تفسير سورة المرسلات

أيسر التفاسير للجزائري
تفسير سورة سورة المرسلات من كتاب أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير المعروف بـأيسر التفاسير للجزائري .
لمؤلفه أبو بكر الجزائري . المتوفي سنة 1439 هـ

(٩) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (١٠) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (١١) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (١٢) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (١٣) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (١٤) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٥)
شرح الكلمات:
والمرسلات عرفا: المرسلات الرياح الطيبة والعرف المتتابعة.
فالعاصفات عصفا: فالرياح الشديدة الهبوب المضرة لشدتها.
والناشرات نشرا: الرياح تنشر المطر وتفرقه في السماء نشرا.
فالملقيات ذكرا: أي فالملائكة تلقى بالوحي على الأنبياء للتذكير به.
عذرا أو نذرا: أي للأعذار بالنسبة إلى أقوام أو إنذار بالنسبة إلى آخرين.
إنما توعدون لواقع: أي إنما توعدون أيها الناس لكائن لا محالة.
فإذا النجوم طمست: أي محي نورها وذهبت.
وإذا السماء فرجت: أي انشقت وتصدعت.
وإذا الجبال سيرت: أي نسفت فإذا هي هباء منبث مفرق هنا وهناك.
وإذا الرسل أقتت: أي جمعت لوقت حدد لها لتحضر فيه.
ليوم الفصل: أي اليوم الذي يفصل الله تعالى فيه بين الخلائق.
معنى الآيات:
قوله تعالى ﴿وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً﴾ ١ هذا بداية قسم لله تعالى أقسم فيه بعدة أشياء من مخلوقاته ولله أن يقسم بما شاء، والحكمة من الإقسام أن تسكن النفوس للخبر وتطمئن إلى صدق المخبر فيه وبذلك يحصل الغرض من إلقاء الخبر على السامعين والمقسم به هنا المرسلات وهي الرياح المتتابعة الطيبة العذبة والعاصفات٢ منها وهي الشديدة الهبوب التي قد تعصف بالأشجار وتقتلعها وبالمباني وتهدمها والناشرات نشرا وهي الرياح المعتدلة التي تنشر السحاب وتفرقة أو تسوقه
١ روى البخاري عن ابن عباس قال قرأت سورة والمرسلات عرفاً فسمعتني أم الفضل (امرأة العباس) فبكت وقالت: بني أذكرتني بقراءتك هذه السورة إنها لآخر ما سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ بها في صلاة المغرب.
٢ العصف: قوة هبوب الريح، والنشر: ضد الطي واستعمل في الإظهار والايضاح. والعصف حالة المضرة والنشر حالة النفع جائز أن يراد بالمرسلات والعاصفات والناشرات الملائكة وكونها الرياح أظهر في التفسير وهو اختيار ابن جرير.
491
للإمطار وإنزال المطر والفارقات فرقا وهي آيات القرآن الكريم تفرق بين الحق والباطل والملقيات ذكرا عذرا١ أونذرا وهي الملائكة تلقى بالوحي على من اصطفى الله تعالى من عباده للاعذار والانذار أي تعذر أناسا وتنذر آخرين هذا هو القسم والمقسم هو الله والمقسم عليه هو قوله جل ذكره إن ما توعدون أيها الناس من خير أو شر لواقع أي كائن لا محالة وعليه فأصلحوا أعمالكم بعد تصحيح نياتكم فإن الجزاء واقع لا يتخلف أبدا ولا يتغير ولا يتبدل ومتى يقع هذا الموعود الكائن لا محالة والجواب يقع في يوم الفصل إذاً فما هو يوم الفصل والجواب يوم يحضر الله الشهود من الملائكة والرسل ويفصل بين الناس ومتى يكون يوم الفصل والجواب إذا النجوم طمست أي ذهب نورها ومحي وإذا السماء فرجت أي انشقت وتصدعت وإذا الجبال نسفت٢ أي فتت وإذا الرسل اقتت أي حدد لها وقت معين تحضر فيه وهو يوم الفصل وما أدراك٣ ما يوم الفصل تفخيم لشانه وإعلام بهوله وقوله تعالى ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ﴾ أي يوم يقع الفصل العذاب الهائل الكبير ﴿للْمُكَذِّبِينَ﴾ بالله وبآيته ولقائه ورسوله.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
١- تقرير عقيدة البعث والجزاء.
٢- لله تعالى أن يقسم بما شاء من خلقه وليس للعبد أن يقسم بغير خالقه عز وجل.
٣- علامات القيامة وظاهرة الانقلاب الكوني العام وهي انطماس ضوء النجوم وانفراج السماء ونسف الجبال.
