تفسير سورة المرسلات

التفسير المنير
تفسير سورة سورة المرسلات من كتاب التفسير المنير .
لمؤلفه وهبة الزحيلي . المتوفي سنة 1436 هـ

فضلها:
أخرج البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: بينما نحن مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في غار بمنى، إذ نزلت عليه وَالْمُرْسَلاتِ فإنه ليتلوها، وإني لأتلقاها من فيه، وإن فاه لرطب بها، إذ وثبت علينا حية، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «اقتلوها» فابتدرناها، فذهبت، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «وقيت شرّكم، كما وقيتم شرّها».
وأخرج أحمد عن ابن عباس عن أمه: أنها سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم يقرأ في المغرب بالمرسلات عرفا.
وفي رواية مالك والشيخين في الصحيحين عن ابن عباس: أن أم الفضل سمعته يقرأ وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً فقالت: يا بني أذكرتني بقراءتك هذه السورة، إنها لآخر ما سمعت من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقرأ بها في المغرب.
وقوع يوم القيامة حتما ووقته وعلاماته
[سورة المرسلات (٧٧) : الآيات ١ الى ١٥]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (١) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (٢) وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (٣) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (٤)
فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (٥) عُذْراً أَوْ نُذْراً (٦) إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (٧) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (٨) وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ (٩)
وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ (١٠) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (١١) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (١٢) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (١٣) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ (١٤)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٥)
الإعراب:
وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً إن جعلت وَالْمُرْسَلاتِ بمعنى الرياح، كان عُرْفاً منصوبا
312
على الحال، وإن جعلت بمعنى الملائكة كان عُرْفاً منصوبا بتقدير حذف حرف جر، أي والمرسلات بعرف، أي بمعروف، والمعنى الأول أظهر.
فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً، وَالنَّاشِراتِ نَشْراً عصفا ونشرا: منصوبان على المصدر المؤكد.
فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً، عُذْراً أَوْ نُذْراً عُذْراً أَوْ نُذْراً: منصوبان من ثلاثة أوجه: إما على المفعول لأجله، أي للإعذار والإنذار، أو على البدل من ذِكْراً أي فالملقيات عذرا أو نذرا، أو بالمصدر نفسه وهو (ذكر) وتقديره: أن ذكّر عذرا أو نذرا.
فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ النُّجُومُ: مرفوع بفعل دل عليه طُمِسَتْ وتقديره: إذا طمست النجوم طمست، وجواب إذا مقدر، تقديره: وقع الفصل، أو الجواب: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ...
وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ أصل أُقِّتَتْ وقتت، إلا أنه لما انضمت الواو ضما لازما، قلبت همزة، كقولهم في وجوه: أجوه.
البلاغة:
فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً، وَالنَّاشِراتِ نَشْراً، فَالْفارِقاتِ فَرْقاً تأكيد بذكر المصدر لزيادة البيان، وتقوية الكلام.
عُذْراً أَوْ نُذْراً بينهما طباق.
لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ، لِيَوْمِ الْفَصْلِ، وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ وضع الظاهر في الجملة الأخيرة موضع الضمير، وجيء بصيغة الاستفهام، لزيادة تهويل الأمر وتعظيمه والتعجيب من هوله.
المفردات اللغوية:
وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً الأظهر أنها الرياح المتتابعة كعرف الفرس: وهو الشعر المتتابع النابت على الرقبة، وقيل: إنها الملائكة المرسلة للمعروف والإحسان. فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً الرياح الشديدة. وَالنَّاشِراتِ نَشْراً الأظهر أنها أيضا الرياح التي تنشر المطر، أو تنشر السحاب في آفاق السماء، كما يشاء الرب عز وجل، وقيل: إنها الملائكة الموكلون بالسحب يسوقونها حيث يشاء الله تعالى لنشر المطر وإحياء الأرض.
فَالْفارِقاتِ فَرْقاً، فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً، عُذْراً أَوْ نُذْراً أي الملائكة التي تنزل بالوحي إلى الأنبياء والرسل، لتفرّق بين الحق والباطل، والحلال والحرام، وتلقي بالعلم والحكمة إلى الأنبياء، للإعذار والإنذار، الإعذار من الله للعباد لئلا يبقى لهم حجة عند الله، والإنذار من الله تعالى للناس بالنقمة والعذاب إذا لم يؤمنوا.
313
إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ جواب القسم، أي إن الذي توعدون به يا كفار مكة وأشباهكم من مجيء القيامة والبعث والعذاب كائن لا محالة. طُمِسَتْ محقت وذهب نورها. فُرِجَتْ شقت وصدعت. أُقِّتَتْ جمعت لوقت، وعين لها وقت تحضر فيه للشهادة على الأمم بالتبليغ، قال الزمخشري: والوجه أن يكون معنى (وقتت) بلغت ميقاتها الذي كانت تنتظره وهو يوم القيامة. لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ؟ أي يقال: لأي يوم أخّرت وأمهلت للشهادة على الأمم بالتبليغ، وهذا القول تعظيم لليوم، وتعجيب من هوله. لِيَوْمِ الْفَصْلِ بيان ليوم التأجيل، وهو اليوم الذي يفصل فيه بين الخلائق بأعمالهم: إما إلى الجنة، وإما إلى النار. وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ تهويل لشأنه، والمعنى: ومن أين تعلم كنهه ولم تر مثله؟ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ بذلك، وهذا وعيد لهم، والويل: العذاب والخزي. وويل في الأصل: مصدر منصوب بإضمار فعل، عدل به إلى الرفع، للدلالة على ثبات الهلاك للمدعو عليه، ويَوْمَئِذٍ ظرفه، أو صفته.
التفسير والبيان:
وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً، فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً، وَالنَّاشِراتِ نَشْراً أي أقسم بالرياح المتتابعة كعرف الفرس إذا ذهبت شيئا فشيئا، وبالرياح التي ترسل عاصفة لما أمرت به من نعمة ونقمة، وبالرياح التي تنشر السحاب وتفرقه في آفاق السماء كما يشاء الرب عز وجل. وهذا هو الأظهر كما قال ابن كثير وابن جزي صاحب التسهيل لعلوم التنزيل، وقال القرطبي: جمهور المفسرين على أن المرسلات: الرياح.
