا ﴾ [ هود : ٦٢ ] الآية، وذكر ما حاق بهم بقوله ﴿ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ ﴾ [ هود : ٦٧ ]، ونحوها من الآيات.
ومن استهزائهم بلوط قولهم فيما حكى الله عنهم :﴿ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُواْ ءَالَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ ﴾ [ النمل : ٥٦ ] الآية. وقولهم له أيضاً :﴿ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ ﴾ [ الشعراء : ١٦٧ ]، وذكر ما حاق بهم بقوله ﴿ فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ ﴾ [ الحجر : ٧٤ ]، ونحوها من الآيات.
ومن استهزائهم بشعيب قولهم فيما حكى الله عنهم :﴿ قَالُواْ يا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَآ أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ ﴾ [ هود : ٩١ ]، وذكر ما حاق بهم بقوله ﴿ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾ [ الشعراء : ١٨٩ ] ونحوها من الآيات.
قوله تعالى :﴿ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ ﴾.
يعني أنه تعالى هو الذي يرزق الخلائق، وهو الغني المطلق فليس بمحتاج إلى رزق. وقد بين تعالى هذا بقوله :﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُون ِإِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ﴾ [ الذاريات : ٥٦ -٥٨ ]، وقراءة الجمهور على أن الفعلين من الإطعام، والأول مبني للفاعل، والثاني مبني للمفعول، كما بيناه، وأوضحته الآية الأخرى. وقرأ سعيد بن جبير ومجاهد، والأعمش. الفعل الأول كقراءة الجمهور، والثاني بفتح الياء والعين مضارع طعم الثلاثي بكسر العين في الماضي، أي أنه يرزق عباده، ويطعمهم وهو جل وعلا، لا يأكل، لأنه لا يحتاج إلى ما يحتاج إليه المخلوق من الغداء، لأنه جل وعلا الغني لذاته، الغني المطلق، سبحانه وتعالى علواً كبيراً، ﴿ يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَآءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ ﴾ [ فاطر : ١٥ ].
والقراءة التي ذكرنا عن سعيد ومجاهد، والأعمش موافقة لأحد الأقوال في تفسير قوله تعالى ﴿ اللَّهُ الصَّمَدُ ﴾ قال بعض العلماء ﴿ الصَّمَدُ ﴾ السيد الذي يُلجأ إليه عند الشدائد والحوائج. وقال بعضهم : هو السيد الذي تكامل سؤدده وشرفه وعظمته، وعلمه وحكمته، وقال بعضهم ﴿ الصَّمَدُ ﴾ هو الذي ﴿ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ ﴾، وعليه فما بعده تفسير له. وقال بعضهم : هو الباقي بعد فناء خلقه. وقال بعضهم «﴿ الصَّمَدُ ﴾ هو الذي لا جوف له، ولا يأكل الطعام، وهو محل الشاهد، وممن قال بهذا القول ابن مسعود، وابن عباس، وسعيد بن المسيب، ومجاهد، وعبد الله بن بريدة، وعكرمة، وسعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح، وعطية العوفي، والضحاك، والسدي ؛ كما نقله عنهم ابن كثير وابن جرير وغيرهما.
قال مقيده عفا الله عنه : من المعروف في كلام العرب، إطلاق الصمد على السيد العظيم، وعلى الشيء المصمت الذي لا جوف له، فمن الأول قول الزبرقان :
سيروا جميعاً بنصف الليل واعتمدوا ولا رهينة إلا سيد صمد
وقول الآخر :
علوته بحسام ثم قلت له خذها حذيف فأنت السيد الصمد
وقول الآخر :
ألا بكر الناعي بخير بني أسد بعمرو بن مسعود وبالسيد الصمد
ومن الثاني قول الشاعر :
شهاب حروب لا تزال جياده عوابس يعلكن الشكيم المصمدا
فإذا علمت ذلك، فالله تعالى هو السيد الذي هو وحده الملجأ عند الشدائد والحاجات، وهو الذي تنزه وتقدس وتعالى عن صفات المخلوقين كأكل الطعام ونحوه، سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً.
قوله تعالى :﴿ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ ﴾ الآية.
يعني أول من أسلم من هذه الأمة التي أُرسلت إليها، وليس المراد أول من أسلم من جميع الناس كما بينه تعالى بآيات كثيرة تدل على وجود المسلمين.
قبل وجوده صلى الله عليه وسلم، ووجود أمته كقوله عن إبراهيم :﴿ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [ البقرة : ١٣١ ]، وقوله عن يوسف :﴿ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ﴾ [ يوسف : ١٠١ ]، وقوله ﴿ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ ﴾ [ المائدة : ٤٤ ]، وقوله عن لوط وأهله، ﴿ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [ الذاريات : ٣٦ ]، إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى :﴿ وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو إن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير ﴾.
بعد قوله ﴿ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ ﴾ إلى أن فَضْلَه وعطاءَه الجزيل لا يقدر أحد على رده، عمن أراده له تعالى. كما صرح بذلك في قوله :﴿ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ ﴾. [ يونس : ١٠٧ ] الآية.
قوله تعالى :﴿ وَأُوحِىَ إِلَىَّ هَذَا الْقُرْءَانُ لأنذركم بِهِ وَمَن بَلَغَ ﴾.
صرح في هذه الآية الكريمة بأنه صلى الله عليه وسلم منذر لكل من بلغه هذا القرآن العظيم كائناً من كان، ويفهم من الآية أن الإنذار به عام لكل من بلغه، وأن كل من بلغه ولم يؤمن به فهو في النار، وهو كذلك.
أما عموم إنذاره لكل من بلغه، فقد دلت عليه آيات أخر أيضاً كقوله ﴿ قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ﴾ [ الأعراف : ١٠٨ ]، وقوله ﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً للنَّاسِ ﴾ [ سبأ : ٢٨ ]، وقوله ﴿ تَبَارَكَ الذي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً ﴾ [ الفرقان : ١ ].
وأما دخول من لم يؤمن به النار، فقد صرح به تعالى في قوله ﴿ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحزاب فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ ﴾ [ هود : ١٧ ].
وأما من لم تبلغه دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم فله حكم أهل الفترة الذين لم يأتهم رسول، والله تعالى أعلم.
قوله تعالى :﴿ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾.
هذه الآية الكريمة تدل على أن الله جل وعلا الذي أحاط علمه بكل موجود ومعدوم، يعلم المعدوم الذي سبق في الأزل أنه لا يكون لو وجد كيف يكون ؛ لأنه يعلم أن رد الكفار يوم القيامة إلى الدنيا مرة أخرى لا يكون، ويعلم هذا الرد الذي لا يكون لو وقع كيف يكون، كما صرح به بقوله ﴿ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾، وهذا المعنى جاء مصرحاً به في آيات أخر.
فمن ذلك أنه تعالى سبق في علمه أن المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك، لا يخرجون إليها معه صلى الله عليه وسلم، والله ثبطهم عنها لحكمة. كما صرح به في قوله ﴿ وَلَكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ ﴾ [ التوبة : ٤٦ ] الآية. وهو يعلم هذا الخروج الذي لا يكون لو وقع كيف يكون. كما صرح به تعالى في قومه ﴿ لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ﴾ [ التوبة : ٤٧ ] الآية. ومن الآيات الدالة على المعنى المذكور قوله تعالى ﴿ وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِّن ضُرٍّ لَّلَجُّواْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ [ المؤمنون : ٧٥ ] إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى :﴿ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ ﴾ الآية.
صرح تعالى في هذه الآية الكريمة، بأنه يعلم أن رسوله صلى الله عليه وسلم يحزنه ما يقوله الكفار من تكذيبه صلى الله عليه وسلم، وقد نهاه تعالى عن هذا الحزن المفرط في مواضع أخر كقوله :﴿ فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ ﴾ [ فاطر : ٨ ] الآية، وقوله :﴿ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ [ المائدة : ٦٨ ]، وقوله :﴿ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى ءَاثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً ﴾ [ الكهف : ٦ ]، وقوله :﴿ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [ الشعراء : ٣ ] : والباخع هو المهلك نفسه، ومنه قول غيلان بن عقبة :
ألا أيهذا الباخع الوجد نفسه لشيء نحته عن يديه المقادر
وقوله ﴿ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ ﴾ في الآيتين يراد به النهي عن ذلك، ونظيره ﴿ فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ ﴾ [ هود : ١٢ ] أي لا تهلك نفسك حزناً عليهم في الأول، ولا تترك بعض ما يوحى إليك في الثاني.
قوله تعالى :﴿ إنما يستجيب الذين يسمعون وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثم إليه يرجعون ﴾ الآية.
قال جمهور علماء التفسير : المراد بالموتى في هذه الآية : الكفار، وتدل لذلك آيات من كتاب الله، كقوله تعالى ﴿ أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ ﴾ [ الأنعام : ١٢٢ ] الآية، وقوله ﴿ وَمَا يستوي الأحيَاءُ وَلاَ الأموات ﴾ [ فاطر : ٢٢ ]، وقوله :﴿ وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ ﴾ إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى :﴿ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلٍ ءايَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾.
ذكر في هذه الآية الكريمة : أنه قادر على تنزيل الآية التي اقترحها الكفار على رسوله، وأشار لحكمة عدم إنزالها بقوله :﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ وبين في موضع آخر أن حكمة عدم إنزالها أنها لو أنزلت ولم يؤمنوا بها، لنزل بهم العذاب العاجل كما وقع بقوم صالح لما اقترحوا عليه إخراج ناقة عشراء، وبراء، جوفاء، من صخرة صماء، فأخرجها الله لهم منها بقدرته ومشيئته، فعقروها ﴿ وَقَالُواْ يَا صَالحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ ﴾ [ الأعراف : ٧٧ ] فأهلكهم الله دفعة واحدة بعذاب استئصال، وذلك في قوله ﴿ وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بالآيات إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأولون وَءَاتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بالآيات إِلاَّ تَخْوِيفًا ﴾ [ الإسراء : ٥٩ ] وبين في مواضع أخر أنه لا داعي إلى ما اقترحوا من الآيات، لأنه أنزل عليهم آية أعظم من جميع الآيات التي اقترحوها وغيرها، وتلك الآية هي في هذا القرآن العظيم ؛ وذلك في قوله ﴿ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ ﴾ [ العنكبوت : ٥١ ] فإنكاره جل وعلا عليهم عدم الاكتفاء بهذا الكتاب عن الآيات المقترحة يدل على أنه أعظم وأفخم من كل آية، وهو كذلك ألا ترى أنه آية واضحة، ومعجزة باهرة، أعجزت جميع أهل الأرض، وهي باقية تتردد في آذان الخلق غضة طرية حتى يأتي أمر الله، بخلاف غيره من معجزات الرسل صلوات الله عليهم وسلامه فإنها كلها مضت وانقضت.
