بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الأنعام١( قال أبو محمد )٢ : روى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم ( أن )٣ سورة الأنعام نزلت ومعها موكب٤ من الملائكة، سد٥ ما بين الخافقين، لهم زَجَل٦ بالتسبيح، والأرض لهم ترتج٧، ورسول الله يقول : " سبحان ربي٨ العظيم " ثلاث مرات٩.
قال ابن عباس : نزلت بمكة جملةً، ومعها سبعون ألف ملك حولها١٠ بالتسبيح١١. وعن ابن عباس : نزلت ليلاً بمكة، وحولها سبعون ألف ملك ( يجأرون )١٢ حولها بالتسبيح١٣.
٢ ساقطة من ب ج د..
٣ ساقطة من ب..
٤ ب د: مركب..
٥ ج: شد..
٦ ب: وجل..
٧ الظاهر من الطمس في (أ) أن بعدها لفظة مشطبا عليها..
٨ ب: سبحون بى..
٩ قال القرطبي – في أحكامه ٦/٣٨٣ – قبله: (وأسند أبو جعفر النحاس قال: حدثنا محمد بن يحيى، أبو حاتم روح بن الفرج مولى الحضارمة قال: حدثنا أحمد بن محمد أبو بكر العمري، حدثنا ابن أبي فُدْيكَ، حدثني عمر بن طلحة بن علقمة بن وقاص عن نافع أبي سهل بن مالك عن أنس ابن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وذكر الحديث. وفي الدر ٣/٢٤٣ و٢٤٤: أخرجه (الطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان، والسلفي في الطيوريات عن أنس)، وانظر: المطالب العالية ٣/٣٢٩..
١٠ ب: حف لها..
١١ انظر: التفسير الكبير ١٢/١٤١، والدر ٣/٢٤٣..
١٢ مطموسة في (أ) وعليها علامة تضبيب، وما استدرك في الهامش مخروم.
ب: يحوون. ج د: يجدون. والجأر والجؤار: رفع الصوت مع التضرّع والاستغاثة. انظر: اللسان: جأر..
١٣ انظر: تفسير ابن كثير ٢/١٢٦، والدر ٣/٢٤٣، وفي كل منهما سنَدٌ إليه، وانظر: المحرر ٦/١..
ﰡ
قوله: ﴿الحمد للَّهِ الذي خَلَقَ السماوات والأرض﴾ الآية.
المعنى: الحمد الخالص الكامل لله. ومُخرج الكلام مخرج الخبر، ومعناه الأمر، أي: أخلصوا الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض، وهي من أعظم الآيات، وأضاف إلى ذلك - من آياته - إظلام الليل وضياء النهار.
قال قتادة: " خلق السماوات قبل الأرض، والظلمة قبل النور، والجنة قبل النار ".
ومعنى: ﴿وَجَعَلَ﴾ هنا، خلق، وإذا كانت بمعنى " خلق "، لم تتعد (إلا)
وقوله: ﴿ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾ الآية.
﴿ثْمَّ﴾ لغير مُهلَة، لأن الله قد قضى الآجال كلها قبل خلق كل / شيء، وإنما ﴿ثْمَّ﴾ لإتيان خبر بعد خبر، لا لترتيب زمان بعد زمان.
ومعناه: أن الله يعجب خلقه من هؤلاء الذين يجعلون لله عديلاً ومثيلاً ومساوياً، وهو خلق السماوات والأرض والظلمات والنور، ومن جعلوه عديلاً لا يقدر على شيء من ذلك ولا من غيره، فذلك عجب من فاعله.
وقيل: إنها نزلت في (المانية) الذين يعبدون النور والظلمة يقولون: الخير من النور، والشر من الظلمة، فعدلوا بالله خلقه، وعبدوا
(و) ذكر (عن) عبد الله بن أبي رباح أنه قال: فاتحة التوراة، فاتحة الأنعام: ﴿الحمد للَّهِ﴾ إلى ﴿يَعْدِلُونَ﴾ قال: وخاتمة التوراة خاتمة هود ﴿وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾.
قال مجاهد: ﴿يَعْدِلُونَ﴾ يشركون.
وهذه الآية نزلت في أهل الكتاب عند جماعة من المفسرين. وقال أكثرهم: (عني) بها المشركون من عبدة الأوثان وسائر أصنافهم.
قوله: ﴿هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مِّن طِينٍ﴾ الآية.
المعنى: أن الله خلق آدم من طين، فخوطب الخلق بذلك، لأنهم ولده، وهو أصل لهم، قال قتادة ومجاهد والسدي. قال ابن زيد: خلق آدم من طين، ثم خُلقنا
وقيل: المعنى: أن النطفة من طين، لكن قَلَبهَا الله تعالى ذكره حتى كان الإنسان منها.
وقوله: ﴿ثُمَّ قضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ﴾.
الأجل الأول: أجل الإنسان من حيث يخرج إلى الدنيا إلى أن يموت، والأجل الثاني: هو ما بين وقت موته إلى أن يُبعث، قاله قتادة والضحاك والحسن. وقال ابن جبير: الأول الدنيا، والثاني الآخرة. وكذلك قال مجاهد. وقال عكرمة: الأول: الموت، والثاني: الآخرة، كالقول الأول، وكذلك قال ابن عباس، وقاله السدي.
و ﴿ثُمَّ﴾ - على هذه الأقوال كلها - يراد بها التقديم للخبر الثاني على الأول.
كما قال الشاعر:
وقيل: الأول قبض الروح في النوم، والثاني قبض الروح عند الموت، روي ذلك عن ابن عباس أيضاً. وقيل: معنى ذلك أن الأول هو ما أعلمنا (أَلاَّ نبَيَّ) بعد محمد ﷺ، والآخر هو القيامة. وقيل: الأول ما نعرفه من الأهِلّة وأوقات الزروع ونحو ذلك، والأجل الثاني: موت الإنسان متى يكون. ومعنى ﴿ثُمَّ قضى أَجَلاً﴾ لم يرد أنه قضى الأجل خلق آدم، بل الأجل قَضاهُ قبل خلق المخلوقات كلها، ولكن الكلام محمول على الخبر من الله جل ذكره لنا، كأنه قال: أخبركم أن الله خلقكم من طين، يعني آدم، ثم أخبركم أن الله قضى أجلاً قبل خلقه لآدم، ف (ثم) إنما دخلت لنسق الخبر الثاني على الأول، لا لوقت الفعلين.
وقوله: ﴿ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ﴾ معناه: تشكون (في من) خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور، وقضى أجل الموت وأجل الساعة، إنه إله واحد قادر، لا عديل له ولا شبيه.
فسوف يأتيهم (أخبار) تكذيبهم، وهي ما حل عليهم من الأسر والسيف يوم بدر، وفتح (مكة) وغير ذلك، ومعناه: سوف يعلمون ما تؤول إليه أمورهم.
قوله: ﴿أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ﴾ الآية.
والمعنى: ألم ير هؤلاء المكذبون بمحمد، كم أهلكنا من قبلهم من القرون، وهي الأمم الخالية، مُكّنوا في الأرض ما لم يمكن لهؤلاء، وأرسلت السماء عليهم مدراراً، وفجرت العيون من تحتهم. ومعنى مدراراً (أي) (غزيراً دائمة)، فأعطت الأرض ثمارها، فعصوا، فأهلكوا بعصيانهم. وهذا وعظ وتخويف من الله
والقرن: ستون عاماً. وقيل: سبعون. وقيل: ثمانون. وقيل: مائة. وقيل: القرن كل عالم في عصر، وهو مأخوذ من الاقتران، لأن بعضهم مقترن ببعض، فهذا يدل على أنه العصر.
قوله: ﴿وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً - آخَرِينَ﴾: أي: أحدثنا، ومعنى الخطاب في الآية في قوله: ﴿لَّكُمْ﴾ - وقد تقدم ذكر الغيبة في قوله: ﴿أَلَمْ يَرَوْاْ﴾ - أن العرب إذا أخبرت خبراً عن غائب - فأدخلت فيه قوماً - وجهت الخبر أحياناً إلى الغائب وأحياناً إلى المخاطب، فيقولون: قلت لعبد الله: " ما أكرمه "، وإن شئت: " ما أكرمك "، وهو مثل:
قوله: ﴿وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كتابا فِي قِرْطَاسٍ﴾ الآية:
معنى الآية: أن الله أعلم نبيه أن هؤلاء المكذبين لا ينفعهم شيء من الآيات، (و) لا يرجعون عن جحودهم، وأنهم لو رأوا كتاباً نزل (عليهم) من السماء في قرطاس ولمسوه بأيديهم، ورأوا فيه صدق ما جئتهم به، لكفروا به وقالوا: هذا سحر مبين.
قال ابن عباس: لو نزل من السماء صُحُف فيها كتاب لزادهم ذلك تكذيباً.
روي عن نافع أن الوقف على ﴿فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ﴾، وهو بعيد عند غيره، لأن ﴿لَقَالَ﴾ جواب (لو).
قوله: ﴿وَقَالُواْ لولا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ﴾ الآية.
المعنى: أن الله أخبر عنهم أنهم قالوا لمحمد: هلا أنزل عليك ملك في صورته يصدقك ويخبرنا بنبوتك، فقال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ الأمر﴾ أي: لو فعلنا فكفروا
وقيل: المعنى: لو رأوه / في صورته لماتوا، قاله ابن عباس. وقد قال في " الفرقان " عنهم إنهم قالوا ﴿لولا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ﴾ أي: هلا كان ذلك.
﴿بِسمِ الله الرحمن الرَّحِيمِ﴾ قوله (تعالى): ﴿وَلَوْ جعلناه مَلَكاً لجعلناه رَجُلاً﴾ الآية.
المعنى: لو جعلنا الرسول إليهم ملكاً لجعلناهُ في صورة رجل، لأنهم لا يستطيعون مخاطبة الملك على هيئته، ولا يرونه.
قال ابن عباس: معنى ﴿لَّقُضِيَ الأمر﴾ أي: لو رأوه لماتوا من صورته، ولا يخاطبهم إلا مَن هو في صورة الآدمي، فإذا كان رجلاً كان ذلك أكثر لبساً عليهم
قال أبو إسحاق: كانوا يقولون لضعفتهم: إنما محمد بشر، لا فرق بينكم وبينه، فيلبسون عليهم بهذا، فأعلم الله نبيه أنه لو أنزل ملكاً لأنزله في صورة رجل، إذ كانوا لا يقدرون على رؤية الملك في صورته كما سألوا، ولكان يقع عليهم من الّلبس ما وقع عليهم في محمد.
يقال: " لَبَسْتُ الأَمرَ ": (أي) أشكلته وشبهته، أي: أدخلت فيه الشبه. ومُخرج قوله: ﴿وَلَلَبَسْنَا﴾ مُخرج قوله: ﴿يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ﴾ [البقرة: ١٥] لأنه مجازاة لفعلهم، فسمي باسمه، وليس به.
قوله: ﴿وَلَقَدِ استهزىء بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ﴾ الآية.
المعنى أن الله جل ذكره سَلّى نبيه ليهُوَّن ما يلقى من المشركين، وأعلمه أن من تمادى على ذلك يحل به ما حل بالأمم الماضية الذين استهزأوا برسلهم.
ومعنى " فحاق بهم ": أي: وجب ونزل وأحاط بهم ما كانوا يُنكرون، وهو العذاب.
قوله: ﴿قُلْ سِيرُواْ فِي الأرض ثُمَّ انظروا﴾ الآية.
المعنى: قل يا محمد لهؤلاء العادلين بالله غيره، المكذبين بك: سيروا في الأرض، أي: جولوا فيها، تروا ما (صار) إليه عاقبة أشكالهم من الناس - الذين كذبوا الرسل - من العذاب والهلاك فتحذروا (أن يصيبكم) مثل ما أصابهم.
قوله: ﴿قُل لِّمَن مَّا فِي السماوات والأرض (قُل للَّهِ)﴾ الآية.
قوله ﴿الذين خسروا﴾ في موضع رفع بالابتداء. ويجوز أن يكون في موضع نصب على البدل من المضمر في ﴿لَيَجْمَعَنَّكُمْ﴾، وهو قول الأخفش. وقيل: إن
ورد المبرد قول الأخفش، وقال: لا يجوز أن يبدل من المخاطب إلا المخاطب، لو قلت: " مَرَرْت بك زيدٍ "، و " مررت بي زيد " لم يجز، لأن هذا لا يُشكِل فيُبيَّن، ولكنه مرفوع بالابتداء، و ﴿فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ الخبر.
وقال ابن قتيبة: ﴿الذين﴾ في موضع خفض على البدل أو النعت " للمكذبين " الذين تقدم ذكرهم.
ومعنى الآية: قل يا محمد لهؤلاء العادلين المكذبين ﴿لِّمَن مَّا فِي السماوات والأرض﴾ أي: لمن ملك ذلك؟، وليس لهم جواب عن ذلك، فكأنهم طلبوا الجواب من السائل، فقالوا لمن ذلك؟، فقيل لهم: ﴿للَّهِ﴾، فصار السؤال والجواب من جهة واحدة في الظاهر والجواب إنما هو (جواب) لسؤال مضمر، لأنهم عجزوا عن الجواب فقالوا: لمن ذلك؟، فأجيبوا: ﴿للَّهِ﴾، أي: هو للهِ، فأخبرهم أن ذلك للهِ، وأعلمهم أن الله كتب على نفسه الرحمة لعباده، فلا يعجل عليهم بالعقوبة، فتوبوا إليه.
روى أبو هريرة أن النبي عليه السلام قال: " كَتَب اللهُ كِتاباً قبلَ الخَلْقِ: إن رَحْمَتي
وعن سلمان أن الله لما خلَق السماء و (الأرض)، خلقَ مائةَ رحمة، كلُّ رحمةٍ تملأُ ما بين السّماء والأرضِ، فَعِندهَ تِسعٌ وتسعونَ رحمةً، وقَسَّمَ رحمةً بينَ الخلائقَ، (فبها يتعاطفون)، فإذا كان ذلك - يعني يوم القيامة - قَصَرها الله على المتقين، وزادهم تسعاً وتسعين. وعن سلمان قال: نجد ذلك في التوراة.
وروى الحكم بن أبان عن عكرمة قال: إذا فَرَغ الله تعالى من القضاء بين خَلْقه، أخرج كتاباً من تحتِ العرش فيه: (أن رَحْمَتِي سَبَقَت غضبي وأنا أرحمُ الراحمين). قال: فيَخْرُجُ من النار مثل أهل الجنة، أو مِثْليْ أهل الجنة، مكتوباً ها هنا - وأشار الحكم إلى نحرِهِ - " عُتَقاء اللهِ ". فقال رجل لعكرمة: فإن الله يقول: ﴿يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النار وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ﴾ [المائدة: ٣٧]. قال عكرمة: أولئك أهلها
وعن عبد الله بن عمر أنه كان يقول: إن لله مائة رحمةٍ، أهبط منها رحمةً إلى أهل الدنيا، يتراحم بها الجِنُّ والإِنسُ وطائرُ السماءِ، وحيتان الماء، ودوابُّ الأرض وهوامُّها، وما بين الهواء، واختزن عنده تسعاً وتسعين رحمة، حتى إذا كان يوم القيامة، اختلج الرحمة التي كان أهبطها إلى أهل الدنيا، فحَولها إلى ما عنده، فجعلها في قلوب أهل الجنة، (و) على أهل الجنة.
فمعنى ﴿كَتَبَ على نَفْسِهِ الرحمة﴾: أمهلكم إلى يوم القيامة، لأن معنى ﴿لَيَجْمَعَنَّكُمْ﴾ أي: يُمهلكم حتى يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه.
ومعنى ﴿كَتَبَ﴾ هنا: قضى.
واللام في ﴿لَيَجْمَعَنَّكُمْ﴾ لام قسم، جواب لِ ﴿كَتَبَ﴾، لأن ﴿كَتَبَ﴾ بمعنى " أوجب " والقسم إيجاب، (فاحتاج الايجاب إلى جواب، إذ هو بمعنى القسم في الإيجاب)، وله نظائر كثيرة في القرآن تقاس على هذا.
والوقف على ﴿الرحمة﴾ حسن عند أبي (حاتم والفراء)، ويكون ﴿لَيَجْمَعَنَّكُمْ﴾ مبتدأ على القسم على قولهما.
وقيل: إن ﴿لَيَجْمَعَنَّكُمْ﴾ بدل من (الرحمة)، فلا يوقف على (الرحمة)، ومعنى
قال نافع: ﴿قُل للَّهِ﴾ تمام. ﴿لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾: وقف حسن عند نافع وغيره.
قوله: ﴿وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي الليل والنهار﴾ الآية.
المعنى: وقل لهم - يا محمد -: ﴿وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي الليل والنهار﴾ أي: ما استقر، فكيف تعدلون به وتشركون بمن له الخلق والأمر.
المعنى: قل (لهم) يا محمد: أغير الله أتخذ ولياً وهو فاطر السماوات (والأرض)، أي: مبتدعهما وخالقهما.
قال ابن عباس: كنت لا أدري ما ﴿فَاطِرِ السماوات والأرض﴾، حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما لصاحبه: " أنا فطرتها ": (أي) ابتدأتها.
وقرأ سعيد بن جبير ومجاهد والأعمش: (ولا يَطعم) بفتح الياء، وقرأوا الأول مثل الجماعة على معنى: وهو يَرزقُ ولا يأكل. وقرأه الجماعة على معنى: " وهو يَرزق ولا يُرزق ".
وقوله: (تعالى): ﴿إني أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ﴾ أي: قل لهم يا محمد: إني أمرت
وقال بعض العلماء قوله: ﴿أُمِرْتُ﴾ بدل من " قيل لي: كن أول من أسلم و (قيل لي): لا تكونن من المشركين "، فالثاني محمول على معنى الأول، اجتُزئ بذكر. الأمر عن ذكر / القول، والمعنى: قل " إني قيل لي: كن أول من أسلم، ولا تكونن من المشركين ". فهما جميعاً محمولان على القول لكن أتى الأول بغير لفظ القول وفيه معناه، فحمل الثاني على المعنى. والوقف على (الأرض) حسن، وعلى (يُطعَم حسن.)
قوله: ﴿قُلْ إني أَخَافُ﴾ الآية.
قوله: ﴿مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ﴾ الآية.
من قرأ ﴿يُصْرَفْ﴾ بضم الياء وفتح الراء، فعلى ما لم يُسمَّ فاعله. ومن فتح الياء وكسر الراء، فعلى إضمار، والتقدير: " من يَصرِف اللهُ عنه العذاب " يومئذ.
والأول أحسن عند سيبويه، لأن الإضمار كلما قل كان أحسن. فتقدير من ضم الياء: من يُصرَف عنه يومئذ فَقد رحِمَه اللهُ، ففي ﴿يُصْرَفْ﴾ ذكر العذاب المتقدم، ويضمر الاسم بعد (رحمه)، وفي الفتح يضمر الاسم والعذاب جميعاً.
وفي قراءة عبد الله وأُبيّ: (من يصرف الله عن يوم القيامة)، وهذا شاهد لمن قرأ بالفتح.
واحتج بعضهم لقراءة من فتح الياء أنه قريب من اسم الله، كأن تقديره: من يَصرف ربّي (العذاب عنه) فقد رحمه، واحتج أيضاً بقوله: ﴿فَقَدْ رَحِمَهُ﴾ ولم يقل: (" فقد رُحم ")، فجريان آخر الكلام على أوله أحسن من مخالفته لأوله. قال: ولو قلت: " من وَهَب لك درهماً فقد أكرَمَك "، كان أحسن من أن تقول: " من وُهِبَ له درهم فقد أكرمه "، وقولك: " من يؤخذ منه ماله، فقد ظُلم " أحسن من قولك " من يؤخذ منه ماله فقد ظَلَمه "، وهو بعيد في الكلام وكذلك من قرأ: (" من " يُصرَف عنهُ يوْمَئذ فَقد رَحَمِه.
﴿وَذَلِكَ ا﴾: إشارة إلى صرف العذاب. و ﴿الفوز﴾: النجاة من الهلاك، والظفر بالمطلوب، ﴿المبين﴾ (أي) الظاهر لمن وفقه الله.
قوله: ﴿وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ﴾ الآية.
المعنى: إِن يمسك (الله) - يا محمد - بضر، فلا يكشفه إلا هو، (و) الضر - هنا -: الشدة في العيش والضيق، ﴿وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ﴾ أي: برخاء في عيش وسَعَة، فهو على ذلك وغيره قدير.
قوله ﴿إِلاَّ هُوَ﴾ تمام حسن.
قوله: ﴿وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ﴾ الآية.
المعنى: والله المُذلّل لعباده، العالي عليهم علّو قدرة وقهر،
قوله: ﴿قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شهادة﴾ الآية.
﴿أَيُّ﴾ اسم مبهم معرب، وإنما أُعرِب دون سائر المبهمات لعلتين:
- إحداهما: أنه قد أُلزم الإضافة فخالف سائر المبهمات، والمضاف إليه يَحل محل التنوين فيه، إذ لزمه ما هو عِوضٌ من التنوين، وإذا قدر التنوين فيه وجب إعرابه، لأن التنوين علامة للأمكن، والأمكنُ لا يكون إلا معرباً.
- والوجه الآخر: أنه مخالف لسائر المبهمات، لأنه يدل على البعض المعيّن،
ومعنى الآية: قل يا محمد لهؤلاء الذين جحدوا نبوتك: أي: شيء أعظم شهادة؟، ثم أخبرهم بأن الله أعظم شهادة ممن يجوز عليه السهو والغلط والكذب والخطأ من خلقه. وقيل: المعنى: سلهم يا محمد: أي: شيء أكبر شهادة حتى أستشهد به عليكم؟.
(و) قال الكلبي: قال المشركون - من أهل مكة - للنبي: من يعلم أنك رسول الله فيشهد لك، فأنزل الله ﴿قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شهادة قُلِ الله شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ﴾ أني رسوله، ﴿وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذا القرآن لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ﴾.
والله - جل ذكره - شيء بهذه الآية، لكنه شيء لا كالأشياء ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: ١١].
وقوله: ﴿وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذا القرآن﴾ (أي وقل لهم: أوحي إلي هذا القرآن) لأنذركم
قال محمد بن كعب القرطبي: من بلغته آية فكأنما رأى الرسول.
قال ابن عباس: " من بلغه هذا القرآن فهو له نذير ".
ف ﴿من﴾ في موضع نصب. وقيل: المعنى في ﴿وَمَن بَلَغَ﴾: أي: وأنذر من بلغ الحلم، لأن من لم يبلغ الحلم، فليس بمخاطب ولا متَعَبد. والقول الأول: " إن معناه: ومن بلغه القرآن "، وهو أولى.
وقال مجاهد ﴿وَمَن بَلَغَ﴾ أي: من أسلم. وقيل معناه: ﴿لأُنذِرَكُمْ بِهِ﴾ أيها
(و) قوله: ﴿أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهءَالِهَةً أخرى﴾: هذا على التوبيخ لهم. ثم قال لنبيه: قل يا محمد لا أشهد بما تشهدون، إنما هو إله واحد، وإنني بريء من إشراككم بربكم.
(و) روى ابن عباس " أن طائفة من اليهود قالوا للنبي: يا محمد، ما نعلم مع الله إلهاً غيره!، فقال رسول الله: لا إله إلا الله، بذلك بُعثت وإلى ذلك أدعو "،
ووقف نافع: ﴿قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شهادة﴾. والتمام عند الجماعة ﴿وَمَن بَلَغَ﴾.
قوله: ﴿الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب﴾ الآية.
(معنى ذلك أن أهل الكتاب - هنا - (هم)) اليهود والنصارى. ومعنى ﴿يَعْرِفُونَهُ﴾: أي: يعرفون أن دين الله الاسلام، وأن محمدا رسول الله كما يعرفون أبناءهم، وهو عندهم في التوراة والانجيل.
وقيل: المعنى: يعرفون محمداً كمعرفتهم أبناءهم. وقد قال بعض من أسلم من أهل الكتاب: والله لنحن أَعَرفُ به من أبنائنا، لأن صفته ونعته في الكتاب، وأما أبناؤنا فلسنا ندري ما أحدث النساء فيهم.
وقيل: يعرفون القرآن.
وأكثر العلماء على أن الهاء تعود على النبي.
وقوله: ﴿الذين خسروا أَنْفُسَهُمْ﴾ أي: أوبقوها في النار بإنكارهم محمداً، ﴿فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ بخسارتهم أنفسهم.
و ﴿كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمُ﴾: تمام إن جعلت ﴿الذين﴾ مبتدأ.
قوله: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً﴾ الآية.
المعنى: من أشدُّ ظلما ممن اختلق على الله قول الباطل، أو (جحد آياته)
قوله: ﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً﴾ الآية.
المعنى: أن هؤلاء المفترين على الله الكذب لا يفلحون في الدنيا، ولا يوم نحشرهم جميعاً (أي) ولا يوم القيامة، ففي الكلام تقدير محذوف.
ومعنى: ﴿الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ﴾ (أي تزعمون) " أنهم (لكم آلهة) من دون الله افتراءً وكذباً ".
وقال القتبي: المعنى أين آلهتكم التي جعلتموها لي شركاء، فنسبها إليهم، لأنهم ادعوها أنها شركاء لله.
قرأ ابن مسعود وأبي (وما كان فتنتهُم) بالرفع.
ومن (قرأ) تكن بالتاء، ونصب " الفتنة "، فإنما أنَّث، لأن " القول " هو " الفتنة "، فأنث على المعنى، وهو مذهب سيبويه.
وقيل: إنما أنت، لأن ﴿إِلاَّ أَن قَالُواْ﴾ بمنزلة " مقالتهم " فأنث على ذلك. و (قد قرئ) برفع " الفتنة "، والياء في (يكن) على المعنى، لأن " الفتنة بمعنى " الفتون ".
ومعناه عند أبي إسحاق أن المشركين افتتنوا بشركهم في الدنيا، فأخبر الله عنهم أن فتنتهم التي كانت في الدنيا عادت انتفاء من الشرك، وهذا مِثْل إنسان يرى (محبّاً له) في هَلكة فيتبرأ منه، فيقال له: صارت محبتك (تبرؤا).
واختار الطبري قراءة النصب في (ربَّنا)، لأنه جواب من المشركين الذين قيل لهم: ﴿أَيْنَ شُرَكَآؤُكُم﴾ [الأنعام: ٢٢]؟، فنفوا عن أنفسهم أن يكونوا فعلوا ذلك وادعوه أنه ربهم كان فنادوه، ولذلك قال لمحمد: ﴿انظر كَيْفَ كَذَبُواْ على أَنفُسِهِمْ﴾ [الأنعام: ٢٤].
وإنما قصدوا إلى نفي الشرك عن أنفسهم دون سائر الذنوب والكبائر، لأنهم
قوله: ﴿انظر كَيْفَ كَذَبُواْ على أَنفُسِهِمْ﴾ الآية.
معنى النظر هنا: هو نظر القلب " معناه: تَبيَّنْ فاعلم كيف كذبوا في الآخرة ".