وقيل: المقصود بالمرسلات: الملائكة المرسلة بوحي الله وأمره ونهيه بالإحسان والمعروف، والعاصفات: الملائكة الموكلون بالرياح يعصفون بها، والناشرات: الملائكة الموكلون بالسحب ينشرونها أو ينشرون أجنحتهم في الجوّ عند النزول بالوحي. وقيل: المراد بهؤلاء وما يأتي: طوائف الأنبياء أرسلوا بالوحي المحقق لكل خير، الذي أخذ أمرهم في العصوف والاشتداد إلى أن بلغ غايته، وانتشرت دعوتهم، ففرقوا بين المؤمن والكافر، والمقر والجاحد، وألقوا الذكر والتوحيد إلى الناس كافة، أو إلى طائفة معينين.
314
فَالْفارِقاتِ فَرْقاً، فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً، عُذْراً أَوْ نُذْراً ثم أقسم بالملائكة الذين ينزلون بأمر الله على الرسل بما يفرق بين الحق والباطل، والهدى والغي، والحلال والحرام، وتلقي الوحي إلى الأنبياء، إعذارا من الله إلى خلقه، وإنذارا من عذابه إن خالفوا أمره. وقيل: المراد بالفارقات والملقيات: الرياح أيضا.
إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ هذا هو المقسم عليه بهذه الأقسام، أي إن ما وعدتم به من مجيء الساعة والنفخ في الصور، وبعث الأجساد، وجمع الأولين والآخرين في صعيد واحد، ومجازاة كل عامل بعمله خيرا أو شرا، إن هذا كله لواقع وكائن لا محالة.
ثم بيّن الله سبحانه وقت وقوعه وأشراطه، فقال:
فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ، وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ، وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ أي فإذا محي نور النجوم وذهب ضوءها، وفتحت السماء وشقت وصدعت ووهت أطرافها، وقلعت الجبال من مكانها، وذهب بها، وطارت في الجو هباء، فلا يبقى لها عين ولا أثر، واستوى مكانها بالأرض.
ونظير الآية في النجوم: وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ [التكوير ٨١/ ٢] وقوله: وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ [الانفطار ٨٢/ ٢]. وفي السماء: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ [الانشقاق ٨٤/ ١] وقوله: وَفُتِحَتِ السَّماءُ، فَكانَتْ أَبْواباً [النبأ ٧٨/ ١٩] وقوله: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ [الفرقان ٢٥/ ٢٥]. وفي الجبال: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ، فَقُلْ: يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً [طه ٢٠/ ١٠٥].
ووجه الجمع بين الرياح في الثلاثة الأول، وبين الملائكة في الرابع والخامس هو اللطافة وسرعة الحركة.
وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ، لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ، لِيَوْمِ الْفَصْلِ، وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ أي وإذا الرسل جمعت وجعل لها وقت للفصل والقضاء بينهم وبين
315
الأمم، كقوله تعالى: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ [المائدة ٥/ ١٠٩] ويقال لتعجيب العباد من هول ذلك اليوم: لأي يوم عظيم أخرت الأمور المتعلقة بهؤلاء الرسل:
وهي تعذيب من كذبهم، وتعظيم من صدّقهم، وظهور ما كانوا قد أوعدوا به الأمم، وخوفوهم من العرض والحساب ونشر الدواوين، ووضع الموازين. والمراد بذلك تهويل أمر هذا اليوم وتعظيم شأنه، وهو يوم القيامة.
ثم أجاب الله تعالى بأنهم أجّلوا ليوم الفصل بين الخلائق، يفصل فيه بين الناس بأعمالهم، فيفرّقون إلى الجنة والنار.
ثم عظم تعالى ذلك اليوم ثانيا، فقال: وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ أيّ وما أعلمك بيوم الفصل، وأيّ شيء شدته ومهابته؟ يعني أنه أمر هائل لا يعرف وصفه، ولا يقدر قدره.
ثم عقبه الله تعالى بتهويل ثالث، فقال:
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أي ويل لهم من عذاب الله غدا، في ذلك اليوم المصحوب بالأهوال لمن كذب الله ورسله وكتبه، والويل تهديد بالهلاك، ولا يصح أنه واد في جهنم، كما قال ابن كثير.
وقد كرر هذا التهويل في السورة في تسعة مواضع أخر، لمزيد التأكيد والتقرير، كما مرّ في سورة الرحمن: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- أقسم الله تعالى بالرياح وبالملائكة جامعا بينهم بسبب اللطافة وسرعة الحركة، على أن يوم القيامة والبعث حق كائن لا محالة تحقيقا لما أوعد الله به الظالمين في السورة السابقة.
316
والمقصود بالقسم: التنبيه على جلالة المقسم به، ومعروف مدى تأثير الرياح، سواء لإنزال المطر أو لإصابة العذاب، كما أن شرف الملائكة وعلو رتبتهم أمر ظاهر من وجوه: هي شدة مواظبتهم على طاعة الله تعالى، ولتنوع طوائفهم، فمنهم الموكل بإنزال الوحي على الأنبياء، ومنهم المرسل ليلا أو نهارا لرصد أعمال بني آدم وكتابتها، والعمل يشمل القول من اللسان والفعل الصادر من الجوارح (الأعضاء) ومنهم الموكل بقبض الأرواح، ومنهم الذين ينزلون من البيت المعمور إلى الكعبة «١».
٢- ثم ذكر الله تعالى متى يقع يوم القيامة وعلاماته (أو أشراطه) وهو يوم ذهاب ضوء النجوم ومحي نورها، كطمس الكتاب، وتشقق السماء (أو انفطارها) وزوال معالمها، ونسف الجبال والذهاب بها دون بقاء أثر لها حتى تسوى بالأرض، وجمع الرسل ليوم القيامة في الميقات المخصص لهم للفصل والقضاء بينهم وبين الأمم. والخلاصة: هذه مقدمات البعث.
٣- عيّن الله تعالى ميعاد جمع الرسل: وهو يوم الفصل الذي أجّلوا إليه، فيفصل الله تعالى فيه بين الناس بأعمالهم إلى الجنة أو إلى النار.
