تفسير سورة المرسلات

أحكام القرآن
تفسير سورة سورة المرسلات من كتاب أحكام القرآن .
لمؤلفه ابن العربي . المتوفي سنة 543 هـ
سورة المرسلات
فيها ثلاث آيات
وَهِيَ من غَرَائِبِ الْقُرْآنِ عَلَى مَا أَشَرْنَا إلَيْهِ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي من النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ ؛ فَإِنَّهَا نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَحْتَ الْأَرْضِ. وَرَوَى الصَّحِيحَانِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ :«كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَارٍ، فَنَزَلَتْ :﴿ وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا ﴾ فَإِنَّا لَنَتَلَقَّاهَا من فِيهِ رَطْبَةً إذْ خَرَجَتْ حَيَّةٌ من جُحْرِهَا، فَابْتَدَرْنَاهَا لِنَقْتُلَهَا، فَسَبَقَتْنَا فَدَخَلَتْ جُحْرَهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : وُقِيَتْ شَرَّكُمْ كَمَا وُقِيتُمْ شَرَّهَا ».

الْآيَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى :﴿ أَلَمْ نَجْعَلْ الْأَرْضَ كِفَاتًا ﴾ :
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ :
المسألة الْأُولَى : الْكِفَاتُ : الضَّمُّ وَالْجَمْعُ، وَهُوَ مَصْدَرٌ، يُقَالُ : كَفَتَهُ يَكْفِتُهُ كَفْتًا وَكِفَاتًا مِثْلُ كَتَبَ يَكْتُبُ كَتْبًا وَكِتَابًا، أَيْ يَجْمَعُهُمْ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا، وَكُلُّ شَيْءٍ ضَمَمْته فَقَدْ كَفَتَّهُ، فَإِذَا حَلَّ الْعَبْدُ فِي مَوْضِعِهِ فَهُوَ كِفَاتُهُ، وَهُوَ مَنْزِلُهُ، وَهُوَ دَارُهُ، وَهُوَ حِرْزُهُ، وَهُوَ حَرِيمُهُ، وَهُوَ حِمَاهُ، كَانَ يَقْظَانَ أَوْ نَائِمًا. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنْ «صَفْوَانَ قَالَ : كُنْت نَائِمًا فِي الْمَسْجِدِ عَلَى خَمِيصَةٍ لِي بِثَمَنِ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا ؛ فَجَاءَ رَجُلٌ فَاخْتَلَسَهَا مِنِّي، فَأَخَذَ الرَّجُلَ، فَأَتَى بِهِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَمَرَ بِهِ لِيُقْطَعَ قَالَ : فَقُلْت لَهُ : أَتَقْطَعُهُ من أَجْلِ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا، أَنَا أَبِيعُهُ إيَّاهَا، وَأُنْسِئُهُ ثَمَنَهَا. قَالَ : هَلَّا قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ ! فَكَانَتْ نَفْسُهُ حِيَازَةَ مَوْضِعِهِ وَحِرْزِهِ وَحَرِيمِهِ وَمَنَعَتِهِ وَحِصْنِهِ ».
المسألة الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ أَلَمْ نَجْعَلْ الْأَرْضَ كِفَاتًا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا ﴾ يَقْتَضِي أَنْ يُدْفَنَ فِيهَا الْمَيِّتُ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ كُلِّهَا من شَعْرٍ، وَظُفْرٍ، وَثِيَابٍ، وَمَا يُوَارِيهِ عَلَى التَّمَامِ، وَمَا اتَّصَلَ بِهِ وَمَا بَانَ عَنْهُ، وَقَدْ قَرَّرْنَا ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ من الْمَسَائِلِ :