وقوله: ﴿كَذَبُواْ﴾ معناه: يكذبون، إلا أنه لما كان أمراً يقع بلا شك، أخبر عنه بمثل ما يخبر (عما) وقع.
ومعنى ﴿وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ﴾ أي: وفارقتهم الأنداد والأصنام، وتبرأوا منها. وقيل: (معناه) ذهب عنهم ما كانوا يختلقون.
وقال ابن جبير: لما أمر بإخراج من دخل النار من أهل التوحيد، قال من فيها من المشركين: تعالوا فلنقل " لا إله إلا الله " لعلنا نخرج من هؤلاء. فقالوا، فلم يُصَدّقوا، فحلفوا فقالوا: ﴿والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾.
وقال قطرب: إنهم لم يتعمدوا الكذب، ولكنهم قالوا ما قالوا وهم عند أنفسهم صادقون، لكنهم كاذبون عند الله، ولذلك قال: ﴿انظر كَيْفَ كَذَبُواْ﴾.
والذي يدل على خطأ قول قطرب قوله: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا
قوله: ﴿وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ﴾ الآية.
المعنى: ومن هؤلاء المختلقين على الله الكذب من يستمع القرآن منك يا محمد - قال مجاهد: هم قريش - ويستمع كل واحد ما تدعوه إليه من الإيمان، فلا ينفعه ذلك، ولا يَعِيهِ، ولا يتدبره، ولا يعقله عنك، لأن الله جعل على قلبه كنانا، أي / غطاء، وجمعه أكنة، وجعل في آذانهم وقراً عن ما تقول لهم
(و) قوله: ﴿وَإِن يَرَوْاْ كُلَّءَايَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا﴾ يريد أنهم رأوا القمر منشقاً، فقالوا: (سحر، ثم) أخبر عنهم أنهم إذا أتوا يجادلون قالوا: هذا سحر ((مبين)).
قوله: ﴿مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ﴾ ((و)) ﴿وَقْراً﴾ تمامان عند الأخفش.
و ﴿أَن يَفْقَهُوهُ﴾ (تمام) عند غيره. و (بها) التمام الحسن عند أبي حاتم.
ومعنى جدالهم المؤمنين أن ابن عباس قال: كان المشركون يجادلون المسلمين في الذبيحة، يقولون لهم: ما ذبحتم وقتلتهم تأكلون، وما قتل الله لا تأكلون وأنتم تتبعون أمر الله.
(وواحد الأساطير " أسطورة " كأًُضْحوكة (وأُحدوثَة)، وقيل:) واحده " أَسْطار "، كأقوال، وأَسْطار جمع سَطَر، (يقال: سَطْر) وسَطَر. وقال الأخفش: هو من الجمع الذي لا واحد له، كأبابيل ومذاكير وعباديد، وقد قيل: إن واحد الأبابيل " إِبيّل ". وقيل: هو " إِبّوْل "، كِعَجَّوْلِ.
المعنى أن الله أخبر عن المشركين أنهم ينهون الناس عن اتباع النبي والقبول منه، ﴿وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ﴾ أي: يبعدون.
قال ابن عباس: لا يأتونه ولا يدّعون أحداً يأتيه. فالهاء - على هذا - تعود على النبي.
وقيل: المعنى أنهم ينهون [الناس عن] أن يستمعوا ما في القرآن، ويتباعدون هم عن استماعه، فالهاء للقرآن.
وقيل: المعنى: أنهم ينهون الناس عن أذى محمد، (ويتباعدون هم) عنه، أي: عن اتباعه.
وكان الطبري يختار أن تكون عامة في المشركين، لأن أول الكلام جرى على العموم، فيكون المعنى على هذا: وهم ينهون الناس أن يتبعوه ويتباعدون عن اتباعه، وما ﴿يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ﴾ أي: ما يهلكون بصدهم عنك إلا أنفسهم، لأنهم يكسبونها سخط الله ﴿وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ (أن) ذلك راجع عليهم.
وقرأ الحسن ﴿وَيَنْأَوْنَ (عَنْهُ)﴾ بإلقاء حركة الهمزة على النون على
قوله: ﴿وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النار﴾ الآية.
من قرأ برفع (نكذبُ) و (نكونُ) فعلى القطع، (أي: يا ليتنا) نرد، ثم ابتدأ على معنى: ونحن لا نكذب. هذا قول سيبويه، والمعنى عنده: ونحن لا نكذب رُددنا أو لم نُردّ، فإنما سألوا الرد وقد أوجبوا على أنفسهم أنهم لا يعودون للتكذيب ألبتة، رُدوا أو لم يُردوّا، ومثله عند سيبويه: " دعني ولا أعود ": أي: وأنا لا أعود. تركتني أو لم تتركني.
ومن نصب فإنما أراد أن يكون " رد " يتبعه ترك عودة، كأنه في المعنى: إن رُددنا لم نعد للتكذيب. ومثله: " زرني وأزورَك "، (أي، لتكن
ووجه آخر في الرفع، وهو أن يكون معطوفاً على (نُرد)، كأنهم تمنوا أن يردوا، وتمنوا (ألا) يكذبوا / وأن يكونوا من المؤمنين. والأول أحسن، لأنهم لم يتمنوا هذا، إنما تمنوا الرد وادعوا أنهم إذا رُدوا لم يكذبوا وكانوا من المؤمنين.
(والنصب) على جواب التمني، كأنه: يا ليتنا وقع لنا الردّ و (ألا) نكذب، فالواو في جواب التمني كالفاء، وقيل: المعنى في الرفع: لا نكذب واللهِ
وأنكر جماعة النصب، وقالوا: هو خبر أخبروا به عن أنفسهم، ألا ترى أن الله كذبهم فيما أخبروا به، والكذب لا يقع إلا في جواب الخبر.
وأنكر بعض النحويين أن يكون الجواب للتمني بالواو، وقالوا: إنما يكون بالفاء.
وأجاز أبو إسحاق أن يكون التمني داخلاً في الخبر، قال: لأن الرجل الفاسق (يقول): " ليتني في الجنة "، فيقال له: كذبت، لو أردت ذلك لاتقيت الله.
وقد قيل: إنه منصوب على الظرف، وإن معنى الكلام: أنهم تمنوا أن يوقفوا ((وهم) غير مكذبين، لأنهم وقفوا مكذبين، فتمنوا أن يوقفوا) على غير تلك الحال.
أو يكون المعنى - على الرفع - (ولا نكذبُ)، (ونكونُ): أي: نفعل ذلك، رُددنا أو لم نُردّ، فهذا خبر منهم، فأكذبهم الله في ذلك، التكذيبُ إنما هو للخبر الذي أخبروا به عن أنفسهم، لا للتمني.
وقال بعض النحويين: إنما يكون هذان الفعلان - في حال النصب - غير متمنَّيْن إذا كانا جواباً لِما في (ليتنا)، وتكون الواو الأولى بمعنى الفاء.
فأما
ومن قرأ (ولا نكذّبُ) بالرفع، ونصب (ونكونَ)، فالمعنى: أنهم تمنوا الرد وأن يكونوا من المؤمنين، وأخبرَوا أنهم لا يكذِّبون بآيات ربهم إنْ رُدُّوا إلى الدنيا.
قوله ﴿وَلَوْ ترى﴾ فعل منتظر، وقوله و ﴿إِذْ وُقِفُواْ﴾: فعلان ماضيان، وكذلك ﴿فَقَالُواْ﴾، وكلها منتظرة لم تقع. وهو حسنٌ لطيف فصيح، غاية في البلاغة، لأن كل ما هو كائن - ولم يكن بعد - فهو عند الله بمنزلة ما قد كان، لصحة وقوعه على ما أخبر به عنه، ولِنفوذِ حكم الله به، وتقديره لوقوعه على ما أخبر به، فالكائن وغير الكائن سواء في علم الله.
وقوله ﴿وُقِفُواْ﴾ بمعنى: حُبسوا، و ﴿عَلَى النار﴾ بمعنى " في النار "، بمنزلة قوله:
و ﴿إِذْ﴾ بمعنى " إذا "، لأنه خبر لا بد أن يكون، فصارِ بمنزلة ما قد كان. يقال: " وقفتُ وقفاً للمساكين " و " وقفتُ أنا "، (وقِفْ) دابتك يا رجلُ.
وحكي عن أبي عمرو أنه قال: ما علمت أحداً من العرب يقول: " أوقفتُ الشيء " بالألف، إلا أني لو رأيت رجلاً في مكان فقلت له: " ما أَوْقَفَكَ ها هنا؟ بالألف، لرأيته حسناً. وفي الآية معنى التعظيمِ لِما هُم فيه.
المعنى: بل ظهر لهم في الاخرة من أعمالهم ما كانوا يخفون في الدنيا، ﴿وَلَوْ رُدُّواْْ﴾ إلى الدنيا ﴿لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ﴾ أي: (لو وصل) الله لهم دنيا كدنياهم، لعادوا، ﴿وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ فيما أخبروا به عن أنفسهم. فأعلمنا الله - في هذه الآية - أن ما لا يكون، كيف كان يكون، لو كان. وفي هذا دليل على قدم علمه بجميع الأشياء، لا إله إلا هو، لم يزل يعلم ما يكون كيف يكون، قبل كونه بلا أمد.
قوله: ﴿وقالوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا﴾ الآية.
أي قال هؤلاء المشركون: ماَثمَّ حياة إلا حياة الدنيا، وما ثَمَّ بعث بعد الفناء، وهذه حكاية عنهم، وما كانوا يقولون في الدنيا. وقال ابن زيد: هي خبر
وقد كره قوم الوقف على ﴿وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ﴾ لقبح اللفظ بنفي البعث، ولو صح هذا، لكان الوصل كالوقف، ولوجب امتناع القراءة بهذا اللفظ، وهو قول ساقطٌ مردود، فالوقف على ﴿بِمَبْعُوثِينَ﴾ جائز حسن عند أهل العربية، ولا شناعة فيه، إنما هو حكاية عن قول المشركين، وقد جهل من منع ذلك واستخف به.
قوله: ﴿وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ على رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هذا بالحق﴾ الآية.
المعنى: ولو ترى يا محمد هؤلاء القائلين: " ما هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين "، إذ حُبسوا (على ربهم): أي: على حكم ربهم وقضائه وعدله فيهم، فقيل لهم، أليس هذا الحشر والبعث بعد الممات - الذي كنتم تنكرونه في الدنيا - حقاً؟، فأجابوا: بلى وربنا إنه لحق، قال: فذوقوا العذاب الذي كنتم به تكذبون في الدنيا جزاءً لكفركم وتكذيبكم.
وقال: ﴿وَلَوْ ترى﴾، فأتى بالمستقبل لأنه أمر ينتظر يوم القيامة، ثم قال: (إذ): و " إذ " لما مضى وانقضى، وقال: (وَقِفوا) ف ﴿قَالُواْ﴾، فجاء بفعلين ماضيين قد كانا،
قوله: ﴿قَدْ خَسِرَ الذين كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ الله﴾ الآية.
المعنى: قد وُكس فيه بيعه من باع الإيمان بالكفر. وقيل: المعنى: " قد خسروا أعمالهم وثوابها ".
ومعنى لقاء الله هنا: أنه البعث والنشور اللذان عندهما يكون لقاء الله والمصير إليه.
ويجوز أن يكون معناه: كذبوا بلقاء ثوابه وعقابه - (وقد قيل) في قوله تعالى: ﴿فَلاَ تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآئِهِ﴾ [السجدة: ٢٣] أي: في شك من لقاء موسى ربَّه وتكليمهِ له -، ولا يكون اللقاء في هذه الآية النظرَ إلى الله جل ذكره، لأنهم لم يؤمنوا بالبعث، فضلاً عن النظر إليه، وإذا لم يؤمنوا بالبعث، فأحرى ألا يؤمنوا بالنظر، لأن البعث يؤدي إلى
وقد يكون اللقاء بمعنى القرب والنظر في غير هذا.
ويكون اللقاء بمعنى السبب الذي يؤدي إلى اللقاء، مثل هذه الآية، ومنه قولهم: " اللهم بارك لنا في لقائك "، يراد به: بارك لنا في الموت الذي يؤدي إلى البعث الذي فيه لقاؤك، وقال الله: ﴿مَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ الله﴾ [العنكبوت: ٤] أي: يخاف الموت.
و ﴿بَغْتَةً﴾ نصب على الحال، وهو مصدر في موضع الحال عند سيبويه، ولا يقاس عليه غيره.
قوله: ﴿ياحسرتنا على مَا فَرَّطْنَا فِيهَا﴾: هذا (حين) يرى أهل النار منازلهم من الجنة لو عملوا بعمل أهل الجنة، فيندمون على التفريط / في الدنيا، فيقولون: ﴿يا حسرتنا﴾ أي: تعال يا حسرة، فهذا وقتُك وإِبّانُكِ.
والهاء في (فيها) عائدة على الصفقة، وهي التي ذكرت قبل في قوله: ﴿قَدْ خَسِرَ الذين كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ الله﴾ أي: خسروا ببيعهم الايمان بالضلالة، ومنازلهم في الجنة
ويجوز أن تعود الهاء على ﴿الدنيا﴾ [الأنعام: ٢٩]، لأن فيها كان تفريطهم.
وقوله: ﴿وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ على ظُهُورِهِمْ﴾ أي: " آثامهم وذنوبهم ". وخص " الظهر "، لأن الحمل قد يكون على غيره.
وروي عن عمرو بن القيس المُلائي أن المؤمن إذا خرج من قبره، استقبله أحسن شيء صورة، وأطيبُه ريحاً، فيقول: هل تعرفني؟، فيقول: لا، إلا أن الله قد طيّب ريحك وحسّن صورتك. فيقول: كذلك كنت في الدنيا، أنا عملك الصالح، طال ما ركبتك في الدنيا، فاركبني، أنت اليوم، وتلا
(وإن) الكافر يستقبله أقبح شيء صورة وأنتنه ريحاً، فيقول: هل تعرفني؟. فيقول: لا، إلا أن الله قد قبح صورتك ونتن ريحك. فيقول: كذا كنت في الدنيا، أنا عملك السيء طال ما ركبتني في الدنيا، فأنا اليوم أركبك.
وتلا ﴿وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ على ظُهُورِهِمْ﴾. ورواه أبو هريرة عن النبي عليه السلام بهذا المعنى، واللفظ مختلف.
وقال السدي: (قوله): ﴿وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ على ظُهُورِهِمْ﴾: ليس من رجل ظالم يموت فيدخل قبره، إلاّ جاءه رجل قبيح الوجه، أسود اللون منتن الريح، عليه ثياب دَنِسَة حتى يدخل معه في قبره. فإذا رآه قال له: ما أقبح وجهك!، قال: كذلك كان عملك قبيحاً. قال ما أنتن ريحك!، قال: (كذلك كان) عملك منتناً. قال: ما أدنس ثيابك! (قال كذلك) كان عملك دنساً. قال: من أنت؟ قال: أنا عملك. فيكون معه في قبره. فإذا بعث يوم القيامة قال: إني كنت أحملك في الدنيا
وروى المقبري عن أبي هريرة في حديث يرفعه قال: " إذا كان يوم القيامة، بعث الله مع كل امرئ مؤمن عمله، ويبعث مع الكافر عمله فلا يرى المؤمن شيئاً يروعه ولا شيئاً يفزعه ولا يخافه إلا قال له عمله: " أبشر بالذي يسرك، فإنك لست بالذي يراد بهذا ". ولا يرى الكافر شيئاً يفزعه ولا يروعه ولا يخافه إلا قال له عمله: " أبشر يا عدو الله بالذي يسوءك، فوالله (إنك) لأنت الذي (يراد بهذا) " ".
وقوله: ﴿أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ﴾ معناه: بئس الشيء يحملون.
قوله: ﴿وَمَا الحياوة الدنيآ إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ﴾ الآية.
هذه الآية تكذيب للكفار في قولهم: ﴿وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا نَمُوتُ وَنَحْيَا﴾ [الجاثية: ٢٤] فأخبر الله تعالى أن الحياة الدنيا لعب ولهو، وأخبر أن الدار الآخرة خير، على معنى: ولَعَمَل الدار الآخرة خير للذين يتقون، أفلا تعقلون.
المعنى: أن / (قد) في هذا وشبهه تأتي لتأكيد الشيء وإيجابه وتصديقه، و (نعلم) بمعنى: " علمنا ". والتقدير: قد نعلم - يا محمد - إنه ليحزنك قولهم إنك كاذب، وإنك ساحر.
﴿فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ﴾ جهلاً منهم بصدقك، بل أنت - فيما يسرون - صادق، ولكنهم حسدوك فكذبوك، وهم يعلمون أنهم ظالمون لك، وأنك صادق، هذا على قراءة من قرأ بالتشديد. قال أبو عمرو: وتصديقها ﴿وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ على مَا كُذِّبُواْ﴾ [الأنعام: ٣٤].
ومعنى قراءة التخفيف - عند الفراء والكسائي -: هو من قولهم: " أكذبت الرجل "، إذا أخبرت أنه كاذب فيما قال فقط. و " كذّبته ": إذا أخبرت أنه كاذب في كل
وحكى أبو عبيدة: " أكذبت الرجل " إذا أخبرت أنه جاء بالكذب، و " كذّبته " إذا أخبرت أنه كاذب.
وروي أن أبا جهل قال للنبي: إنا لا نكذبك، ولكن نكذب ما جئت به، فأنزل الله ﴿فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ﴾.
ومعنى التشديد - عند غير هؤلاء - فإنهم لا ينسبونك إلى الكذب. ومعنى التخفيف فإنهم لا يجدونك كاذباً، كما يقال: " أحمدت الرجل "، إذا أصبته محموداً.
وروي " أن جبريل عليه السلام أتى رسول الله يوماً وهو جالس حزين، فقال له: ما يُحزنك؟، فقال: كذّبني هؤلاء. فقال له جبريل: ﴿فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ﴾ هم يعلمون أنك صادق، ﴿ولكن الظالمين بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ﴾ ".
ويروى أن الأخنس بن شريق الثقفي مر بأبي جهل (بن هشام) يوم بدر، فقال له: يا أبا الحكم، أخبرني عن محمد، (أصادق) هو أم كاذب؟ فأنه ليس هنا من قريش غيري وغيرك يسمع كلامنا؟!، فقال أبو جهل: ويحك، والله إن محمداً لصادق، وما كذب محمد قط، ولكن إذا ذهبت بنو قصي باللواء والحجابة والسقاية والنبؤة،
وقيل معناه: فإنهم لا يكذبونك ولكن يكذبون ما جئت به، (وروي أن أبا جهل قال للنبي ﷺ: ما نتهمك، ولكن نتهم الذي جئت به).
قوله: ﴿وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ﴾ الآية.
وهذه (الآية) تسلية للنبي ﷺ، أعلم أنه قد حل برسل من قبله مثل ما حل به، فصبروا على التكذيب والأذى، فاصبر أنت يا محمد كما صبروا حتى يأتيك الصبر كما أتاهم.
(قوله): ﴿وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ الله﴾ أي: لما سبق في علمه، لا بد أن يكون.
﴿وَلَقدْ جَآءَكَ مِن نَّبَإِ المرسلين﴾ أي: أتاك (نبأهم) أنهم كذبوا وأوذوا فصبروا
قوله: ﴿وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ﴾ الآية.
المعنى: وإن كان يا محمد عظُم عليك إعراض هؤلاء المشركين عنك وعن تصديقك، فلم تصبر، فعظم عليك أن يعرضوا إذ سألوا أن تنزل عليهم ملكاً، ﴿فَإِن استطعت أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأرض﴾ أي: سرباً فتذهب فيه، ﴿أَوْ سُلَّماً فِي السمآء﴾ تصعد فيه، - (في) بمعنى " إلى " -، ﴿فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ﴾، فافعل.
(و) السلم: المصعد هو مشتق من السلامة، كأنه يسلمك إلى الموضع الذي تريد. وجواب الشرط هنا محذوف، المعنى فافعل ذلك.
قوله: ﴿وَلَوْ شَآءَ الله لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهدى﴾.
أي على كلمة الحق، لفعل، ولكنه لم يفعل لسابق علمه أنه يهدي من
﴿فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الجاهلين﴾ أي: ممن لا يعلم أن الله لو شاء لجمع على الهدى جميع خلقه، وهذا يدل على رد (قول) من زعم أنْ ليس عند الله لطف يوفق به الكافر حتى يؤمن.
وقيل: معنى الخطاب لأمة محمد، والمعنى: فلا تكونوا من الجاهلين. ومثله في القرآن كثير.
قوله: ﴿إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الذين يَسْمَعُونَ﴾ الآية.
المعنى: أن الله أعلم نبيه أنه إنما يستجيب لدعائه الذين فتح الله أسماعهم إلى سماع الحق، وسهل لهم اتِّباع الرشد.
﴿والموتى يَبْعَثُهُمُ الله﴾ أي: والكفار الذين هم عدد الموتى يبعثهم الله في عدد
و ﴿يَسْمَعُونَ﴾ تمام عند الجميع.
وقال الحسن: المعنى: أن الكفار مثل الموتى، والله يوفق منهم من يشاء إلى الإيمان فيكون ذلك بعثهم من موتهم.
﴿ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾ يوم القيامة.
وقال مجاهد: معناه: حين يبعثهم الله ﴿يَسْمَعُونَ﴾ يعني الكفار، أي: إذا وفقهم الله يسمعون.
قوله: ﴿وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ﴾ الآية.
أي قال هؤلاء العادلون بالله غيره: هلا نزل على محمد آية، أي: علامة، قل يا محمد: ﴿إِنَّ الله (قَادِرٌ على) أَن يُنَزِّلٍ آيَةً ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ أي: لا يعلمون أن الله إنما ينزل ما فيه الصلاح لعباده.
المعنى: أنه ليس طائر يطير ولا دابة إلا وقد أحصى الله عملها وآثارها وحركاتها، فهي تتصرف - كما يتصرفون - فيما سخرت له، ومحفوظاً عليها ما عملت من عمل، لها وعليها، حتى يجازى (به) يوم القيامة، لم تخلق عبثاً، فمن أحصى أعمال الطير وجميع البهائم هو قادر على إحصاء أعمالكم وتصرفكم أيها العادلون بالله.
ومعنى ﴿إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ﴾ أي: يعرفون الله ويعبدونه.
والأمم: الأجناس.
وقال ابن جريج: ﴿أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ﴾ أي: " أصناف مصنفة تعرف بأسمائها ".
قال أبو هريرة: ما من دابة في الأرض ولا طائر إلا سيحشر يوم القيامة ثم يقتص
ومعنى: ﴿يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ﴾ - وقد علم أنه لا يطير إلا بهما -: أن هذا كلام جرى على عادة العرب في لغاتها في التأكيد فخوطبوا بما يعلمون أنه مستعمل عند العرب، ((تقول العرب): " مشيتُ إليه برجلي " و " كلمته بفمي " فوكد الطيران ((بقوله)): (بجناحيه) على ذلك.
وقيل: لما كانت العرب تستعمل لفظ " الطيران " في غير الطائر، فتقول لمن ترسله في حاجة: " طِ~ر في حاجتي "، تريد " أسرع ". ويقولون: " كاد الفرس يطير " إذا أسرع في جريه، فيعبرِّون بالطيران عما ليس له جناحان، ففرق
ويكون " الطائر " عمل الإنسان اللازم له من خير وشر، ويكون " الطائر " من السعد والنحس، كقوله: ﴿طَائِرُكُمْ عِندَ الله﴾ [النمل: ٤٧]، فبين في الآية /. أنه الطائر الذي يطير بجناحيه، لا غير.
وقيل: معنى ﴿(إِلاَّ أُمَمٌ) أَمْثَالُكُمْ﴾ أي: خلقهم ودبّرهم ورزقهم وكتب آثارهم وآجالهم كما فعل بكم.
(و) قوله: ﴿مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ﴾ أي: قد دللنا على كل شيء من أمر الدين في القرآن، إما دلالة مشروحة، وإما جملة.
قال ابن عباس: " ما تركنا شيئاً إلاَّ قد كتبناه في أمِّ الكتاب "، يعني اللوح المحفوظ مما يكون وكان.
ف (الكتاب) على هذا القول والذي قبله: هو اللوح المحفوظ و (الكتاب) في القول الأول: هو القرآن.
وروي أن النبي عليه السلام قال: " إن الله قد حد حُدوداً فلا تنتهكوها، وسنَّ سُنناً فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء - لم يدَعْها نِسياناً، كانت رحمة من الله - فَاقْبلَوها ".
وقال ﷺ لابن عباس: " الأمور ثلاثة - يا ابن عباس - أمرَ بَانَ لك رُشُده فاتَّبِعْه، وأمر بَانَ لك غيُّه فاجتنبه، وأمرٌ غاب عنك فكِلْهُ إلى الله تعالى ".
وقيل المعنى: ﴿مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ﴾ مما يحتاجون إليه، يعني القرآن. وقوله ﴿ثُمَّ إلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾ قال ابن عباس: " موت البهائم: حشرها ". قال الفراء:
و" روي أن عنزين انتطحا، فقال النبي ﷺ: " أتدرون فيما انتطحا؟، قالوا: لا ندري. قال: لكنّ اللهَ يدري، وسيقضي بينهما " ".
قوله: ﴿والذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ﴾ الآية.
المعنى: أن الله تعالى أعلمنا أن الكافرين بآيات الله ﴿صُمٌّ﴾ عن سماع الهدى، ﴿وَبُكْمٌ﴾ عن قول الحق، ﴿فِي الظلمات﴾ أي: في الكفر، وذلك أنهم لما لم ينتفعوا بما سمعوا ولا قالوا ما ينتفعون به، كانوا بمنزلة الصم والبكم، ثم أخبر تعالى أنه المضل لمن يشاء من خلقه عن الإيمان، وأنه يهدي من يشاء إلى الحق والصراط المستقيم، كل ذلك قد تقدم (في) علمه.
والتمام عند بعضهم: ﴿فِي الظلمات﴾.
قوله: ﴿قُلْ أَرَءَيْتَكُمْ إِنْ أتاكم عَذَابُ الله﴾ الآية.
وقال الكسائي: هي في موضع نصب لوقوع الرؤية عليها، والمعنى: أرأيتم أنفسكم.
وقال الفراء: هي في موضع رفع، لأنه لم يرد أن يوقع فعل الرجل على نفسه، لأنه يسأل عن غيره.
وفرق الكسائي بين (رؤية) القلب والعين: فأسقط الهمزة من رؤية القلب، (لأن رؤية القلب) معناها: أخبروني عن كذا. وليس ذلك في رؤية العين. ففرق - بطرح الهمزة - بين المعنيين، وهو خطاب للكفار.
قال: ﴿بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ﴾ الآية.
أي إليه تستغيثون، ﴿فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَآءَ﴾ (أي) فيكشف الضر الذي من آجله دعوتم. ﴿وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ﴾ أي: تنسون شرككم إذا أتاكم العذاب. فقوله: ﴿إِنْ شَآءَ﴾ مشيئة قدرةٍ، و (هو لا يشاء أن يكشف) عنهم العذاب عند نزوله، (لقوله): ﴿فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا﴾ [غافر: ٨٥].