٤- عظم الله تعالى ذلك اليوم وأشاع عنه التهويل ثلاث مرات: في قوله لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ لِيَوْمِ الْفَصْلِ وقوله: وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ؟ وقوله: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أي العذاب والخزي لمن كذّب بالله وبرسله وبكتبه وبيوم الفصل، فهو وعيد شديد.
(١) تفسير الرازي: ٣٠/ ٢٦٥
317
تخويف الكفار وتحذيرهم من الكفر
[سورة المرسلات (٧٧) : الآيات ١٦ الى ٢٨]
أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (١٦) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (١٧) كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (١٨) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٩) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٢٠)
فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (٢١) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢٢) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (٢٣) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٤) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (٢٥)
أَحْياءً وَأَمْواتاً (٢٦) وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (٢٧) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٨)
الإعراب:
أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ، ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ: إنما لم يجزم فعل نتبع بالعطف على نُهْلِكِ لأنه في نية الاستئناف، وتقديره: ثم نحن نتبعهم.
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً.. وَأَمْواتاً كِفاتاً وأَمْواتاً إما منصوبان على الحال، أي نجمعهم في هاتين الحالين، أو أن يكونا بدلا من الْأَرْضَ على معنى أن تكون كِفاتاً إحياء نبت، وأَمْواتاً لا تنبت، وتقديره: ألم نجعل الأرض ذات نبات وغير ذات نبات.
البلاغة:
الْأَوَّلِينَ والْآخِرِينَ بينهما طباق، وكذا بين أَحْياءً وأَمْواتاً.
أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ استفهام تقريري، ومثله: أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ.
مَهِينٍ مَكِينٍ جناس ناقص غير تام.
المفردات اللغوية:
أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ كقوم نوح وعاد وثمود، وقرئ «نهلك» من هلكه بمعنى أهلكه. ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ أي ثم نحن نتبعهم نظراءهم ككفار مكة، وقرئ بجزم الفعل، عطفا على نُهْلِكِ فيكون المراد من الْآخِرِينَ المتأخرين من المهلكين، كقوم لوط وشعيب وموسى عليهم السلام. كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ أي مثل ذلك الفعل نفعل بالمجرمين أي بكل من أجرم.
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ بآيات الله وأنبيائه، والتكرار للتأكيد، أو أن الويل الأول لعذاب الآخرة، وهذا للإهلاك في الدنيا.
318
مِنْ ماءٍ مَهِينٍ من نطفة مذرة ذليلة، أو من ماء ضعيف، وهو المني. فِي قَرارٍ مَكِينٍ أي مستقر حريز حصين، وهو الرحم. إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ إلى زمان معلوم أو إلى مقدار معلوم من الوقت، وهو وقت الولادة، قدره الله تعالى. فَقَدَرْنا على تصويره وخلقه.
فَنِعْمَ الْقادِرُونَ نحن. وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ بقدرتنا على ذلك، أو على الإعادة.
كِفاتاً ضامة جامعة، من كفت الشيء: إذا ضمه وجمعه. أَحْياءً وَأَمْواتاً الأحياء:
ما ينبت، والأموات: ما لا ينبت.
رَواسِيَ شامِخاتٍ جبالا مرتفعة. فُراتاً عذبا.
المناسبة:
بعد تحذير الكفار وإنذارهم بأهوال يوم القيامة، أعقبه بتخويفهم وتحذيرهم عن الكفر، بالإهلاك كإهلاك الأمم المتقدمة، ثم هددهم بإنكار إحسانه إليهم، مبينا أمثلة ومظاهر لقدرة الله عز وجل، كخلق الإنسان وحواسه، والأرض وتثبيتها بالجبال الشامخات، وتزويدها بينابيع المياه العذبة، وذلك كله يستدعي شكر نعم الله في النفس والآفاق.
التفسير والبيان:
هدد الله تعالى الكفار بقوله:
أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ، ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ؟ أي ألم نهلك الكفار المكذبين للرسل المخالفين لما جاءوهم به من الأمم الماضية، من لدن آدم عليه السلام كقوم نوح وعاد وثمود وغيرهم إلى زمن محمد صلّى الله عليه وسلّم، بالعذاب في الدنيا، ثم نتبعهم بأمثالهم وأشباههم، وهم كفار مكة حين كذبوا محمدا صلّى الله عليه وسلّم، أهلكهم الله يوم بدر وغيره من المواطن.
وفي هذا وعيد شديد لكل من كفر بالله وتخويف وتحذير من الكفر.
ثم أخبر تعالى بأن تلك سنة الله لا تبديل فيها، مع بيان حكمة الإهلاك، فقال:
319
كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ أي إن سنتنا في جميع الكفار واحدة، فمثل ذلك الإهلاك للمكذبين بكتب الله ورسله، الذين أجرموا في حق أنفسهم، نفعل بكل مشرك، إما في الدنيا أو في الآخرة.
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أي الخزي والعذاب يوم ذلك الإهلاك للمكذبين بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر.
ثم وبخهم بتعداد النعم والامتنان عليهم، وبيان آثار القدرة الإلهية عليهم، ومحتجا بالبداءة على الإعادة فقال:
أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ، فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ، إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ، فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ؟ أي ألا ترون وتدركون أننا نحن خلقناه من ماء ضعيف حقير، وهو المني، وضعفه واضح بالنسبة إلى قدرة الباري عز وجل، وجعلناه وجمعناه في مستقر أو مكان حريز حصين، وهو الرحم، ثم أبقاه الله إلى مدة معينة هي مدة الحمل من ستة أشهر إلى تسعة أشهر.
ونحن قدّرنا أعضاءه وصفاته، وجعلنا كل حال على الصفة التي أردنا، فنعم المقدّر الله، أو فنعم المقدّرون له نحن. أو على قراءة التخفيف (فقدرنا) أي فقدرنا على خلقه وتصويره كيف شئنا، فنعم أصحاب القدرة نحن، حيث خلقناكم في أحسن تقويم.
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أي خزي وعذاب في ذلك اليوم الهائل، يوم القيامة لمن كذب بقدرتنا على ذلك وبهذه المنن والنعم.