٤- الوعيد الشديد بالويل الذي هو واد في٤جهنم تستغيث جهنم من حره للمكذبين بما يجب التصديق به من أركان الإيمان الستة، والوعد والوعيد الإلهيين.
١ قرأ نافع عذراً بإسكان الذال وبضمها في نذراً وسكن الذال فيهما معاً حفص والنذر اسم مصدر بمعنى الإنذار وكذا عذراً وهما مفعولان لأجله أي لأجل الإعذار والإنذار أي الإعذار للمحقين والإنذار للمبطلين أو البشرى للمؤمنين والنذارة للكافرين.
٢ نسف الجبال دكها وتصييرها تراباً مفرقاً وتسييرها كالهباء في الهواء.
٣ ما أدراك: استفهام، وكذا ما يوم الفصل والمراد من الاستفهام الأول الاستبعاد والإنكار ومن الثاني التهويل من شأن يوم الفصل الذي هو يوم القيامة حيث تم الفصل فيه بين الخلائق ويتم بأن يكون فريق في الجنة وفريق في السعير.
٤ قيل أن هذا الوادي هو مستنقع صديد أهل الشرك والكفر ليعلم أهل العقول أنه لا شيء أقذر منه قذارة ولا أنتن منه نتناً ولا أشد مرارة ولا أشد سواداً منه وصفه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنه أعظم وادٍ في جهنم.
492
أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (١٦) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (١٧) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (١٨) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٩) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (٢٠) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (٢١) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢٢) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (٢٣) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٤) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتاً (٢٥) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتاً (٢٦) وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتاً (٢٧) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٨)
شرح الكلمات:
ألم نهلك الأولين: أي كقوم نوح وعاد وثمود ومن بعدهم إلى البعثة النبوية وذلك بتكذيبهم.
ثم نتبعهم الآخرين: أي إن أصروا على التكذيب ككفار مكة.
كذلك نفعل بالمجرمين: أي مثل ذلك الهلاك نهلك المجرمين.
ويل يومئذ للمكذبين: أي إذا جاء وقت الهلاك ويل فيه للمكذبين.
من ماء مهين: أي المني والمهين الضعيف.
في قرار مكين: أي حريز وهو الرحم.
إلى قدر معلوم: أي إلى وقت الولادة.
فقدرنا: أي خلقه.
فنعم القادرون: أي نحن على الخلق والتقدير.
كفاتا: أي تكفت الناس أي تضمهم أحياء فوق ظهرها وأمواتا في بطنها.
رواسي شامخات: أي جبال عاليات.
فراتا: أي عذبا.
معنى الآيات:
قوله تعالى ﴿أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ﴾ إنه لما أقسم تعالى على وقوع ما أوعد به المكذبين من عذاب يوم القيامة وذكر وقت مجيئه وعلامات ذلك وذكر أن
493
الرسل أقتت ليوم الفصل وهو اليوم الذي يفصل فيه تعالى بين الخلائق فيقتص من الظالم للمظلوم، ويجزي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته وتوعد المكذبين بذلك فقال ويل يومئذ للمكذبين دلل هنا على قدرته على إهلاك المكذبين بما سبق له أن فعله بالمكذبين فقال في استفهام تقريري لا ينكر ﴿أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ﴾ من الأمم السابقة كعاد وثمود وقوم إبراهيم وقوم لوط إلى زمن البعثة النبوية ﴿ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ﴾ فقد أهلك أكابر مجرمي قريش في بدر وقوله ﴿كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ١﴾ وهو وعيد صريح وحقا والله لقد أهلك المجرمين ولم ينج من الهلاك مجرم وويل٢ يومئذ للمكذبين وقوله تعالى ﴿أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ٣ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ﴾. هذا استدلال آخر على قدرة الله وعلمه اللذين لا يتم البعث والجزاء إلا عليهما قدرة لا يعجزها شيء وعلم لا يخفى معه شيء فقال مستفهما استفهاما تقريريا ﴿أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ﴾ أي ضعيف هو المني ﴿فَجَعَلْنَاهُ٤﴾ أي الماء ﴿فِي قَرَارٍ مَكِينٍ﴾ أي حريز حصين وهو الرحم ﴿إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾ وهو زمن الولادة ﴿فَقَدَرْنَا٥﴾ أي خلق الجنين على أحسن صورة أدق تركيب المسافات بين الأعضاء كما بين العينين كما بين اليدين والرجلين كما بين الأذنين كلها مقدرة تقديرا عجيبا لا تزيد ولا تنقص ﴿فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ﴾ على الخلق والتقدير معا والجواب بلى ولم إذاً تكفرون وتكذبون؟ ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ وقوله ﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتاً أَحْيَاءً وَأَمْوَاتاً وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتاً؟﴾ هذا استدلال آخر على قدرة الله على البعث والجزاء والاستفهام فيه للتقرير أيضا ﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتاً٦﴾ أي مكان كفاية مأخوذ من كفت الشيء إذا ضمه إلى بعضه بعضا والأرض ضامة للناس كافية لهم كافتة الأحياء٧ على ظهرها يسكنون ويأكلون ويشربون والأموات في بطنه لا تضيق بهم أبدا كما لم تضق بالأحياء ﴿وَجَعَلْنَا فِيهَا﴾ أي في الأرض ﴿رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ﴾ أي جبال عاليات
١ لفظ الإجرام أصبح كالعلم على أهل الشرك والكفر إذ هم الذين أجرموا على أنفسهم بأعظم الذنوب وأشدها إفساداً للروح وهو الشرك والكفر وما بعد الكفر ذنب كما يقال.