قوله: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إلى أُمَمٍ﴾ الآية.
(هذه الآية) تحذير للعادلين بالله غيره أن يتمادوا على ظلمهم فيهلكهم الله بالبأساء والضراء، كما أهلك من كان قبلكم حين كذبوا الرسل. والبأساء: شدة
وقيل: البأساء: الجوع والفقر، والضراء: نقص الأموال والأنفس. وقال القتبي: " (البأساء): الفقر وهو البؤس، والضراء: البلاء ".
وفي الكلام حذف، تقديره: ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك رسلاً، فكذبوهم، فأخذناهم.
ومعنى ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ﴾ أي: ليكونوا على رجاء من التضرع، هذا مذهب سيبويه. والتضرع: التفعل من الضراعة، وهو الذل والاستكانة.
قوله: ﴿فلولا إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا﴾ الآية.
" المعنى: فهَلاّ إذ جاءهم بأسنا تضرّعُوا "، أخبر الله تعالى عنهم أنهم قد بلغ
قوله: ﴿فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ﴾ الآية.
المعنى: فلما تركوا العمل بما أُمروا به على ألسن الرسل.
وقوله: ﴿فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ﴾ أي: استدرجناهم بالنعم التي كنا متعناهم إياها.
روي عن النبي عليه السلام أنه قال: " إذا رأيتَ الله يُعطي العبدَ مَا يُحِبّ وهو مقيمٌ على معاصيه، فإنّما ذلك استدراج " ثم نوع بهذه الآية ﴿فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ﴾ (إلى قوله ﴿رَبِّ العالمين﴾.
قال ابن جريج: أخذوا أعجب ما كانت الدنيا إليهم.
﴿فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ﴾ قال السدي: معناه، هالكون قد انقطعت حجتهم، نادمون على ما سلف منهم.
وقال بعض (أهل) اللغة: معنى ﴿فَرِحُواْ بِمَآ أوتوا﴾: ظنوا أنهم إنّما أوتوا / ذلك استحقاقاً، قال: والمبلس: الشديد الحسرة الحزين.
وروي عن النبي عليه السلام (أنه) قال: " إذا رأيتَ اللهَ يُعطي عبدهَ في دُنياهُ، فإنّما هو اسْتِدراجٌ "، يعطي: يوسع عليه دنياهُ وهو لا يقلع عن المعاصي، يدل على ذلك الحديث الذي بعده، " ثم تلا هذه الآية ﴿فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ﴾ الآية.
وعنه ﷺ أنه قال: " إذا رأيتَ اللهَ يعطي العِبادَ ما يشاءون على معاصيهم إياه، فإنما ذلك استدراج منه لهم "، ثم تلا الآية.
وقيل: الإبلاس: انقطاع الحجة والسكون.
وقيل: هو الندم والحزن على الشيء يفوت.
وقيل: هو الخشوع. وقال القتبي: " (مبلسون): يائسون ".
قوله: ﴿فَقُطِعَ دَابِرُ القوم (الذين ظَلَمُواْ)﴾ الآية.
﴿والحمد للَّهِ﴾ أي: الثناء التام لله على نعمه على رسله وأهل طاعته بإظهار حجتهم على من خالفهم من أهل الكفر.
قوله: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ الله سَمْعَكُمْ﴾ الآية.
روى ابن (عامر) عن أصحابه عن ورش: (بِهُ انظُر) بالضم للهاء، وكذلك روى ابن سعدان عن (المسيبي)، وهي قراءة
وقيل: إنما كسرت الهاء، لأنه ليس في الكلام " فِعْلُ "، والضم هو الأصل.
والمعنى: ﴿قُلْ﴾ يا محمد لهؤلاء العادلين بالله الأوثان: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ الله سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ﴾، فذهب بها، ﴿وَخَتَمَ على قُلُوبِكُمْ﴾، أي: طبع عليها، فلا تسمعون ولا تبصرون ولا تعقلون، من معبود غير الله يرد عليكم ما ذهب (عنكم)؟، وهذا (تعليم من الله) لنبيه الحجة على المشركين. ثم قال لنبيه: انظر:
وقوله: ﴿يَأْتِيكُمْ بِهِ﴾: الهاء تعود على السمع، وقيل: المعنى: يأتيكم بما أخذ منكم من السمع والأبصار، فوحدت الهاء لأنها مكان " ما "، وقيل: الهاء كناية عن الهدى.
﴿يَأْتِيكُمْ بِهِ﴾ تمام عند نافع وغيره.
قوله: ﴿قُلْ أَرَءَيْتَكُمْ إنأتاكم عَذَابُ الله بَغْتَةً﴾ الآية.
المعنى: قل يا محمد لهم: أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة، أي: فجأة
قوله: ﴿وَمَا نُرْسِلُ المرسلين إِلاَّ (مُبَشِّرِينَ)﴾ الآية.
المعنى: أن الله أعلمنا أنه إنما يرسل الرسل مبشرين أهل الطاعة بالجنة والفوز، ومنذرين أهل الخلاف والكفر بالنار على فعلهم، لم يرسلهم ليقترح عليهم الآيات بل تصحبهم منها ما يدل على صدقهم مما يريد الله، ﴿فَمَنْءَامَنَ﴾ أي: صدق بالرسل، ﴿وَأَصْلَحَ﴾ أي: (عمل) صالحاً في الدنيا، ﴿فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾
قوله: ﴿والذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ العذاب﴾ الآية.
قرأ يحيى بن وثاب ﴿يَفْسُقُونَ﴾ بكسر السين، لغة معروفة. وقرأ الحسن والاعمش ﴿العذاب بِمَا﴾ بالإدغام.
وقال ابن زيد: " كل " فسق " في القرآن فمعناه: الكذب ".
والمعنى: والذين جحدوا ما جاءتهم به رسلهم يمسهم العذاب في الآخرة بتكذيبهم الرسل.
قوله: ﴿قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ الله﴾ الآية.
المعنى: قل يا محمد لهؤلاء العادلين بالله: لست أقول لكم عندي خزائن الله أي: لست أقول: إني أنا الرب الذي بيده خزائن السماوات والأرض، ولست أعلم الغيب الذي لا يعلمه إلا الرب، ﴿ولا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ﴾، لأنه لا ينبغي لملك أن يكون ظاهراً بصورته لأبصار البشر في الدنيا فتجحدوا ما أقول لكم من ذلك، ﴿إِنْ أَتَّبِعُ﴾:
و (كل هذا) تنبيه من الله لنبيه على مواضع الحجة على مشركي قريش. ثم قال: قل (لهم) يا محمد: هل يستوي الأعمى عن الحق والبصير به.
و ﴿الأعمى﴾: الكافر: لأنه عَمِي (عن) حجج الله. و ﴿البصير﴾: المؤمن، لأنه أبصر حجج الله وآياته، فاهتدى بها، ﴿أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ﴾ فيما أقول لكم.
وقيل: المعنى: لا أقول لكم عندي خزائن الله التي فيها العذاب، لقولهم: ﴿ائتنا بِعَذَابِ الله﴾ [العنكبوت: ٢٩].
قوله: ﴿وَأَنذِرْ بِهِ الذين يَخَافُونَ أَن يحشروا﴾ الآية.
هذه الآية أمر من الله للنبي أن ينذر بالقرآن الذين يخافون الحشر والحساب والعقاب وقد صدقوا به وآمنوا. واختص هؤلاء، لأن الإنذار ينفعهم،
والخوف: بمعنى العلم، أي: يعلمون ذلك ويَتَيقَّنُونَه، وقد أُرسل النبي عليه السلام لإنذار الخلق كافة.
وقوله: ﴿لَيْسَ لَهُمْ مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ﴾: هذا رد لقول اليهود والنصارى: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ [المائدة: ١٨].
قوله: ﴿وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ (بالغداة والعشي)﴾ الآية.
قوله: ﴿فَتَكُونَ مِنَ الظالمين﴾: جواب النهي، و ﴿فَتَطْرُدَهُمْ﴾ جواب النفي. والتقدير: ﴿وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾، فتكون من الظالمين، ما عليك من حسابهم من شيء فتَطرُدهم: آخِرُ الكلامِ لأَوَّلِه، وأوسطُهُ لأِوسَطِهِ.
وروي عن خباب أنه قال: جاء ناس من المشركين والنبي ﷺ جالس مع بلال وصهيب وخباب وعمار في أناس من الضعفاء من المؤمنين، فلما رأوهم حوله حقّروهم، فأتوا فقالوا: إنا نحب أن تجعل لنا منك مجلساً تعرف لنا به العرب
وقال الفضيل في هذه الآية: جاء قوم إلى النبي ﷺ فقالوا: إنا قد أصبنا من الذنوب، فاسْتَغِفر لنا، فأعرض عنهم، فأنزل الله تعالى: ﴿ وَإِذَا جَآءَكَ الذين يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا﴾ [الأنعام: ٥٤] الآية.
وقيل: إنما أراد المشركون أن يطرد النبي ﷺ الفقراء، (فيحتجوا عليه إذ لم يتبعه الفقراء، ويقولوا: إن أتباع النبي الفقراء). فعصمه الله مما أرادوا به.
[الأنعام: ٥٤].
ومعنى: ﴿يَدْعُونَ رَبَّهُم بالغداة والعشي﴾ قال مجاهد: (هي) " الصلاة المفروضة: الصبح والعصر ". وقال ابن عباس: هي الصلوات المفروضة الخمس، وقاله الحسن. وكذلك قالوا كلهم في قوله: ﴿واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم بالغداة والعشي﴾ [الكهف: ٢٨].
وقال قتادة والضحاك: هي صلاة الصبح والعصر. وعن ابن عمر قال: يشهدون المكتوبة.
وقال الحسن: يعني الصلاة التي فرضت بمكة: ركعتان غدوة وركعتان عشية، وهذا قبل أن تفرض الصلوات الخمس. وقال عمرو بن شعيب: هما صلاة الصبح وصلاة العصر. وقد قيل: إنهم القُصَاصَ. وأنكر ذلك جماعة من الصحابة والتابعين.
وروي أنهم سألوا النبي أن يؤخر هؤلاء عن الصف الأول.
والتمام هنا: ﴿فَتَكُونَ مِنَ الظالمين﴾، لأنه جواب النهي، وقد قيل: ﴿فَتَطْرُدَهُمْ﴾ تمام، وليس بجيد.
قوله: ﴿وكذلك فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ﴾ الآية.
قال ابن عباس: قال الأغنياء للفقراء: ﴿أهؤلاء مَنَّ الله عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَآ﴾ فهداهم؟، استهزاءاً منهم وسخرياً.
ومعنى اللام: أنه لما آل عاقبة أمرهم إلى هذا القول، صاروا كأنهم إنما احتبروا (لِيَقولوا)، بمنزلة ﴿فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً﴾ [القصص: ٨].
(و) قوله: ﴿بِأَعْلَمَ بالشاكرين﴾ أي: الموحدين.
قوله: ﴿وَإِذَا جَآءَكَ الذين يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا﴾ الآية.
هذه الآية عني بها الذين تقدم / ذكرهم في النهي عن طردهم. وقيل: عنى بها قوماً أصابوا ذنوباً عظاماً، فاستفتوا النبي فيها، فلم يُؤَيّسْهم الله من
ومعنى ﴿سواءا بجهالة﴾ أي: من عمل ذنباً وهو جاهل به.
ومعنى ﴿كَتَبَ﴾: أوجب ذلك وقيل: " كتب في اللوح المحفوظ ".
والوقف فيها مفهوم، لا يحسن أن يبتدأ بـ (أن) وهي مفتوحة، ولا بالفاء في (فَإِنَّه)، كسرتَ (أن) أو فَتَحْتَها، وتبتدئ بـ (إِنْ) إذا كسرتها،
قوله: ﴿وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيات وَلِتَسْتَبِينَ﴾ الآية.
المعنى: و (كما) فصلنا لك يا محمد ما تقدم، نفصل (لك) الأعلام والحجج الدّالة علينا فيظهر لك طريق المجرمين، وتعلم باطل ما هم عليه.
واللام متعلقة بفعل محذوف دل عليه (نُفَصِّل). والمعنى: لتستبين سبيلَ المجرمين (فَصَّلناها، وهذا خطاب للنبي والمراد به أمّته، والمعنى: ولتستبينوا سبيل المجرمين)، فأما النبي ﷺ فقد كان عالماً بطريقهم، وأنهم على باطل. هذا على قراءة من نصب " السبيل ".
ومعنى: ﴿نفَصِّلُ الآيات﴾ نأتي بها متفرقة شيئاً بعد شيء لتُفهم على مهل.
قوله: ﴿قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ﴾ الآية.
والمعنى: قل يا محمد لهؤلاء العادلين: إني نهيت أن أعبد أصنامكم الذين تقولون إنها تقربكم إلى الله زلفى، ولا أتبع أهواءكم التي عبدتم بها ما لا يجوز أن يُعبد، ﴿قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً﴾ أي: قد ضللت إن عَبدتُها، ﴿وَ (مَآ أَنَاْ) مِنَ المهتدين﴾، أي: من المتّبعين الهدى إنْ فعلتُ ذلك.
قوله: ﴿قُلْ إِنِّي على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي﴾ الآية.
المعنى: ﴿قُلْ﴾: لهم يا محمد: ﴿إِنِّي على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي﴾: أي: حجة ظاهرة، وهي النبوة
وكذبتم أنتم به: أي: بربكم. وقيل: بالقرآن. وقيل: بالبيان وقيل: بالعذاب.
﴿مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ﴾ يريد من النقم والعذاب الذي تقترحون به، أي ليس ذلك بيدي، ما الحكم إلا لله في عذابكم وإمهالكم.
﴿يَقُصُّ الحق﴾ أي: يقضي القضاء الحق، ﴿وَهُوَ خَيْرُ الفاصلين﴾ أي: الحاكمين.
﴿وَكَذَّبْتُم بِهِ﴾ وقف، ﴿تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ﴾ وقف.
قوله: ﴿قُل لَّوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ﴾ الآية.
المعنى: ﴿قُل﴾ يا محمد لهؤلاء الذين يستعجلون العذاب: ﴿أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ﴾ من العذاب، لَجِئتُكم به، فيُقضى الأمر بيني وبينكم، ولكن ذلك بيد الله، وهو أعلم بالظالمين، أي: متى يهلكهم.
وقيل: معنى ﴿لَقُضِيَ الأمر بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ﴾: لذُبِحَ الموت، قاله ابن جريج، يريد به معنى قوله: ﴿وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحسرة إِذْ قُضِيَ الأمر﴾ [مريم: ٣٨].
يروى " أن أهل الجنة والنار إذا استقر كل واحد في موضعه، أُتِيَ بالموت في
﴿وَبَيْنَكُمْ﴾ وقف حسن.
قوله: ﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب﴾ الآية.
واحد المفاتح: مِفَتح، بكسر الميم وفتحها، والمعنى: وعند الله خزائن الغيب.
قال ابن عباس: مفاتح الغيب خمس في آخر " لقمان ": ﴿إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة﴾ [لقمان: ٣٤]
وروي عن النبي عليه السلام أنه قال: " مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله: ما تغيض الأرحام، وما في غد، ومتى يأتي المطر، وما تدري نفس ماذا تكسب غداً، وما تدري نفس بأيّ أرضٍ تموت " ورواه ابن عمر عن النبي عليه السلام.
﴿إِلاَّ هُوَ﴾: تمام.
وقوله: ﴿وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا﴾: أي: ما تسقط من ورقة في الصحاري والبراري والأمصار والقرى إلا الله يَعلَمها، ﴿وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظلمات الأرض﴾ أي: بطون الأودية، ولا رطبها ولا يابسها، ﴿إِلاَّ فِي كتاب مُّبِينٍ﴾ وهو اللوح المحفوظ، مرسوم فيه عدده ووقته في اخضِراره ويُبسِه وسقوطه. وكل ذلك عن علم الله غيرُ خارج، وإنما أثبتت في اللوح امتحاناً لحَفَظَة الخلق. فقد روي أنهم مأمورون بكتابة
قال عبد الله بن الحارث: ما في الأرض (من) شجرة ولا مغرِز إبرة إلا عليها (ملك) موَكّل يأتي الله بعلمها: يُبْسها إذا يَبِسَت، ورطوبتها إذا رَطُبَت.
وقيل: المعنى في كَتْبِها: أنه لتعظيم الأمر، فمعناه: اعلموا أن هذا الذي ليس فيه ثواب ولا عقاب مكتوب، فكيف ما فيه ثواب وعقاب؟
قوله: ﴿وَهُوَ الذي يتوفاكم﴾ الآية.
المعنى: قال لهم يا محمد: إن الله أعلم بالظالمين، وإن الله عنده مفاتح الغيب، وإن الله هو الذي يتوفاكم، (أي): يقبض أرواحكم من أجسادكم
وأصل الاجتراح: عمل الرجل بجارحة من جوارحه: يَدِه أو رِجليه، فكثر ذلك حتى قيل لكل مكتسب (شيئاً بأيّ أعْضاء جسمِه كان: " (مجترح) "، ولكل مكتسب) عملاً: " جارح ".
ومعنى: التوفَّي: استيفاء العدد
وقوله: ﴿ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ﴾ أي يوقظكم من منامكم في النهار.
الهاء في (فيه) تعود على " النهار "، لأن الإنسان يتمادى به النوم حتى يصير في النهار فينتبه، فلذلك بَعثُهُ. وقال ابن جبير: (يَبعثُكم فيه): في المنام.
و ﴿أَجَلٌ مُّسَمًّى﴾: الموت. ﴿ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ﴾ بعد الموت.
قوله: ﴿وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ﴾ الآية.
المعنى: وهو الغالب خلقه، العالي عليهم بقدرته، قد قَهَرَهم بالموت، ليس كأصنامهم (المقهورة)، المذللة، المَعْلو عليها، ﴿وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً﴾ هي الملائكة، يتعاقبون بالليل والنهار، يحفظون أعمال العباد ويكتبونها، لا يفرطون في إحصاء ذلك، ويحفظونه مما لم يُقدَّر عليه، فإذا جاء أحدَهم الموت، توفته الرسل التي تقبض الأرواح، وقابض الأرواح هو ملك الموت، / إلا أن الله جعل له أعواناً، فهم
قال ابن عباس: " لملك الموت أعوان (من الملائكة) ".
قال قتادة: تلي الملائكة قبض النفس وتدفعها إلى ملك الموت.
وقال الكلبي: ملك الموت يتولى، ثم يدفع النفس إلى ملائكة الرحمة إنْ كان مؤمناً، وإلى ملائكة العذاب إن كان كافراً.
قال مجاهد: جُعلت الأرض لملك الموت (مثل الطست)، يتناول من حيث شاء، وجعلت له أعوان يتولون ذلك، ثم يقبضها هو منهم. قال مجاهد: " ما من
وروى (البراء) بن عازب أنه سمع النبي عليه السلام يقول: " إذا كان العبد عِندَ انقطاع من الدنيا، وإقبال من الآخرة، نزل إليه (ملائكة من السماء)، بيضُ الوجوه كأنّ وجوهَهم الشمس (حتى يقعدوا) منه مَدَى البصر، ويجيء ملك الموت معهم حتى (يقعد) عند رأسه فيقول: أيتها النفس الطيبة، أُخرُجي إلى مغفرة (من) الله ورضوان، فتخرج تسيل كما (تسيل القطرة) في السقاء، فيأخذها ملك الموت في يده، فإذا وقعت في يده، لم يَدَعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها منه، فيجعلونها في كفن من الجنة وحنوط، ثم يصعدون بها إلى السماء حتى ينتهوا بها إلى السماء السابعة ".
والأجساد هي التي تموت، فأما الأرواح والأنفس فهي حية عند الله، ودل على ذلك قوله: ﴿فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ﴾ [الواقعة: ٩٣]، فلو كانت النفس تموت لم يكن لها نزل،
قال عبد الملك: ولا يقول " إن النفس والروح يموتان بموت الجسد " إلا رجل جاهل بأمر الله، أو رجل منكر للبعث، وقد قال تعالى: ﴿الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مَوْتِهَا والتي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ التي قضى عَلَيْهَا الموت وَيُرْسِلُ الأخرى﴾ [الزمر: ٤٢]، فلو كانت النفس تموت بموت الجسد ما أمسكها، وليس يُمْسَك إلا حيٌّ.
قوله: ﴿ثُمَّ ردوا إلى الله مَوْلاَهُمُ الحق﴾ الآية.
المعنى: ثم ردت الأنفس إلى الله مولاهم الحق.
وقرأ الحسن (الحَقَّ) بالنصب على " أعني ".
﴿الحق﴾ تمام، و ﴿الحك﴾: تمام. و ﴿مَوْلاَهُمُ﴾: وقف على قراءة الحسن.
قوله: ﴿قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ مِّن ظُلُمَاتِ البر﴾ الآية.
﴿تَضَرُّعاً﴾: مصدر. وقيل: هو حال على معنى: ذوي تضرع.
والمعنى: قل يا محمد لهؤلاء العادلين: من ينجيكم من ظلمات البر والبحر، أي: كروبهما، إذا ضللتم وتحيرتم فلم تهتدوا، وأخذتم في الدعاء (تقولون): لئن أنجيتنا، أي: من هذه الظلمات التي / نحن فيها، يفعلون ذلك جهرة
ثم قال: (قل) لهم يا محمد: ﴿الله يُنَجِّيكُمْ مِّنْهَا﴾ الآية.
أي من الظلمات والهلاك، وينجيكم من كل كرب سوى ذلك فيكشف، ﴿ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ﴾ في عبادة ربكم.
قوله: ﴿قُلْ هُوَ القادر على أَن يَبْعَثَ﴾ الآية.
" ﴿شِيَعاً﴾: نصب على الحال، أو المصدر ". والمعنى: قل لهم يا محمد: الله القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم، أو من تحت أرجلكم، جزاء لشرككم به بعد إذ (نجاكم مما) أنتم فيه.
والعذاب الذي (هو) من فوقهم: هو الرجم، والذي من تحت أرجلهم: الخسف، قاله ابن جبير ومجاهد والسدي.
وقال ابن عباس: العذاب الذي (هو) من فوق: أئمة السوء، والذي من أسفل: خدمة السوء وسفلة الناس.
وقال الضحاك: ﴿مِّن فَوْقِكُمْ﴾: من كباركم، ﴿أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾: من سفلتكم.
(و) قوله: ﴿أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً﴾ (أي) يخلطكم (فرقا، من " لَبَست عليه الأمر ": أخلطته فمعناه: يخلطكم) أهواء مختلفة مفترقة.
وقرأ المدني ﴿يَلْبِسَكُمْ﴾ بضم الياء، من " ألبس ".
وقوله: ﴿وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ﴾ أصل هذا من " ذوق الطعام "، ثم استعمل في كل ما وصل إلى الرجل من حلاوة أو مرارة أو مكروه.
(قال (ابن عباس): يعني بالسيوف. و) قال ابن عباس: " يسلط (بعضكم) على بعض بالقتل ".
قال النبي عليه السلام: " إني سألت الله في صلاتي هذه ثلاثاً - وأشار إلى صلاة صبح كان قد أبطأ فيها - قال: سألته ألا يُسَلّط على أمتي السّنة، فأعطانيه، وسألته ألا يلبسهم شيعاً، وألا يُذيق بعضَهم بأسَ بعضٍ، فمنعنيهما ".
وروى جابر أن النبي عليه السلام قال: - " لما نزل عليه ﴿قُلْ هُوَ القادر على أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾ -: أعوذ بوجهك. فلما نزل ﴿أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ﴾، قال: هاتان أيْسَرُ وأَهْوَنُ ".
قال الحسن قوله: ﴿أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾: هذا للمشركين ﴿أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ﴾: هذا للمسلمين.
ثم قال: انظر يا محمد ﴿كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيات لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ﴾، أي: يفقهون ما يقال لهم.
المعنى: وكذب يا محمد بما تقول وتخبر - من الوعد والوعيد - قومك، وهو الحق.
فالهاء ترجع إلى القرآن. وقيل: إلى " التصريف "، أي: وكذب بتصريف الآيات قومك. وقيل: ترجع على محمد، أي: وكذب بمحمد قومه، وهو الحق.
ثم قال: ﴿قُل﴾ (يا محمد لهم) ﴿لَّسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ﴾ أي: بحفيظ ولا رقيب، إنما أنا رسول. وقد روي عن ابن عباس أنه قال: نسخ هذا آية السيف. ولا يَحسُن نَسْخُ هذا عند أهل النظر والمعاني، لأنه خبر.
قال السدي: ﴿وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الحق﴾، قال: كذبت قريش بالقرآن، وهو الحق ".
قال السدي: وأما ﴿لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ﴾ فكان نبأ القرآن استقر يوم بدر بما كان يعدهم من العذاب ".
وكان الحسن يتأول ذلك أنها الفتنة التي كانت بين أصحاب محمد بعده.
وقال النحاس: ﴿لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ﴾ هو تهديد إما بعذاب الآخرة، وإما بالأمر بالخوف، والمعنى: لكل خبر توعدون به وقتٌ يحدث فيه، وأجل ينتهي إليه فيكون ذلك، والنبأ: الخبر.
المعنى: وإذا رأيت - يا محمد - المشركين الذين يخوضون في آيات الله، وخوضهم فيها: استهزاؤهم بها وتكذيبهم لها، ﴿فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾ أي: فَصُدَّ عَنْهمُ بِوجهِك، وقُمْ عنهم حتى يخوضوا في حديث غير الاستهزاء بآيات الله.
(و) قوله: ﴿وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشيطان﴾: أي: إن أنساك الشيطان نهي الله لك عن الجلوس معهم في حال استهزائهم، ثم ذكرت ذلك، فقم عنهم ولا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين.
قال ابن جريج: كان المشركون يجلسون إلى النبي يستمعون منه، فإذا سمعوا استهزأوا، فنهي النبي ﷺ عن مجالستهم إذا استهزأوا (إلا أن ينسى)، فإن نَسِيَ ثم ذَكَرَ، أمرُ أن يقوم عند التّذكّر.
قوله: ﴿وَمَا عَلَى الذين يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم﴾ الآية.
المعنى: أنه ليس على من اتقى الله من حساب هؤلاء الخائضين شيء، أي:
ومعنى: ﴿ولكن ذكرى﴾ أي: إذا ذكرت فقم، ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ (أي) الخوض فيتركونه، هذا قول السدي.
وقيل: إن المعنى ليس على الذين يتقون من حسابهم (من) شيء إذا قعدوا إليهم، ثم نسخ ذلك بقوله: ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الكتاب﴾ [النساء: ١٤٠] الآية، روي ذلك عن ابن
قال الكلبي: قال أصحاب النبي: إنا كنا كلما استهزأ المشركون بكتاب الله، قمنا وتركناهم لم ندخل المسجد ولم نطف بالبيت، فرخص الله للمسلمين الجلوس معهم، وأُمروا أن يُذَكِّروهم ما استطاعوا.
و ﴿ذكرى﴾ في موضع نصب، على معنى: فأعرضوا عنهم ذكرى، وتكون في موضع رفع على معنى: لكن إعراضهم ذكرى لأمر الله.