وهذا توبيخ وتخويف من وجهين:
أحدهما- أن النعمة كلما كانت أعظم، كان كفرانها أفحش.
والثاني- أن القادر على الإبداء (الخلق الأول) قادر على الإعادة، فالمنكر
320
لهذا الدليل الواضح يستحق غاية التوبيخ.
ثم عدّ عليهم نعم الآفاق الثلاث بعد ذكر الأنفس فقال:
١- أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً، أَحْياءً وَأَمْواتاً أي ألم نجعل الأرض ضامّة للأحياء على ظهرها في منازلهم، والأموات في بطنها، تضمهم وتجمعهم؟ قال الشعبي: بطنها لأمواتكم، وظهرها لأحيائكم. والكفات: اسم ما يكفت أي يضم ويجمع، ويجوز أن يكون اسما لما يكفت به، مبنيا للمفعول، كالشداد لصمام يشد به رأس القارورة.
٢، ٣- وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ، وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً أي وأوجدنا في الأرض جبالا ثوابت عاليات، لئلا تميد وتضطرب بكم، وأسقيناكم من ينابيعها أو من السحاب ماء عذبا زلالا، وهذا كله أعجب من البعث.
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أي عذاب شديد في الآخرة لمن كذب أو كفر بهذه النعم، وويل لمن تأمل هذه المخلوقات الدالة على عظمة خالقها، ثم استمر على تكذيبه وكفره.
فقه الحياة أو الأحكام:
ذكر الله تعالى عشرة أنواع من تخويف الكفار وتحذيرهم عن الكفر، أذكر منها هنا أربعة وهي:
النوع الأول من التخويف- أنه أقسم في الآيات السابقة على أن اليوم الذي يوعدون به، وهو يوم الفصل، واقع.
النوع الثاني- أنه أهلك الكفرة المتقدمين بسبب كفرهم، وأخبر أنه يفعل مثل ذلك في الأقوام المتأخرين، فلا بد وأن يهلكهم أيضا، لتماثلهم مع المتقدمين في علة الإهلاك، وهي التكذيب بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر. وذكر تعالى
321
أن هذا الإهلاك إنما نفعله بهم لكونهم مجرمين، فعمم الحكم جميع المجرمين.
ثم أكد تعالى التخويف بقوله: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ والمراد أن مآلهم في الدنيا الهلاك، وفي الآخرة العذاب الشديد، كما قال تعالى: خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ، ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ [الحج ٢٢/ ١١]. وهؤلاء وإن أهلكوا وعذبوا في الدنيا، فالمصيبة العظمى والطامة الكبرى معدّة لهم يوم القيامة.
والنوع الثالث من تخويف الكفار- التذكير بعظيم إنعامه عليهم، والتحذير من مغبة كفران النعمة وإنكار إحسانه إليهم، وهو خلقه الإنسان من النطفة الضعيفة الحقيرة، ثم إيداعها في مكان حريز وهو الرّحم إلى أن يتم تصويره ويحين وقت ولادته، وذلك لا يمكن من غير قادر عليّ، فنعم القادر والمقدّر وهو الله تعالى.
ووجه التخويف من جانبين كما تقدم:
الأول- أنه كلما كانت نعمة الله عليهم أكثر، كانت جنايتهم في حقه أقبح وأفحش، وكان العقاب أعظم، لذا قال عقيب هذا الإنعام: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ.
الثاني- أنه تعالى ذكّرهم كونه قادرا على الابتداء، ومن المقرر الظاهر عقلا عند البشر أن القادر على الابتداء، قادر على الإعادة، فلما أنكروا هذه الدلالة الظاهرة، قال في حقهم: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ «١».
والنوع الرابع من تخويف الكفار- أنه تعالى بعد أن ذكّرهم بالنعم التي له عليهم في الأنفس، ذكّرهم بالنعم التي له عليهم في الآفاق، وذكر ثلاثة أشياء:
هي الأرض التي هي كفات الأحياء والأموات، والجبال الرواسي الشامخات، أي
(١) التفسير الكبير للرازي: ٣٠/ ٢٧٢
322
الثواب على ظهر الأرض فلا تزول، العاليات، والماء الفرات الذي هو الغاية في العذوبة.
وأعقب التذكير بهذه النعم في الآفاق في آخر الآية: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ لأن النعم كما تقدم كلما كانت أكثر، كانت الجناية أقبح، فكان استحقاق الذم عاجلا، والعقاب آجلا أشدّ، كما قال الرازي.
هذا وقد استنبط العلماء من آية أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً حكمين «١» :
الأول- إذا كانت الأرض ضامّة تضم الأحياء على ظهورها، والأموات في بطنها فهذا يدل على وجوب مواراة الميت ودفنه، ودفن شعره وسائر ما يزيله عنه.
والثاني- روي عن ربيعة في النبّاش (سارق أكفان الموتى) قال: تقطع يده، فقيل له: لم قلت ذلك؟ قال: إن الله عز وجل يقول: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً، أَحْياءً وَأَمْواتاً فالأرض حرز. وكانوا يسمّون بقيع الغرقد في المدينة كفتة لأنه مقبرة تضم الموتى، فالأرض تضم الأحياء إلى منازلهم، والأموات في قبورهم. وأيضا استقرار الناس على وجه الأرض، ثم اضطجاعهم عليها، انضمام منهم إليها.
وكذلك استدل الشافعية بالآية على قطع النباش: بأن الله تعالى جعل الأرض كفاتا للأموات، فكان بطنها حرزا لهم، فالنباش سارق من الحرز.
هذا.. وأما بقية أنواع تخويف الكفار وتهديدهم، فمحلها الآيات الآتية.
(١) تفسير القرطبي: ١٩/ ١٦١
323
أنواع ثلاثة أخرى من وجوه تخويف الكفار كيفية عذابهم في الآخرة
[سورة المرسلات (٧٧) : الآيات ٢٩ الى ٤٠]
انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٩) انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (٣٠) لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (٣١) إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (٣٢) كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (٣٣)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٤) هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (٣٥) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (٣٦) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٧) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (٣٨)
فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (٣٩) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٠)
الإعراب:
كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ وقرئ: «جمالات» : جمع جمالة، وجمالة جمع جمل، كحجر وحجارة، وذكر وذكارة، فعلى هذا (جمالات) جمع الجمع.
لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ فَيَعْتَذِرُونَ عطف على يَنْطِقُونَ كأنه قال: لا ينطقون ولا يعتذرون، كقراءة من قرأ: لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا [فاطر ٣٥/ ٣٦] بالياء والنون، كأنه قال: لا يقضى عليهم ولا يموتون. فلو حملت الآية على ظاهرها لتناقض المعنى لأنه يصير التقدير: هذا يوم لا ينطقون فيعتذرون، فيكون ذلك متناقضا لأن الاعتذار نطق. أو معطوف على يؤذن، ليدل على نفي الإذن، أي لا إذن فلا اعتذار.
البلاغة:
تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ تشبيه مرسل مجمل لحذف وجه الشبه، وكَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ تشبيه مرسل مفصل، وفي التشبيه بالقصر وهو الحصن، تشبيه من جهتين: من جهة العظم، ومن جهة الارتفاع. وفي التشبيه بالجمالات وهي القلوس تشبيه من ثلاث جهات: من جهة العظم، والارتفاع، والصفرة.
انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ، لا ظَلِيلٍ.. أسلوب التهكم، سمى العذاب ظلّا تهكما وسخرية بهم.
324
هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ سجع مرصع، وهو توافق الفواصل في الحرف الأخير.
المفردات اللغوية:
انْطَلِقُوا وفي قراءة «انطلقوا» إخبارا عن امتثالهم للأمر اضطرارا. إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ ظل دخان جهنم، إذا ارتفع افترق ثلاث فرق، لعظمه، والشعب: الفروع.
لا ظَلِيلٍ لا وقاية فيه من حرّ ذلك اليوم، وهو تهكم بهم، وردّ لما أوهم لفظ الظلل.
وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ لا يفيدهم من حرّ اللهب شيئا، واللهب: شعلة النار. إِنَّها أي النار. بِشَرَرٍ ما تطاير من النار، جمع شرارة. كَالْقَصْرِ كالبناء الكبير المشيد في عظمه وارتفاعه.
جِمالَتٌ جمع جمل، وقرئ: جمالات: جمع الجمع. صُفْرٌ في الهيئة واللون، وقيل:
سود، فإن سود الإبل يضرب إلى الصفر، والأول تشبيه في العظم والارتفاع، الثاني في العظم والارتفاع واللون، والكثرة والتتابع والاختلاط وسرعة الحركة. هذا أي يوم القيامة، وقرئ:
يوما، أي هذا المذكور واقع يومئذ. لا يَنْطِقُونَ فيه بشيء يستحق الذكر، فإن النطق بما لا ينفع كلا نطق. الْفَصْلِ بين المحق والمبطل. جَمَعْناكُمْ أيها المكذبون من هذه الأمة.
وَالْأَوَّلِينَ من المكذبين قبلكم، فتحاسبون وتعذبون جميعا. فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ أي إن كان لكم حيلة في دفع العذاب عنكم، فافعلوها واحتالوا علي. وهذا تقريع لهم على كيدهم للمؤمنين في الدنيا، وإظهار لعجزهم. وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ عذاب يوم القيامة لمن كذب بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر، إذ لا حيلة لهم في التخلص من العذاب.
المناسبة:
بعد أن هدد الله تعالى الكفار بعذاب يوم الفصل والقيامة، أبان كيفية عذابهم في الآخرة، بزجهم في النيران، وافتضاحهم على رؤوس الأشهاد، حيث لا عذر لهم ولا حجة في قبائحهم، وتعذيبهم بالتقريع والتخجيل، وتلك أنواع ثلاثة أخرى من أنواع تخويف الكفار وتهديدهم.
التفسير والبيان:
أخبر الله تعالى عما يقال يوم القيامة للكفار المكذبين بالمعاد والجزاء والجنة
325
والنار، فقال مبينا النوع الخامس من أنواع التهديد:
انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ أي يقال للكفار من قبل خزنة جهنم:
اركضوا أو سيروا واذهبوا إلى ما كنتم تكذبون به من العذاب الأخروي في الدنيا.
ثم وصف الله تعالى هذا العذاب بأربع صفات، بقوله:
١- انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ هذا تهكم بهم، معناه: سيروا إلى ظل من دخان جهنم متشعب إلى شعب ثلاث أو فرق، فإن لهب النار إذا ارتفع وصعد معه دخان، صار له ثلاث شعب من شدته وقوته. والمراد أنهم يتنقلون من عذاب إلى آخر، وأن العذاب محيط بهم من كل جانب، كما قال تعالى:
أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها [الكهف ١٨/ ٢٩] وسرادق النار: هو الدخان فتكون تسمية النار بالظل مجازا من حيث إنها محيطة بهم من كل جانب، كقوله سبحانه:
لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ، وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ [الزمر ٣٩/ ١٦] وقوله:
يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ [العنكبوت ٢٩/ ٥٥].
٢، ٣- لا ظَلِيلٍ، وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ وهذا أيضا تهكم بهم وتعريض بأن ظلهم غير ظل المؤمنين، فذلك الظل لا يمنع حرّ الشمس، وليس فيه برد ظلال الدنيا، ولا يفيد في رد حرّ جهنم عنكم شيئا لأن هذا الظل في جهنم، فلا يظلهم من حرها، ولا يسترهم من لهيبها، كما جاء في آية أخرى: فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ، وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ، لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ [الواقعة ٥٦/ ٤٢- ٤٤].
واللهب: ما يعلو على النار إذا اضطرمت، من أحمر وأصفر وأخضر.
٤- إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ. كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ أي إن هذه النار يتطاير منها شرر متفرق، كل شرارة من شررها التي ترمي بها كالقصر (البناء العظيم) في العظم والارتفاع، وكالإبل الصفر في اللون والكثرة والتتابع وسرعة
326
الحركة. وقال الفرّاء: الصفر سود الإبل لأنها مشربة بصفرة، لذلك سمت العرب سود الإبل صفرا. والأكثرون على أن المراد بهذه الصفرة سواد يعلوه صفرة. والشرر جمع شرارة: وهو ما تطاير من النار في كل جهة.