٢ هذا التكرار والتقرير والتأكيد وسيتكرر في عدة آيات في هذه السورة ومعناه قد سبق مع أول ذكره.
٣ الاستفهام للتقرير وهو لا يخلو من معنى التوبيخ والتقريع للمشركين المكذبين بالبعث والجزاء.
٤ فجعلنا: الفاء للتفريع والتفصيل لكيفية الخلق.
٥ قرأ نافع فقدرنا بتشديد الدال وقرأها حفص بالتخفيف فالتخفيف بمعنى قدرنا تقديرا أي فعلناه على تقدير معين، وقدرنا بالتخفيف أي جعلنا على مقدار مناسب ولذا معنى القراءتين واحد وشاهده من الحديث قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الهلال إذا غم عليكم فاقدروا له أي قدًروا له المسير والمنازل ومن الشائع قولهم قدر على فلان الموت وقدًر عليه الموت بالتشديد والتخفيف.
٦ قال القرطبي كفاتاً أي ضامة تضم الأحياء على ظهرها والأموات في بطنها وهذا يدل على وجوب مواراة الميت ودفنه، ودفن شعره وسائر ما يزيله عنه. وهو قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قصوا أظافركم وادفنوا قلاماتكم.
٧ الكفات اسم للشيء الذي يكفت فيه أي يجمع ويضم فيه فهو اسم من كفت إذا جمع فالكفات اسم لما يكفت الوعاء اسم لما يعي والضمام اسم لما يضم.
494
﴿وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتاً﴾ أي عذبا وهو ماء السماء ناقعا في الأرض وجاريا في الأودية والأنهار والجواب بلى، بلى إذاً مالكم أيها المشركون كيف تكذبون؟ ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ أي ويل لهم إذ حان وقت هلاكهم أي ﴿يَوْمُ الْفَصْلِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ؟﴾
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
١- تقرير عقيدة البعث والجزاء.
٢- الاستدلال على البعث والجزاء بالقدرة والعلم إذ هما أساس البعث والجزاء.
٣- بيان إنعام الله تعالى على عباده في خلقهم ورزقهم وتدبير حياتهم أحياء وأمواتا.
٤- بيان أن الناس أكثرهم لا يشكرون.
٥- الوعيد الشديد للمكذبين الكافرين.
انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٩) انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (٣٠) لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ (٣١) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (٣٢) كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (٣٣) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٤) هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (٣٥) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (٣٦) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٧) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (٣٨) فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (٣٩) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٠)
شرح الكلمات:
انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون: أي من العذاب.
ظل ذي ثلاث شعب: أي دخان جهنم إذا ارتفع انقسم إلى ثلاث شعب لعظمته.
لا ظليل: أي كنين ساتر يكن ويستر.
ولا يغني من اللهب: أي ولا يرد شيئا من الحر.
إنها: أي النار.
بشرر كالقصر: أي الشررة الواحدة كالقصر في عظمته وارتفاعه.
كأنه جمالة صفر: أي الشرر المتطاير من النار الشررة كالقصر في عظمها وارتفاعها
495
وكالجمل في هيئتها ولونها والجمل الأصفر الأسود الذي يميل إلى صفرة.
هذا يوم لا ينطقون: أي فيه بشيء.
ولا يؤذن لهم: أي في العذر.
جمعناكم والأولين: أي من المكذبين قبلكم.