قوله: ﴿وَذَرِ الَّذِينَ اتخذوا دِينَهُمْ﴾ الآية.
المعنى: أنه أمر من الله لنبيه أن يترك هؤلاء الذين هذه صفتهم، ثم نسخ ذلك بآية السيف.
(وقال الزجاج): " والمُسْتَبْسِل: المُسْتَسْلِم الذي يعلم أنه لا يقدر على التخلص ".
وقال الفراء: ترتهن. وقيل: تُحبس. وقيل: تفضح، (قاله) ابن
وأصل الإبسال: التَّحريم، يقال " أَبْسَلْت المكان ": حرَّمته.
فالمعنى: ذكِّر بالقرآن من قبل / أن تُسلم نفس بذنوبها، ﴿لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ الله وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ﴾ يخلصها.
فالهاء في (به) للقرآن. وقيل: على التذكر. وقيل: على الدين، أي: ذكر بدينك.
﴿أولئك الذين أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ﴾ أي: ارتهنوا بذنوبهم وأسلموا لها، (لهم شراب من حميم) أي: في جهنم، ﴿وَعَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ بما اكتسبوا من الأوزار في الدنيا.
قال ابن عباس: ﴿أُبْسِلُواْ﴾: فضحوا. وقال ابن زيد: أُخذوا.
قوله: ﴿قُلْ أَنَدْعُواْ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُنَا﴾ الآية.
قرأ ابن مسعود (اسْتَهْواه الشَّيطان) وعن الحسن: (استهوته الشَّياطون بالواو، وهو لحن.
﴿لَهُ أَصْحَابٌ﴾: أي: لهذا الحيران - الذي على غير محجة - أصحاب يدعونه إلى الهدى: ائتنا. وهذا مثل ضربه الله لمن كفر بعد إيمانه فاتبع الشياطين من أهل الشرك بالله، وأصحابه - الذين كانوا معه على الهدى - يدعونه إلى الهدى الذي هم عليه، وهو يأبى ذلك.
وقيل: (هو) في أبي بكر (الصديق) رضي الله عنهـ وزوجته كانا يدعوان ابنهما عبد الرحمن إلى الإسلام.
قال السدي: قال المشركون للمسلمين: اتبعوا ديننا واتركوا دين محمد، فقال الله: ﴿قُلْ أَنَدْعُواْ مِن دُونِ الله﴾ الآية، فمثلكم - إن كفرتم بعد الايمان - كمثل رجل كان مع قوم على طريق، فَضَلَّ الطريق، فحيرته الشياطين واستهوته في الأرض، وأصحابه على الطريق يدعونه إليهم، يقولون: " ائتنا، فإنا على الطريق "، فأبى أن يأتيهم، والطريق هو الإسلام.
وروي عن ابن عباس أن المعنى: أنه مثل لرجل أطاع الشياطين، وحَادَ عن الحق وله أصحاب على غير هدى يدعونه ويزعمون أن ذلك هو الهدى، فأكذبهم الله وقال: ﴿قُلْ﴾ يا محمد: ﴿إِنَّ هُدَى الله هُوَ الهدى﴾، وقل: أُمِرنا كي نسلم لرب العالمين، أي: نخضع له ونطيعه.
﴿حَيْرَانَ﴾: تمام عند جميعهم. وقال نصير: ﴿فِي الأرض﴾ التمام، ورُدَّ ذلك
قوله: ﴿وَأَنْ أَقِيمُواْ الصلاة واتقوه﴾ الآية.
﴿أَنْ﴾ في موضع خفض، عطف على ﴿الهدى﴾ [الأنعام: ٧١]. أو عطف على (أَنْ) الناصبة للفعل في (نُسْلِم). ويجوز أن تكون في موضع نصب، على حذف الخافض، (و) المعنى: وبأن أقيموا. ويجوز أن تكون في موضع خفض على إضمار ذلك الخافض، والمعنى: وأمرنا بأن أقيموا الصلاة.
﴿واتقوه﴾ أي: واتقوا رب العالمين الذي إليه تحشرون في الآخرة.
﴿واتقوه﴾ تمام.
قوله: ﴿وَهُوَ الذي خَلَقَ السماوات والأرض بالحق﴾ الآية.
ومعنى ﴿بالحق﴾: أي: حقاً وصواباً، لا باطلاً. وقيل: المعنى: خلق السماوات والأرض بكلامه وقوله لهما: ﴿ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً﴾ [فصلت: ١١]، فالحق هنا: كلامه ودليله.
(قوله): ﴿قَوْلُهُ الحق﴾ الآية.
(ف (الحق)): كلامه، خلق به (الأشياء المخلوقة)، وما خلق به الأشياء فهو غير مخلوق.
وقيل: المعنى: خلقهن (للحق)، يعني المعاد.
و ﴿قَوْلُهُ﴾ مرفوع (ب (يكون))، و (الحق): نعته. وقيل: المعنى: فيكون
وقال الفراء: المعنى: ويوم يقول للصور: كن، فيكون، و (قولُه): ابتداء و (الحق) خبره.
و ﴿الصور﴾ عند أبي عبيد: جمع صورة. وقيل: هو القرن الذي ينفخ فيه.
وقوله: ﴿يَوْمَ يُنفَخُ﴾ بدل من ﴿يَوْمَ يَقُولُ﴾. وقيل: العامل فيه: ﴿الحق﴾. وقيل: العامل فيه ﴿وَلَهُ الملك﴾، لأنه يوم لا منازع له في الملك، فلذلك خصه بالذكر، وأن كان هو المالك في كل الأحيان، وهو مثل: ﴿مالك يَوْمِ الدين﴾ [الفاتحة: ٤].
﴿عالم الغيب﴾: رفع على النعت ل ﴿الذي﴾ في قوله: ﴿وَهُوَ الذي خَلَقَ﴾. وقيل:
والنفخ في الصور نفختان: واحدة لفناء من كان حياً على الأرض، والثانية لنشر كل ميت، وبذلك أتى القرآن.
وقد تظاهرت الأخبار عن النبي ﷺ: " أن إسرافيل قد الْتَقَم الصور (وحَنَى) جبهته ينتظر متى يؤمر فينفخ، وأنه قال: الصور قرن ينفخ فيه ".
قال قتادة: ينفخ فيه من الصخرة من بيت المقدس.
والصور قرن فيه أرواح الخلق فينفخ فيه، فيذهب كل روح إلى جسده فيدخل فيه.
ليبك يزيد ضارع لخصومه... ومعنى ﴿عالم الغيب﴾ أي: يعلم ما يغيب عنكم، ﴿والشهادة﴾ أي: يعلم أيضاً ما تشاهدون، ﴿وَهُوَ الحكيم﴾ في تدبيره، ﴿الخبير﴾ بأعمالكم.
وقوله: ﴿بالحق﴾: وَقْف إن نصبت ﴿وَ﴾ يوم على معنى: واذكر، و ﴿كُن﴾: تمام، (و) ﴿فَيَكُونُ﴾ تمام إن رفعت ﴿قَوْلُهُ﴾ بالابتداء،
وقد قرأ الحسن ﴿عالم﴾ بالخفض على البدل من الهاء في قوله ﴿وَلَهُ﴾.
(قوله): ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ﴾ الآية.
ألف ﴿أَتَتَّخِذ﴾ ألف تقرير وتوبيخ، لأنه كان قد علم أنه يتخذها.
والمعنى: واذكر يا محمد - في محاجتك قومك في أصنامهم - حجاجَ إبراهيمَ قومَه في باطل ما كانوا عليه من عبادة الأصنام، إذ قال لابيه آزر.
وقال مجاهد: آزر ليس بأبي إبراهيم، إنما هو / اسم صنم.
وقيل: آزر صفة، وهو " المُعْوَج " في كلامهم، كأن إبراهيم عابه بزيغه واعوجاجه، كأنه قال لأبيه ذلك، وهي أشد كلمة قالها إبراهيم لأبيه، ذكر
وحكي الزجاج (أن آزر) صفة، معناه: المخطئ، فيحسن أن يكون صفة للأب، كأنه: " قال لأبيه المخطئ ".
ويحسن أن يكون نداء فيضم على معنى: (يا مخطئ في دينه. وبذلك قرأ يعقوب الحضرمي، والحسن قبله. " وقال الضحاك: معنى آزر: شيخ ".
وذكر أبو حاتم عن ابن عباس: (أإزرا تتخذ) بهمزتين: مفتوحة ومكسورة، من غير ألف في (تتخذ)، نصبه (ب (تتخذ)، جعله مفعولاً من أجله، يكون مأخوذاً من الأزر الذي هو الظهر.
ويجوز أن يكون أصله: " أَوْزْراً "، ثم أبدل من الواو المكسورة همزة
وروى غير أبي حاتم بهمزتين مفتوحتين. وقرأ الحسن (آزرُ) بالرفع على النداء، وهي قراءة يعقوب. وقد قيل: إن رفعه على إضمار مبتدأ. وفي قراءة أُبَي (يا آزرُ).
(و) من جعله اسماً للصّنم: فهو بعيد، لأن ما قبل الاستفهام لا يعمل (فيه ما) بعده، وفتحه على النعت للأب، أو على البدل، وموضعه خفض.
﴿إني أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾ بعبادتكم الأصنام، أي: يتبين لمن أبصرَهُ (الله) أنه جسور وحيرة عن سبيل الحق.
قوله ﴿لأَبِيهِ﴾ وقف على قراءة من رفع (آزرُ)، أو قرأه بهمزتين. وتقف
قوله: ﴿وَكَذَلِكَ نري إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السماوات والأرض﴾ الآية.
الواو والتاء زيدتا في ملكوت للمبالغة في " الملك " وقرأ أبو السَّمَّأل: (مَلكُوت) بإسكان اللام، وهو بعيد عند سيبوبه لخفة الفتحة.
والمعنى: ومثل ما أريناك يا محمد البصيرة في دينك، والحجة على قومك، أرينا إبراهيم ملك السماوات والأرض، ﴿وَلِيَكُونَ مِنَ الموقنين﴾ أي: وليكون من الموقنين أريناه ذلك.
(وقال السدي): أقيم إبراهيم على صخرة وفتحت له السماوات، فنظر فيهن إلى ملك الله، ونظر إلى مكانه في الجنة، وفتحت له الأرضون حتى نظر إلى أسفل الأرض، قال: فذلك قوله: ﴿وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدنيا﴾ [العنكبوت: ٢٧]، أي: أَرَيْنَاهُ مكانهُ في الجنة، وقيل: أجره في الدنيا: الثناء الحسن بعده.
قال عطاء: لما رفع الله إبراهيم في ملكوت (السماوات) والأرض - تعالى الله وجل وعز -، رأى إبراهيم عبداً يزني، فدعا عليه فهلك، ثم رُفِع فأشرف، فرأى آخر، فدعا عليه فهلك. ثم رأى (آخر) فدعا عليه
وقال الضحاك: (معنى ما) أراه الله من ملك السماوات والأرض: ما أراه من النجوم والشمس والقمر والشجر والجبال والبحار.
قال ابن عباس: فُرَّ بإبراهيم من جبار من الجبابرة، فجعل في سرب، وجعل رزقه في أطراف أصابعه، فكان لا يمص أصبعاً من أصابعه إلا جعل الله تعالى فيها رزقاً. فلما خرج من ذلك السرب، أراه الله شمساً وقمراً ونجوماً وسحاباً وخلقاً عظيماً: فذلك ملكوت السماوات، وأراه الله بحوراً وجبالاً / وشجراً وأنهاراً وخلقاً
قوله: ﴿فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الليل رَأَى كَوْكَباً﴾ الآية.
المعنى: فلما ستر إبراهيم الليل بظلمته، - (يقال: جنَّ الليل (و) (جنَّه)، وأجنَّ عليه، وأجنَّه).
﴿رَأَى كَوْكَباً﴾: أي: أبصر. والكوكب: الزهرة. وقال السدي: وهو المشتري. قال ابن عباس: عبد الكوكب حتى غاب، فلما غاب، ﴿قَالَ لا أُحِبُّ الآفلين﴾، وكذلك فعل بالقمر والشمس، فلما غابا ﴿ياقوم إِنِّي برياء مِّمَّا تُشْرِكُونَ﴾.
وقد أنكر قوم من العلماء أن يكون إبراهيم عليه السلام عبد شيئاً من ذلك حقيقة، إنما فعل ذلك على وجه التعريض والإنكار لقومه وفعلهم، (لا أنه) (جهل) معبوده حتى عبد الكوكب والقمر والشمس، وكأنه أراهم أن الكوكب والقمر والشمس أضوأُ من الأصنام وأحسن، وهي لا تعبد، لأنها آفلة، فَتَركُ عبادة الاصنام التي لا ضوء لها ولا حسن ولا بهجة آكد، فكأنه عارض باطلاً بباطل على طريق التبكيت لهم، و (القطع) لحجتهم.
وقيل: بل كان ذلك منه في حال طفولته، وقبل قيام الحجة عليه ولزوم الفرض له، وتلك حال لا يلزم فيها كفر ولا إيمان.
وقيل: معنى الكلام الإستفهام الذي في معنى الإنكار، والمعنى: أهذا ربي؟، قاله قطرب وغيره، وهو قول ضعيف، لأن الألف إنما تحذف إذا كان في الكلام ما يدل عليها نحو " أم " ونحوها.
ومعنى ﴿بَازِغاً﴾: طالعاً، وهو نصب على الحال. وكذلك ﴿بَازِغَةً﴾. وذكر ﴿الشمس﴾ في قوله: ﴿هذا رَبِّي﴾، على معنى: " هذا البازغ ربي "، أو " هذا الشيء
قوله: ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ (لِلَّذِي)﴾ الآية.
هذا خبر عما قال إبراهيم بعد أن أوقفهم على نقص الكوكب والشمس والقمر في الأفول، فقال الحق ولم يبال بخلافهم، ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ﴾ أي: قصدت في عبادتي: ﴿لِلَّذِي فَطَرَ﴾ (أي خلق) السماوات والأرض ﴿حَنِيفاً﴾ أي: مائلا إلى ربي، وما أنا مشرك مثلكم.
قوله: ﴿وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ (قَالَ أتحاجواني فِي الله)﴾ الآية.
المعنى: وجادل إبراهيم قَومُه في الله، فقال لهم إبراهيم عليه السلام: أتحاجوني في توحيد الله وقد هداني للإيمان به، وإخلاص العمل له، ولست أخاف ما تشركون به أن ينالني بسوء ومكروه.
ووجه حذف النون من ﴿أتحاجواني﴾ أنه استثقل التشديد فحذفت النون الزائدة [لا] التي للإعراب، قال سيبويه: حذفت لكراهة التضعيف.
وقد أنكر أبو عمرو الحذف وقال: هو لحن، لأنه تأول أن المحذوف النون التي للإعراب. والمحذوف عند سيبويه والخليل النون الزائدة.
قوله: ﴿وَسِعَ [رَبِّي] كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً﴾ أي: [وسع] علم ربي كل شيء، فلا يخفى عليه شيء، وليس كآلهتكم التي لا تنفع ولا تضر، ﴿أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ﴾ أي: تعقلون أنها لا
قوله: ﴿وَكَيْفَ أَخَافُ مَآ أَشْرَكْتُمْ﴾ الآية.
هذا جواب إبراهيم لقومه حين خوفوه بآلهتهم، فقال: ﴿وَكَيْفَ [أَخَافُ مَآ أَشْرَكْتُمْ]﴾ أي: كيف أرهب أصنامكم التي لا تضر ولا تنفع، وأنتم لا تخافون إذا أشركتم بمن خلقكم ورزقكم، وهو قادر على ضركم ونفعكم، أشركتم به ما ليس معكم في عبادته حجة ولا برهان /، ﴿فَأَيُّ الفريقين أَحَقُّ بالأمن﴾ من العذاب؟:
مَن آمن برب واحد يضر ويَنْفَعَ، أو مَن آمن بأرباب كثيرة لا تضر ولا تنفع، ﴿إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ صدق ما أقول لكم.
قوله: ﴿الذين آمَنُواْ وَلَمْ يلبسوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ﴾ الآية.
يجوز أن يكون من قول إبراهيم، ويجوز أن يكون مستأنفاً من قول الله، فصل " الله " بين إبراهيم وقومه، فأخبر لمن الأمن.
قوله: ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ ءاتيناهآ إبراهيم (على قَوْمِهِ)﴾ الآية.
﴿تِلْكَ﴾: إشارة قول إبراهيم لقومه: ﴿فَأَيُّ الفريقين أَحَقُّ بالأمن إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [الأنعام: ٨١].
وقيل: إنهم قالوا " له ": إنّا نخاف أن تُخَبِّلك آلهتنا لسبك لها، فقال لهم: أفلا تخافون أنتم منها - إذ سوَّيتم بين الصغير والكبير منها، والذكر والانثى - أن تخبلكم، ثم قال لهم: أمن يعبد إلهاً واحداً يضر وينفع أحقُّ بالأمن، " أم " من يعبد آلهة كثيرة لا تضر ولا تنفع؟، فهذه حجته التي آتاه الله على قومه ولقنه إياها.
قوله: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ﴾ الآية.
قوله: ﴿دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ﴾ عطف على " كل "، أي: وهدينا داوود. وقيل: هو عطف ﴿إِسْحَاقَ﴾ أي: وهبنا له داوود. وقيل: هو عطف على ﴿وَنُوحاً﴾. والهاء في ﴿[ذُرِّيَّتِهِ]﴾: تعود على (إبراهيم).
وقيل: على " نوح "، وهو قول الطبري، قال: لأن في سياق الكلام المعطوف ﴿لُوطاً﴾، ولوط لم يكن من ذرية إبراهيم، إنما هو من ذرية نوح، فالمعنى: وهدينا نوحاً من قبل إبراهيم، وهدينا من ذرية نوح داود ومن بعده.
واختلف " الناس " في ﴿إِلْيَاسَ﴾: فقيل: " هو " من ذرية هارون أخي موسى، بينهما ثلاثة آباء. وقال ابن مسعود: إلياس هو إدريس.
وإدريس جد نوح، بينهما أربعة آباء. فمحال أن يُنْسَب إلى نوح وهو جده الأعلى، والذي عليه " أهل " الأنساب: أن إلياس غير إدريس.
و ﴿اليسع﴾: اسم أعجمي، جرى على غير قياس. وقد قال أبو عمرو:
وَجَدْنا الوْليدَ بْنَ الْيَزيد. (مُبارَكاً،... ورد الكسائي هذه القراءة، وقال: لا تجوز، كما لا يجوز " اليحيى ")، وهذا لا يلزم، لأنا لو نكّرنا " يحيى " لأدخلنا عليه الالف واللام، والعرب تقول: / " اليعملة ".
ومن قرأ (الَّليْسَع) فأصله " ليسع "، مثل: ضيغم وزينب، ثم دخلت
واختار الطبري أن يكون بلام واحدة، لأنه أعجمي، وقد تواترت الأخبار بهذا الاسم بهذا اللفظ، وقال: ولم يُحفظ عن أحد من أهل العلم أنَّ اسمه " ليسع "، (إنما قالوا: اسمه " اليسع ").
قال زيد بن أسلم: كان يوشع بن نون خليفة موسى في قومه، وكان ممن لا تأخذه في الله لومة لائم، فشكر الله له ذلك، و [نبّأه]. بعد موسى في بني إسرائيل، وسماه " اليسع " بلسان العرب.
قال ابن عباس: الأنبياء كلهم من بني إسرائيل - وهو يعقوب - إلا عشرة: نوح وهود ولوط وصالح وشعيب وإبراهيم وإسماعيل " وإسحاق " وعيسى ومحمد.
قوله: ﴿وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ﴾ الآية.
المعنى: وهدينا من آباء هؤلاء المذكورين، ومن ذرياتهم، ومن إخوانهم)،
قوله: ﴿ذلك هُدَى الله﴾ الآية.
أي ذلك الهدى الذي هُدِي به هؤلاء ﴿ذلك هُدَى الله يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾: أي: يوفق به من يشاء، ﴿وَلَوْ أَشْرَكُواْ﴾ أي: " لو " أشرك هؤلاء الأنبياء لذهب عنهم جزاء أعمالهم، لأن الله لا يقبل مع الشرك عملاً.
قوله: ﴿أولئك الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب﴾ الآية.
المعنى: أولئك الذين سميناهم من الأنبياء هم الذين أعطوا الكتاب، يعني صحف إبراهيم وموسى، وزبور داوود، وإنجيل عيسى، ﴿والحكم﴾ يعني: الفهم بالكتاب.
وقوله: ﴿فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هؤلاء﴾ أي: بالآيات التي أنزلت عليك يا محمد، يريد القرآن، (هؤلاء) " أي " مَن بحضرتك من المشركين. وقيل: الإشارة إلى قريش، ﴿فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ﴾ يعني الأنصار:
قال قتادة: ﴿هؤلاء﴾: إشارة إلى أهل مكة، والقوم الذين ليسوا بالآيات بكافرين: أهل المدينة، وكذلك قال الضحاك والسدي، وروي عن ابن عباس ذلك.
وقال: (أبو رجاء): ﴿قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ﴾: الملائكة.
وعن قتادة قال: هم الأنبياء المذكورون، فهم ثمانية عشر.
قوله تعالى: ﴿أولئك الذين هَدَى الله﴾ الآية.
المعنى: أن ﴿أولئك﴾ إشارة إلى من تقدم ذكره من النبيين، فأمر النبي ﷺ أن يقتدي بهداهم، ويسلك طريقهم، والاقتداء: الاتباع. والمراد: اتّباعهم على ما كانوا عليه من الإسلام والتوحيد، لا ما كانوا عليه من الشرائع، لأن شرائعهم كانت مختلفة، وغير جائز أن يؤمر النبي باتباع " شرائع " مختلفة، ولا يمكن ذلك، لأن ما حرم " عليهم " في شريعة نبي، أُحِلَّ في شريعة نبي آخر، فكيف يَقْدِر النبي ﷺ على اتباع ذلك؟، والعمل بالشيء وضده - في حال هذا - لا يمكن ودليل ذلك قوله تعالى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً﴾ [المائدة: ٤٨] فهذا هو الصحيح، ليست الآية في الاقتداء بشرائعهم لاختلافها، إنما الآية في الاقتداء بهم فيما لم يختلفوا فيه، وهو التوحيد ودين الإسلام. وأما الشرائع فقد اختلفوا فيها بأمر الله " لهم " بذلك وفَرضِه على كل واحد ما شاء.
وقال بعض النحويين: من كسر الهاء، يجوز أن تكون الهاء لغير السكت، وأن تكون للمصدر، كأنه: " فبهداهم (اقتد الاقتداء) "، " قال ": ويجوز أن تكون كناية عن الهدى، والمعنى: فبهداهم اقتد " هداهم "، على التكرير للتأكيد.
ثم قال تعالى: ﴿قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً﴾ أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين: لا أسألكم على تذكيري إياكم أجراً " ولا " عوضاً، إن القرآن الذي جئتكم به ﴿إِلاَّ ذكرى لِلْعَالَمِينَ﴾.
المعنى: وما عظموا الله حق عظمته ﴿إِذْ قَالُواْ مَآ أَنزَلَ الله على بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ﴾.
وقيل: المعنى: وما عرفوه حق معرفته.
والذي قال ذلك هو " رجل من اليهود، جاء يخاصم النبي، فقال له النبي: أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى، أما تجد في التوراة أن الله يبغض الحبر السمين؟، وكان الرجل حبراً سميناً، فغضب اليهودي وقال: والله ما أنزل الله على بشر من شيء!، فقال له: أصحابه: ويحك، ولا على موسى؟. فقال: والله ما أنزل الله على بشر من شيء!، فأنزل الله: ﴿وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ﴾ الآية ".
وقال محمد بن كعب القرظي: جاء ناس من اليهود إلى النبي فقالوا: يا أبا القاسم، ألا تأتينا بكتاب من السماء كما جاء به موسى ألواحاً يحملها من عند الله؟، فأنزل الله ﴿يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكتاب أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السمآء﴾ [النساء: ١٥٣] الآية، ثم ﴿قَالُواْ مَآ أَنزَلَ الله على بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ﴾، فأنزل اللهُ: ﴿وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ﴾ الآية، ثم قال الله لنبيه محتجا عليهم:
وقيل: إن هذا خبر عن مشركي العرب أنكروا أن يكون الله أنزل على أحد كتاباً.
وقوله: ﴿تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً﴾ هم يهود أخفوا من التوراة ما أرادوا، وأبدوا ما أرادوا.
واختيار الطبري أن يكون ذلك خطاباً لقريش، لأنه في سياق الحديث عنهم، ولأن اليهود لم يَجْرِ لهم ذكر.
قال مجاهد: ﴿قُلْ مَنْ أَنزَلَ الكتاب الذي جَآءَ بِهِ موسى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ﴾ هو خطاب لمشركي العرب، ﴿تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً﴾ إخبار عن اليهود، ﴿وَعُلِّمْتُمْ مَّا لَمْ تعلموا أَنتُمْ وَلاَءَابَآؤُكُمْ﴾ للمسلمين.
فمن قرأ بالياء في (يجعلونه) و (يبدون) و (يخفون)، رَدَّهُ على الناس.
ويجوز أن يكون المعنى: وعلمتم علماً لم تكونوا تعلمونه أنتم ولا آباؤكم، على الامتنان عليهم بإنزال التوراة عليهم، والأول: قول أهل التفسير.
﴿وَهُدًى لِّلنَّاسِ﴾ وقف على قراءة من قرأ بالياء في ﴿تَجْعَلُونَهُ﴾ وما بعده، ﴿وَلاَءَابَآؤُكُمْ﴾ تمام عند نافع، ﴿قُلِ الله﴾ التمام عند الفراء، لأن المعنى عنده: قل الله عَلَّمَكُم.
وقيل: المعنى: قل يا محمد: الله أنزله، ولا جواب لقوله: ﴿قُلْ مَنْ أَنزَلَ الكتاب﴾.
قوله: ﴿وهذا كتاب أنزلناه مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ الآية.
المعنى: وهذا القرآن - يا محمد - كتاب، - ومعنى الكتاب هنا -: مكتوب - أنزلناه إليك مباركاً، ﴿مُّصَدِّقُ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ أي: يصدق ما قبله من كتب الله التي أنزلها على أنبيائه، ﴿وَلِتُنذِرَ أُمَّ القرى﴾ أي: لتنذر عذاب الله وبأسه أم القرى.
وأم القرى: مكة، (ومن حولها): شرقاً وغرباً.
وسميت: ﴿أُمَّ القرى﴾، لأن الأرض دُحيت منها، أي: بُسِطَت. وقيل: سميت بذلك، لأن فيها أول بيت وضع للناس. وقيل: سميت بذلك لأنها تُقصد من كل قرية.
ومن قرأ (وليَنذِرَ) رَدَّهُ على (الكتاب)، ومن قرأ بالتاء فعلى المخاطبة
وقوله: ﴿والذين يُؤْمِنُونَ بالآخرة﴾ أي: يصدقون بالبعث، ﴿يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾ أي: بهذا الكتاب والهاء في (به) للقرآن، وقيل: لمحمد.