قوله تعالى :﴿ قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمْ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ ﴾.
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن المشركين إذ أتاهم عذاب من الله، أو أتتهم الساعة أخلصوا الدعاء الذي هو مخ العبادة لله وحده، ونسوا ما كانوا يشركون به. لعلمهم أنه لا يكشف الكروب إلا الله وحده جل وعلا.
ولم يبين هنا نوع العذاب الدنيوي الذي يحملهم على الإخلاص لله، ولم يبين هنا أيضاً إذا كشف عنهم العذاب هل يستمرون على إخلاصهم، أو يرجعون إلى كفرهم وشركهم، ولكنه بين كل ذلك في مواضع أخر.
فبين أن العذاب الدنيوي الذي يحملهم على الإخلاص، هو نزول الكروب التي يخاف من نزلت به الهلاك، كأن يهيج البحر عليهم وتلتطم أمواجه، ويغلب على ظنهم أنهم سيغرقون فيه إن لم يخلصوا الدعاء لله وحده، كقوله تعالى ﴿ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَآءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِين َفَلَمَّآ أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الْحَقِّ ﴾ [ يونس : ٢٢-٢٣ ]، وقوله ﴿ وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَ إِيَّاهُ ﴾ [ الإسراء : ٦٧ ]، وقوله ﴿ فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الْفُلْكِ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ﴾ [ العنكبوت : ٦٥ ]، وقوله ﴿ وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ﴾ [ لقمان : ٣٢ ]، إلى غير ذلك من الآيات.
وبين أنهم إذا كشف الله عنهم ذلك الكرب، رجعوا إلى ما كانوا عليه من الشرك في مواضع كثيرة كقوله ﴿ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا ﴾ [ الإسراء : ٦٧ ] وقوله ﴿ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ ﴾ [ العنكبوت : ٦٥ ]، وقوله ﴿ قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ ﴾ [ الأنعام : ٦٤ ]، وقوله ﴿ فَلَمَّآ أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الْحَقِّ ﴾ [ يونس : ٢٣ ] إلى غير ذلك من الآيات.
وبين تعالى أن رجوعهم للشرك بعد أن نجاهم الله من الغرق من شدة جهلهم، وعماهم : لأنه قادر على أن يهلكهم في البر كقدرته على إهلاكهم في البحر، وقادر على أن يعيدهم في البحر مرة أخرى، ويهلكهم فيه بالغرق فجرأتهم عليه إذا وصلوا البر لا وجه لها ؛ لأنها من جهلهم وضلالهم، وذلك في قوله ﴿ أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِّنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا ﴾ [ الإسراء : ٦٨-٦٩ ].
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤٠:قوله تعالى :﴿ قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمْ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ ﴾.
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن المشركين إذ أتاهم عذاب من الله، أو أتتهم الساعة أخلصوا الدعاء الذي هو مخ العبادة لله وحده، ونسوا ما كانوا يشركون به. لعلمهم أنه لا يكشف الكروب إلا الله وحده جل وعلا.
ولم يبين هنا نوع العذاب الدنيوي الذي يحملهم على الإخلاص لله، ولم يبين هنا أيضاً إذا كشف عنهم العذاب هل يستمرون على إخلاصهم، أو يرجعون إلى كفرهم وشركهم، ولكنه بين كل ذلك في مواضع أخر.
فبين أن العذاب الدنيوي الذي يحملهم على الإخلاص، هو نزول الكروب التي يخاف من نزلت به الهلاك، كأن يهيج البحر عليهم وتلتطم أمواجه، ويغلب على ظنهم أنهم سيغرقون فيه إن لم يخلصوا الدعاء لله وحده، كقوله تعالى ﴿ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَآءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِين َفَلَمَّآ أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الْحَقِّ ﴾ [ يونس : ٢٢-٢٣ ]، وقوله ﴿ وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَ إِيَّاهُ ﴾ [ الإسراء : ٦٧ ]، وقوله ﴿ فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الْفُلْكِ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ﴾ [ العنكبوت : ٦٥ ]، وقوله ﴿ وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ﴾ [ لقمان : ٣٢ ]، إلى غير ذلك من الآيات.
وبين أنهم إذا كشف الله عنهم ذلك الكرب، رجعوا إلى ما كانوا عليه من الشرك في مواضع كثيرة كقوله ﴿ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا ﴾ [ الإسراء : ٦٧ ] وقوله ﴿ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ ﴾ [ العنكبوت : ٦٥ ]، وقوله ﴿ قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ ﴾ [ الأنعام : ٦٤ ]، وقوله ﴿ فَلَمَّآ أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الْحَقِّ ﴾ [ يونس : ٢٣ ] إلى غير ذلك من الآيات.
وبين تعالى أن رجوعهم للشرك بعد أن نجاهم الله من الغرق من شدة جهلهم، وعماهم : لأنه قادر على أن يهلكهم في البر كقدرته على إهلاكهم في البحر، وقادر على أن يعيدهم في البحر مرة أخرى، ويهلكهم فيه بالغرق فجرأتهم عليه إذا وصلوا البر لا وجه لها ؛ لأنها من جهلهم وضلالهم، وذلك في قوله ﴿ أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِّنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا ﴾ [ الإسراء : ٦٨-٦٩ ].

قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِىِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ﴾.
نهى الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة نبيه صلى الله عليه وسلم عن طرد ضعفاء المسلمين وفقرائهم الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه، وأمره في آية أخرى أن يصبر نفسه معهم، وأن لا تعدو عيناه عنهم إلى أهل الجاه والمنزلة في الدنيا، ونهاه عن إطاعة الكفرة في ذلك وهي قوله :
﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِىِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ﴾ [ الكهف : ٢٨ ] كما أمره هنا بالسلام عليهم، وبشارتهم برحمة ربهم جل وعلا في قوله :﴿ وَإِذَا جَآءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ﴾ [ الأنعام : ٥٤ ] الآية، وبين في آيات أخر أن طرد ضعفاء المسلمين الذي طلبه كفار العرب من نبينا صلى الله عليه وسلم فنهاه الله عنه، طلبه أيضاً قوم نوح من نوح، فأبى كقوله تعالى عنه :﴿ وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ ءامَنُواْ ﴾ [ هود : ٢٩ ] الآية، وقوله :﴿ وَيا قَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ ﴾ ] هود : ٣٠ ] الآية، وقوله :﴿ وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [ الشعراء : ١١٤ ]، وهذا من تشابه قلوب الكفار المذكور في قوله تعالى :﴿ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ ﴾ [ البقرة : ١١٨ ]، الآية.
قوله تعالى :﴿ وَكَذالِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِّيَقُولواْ أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَآ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ ﴾.
أجرى الله تعالى الحكمة بأن أكثر أتباع الرسل ضعفاء الناس، ولذلك «لما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان عن نبينا صلى الله عليه وسلم : أأشرف الناس يتبعونه، أم ضعفاؤهم ؟ فقال : بل ضعفاؤهم. قال : هم أتباع الرسل ».
فإذا عرفت ذلك فاعلم أنه تعالى أشار إلى أن من حكمة ذلك فتنة بعض الناس ببعض، فإن أهل المكانة والشرف والجاه يقولون : لو كان في هذا الدين خير لما سبقنا إليه هؤلاء، لأنا أحق منهم بكل خير كما قال هنا :﴿ وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِّيَقُولواْ أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَآ ﴾ الآية إنكاراً منهم أن يمن الله على هؤلاء الضعفاء دونهم، زعماً منهم أنهم أحق بالخير منهم، وقد رد الله قولهم هنا بقوله :﴿ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ ﴾.
وقد أوضح هذا المعنى في آيات أخر كقوله تعالى :﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ ﴾ [ الأحقاف : ١١ ] الآية، وقوله :﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا بِيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ أَي الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً ﴾ [ مريم : ٧٣ ].
والمعنى : أنهم لما رأوا أنفسهم أحسن منازل، ومتاعاً من ضعفاء المسلمين اعتقدوا أنهم أولى منهم بكل خير، وأن أبتاع الرسول صلى الله عليه وسلم لو كان خيراً ما سبقوهم إليه، ورد الله افتراءهم هذا بقوله :﴿ وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِءْياً ﴾ [ مريم : ٧٤ ]، وقوله :﴿ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِين َنُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ ﴾ [ المؤمنون : ٥٥ – ٥٦ ]، إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى :﴿ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ ﴾ الآية.
أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة أن يخبر الكفار، أن تعجيل العذاب عليهم الذي يطلبونه منه صلى الله عليه وسلم ليس عنده ؛ وإنما هو عند الله إن شاء عجله، وإن شاء أخره عنهم، ثم أمره أن يخبرهم بأنه لو كان عنده لعجله عليهم بقوله :﴿ قُل لَّوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِىَ الأمر بيني وَبَيْنَكُمْ ﴾ [ الأنعام : ٥٨ ] الآية.
وبين في مواضع أخر أنهم ما حملهم على استعجال العذاب إلا الكفر والتكذيب، وأنهم إن عاينوا ذلك العذاب علموا أنه عظيم هائل لا يستعجل به إلا جاهل مثلهم، كقوله :﴿ وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ ﴾ [ هود : ٨ ]، وقوله :﴿ يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مُشْفِقُونَ مِنْهَا ﴾ [ الشورى : ١٨ ] الآية، وقوله :﴿ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ﴾ [ العنكبوت : ٥٤ ]، وقوله :﴿ قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ ﴾ [ يونس : ٥٠ ].
وبين في موضع آخر أنه لولا أن الله حدد لهم أجلاً لا يأتيهم العذاب قبله لعجله عليهم، وهو قوله :﴿ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَآءَهُمُ ﴾ [ العنكبوت : ٥٣ ]، الآية.