فإن كان لكم كيد فكيدون: أي حيلة في دفع العذاب فاحتالوا لدفع العذاب عنكم.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في تقرير عقيدة البعث والجزاء التي كان عليها مدار الحياة كلها قوله تعالى ﴿انْطَلِقُوا١﴾ هذا يقال للمكذبين يوم القيامة وهم في عرصاتها يقال لهم تقريعاً وتبكيتاً انطلقوا إلى٢ ما كنتم به تكذبون وهو عذاب الآخرة ويتهكم بهم ويسخرون منهم فيقولون انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب وهو دخان النار إذا ارتفع يتشعب إلى ثلاث شعب وذلك لعظمته لا ظليل أي ليس هو ظلا حقيقيا كظل لشجرة والجدار فيكن ويستر ولا يغني٣ من اللهب فيدفع الحر وقال تعالى في وصفها ﴿إِنَّهَا﴾ أي النار ﴿تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ﴾ الشررة الواحدة كالقصر في كبره وارتفاعه كأنه أي الشرر جمالة صفراء٤ أي الشرر كالجمل الأصفر وهو الأسود المائل إلى الصفرة. ثم قال تعالى ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ يتوعد المكذبين به وبآياته ولقائه ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقوله تعالى ﴿هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ﴾ أي هذا يوم القامة يوم لا ينطقون أي فيه بشيء ﴿وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ﴾ أي في الاعتذار فهم يعتذرون لا اعتذار ولا إذن به. ولطول يوم القيامة وتجدد الأحداث فيه يخبر القرآن مرة باعتذارهم وكلامهم في موطن، وينفيه في آخر، إذ هو ذاك الواقع في مواطن يتكلمون بل ويحلفون كاذبين وفي مواطن يغلب عليهم الخوف والحزن فلا يتكلمون بشيء وفي مواطن يطلب منهم أن يتكلموا فيتكلموا وفي أخرى لا، ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ وعيد لكل المكذبين بهذا وبغيره وقوله تعالى ﴿هَذَا يَوْمُ٥ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ٦ وَالْأَوَّلِينَ﴾ أي يقال لهم يوم القيامة وهم
١ هذا الخطاب للمكذبين في يوم الفصل وهو مقول قول محذوف دل عليه صيغة الخطاب ولذا قلت في التفسير هذا يقال للمكذبين.
٢ وأعيد لفظ انطلقوا على طريقة التكرير قصد التوبيخ والإهانة.
٣ الاغناء جعل الغير غنياً أي غير محتاج في ذلك الغرض وعدي الفعل بمن هنا على معنى البدلية أو لتضمينه معنى يبعد.
٤ قرأ نافع جمالات جمع جمالة بكسر الجيم وقرأ حفص جمالة بالإفراد والجملة اسم جمع لطائفة من الجمال أي الشررة الواحدة في عظمها كأنها جمالة صفر، والصفرة لون الشرر والصفر جمع أصفر كحمر جمع أحمر.
٥ تكرير لتوبيخهم، والإشارة في هذا إلى المشهد الذي يشاهدونه في يوم فصل القضاء الذي كانوا ينكرونه ويكذبون به.
٦ هذا كقوله تعالى (قل إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم) والمخاطبون في قوله جمعناكم المشركون المكذبون بيوم الفصل.
496
في عرصاتها هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون جمعناكم فيه أيها المكذبون من هذه الأمة والمكذبين الأولين من قبلها، فإن كان لكم كيد أي حيلة على خلاصكم مما أنتم فيه فكيدون أي احتالوا عليً وخلصوا أنفسكم يقال لهم تبكيتا لهم وخزيا وهو عذاب روحي أشد ألماً من العذاب الجسماني ﴿وَيْلٌ ١ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ أي ويل يوم إذ يجيء يوم الفصل للمكذبين.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
١- التهكم والسخرية والتبكيت من ألم أنواع العذاب الروحي يوم القيامة.
٢- عرصات القيامة واسعة والمقام فيها طويل والبلاء فيها شديد.
٣- تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر بعض ما يتم فيه.
٤- التكذيب هو رأس الكفر، وبموجبه يكون العذاب.
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (٤١) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٤٢) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٤٤) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٥) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (٤٦) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٧) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (٤٨) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٩) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (٥٠)
شرح الكلمات:
إن المتقين: أي الذين اتقوا ربهم فآمنوا به وأطاعوه بفعل ما يحب وترك ما يكره.
في ظلال: أي في ظلال الأشجار الوارفة.
وعيون: أي من ماء ولبن وخمر وعسل.
مما يشتهون: لا مما يجدون كما هي الحال في الدنيا.
إنا كذلك نجزي المحسنين: أي كما جزينا المتقين نجزي المحسنين.
كلوا وتمتعوا: أي في هذه الحياة الدنيا.