وقيل: إنه لما نزل ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ﴾ [المؤمنون: ١٢] إلى آخر القصة، عجب ابن أبي سرح من خلق الإنسان وانتقاله من حال إلى حال، فقال: ﴿فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين﴾ [المؤمنون: ١٤]، فقال له النبي ﷺ: أكُتبْها، فكذلك نُزِّلَت عليّ.
قوله: ﴿وَهُمْ على صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ﴾ أي: على الصلوات التي افترضها الله.
قوله: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً﴾ الآية.
قوله: وَ (مَن) قال في موضع جر، عطفٌ على (مَن) الأولى.
فالَّذي قال: ﴿أُوْحِيَ إِلَيَّ﴾ هو مسيلمة الكذاب، والذي قال: ﴿سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنَزلَ الله﴾ عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وكان عبد الله هذا قد كتب للنبي، فكان يملي عليه (عزيزٌ حكيمٌ) فيكتب (غفورٌ رحيمٌ)، وقال: قد أنزل " عليّ " مثل الذي أنزل على محمد، قد كتبتُ ما لم يُمْل عليَّ. وكان يقرأ على النبي ما يكتب، فيقول له النبي: نعم سواء.
وقيل: إن قائل القولين هو عبد الله هذا. وقيل: هو مسيلمة. وقال ابن عباس: الذي افترى على الله كذباً هو مسيلمة، والذي قال: " سأنزل مثل ما أنزل الله " هو عبد الله بن أبي سرح.
ثم قال تعالى: ﴿وَلَوْ ترى إِذِ الظالمون فِي غَمَرَاتِ الموت﴾ / أي: لو ترى يا محمد حين يغمر الموت بسكراته هؤلاء الظالمين المفترين على الله الكذب وقد قرب
قال ابن عباس: البسط هنا: الضرب، يضربون وجوههم وأدبارهم. وقال الضحاك: بسطت الملائكة أيديها بالعذاب. وقيل المعنى: (باسِطو أَيْديهم) لإخراج أنفسهم
﴿أخرجوا أَنْفُسَكُمُ﴾ أي: يقولون لهم: أخرجوا أنفسكم من العذاب، أي: خلصوها اليوم.
قوله: ﴿اليوم تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهون﴾ أي: عذاب جهنم، وهو عذاب الهوان، وهذا إخبار من الملائكة للكفار " بما " يصيرون إليه في الآخرة.
والهون - بالضم -: الهوان، والهَوْن بالفتح: الرفق والدَّعَة، تقول: " هُوَ هَوْنُ الْمؤوَنه "، ومنه قوله: ﴿يَمْشُونَ على الأرض هَوْناً﴾ [الفرقان: ٦٣] يعني بالرفق والسكينة.
قوله: ﴿فِي غَمَرَاتِ الموت﴾ ليس يوقف، لأن ما بعده في موضع الحال. و ﴿مِثْلَ مَآ أَنَزلَ الله﴾: وقف حسن. ﴿أَيْدِيهِمْ﴾: وقف، ﴿غَيْرَ الحق﴾ وقف عند نافع، ﴿تَسْتَكْبِرُونَ﴾ تمام حسن، لأنه آخر قول الملائكة.
قوله: ﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فرادى﴾ الآية.
قرأ أبو حَيْوَةَ ﴿فرادى﴾ بالتنوين، وهي لغة تميم، ويقولون في الرفع " فُرادٌ " وحكى أحمد بن يحيى " فُرادُ " بغير تنوين مثل " رُباع ".
وقال الطبري: واحد ﴿فرادى﴾: " فَرَدٌ "، بالفتح.
ومن قرأ (بَيْنَكم) بالنصب، فمعناه: لقد تقطع (الأمر بينكم) والسبب بينكم، ونصبه على الظرف.
ومن رفع، جعله غيرَ ظرف، بمعنى الوَصْل، تقديره: لقد تقطع وصلُكم.
وروي " أن عائشة رضي الله عنها قرأت هذه الآية فقالت: يا رسول الله، واسوأتاه إن الرجال (والنساء يحشرون جميعاً ينظر بعضهم إلى سوأة بعض؟، فقال لها رسول الله ﷺ: ﴿ لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾، لا ينظر الرجال) إلى النساء، ولا النساء إلى الرجال، شُغِل بعض عن بعض ".
ومعنى ﴿وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ﴾ أي: في الدنيا، ﴿مَا نرى مَعَكُمْ شُفَعَآءَكُمُ﴾ أي: ليس نرى معكم مَن كنتم تزعمون أنهم (لكم شفعاء) عند ربكم يوم القيامة.
قال عكرمة: قال النضر بن [الحارث]: " سوف تشفع لي اللات والعزى "، فنزلت هذه الآية.
قوله: ﴿إِنَّ الله فَالِقُ الحب والنوى﴾ الآية.
معنى الآية: أنها تنبيه لهؤلاء المشركين على قدرة الله، وأن ما يعبدون لا يقدر على ذلك. ومعنى فَلْقِه الحبَّ والنوى: يريد به النبات، فلق الحبة عن السنبلة، والنوى عن النخلة.
وقال الضحاك: معنى ﴿فَالِقُ الحب والنوى﴾ خالقهما، وروي ذلك عن ابن عباس.
واختيار الطبري أن يكون المعنى: فلقهما للنبات، لأنه أتبع ذلك بقوله: ﴿يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت﴾، (فخروج الحي من الميت) كخروج النبات عن الحب والنوى، قال: ولا يعرف في اللغة " فلق " بمعنى خلق.
وقوله: ﴿يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَمُخْرِجُ الميت مِنَ الحي﴾ معناه: يخرج السنبل الحي من الحب الميت، ويخرج " الحب " الميت من السنبل الحي، والشجر الحي من النوى الميت، والنوى الميت من الشجر الحي. والعرب تسمي النبات والشجر ما دام لم يَيْبَس " حياً "، فإذا يبس وجف سمي " ميتاً ". فتقديره: يخرج النبات الأخضر الغض من الحبة اليابسة، ويخرج اليابس من الأخضر الغض.
﴿فأنى تُؤْفَكُونَ﴾ أي: من أين تُصْرَفون عن الحق ولا تتدبرون.
قوله: ﴿فَالِقُ (الإصباح) وَجَعَلَ الليل سَكَناً﴾ الآية.
قرأ الحسن: (فالِقُ الأَصباح) بفتح الهمزة، " و " جعله جمع صبح.
وقرأ النخعي ﴿فَالِقُ الإصباح﴾ بالنصب في (الإصباح) وكسر الهمزة، يقدر حذف التنوين لالتقاء الساكنين، كأنه " قال " فالق الإصباح، فالإصباح: مفعول به، لكن حذف التنوين لسكونه وسكون اللام.
﴿وَجَعَلَ الليل سَكَناً﴾ أي: يَسْكُن فيه كل مُتحرك، ويستقر فيه كل متصرف.
قوله ﴿والشمس والقمر حُسْبَاناً﴾ أي: وجعل الشمس والقمر يجريان في أفلاكهما بحساب. قال ابن عباس: يعني عدد الأيام والشهور والسنين.
وقال قتادة: ﴿حُسْبَاناً﴾: ضياء.
والحسبان - بضم الحاء - " و " الحِساب بكسر الحاء: جمع حسبانة، وهي الوسادة الصغيرة.
﴿ذلك تَقْدِيرُ العزيز﴾ أي: هذا الفعل الذي فعله الله: تقدير عزيز عليم، أي: عزيز في سلطانه، وعليم بمصالح خلقه.
قوله: ﴿وَهُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ النجوم﴾ الآية.
المعنى: والله " الذي " جعل لكم النجوم أيها المشركون به، جعلها أدلة في ظلمات البر والبحر لكم إذا ضللتم وتحيرتم ﴿قَدْ فَصَّلْنَا الآيات﴾ أي: " قد " بيناها لِتَفْقَهوها وتعلموا أن الله مدبر ذلك كله، فلا تعبدوا غيره.
قوله: ﴿وَهُوَ الذي أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ واحدة﴾ الآية.
﴿فَمُسْتَقَرٌّ﴾ أي في الرحم، ﴿وَمُسْتَوْدَعٌ﴾ أي: في الصلب.
وعن ابن مسعود: المستودع: المكان الذي يموت فيه، وقوله: ﴿وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا﴾ [هود: ٦] أي في الأرحام، ﴿وَمُسْتَوْدَعَهَا﴾ [هود: ٦] أي في الأصلاب، / وقيل: حيث تموت.
وقال ابن جبير: المستودع: ما كان في الأصلاب، والمستقر: ما كان في البطون وعلى الأرض وفي بطنها.
وقال ابن عباس: ﴿مُسْتَقَرَّهَا﴾ [هود: ٦]: ما كان على وجه الأرض وفي الأرض،
ومن قرأ بالفتح في ﴿فَمُسْتَقَرٌّ﴾، فمعناه: أن الله استقره. ومن كسر، رد الفعل إلى المذكور عند الاستقرار.
﴿قَدْ فَصَّلْنَا الآيات﴾ أي: بيّنّا الحجج والعلامات، ﴿لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ﴾ مواقِعَ
قوله: ﴿وَهُوَ الذي أَنزَلَ مِنَ السمآء﴾ الآية.
قوله: ﴿وجنات﴾ قراءة الجماعة بالنصب والتاء مكسورة، عطف على ﴿نَبَاتَ﴾، كأنه [قال]: وأخرجنا به جنات. وقيل: هو معطوف على ﴿خَضِراً﴾.
وقرأ الأعمش بالرفع على الابتداء، والخبر محذوف تقديره: ولهم جنات.
وقيل: هو معطوف على المعنى، (فعطف) على القنوان، كأنه قال: وثم قنوان وجنات.
والمعنى: والله هو الذي أنزل من السماء (ماء ففعل) به ما ذكر، وأخرج به ما ذكر.
ومعنى ﴿خَضِراً﴾ (أخضر)، أي: نباتاً أخضر، ﴿نُّخْرِجُ مِنْهُ﴾ أي: من الخضر، ﴿حَبّاً مُّتَرَاكِباً﴾ وهو السنبل ونخرج من الماء من النخل من طلعها ما قنوانه دانية، أي: قريبة مُتَهَدَلة، يعني قصار النخْل التي قد لصقت عُذُوقُها بالأرض،
وقوله: ﴿مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ متشابه﴾ أي: (قد) اشتبه في الخلق واختلف في الطعم.
قوله: ﴿وَيَنْعِهِ﴾ أي: نضجه. ومن قرأ (يانعة) فمعناه: ناضجة.
وقد قيل: إن ﴿يَنْعِهِ﴾ - بالفتح - جمع يانع، كتاجر وتَجْر. و (قد) قيل: هو مصدر " يَنِع الثمر يَنْعاً " اذا نضج.
وقرأ محمد بن السَّمَيفَع اليماني (ويانعه)، وقرأه ابن أبي اسحاق (ويُنْعه) بالضم، على معنى: ونُضجه.
قوله: ﴿وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ الجن﴾ الآية.
﴿الجن﴾: مفعول أول لِ (جَعَلوا)، و ﴿شُرَكَآءَ﴾: مفعول ثان، ويجوز " أن يكون ﴿الجن﴾ بدلاً من ﴿شُرَكَآءَ﴾ "، والمفعول الثاني: اللام في (لله) وما عملت (فيه)، وأجاز الكسائي رفع (الجن) على معنى: هم الجن.
وقرأ يحيى بن يعمر: ﴿وَخَلَقَهُمْ﴾ بالنصب وإسكان اللام، على معنى: وجعلوا لله خَلْقَهُم شركاء، لأنهم يخلقون الشيء، بمعنى: يقدرونه ويعبدونه.
ومعنى الآية: أن المشركين جعلوا الجن شركاء لله، كما قال عنهم {وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَباً﴾ [الصافات: ١٥٨]، ومعنى جَعلِهم الجن شركاء لله: أنهم أطاعوهم كطاعة الله. وقيل: نسبوا إليهم الأفاعيل التي لا تكون إلا لله.
قال ابن جريج: هم الزنادقة. وقال القتبي: هم " الزنادقة جعلوا إبليس يخلق الشر، والله يخلق الخير ".
ومعنى الآية ﴿وَخَلَقَهُمْ﴾: أي: والله خلقهم، والهاء والميم تعود على الفاعلين
﴿وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وبنات (بِغَيْرِ عِلْمٍ)﴾ قالت العرب: الملائكة بنات الله، وجعلوا له البنات، ولهم ما يشتهون، وهم البنون، وقال اليهود: عزير ابن الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله كذباً واختراقاً منهم.
﴿سبحانه﴾: أي: تنزيهاً له عما يقولون، ﴿وتعالى﴾ عن ذلك.
قوله: ﴿بَدِيعُ السماوات والأرض أنى يَكُونُ لَهُ وَلَد﴾ الآية.
المعنى: هو بديع السماوات، أي: (مبتدعها ومحدثها) بعد أن لم تكن.
قوله: ﴿ذلكم الله رَبُّكُمْ لا إله إِلاَّ هُوَ خالق كُلِّ شَيْءٍ﴾ الآية.
والمعنى: فذلكم الذي ذكرت صفته هو الله ربكم، لا إله إلا هو، خالق كل شيء.
وقد تعلق القائلون بخلق القرآن بقوله: ﴿خالق كُلِّ شَيْءٍ﴾، قالوا: القرآن شيء، فهو داخل تحت الخلق. وقد جرت هذه المسألة بين عبد العزيز بن يحيى المكي وبين بشر
قال عبد العزيز: قلت لبشر: ما حجتك في خلق القرآن؟، وانظر: إلى أَحدّ سهمٍ في كنانتك فَاْرمِنِي به. قال: فقال لي بشر: تقول: إن القرآن شيء أم غير شيء؟. (قال عبد العزيز): فقلت له إن كنتَ تريد أنَّه شيء إثباتاً للوجود ونفياً للعدم، فَنَعَم هو شيء، وإن كنت تريد أن الشيء اسم لذاته وأنه كالأشياء فلا. قال له بشر: قد أَقْرَرْتَ أنه شيء وادّعيتَ أنه لا كالأشياء، فأت بنصٍ على ما زَعَمتَ. قال عبد العزيز: فقلت: قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [النحل: ٤٠]، فبِقولِه تكون الأشياء، وليس هو كهي. وإنما تكون الأشياء بقوله وأمْرِه. فقولُه خارج
فهذا يدل على أن كلامه لا كالأشياء المخلوقة، لأنها به كانت (وحَدَثَت). وأما ما يدل على أنه " شيء " فقوله: ﴿إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ﴾ [الأنعام: ٩٣]، فدل على أن الوحي شيء، ودل ما تَقدَّم على أنه لا كالأشياء.
قال بشر: قد زعمت أن الله يخلق الأشياء، وادّعيتَ أنَّها تكون بقوله، وأنَّها
قال عبد العزيز: إِنّ قولَه هو كلامُه، وقولَه هو الحقُّ، وأمرَه هو كلامُه: فالألفاظ الثلاثة ترجع إلى معنى واحد، كما سمى كلامه: نوراً وهدىً وشفاءً ورحمةً و ﴿وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ﴾، وكله يرجع إلى شيء واحد، [كذلك ذاك. وكما سمى نفسه: فرداً صمداً واحداً]، وهو شيء واحد لا كالأشياء. وهذا إنّما منعه بِشْر لجِهلِه بِلُغةِ العرب.
قال بشر: (لَستُ) أَقْبَلُ لغةَ العرب، ولا أَقَبل إلا النص.
قال عبد العزيز: فقلت: قال الله: ﴿يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلاَمَ الله﴾ [الفتح: ١٥]، ثم قال: ﴿كذلكم قَالَ الله مِن قَبْلُ﴾ [الفتح: ١٥]، فسمى القرآن كلامه، ثم سماه: قوله، وقال: ﴿وَهُوَ الحق مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ﴾ [البقرة: ٩١]، فسمى القرآن حقاً، وقال: ﴿وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الحق﴾ [الأنعام: ٦٦]، وقال:
قال بشر: قد أقررت يا عبد العزيز أن القرآن شيء على صفة ما، وقد قال تعالى: ﴿الله خَالِقُ كُلِّ شَيْ﴾ [الأنعام: ١٠٢، الرعد آية ١٦، الزمر آية ٦٢، غافر آية ٦٢]، وهذه لفظة لم تدع شيئاً من الأشياء إلا أدخلته في الخلق، ولا يخرج عنها شيء، قد تقَصَّتْ جميع الأشياءِ، فصار القرآن مخلوقاً بنص القرآن.
قال عبد العزيز: فقلت: قال الله: ﴿تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا﴾ [الأحقاف: ٢٥]، فهل أبقت الريح - يا بشر - شيئاً لم تدمره؟
قال بشر: لا. قال عبد العزيز: فقلت له: قد - والله - أَكْذَب الله قائل هذا بقوله: ﴿فَأْصْبَحُواْ لاَ يرى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ﴾ [الأحقاف: ٢٥]، فأخبر أن مساكنهم كانت باقية وهي أشياء كثيرة، وقال تعالى: ﴿مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كالرميم﴾ [الذاريات: ٤٢]، وقد أتت على الجبال والشجر والأرض فلم تجعله رميماً، وقال تعالى: ﴿ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ﴾ [النمل: ٢٣]، يعني بلقيس، فهل
وقال: ﴿وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ﴾ [فاطر: ١١، فصلت: ٤٧]!، فأخبر تعالى أن له علماً. أفتقرُّ - يا بشر - أن له علماً كما أخبر في كلامه أو تخالف التنزيل؟.
فعلم بشر أنه (إنْ) قال: " له علم "، فيقول له: أهو داخل في الأشياء المخلوقة أم لا؟. فإن قال: " دخل "، كفر. وإن قال: لا. أجاز ما منع في الكلام. وأبى أن ينفي العلم فخالف التنزيل، فحاد، ثم قال: معنى علمه: أنه لا يجهل.
قال عبد العزيز: لم أسألك عن هذا، قد علمت أن الله لا يجهل، انما سألتك:
قال عبد العزيز: فقلت: إنما على الناس أن يُثبتوا ما أثَبتَ، وينفوا ما نفى، ويُمسكوا عن ما أمسك الله. فأخبرنا تعالى أن له علماً، فقلت: " له علم "، ولم يخبرنا أن له سمعاً ولا بصراً، فأمسكنا عن ذلك.
فقال بشر: قد زعمت أن لله علماً، فما معنى علم الله؟.
قال عبد العزيز: هذا ما لا يعلمه إلا الله، قد تَفرَّد بذلك، وقد أمرني بشر أن أترك قول الله وأَمرَه، واتبع أمر الشيطان، لأن الله أخبر عن الشيطان أنه (يأمرنا أن) نقول (على) الله ما لا نعلم، وحرم الله علينا أن نقول عليه ما لا نعلم بقوله: ﴿وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ١٦٩، الأعراف: ٣٣]، فقد اتبع بشر طريق الشيطان، وارتكب ما حرم الله علينا.
قال بشر: نعم له نفس كما أخبرنا.
قال عبد العزيز: فقلت له: قال الله: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ (الموت)﴾ [آل عمران: ١٨٥]، أفتقول - يا بشر - إن نفس رب العالمين داخلة في هذه النفوس المخلوقة؟. فأبى بشر من القول بذلك، فقال له عبد العزيز: وكذلك كلام الله ليس بداخل في الأشياء المخلوقة. فسكت بشر.
قال عبد العزيز ثم قلت له: القرآن نزل على أربعة أخبار:
- خبر مخرجه مخرج الخصوص، ومعناه الخصوص، كقوله: ﴿اسجدوا لأَدَمََ﴾ [البقرة: ٣٤، الأعراف: ١١، الاسراء: ٦١، الكهف: ٥٠، طه: ١٦٦]، وكقوله: ﴿إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِءَادَمَ﴾ [آل عمران: ٥٩]: هذا خاص في لفظه ومعناه.
- والثاني: خبر مخرجه مخرج العموم، ومعناه معنى العموم، كقوله: ﴿وَلَهُ كُلُّ شَيءٍ﴾ [النمل: ٩١]، فكل شيء له، مخلوقاً كان أو غيرَ مخلوقٍ، وصفاته له، وخلقه له.
- والرابع: (خبر) مخرجه الخصوص ومعناه العموم، كقوله: ﴿وَأَنَّهُ (هُو (َ رَبُّ الشعرى﴾ [النجم: ٤٩]، فخص " الشعرى "، والمعنى: أنه رب كل شيء: الشعرى وغيرها، ولكن خصّها الله باللفظ، لأنهم كانوا يعبدونها.
فهذا اختصار بعض ما جرى بينهما، فنرجع إلى ما كنا فيه. قوله: ﴿وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾: قال الفراء: الوكيل: الكافي. ومنه قولهم: "
قوله: ﴿لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار﴾ الآية.
قال ابن عباس: معناه: لا تحيط به الأبصار، وهو يحيط بها.
وليس معناه: لا تراه، كما زعمت المعتزلة القدرية، وقد قال الله عن فرعون: ﴿إِذَآ أَدْرَكَهُ الغرق﴾ [يونس: ٩٠] فوصف بأن الغرق أدرك فرعون) ولم يخبر أنه رآه، لأن الغرق ليس مما يُرى، فليس الإدراك هو الرّؤيةَ، وقد يرى الشيءُ الشيءَ ولا يُدرِكه، كما حكي عن أصحاب موسى حين قرب منهم أصحاب فرعون: ﴿فَلَمَّا تَرَاءَى الجمعان قَالَ أَصْحَابُ موسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ﴾ [الشعراء: ٦١]، وكان أصحاب فرعون قد رأوا أصحاب موسى، ولم يكونوا
وقيل: معناه: لا تراه الأبصار في الدنيا، قال السدي وغيره.
والكلام على جواز رؤية الله جل ذكره في الآخرة يطول، وبجوازه يقول أهل السنة والجماعة، و (به) تواترت الأخبار وتتابعت الروايات عن النبي
قوله: ﴿وَهُوَ اللطيف الخبير): (اللطيف)﴾: مشتق من اللطف وهو التأني يقال: " أُلطُفْ لِفُلانٍ في هذا الأمرِ "، أي: " تأن له " من وجه يَخلُص (منه) إلى بغيته، (فالله لطيف بالخلق) حتى صاروا إلى ما يصلحهم. وقيل: ﴿اللطيف﴾
قوله: ﴿قَدْ جَآءَكُمْ بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ﴾ الآية.
المعنى: أن الله أمر نبيه أن يقول للمشركين ذلك. والبصائر: الهدى. وقيل: الآيات الدالة على الهدى.
﴿فَمَنْ أَبْصَرَ﴾ أي: استدل وعرف نفع نفسه، ﴿وَمَنْ عَمِيَ﴾: أي: من ضَلّ فعلى نفسه، ﴿وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ﴾ أي: لست عليكم برقيب أحصي أعمالكم، إنما أنا مُبلِّغ.
قوله: ﴿وكذلك نُصَرِّفُ الآيات وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ﴾ الآية.
المعنى: وكما صرفنا لكم الحجج والعلامات فيما تقدم مثل ذلك أفعل في كل ما جهلتموه ولم تعرفوه، ومعنى (نُصَرّف): نبيّن.
وقوله: ﴿وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ﴾ أي: " ولئلا يقولوا درست ".
وقيل: المعنى: وليقولوا درست صرفناها، لأنهم لما آل أمرهم بَعدُ - (عند تصريف الآيات) - إلى أن يقولوا لمحمد: " درست ". صار كأنه إنما صرَّفها ليقولوا ذلك، مثل ﴿رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ﴾ [يونس: ٨٨]، و ﴿لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً (وَحَزَناً)﴾ [القصص: ٨] وشبهه، وأهل اللغة
ومعنى (دَرَسْتَ): قَرأْتَ وتَعلَّمْتَ كتب الأولين.
ومن قرأ (دارَسْتَ) فمعناه: قارَأْتَ أهل الكتاب فتعلمت منهم وتعلموا منك.
ومن قرأ (دَرَسَتْ) / بإسكان التاء، فمعناه: تقادمت وَاّمَحتْ، أي: الذي
وروى الحسن: (دَارَسَتْ) بألف وإسكان التاء. ولا يجيزها أبو حاتم، لأن الآيات لا تدارس. ومعنى الآية عند غيره: وليقولوا: دارستك أمتك.
﴿وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ أي: صرفناها لنبين القرآن لقوم يعلمون. فالهاء (في) ﴿وَلِنُبَيِّنَهُ﴾ للقرآن، وقيل: للتصريف.
قوله: ﴿اتبع مَآ أُوحِيَ إِلَيْكَ﴾ الآية.
المعنى: أن الله أمر نبيه باتباع القرآن والإعراض عن المشركين ثم نسخ ذلك بآية القتال في " براءة ".
أعلم الله نبيه أنه لو شاء الله لهداهم فلم يشركوا. وقيل: المعنى: لو شاء لأنزل عليهم آية تضطرهم إلى الإيمان.
ثم قال لنبيه: وما أرسلناك عليهم حفيظاً، أي: إنما أرسلناك مبلغاً، لم ترسل لتحفظ عليهم أعمالهم، ﴿وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ﴾ أي: بِقَيّم تقوُمُ بأرزاقهم وأقواتهم. وهذا كله قبل أن يؤمر بالقتال، ثم نُسخَ الأمرُ بالقتال هذا كله.
قوله: ﴿وَلاَ تَسُبُّواْ الذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله﴾ الآية.
﴿عَدْواً﴾: مصدر، ويجوز أن يكون مفعولاً من أجله.
ومعنى الآية: أن المشركين قالوا: لتنتهن عن سَبّ آلهتنا أو نهجو ربكم، فأمر (الله) المسلمين ألا يسبوا آلهتهم لئلا يسبوا الله جهلاً منهم بخالقهم ورازقهم.
قوله: ﴿وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم﴾ الآية.
المعنى: أن الله جل ذكره لمّا نزّل في " الشعراء " ﴿إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السمآء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ﴾ [الشعراء: ٤]، أقسم كفار قريش: ﴿لَئِن جَآءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا﴾، فقال المؤمنون: يا رسول الله، سل ربَّك أن ينزلها عليهم حتى يؤمنوا، فأنزل الله ﴿وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾، وهو خطاب للمؤمنين السائلين النبي في ذلك.
وقيل: معنى الآية: أن الكفّار سألوا النبي ﷺ أن يأتيهم بآية، وحلفوا ليؤمنن إِنْ أتت، فقال المؤمنون: يا رسول الله، سل ربك أن ينزلها (عليهم) حتى يؤمنوا،
وهذه الآية هي التي توعّدوا بها / في الشعراء في قوله: ﴿إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السمآء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ﴾ [الشعراء: ٤]، فقال الله لنبيه: ﴿قُلْ إِنَّمَا الآيات عِندَ الله﴾ وهو القادر على إنزالها.