والمقصود بالتشبيه الأول بيان أن تلك النار عظيمة جدا، والمقصود بالتشبيه الثاني شدة اشتعالها، والتهكم بهم، كأنه قيل: كنتم تتوقعون من وثنيتكم كرامة ونعمة وجمالا، إلا أن تلك الجمال هو هذه الشرارات التي هي كالجمال، لذا أعقبه بقوله:
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أي عذاب وخزي في يوم القيامة الهائل للمكذبين لرسل الله وآياته، الذين لا مفر لهم من ذلك العذاب.
ثم وصف تعالى ماذا يكون للكفار في ذلك اليوم من ألوان العذاب الأدبية، وهو النوع السادس من أنواع التخويف، فقال:
هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ، وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ أي هذا اليوم لا يتكلمون فيه، لهول ما يرون، وللحيرة والدهشة التي تعتريهم، ولا يأذن الله لهم، فيكون لهم اعتذار، بل قد قامت عليهم الحجة، لذا قال تعالى:
لا تَعْتَذِرُوا، قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ [التوبة ٩/ ٦٦] وقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ، إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [التحريم ٦٦/ ٧].
والمراد بهذا النوع بيان أنه ليس لهم عذر ولا حجة فيما ارتكبوا من المفاسد والقبائح والمنكرات، وأنه لا قدرة لهم على دفع العذاب عن أنفسهم. وبيان هذا النوع للدلالة على شدة أهوال القيامة.
وإنما لم يؤذن لهم في الاعتذار لأنه تعالى قدّم الإنذار في الدنيا، بدليل قوله في مطلع السورة: فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً، عُذْراً أَوْ نُذْراً. ولهذا قال في آخر هذا الإخبار:
327
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أي عذاب يوم القيامة للمكذبين بما أنذرتهم به الرسل من العذاب في الدنيا، إن استمروا على الكفر، وخالفوا أوامر الرسل.
ثم أخبر الله تعالى عن النوع السابع من أنواع تهديد الكفار، فقال:
هذا يَوْمُ الْفَصْلِ، جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ أي ويقول الخالق لهم: هذا يوم الفصل الذي يفصل فيه بين الخلائق، ويتميز فيه الحق من الباطل، جمعناكم بقدرتنا يا معشر كفار قريش وأمثالكم المتأخرين على مرّ الدهور فيه مع الكفار الأولين، وهم كفار الأمم الماضية في صعيد واحد، ولجزاء واحد.
فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ أي إن قدرتم أيها الكفار بحيلة ما على أن تتخلصوا من العذاب، فافعلوا، فإنكم لا تقدرون على ذلك. وهذا نهاية في التقريع والتحقير والتخجيل والتعجيز والتوبيخ وهو من جنس العذاب الروحاني، لذا قال عقيبه:
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أي عذاب يوم القيامة لكل من كذب بالبعث، لأنه ظهر لهم عجزهم وفقد كل أمل لهم بالنجاة من العقاب.
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه ثلاثة أنواع أخرى من تخويف الكفار إضافة للأنواع الأربعة المتقدمة:
النوع الخامس- بيان كيفية عذابهم في الآخرة: يقال للكفار تبكيتا وتهكما وتقريعا من خزنة جهنم: سيروا إلى ما كذبتم به من العذاب وهو النار، فقد شاهدتموها عيانا.
وعذاب النار له أوصاف أربعة: يتشعب ظله أو دخانه إلى ثلاث شعب، كما هو شأن الدخان العظيم إذا ارتفع تشعب، وليس كالظل الذي يقي حرّ الشمس، ولا يدفع من لهب جهنم شيئا، وترمي النار بشرارات، كل شرارة كالقصر:
328
البناء العالي، في العظم والارتفاع، مما يدل على أن تلك النار عظيمة جدا، وهي أيضا كالجمالات الصّفر: وهي الإبل السود، والعرب تسمي السّود من الإبل صفرا مما يدل على أن تلك النار شديدة الاشتعال كثيفة، متتابعة، سريعة الالتهاب.
وذكر القرطبي أن في هذه الآية دليلا على جواز ادّخار الحطب والفحم، وإن لم يكن من القوت، فإنه من مصالح المرء، مما يقتضي أن يكتسبه في غير وقت حاجته ليكون أرخص، وحالة وجوده أمكن، كما كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يدّخر القوت في وقت عموم وجوده من كسبه وماله، وكل شيء محمول عليه «١».
النوع السادس- بطلان الحجة، وفقد العذر، والعجز: أبان تعالى أنه ليس للكفار يوم القيامة عذر ولا حجة فيما ارتكبوا من القبائح، ولا قدرة لهم على دفع العذاب عن أنفسهم، فاجتمع عليهم عذاب التخجيل والعذاب الجسماني وهو مشاهدة النار وأهوالها.
النوع السابع- التعذيب بالتقريع والتخجيل: يقال للكفار يوم القيامة:
هذا اليوم الذي يفصل فيه بين الخلائق، فيتبين المحقّ من المبطل، والذي جمع فيه في صعيد واحد أوائل الكفار وأواخرهم، سواء الذين كذبوا الرسل المتقدمين قبل نبينا، أو كذبوا محمدا صلّى الله عليه وسلّم. وقد تحداهم الله تعالى بأن يجدوا لأنفسهم ملجأ أو وقاية من العذاب على المعاصي التي اقترفوها في الدنيا، ولكنهم يعجزون عن ذلك وعن الدفع عن أنفسهم.
ويكون الفصل فيما بين العباد بعضهم مع بعض من حقوق وظلامات، فهذا يدعي على آخر أنه ظلمه، أو قتله، وآخر يدعي أنه اغتصب منه شيئا أو سرق ماله، وهكذا.
(١) تفسير القرطبي: ١٩/ ١٦٥
329
أما ما يتعلق بحقوق الله تعالى فلا حاجة فيه للفصل، وإنما يلقى العبد الثواب الذي يستحقه على عمله الصالح، والعقاب الذي يجازى به على عمله السيء، إلا أنه فيما يتعلق بجانب العبد، فإنه تقرر عليه أعماله التي عملها، حتى يعترف «١».