تنبيه
قوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ قُل لَّوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِىَ الأمر ﴾ الآية، صريح في أنه صلى الله عليه وسلم لو كان بيده تعجيل العذاب عليهم لعجله عليهم، مع أنه ثبت في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها أن النَّبي صلى الله عليه وسلم أرسل الله إليه ملك الجبال، وقال له : إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين وهما جبلا مكة اللذان يكتنفانها فقال صلى الله عليه وسلم :«بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشركَ به شيئاً ».
والظاهر في الجواب : هو ما أجاب به ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية، وهو أن هذه الآية دلت على أنه لو كان إليه وقوع العذاب الذي يطلبون تعجيله في وقت طلبهم لعجله عليهم، وأما الحديث فليس فيه أنهم طلبوا تعجيل العذاب في ذلك الوقت، بل عرض عليه الملك إهلاكهم فاختار عدم إهلاكهم، ولا يخفى الفرق بين المتعنت الطالب تعجيل العذاب وبين غيره.
قوله تعالى :﴿ وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ ﴾ الآية.
بين تعالى المراد بمفاتح الغيب بقوله :﴿ إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا في الأرحام وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ بأي أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلَيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [ لقمان : ٣٤ ] فقد أخرج البخاري وأحمد وغيرهما عن ابن عمر، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم «أن المراد بمفاتح الغيب الخمس المذكورة في الآية المذكورة » ؛ والمفاتح الخزائن جمع مَفتح بفتح الميم، بمعنى المخزن، وقيل : هي المفاتيح جمع مِفتح، بكسر الميم، وهو المفتاح وتدل له قراءة ابن السميقع.
مفاتيح بياء بعد التاء جمع مفتاح، وهذه الآية الكريمة تدل على أن الغيب لا يعلمه إلا الله، وهو كذلك، لأن الخلق لا يعلمون إلا ما علمهم خالقهم جل وعلا.
وعن عائشة رضي الله عنها، قالت :«من زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبر بما يكون في غدٍ فقد أعظم على الله الفرية »، والله يقول :﴿ قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاواتِ والأرض الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ ﴾ [ النمل : ٦٥ ] أخرجه مسلم والله تعالى في هذه السورة الكريمة أمره صلى الله عليه وسلم أن يعلن للناس أنه لا يعلم الغيب، وذلك في قوله تعالى :﴿ قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَىَّ ﴾ [ الأنعام : ٥٠ ].
ولذا لما رميت عائشة رضي الله عنها بالإفكِ، لم يعلم، أهي بريئة أم لا حتى أخبره الله تعالى بقوله :﴿ أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ ﴾ [ النور : ٢٦ ].
وقد ذبح إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام عجله للملائكة، ولا علم له بأنهم ملائكة حتى أخبروه، وقالوا له :﴿ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ ﴾ [ هود : ٧٠ ]، ولما جاءوا لوطاً لم يعلم أيضاً أنهم ملائكة، ولذا ﴿ سِىءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ ﴾ [ هود : ٧٧ ] يخاف عليهم من أن يفعل بهم قومه فاحشتهم المعروفة حتى قال :﴿ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِى إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ ﴾ [ هود : ٨٠ ] ولم يعلم خبرهم حتى قالوا له :﴿ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ ﴾ [ هود : ٨١ ] الآيات.
ويعقوب عليه السلام ابيضت عيناه من الحزن على يوسف، وهو في مصر لا يدري خبره حتى أظهر الله خبر يوسف.
وسليمان عليه السلام مع أن الله سخر له الشياطين والريح ما كان يدري عن أهل مأرب قوم بلقيس حتى جاءه الهدهد، وقال له :﴿ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ﴾ [ النمل : ٢٢ ] الآيات.
ونوح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ما كان يدري أن ابنه الذي غرق ليس من أهله الموعود بنجاتهم حتى قال :﴿ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ ﴾ [ هود : ٤٥ ] الآية، ولم يعلم حقيقة الأمر حتى أخبره الله بقوله :﴿ قَالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ [ هود : ٤٦ ].
وقد قال تعالى عن نوح في سورة هود :﴿ وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللَّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ ﴾ [ هود : ٣١ ] الآية، والملائكة عليهم الصلاة والسلام لما قال لهم :﴿ أَنبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هَؤُلاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ ﴾ [ البقرة : ٣١ -٣٢ ].
فقد ظهر أن أعلم المخلوقات وهم الرسل، والملائكة لا يعلمون من الغيب إلا ما علمهم الله تعالى، وهو تعالى يعلم رسله من غيبه ما شاء، كما أشار له بقوله :﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِى مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَآءُ ﴾ [ آل عمران : ١٧٩ ]، وقوله :﴿ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ ﴾ [ الجن : ٢٦ – ٢٧ ]، الآية.
تنبيه
لما جاء القرآن العظيم بأن الغيب لا يعلمه إلا الله كان جميع الطرق التي يراد بها التوصل إلى شيء من علم الغيب غير الوحي من الضلال المبين، وبعض منها يكون كفراً.
ولذا ثبت عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :«من أَتى عرَّافاً فسأله عن شيءٍ لم تقبل له صلاة أربعين يوماً »، ولا خلاف بين العلماء في منع العيافة والكهانة والعرافة، والطرق والزجر، والنجوم وكل ذلك يدخل في الكهانة، لأنها تشمل جميع أنواع ادعاء الإطلاع على علم الغيب.
وقد سئل صلى الله عليه وسلم عن الكهَّان فقال :«ليسوا بشيء ».
وقال القرطبي في تفسير هذه الآية ما نصه : فمن قال إنه ينزل الغيث غداً ؛ وجزم به فهو كافر أخبر عنه بأمارة ادعاها أم لا، وكذلك من قال إنه يعلم ما في الرحم فإنه كافر، فإن لم يجزم، وقال : إن النوء ينزل به الماء عادة، وإنه سبب الماء عادة، وإنه سبب الماء على ما قدره وسبق في علمه لم يكفر إلا أنه يستحب له ألا يتكلم به، فإن فيه تشبيهاً بكلمة أهل الكفر وجهلا بلطيف حكمته، لأنه ينزل متى شاء مرة بنوء كذا، ومرة دون النوء.
قال الله تعالى :«أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بالكواكب » على ما يأتي بيانه في الواقعة إن شاء الله تعالى.
قال ابن العربي : وكذلك قول الطبيب إذا كان الثدي الأيمن مسود الحلمة، فهو ذكر، وإن كان في الثدي الأيسر فهو أنثى، وإن كانت المرأة تجد الجنب الأيمن أثقل فالولد أنثى، وادعى ذلك عادة لا واجباً في الخلقة لم يكفر، ولم يفسق.
وأما من ادعى الكسب في مستقبل العمر فهو كافر، أو أخبر عن الكوائن المجملة، أو المفصلة في أن تكون قبل أن تكون فلا ريبة في كفره أيضاً ؛ فأما من أخبر عن كسوف الشمس والقمر، فقد قال علماؤنا : يؤدب ولا يسجن، أما عدم كفره فلأن جماعة قالوا : إنه أمر يدرك بالحساب وتقدير المنازل حسبما أخبر الله عنه من قوله :﴿ وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ ﴾ [ يس : ٣٩ ].
وأما أدبهم، فلأنهم يدخلون الشك على العامة، إذ لا يدرون الفرق بين هذا وغيره فيشوشون عقائدهم، ويتركون قواعدهم في اليقين، فأدبوا حتى يستروا ذلك إذا عرفوه ولا يعلنوا به.
قلت : ومن هذا الباب ما جاء في صحيح مسلم عن بعض أزواج النَّبي صلى الله عليه وسلم أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال :«من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة »، والعراف : هو الحازي والمنجم الذي يدعي علم الغيب، وهي العرافة وصاحبها عراف، وهو الذي يستدل على الأمور بأسباب ومقدمات يدَّعي معرفتها ؛ وقد يعتضد بعض أهل هذا الفن في ذلك بالزجر والطرق والنجوم، وأسباب معتادة في ذلك، وهذا الفن هو العيافة بالياء، وكلها ينطلق عليها اسم الكهانة، قاله القاضي عياض.
والكهانة : ادعاء علم الغيب.
قال أبو عمر بن عبد البر في [ الكافي ] : من المكاسب المجتمع على تحريمها الربا، ومهور البغايا، والسحت، والرشا، وأخذ الأجرة على النياحة، والغناء، وعلى الكهانة، وادعاء الغيب، وأخبار السماء، وعلى الزمر واللعب والباطل كله. اه من القرطبي بلفظه، وقد رأيت تعريفه للعراف والكاهن.
وقال البغوي : العراف الذي يدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على المسروق، ومكان الضالة ونحو ذلك، وقال أبو العباس بن تيمية : العراف : اسم للكاهن والمنجم والرمال، ونحوهم ممن يتكلم في معرفة الأمور بهذه الطرق.
والمراد بالطرق : قيل الخط الذي يدعي به الإطلاع على الغيب، وقيل إنه الضرب بالحصى الذي يفعله النساء، والزجر هو العيافة، وهي التشاؤم والتيامن بالطير، وادعاء معرفة الأمور من كيفية طيرانها ومواقعها وأسمائها وألوانها وجهاتها التي تطير إليها.
ومنه قول علقمة بن عبدة التميمي :
ومن تعرض للغربان يزجرها *** على سلامته لا بد مشئوم
وكان أشد العرب عيافة بنو لهب حتى قال فيهم الشاعر :
خبير بنو لهب فلا تك ملغيا *** مقالة لهبي إذا الطير مرت
وإليه الإشارة بقول ناظم عمود النسب :
في مدلج بن بكر القيافة *** كما للهب كانت العيافة
ولقد صدق من قال :
لعمرك ما تدري الضوارب بالحصى*** ولا زاجرات الطير ما الله صانع
ووجه تكفير بعض أهل العلم لمن يدعي الإطلاع على الغيب أنه ادعى لنفسه ما استأثر الله تعالى به دون خلقه، وكذب القرآن الوارد بذلك كقوله ﴿ قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاواتِ والأرض الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ ﴾ [ النمل : ٦٥ ]، وقوله هنا ﴿ وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ ﴾ ونحو ذلك.
وعن الشيخ أبي عمران من علماء المالكية أن حلوان الكاهن لا يحل له، ولا يرد لمن أعطاه له، بل يكون للمسلمين في نظائر نظمها. بعض علماء المالكية بقوله :
وأي مال حرموا أن ينتفع *** موهوبه به ورده منع
حلوان كاهن وأجرة الغنا *** ونائح ورشوة مهر الزنا
هكذا قيل. والله تعالى أعلم.