والذي سألوه هم أنهم قالوا: تجعل لنا الصفا ذهباً. فسأل النبي ﷺ في ذلك،
ومن قرأ بالتاء، فإنما هو خطاب للمشركين الذي سألوا الآية، ويحتمل وجهين:
- أحدهما: أن تكسر (إِنّ) على معنى: وما يشعركم ذلك، ثم استأنف بالإخبار عما سبق في علمه، وعِلم ما لو كان كيف كان يكون، فقال: إنها إذا
- ويحتمل أن تفتح (أنَّ)، ويكون المعنى: وما يُشعركم - أيُّها المشركون - أنها إذا جاءت تؤمنون؟، وتكون (لا) زائدة.
ومن قرأ بالياء فهو خطاب للمؤمنين الذين سألوا النبي أن يسأل آية ليؤمن المشركون عند نزولها على ما سألوا، وأقسموا إنهم يؤمنون إذا نزلت، ويحتمل معنيين:
أحدهما: فتح (أنَّ) ويكون المعنى: وما يشعركم - أيُّها المؤمنون - أنَّها إذا جاءت يؤمنون؟، أي: (ما) يدريكم أنَّهم يؤمنون إذا نزلت الآية. وتكون (لا) زائدة.
- والوجه الآخر: أن تكون (إنِّ) مكسورة، ويكون المعنى: وما يشعركم - أيها
ويجوز في القراءتين جميعاً - الياء والتاء - أن تكون (أنَّها) - إذا فتحت - بمعنى " لعلها "، وتكون (لا) غير زائدة.
والياء اختيار الطبري مع فتح (أنَّ) بمعنى " لعلها ".
ولو فتحت (أنَّها) ولم تقدر زيادة (لا) ولا كون (أنَّها) بمعنى " لعلها "، لكان ذلك عذراً لهم.
ولا يتم فتح (أنَّها) إلا بأحد وجهين:
- إمَّا أَنْ تقدرها بمعنى " لعلها " - أو تقدر زيادة (لا). فاعلم ذلك.
ومن قدر زيادة (لآ) هنا، أوقع ﴿يُشْعِرُكُمْ﴾ على ﴿أَنْ﴾ ففتحها، ويجعل (لا) صلة كهي في قوله: ﴿وَحَرَامٌ على قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَآ أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ﴾ [الأنبياء: ٩٥]، المعنى: حرام عليهم أن
وقيل: في الآية قول حسن، وهو أن يكون المعنى: وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون أو يؤمنون. ثم حذف الأخير لدلالة الأول عليه، فيِعمل (يُشْعِرُكُم) في (أَنَّها)، ويفتح (أَنَّ)، ولا يقدر زيادة / (لا)، ولا يقدر (أنَّها) بمعنى " لعلها "، ولا تكون عذرا لهم.
(والوقف على (يُشْعرِكُم) في قراءة من كسر (إنّ)، وفي قراءة من فتح على تقدير " لعلها " حسن، ولا يحسن الوقف على (يُشعِركم) على غير هذين الوجهين).
قوله: ﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وأبصارهم﴾ الآية.
المعنى: أنهم لما أشركوا وجَحدوا، لم يثبت الله قلوبهم على شيءٍ. قال ابن
وقال مجاهد: المعنى: يَحُولُ بينهم وبين الإيمان، ولو جاءتهم كل آية لا يؤمنون كما حُلْنا بينهم وبين الإيمان أولَ مرةٍ. كأن في الكلام تقديماً وتأخيراً، والمعنى: ﴿وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ كما لم يؤمنوا به أول مرة، وذلك قبل إتيان الآية: ﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وأبصارهم﴾، ﴿وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾.
وقيل: المعنى: أن الله جل ذكره جعل عقوبة الإعراض عن الحق - بعد أن بين لهم - الطبعَ على قلوبهم، و (الغشاوة) على أبصارهم.
والهاء في (بِهِ) للقرآن. وقيل: لمحمد. وقيل: للمسؤول، أي: كما لم يؤمن أوائلهم بما سألوا من الآيات بعد نزولها، فكذلك يفعل كفار قريش لو نزل عليهم ما سألوا من الآيات.
قال الطبري: المعنى: ونُقلّبُ أفئدتهم فنزيغها عن الإيمان، وأبصارهم عن رؤية الحقِّ، كما لو لم يؤمنوا بتقليبنا إياها قبل مجيئها أول مرة، أي: قبل ذلك.
والهاء عنده تعود على التقليب، وفيما تقدّم من الأقوال، تعود على الهدى، أو على الإيمان، وقد قيل: على الرسول، وقيل: (على القرآن). وقيل: على الله جل ذكره.
وقوله: ﴿وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ أي: نتركهم في حيرتهم يترددون. قال النحاس: المعنى: نُقلّب أفئدتهم وأبصارهم على لهب النَّار كما لم يؤمنوا به في الدنيا. ثم قال: ﴿وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾، أي: ونمهلهم في الدنيا فلا نعاقبهم، أي: ونتركهم
قوله: ﴿وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الملائكة﴾ الآية.
وهذه الآية من الله (إعلام) يُزيل بها طمع النبي من (أن يؤمن) هؤلاء العادلون بربهم الأوثانَ، الذين سألوا الآية وأقسموا إنهم يؤمنون إذا نزلت، فأخبر تعالى أنهم لا يؤمنون ولو جاءتهم كلُّ آيةٍ، فقال تعالى: لو نزّلتُ إليهم الملائكة، أي: عياناً ﴿وَكَلَّمَهُمُ الموتى﴾ بأنك مُحِقٌّ فيما تقول، ﴿وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ﴾ أي: جمعنا عليهم، ﴿كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً﴾ أي: عياناً.
وقيل: معناه: آتيناهم بما غاب عنهم من أمور الآخرة، ما آمنوا ﴿إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله﴾، عزى الله نبيه بهذا، وأعلمه أن من سبق في علم الله ألا يؤمن، فلا ينفعه شيء.
قوله: ﴿ولكن أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ﴾: أي: يجهلون ما في مخالفتك - يا محمد - وهم يعلمون أنك نبي صادق فيما جئتهم به.
قال له أبو سفيان: تظنُّ (أنيِّ كَنْتُ) أقاتلك تكذيباً مني، والله ما شككت في صِدقك، وما كنت أقاتلك إلا حسداً مني لك، فالحمد لله الذي نزع ذلك من قلبي. فكان النبي يشتهي ذلك منه، ويَتَبَسَّم إليه " ومن قرأ (قُبُلاً) بالضم، احتمل ثلاثة أَوْجُهٍ:
- والوجه الثاني: أن يكون " القُبُل " واحداً، بمعنى المقابلة، تقول: " أَتَيْتُكَ قِبَلاً لا دُبُرا ": إذ أتيته من قِبَل وجهه، فالمعنى وجمعنا عليهم كل شيء من قِبَل وُجوهِهم.
- والوجه الثالث: أن يكون (قُبُلاً) جمع " قبيل " أيضاً، ويكون " قبيل " بمعنى: فِرْقة وصنف. فالمعنى: وحشرنا عليهم كل شيء صنفاً صنفاً وقبيلة (قبيلة)، فيكون (قبلاً) جمع " قبيل " و " قبيل " جمع " قبيلة ". ومن قرأ (قِبَلاً) فمعناه: عياناً، أي: معاينة.
وقال المبرد: (قِبَلاً) بمعنى ناحية: أي: وجمعنا عليهم كل شيء ناحية، كما تقول: " لي قِبَلَ فلانٍ مالٌ "، أي: ناحِيتَه، فكان نصبه - على هذا - على الظرف، وعلى الأقوال المتقدمة: على الحال.
قوله: ﴿وكذلك جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شياطين الإنس﴾ الآية.
﴿عَدُوّاً﴾ مفعول أول ل (جَعَلنْا)، و ﴿لِكُلِّ نِبِيٍّ﴾: المفعول الثاني، و (شياطين) بدل من ﴿عَدُوّاً﴾. ويجوز أن يكون (شياطينَ) مفعولاً ثانياً، و (عَدُوّاً) أولا.
حكى سيبويه أنَّ (" جَعَلَ " بمعنى: " وَصَفَ ")، فَيَتَعدَّى إلى مفعولين،
﴿غُرُوراً﴾ مصدر، أي: يَغرُّون غُروراً. ويجوز أن يكون في موضع بالحال. ومعنى الآية: أنه فيها حذف، والمعنى: وكما جعلنا لك - يا محمد - ولأمَّتِك شياطين الإِنِّسِ والجنِّ أعداء يوحي بعضهم إلى بعضٍ زخرف القول غروراً، كذلك جعلنا لكل من تقدمك من الأنبياء وأممهم، وهذا تسلِّية للنبي عليه السلام فيما لقي من (كفر) قومه.
ومعنى (شياطينَ الإنس (والجنِّ): قال السدي: للإنسِ شياطينِ تضلهم، ومثله للجن، فَيَلْقى شيطان الإنسي شيطان الجنِّي، فيقول أحدهما للآخر: " إني قد أضللت صاحبي بكذا وكذا، (فأَضْلِلْ أنت) صاحبك بذلك "، فيُعَلِم بعضهم بعضاً، فشياطينِ الإِنس من الجِنِّ، وشياطين الجنِّ من الجِنِّ. وكذلك قال عكرمة.
والشيِّطان - في اللغة - هو المتمرِّد في معاصي الله.
ومعنى ﴿زُخْرُفَ القول﴾ هو تزيين الباطل، يُقال: " زَخرفَ باطِلَه ": إذا حسَّنه، فهو تزيين الباطل بالألسنة.
قوله: ﴿وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ﴾ أي لو شاء الله ما فعل هؤلاء الشياطين العداوة بالأنبياء وأممهم، ولكن لم يشأ ذلك ليبتلي بعضهم ببعض، فيستحق كلُّ فريقٍ
والهاء في قوله: ﴿مَا فَعَلُوهُ﴾ تعود على الإيحاء لدلالة (يوحي) عليه، وقيل: على العداوة وذكر لأن التأنيث غير حقيقي.
وقوله: ﴿فَذَرْهُمْ﴾ أي: دعَّهم وافتراءهم. هذا فيه معنى التهديد والوعيد.
قوله: ﴿ولتصغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة﴾ (الآية).
يقال: صَغَى يَصْغَى، وصَغَا يَصْغُو، (وَصَغَا يَصْغَا).
ومعنى الآية: أنَّها معطوفة على ما قبلها، والتقدير: يوحي بعض هؤلاء الشياطين إلى بعضٍ المُزَيّن من القول ليَغرُّوا به المؤمنين، و (لكي تصغى) إليه أفئدة الذين لا يؤمنون [بالآخرة].
فالهاء في (إليْهِ) تعود على (زُخْرُف الْقَوْل)، وهو المُزَيَّن له. ومعنى " تصغى ": تميل إليه.
ومعنى ﴿وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ﴾ أي: وليكتسبوا ما هم مكتسبون. يُقال: خرج فلان يقترف لأهله "، أي: يكتسب.
قوله: ﴿أَفَغَيْرَ الله أَبْتَغِي حَكَماً﴾ الآية.
والمعنى: قل لهم يا محمد: (أأبتغي) غير الله حَكَماً؟، أي: [أأبتغي] حُكماً غير حُكمِه ولا حُكْمَ أَعْدَلُ من حُكْمِهِ، ﴿وَهُوَ الذي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الكتاب﴾ (أي القرآن)، ﴿مُفَصَّلاً﴾ أي: مبيّناً.
﴿والذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بالحق﴾ يريد أهل التوراة والإنجيل المؤمنين منهم بمحمد، يعلمون أنه حق، ﴿فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين﴾ أي: من الشاكين فيما جاءك من الأنباء، وفي ﴿والذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بالحق﴾.
قوله: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ﴾ (الآية).
حجة من قرأ (كلمات) - بالجمع - أنها في المصحف بالتاء، ولإجماع
ومة قرأ بالتوحيد، احتج بإجماع الجميع على التوحيد في قوله: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ﴾ [هود: ١١٩]، ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الحسنى﴾ [الأعراف: ١٣٧]. وإنما كتبت بالتاء عند من وحّد، لأنها كتبت على اللفظ، بمنزلة ﴿وَمَعْصِيَتِ الرسول﴾ [المجادلة: ٨، ٩] و ﴿فِطْرَتَ الله﴾ [الروم: ٣٠] وشبهه.
والمعنى: أن الله سمى القرآن (كلمة)، كما تقول العرب للقصيدة: " هذه كلمة
قوله: ﴿وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأرض (يُضِلُّوكَ)﴾ الآية.
والمعنى: أن هذه الآية نزلت في أكل الميتة، قال المشركون للمسلمين: أتأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل ربكم، فأنزل الله تعالى خطاباً للنبي وأمّته: وإن تطيعوا هؤلاء وأكثر من في الأرض فيما دعوكم إليه من أكل الميتة أو أكل ذبائحهم لآلهتهم وما أهلوا به لغير الله، يضلوكم عن الحق، فإنهم ليس يتبعون في أمرهم إلا الظن، وليس ما يصنعون على يقين من أمرهم، إذ ليس عندهم به كتاب ولا رسول، ﴿وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ﴾ الكذب، ويقولون ما لا يحب الله، والله (يعذب) الكفار على ظنهم وجهلهم. قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السمآء والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً﴾ [ص: ٢٧] ثم قال:
قوله: ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ﴾ الآية.
(مَن) استفهام، وهي في موضع رفع بالابتداء، والمعنى: هو أعلم أي: الناس يضل بمنزلة ﴿أَيُّ الحِزْبَيْنِ﴾ [الكهف: ١٢].
وقيل: موضعها خفض بإِضَّمَارِ الباء.
وقد قيل: هي في موضع نصب، و ﴿أَعْلَمُ﴾ بمعنى: يعلم، وهذا بعيد، لأن بَعدَه ﴿وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين﴾، فدخول الباء هنا يدل على أن ﴿أَعْلَمُ﴾ ليس بفعل، إذ لو كان فعلا لم يصل بالباء، لا يقال: " هو يعلم بزيد " بمعنى: " يعلم زيداً ".
قوله: ﴿فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسم الله عَلَيْهِ﴾ الآية.
هذا أمر للنبي وأمته أن يأكلوا مما ذبحوا وذكروا اسم الله عليه. وفي هذا دليل على النهي عن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه متعمداً، ثم بَيَّنَ ذلك فقال: ﴿(فَكُلُواْ) مِمَّا ذُكِرَ اسم الله﴾، وقال: ﴿وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ﴾ [الأنعام: ١٢١].
قوله: ﴿وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسم الله عَلَيْهِ﴾ الآية.
المعنى: وأي شيء لكم في ترك أكل ما ذكر اسم الله عليه، وقد فصل لكم الحرام من الحلال؟
وقرأ عطية العَوْفي (وَقَدْ فَصَلَ) بالتخفيف، على معنى: (أبان لكم)،
ثم قال: ﴿وَإِنَّ كَثِيراً لَّيُضِلُّونَ﴾ من فتح الياء أضاف الضلال إليهم في أنفسهم، وتصديقه قوله ﴿هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ﴾ [النحل: ١٢٥، النجم: ٣٠، القلم: ٧] و ﴿قَدْ ضَلُّواْ﴾ [النساء: ١٦٧، المائدة: ٧٧، الأنعام: ١٤٠، الأعراف: ١٤٩] و ﴿هُمُ الضآلون﴾ [آل عمران: ٩٠].
وحجة من ضم أنه أبلغ، لأنَّ كلُّ من أضلَّ غيره فهو ضَالْْ، وليس كل من ضلَّ أضلَّ غَيْرَهُ، فالضم أبلغ في الإخبار عنهم. وحجَّته أيضاً، أنَّهم قد وصفوا قبل بالكفر الذي هو الضَّلال، فلا معنى لوصفهم بذلك، فوجب وَصْفُهم بأنَّهم مع ضلالتهم يُضِلُّون غيرهم. وكذلك الحجة فيما كان مثله مثل ﴿وَمِنَ الناس مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحديث لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله﴾ [لقمان: ٦]، الضم أبلغ لأنَّ شراء لهو الحديث ضلال،
فالإضلال - هنا - أمكن من الضلال. وقد أجمع الجميع / على قوله: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً لِيُضِلَّ الناس﴾ [الأنعام: ١٤٤] أنه بالضم، وعلى ﴿فَأَضَلُّونَا السبيلا﴾ [الأحزاب: ٦٧].
قوله: ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ (بالمعتدين)﴾ أي: بمَنْ اعتدى حدوده فتجاوزها.
قوله: ﴿وَذَرُواْ ظاهر الإثم (وَبَاطِنَهُ)﴾ الآية.
المعنى: أن الله أمر بأن يترك الإثم، (علانيته وسرّه)، قليله وكثيره.
وقيل: الظاهر هو ما نهى عنه من قوله:
وقال السدي: الظاهر: الزواني [اللاتي] في الحوانيت، والباطن: الصديقة تؤتى سراً، (و) قال الضحاك في قوله: ﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ﴾ [الأنعام: ١٥١] قال: كان أهل الجاهلية يستسرّون بالزنى ويرونه سراً حلالاً، فحرّم الله السر والعلانية. وقال ابن زيد: الظاهر: التعري والتجرد في الطواف، والباطن: الزنا، وقال في: ﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ الفواحش (مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ)﴾ [الأنعام: ١٥١]: الظاهر: تعريتهم إذا طافوا، والباطن: الزنا.
قوله: ﴿إِنَّ الذين يَكْسِبُونَ الإثم﴾ أي: يعملون به، سيجزون به.
قوله: ﴿وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ﴾ الآية.
قال ابن عباس: هذا جواب للمشركين حين قالوا للنبي: لا تأكل ما قتل ربك وتأكل ما قتلت. فالمعنى على هذا: إنما هو (النهي) عن أكل الميتة.
ومذهب مالك وأكثر الفقهاء أن المسلم إذا نسي التسمية وذبح، أنه تؤكل ذبيحته.
ومعنى التسمية - عند أكثر المفسرين - في هذه الآية: المِلّة، لأن المجوس لو سموا ذبائحهم لم تؤكل.
وقوله: ﴿وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ﴾ يعني بذلك شياطين فارس، وهم مَرَدَتُهم من المجوس يوحون إلى أوليائهم من مردة قريش زخرف القول ليجادلوا به المؤمنين. قال عكرمة: كاتب مشركو قريش فارس على الروم، وكتبت فارس إلى مشركي قريش: " إن محمداً وأصحابه يزعمون أنهم يتبعون أمر الله، (فما ذبحه) (الله) بسكين من ذهب فلا يأكله محمد وأصحابه، وما ذبحوا هم يأكلون "، فكتب به المشركون إلى أصحاب محمد، فوقع في أنفس ناس من المسلمين من ذلك شيء، فنزلت: ﴿(وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) وَإِنَّ الشياطين﴾ الآية.
قوله: ﴿وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ﴾ أي: في أكل الميتة، ﴿إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾ أي: إنكم مثلهم، وهذا يدل على من حلَّل ما حرَّم الله أنه مشرك. قال الحسن وعكرمة: حُرِمَ أكل ما لم يُذكرْ اسم الله عليه في هذه الآية، واستثنى من ذلك فقال: ﴿وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ﴾ [المائدة: ٥].
وقوله: ﴿وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ﴾ أي: لمعصية. وقيل: لكفر.
والهاء تعود على أكل الميتة، أو على أكل ما ذبح للأصنام وشبهه.
قوله: ﴿أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فأحييناه﴾ الآية.
والمعنى: أن هذا الكلام جرى على التحذير من طاعة المشركين، والأخذ بطاعة المؤمنين، والمعنى: أطاعة من كان ميتاً فأحييناه، وهو المؤمن كان كافراً فصار مؤمناً، كطاعةِ من مَثَلُه كَمَثل من في الظلمات ليس بخارج منها، يتردَّدُ فيها، وهو الكفر يتردَّدُ فيه الكفار؟، فكان تحقيق ذلك: أطاعة المؤمنين كطاعة الكافر؟.
وهذه الآية نزلت في رجلين مؤمن وكافر: فالمؤمن عمر بن الخطاب رضي الله عنهـ، والكافر أبو جهل.
وقيل: المؤمن عمار بن ياسر، والكافر أبو جهل. وقيل: المؤمن حمزة حيي بالإيمان بعد أن كان ميتاً بالكفر، وقيل: هو النبي حيي بالنبوة.
روي أن أبا جهل رَمَى النبي بفرث - وحمزة عم النبي عليه السلام، لم يؤمن بَعْدُ - فأخبر أبو جهل حمزة بما فعل بالنبي، وبيد حمزة قوس، فَعَلا به أبا جهل غضباً للنبي، فأقبل أبو جهل يتضرع إلى حمزة ويقول: يا أبا يعلى، أما ترى ما جاء به: سفَّه عقولنا وعقول آبائنا؟. فقال له حمزة رضي الله عنهـ: ومن أسفهُ منكم وأحمقُ حيث تعبدون الحجارة من دون الله؟، أشهد (أن لا) إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فحيي بالإيمان الذي وَفَّقَه الله إليه، وبقي أبو جهل في ظلمات الكفر حتى مات كافراً، وفيهما نزل ﴿أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاَقِيهِ﴾ [القصص: ٦١] يعني حمزة، ﴿كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الحياة الدنيا﴾ [القصص: ٦١] يريد أبا جهل.
قوله: ﴿وكذلك جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أكابر مُجْرِمِيهَا﴾.
المعنى: وكما زينا للكافرين ما كانوا يعملون، كذلك جعلنا في كل قرية عظماء مجرميها، يعني أهل الكفر والمعصية ﴿لِيَمْكُرُواْ فِيهَا﴾، ﴿وَمَا يَمْكُرُونَ﴾ أي: ما يحيق مكرهم ذلك إلا بأنفسهم، لأن الله من وراء عقوبتهم على ما يمكرون. والأكابر: العظماء، جمع أكبر.
وذكر ابن قتيبة أن في الكلام تقديماً وتأخيراً، والتقدير عنده: وكذلك " (جعلنا) في (كل) قرية مجرميها (أكابر) ". فَنَصَب (مُجْرمِيها بـ (جَعَلْنَا) و (أكَابِرَ) مفعول ثان ل " جَعَلَ "، كأن جعل عنده بمعنى " صَيَّرَ "، يتعدى الى
وحُكِيَ عن العرب " الأكابرة " بالهاء.
وقوله تعالى: ﴿لِيَمْكُرُواْ فِيهَا﴾ هو مِثْل ﴿لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً﴾ [القصص: ٨]، لما كان عاقبة أمرهم فيما تقدم من علمه تؤول إلى ذلك، صار كأنهم جُعِلُوا في كل قرية ليمكروا.
قوله: ﴿وَإِذَا جَآءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ﴾ الآية.
المعنى: وإذا جاءت هؤلاء المشركين آية، (أي علامة)، تدل على نبوتك - يا محمد - وصدق ما جئت به، ﴿قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ﴾ بما جئتنا به، ﴿حتى نؤتى مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ الله﴾ أي: حتى نؤتى من المعجزات مثل ما أوتي موسى وعيسى، ثم قال تعالى: ﴿الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ أي: إن الآيات لم يعطها الله من البشر إلا (رسولاً)، ولستم - أيها العادلون - بِرُسلٍ فَيُعْطيَكم الآيِات، بل هو أعلم من هو أولى بها. /
(ثم قال): ﴿سَيُصِيبُ الذين أَجْرَمُواْ صَغَارٌ﴾ أي: ذلة، أي: هم وإن كانوا أكابر، فَستُصِيبهُم ذلَّة عند الله، ومعنى ﴿صَغَارٌ عِندَ الله﴾ أي: عند الله صغار. وقيل: المعنى: صغار ثابت عند الله. وقال الفرَّاء: المعنى: صغار من عند الله.
والصغار: المصدر من قول القائل: " صَغَرَ صغاراً ".
قوله: ﴿فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإسلام﴾ الآية.
من قرأ (ضَيْقاً) بالتخفيف، فيحتمل أن يكون مخففاً " ضَيقِ "، مثل (" ميْت، "
ومن قرأ (حَرِجاً) بالكسر، فهو اسم الفاعل ل " حَرِجَ يَحَرجُ، فهو حَرِجٌ "، ومن فتحه جعله مصدرا ل " حَرِجَ حَرَجاً ".
ومعنى الكسر: ضَيقاً (ضيّقاً)، وهو الذي قد ضاق فلم يجد منفذاً إلا أن يصعد في السماء، وليس يقدر على ذلك. ومن فتح جعله صفة ل (ضيقاً)، كما يقال: " رجلٌ عدْلٌ " و " رضىً "، فكأنه يجعل صدره شديد الضيق.
ومعنى الآية: من يرد الله أن يهديه للإيمان، ﴿يَشْرَحْ صَدْرَهُ﴾ أي: يفسحه ويهون
قال النبي عليه السلام - وقد سُئِلَ عن هذه الآية: " إذا دخل النور القلب، انفسح وانشرح، قالوا: هل لذلك من علامة تعرف؟. قال نعم، الإنابة إلى دار الخلود، و (التجافي عن) دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزول الموت ".
وقال ابن جريج: " ﴿يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإسلام﴾ بلا إله إلا الله ".
﴿وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ﴾ أي: إضلاله عن سبيله، ﴿يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً﴾ بخذلانه إياه، وغَلَبةِ الكفر عليه.
والحرج: أشدُّ الضيق، وهو الذي لا ينفذه من شدَّةِ ضيقه شيءٌ "، وهو - هنا - الصدر الذي لا تصل إليهُ موعظة، ولا يدخله نور الإيمان، وأصل (حرجاً)
وسأل عُمَرُ رجلاً من العرب فقال له: ما الحرجة فيكم؟ فقال: الحرجة فينا: الشجرة تكون بين الأشجار التي لا تصل إليها راعيةٌ ولا وحشيّة ولا شيء، فقال عمر: وكذلك قلب المنافق لا يصل اليه شيء من الخير.
وقال مجاهد: معنى ﴿ضَيِّقاً حَرَجاً﴾: شاكاً. وقال قتادة: ملتبساً وقال ابن جبير: لا يجد الإيمان إليه منفذاً ولا مسلكاً.
وهذه الآية (من) أدل دليل على أن قدرة الطاعة غير قدرة المعصية، وأن كلا القدرتين من عند الله تعالى، لأنه أخبر أنه يشرح صدر من أراد (هدايته، ويضيق صدر من أراد) دَفْعَهُ عن الإيمان، فَتَضْيِيقُه للصدر منع الإيمان، ولو كان
وقوله: ﴿كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السمآء﴾: هذا مثل ضربه الله لصدر الكافر في شدة ضيق صدره عن قبول الإسلام ونفوره عنه، فهو بمنزلة من تكلَّف ما لا يُطِيْقُهُ، كما أن من تكَلَّف صعود السماء تكلَّفَ ما لا يُطَاق.
ومعنى التشديد - على قراءة من شدد: أنه أتى به على " يَتَفَعَّل " ثم أدغم كأنه يتكلف شيئاً بعد شيء، وكُلُّهُ لا يطيقه.
ومن قرأ (يَصّاعد) أراد " يتصاعد "، ثم أدغم، ومعناه: كأنه يتعاطى ما لا يقدر عليه، لأن الله قد خذله عن أن يقبل الإيمان، وضيّق صدره عن قبوله.
(والرّجْسُ) هنا: " ما لا خير فيه "، قاله مجاهد.