الأنواع الباقية من تهديد الكفار وتعذيبهم
[سورة المرسلات (٧٧) : الآيات ٤١ الى ٥٠]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (٤١) وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٤٢) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٤٤) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٥)
كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (٤٦) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٧) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (٤٨) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٩) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (٥٠)
الإعراب:
كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً في موضع الحال من ضمير الْمُتَّقِينَ، المقدر في الظرف الآتي بعده، أي هم مستقرون في ظلال، مقولا لهم ذلك. وهَنِيئاً حال أي متهنئين.
كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا حال من المكذبين، أي الويل ثابت لهم، في حال ما يقال لهم: كلوا وتمتعوا.
البلاغة:
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ، وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ، كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ مقابلة، قابل الجملة الأخيرة بقوله بعدئذ: كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا، إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ.
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ: ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ مجاز مرسل، أطلق الركوع، وأراد به الصلاة، فهو من قبيل إطلاق البعض وإرادة الكل.
(١) تفسير الرازي: ٣٠/ ٢٨١
330
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ، وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ سجع مرصع، وهو توافق الفواصل في الحرف الأخير.
المفردات اللغوية:
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ أي إن المؤمنين المتقين من الشرك، الذين هم في مقابلة المكذبين، هم في ظلال وارفة تحت أشجار متكاثفة في الجنة إذ لا شمس يظل من حرها، وعيون- أي أنهار- نابعة بالماء، ويتمتعون بفواكه مما يشتهون، فهم مستقرون في أنواع الترفّه. وفيه دلالة على أن نعم الجنة بحسب الرغبة والميل، بخلاف الدنيا تكون بحسب ما يجد الناس في الأغلب. والفرق بين الظل والفيء: أن الظل أعم من الفيء، فيقال: ظل الليل وظل الجنة وظل الجدار، أما الفيء: فهو ما زالت عنه الشمس.
كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً أي متهنئين، أي يقال لهم ذلك. بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ من الطاعة. إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أي كما جزينا المتقين نجزي المحسنين. كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا، إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ أي يقال للكفار في الدنيا تهديدا لهم: كلوا ما شئتم في الدنيا، وتمتعوا بنعيمها مدة قليلة من الزمان يعقبها الموت، ثم تنالون عقابكم وننتقم منكم على كفركم وتكذيبكم لرسلنا، فإنكم مشركون بالله، لا تستحقون الإنعام والتكريم. وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ حيث عرّضوا أنفسهم للعذاب الدائم بالتمتع القليل.
ارْكَعُوا صلوا. لا يَرْكَعُونَ لا يصلون، واستدل به على أن الأمر للإيجاب، وأن الكفار مخاطبون بالفروع. فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ أي بأي كلام يصدقون إذا لم يصدقوا بهذا القرآن؟ فهو معجز في ذاته، مشتمل على الحجج الواضحة والمعاني الكريمة، ولا يمكن إيمانهم بعدئذ بغيره من كتب الله، بعد تكذيبهم به.
سبب النزول: نزول الآية (٤٨) :
ارْكَعُوا..:
أخرج ابن المنذر عن مجاهد في قوله: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ: ارْكَعُوا، لا يَرْكَعُونَ قال: نزلت في ثقيف، امتنعوا من الصلاة، فنزل ذلك فيهم. وقال مقاتل: قال لهم النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أسلموا» وأمرهم بالصلاة، فقالوا:
لا ننحني فإنها مسبّة علينا، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا خير في دين ليس فيه ركوع ولا سجود».
331
المناسبة:
بعد أن بيّن الله تعالى أنواع العذاب والخزي والنكال على الكفار، قابل ذلك للعظة والعبرة بأحوال المؤمنين في الآخرة، وبيّن ما لهم من أنواع السعادة والكرامة، فتتضاعف حسرة الكافر، وتتزايد غمومه وهمومه، وهذا من جنس العذاب الروحاني.
ثم وبّخ الله تعالى الكفار وهددهم بزوال نعم الدنيا في وقت قصير، وتعرضهم للآفات العظيمة في الآخرة، ثم ذكرهم بتقصيرهم في طاعة الله، وإهمالهم فريضة الصلاة، وتركهم الإيمان بالقرآن الذي لا جدوى من الإيمان بغيره من الكتب السماوية الأخرى التي بادت وتبدلت ونسخت.
والخلاصة: تضمنت هذه الآيات ثلاثة أنواع أخرى من تخويف الكفار وتعذيبهم.
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى عن عباده المتقين الذين عبدوه بأداء الواجبات، وترك المحرمات، وعن أحوالهم يوم القيامة، فيقول:
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ، وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ أي يكون المتقون في الآخرة في جنات وظلال وارفة تحت الأشجار والقصور، وتحيط بهم العيون الجارية والأنهار المتدفقة، بخلاف ما يكون فيه الكفار الأشقياء من ظل اليحموم وهو الدخان الأسود المنتن، والنار المستعرة بهم.
ونظير الآية: هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ، عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ [يس ٣٦/ ٥٦].
وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ أي ولديهم أنواع من الفواكه والثمار، مما تطلبه
332
أنفسهم، وتستدعيه شهواتهم، فمهما طلبوا وجدوا.
كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي ويقال لهم في الآخرة بدليل قوله: بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ على سبيل الإحسان إليهم والتكريم: كلوا أيها المتقون من طيبات الجنة وفواكهها، واشربوا متهنئين بسبب ما كنتم تعملونه في الدنيا من الأعمال الصالحة. وهذا أمر إكرام، لا أمر تكليف، وهذا أيضا من جنس العذاب الروحاني بالنسبة إلى الكافرين حين يرون الذين اتقوا الشرك في النعيم المقيم.
إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أي هذا جزاؤنا لمن أحسن العمل، ومثل ذلك الجزاء العظيم لهؤلاء المتقين نجزي المحسنين في أعمالهم، فلا نضيع لهم أجرا، كما قال تعالى: إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا [الكهف ١٨/ ٣٠].
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أي عذاب وخزي يوم القيامة للمكذبين بالله ورسله وبما أخبر الله من تكريم هؤلاء المتقين في الآخرة، حيث صاروا في شقاء عظيم، وصار المؤمنون في نعيم مقيم. وهذا هو النوع الثامن من أنواع تهديد الكفار.