المسألة الثَّالِثَةُ : احْتَجَّ عُلَمَاؤُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي قَطْعِ النَّبَّاشِ لِأَنَّهُ سَرَقَ من حِرْزٍ مَكْفُوتٍ، وَحِمًى مَضْمُومٍ، وَقَدْ مَهَّدْنَا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ، وَقَرَّرْنَا أَنْ يُنْظَرَ فِي دُخُولِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِأَنْ نَقُولَ : هَذَا حِرْزٌ كِفَاتٌ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى :﴿ أَلَمْ نَجْعَلْ الْأَرْضَ كِفَاتًا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا ﴾ فَجَعَلَ حَالَ الْمَرْءِ فِيهَا بَعْدَ الْمَمَاتِ فِي كَفْتِهَا لَهُ وَضَمِّهَا لِحَالِهِ كَحَالَةِ الْحَيَاةِ وَمَا تَحْفَظُهُ وَتَحْرُزُ حَيًّا، كَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَيِّتًا فَهَذَا أَصْلٌ ثَبَتَ بِالْقُرْآنِ، ثُمَّ يُنْظَرُ فِي دُخُولِهِ تَحْتَ قَوْلِهِ :﴿ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا ﴾ وَذَلِكَ يَثْبُتُ بِطَرِيقِ اللُّغَةِ، فَإِنَّ السَّارِقَ فِيهَا هُوَ آخِذُ الْمَالِ عَلَى طَرِيقِ الْخِفْيَةِ وَمُسَارَقَةِ الْأَعْيُنِ، وَهَذَا فِعْلُهُ فِي الْقَبْرِ كَفِعْلِهِ فِي الدَّارِ، ثُمَّ يُنْظَرُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي أَنَّ الَّذِي سُرِقَ مَالٌ ؛ لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَقُولُ : إنَّ الْكَفَنَ لَيْسَ بِمَالٍ ؛ لِأَنَّهُ مُعَرَّضٌ لِلْإِتْلَافِ، وَقُلْنَا نَحْنُ : هُوَ مُعَرَّضٌ لِلْإِتْلَافِ فِي مَنْفَعَةِ الْمَالِكِ، كَالْمَلْبُوسِ فِي الْحَيَاةِ، ثُمَّ يُنْظَرُ فِي أَنَّهُ مَمْلُوكٌ لِمَالِكٍ، فَإِنَّ الْمَيِّتَ مَالِكٌ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ نَصَبَ شَبَكَةً فِي حَالِ حَيَاتِهِ، فَوَقَعَ فِيهَا صَيْدٌ بَعْدَ وَفَاتِهِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ لَهُ، تُقْضَى مِنْهُ دُيُونُهُ، وَتَنْفُذُ فِيهِ وَصَايَاهُ. وَحَقِيقَةُ الْمِلْكِ مَوْجُودَةٌ فِي الْكَفَنِ ؛ لِأَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِهِ وَمُحْتَاجٌ إلَيْهِ، فَإِذَا ثَبَتَتْ هَذِهِ الْأَرْكَانُ من الْقُرْآنِ وَالْمَعْنَى ثَبَتَ الْقَطْعُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ إنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ ﴾.
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ :
المسألة الْأُولَى : قَالَ الْمُفَسِّرُونَ : فِيهَا سِتَّةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : أُصُولُ الشَّجَرَةِ
الثَّانِي الْجَبَلُ
الثَّالِثُ الْقَصْرُ من الْبِنَاءِ
الرَّابِعُ خَشَبٌ طُولُهُ ثَلَاثَةُ أَذْرُعٍ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ
الْخَامِسُ أَعْنَاقُ الدَّوَابِّ
السَّادِسُ رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَرَأَهَا الْقَصَرُ، وَفَسَّرَهَا بِأَعْنَاقِ الْإِبِلِ.
المسألة الثَّانِيَةُ : أَمَّا ( ق ص ر ) فَهُوَ بِنَاءٌ يَنْطَلِقُ عَلَى مُخْتَلِفَاتٍ كَثِيرَةٍ، يَنْطَلِقُ عَلَيْهَا انْطِلَاقًا وَاحِدًا. وَالْمَعْنَى مُخْتَلِفٌ فِي ذَلِكَ. وَالصَّحِيحُ مَا رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ :﴿ تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ ﴾ قَالَ : كُنَّا نَرْفَعُ الْخَشَبَ بِقَصَرٍ ثَلَاثَ أَذْرُعٍ أَوْ أَقَلَّ، فَنَرْفَعُهُ لِلشِّتَاءِ، فَنُسَمِّيهَا الْقَصَرَ.