وقال ابن زيد: " الرجس: عذاب الله ".
وقال بعض البصريين: الرِّجزُ والرّجسُ: العذاب والرّجس (و) النجسُ: الشيء القذر. وقيل: " الرجس: اللعنة في الدنيا والعذاب في الآخرة ".
قوله: ﴿وهذا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً﴾ الآيتان.
المعنى: وهذا الذي بيَّنّا لك في هذه السورة وغيرها، ﴿صِرَاطُ رَبِّكَ﴾ أي:
(و) قال ابن عباس: " يعني به الإسلام ".
وقوله: ﴿لَهُمْ دَارُ السلام﴾ أي: للقوم الذين يذّكّرون دار السلام، والسلام: اسم من أسماء الله.
فالله هو السلام، والدار: الجنة. وقيل: المعنى: دار السلامة أي: الدار التي يُسلِّم فيها من الآفات.
﴿وَهُوَ وَلِيُّهُمْ﴾ أي: والله ناصرهم بعملهم، أي: جزاء بعملهم.
﴿مُسْتَقِيماً﴾ تمام.
قوله: ﴿وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يامعشر الجن﴾ الآية.
﴿جَمِيعاً﴾ نصب على الحال. والمعنى: واذكر يوم نحشر هؤلاء العادلين (و)
﴿وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم﴾ أي: أولياء الشياطين من الإنس، ﴿رَبَّنَا استمتع بَعْضُنَا بِبَعْضٍ﴾ ومعنى الاستمتاع هنا: (أن) الرجل كان في الجاهلية ينزل الأرض فيقول: " أعود بكبير هذا الوادي "، فهذا استمتاع الإنس. وأما استمتاع الجن فهو تشريف الإنس لهم واستعاذتهم بهم واعتقادهم أن الجن يقدرون على ذلك.
وقيل: معنى الاستمتاع: أن الجن أَغْوَتِ الإنس، وقَبِلت الإنس منها.
وقيل: المعنى: أن الإنس تلذذوا بقبولهم من الجن، (وأن الجن) تلذذوا
وقالوا: ﴿وَبَلَغْنَآ أَجَلَنَا الذي أَجَّلْتَ لَنَا﴾ وهو الموت. (قَالَ) الله: ﴿النار مثواكم﴾ أي: مقامكم بها خالدين.
وقوله: ﴿إِلاَّ مَا شَآءَ الله﴾ استثناءٌ ليس من الأول، والمعنى: إلا ما شاء الله من الزيادة في عذابكم. وسيبويه يمثل هذا بمعنى " لكنَّ ". والفراء يمثّله بمعنى: " سوى ".
ومثله في " هود ": ﴿إِلاَّ مَا شَآءَ الله﴾ أي: ما شاء من الزيادة، وقال الزجاج: معنى الاستثناء هنا إنِّما هو: إلاّ ما شاء رَبُّك من محشرهم ومحاسبتهم. وقال
﴿إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ﴾ العليم: هو العالم الذي كمل فيه علمه، والحكيم: / الذي قد أكمل في حكمته، ويكون " الحكيم ": الحاكم، أو بمعنى الحكم.
قوله: ﴿وكذلك نُوَلِّي بَعْضَ الظالمين بَعْضاً﴾ الآية.
المعنى: وكما فعلنا بهؤلاء ما ذكرنا، نجعل بعضهم لبعض ولياً على الكفر
قال مجاهد: يجعل بعضهم ولياً لبعض. وقال قتادة: المؤمن ولي المؤمن أين كان وحيث كان، والكافر ولي الكافر أين كان وحيث كان.
وقيل: المعنى: يتبع بعضهم بعضاً في النار. قال ابن زيد: المعنى: يسلط ظَلَمَةِ الجن على ظَلَمَةَ الإنس. وقيل: المعنى: يجعل ظَلَمَةَ الجن أولياء لَظَلَمَةِ الإنس جزاء بما كانوا يكسبون، وهذا كقوله: ﴿وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرحمن نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ﴾ [الزخرف: ٣٦] إلى ﴿فَبِئْسَ القرين﴾ [الزخرف: ٣٨].
قوله: ﴿يامعشر الجن والإنس أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ﴾ (الآية).
معنى الآية: أنها خبر من الله ما هو قائل لهم يوم القيامة، ومعنى:
قال الضحاك: أرسل الله إلى الجن رسلاً منهم بدلالة هذه الآية ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ﴾.
وقيل: معناه: أَنَّ (مِنْكُمْ) للإنس خاصة، والرسل من الإنس لا غير، وهذا كقوله: ﴿يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ﴾ [الرحمن: ٢٢]، واللؤلؤ إنّما يخرج من الملح دون العذب.
وتأول ابن عباس أن رسلُ الإنس رسلٌ من الله، ورسل الجن رسلٌ (رسلِ) الله منهم، وهم النذر، وهم الذين سمعوا القرآن وَلَّوْا إلى قومهم منذرين. فهذا قول حسن.
(و) قرأ الأعرج ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ﴾ بالتاء، على تأنيث المخاطبة.
وقوله: ﴿قَالُواْ شَهِدْنَا﴾ أخبر الله عنهم بما يقولون يوم القيامة إذا قيل لهم ذلك، ومعنى الشهادة: أنهم شهدوا أن الرسل قد أتتهم بآياته وأنذرتهم عذابه، ولم يؤمنوا، ﴿وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا﴾ أي: غرتهم زينتها فلم يؤمنوا، ﴿وَشَهِدُواْ على أَنْفُسِهِمْ﴾ (بالكفر).
قوله: ﴿ذلك أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ (مُهْلِكَ) القرى (بِظُلْمٍ)﴾ إلى ﴿(يَعْمَلُونَ)﴾ [الآيتان].
﴿ذلك﴾ في موضع رفع على معنى: الأمر ذلك، هذا مذهب سيبويه. وهو
والمعنى: لم يكن ربك - يا محمد - مهلك القرى بشرك من أشرك وأهل القرى غافلون عن شرك من أشرك، فمعنى ﴿بِظُلْمٍ﴾: بشرك قوم آخرين فيهم، وهذا مِثْلُ: ﴿وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى﴾ [فاطر: ١٨].
وقيل: المعنى: لم يكن الله يعاجل قوماً بالعقوبة قبل أن يرسل إليهم الرسل، ولم يكن بالذي يأخذهم غفلة، [فيقولوا]: ما جاءنا من بشير ولا نذير، فيظلمهم.
وقوله: ﴿وَلِكُلٍّ درجات مِّمَّا عَمِلُواْ﴾ أي: ولكل عامل - في طاعة أو معصية - منازل ومراتب يبلغه الله إياها، إن خيراً فخيراً وإن شراً (فشراً) وليس الله بغافلٍ عما يعملون.
قوله: ﴿وَرَبُّكَ الغني ذُو الرحمة﴾ الآية.
المعنى: وربك - يا محمد - الغني عن عبادة من أَمَرَهُ بالعبادة، وطاعة من أمره بالطاعة؛ وهم المحتاجون إليه، لأن بيده موتهم وحياتهم ورحمتهم وعقابهم.
وقوله: ﴿إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ﴾ معناه: إن يشأ الذي خلَق خلْقَه لغير حاجة منه إليهم، يذهبهم، أي: يهلكهم، ﴿وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُمْ مَّا يَشَآءُ﴾ (أي) يأتي بخلقٍ غيرهم. ﴿كَمَآ أَنشَأَكُمْ مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ﴾: أي: أنشأكم مكان خَلَقٍ آخرين، لم يرد أنهم من أصلاب قوم آخرين، انما المعنى: مكانهم. كما تقول: " أعطيتك من دينارك
وقرأ زيد بن ثابت (ذِرِيّةِ) بالكسر، وقرأ أبان بن عثمان (ذَريَّة) بفتح الذال وتخفيف الراء.
قوله: ﴿(إِنَّ مَا) تُوعَدُونَ لآتٍ﴾ الآية.
المعنى: أن الذي توعدون به - أيها المشركون - آت، أي: واقِعٌ بكم، ﴿وَمَآ أَنتُم بِمُعْجِزِينَ﴾ أي: ليس تعجزون ربكم هرباً، (أنتم) في قبضته.
قوله: ﴿قُلْ ياقوم اعملوا على مَكَانَتِكُمْ﴾ الآية.
المعنى: قل لهم يا محمد: اعملوا على مكانتكم: أي: على حيالكم وناحيتكم.
وتحقيق معناه: اعملوا على ما أنتم عليه، كما تقول للرجل: " اثبت مكانك "، أي: اثبت على ما أنت عليه.
وفي الكلام تهديد، فلذلك جاز أن يؤمروا بالثبات على ما هم عليه، وهو الكفر، إنّما هو توعد وتهديد، كما قال: ﴿فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً﴾ [التوبة: ٨٢]، ودل على ذلك قوله: ﴿(فَسَوْفَ) تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عاقبة الدار﴾، فالمعنى: اثبتوا على ما أنتم عليه إن رضيتم بالنار، فأنا عامل بما أمرني به ربي، فسوف تعلمون غداً من هو على الحق، وتكون له العاقبة الحسنة، ﴿إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون﴾.
وقوله: ﴿مَن تَكُونُ﴾: (مَنْ) في موضع رفع على أنه استفهام، وفعل " العلم "
قوله: ﴿وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الحرث (والأنعام نَصِيباً)﴾ الآية.
المعنى: أنه حكاية عما كان يعمل أهل الجاهلية:
كانوا يجعلون لله نصيباً من حرثهم وأنعامهم، ولآلهتهم وشياطينهم (نصيباً، وهو) شركاؤهم من الأوثان والشياطين: قال ابن عباس: كانوا يجعلون الطعام حُزَماً، يجعلون منها لله، ومنها لآلهتهم، فكان إذا هبت الريح من نحو الذي
وقال السدي: كانوا يزرعون زرعاً يجعلونه لله يتصدقون به، ويزرعون آخر يجعلونه لآلهتهم وينفقونه عليها، فاذا أَجْدَبَ ما لآلهتهم، أخذوا ما كان لله فأنفقوه على آلهتهم، وإذا أَجْدَب ما كان لله، لم يأخذوا مما لآلهتهم شيئاً،
وقال ابن زيد: كل شيء جعلوه لله من ذبح لا يأكلونه حتى يذكروا عليه اسم الآلهة، وما كان من ذبح للآلهة لا يذكرون عليه اسم الله.
وفي الكلام حَذْفٌ، والمعنى: " من الحرث والأنعام نصيباً، وجعلوا لأصنامهم نصيباً "، ودل على ذلك قوله: ﴿وهذا لِشُرَكَآئِنَا﴾.
والفتح في " الزعم " لغة أهل الحجاز، والضم: لغة بني أسد، والكسر: لغة تميم وقيس، وقد أنكر أبو حاتم الكسر، وحكاه الكسائي والفراء.
قوله: ﴿وكذلك زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ المشركين قَتْلَ أولادهم شُرَكَآؤُهُمْ﴾ الآية.
روي عن ابن عامر (زُيِّنَ) بالضم، (قَتْلُ) بالرفع: اسم ما لم يسم فاعله، (أوْلادِهِم) بالخفض على الإضافة، (شركاؤُهم) بالرفع على إضمار فعل دل عليه
لِيُبْكَ يَزِيدُ ضارعٌ لخُصومةٍ.... كأنه قال: يبكيه ضارع.
وروى أبو عبيد عن ابن عامر (زُيّنَ) بالضم مثل الأول، (قَتْلُ) بالرفع، (أولادَهم) بالنصب، (شركائِهم) بالخفض على التفريق بين المضاف والمضاف اليه، وهو بعيد في الكلام، وبذلك قرأنا لابن عامر، وهي رواية الشاميين عنه، وإنما يجوز في (الظرف وحروف) الخفض. وقد روي بيت يجوز ذلك فيه وهو:
وأما قراءة الجماعة بفتح الزاي، ونصب (قَتْلَ)، وخفض " الأولاد "، ورفع " الشركاء " فهو ظاهر الكلام ووجهه.
قوله: ﴿فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ﴾ هذا تهدد وتوعد من الله لهم، أي: ذرهم - يا محمد - وما يكذبون، فإني لهم بالمرصاد.
قرأ أبان بن عثمان (حُجُر) بالضم (للحاء والجيم). وقرأ قتادة والحسن (حُجْر) بضم الحاء وإسكان الجيم. وهي لغات في (حِجْر).
والحِجْرُ: الحرام، يقال: حُجُرٌ وحُجْرٌ وحِجْرٌ، وفيها لغة أخرى وهي " حِرْجٌ " بتقديم الراء، مثل: " جَبَذَ " و " جذب ".
وقيل: معنى " حِرْج ": ضيق، من قولهم: " فلان يتحرَّج " أي: يُضَيِّق على نفسه.
وعن ابن عباس: (وحَرْثٌ حِرْجٌ الراء قبل الجيم، وكذا في مصحف
ومعنى الآية: أن الله حكى عن المشركين أنهم يحرمون ويحللون من عند أنفسهم تَخرُّقاً منهم وتَقُّولاً بما لم ينزل الله ولا أمر به، و " الحرث " - هنا - (هو) ما ذكر في الآية الأولى من جعلهم لله ثم يردونه إلى آلهتهم، و (الانعام: قيل) إنهم كانوا يجعلون لله أنعاماً، فإذا ولدت الأنثى أكلوه، ويجعلون لآلهتهم أنعاماً، فإذا ولدت الأنثى عظموه، ويأكلون الميتة مما لله. وقيل: الأنعام هنا (هي) البحيرة وما بعدها مما ذكر في " المائدة ".
والحجر: الحرام، ومنه: ﴿وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً﴾ [الفرقان: ٢٢] أي: حراماً محرماً.
والبحيرة: هي التي يبحر أذنها، أي: يشق، ويحرم لحمها على الرجال والنساء. وقيل: البحيرة: ابنة السائبة. والسائبة: الناقة كانت إذا نتجت سبعة أبطن سيبت فلم تركب ولم يجز لها وَبَرٌ، وبحرت أذن ابنتها وأجريت مجراها. وقد ذكر هذا في " المائدة " بأشبع من هذا.
وقوله: ﴿وأنعام لاَّ يَذْكُرُونَ اسم الله عَلَيْهَا﴾: هو ما ذبحوه لآلهتهم، لا يذكرون اسم الله [عليه]. وقوله: ﴿إِلاَّ مَن نَّشَآءُ بِزَعْمِهِمْ﴾ كانوا يذبحون أشياء لا يأكلها إلا خدمة
﴿افترآء عَلَيْهِ﴾ أي: كذباً على الله، سيجزيهم بكذبهم.
وقد روي عن الدوري عن الكسائي (افتراء) بالإمالة، والفتح أشهر، وكذلك ذكر أبو الحارث عن الكسائي، (قال الكسائي) لأنه مصدر لا أميله.
قوله: ﴿وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هذه الأنعام﴾ الآية.
قوله: ﴿خَالِصَةٌ﴾: أُنّثت (ما) لتأنيث (الأنْعَامِ)، لأن ما في بطونها
قُل لِمَنْ ساد ثمَّ ساد أَبوهُ | ثُمَّ قَدْ سادَ بَعْدَ ذَلَكَ جَدُّه |
(مشين كما اهتزّت رماح) تَسَفّهَتْ | أعاليها مَرُّ الرِيّاح النواسم |
﴿وَمُحَرَّمٌ على أزواجنا﴾ يعني الإناث ".
وقرأ الأعمش (خَالصٌ) بغير هاء، على التذكير على اللفظ، ولأن بعده
وهذه الآية - في قراءة الجماعة - أتت على خلاف نظائرها في القرآن، لأن ما يحمل على اللفظ مرة وعلى المعنى مرة، إنما يتقدم أولاً الحمل على اللفظ ثم يليه الحمل على المعنى، نحو: ﴿مَنْ آمَنَ بالله﴾ [البقرة: ٦٢] ثم قال: ﴿فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ﴾ [البقرة: ٦٢]، ونحو ﴿وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً﴾ [الرعد: ١٥] ثم قال: ﴿وَظِلالُهُم﴾ [الرعد: ١٥]، وهو كثير، هكذا يأتي في القرآن وكلام العرب، يتقدم الحمل على اللفظ، ثم يحمل بعد ذلك على المعنى. وهذه الآية تقدم الحمل (فيها) على المعنى فقال: (خالِصَة)، ثم حمل بعد ذلك على اللفظ فقال ﴿وَمُحَرَّمٌ﴾. ومثله قوله: ﴿كُلُّ ذلك كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً﴾ [الإسراء: ٣٨]، فقال أولاً (سَيئةً) فأنث وحمل على معنى (كل)، لأنها اسم لجميع ما تقدم مما نهى عنه من الخطايا، ثم قال بعد ذلك (مَكْروهاً)، فذكّر على لفظ (كل)، وهذا إنما هو على قراءة نافع ومن تابعه.
ومن قرأ (يَكُن) بالياء، رده على لفظ (ما)، وردّه أيضاً على ما بعده، لأن بعده (فَهُمْ فيه)، ولم يقل: " فيها "، والمعنى: (وإن) يكن ما في بطونها ميتةً.
ومن رفع (مَيْتَةٌ) جعل " كان " بمعنى " وقع "، وقال الأخفش: التقدير: " وإن تكن في بطونها ميتةٌ "، جعل الخبر محذوفاً.
و (هي لما) في بطون الأنعام التي يسمونها الوصيلة، وهي الشاة: كانت إذا ولدت ستة أبطن: عناقَيْن (عناقيْن)، وولدت في السابع عناقاً وجدياً، قالوا: وصلت أخاها، فكان لبنها حلالاً للرجال حراماً للنساء، فإن ماتت أحل لحمها للرجال والنساء، فعابهم (الله) بهذه الأحكام التي لم يؤمروا بها.
ومعنى الآية - في قول ابن عباس - أن الذي ذكروه مما في بطون الأنعام: هو اللبن، جعلوه حلالاً للذكور، (وحراماً على الإناث.
قال قتادة: هو ألبان البحائر، حلّلوه للذكور)، وحرموه على الإناث، وإنْ يَكن ميتة اشترك فيه الذكور
والأزواج هنا: نساؤهم. وقال ابن زيد: الأزواج هنا: بناتهم. ﴿سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ﴾ أي: سيكافئهم وصفهم، أي: على وصفهم، وهو قولهم الكذب، قال قتادة: وصفهم: كذبهم، أي: يجزيهم عليه.
قوله: ﴿قَدْ خَسِرَ الذين قتلوا أولادهم﴾ / الآية.
المعنى: قد هلك الذين قتلوا أولادهم وحرموا ما رزقهم الله، وهم الذين تقدم ذكرهم، وقوله ﴿سَفَهاً﴾ أي: جهلاً منهم، افتراء عليه، أي: كذباً عليه وتخرصاً، ﴿قَدْ ضَلُّواْ﴾ أي: تركوا الحق في فعلهم، ﴿وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ﴾ أي: لم يهتدوا إلى الحق في
قال قتادة: نزلت فيمن يئد البنات من ربيعة ومضر، كانوا يقتلون بناتهم خوف السباء والفاقة، ونسبوا البنات إلى الله، تعالى عن ذلك علواً كبيراً، وقوله: ﴿وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ الله﴾: هو تحريمهم أكل البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي.
قوله: ﴿وَهُوَ الذي أَنشَأَ جنات معروشات﴾ الآية.
هذه الآية إعلام من الله وتذكير لعباده بنعمه، ومعنى ﴿أَنشَأَ﴾ أحدث وابتدع، الجنات وهي البساتين، والمعروشات: ما عُرِشَ كهيئة الكرم ﴿وَغَيْرَ معروشات﴾: ما لم يُعرَش.
وقيل: المعروشات: ما غرس الناس، وغير معروشات: ما نبت في البر والجبال من غير غرس (الناس) له من الثمرات. وقيل: معروشات:
﴿والنخل والزرع﴾ أي: وأنشأ ذلك. ﴿مُخْتَلِفاً﴾ أي: مقدراً فيه الاختلاف ولم ينشأ في أول مرة مختلف، وهذا كما تقول: " لَتَدْخُلَنَّ الدَّارَ آكلِينَ شَارِبينَ "، أي: مقدرين ذلك.
والمعنى: " مختلفاً ما يخرج منه مما يؤكل ". ﴿والزيتون والرمان﴾ أي: وأنشأ الزيتون والرمان ﴿متشابها﴾ ((أي)) في اللون والمنظر، ﴿وَغَيْرَ متشابه﴾ ((أي)) في الطعم. وقيل: المعنى: أن منه ما يشبه بعضه بعضاً في الطعم، ومنه ما لا يشبه بعضه بعضاً في الطعم والمنظر. ﴿كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ﴾ أي: من رُطَبِهِ
قوله: ﴿حَصَادِهِ﴾: بالفتح تميمية، وبالكسر حجازية.
وقوله: ﴿وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ﴾: قال سعيد بن جبير: هذا منسوخ بالزكاة، وهو قول عكرمة، وبه يقول الطبري.
و" قال الضحاك: نسخت الزكاة كل صدقة في القرآن ".
وقال ابن عباس: هو منسوخ بالسنة، بقول النبي: العشر ونصف العشر،
وروى أبو سعيد الخدري أن النبي عليه السلام قال: " هو ما يسقط من السنبل " والآية - على هذا - نَدْبٌ.
وقال أنس بن مالك: هي محكمة، والمراد بها الزكاة المفروضة، وهو قول الحسن وابن المسيب وجابر بن زيد وعطاء وقتادة وزيد بن أسلم، وهو مروي عن مالك.
واختلف فيه أصحاب الشافعي: فمنهم من تأول عنها أنَّها منسوخة، لأنه ليس في الرمان ولا في شيء من الثمار زكاة إلا في النخل والكرم. ومنهم من قال: هي محكمة على تأويل مذهبه.
وقد عورض من قال: إنَّها في الزكاة المفروضة، بأنَّ هذه الآية مكية والسورة كذلك، ولم يختلف العلماء أنَّ الزكاة إنما فرضت بالمدينة، ولو كانت الزكاة المفروضة لوجب أن تعطى وقت الحصاد على نص الآية وقد جاءت السُّنَة أنَّ الزكاة لا تعطى إلا بعد الكيل.
وفي / الآية: ﴿وَلاَ تسرفوا﴾ فلا يجوز أَنْ يكون هذا في الزكاة، لأَنَّها معلومة محدودة، ويجب أَنْ تكون الزكاة في كل الثمر ولو كانت في الزكاة المفروضة، وهذا لا يقوله أحد، وقد قال أبو حنيفة: إن في كل ما أخرجت الأرض الزكاة إلا الحطب
فخص الآية ولم يجرها على عمومها، وتفرد بذلك.
وروي أن قوله ﴿وَلاَ تسرفوا﴾ نزل في ثابت بن قيس لما صرم نخله خلى بين الناس وبينه كله فلم يبق لأهله شيئاً منه، فنزل ﴿وَلاَ تسرفوا﴾، أي: في العطاء فتبقوا لا شيء لكم.
ولم يختلف العلماء أن في أربعة أشياء الزكاة: الحنطة والشعير والتمر والزبيب.
وجماعة منهم على أنه لا تجب الزكاة إلا في هذه الأربعة، وهو قول الحسن والشعبي والثوري وابن المبارك وابن أبي ليلى والحسن بن
وزاد ابن عباس على هذه الأربعة: الزيتون (والسلت.
وزاد الزهري على هذه الأربعة: الزيتون) والحبوب كلها. وهو قول عطاء وعمر بن عبد العزيز ومكحول ومالك والأوزاعي والليث، وهو قول
وهذا كله يدل على أَنَّ الآية منسوخة، إذ ليس أحد منهم أوجب ظاهر نص الآية. ومن قال: إنَّها محكمة وإنَّها في شيء غير الزكاة، احتج بحديث رواه الخدري عن النبي عليه السلام أنه فسره فقال: " ما سقط عن السنبل " وهذا الحديث، لو صح لكان منسوخاً بالإجماع، لأنه قد أجمع على أنه لا فرض في المال سوى الزكاة.
فأما من قال بالندب فهو جائز، إلا أن قائله غير معروف. ومعنى
وقال أبو العالية: كانوا يعطون حتى يجحفون في الإعطاء، فأنزل الله ﴿وَلاَ تسرفوا﴾، وهذا قبل فرض الزكاة. قال السدي: لا تعطوا أموالكم فتقعدوا فقراء.
قال ابن جريج: نزلت في ثابت بن قيس جَدَّ نخلاً (له)، فحلف ألا يأتيه أحد إلا أعطاه، فأمسى ليست له ثمرة فأنزل الله ﴿وَلاَ تسرفوا﴾.
وقال مجاهد: ((و) لا تُسْرِفوا): لا تحرموا ما حرمت الجاهلية من الحرث والأنعام.
قال أصبغ بن الفرج: (و) لا تُسْرِفوا) (أي) لا تأخذوه بغير حقه ولا تضعوه في غير حقه.
قوله: ﴿وَمِنَ الأنعام حَمُولَةً وَفَرْشاً﴾ (الآية).
﴿حَمُولَةً﴾ منصوبة بـ (أَنْشأَ)، أي: وأنشأ من الأنعام حمولةً وفرشاً مع ما أنشأ من الجنات.
والحمولة: ما حمل عليه من الإبل، والفرش: الصغار التي لم يحمل عليها بعد، وقيل: الحمولة: الإبل والبقر التي يحمل عليها.
وقيل: الحمولة المُذَلَّلَة للحمل، والفرش: ما / خلقه الله من الجلود والصوف مما يُتَمَهَّدُ عليه ويُتَوَطَّأُ به.
ومما يدل على أَنَّها الإبل والبقر والغنم قوله: ﴿ثمانية أزواج﴾ [الأنعام: ١٤٣] بعده، فجعل: ﴿ثمانية﴾ بدلاً من ﴿حَمُولَةً﴾، ثم فسرها بالإبل والبقر والغنم. فلا معنى للصوف
قوله: ﴿ثمانية أزواج﴾ الآية.
في نصب ﴿ثمانية﴾ خمسة أقوال:
- قال الكسائي: (هو) منصوب بـ ﴿أَنشَأَ﴾ [الأنعام: ١٤١].
- وقال علي بن سليمان: (هو) منصوب بـ ﴿كُلُواْ﴾، أي: كلوا [لحم] ثمانية أزواج.
- وقيل: هو منصوب على البدل من (ما) على الموضع.
وقوله: ﴿اثنين﴾ بدل من (ثَمانِيَةَ، وكذا ﴿وَمِنَ المعز اثنين﴾.
وقرأ أبان بن عثمان: (مِنَ الضَّأنِ اثْنَان) برفع " الاثْنَيْنِ " على الابتداء والخبر.