قوله تعالى :﴿ وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بالليل وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ﴾ الآية.
ذكر في هذه الآية الكريمة أن النوم وفاة، وأشار في موضع آخر إلى أن وفاة صغرى وأن صاحبها لم يمت حقيقة، وأنه تعالى يرسل روحه إلى بدنه حتى ينقضي أجله، وأن وفاة الموت التي هي الكبرى قد مات صاحبها، ولذا يمسك روحه عنده، وذلك في قوله تعالى :﴿ اللَّهُ يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مِوْتِهَا والتي لَمْ تَمُتْ في مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ التي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأخرى إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ في ذَلِكَ لآيات لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [ الزمر : ٤٢ ].
قوله تعالى :﴿ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً ﴾.
لم يبين هنا ماذا يحفظون وبينه في مواضع أخر فذكر أن مما يحفظونه بدن الإنسان بقوله :﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ﴾ [ الرعد : ١١ ]، وذكر أن مما يحفظونه جميع أعماله من خير وشر، بقوله :﴿ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِين َيَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ﴾ [ الانفطار : ١٠ – ١٢ ]، وقوله :﴿ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ [ ق : ١٧-١٨ ]، وقوله :﴿ أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ﴾ [ الزخرف : ٨٠ ].
قوله تعالى :﴿ وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي ءَايَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ﴾.
نهى الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة عن مجالسة الخائضين في آياته، ولم يبين كيفية خوضهم فيها التي هي سبب منع مجالستهم، ولم يذكر حكم مجالستهم هنا، وبين ذلك كله في موضع آخر فبين أن خوضهم فيها بالكفر والاستهزاء بقوله :﴿ وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ ءَايَاتِ اللَّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ ﴾ [ النساء : ١٤٠ ].
وبين أن من جالسهم في وقت خوضهم فيها مثلهم في الإثم بقوله :﴿ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ ﴾ [ النساء : ١٤٠ ]، وبين حكم من جالسهم ناسياً، ثم تذكر بقوله هنا :﴿ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾[ الأنعام : ٦٨ ]، كما تقدم في سورة النساء.
قوله تعالى :﴿ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الليل رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّى ﴾.
الآيات قوله :﴿ هَذَا رَبّى ﴾ في المواضع الثلاثة محتمل، لأنه كان يظن ذلك، كما روي عن ابن عباس وغيره ومحتمل، لأنه جازم بعدم ربوبية غير الله. ومراده هذا ربي في زعمكم الباطل، أو أنه حذف أداة استفهام الإنكار والقرآن يبين بطلان الأول، وصحة الثاني : أما بطلان الأول، فالله تعالى نفي كون الشرك الماضي عن إبراهيم في قوله :﴿ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [ النحل : ١٢٣ ] في عدة آيات، ونفي الكون الماضي يستغرق جميع الزمن الماضي، فثبت أنه لم يتقدم عليه شرك يوماً ما.
وأما كونه جازماً موقناً بعدم ربوبية غير الله، فقد دل عليه ترتيب قوله تعالى :﴿ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الليل رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّى ﴾ إلى آخره «بالفاء » على قوله تعالى :﴿ وَكَذَلِكَ نُرِى إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ والأرض وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ﴾ [ الأنعام : ٧٥ ] فدل على أنه قال ذلك موقناً مناظراً ومحاجاً لهم، كما دل عليه قوله تعالى :﴿ وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ ﴾ [ الأنعام : ٨٠ ] الآية، وقوله :﴿ وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ ءَاتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ ﴾ [ الأنعام : ٨٣ ] الآية والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى :﴿ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ ﴾ الآية.
المراد بالظلم هنا الشرك كما ثبت عن النَّبي صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري وغيره من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وقد بينه قوله تعالى :﴿ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [ لقمان : ١٣ ]، وقوله :﴿ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [ البقرة : ٢٥٤ ]، وقوله :﴿ وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ ﴾ [ يونس : ١٠٦ ].
قوله تعالى :﴿ وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ ءَاتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ ﴾.
قال مجاهد وغيره هي قوله تعالى :﴿ وَكَيْفَ أَخَافُ مَآ أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَي الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بالأمن ﴾ [ الأنعام : ٨١ ] الآية، وقد صدقه الله، وحكم له بالأمن والهداية، فقال :﴿ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأمن وَهُمْ مُّهْتَدُونَ ﴾ [ الأنعام : ٨٢ ].
والظاهر شمولها لجميع احتجاجاته عليهم، كما في قوله :﴿ لا أُحِبُّ الآفلين ﴾ [ الأنعام : ٦٧ ]، لأن الأفول الواقع في الكوكب والشمس والقمر أكبر دليل وأوضح حجة على انتفاء الربوبية عنها، وقد استدل إبراهيم عليه، وعلى نبينا الصلاة والسلام بالأفول على انتفاء الربوبية في قوله :﴿ لا أُحِبُّ الآفلين ﴾ فعدم إدخال هذه الحجة في قوله :﴿ وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ ﴾ [ الأنعام : ٨٣ ] غير ظاهر، وبما ذكرنا من شمول الحجة لجميع احتجاجاته المذكورة صدر القرطبي، والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى :﴿ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾.
ذكر تعالى أن هؤلاء الأنبياء المذكورين في هذه السورة الكريمة لو أشركوا بالله لحبط جميع أعمالهم.
وصرح في موضع آخر بأنه أوحي هذا إلى نبينا، والأنبياء قبله عليهم كلهم صلوات الله وسلامه، وهو قوله :﴿ وَلَقَدْ أُوْحِىَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ﴾ [ الزمر : ٦٥ ] الآية، وهذا شرط، والشرط لا يقتضي جواز الوقوع، لقوله :﴿ قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَانِ وَلَدٌ ﴾ [ الزخرف : ٨١ ] الآية على القول بأن «إنْ » شرطية وقوله :﴿ لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً ﴾ [ الأنبياء : ١٧ ] الآية، وقوله ﴿ لَّوْ أَرَادَ اللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً ﴾ [ الزمر : ٤ ] الآية.
قوله تعالى :﴿ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنَزلَ اللَّهُ ﴾.
أي لا أحد أظلم ممن قال ﴿ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنَزلَ اللَّهُ ﴾ ونظيرها قوله تعالى :﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَآ ﴾، وقد بين الله تعالى كذبهم في افترائهم هذا حيث تحدى جميع العرب بسورة واحدة منه، كما ذكره تعالى في البقرة بقوله :﴿ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ ﴾ [ البقرة : ٢٣ ]، وفي يونس بقوله :﴿ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ ﴾ [ يونس : ٣٨ ]، وتحداهم في هود بعشر سور مثله في قوله :﴿ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ ﴾ [ هود : ١٣ ]، وتحداهم به كله في الطور بقوله :﴿ فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ ﴾ [ الطور : ٣٤ ].
ثم صرح في سورة بني إسرائيل بعجز جميع الخلائق عن الإتيان بمثله في قوله :﴿ قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْءَانِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾ [ الإسراء : ٨٨ ]، فاتضح بطلان دعواهم الكاذبة.
قوله تعالى :﴿ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ ﴾ الآية.
لم يصرح هنا بالشيء الذي بسطوا إليه الأيدي، ولكنه أشار إلى أنه التعذيب بقوله :﴿ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ ﴾ [ الأنعام : ٩٣ ] الآية، وصرح بذلك في قوله :﴿ وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ﴾ [ الأنفال : ٥٠ ]، وبين في مواضع أخر أنه يراد ببسط اليد التناول بالسوء كقوله :﴿ وَيَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ ﴾ [ الممتحنة : ٢ ]، وقوله :﴿ لَئِن بَسَطتَ إِلَىَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِى ﴾ [ المائدة : ٢٨ ] الآية.
قوله تعالى :﴿ ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء ﴾.
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن الكفار يأتون يوم القيامة كل واحد منهم بمفرده ليس معهم شركاؤهم، وصرح تعالى بأن كل واحد يأتي فرداً في قوله :﴿ وَكُلُّهُمْ ءَاتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً ﴾ [ مريم : ٩٥ ]، وقوله في هذه الآية ﴿ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ أي منفردين لا مال، ولا أثاث، ولا رقيق، ولا خول عندكم، حفاة عراة غرلاً، أي غير مختونين ﴿ كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَآ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ﴾ [ الأنبياء : ١٠٤ ]، وقد عرفت من الآية أن واحد الفرادى فرد، ويقال فيه أيضاً : فرد بالتحريك، ومنه قول نابغة ذبيان :
من وحش وجرة موشي أكارعه طاوي المصير كسيف الصيقل الفرد
قوله تعالى :﴿ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ﴾.
ذكر في هذه الآية الكريمة : أن الأنداد التي كانوا يعبدونها في الدنيا تضل عنهم يوم القيامة، وينقطع ما كان بينهم وبينها من الصلات في الدنيا، وأوضح هذا المعنى في آيات كثيرة جداً كقوله ﴿ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ ﴾ [ الأحقاف : ٦ ]، وقوله ﴿ كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً ﴾ [ مريم : ٨٢ ]، وقوله ﴿ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَواةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ ﴾، وقوله ﴿ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَ ﴾ [ الليل : ٩٢ -٩٣ ]، وقوله هنا ﴿ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَآءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ ﴾ [ الأنعام : ٩٤ ] الآية.
قوله تعالى :﴿ وجعل الليل سكنا ﴾
أي مظلماً ساجياً ليسكن فيه الخلق فيستريحوا من تعب الكد بالنهار كما بينه قوله تعالى :﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الليل لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً ﴾ [ يونس : ٦٧ ]، وقوله ﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الليل سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَاهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَآءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَاهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفلاَ تُبْصِرُون وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ ﴾ [ القصص : ٧١ -٧٣ ] الآية، وقوله ﴿ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ ﴾ يعني الليل، ﴿ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ ﴾ يعني بالنهار ﴿ وَمِنْ ءَايَاتِهِ الليل وَالنَّهَارُ ﴾ [ فصلت : ٣٧ ] الآية.
قوله تعالى :﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ﴾ الآية.