المسألة الثَّالِثَةُ : أَمَّا ادِّخَارُ الْقُوتِ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ أَمَّا ادِّخَارُ الْحَطَبِ وَالْفَحْمِ فَمُسْتَفَادٌ من هَذِهِ الْآيَةِ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ من الْقُوتِ فَإِنَّهُ من مَصَالِحِ الْمَرْءِ، وَمَغَانِي مَفَاقِرِهِ ؛ وَذَلِكَ مِمَّا يَقْتَضِي النَّظَرَ أَنْ يَكْتَسِبَهُ فِي غَيْرِ وَقْتِ حَاجَتِهِ، لِيَكُونَ أَرْخَصَ، وَحَالَةُ وُجُودِهِ أَمْكَنَ، كَمَا «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدَّخِرُ الْقُوتَ فِي وَقْتِ عُمُومِ وُجُودِهِ من كَسْبِهِ وَمَالِهِ »، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ اكْتَسَبَهُ فِي وَقْتِ رُخْصِهِ، وَكُلُّ شَيْءٍ مَحْمُولٌ عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ الْعُلَمَاءُ فِيمَنْ وَكَّلَ وَكِيلًا يَبْتَاعُ لَهُ فَحْمًا فَابْتَاعَهُ لَهُ فِي الصَّيْفِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ وَقْتٌ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِيهِ. وَعِنْدِي أَنَّهُ يَلْزَمُهُ ؛ لِأَنَّهُ الْوَقْتُ الَّذِي يَبْتَاعُ فِيهِ لِيَدَّخِرَهُ الْعَبْدُ لِوَقْتِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ، إلَّا أَنْ يَقْتَرِنَ بِذَلِكَ مَا يُوجِبُ تَخْصِيصَهُ بِحَالٍ فَيُحْمَلُ عَلَى ذَلِكَ الْمُقْتَضَى بِالِاسْتِدْلَالِ.
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ ﴾
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ :
المسألة الْأُولَى : الرُّكُوعُ مَعْلُومٌ لُغَةً، مَعْلُومٌ شَرْعًا حَسْبَمَا قَرَّرْنَاهُ ؛ فَلَا وَجْهَ لِإِعَادَتِهِ كَرَاهِيَةَ التَّطْوِيلِ.
المسألة الثَّانِيَةُ : هَذِهِ الْآيَةُ حُجَّةٌ عَلَى وُجُوبِ الرُّكُوعِ وَإِنْزَالِهِ رُكْنًا فِي الصَّلَاةِ، وَقَدْ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِ، وَظَنَّ قَوْمٌ أَنَّ هَذَا إنَّمَا يَكُونُ فِي الْقِيَامَةِ، وَلَيْسَتْ بِدَارِ تَكْلِيفٍ، فَيَتَوَجَّهُ فِيهَا أَمْرٌ يَكُونُ عَلَيْهِ وَيْلٌ وَعِقَابٌ، وَإِنَّمَا يُدْعَوْنَ إلَى السُّجُودِ كَشْفًا لِحَالِ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا، فَمَنْ كَانَ يَسْجُدُ لِلَّهِ تَمَكَّنَ مِن السُّجُودِ، وَمَنْ كَانَ يَسْجُدُ رِثاءً لِغَيْرِهِ صَارَ ظَهْرُهُ طَبَقًا وَاحِدًا.
المسألة الثَّالِثَةُ : رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ : قَالَ عَبْدُ اللَّهِ يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ :«بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَارٍ إذْ نَزَلَتْ عَلَيْهِ :﴿ وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا. . . ﴾ الْحَدِيثَ إلَخْ، فَمِن الْفَوَائِدِ الْعَارِضَةِ هَاهُنَا أَنَّ الْقُرْآنَ فِي مَحَلِّ نُزُولِهِ وَوَقْفِهِ عَشْرَةُ أَقْسَامٍ : سَمَاوِيٌّ، وَأَرْضِيٌّ، وَمَا تَحْتَ الْأَرْضِ، وَحَضَرِيٌّ، وَسَفَرِيٌّ، وَمَكِّيٌّ، وَمَدَنِيٌّ، وَلَيْلِيٌّ، وَنَهَارِيٌّ، وَمَا نَزَلَ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي من النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
المسألة الرَّابِعَةُ : ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ أُمَّ الْفَضْلِ سَمِعَتْهُ وَهُوَ يَقْرَأُ :﴿ وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا ﴾ فَقَالَتْ : يَا بُنَيَّ، لَقَدْ أَذْكَرْتنِي بِقِرَاءَتِك هَذِهِ السُّورَةَ، إنَّهَا لَآخِرُ مَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَأُ بِهَا فِي الْمَغْرِبِ، ثُمَّ مَا صَلَّى لَنَا حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ ».
وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ قَرَأَ بِالطُّورِ فِي الْمَغْرِبِ، فِي طَرِيقٍ أُخْرَى.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِطُولَى الطُّولَيَيْنِ.
Icon