ومعنى الآية: أَنَّ الله نَبَّه المؤمنين على ما أحل لهم لَئلاَّ يكونوا كمن ذكر ممن يحرموا ما أحل الله. ومعنى: ﴿ثمانية أزواج﴾ أي: أفراد لأن كل فرد يحتاج إلى غيره، فهو زوج، والثمانية الأزواج قد فسرها (تعالى)، وهي الضأن والمعز والإبل
قال الطبري: أَمَرَ الله نبيه أن يقول لهم ذلك، فإن ادعوا تحريم الذكرين أَوْجَبُوا تحريم كل ذكر من ولد الضأن والمعز، وهم لا يفعلون ذلك، بل يستمتعون بلحوم بعض الذكران وظهورها، وإن قالوا: الأنثيين، أوجبوا تحريم كل أنثى من ولد الضأن والمعز على أنفسهم، وهم لا يفعلون ذلك، وإنما هذا إبطال لما ادعوا أن الله حرم عليهم ذلك.
ثم قال: ﴿أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ وصاكم الله﴾ الآية.
أي: أجاءكم به نبي، أم حضرتم ربكم إذْ أَمَر بهذا، فسمعتم ذلك منه، وهذا على التبكيت لهم والقطع لحجتهم، ثم قال: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله﴾ أي: اخترق الكذب ﴿لِيُضِلَّ الناس بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ أي: من أشد ظلماً منه.
قوله: ﴿قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ﴾ الآية.
المعنى: قل لهم يا محمد: لست أجد شيئاً قد حرمه الله على / آكل يأكله - فيما أوحي إليَّ من كتاب الله - إلا الميتة، والدم المسفوح - وهو الجاري السائل - ولحم الخنزير، وما ذبح للأصنام والأوثان: وهو قوله: ﴿أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ﴾
ومن قرأ (تكون) بالتاء ونصب ﴿مَيْتَةً﴾ فتقديره: إلا أن ﴿يَكُونَ﴾ المأكولة ميتة.
ومن قرأ بالتاء ورفع " الميتة " جعل " كان " بمعنى " وقع "، وعطف ﴿أَوْ دَماً﴾
والرجس هنا: النجس.
وفي هذه الآية خمسة أقوال:
- قيل: إنها منسوخة بالسنة، لأن النبي عليه السلام قد حرّم لحوم الحَمُر الأهلية وكل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير. والآية تدل على أنه لا محرّم إلا ما فيها. وهذا قَولٌ مَرْدودٌ، لأنه خبر، والأخبار لا تنسخ.
- وقيل: إن الآية محكمة ولا حرام إلا ما فيها. وهو قول ابن جبير والشعبي، وبه قالت عائشة: لا حرام إلا ما في الآية.
- وقال الزهري ومالك بن أنس وغيرهما. الآية محكمة، ويضم ما سَنَّهُ النبي ﷺ، فيكون داخلاً في المحرمات.
وأكثرهم يرى الضبع صيداً، منهم علي بن أبي طالب وابن عباس. قال عكرمة: رأيتُها على مائدة ابن عباس. وأجازه ابن عمر.
وقال أبو هريرة: الضبع نَعْجَةُ الغنم. وكَرِهَهَا مالك.
وأكثرهم على منع أكل الهَرِّ. وبه قال مالك. ورخص فيه الليث. وذكره مجاهد وطاوس ثمن السنَّوِر، وبيعه، وأكل لحمه، وأنْ يُنْتَفَعَ بجلده.
وكلهم على أن ما قطع من الحي مما يؤلمه فهو ميتة. ورخص مالك رحمه الله في
وكره عمر بن الخطاب إخصاء الذكور، وكذلك ابن عمر، ورخص. فيه الحسن وطاوس وعروة بن الزبير. ولم ير مالك بإخصاء ذكور الغنم بأساً، لأنه صلاح للحومها.
قال ابن عمر: نهى النبي ﷺ عن إخصاء الإبل والبقر والغنم والخيل.
وأكثرهم على منع أكل لحم القرد.
وأجاز الشعبي أكل لحم الفيل، ولم يجزه الشافعي، ومنع من الانتفاع بعظمه.
وكره ذلك سفيان والحسن البصري وابن سيرين.
وسُئِلَ الأوزاعي عن أكل الذُبَّانِ، فقال: ما أراه حراماً.
وأكثرهم / على جواز شرب أبوال ما أُكِلَ لحمه.
وقال مالك C: أكره الفأر والعقارب والحيَّةَ من غير أن أراه حراماً بَيِنّاً، ومن أكل حيَّةَ فلا يأكلها حتى يذبحها.
ولا يجوز - عند الشافعي - أكل شيء مما أبيح للمحرم قتله.
وسُئِل مالك رحمه الله عن أكل الغراب والحِدَإِ، فقال: لم أدرك أحداً ينهى عن أكل ذلك (ولا يأمر بأكلها.
وكره جماعة أكل الخيل، وكرهه مالك)، وأجازه جابر بن عبد الله وعطاء والحسن وغيرهم، وبه قال الشافعي وابن حنبل.
قوله: ﴿وَعَلَى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ﴾ الآية.
قرأ الحسن ﴿كُلَّ ذِي ظُفُرٍ﴾ بالإسكان، وقرأ أبو السمّأل ﴿كُلَّ ذِي ظُفُرٍ﴾ بكسر الظاء، وأنكر ذلك أبو حاتم.
(و) قوله: ﴿أَوِ الحوايآ﴾ في موضع رفع على معنى: " أو إلاّ ما حملت الحوايا "،
ومعنى الآية أن الله أخبر نبيه أنه حرم على اليهود - جَزاءً بِبغْيِهِمْ - كل ذي ظُفُرٍ، وهو من البهائم (و) الطير ما لم يكن مشقوق [الأصابع] كالإبل والنَّعَام والإوز والبط، وأَنَّهُ حُرَمَ عليهم شحوم ثروب الغنم والبقر. وقيل: إنَّما حرّم
وقال السدي: الذي حرّم عليهم هو شحوم الثروب و [الكلى]. ﴿إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا﴾: يعني شحوم الجنب والظهر ونحوه.
وواحد " الحوايا ": " حاوياء "، مثل نافقاء، هذا مذهب سيبويه. وقال الكسائي: واحدها " حاوية "، مثل ضاربة. وهي ما تَحَوّى في البطن ويَسْتَدير، وهي " المباعر "، فاستثنى في الحلال ما حملت الحوايا، فهذا يدل على عطف " الحوايا " على " الظهور " في موضع رفع. وأكثرهم على أن الحوايا: المباعر، تدعى عند العرب: " المرابض ".
﴿أَوْ مَا اختلط بِعَظْمٍ﴾: يعني شحم الألية وشبهه حلال.
قوله تعالى: ﴿فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ﴾ الآية.
المعنى: فإِنْ (كذبك) - يا محمد - (هؤلاء) اليهود فيما أوحينا إليك أَنَّا حرمنا عليهم، ﴿فَقُلْ: رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ﴾ بالمؤمنين، تَسَعُ المسيء والمحسن منهم، ولا يعاجل من كفر به بالعقوبة، ﴿وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ القوم المجرمين﴾ إذا أراد حلوله بهم، و " المجرمون ": الذين أجرموا أي: اكتسبوا الذنوب واجترحوا السيئات.
وكان نزول هذه الآية بسبب أن اليهود قالت: لم يحرم الله علينا شيئاً، إنَّما حرُّمَ إسرائيل على نفسه الثرب وشحم الكليتين، فنحن نحرمه. فذلك قوله: ﴿فَإِن كَذَّبُوكَ﴾، أي: قالوا: لم يحرم الله علينا ذلك، فقل: ربكم ذو رحمة واسعة.
قوله: ﴿سَيَقُولُ الذين أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ الله مَآ أَشْرَكْنَا﴾ (الآية).
وقد تعلقت المعتزلة بهذه الآية فقالوا: إن الله لم يشأ شرك المشركين، لأن الله لم يذكر هذه الآية إلا على جهة الذم لهم في قولهم: إن الله لو شاء ما أشركوا. فأضافوا ما هم عليه من الشرك أنه عن مشيئته كان ولو أن قولهم صحيح. ما ذَمَّهُمْ عليه. قالوا: فَدَلَّ ذلك على أن الله لم يشأ شرك المشرك.
وفي قوله تعالى - بعد الآية -: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً﴾ [الأنعام: ١٤٤، الأعراف: ٣٧، يونس: ١٧، هود: ١٨، الكهف: ١٥] ما يدل على بطلان كذلك، بل الله المقدر لكل أمر من شرك وغيره.
ومعنى: ﴿لَوْ شَآءَ الله مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا﴾ أي: لو شاء لأرسل إلى آبائنا رسولاً يردهم
ثم قال لنبيه: ﴿قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ﴾: (قل) لهم يا محمد: ﴿قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ﴾ على ما تقولون وتدّعون أن الله رضي ما صنعتم من عبادتكم الأوثان وتحريمكم ما لم يأمركم به؟، ﴿فَتُخْرِجُوهُ لَنَآ﴾ أي: فتظهروا العلم بذلك، وما تتبعون إلا الظن في عبادتكم وتحريمكم، وما أنتم إلاّ تخرصون، أي: تتقَوّلون الكذب والباطل على الله ظناً بغير علم ولا برهان.
قوله: ﴿قُلْ فَلِلَّهِ الحجة البالغة فَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ الآية.
والمعنى: ﴿قُلْ﴾ لهم يا محمد بعد عجزهم عن إقامة الحُجَّة فيما ادَّعَوا: لله
وهذا يريدون به إبطال الرسالة، إذ لا معنى لها على هذا القول فيُقَال لهم: فالذين على خلافكم في الدّينِ، أليس هم أيضاً على مشيئة الله؟، فينبغي أن لا تقولوا إنهم ضالون، والله يفعل ما يشاء، قادر على أن يهدي الخلق أجمعين، وليس للعباد عليه أن يفعل بهم كل ما يقدر عليه، لا معقب لحكمه، ولا راد لفعله.
قوله: ﴿قُلْ هَلُمَّ شُهَدَآءَكُمُ﴾ الآية.
المعنى: قل يا محمد لهؤلاء الزاعمين أن الله حَرَّمَ عليهم ما ذكروا من الأنعام والحروث وغيرها: هاتوا شهداءكم يشهدون أن الله حرم عليكم ما ذكرتم،
وهذا خطاب للنبي، والمراد به أصحابه.
﴿وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا﴾ أي: لا تتابعهم على ما هم عليه من التكذيب وتحريم ما لم يحرِم الله، ﴿والذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾ أي: يجعلون / له عديلاً، أي: ولا تتبع أهواء هؤلاء أيضاً.
قوله: ﴿قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ﴾ الآية.
(ألا تشركوا): (أن) في موضع نصب على البدل من (ما). وقيل: هي في موضع نصب على معنى: " كراهة ألا تشركوا "، ويكون - على ذلك - المتلو عليهم غير الإشراك.
ويجوز أن تكون في موضع رفع على معنى: " هو (أَنْ لاَ) تشركوا "
وإن شئت جعلت ﴿أَلاَّ تُشْرِكُواْ﴾ خبراً في موضع نصب، كما تقول: " أمرتك ألا تذهب إلى زيد "، و " ألا تذهب " بالجزم والنصب. ولك أن تجعل ﴿أَلاَّ تُشْرِكُواْ﴾ نصباً، وما عطفته عليه جزماً على النهي.
قوله: ﴿مَا ظَهَرَ﴾: ﴿مَا﴾ في موضع نصب بدل من ﴿الفواحش﴾.
قوله: ﴿ذلكم وَصَّاكُمْ بِهِ﴾: " ذلك " في موضع رفع على معنى: الأَمْرُ ذلكم. ويجوز أن يكون في موضع نصب على معنى: بَيَّنَ ذلكم.
والظاهر: هو ما كان من الزنى الظاهر، والباطن: هو ما كان منه في خفاء، قاله السدِّي وغيره. وقيل: هو كل منهي عنه وكل محرم (و) لا يأتونه ظاهراً ولا باطناً. وقيل: إنَّهم كانوا يستقبحون الزنى (الظاهر) ولا يرون بأساً
قوله: ﴿وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق﴾ أي: بنفس مؤمنةٍ أو مُعَاهَدَةٍ أو يزني وهو محصن، أو يرتد عن دينه الحق ولا يعود، ﴿ذلكم وَصَّاكُمْ بِهِ﴾ أي: هذا الذي وصاكم به وإيانا، ﴿لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ أي تعقلون ما وصاكم به. ﴿عَلَيْكُمْ﴾ تمام إن جعلت (أَنْ) رفعاً.
قوله: ﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ﴾ الآية.
والمعنى: وأوصى ألا تقربوا مال اليتيم، ﴿إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ﴾: يعني التجارة فيه. وقال السَدِّي: يُثَمَّرُ ماله.
﴿حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ﴾: الحُلُم عند مالك وغيره. قال السَدَّي: ﴿أَشُدَّهُ﴾: ثلاثون سنة. وروي عنه: ثلاث وثلاثون. وقيل: بلوغ الأشد: أن يؤنس مع بلوغ الحلم. وهذا قول حسن، وبه يقول أهل المدينة.
ومعنى: ﴿حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ﴾ أي: فإذا بلغ فادفعوا إليه ماله إن آنستم منه
وقيل المعنى: إذا شَهِدتُم فقولوا الحقَّ ولو كان المشهود عليه ذا قرابة منكم. ﴿وَبِعَهْدِ الله أَوْفُواْ﴾ أي: بوصيته التي وصاكم بها أوفوا، {ذلكم وصاكم
وكان ابن عباس يقول: هذه الآيات من الآيات المحكمات. وقال كعب: - وقد سمع رجلاً يقرأ ﴿قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ﴾ [الأنعام: ١٥١]-: والذي نفس كعب بيده إنّ هذا لأول شيء في التوراة: بسم الله الرحمن الرحيم: ﴿قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ﴾ [الأنعام: ١٥١] إلى آخر الآية.
قوله: ﴿وَأَنَّ هذا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً (فاتبعوه)﴾ الآية.
ومذهب الفراء أنها في موضع خفض بإضمار الخافض، تقديره عنده: " ذلكم وصاكم به وبأن هذا صراطي "، وهذا بعيد، لأن المضمر المخفوض لا يعطف عليه إلا بإعادة الخافض عند سيبويه وجميع البصريين. ومن خفف (أن) جعلها مخففة من الثقيلة. وقيل: خففها عطفاً على أن لا تشركوا)، فخفف كما كان المعطوف
ويجوز أن تكون مخففة حكمها حكم المثقلة. ويجوز أن تكون (أَنْ) زائدة للتوكيد.
و ﴿هذا﴾ في موضع رفع على قراءة من خفف ومن جعل (أن) زائدة، وفي موضع نصب على قراءة من شدد.
ومعنى الآية: وهذا الذي وصاكم به ربكم - في هاتين الآيتين - وأمركم بالوفاء به: هو صراطه، أي: طريقه. ودينه المستقيم، (أي) الذي لا اعوجاج به، ﴿فاتبعوه﴾ أي: اجعلوه منهاجاً تتبعونه، ﴿وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل﴾ أي: تسلكوا طرقاً غيره، ﴿فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ﴾ أي: عن طريقه ودينه، وهو الإسلام، ﴿ذلكم وَصَّاكُمْ بِهِ﴾: وصاكم بذلكم ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾.
قوله: ﴿ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب تَمَاماً﴾ الآية.
وأجاز الكسائي والفراء أن يكون ﴿الذي﴾ بمعنى " الذين " هنا. وقال المبرد: تقديره: تماماً على الذي أحسنه (الله) إلى موسى من الرسالة، والهاء محذوفة.
قال مجاهد: معناه تماماً على المحسنين، ومعناه: أنه آتاه الكتاب فضيلة له على
قال الحسن: كان في قوم موسى محسن وغير محسن، فأنزل الله الكتابا تماماً على المحسنين، وقرأ ابن مسعود: (تماما على الذين أحسنوا). وقيل: المعنى: تماماً على الذي ﴿أَحْسَنَ﴾ موسى من طاعة ربه.
وقرأ يحيى بن يعمر وابن أبي إسحاق (تماماً على ﴿تَمَاماً﴾ ﴿الذي﴾ ﴿أَحْسَنَ﴾
قوله: ﴿وهذا كتاب أنزلناه مُبَارَكٌ﴾ الآية.
المعنى: وهذا القرآن - الذي أنزلناه إليك - كتاب منزل لنا مبارك، ﴿فاتبعوه﴾ أي: اجعلوه (إماماً) تعملون بما فيه، ﴿واتقوا﴾ أي: احذروا أن تضيعوا العمل (بما) فيه وتتعدوه ﴿لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾. (فاتبعوه) وقف حسن.
والتقوى: الحذر من مخالفة ما أمر الله في السر والعلانية، وحقيقة ذلك القيام بما أوجب الله لله، وترك ما نهى الله عنه (لله).
قوله: ﴿أَن تقولوا إِنَّمَآ أُنزِلَ الكتاب﴾ الآية.
وقال الفراء: المعنى: (واتقوا أن تقولوا إنما أنزل الكتاب وهو متعلق بالآية التي قبلها. وقيل: المعنى:) لئلا تقولوا، أي: أنزلناه مباركاً لئلا تقولوا، أو: كراهية أن تقولوا.
ومعنى الآية: أنها خطاب للمشركين أنه تعالى أنزل عليه كتابا مباركا، وأمرهم باتباعه، وإنما أنزله لئلا تقول قريش - ومن دان بدينها -: ﴿إِنَّمَآ أُنزِلَ الكتاب على طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا﴾، وهم اليهود والنصارى، ولم ينزل علينا، ولا نعلم ما (يقرأون)، وما كنا عن دراستهم إلا غافلين، أي: ما نعلم ما هي، لأنه ليس بلساننا، فيجعلوا ذلك حجة لهم، فقطع الله
قوله: ﴿أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّآ أُنزِلَ عَلَيْنَا الكتاب﴾ الآية.
والمعنى: ولئلا تقولوا: ﴿لَوْ أَنَّآ أُنزِلَ عَلَيْنَا الكتاب لَكُنَّآ أهدى مِنْهُمْ﴾، (أي) من هاتين الطائفتين: اليهود والنصارى، ثم قال لهم: ﴿فَقَدْ جَآءَكُمْ﴾ - أيها المشركون - ﴿بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ﴾ أي: كتاب بلسانكم تعرفون ما يتلى عليكم فيه، فهو لا يغيب
وقوله: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ الله وَصَدَفَ عَنْهَا﴾ أي: من أشد ظلماً منكم إذ كذبتم بآيات الله وصدفتم عنها، أي: أعرضتم فلم تؤمنوا بها. ﴿سَنَجْزِي الذين يَصْدِفُونَ﴾ أي: سنثيب الذين يعرضون عن ﴿آيَاتِنَا سواء العذاب﴾ أي:
شديده، ﴿بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ﴾ أي: يعرضون عن آيات الله في الدنيا.
قوله: ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الملائكة (أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ)﴾ الآية.
(والمعنى): هل ينظر هؤلاء المشركون ﴿إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الملائكة﴾، يعني عند
ثم قال تعالى: ﴿يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُءَايَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا﴾ أي: إذا طلعت (الشمس) من مغربها، لم ينفع الكافر إيمانه. روى أبو هريرة أن النبي عليه السلام قال: " لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا رآها الناس آمن من عليها "، فذلك حين ﴿لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْءَامَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ في إيمانها خَيْراً﴾.
وعنه ﷺ أنه قال: " إن باب التوبة مفتوح قبل المغرب عرضُهُ مسيرة سبعين عاما، لا يزال مفتوحاً حتى تطلع من قبله الشمس "، ثم قرأ الآية.
قال النبي عليه السلام: " وآية تلكم الليلة أن تطول كقدر ثلاث ليال " وقال ابن مسعود: بقي من الآيات أربع: " طلوع الشمس من مغربها، ودابة الأرض، والدجال، وخروج يأجوج ومأجوج، والآية التي تختم بها الأعمال طلوع الشمس من مغربها ".
المعنى: ﴿أَوْ كَسَبَتْ في إيمانها خَيْراً﴾ أي (و) عملت في تصديقها بالله عملاً صالحاً، فمن عمل - قبل الآية - خيراً قُبِل منه ما يعمله بعد الآية، ومن لم يعمل - قبل الآية - خيراً لم يُقْبَل منه ما يعمله بعد الآية.
ثم قال تعالى: ﴿قُلِ انتظروا﴾ أي: قل يا محمد لهؤلاء المشركين: انتظروا
قوله: ﴿إِنَّ الذين فَرَّقُواْ دِينَهُمْ (وَكَانُواْ شِيَعاً)﴾ الآية.
من قرأ (فارقوا) بألف، فمعناه تركوا دينهم / الذي أمرهم الله به، وخرجوا عنه وارتدوا.
ومن قرأ (فرَّقوا)، فمعناه: تَنَصَّر بعضهم وتَهَوَّد بعضهم وَتَمَجَّس
قال أبو هريرة عن النبي عليه السلام: " هم أهل البدع من هذه الأمة " وروي عن النبي عليه السلام أنه قال: " هم أهل الضلالة والبدع و (أهل) الشبهات من هذه (الأمة) ".
وروي عنه ﷺ أنه قال: " هم الخوارج ".
وقيل: الآية محكمة، وإنما هو خبر من الله لنبيه أن من أمته من يُحدِثُ بعده في دينه، أي يكفر.
وقال ابن عباس: نزلت بمكة ونسخها: ﴿(قَاتِلُواْ الذين) لاَ يُؤْمِنُونَ بالله﴾ [التوبة: ٢٩].
وقيل: المعنى: إنما أمرهم - في مجازاتهم - إلى الله فينبئهم بما كانوا يفعلون، فهي محكمة خبر من الله لنبيه.
قوله: ﴿مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا﴾ (الآية).
المعنى: من جاء يوم القيامة من هؤلاء الذين فارقوا دينهم بالتوبة عماهم
وقيل: المعنى: " فله عشر حسنات أمثالها "، أي: أمثال الحسنات العشر التي حسنة العامل موازنة لها، فالهاء في ﴿أَمْثَالِهَا﴾ ترجع على الحسنات المحذوفة، وفي حذف الهاء من عشر دليل على أن المعنى: فله عشر حسنات أمثال (حسنة)، وهو من باب حذف المنعوت وإقامة النعت مقامه إن قدرت الانفصال في (أمثالها)، أي: " أمثال لها "، وإن لم تقدر الانفصال، فهو من باب حذف المبدل منه وإقامة البدل
وقرأ الحسن: (عَشْرٌ) منون، (أمثالُها) بالرفع على الصفة للعشر. وهي قراءة عيسى بن عمر ويعقوب.
وكن حذف الهاء من (عشر) للحمل على المعنى، لأن المراد: عشر حسنات وقيل: الهاء تعود على الحسنة المذكورة
والمثل المجازى به على الحسنة، هو معروف عند الله، لكنه تعالى يجازيه على
وقال سفيان وغيره: الحسنة هنا: لا إله إلا الله، والسيئة: الشرك، وهو قول مجاهد والقاسم وابن عباس والضحاك والحسن.
وروى قتادة أن النبي عليه السلام كان يقول: " الأعمال ستة: موجبة وموجبة، ومضْعِفَة (ومضْعِفة) ومثل (ومِثْلٌ)، فأما الموجبة والموجبة: فمن لقي الله
وقال أبو سعيد الخدري: هذه الآية للأعراب، وللمهاجرين سبع مائة ضعف وقال ابن عمر: هذا للإعراب، وللمهاجرين ما هو أعظم من ذلك.
قال: الربيع: كانوا يصومون ثلاثة أيام من كل شهر، ويؤدون عُشر أموالهم فنزلت هذه الآية، ثم نزلت الفرائض - بعد - بصوم (رمضان) والزكاة.
قوله: ﴿دِيناً﴾ نصب عند الأخفش (ب (هدَاني). وقيل: المعنى: أنه نصب بـ " عَرَّفَني ديناً ". كما تقول: " (هو يَدَعُهُ) ترْكا ".
وقيل: هو بدل من (صراطٍ) على الموضع. وقيل: هو منصوب على المصدر، والمعنى: فَدِنْتُ ديناً. وقيل: المعنى: هداني فَاهْتَدَيتُ ديناً، ودل (هداني) على " اهْتَدَيْتُ ".
و ﴿مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ﴾ مثله في التقدير. وقيل: هو بدل من " دين ". وشاهد من قرأ
ومن قرأ (قِيَماً) بالتخفيف، جعله مصدراً مثل: الصِّغَر والكِبَر. و ﴿حَنِيفاً﴾ حال من ﴿إِبْرَاهِيمَ﴾: هو نصب بإضمار " أعني ".
ومعنى الآية: ﴿قُلْ﴾ يا محمد لهؤلاء العادلين: ﴿إِنَّنِي هَدَانِي ربي﴾، أي: أرْشَدَني ودَلّني على الصراط المستقيم، أي: الطريق القويم، وذلك الحنيفية.
قوله: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ﴾ الآية.
ومعنى الآية: ﴿قُلْ﴾ يا محمد لهؤلاء العادلين، ﴿إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي﴾ أي: ذبحي، ﴿وَمَحْيَايَ﴾ أي: حياتي، ﴿وَمَمَاتِي﴾ أي: وفاتي، ﴿لِلَّهِ﴾ أي: ذلك كله له خالصاً.
﴿وبذلك أُمِرْتُ﴾ أي: أمرني ربي، ﴿وَأَنَاْ أَوَّلُ المسلمين﴾ أي: أول من خضع وذل لربه.
والنُّسُك هنا: الذَّبْحُ في الحج والعمرة.
قوله: ﴿قُلْ أَغَيْرَ الله أَبْغِي (رَبّاً)﴾ الآية.
(و) المعنى: ﴿قُلْ﴾ (يا محمد لهم): ﴿أَغَيْرَ الله أَبْغِي رَبّاً﴾، أي: طلب رباً ﴿وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ﴾ أي: مالك كل شيء.
﴿وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا﴾ (أي لا تجترح (إثماً إلا) عليها)، أي: لا تؤخذ نفس إلاّ بما كسبت، ﴿وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى﴾ أي: لا يؤخذ أحد بذنب آخر، كل ذي إثم معاقب بإثمه.
وحقيقة / معناه: أن الله أمر نبيه عليه السلام أن يخبر المشركين أنهم مأخوذون بآثامهم، وأنّا لسنا مأخوذين بإجرامكم ولا معاقبين بها، ﴿ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾.
قوله: ﴿وَهُوَ الذي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأرض﴾ الآية.
" جعل " - هنا - بمعنى " صيّر "، فلذلك تعدت إلى مفعولين. وإذا كانت بمعنى " خلق " تعدت إلى مفعول واحد.
وقيل: هذا لأمة محمد ﷺ، لأنهم آخر الأمم، قد خلفوا في الأرض مَن كان قبلهم من الأمم، ومحمد ﷺ خاتم النبيين، وقيل: سموا (خلائف)، لأن بعضهم (يخلف بعضاً) إلى قيام الساعة.
﴿وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ﴾ أي: فضَّل هذا على هذا بسعة الرزق (و) بالقُوَّة، ﴿لِّيَبْلُوَكُمْ﴾ أي: (ليختبركم فيما) آتاكم من ذلك، فيعلم الشاكر من غيره، والمطيع من العاصي، ﴿إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العقاب﴾ أي: لمن (لم) يتبع أمره و (ينته) عن نهيه. وإنما وصف عقابه بالسرعة من أجل أن الدنيا بعيدُها قريب.