ظاهر هذه الآية الكريمة أن حكمة خلق النجوم هي الاهتداء بها فقط كقوله ﴿ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ﴾ [ النحل : ١٦ ]، ولكنه تعالى بين في غير هذا الموضع أن لها حكمتين أخريين غير الاهتداء بها وهما تزيين السماء الدنيا، ورجم الشياطين بها، كقوله ﴿ وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ ﴾ [ الملك : ٥ ] الآية. وقوله ﴿ إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ وَحِفْظاً مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِد ٍلاَّ يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإِ الأعلى وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ ﴾ [ الصافات : ٦ -١٠ ]، وقوله ﴿ وَزَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ﴾ [ فصلت : ١٢ ].
قوله تعالى :﴿ وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ ﴾ الآية.
ولم يبين هنا كيفية إنشائهم من نفس واحدة، ولكنه بين في مواضع أخر أن كيفية أنه خلق من تلك النفس الواحدة التي هي آدم زوجها حواء، وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء كقوله ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً وَاتَّقُواْ ﴾ [ النساء : ١ ] وقوله :﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا ﴾ [ الأعراف : ١٨٩ ] الآية.
قوله تعالى :﴿ لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار ﴾.
أشار في مواضع أخر : إلى أن نفي الإدراك المذكور هنا لا يقتضي نفي مطلق الرؤية كقوله ﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾ [ القيامة : ٢٢ – ٢٣ ]، وقوله ﴿ للَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ﴾ [ يونس : ٢٦ ] والحسنى الجنة، والزيادة النظر إلى وجه الله الكريم، وقوله ﴿ كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ ﴾ [ المطففين : ١٥ ] يفهم منه أن المؤمنين ليسوا محجوبين عنه وهو كذلك.
قوله تعالى :﴿ وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ ﴾ الآية.
يعني ليزعموا إن النَّبي صلى الله عليه وسلم إنما تعلم هذا القرآن بالدرس والتعليم من غيره من أهل الكتاب، كما زعم كفار مكة أنه صلى الله عليه وسلم تعلم هذا القرآن من جبر ويسار، وكانا غلامين نصرانيين بمكة، وقد أوضح الله تعالى بطلان افترائهم هذا في آيات كثيرة كقوله ﴿ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِي وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِي مُّبِينٌ ﴾ [ النحل : ١٠٣ ]، وقوله ﴿ فَقَالَ إِنْ هَذَآ إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَذآ إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَر ِسَأُصْلِيهِ سَقَرَ ﴾ [ المدثر : ٢٤ – ٢٦ ]، ومعنى يؤثر : يرويه محمد صلى الله عليه وسلم عن غيره في زعمهم الباطل، وقوله :﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ ءَاخَرُونَ فَقَدْ جَآءُوا ظُلْماً وَزُوراً وَقَالُواْ أَسَاطِيرُ الاوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِي تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلا ًقُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاواتِ والأرض ﴾ [ الفرقان : ٤ – ٦ ] الآية. إلى غير ذلك من الآيات ؛ وفي قوله ﴿ دَرَسْتَ ﴾ ثلاث قراءات سبعيات.
قرأه ابن كثير، وأبو عمر «دارست » بألف بعد الدال مع إسكان السين وفتح التاء من المفاعلة بمعنى : دارست أهل الكتاب ودارسوك حتى حصلت هذا العلم.
وقرأه بقية السبعة غير ابن عامر «درست » بإسقاط الألف، مع إسكان السين وفتح التاء أيضاً، بمعنى درست هذا على أهل الكتاب حتى تعلمته منهم.
وقرأه ابن عامر «دَرَسَتْ » بفتح الدال والراء والسين وإسكان التاء على أنها تاء التأنيث، والفاعل ضمير عائد إلى الآيات المذكورة في قوله ﴿ وَكَذالِكَ نُصَرِّفُ الآيات ﴾ [ الأنعام : ١٠٥ ].
قال القرطبي : وأحسن ما قيل في قراءة ابن عامر أن المعنى : ولئلا يقولوا انقطعت وانمحت، وليس يأتي محمد صلى الله عليه وسلم بغيرها. اه.
وقال القرطبي :﴿ وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ ﴾ الواو للعطف على مضمر أي نصرف الآيات لتقوم الحجة وليقولوا درست وقيل :﴿ وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ ﴾ صرفناها.
قال مقيده : عفا الله عنه ومعناهما آيل إلى شيء واحد ويشهد له القرآن في آيات كثيرة دالة على أنه يبين الحق واضحاً في هذه الكتاب ليهدي به قوماً، ويجعله حجة على آخرين كقوله ﴿ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً ﴾ [ مريم : ٩٧ ] وقوله ﴿ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي ءَاذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ﴾ [ فصلت : ٤٤ ]، وقوله :﴿ لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِيمَاناً وَلاَ يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَآ أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ ﴾ [ المدثر : ٣١ ] كما قال هنا ﴿ وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ فالأشقياء يقولون : تعلمته من البشر بالدراسة وأهل العلم، والسعادة يعلمون أنه الحق الذي لا شك فيه.
قوله تعالى ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ ﴾ الآية.
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أنه جعل لكل نبي عدواً، وبين هنا أن أعداء الأنبياء هم شياطين الإنس والجن، وصرح في موضع آخر أن أعداء الأنبياء من المجرمين، وهو قوله ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِي عَدُوّاً مِّنَ الْمُجْرِمِينَ ﴾ [ الفرقان : ٣١ ] فدل ذلك على أن المراد بالمجرمين شياطين الإنس والجن وذكر في هذه الآية أن من الإنس شياطين، وصرح بذلك في قوله ﴿ وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ ﴾ [ البقرة : ١٤ ] الآية. وقد جاء الخبر بذلك مرفوعاً من حديث أبي ذر عند الإمام أحمد وغيره والعرب تسمي كل متمرد شيطاناً سواء كان من الجن أو من الإنس كما ذكرنا أو من غيرهما، وفي الحديث «الكَلب الأَسْوَد شَيْطَان » : وقوله، شياطين بدل من قوله :﴿ عَدُوّا ﴾، أو مفعول أول ﴿ جَعَلْنَا ﴾، والثاني ﴿ عَدُوّا ﴾ أي جعلنا شياطين الإنس والجن عدواً.
قوله تعالى :﴿ وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأرض يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ﴾.
ذكر في هذه الآية الكريمة أن إطاعة أكثر أهل الأرض وضلال، وبين في مواضع أخر أن أكثر أهل الأرض غير مؤمنين، وأن ذلك واقع في الأمم الماضية كقوله ﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ [ الرعد : ١ ]، وقوله ﴿ وَمَآ أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [ يوسف : ١٠٣ ]، وقوله ﴿ وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأولين ﴾ [ الصافات : ٧١ ]، وقوله ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لأَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ ﴾ [ الشعراء : ٨ ] إلى غير من الآيات.
قوله تعالى :﴿ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ ﴾ الآية.
التحقيق أنه فصله لهم بقوله :﴿ قُل لاَ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَ أَن يَكُونَ مَيْتَةً ﴾ [ الأنعام : ١٤٥ ] الآية، ومعنى الآية : أي شيء يمنعكم أن تأكلوا ما ذكيتم، وذكرتم عليه اسم الله، والحال أن الله فصل لكم المحرم أكله عليكم في قوله :﴿ قُل لاَ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِىَ إِلَىَّ ﴾ الآية، وليس هذا منه.
وما يزعمه كثير من المفسرين من أنه فصله لهم بقوله :﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ﴾ [ المائدة : ٣ ] الآية. فهو غلط ؛ لأن قوله تعالى :﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ﴾ من سورة المائدة، وهي من آخر ما نزل من القرآن بالمدينة، وقوله :﴿ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ ﴾ [ الأنعام : ١١٩ ] من سورة الأنعام، وهي مكية. فالحق هو ما ذكرنا، والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى :﴿ وَكَذالِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا ﴾ الآية.
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة : أنه جعل في كل قرية أكابر المجرمين منها ليمكروا فيها، ولم يبين المراد بالأكابر هنا، ولا كيفية مكرهم، وبين جميع ذلك في مواضع أخر : فبين أن مجرميها الأكابر هم أهل الترف، والنعمة في الدنيا، بقوله :﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ﴾ [ سبأ : ٣٤ ]، وقوله :﴿ وَكَذَلِكَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى ءَاثَارِهِم مُّقْتَدُونَ ﴾ [ الزخرف : ٢٣ ]. ونحو ذلك من الآيات.
وبين أن مكر الأكابر المذكور : هو أمرهم بالكفر بالله تعالى، وجعل الأنداد له بقوله :﴿ وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ بَلْ مَكْرُ الليل وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَآ أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً ﴾ [ سبأ : ٣٣ ]، وقوله :﴿ وَمَكَرُواْ مَكْراً كُبَّارا ًوَقَالُواْ لاَ تَذَرُنَّ ءَالِهَتَكُمْ ﴾ [ نوح : ٢٢ – ٢٣ ].
وأظهر أوجه الإعراب المذكورة في الآية عندي اثنان :
أحدهما : أن «أكابر » مضاف إلى «مجرميها » وهو المفعول الأول لجعل التي بمعنى صير، والمفعول الثاني هو الجار والمجرور، أعني في كل قرية.
والثاني : أن «مجرميها » مفعول أول. و«أَكَابِرَ » مفعول ثان، أي جعلنا مجرميها أكابرها، والأكابر جمع الأكبر.
قوله تعالى :﴿ وَإِذَا جَآءَتْهُمْ ءَايَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَآ أُوتِىَ رُسُلُ اللَّهِ ﴾.
يعنون أنهم لن يؤمنوا حتى تأتيهم الملائكة بالرسالة، كما أتت الرسل، كما بينه تعالى في آيات أخر، كقوله :﴿ وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا ﴾ [ الفرقان : ٢١ ] الآية ؛ وقوله :﴿ أَوْ تَأْتِىَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلاً ﴾ [ الإسراء : ٩٢ ]، إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى :﴿ فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ ﴾.
جاء عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن هذه الآية الكريمة، فقيل : كيف يشرح صدره يا رسول الله ؟ صلى الله عليه وسلم قال :«نور يقذف فيه، فينشرح له، وينفسح ». قالوا : فهل لذلك من أمارة يعرف بها ؟ قال :«الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل لقاء الموت » ويدل لهذا قوله تعالى :﴿ أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ ﴾ [ الزمر : ٢٢ ].