١ تكرير للوعيد والتهديد وهو متصل بما قبله اتصال نظائره فيما سبق وفيما يلحق.
497
وإذا قيل لهم اركعوا: أي صلوا لا يصلون.
بعده يؤمنون: أي بعد القرآن إذ الكتب غيره ليست معجزة والقرآن هو المعجز بألفاظه ومعانيه فمن لم يؤمن بالقرآن ما آمن بغيره بحال من الأحوال.
معنى الآيات:
من باب الترغيب والترهيب وهو أسلوب أمتاز به القرآن الكريم ذكر تعالى ما للمتقين من نعيم مقيم بعد ذكر ما للمكذبين الضالين من عذاب الجحيم فقال تعالى ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ﴾ وهم الذين اجتنبوا الشرك والمعاصي ﴿فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ﴾ في ظلال أشجار الجنة وعيونها من ماء ولبن وخمر وعسل وفواكه كثيرة منوعة مما يشتهون١ على خلاف الدنيا إذ الناس يأكلون مما يجدون فلوا اشتهوا شيئا ولم يجدوه ما أكلوه وأما دار النعيم فإن المرء ما اشتهى شيئا إلا وجده وأكله وهذا هو السر في التعبير في غير موضع بكلمة مما يشتهون. ومن إتمام النعيم أن يقال لهم تطييبا لخواطرهم كلوا واشربوا٢ هنيئا أي متهنئين بما كنتم تعملون من الصالحات وتتركون من السيئات. وقوله تعالى إنا كذلك٣ نجزي المحسنين أي كهذا الجزاء الذي جزينا به المتقين نجزي به المحسنين. ويل يومئذ للمكذبين أي بهذا الوعد الكريم. قوله تعالى ﴿كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ﴾. هذا قول الله تعالى لمشركي قريش وكفارها يهددهم الرب تبارك وتعالى ناعيا عليهم إجرامهم حتى يحين وقتهم وقد حان حيث أعلمهم أنهم لا يتمتعون إلا قليلا وقد أهلكوا في بدر. وقوله ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ هو توعد بالعذاب الأليم لمن يكذب بوعيد الله هذا ووعده ذاك. وقوله تعالى ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا٤﴾ أي صلوا ﴿لا يَرْكَعُونَ﴾ أي لا يصلون ولا يخشعون ولا يتواضعون فيقبلون الحق ويؤمنون به، ويل يومئذ للمكذبين بشرائع الله وهداه التاركين للصلاة وقوله تعالى ﴿فَبِأَيِّ ٥حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ﴾ أي فبأي كتاب يؤمن هؤلاء المكذبون إذا لم يؤمنوا بالقرآن وذلك لما فيه من الخير والهدى ولما يدعوا إليه من السعادة والكمال كما أنه معجز بألفاظه ومعانيه بخلاف الكتب غيره فمن لم يؤمن به لا يرجى له أن يؤمن بغيره بحال من الأحوال.
١ أي يتمنون إذ أكلهم للذة الأكل لا للحفاظ على الجسم كما هي الحال في الدنيا يأكل الآدمي للبقاء على حياته إذ لو ترك الغذاء هلك.
٢ هذا مقول قول محذوف أي يقال لهم كلوا واشربوا.
٣ إن المحسنين هم المتقون، وإنما ذكر صفة الإحسان لأن التقوى التي هي فعل وترك متوقفة على الإحسان الذي هو مراقبة الله تعالى المنتجة إحسان النيات والأعمال الصالحات.
٤ يذكر أن مالكاً رحمه الله تعالى: دخل المسجد بعد صلاة العصر وهو ممن لا يرى الركوع بعد العصر فجلس ولم يركع، فقال له صبي يا شيخ قم فاركع فقام فركع فقيل له في ذلك قال خشيت أن أكون من الذين (إذا قيل لهم اركعوا لا يركعون).
٥ الفاء هي الفصيحة أي إن لم تؤمنوا بهذا القرآن فبأي حديث بعده تؤمنون والاستفهام إنكاري تعجبي.
498
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
١- تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر ما أعد الله تعالى لأوليائه المؤمنين المتقين المحسنين.
٢- بيان نعيم أهل التقوى والإحسان وفضلهما أي فضل التقوى والإحسان.
٣- صدق القرآن في أخباره إذ وعيد الله لأكابر مجرمي مكة نفذ بعد أقل من خمس سنوات.
٤- من دخل مسجدا وأهله يصلون فليدخل معهم في صلاتهم وإن كان قد صلى حتى لا يكون غيره راكعا لله وهو غير راكع وقد جاء في الصحيح هذا المعنى.
499
Icon