قوله تعالى :﴿ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ ﴾ الآية.
قال بعض العلماء : المراد بالرسل من الجن نذرهم الذين يسمعون كلام الرسل، فيبلغونه إلى قومهم، ويشهد لهذا أن الله ذكر أنهم منذرون لقومهم في قوله :﴿ وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْءَانَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُواْ أَنصِتُواْ فَلَمَّا قُضِىَ وَلَّوْاْ إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ ﴾ [ الأحقاف : ٢٩ ].
وقال بعض العلماء :﴿ رُسُلٌ مِّنْكُمْ ﴾ أي من مجموعكم الصادق بخصوص الإنس : لأنه لا رسل من الجن، ويستأنس لهذا القول بأن القرآن ربما أطلق فيه المجموع مراداً بعضه، كقوله :﴿ وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً ﴾ [ نوح : ١٦ ]، وقوله :﴿ فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا ﴾ [ الشمس : ١٤ ]، مع أن العاقر واحد منهم، كما بينه بقوله :﴿ فَنَادَوْاْ صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ ﴾ [ القمر : ٢٩ ]. واعلم أن ما ذكره الحافظ ابن كثير رحمه الله وغيره من أجلاء العلماء في تفسير هذه الآية : من أن قوله :﴿ يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ ﴾ [ الرحمان : ٢٢ ] يراد به البحر الملح خاصة دون العذب غلط كبير، لا يجوز القول به. لأنه مخالف مخالفة صريحة لكلام الله تعالى، لأن الله ذكر البحرين الملح والعذب، بقوله :﴿ وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَآئِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ ﴾ [ فاطر : ١٢ ]، ثم صرح باستخراج اللؤلؤ والمرجان منها جميعاً بقوله :﴿ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا ﴾ [ فاطر : ١٢ ] والحلية المذكورة هي اللؤلؤ والمرجان، فقصره على الملح مناقض للآية صريحاً، كما ترى.
قوله تعالى :﴿ ذلِكَ أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ ﴾.
النفي في هذه الآية الكريمة منصب على الجملة الحالية، والمعنى أنه لا يهلك قوماً في حال غفلتهم، أي عدم إنذارهم، بل لا يهلك أحداً إلا بعد الإعذار والإنذار على ألسنة الرسل عليهم صلوات الله وسلامه، كما بين هذا المعنى في آيات كثيرة كقوله :﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ﴾ [ الإسراء : ١٥ ]، وقوله ﴿ رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ﴾ [ النساء : ١٦٥ ]، وقوله ﴿ وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ ﴾ [ فاطر : ٢٤ ]، وقوله ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الْطَّاغُوتَ ﴾ [ النحل : ٣٦ ] إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى :﴿ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ ﴾.
بين في موضع آخر : أن تفاضل درجات العاملين في الآخرة أكبر، وأن تفضيلها أعظم من درجات أهل الدنيا، وهو قوله :﴿ انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلأخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً ﴾ [ الإسراء : ٢١ ].
قوله تعالى :﴿ وَءَاتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ﴾.
اختلف العلماء في المراد بهذا الحق المذكور هنا، وهل هو منسوخ أو لا ؟ فقال جماعة من العلماء : هذا الحق هو الزكاة المفروضة، وممن قال بهذا أنس بن مالك، وابن عباس وطاوس، والحسن وابن زيد وابن الحنفية، والضحاك وسعيد بن المسيب، ومالك، ونقله عنهم القرطبي، نقله ابن كثير عن أنس وسعيد وغيرهما، ونقله ابن جرير عن ابن عباس وأنس والحسن وجابر بن زيد، وسعيد بن المسيب وقتادة وطاوس ومحمد بن الحنفية، والضحاك وابن زيد.
وقال قوم : ليس المراد به الزكاة، وإنما المراد به أنه يعطي من حضر من المساكين يوم الحصاد القبضة والضغث ونحو ذلك، وحمله بعضهم على الوجوب، وحمله بعضهم على الندب قال القرطبي : وقال علي بن الحسين، وعطاء والحكم، وحماد وسعيد بن جبير، ومجاهد : هو حق في المال سوى الزكاة أمر الله به ندباً، وروي عن ابن عمر ومحمد بن الحنفية أيضاً، ورواه أبو سعيد الخدري عنه صلى الله عليه وسلم، قال مجاهد : إذا حصدت فحضرك المساكين فاطرح لهم من السنبل، وإذا جذذت فألق لهم في الشماريخ، وإذا درسته وذريته فاطرح لهم منه، وإذا عرفت كيله فأخرج منه زكاته.
وقال قوم : هو حق واجب غير الزكاة، وهو غير محدد بقدر معين، وممن قال به عطاء كما نقله عنه ابن جرير.
وقال قوم : هي منسوخة بالزكاة، واختاره ابن جرير، وعزاه الشوكاني في تفسيره لجمهور العلماء، وأيده بأن هذه السورة مكية، وآية الزكاة نزلت بالمدينة في السنة الثانية بعد الهجرة.
وقال ابن كثير في القول بالنسخ نظر، لأنه قد كان شيئاً واجباً في الأصل، ثم إنه فصل بيانه، وبين مقدار المخرج وكميته، قالوا : وكان هذا في السنة الثانية من الهجرة. والله أعلم. انتهى من ابن كثير.
ومراده أن شرع الزكاة بيان لهذا الحق لا نسخ له، وممن روى عنه القول بالنسخ ابن عباس ومحمد ابن الحنفية، والحسن والنخعي وطاوس، وأبو الشعثاء وقتادة والضحاك وابن جريج، نقله عنهم الشوكاني والقرطبي أيضاً، ونقله عن السدي وعطية، ونقله ابن جرير أيضاً عن ابن عباس وابن الحنفية، وسعيد بن جبير وإبراهيم والحسن، والسدي وعطية، واستدل ابن جرير للنسخ بالإجماع على أن زكاة الحرث لا تؤخذ إلا بعد التذرية والتنقية، وزكاة التمر لا تؤخذ إلا بعد الجذاذ، فدل على عدم الأخذ يوم الحصاد فعلم أن الآية منسوخة، أو أنها على سبيل الندب، فالأمر واضح.
وعلى أن المراد بها الزكاة، فقد أشير إلى أن هذا الحق المذكور هو جزء المال الواجب في النصاب في آيات الزكاة، وهو المذكور في قوله :﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأرض ﴾ [ البقرة : ٢٦٧ ] الآية، وبينته السنة، فإذا علمت ذلك، فاعلم أنه يحتاج هنا إلى بيان ثلاثة أشياء :
الأول : تعيين ما تجب فيه الزكاة مما تنبته الأرض.
الثاني : تعيين القدر الذي تجب فيه الزكاة منه.
الثالث : تعيين القدر الواجب فيه وسنبينها إن شاء الله مفصلة.
اعلم أولاً أنه لا خلاف بين العلماء في وجوب الزكاة في الحنطة، والشعير والتمر والزبيب.
واختلف فيما سواها مما تنبته الأرض فقال قوم : لا زكاة في غيرها من جميع ما تنبته الأرض، وروي ذلك عن الحسن، وابن سيرين والشعبي.
وقال به من الكوفيين ابن أبي ليلى، والثوري، والحسن بن صالح، وابن المبارك، ويحيى بن آدم، وإليه ذهب أبو عبيد.
وروي ذلك عن أبي موسى عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، وهو مذهب أبي موسى، فإنه كان لا يأخذ الزكاة إلا من الحنطة، والشعير والتمر والزبيب ؛ ذكره وكيع عن طلحة بن يحيى، عن أبي بردة، عن أبيه، كما نقله عنهم القرطبي.
واستدل أهل هذا القول بما رواه الدارقطني عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو، أنه قال : إنما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة في الحنطة، والشعير، والتمر، والزبيب، وفي رواية عن أبيه عن جده عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال :«والعشر في التمر والزبيب والحنطة والشعير »، وعن موسى بن طلحة عن عمر أنه قال :«إنما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة في هذه الأربعة : الحنطة، والشعير، والتمر، والزبيب ». وعن أبي بردة عن أبي موسى، ومعاذ «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثهما إلى اليمن يعلمان الناس أمر دينهم، فأمرهم ألا يأخذوا الصدقة إلا من هذه الأربعة، الحنطة، والشعير، والتمر، والزبيب » رواها كلها الدارقطني، قاله ابن قدامة في المغني.
قال مقيده عفا الله عنه : أما ما رواه الدارقطني عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده من أنه صلى الله عليه وسلم إنما سن الزكاة في الأربعة المذكورة، فإسناده واه لأنه من رواية محمد بن عبيد الله العزرمي، وهو متروك، قاله ابن حجر في [ التلخيص ]، وما رواه الدارقطني من حديث موسى بن طلحة، عن عمر أنه صلى الله عليه وسلم إنما سن الزكاة في الأربعة المذكورة، قال فيه أبو زرعة : موسى عن عمر : مرسل، قاله ابن حجر أيضاً، وما عزاه للدارقطني عن أبي بردة عن أبي موسى، ومعاذ رواه الحاكم والبيهقي عن أبي بردة عنهما.
وقال البيهقي : رواته ثقات، وهو متصل، قاله ابن حجر أيضاً، وقال مالك وأصحابه : تجب الزكاة في كل مقتات مدخر، وذلك عنده في ثمار الأشجار، إنما هو التمر والزبيب فقط، ومشهور مذهبه وجوب الزكاة في الزيتون إذا بلغ حبه خمسة أوسق. ولكنها تخرج من زيته بعد العصر، فيخرج عشره أو نصف عشره على ما سيأتي، فإن لم يبلغ حبه خمسة أوسق فلا زكاة عنده في زيته : وحكم السمسم وبزر الفجل الأحمر والقرطم حكم الزيتون في مشهور مذهبه يخرج من زيتها إن بلغ حبها النصاب.
وقال اللخمي : لا يضم زيت بعضها إلى بعض لاختلاف أجناسها، ومشهور مذهبه عدم وجوبها في التين، وأوجبها فيه جماعة من أصحابه بمقتضى أصوله وقال ابن عبد البر : أظن مالكاً ما كان يعلم أن التين ييبس ويقتات ويدخر ؛ ولو كان يعلم ذلك لجعله كالزبيب، ولما عده مع الفواكه التي لا تيبس، ولا تدخر كالرمان والفرسك، والذي تجب فيه من الحبوب عنده هو ما يقتات ويدخر، وذلك الحنطة والشعير والسلت والعلس والدخن والذرة والأرز والعدس والجلبان واللوبيا والجلجلان والترمس والفول والحمص والبسيلة.
ومشهور مذهبه أن الكرسنة لا زكاة فيها، لأنها علف، وعن أشهب وجوب الزكاة فيها، وهي من القطاني على مشهور مذهبه في باب الربا، دون باب الزكاة.
وقيل هي البسيلة، وجميع أنواع القطاني عند مالك جنس واحد في الزكاة، فلو حصد وسقا من فول ووسقاً من حمص، وآخر من عدس وآخر من جلبان، وآخر من لوبيا وجب عليه أن يضم بعضها إلى بعض، ويخرج الزكاة منها كل واحد بحسبه، وكذلك يضم عنده القمح والشعير والسلت بعضها إلى بعض كالصنف الواحد، وتخرج الزكاة منها كل بحسبه، ولا يضم عنده تمر إلى زبيب ولا حنطة إلى قطنية، ولا تمر إلى حنطة ولا أي جنس إلى جنس آخر غير ما ذكرنا عنه ضمه لتقارب المنفعة فيه عنده، والنوع الواحد كالتمر والزبيب، والحنطة يضم بعض أنواعه إلى بعض كصيحاني وبرني وسمراء ومحمولة وزبيب أسود وزبيب أحمر ونحو ذلك.
ولا زكاة عند مالك رحمه الله في شيء من الفواكه غير ما ذكرنا، كالرمان والتفاح والخوخ والإجاص، والكمثري، واللوز، والجوز، والجلوز، ونحو ذلك كما لا زكاة عنده في شيء من الخضراوات. قال في الموطأ : السنة التي لا اختلاف فيها عندنا، والذي سمعت من أهل العلم أنه ليس في شيء من الفواكه كلها صدقة، الرمان والفرسك والتين، وما أشبه ذلك، وما لم يشبهه إذا كان من الفواكه.
قال : ولا في القضب، ولا في البقول كلها صدقة، ولا في أثمانها إذا بيعت صدقة حتى يحول على أثمانها الحول من يوم بيعها، ويقبض صاحبها ثمنها وهو نصاب اه.
والفرسك بكسر الفاء والسين بينها راء ساكنة آخره كاف الخوخ، وهي لغة يمانية، وقيل : نوع مثله في القدر، وهو أجرد أملس أحمر وأصفر جيد، وقيل : ما ليس ينفلق عن نواة من الخوخ، وإذا كان الزرع أو الثمر مشتركاً بين اثنين فأكثر، فقد قال فيه مالك في الموطأ : في النخيل يكون بين الرجلين فيجذان منه ثمانية أوسق من التمر أنه لا صدقة عليهما فيها، وأنه إن كان لأحدهما منها ما يجذ منه خمسة أوسق، وللآخر ما يجذ أربعة أوسق أو أقل من ذلك في أرض واحدة، كانت الصدقة على صاحب الخمسة الأوسق، وليس على الذي جذ أربعة أوسق أو أقل منها صدقة، وكذلك العمل في الشركاء كلهم في كل زرع من الحبوب كلها يحصد، أو النخل يجذ أو الكرم يقطف، فإنه إذا كان كل رجل منهم يجذ من التمر، أو يقطف من الزبيب خمسة أوسق، أو يحصد من الحنطة خمسة أوسق، فعليه الزكاة، ومن كان حقه أقل من خمسة أوسق فلا صدقة عليه.
وإنما تجب الصدقة على من بلغ جذاذه أو قطافه أو حصاده خمسة أوسق، انتهى من موطأ مالك رحمه الله.
وإذا أمسك ذلك الحب أو التمر الذي أخرج زكاته سنين، ثم باعه فحكمه عند مالك ما ذكره في موطئه حيث قال : السنة عندنا أن كل ما أخرجت زكاته من هذه الأصناف كلها الحنطة والتمر والزبيب والحبوب كلها، ثم أمسكه صاحبه بعد أن أدى صدقته سنين ثم باعه، أنه ليس عليه في ثمنه زكاة حتى يحول على ثمنه الحول من يوم باعه، إذا كان أصل تلك الأصناف من فائدة أو غيرها، وأنه لم يكن للتجارة.
وإنما ذلك بمنزلة الطعام والحبوب والعروض يفيدها الرجل، ثم يمسكها سنين، ثم يبيعها بذهب أو ورق فلا يكون عليه في ثمنها زكاة حتّى يحول عليها الحول من يوم باعها، فإن كان أصل تلك العروض للتجارة فعلى صاحبها فيها الزكاة حين يبيعها، إذا كان حبسها سنة من يوم زكى المال الذي ابتاعها به، انتهى في الموطأ، وهذا في المحتكر، أما المدير فإنه يقومها بعد حول من زكاته، كما في المدونة عن ابن القاسم.
هذا هو حاصل مذهب مالك رحمه الله فيما تجب فيه الزكاة من الثمار والحبوب، ومذهب الشافعي رحمه الله، أنه لا تجب الزكاة في شيء من ثمار الأشجار أيضاً، إلا فيما كان قوتاً يدخر، وذلك عنده التمر والزبيب فقط، كما تقدم عن مالك، ولا تجب عنده في سواهما من الثمار كالتين والتفاح والسفرجل والرمان، ونحو ذلك، لأنه ليس من الأقوات ولا من الأموال المدخرة، ولا تجب عنده في طلع الفحال، لأنه لا يجيء منه الثمار.
واختلف قوله في الزيتون، فقال في القديم، تجب فيه الزكاة لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه جعل في الزيت العشر، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : في الزيتون الزكاة، وقال في الجديد : لا زكاة في الزيتون ؛ لأنه ليس بقوت فهو كالخضراوات.
واختلف قول الشافعي رحمه الله أيضاً في الورس، فقال في القديم : تجب فيه الزكاة، لما روي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كتب إلى بني خفاش، أن أدوا زكاة الذرة والورس، وقال في الجديد : لا زكاة فيه، لأنه نبت لا يقتات، فأشبه الخضراوات، وقال الشافعي رحمه الله من قال : لا عشر في الورس لم يوجب في الزعفران، ومن قال : يجب في الورس، فيحتمل أن يوجب في الزعفران، لأنهما طيبان، ويحتمل ألاّ يوجب في الزعفران ويفرق بينهما بأن الور
قوله تعالى :﴿ سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ اللَّهُ مَآ أَشْرَكْنَا ﴾ الآية.
ذكر في هذه الآية الكريمة أنهم سيقولون : لو شاء الله ما أشركنا، وذكر في غير في هذا الموضع أنهم قالوا ذلك بالفعل، كقوله في النحل :﴿ وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا ﴾ [ النحل : ٣٥ ] ﴿ وَقَالُواْ لَوْ شَآءَ الرَّحْمَانُ مَا عَبَدْنَاهُمْ ﴾ [ الزخرف : ٢٠ ] الآية.
ومرادهم أن الله لما كان قادراً على منعهم من الإشراك، ولم يمنعهم منه أن ذلك دليل على رضاه بشركهم، ولذلك كذبهم هنا بقوله :﴿ قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَآ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ ﴾ الآية، وكذبهم في الزخرف بقوله :﴿ مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ ﴾ [ الزخرف : ٢٠ ]، وقال في الزمر ﴿ وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ﴾ [ الزمر : ٧ ] الآية.
قوله تعالى :﴿ قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً ﴾.
الظاهر في قوله : ما حرم ربكم عليكم، أنه مضمن معنى ما وصاكم به فعلا، أو تركا ؛ لأن كلا من ترك الواجب، وفعل الحرام حرام، فالمعنى وصاكم ألا تشركوا، وأن تحسنوا بالوالدين إحساناً.
وقد بين تعالى أن هذا هو المراد بقوله :﴿ ذالِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ ﴾ [ الأنعام : ١٥١ ] الآية.
قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلَادَكُمْ مِّنْ إمْلَاقٍ ﴾ الآية.
نهى الله تعالى في هذه الآية الكريمة عن قتل الأولاد من أجل الفقر الواقع بالفعل. ونهى في سورة الإسراء عن قتلهم خشية الفقر المترقب المخوف منه، مع أنه غير واقع في الحال بقوله :﴿ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ ﴾ [ الإسراء : ٣١ ]، وقد أوضح صلى الله عليه وسلم معناه حين سأله عبد الله بن مسعود رضي الله عنه :«أي الذنب أعظم ؟ فقال :«أن تجعل لله نداً وهو خلقك »، قال : ثم أي ؟ قال :«أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك »، قال : ثم أي ؟ قال :«أن تزاني حليلة جارك »، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم :﴿ وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلها آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ ﴾ [ الفرقان : ٦٨ ] الآية.
وأخذ بعض أهل العلم من هذه الآية منع العزل ؛ لأنه وأد خفي، وحديث جابر :«كنا نعزل والوحي ينزل »، يدل على جوازه، لكن قال جماعة من أهل العلم : إنه لا يجوز عن الحرة إلا بإذنها، ويجوز عن الأمة بغير إذنها، والإملاق : الفقر، وقال بعض أهل بعض العلم : الإملاق الجوع.
وحكاه النقاش عن مؤرج، وقيل : الإملاق الإنفاق، يقال : أملق ماله بمعنى أنفقه، وذكر أن علياً قال لامرأته : أملقي ما شئت من مالك.
وحكي هذا القول عن منذر بن سعيد، ذكره القرطبي، وغيره، والصحيح الأول.
قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِي أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ﴾ الآية.
قد يتوهم غير العارف من مفهوم مخالفة هذه الآية الكريمة، أعني مفهوم الغاية في قوله :﴿ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ﴾ [ الأنعام : ١٥٢ ] إنه إذا بلغ أشده، فلا مانع من قربان ماله بغير التي هي أحسن، وليس ذلك مراداً بالآية، بل الغاية ببلوغ الأشد يراد بها أنه إن بلغ أشده يدفع إليه ماله، إن أونس منه الرشد، كما بينه تعالى بقوله :﴿ فَإِنْ ءَانَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ ﴾ [ النساء : ٦ ] الآية.
والتحقيق أن المراد بالأشد في هذه الآية البلوغ، بدليل قوله تعلى :﴿ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ ءَانَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ ﴾ [ النساء : ٦ ] الآية.
والبلوغ يكون بعلامات كثيرة، كالإنبات، واحتلام الغلام، وحيض الجارية، وحملها، وأكثر أهل العلم على أن سن البلوغ خمسة عشرة سنة ؛ ومن العلماء من قال : إذا بلغت قامته خمسة أشبار، فقد بلغ، ويروى هذا القول عن علي، وبه أخذ الفرزدق في قوله يرثي يزيد بن المهلب :
ما زال مذ عقدت يداه إزاره فسما فأدرك خمسة الأشبار
يدني خوافق من خوافق تلتقي في ظل معتبط الغبار مثار
والأشد، قال بعض العلماء : هو واحد لا جمع له كالآنك، وهو الرصاص، وقيل : واحده شد كفلس وأفلس، قاله القرطبي وغيره، وعن سيبويه أنه جمع شدة، ومعناه حسن، لأن العرب تقول : بلغ الغلام شدته إلا إن جمع الفعلة فيه على أفعل غير معهود، كما قاله الجوهري، وأما أنعم، فليس جمع نعمة، وإنما هو جمع نعم من قولهم بؤس ونعم، قاله القرطبي، وقال أيضاً : وأصل الأشد من شد النهار إذا ارتفع، يقال. أتيته شد النهار، وكان محمد بن محمد الضبي ينشد بيت عنترة :
عهدي به شد النهار كأنما خضب اللبان ورأسه بالعظلم
وقال الآخر :
تطيف به شد النهار ظعينة طويلة أنقاء اليدين سحوق
قال مقيده عفا الله عنه : ومنه قول كعب بن زهير :
شد النهار ذراعا عطيل نصف قامت فجاوبها نكد مثاكيل
فقوله :«شد النهار »، يعني وقت ارتفاعه، وهو بدل من اليوم في قوله قبله :
يوما يظل به الحرباء مصطخدا كأن ضاحيه بالشمس محلول
فشد النهار بدل من قوله يوماً، بدل بعض من كل، كما أن قوله :«يوماً » بدل من إذا في قوله قبل ذلك :
كأن أوب ذراعيها إذا عرقت وقد تلفع بالقور العساقيل
لأن الزمن المعبر عنه «بإذا » هو بعينه اليوم المذكور في قوله «يوماً يظل » البيت، ونظيره في القرآن، قوله تعالى :﴿ فَإِذَا جَآءَتِ الطَّآمَّةُ الْكُبْرَى يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ مَا سَعَى ﴾ [ النازعات : ٣٤ – ٣٥ ]، وقوله :﴿ فَإِذَا جَآءَتِ الصَّآخَّةُ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ ﴾ [ عبس : ٣٣ – ٣٤ ] الآية، وإعراب أبيات كعب هذه يدل على جواز تداخل البدل، وقوله :«ذراعا عطيل » خبر كأن في قوله :«كأن أوب ذراعيها » البيت.
وقال السدي : الأشد ثلاثون سنة، وقيل : أربعون سنة، وقيل : ستون سنة، ولا يخفى أن هذه الأقوال بعيدة عن المراد بالآية كما بينا، وإن جازت لغة، كما قال سحيم بن وثيل :
أخو خمسين مجتمع أشدى ونجذني مداورة الشؤون
* * *
تنبيه
قال مالك وأصحابه : إن الرشد الذي يدفع به المال إلى من بلغ النكاح، هو حفظ المال وحسن النظر في التصرف فيه، وإن كان فاسقاً شريباً، كما أن الصالح التقي إذا كان لا يحسن النظر في المال لا يدفع إليه ماله، قال ابن عاصم المالكي في تحفته :
وشارب الخمر إذا ما ثمرا لما يلي من ماله لن يحجرا
وصالح ليس يجيد النظرا في المال إن خيف الضياع حجرا
وقال الشافعي ومن وافقه : لا يكون الفاسق العاصي رشيداً، لأنه لا سفه أعظم من تعريضه نفسه لسخط الله وعذابه بارتكاب المعاصي، والله تعالى أعلم.
قوله تعالى :﴿ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ﴾.
أمر تعالى في هذه الآية الكريمة بإيفاء الكيل والميزان بالعدل، وذكر أن من أخل بإيفائه من غير قصد منه لذلك، لا حرج عليه لعدم قصده، ولم يذكر هنا عقاباً لمن تعمد ذلك، ولكن توعده بالويل في موضع آخر، ووبخه بأنه لا يظن البعث ليوم القيامة، وذلك في قوله :﴿ وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِين َالَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أَلا يَظُنُّ أُوْلَئِكَ أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُون َلِيَوْمٍ عَظِيم ٍيَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [ المطففين : ١ – ٦ ].
وذكر في موضع آخر أن إيفاء الكيل والميزان خير لفاعله، وأحسن عاقبة، وهو قوله تعالى :﴿ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذالِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ﴾ [ الإسراء : ٣٥ ].
قوله تعالى :﴿ وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ﴾.
أمر تعالى في هذه الآية الكريمة بالعدل في القول، ولو كان على ذي قرابة، وصرح في موضع آخر بالأمر بذلك، ولو كان على نفسه أو والديه، وهو قوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَآءِ للَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ ﴾ [ النساء : ١٣٥ ] الآية.
قوله تعالى :﴿ وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُواْ ﴾.
أمر تعالى في هذه الآية الكريمة بالإيفاء بعهد الله، وصرح في موضع آخر أن عبد الله سيسأل عنه يوم القيامة، بقوله :﴿ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مسئولا ﴾ [ الإسراء : ٣٤ ] أي عنه.
قوله تعالى :﴿ أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّآ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّآ أَهْدَى مِنْهُمْ ﴾ الآية.
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن من حكم إنزال القرآن العظيم قطع عذر كفار مكة. لئلا يقولوا : لو أنزل علينا كتاب لعلمنا به، ولكنا أهدى من اليهود والنصارى، الذين لم يعملوا بكتبهم، وصرح في موضع آخر أنهم أقسموا على ذلك، وأنه لما أنزل عليهم ما زادهم نزوله إلا نفوراً وبعداً عن الحق، لاستكبارهم ومكرهم السيىء، وهو قوله تعالى :﴿ وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأمَمِ فَلَمَّا جَآءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً اسْتِكْبَاراً فِي الأرض وَمَكْرَ السَّيِّىءِ وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّىءُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ ﴾ [ فاطر : ٤٢ – ٤٣ ].
قوله تعالى :﴿ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا ﴾ الآية.
قال بعض العلماء : إن هذا الفعل أعني صدف في هذه الآية لازم، ومعناه أعرض عنها، وهو مروي عن ابن عباس ومجاهد، وقتادة.
وقال السدي : صدف في هذه الآية متعدية للمفعول، والمفعول محذوف، والمعنى أنه صد غيره عن اتباع آيات الله، والقرآن يدل لقول السدي، لأن إعراض هذا الذي لا أحد أظلم منه عن آيات الله صرح به في قوله :﴿ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ ﴾ إذا لا إعراض أعظم من التكذيب، فدل ذلك على أن المراد بقوله :﴿ وَصَدَفَ عَنْهَا ﴾ أنه صد غيره عنها فصار جامعاً بين الضلال والإضلال.
وعلى القول الأول فمعنى صدف مستغنى عنه بقوله «كَذَّبَ »، ونظير الآية على القول الذي يشهد له القرآن، وهو قول السدي.
قوله تعالى :﴿ وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ ﴾.
وقوله :﴿ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ ﴾ [ النحل : ٨٨ ] الآية.
وقد يوجه قول ابن عباس وقتادة ومجاهد بأن المراد بتكذيبه وإعراضه، أنه لم يؤمن بها قلبه، ولم تعمل بها جوارحه، ونظيره قوله تعالى :﴿ فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّى وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى ﴾ [ القيامة : ٣١ -٣٢ ] ونحوها من الآيات الدالة على اشتمال الكافر على التكذيب بقلبه، وترك العمل بجوارحه، قال ابن كثير في تفسيره، بعد أن أشار إلى هذا : ولكن كلام السدي أقوى وأظهر والله أعلم اه.
وإطلاق صدف بمعنى أعرض كثير في كلام العرب، ومنه قول أبي سفيان بن الحارث :
عجبت لحكم الله فينا وقد بدا له صدفنا عن كل حق منزل
وروي أن ابن عباس أنشد بيت أبي سفيان هذا لهذا المعنى، ومنه أيضاً قول ابن الرقاع :
إذا ذكرن حديثاً قلن أحسنه وهن عن كل سوء يتقي صدف
أي معرضات.
قوله تعالى :﴿ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِي رَبُّكَ ﴾ الآية.
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة إتيان الله جل وعلا وملائكته يوم القيامة، وذكر ذلك في موضع آخر، وزاد فيه أن الملائكة يجيئون صفوفاً وهو قوله تعالى :﴿ وَجَآءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً ﴾ [ الفجر : ٢٢ ]، وذكره في موضع آخر، وزاد فيه أنه جل وعلا يأتي في ظلل من الغمام وهو قوله تعالى :﴿ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ ﴾ [ البقرة : ٢١٠ ] الآية، ومثل هذا من صفات الله تعالى التي وصف بها نفسه يمر كما جاء ويؤمن بها، ويعتقد أنه حق، وأنه لا يشبه شيئاً من صفات المخلوقين. فسبحان من أحاط بكل شيء علماً ﴿ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً ﴾ [ طه : ١١٠ ].
قوله تعالى :﴿ قُلْ إِنَّ صلاتي وَنُسُكِي ﴾ الآية.
قال بعض العلماء : المراد بالنسك هنا النحر، لأن الكفار كانوا يتقربون لأصنامهم بعبادة من أعظم العبادات : هي النحر. فأمر الله تعالى نبيه أن يقول إن صلاته ونحره كلاهما خالص لله تعالى، ويدل لهذا قوله تعالى :﴿ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ﴾ [ الكوثر : ٢ ]، وقال بعض العلماء : النسك جميع العبادات، ويدخل فيه النحر، وقال بعضهم : المراد بقوله :﴿ وَانْحَرْ ﴾ وضع اليد اليمنى على اليسرى تحت النحر في الصلاة والله تعالى أعلم.
Icon