ثم خاطب الله تعالى المكذبين بيوم الدين، وأمرهم على سبيل التهديد والوعيد، فقال:
كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا، إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ أي يقال لهم في الدنيا «١» : كلوا من مآكل الحياة ولذائذها، وتمتعوا بخيراتها زمانا قليلا، ومدة قصيرة تزول بانتهاء العمر، ثم تساقون إلى نار جهنم، فإنكم مشركون بالله. وهذا إن خوطبوا به في الآخرة توبيخ وتذكير بحالهم السمجة، وبما جنوا على أنفسهم من إيثار المتاع القليل على النعيم المقيم، وعلل ذلك بكونهم مجرمين إيعادا لكل مجرم.
(١) البحر المحيط ٨/ ٤٠٨
333
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أي عذاب لأولئك المشركين المكذبين بأوامر الله تعالى ونواهيه، وبما أخبرهم به أنه فاعل بهم، كما قال تعالى: نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا، ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ [لقمان ٣١/ ٢٤].
وهذا هو النوع التاسع من أنواع تخويف الكفار، ثم ذكر بعده النوع العاشر، فقال: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ: ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ أي وإذا أمروا بالصلاة لا يصلون، فهم مستكبرون عن طاعة الله تعالى. وهذا ذم على ترك الخشوع والتواضع لله بقبول وحيه وأمره وتكليفه.
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ بأوامر الله سبحانه ونواهيه.
ثم ختم السورة بالتعجب من الكفار، فقال:
فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ أي إذا لم يؤمنوا بهذا القرآن وما فيه من الدلائل على وجود الله تعالى وتوحيده وصدق نبيه صلّى الله عليه وسلّم، فبأي كلام بعده يصدقون؟ فالقرآن فيه كل ما يرشد إلى الخير وسعادة الدارين.
روى ابن أبي حاتم عن أبي هريرة كان إذا قرأ: وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً فقرأ:
فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ؟ قال: فليقل: آمنت بالله وبما أنزل.
فقه الحياة أو الأحكام:
تضمنت هذه الآيات الأنواع الثلاثة الأخيرة من أنواع تخويف الكفار العشرة وتعذيبهم:
النوع الثامن- مضاعفة حسرة الكفار، وتزايد غمومهم وهمومهم، وهو من جنس العذاب الروحاني، فإنهم إذا وجدوا ما أعد الله للمتقين المؤمنين من أنواع السعادة والكرامة، تحسروا واغتموا، وكانت حالهم في غاية الذل والهوان والخزي.
334
لقد أخبر الله تعالى عما يصير إليه المتقون غدا من الاستمتاع والاستقرار بظلال الأشجار وظلال القصور، في مواجهة الشعب الثلاث لظل النار، والتمتع بالفواكه التي يطلبونها ويتمنونها، ويقال لهم غدا: كلوا واشربوا متهنئين، بدل ما يقال للمشركين: فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ. وهذا هو الثواب الذي يثيب الله به الذين أحسنوا في تصديقهم بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وأعمالهم في الدنيا والنوع التاسع- وعيد الكفار وتهديدهم إذ يقال لهم في الدنيا: كلوا وتمتعوا زمنا قليلا، فإنكم مجرمون مشركون بالله، ومجازون بسوء أعمالكم، فقد عرضتم أنفسكم للعذاب لأجل حب الدنيا، والرغبة في طيباتها وشهواتها القليلة الفانية بالنسبة لتلك الآفات العظيمة التي تلقونها يوم القيامة.
والنوع العاشر- توبيخهم وتقريعهم على جهلهم وكفرهم وتعريضهم أنفسهم للعقاب الشديد، وعدم انقيادهم لطاعة الله، وعدم أداء فريضة الصلاة، فإذا أمروا بها لم يؤدوها.
وقد كرر تعالى: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ بعد كل نوع لتأكيد التخويف والوعيد.
ثم ختم الله السورة بعظة بليغة موجزة وهي أنه إن لم يصدقوا بالقرآن الذي هو المعجز والدال قطعا على صدق الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فبأي شيء يصدقون؟!! انتهى هذا الجزء ولله الحمد
335

[الجزء الثلاثون]

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة النّبأ، أو: عمّ
مكيّة، وهي أربعون آية.
تسميتها:
تسمى سورة عم وسورة النبأ لافتتاحها بقول الله تبارك وتعالى:
عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ وهو خبر القيامة والبعث الذي يهتم بشأنه، ويسأل الناس عن وقت حدوثه.
مناسبتها لما قبلها:
تظهر مناسبة هذه السورة لما قبلها وهي المرسلات من وجوه ثلاثة:
١- تشابه السورتين في الكلام عن البعث وإثباته بالدليل، وبيان قدرة الله عليه، وتوبيخ الكفار المكذبين به، ففي المرسلات: أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً وفي هذه قال: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً.. الآيات [٦- ١٦].
٢- اشتراك السورتين في وصف الجنة والنار، ونعيم المتقين وعذاب الكافرين، ووصف يوم القيامة وأهواله.
٣- فصّلت هذه السورة ما أجمل في السورة المتقدمة، فقال تعالى في المرسلات: لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ، لِيَوْمِ الْفَصْلِ، وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ [١٢- ١٤] وقال سبحانه في هذه السورة: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً [١٧] إلى آخر السورة.
5
ما اشتملت عليه السورة:
إن محور السور إثبات البعث بالأدلة المختلفة، لذا ابتدأت السورة بوصف تساؤل المشركين عنه، والإخبار عن يوم القيامة، وما يتبعه من البعث والنشور والجزاء، وأعقبته بتهديد المشركين على إنكارهم إياه: عَمَّ يَتَساءَلُونَ..
[١- ٥].
ثم أقامت الأدلة والبراهين على إمكان البعث، بتعداد مظاهر قدرة الله على الخلق والإبداع وإيجاد مختلف عجائب الكون، مما يدل على إمكان إعادة الناس بعد الموت: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً.. [٦- ١٦].
ثم حددت السورة ميقات البعث وميعاده، وهو يوم الفصل بين الخلائق الذي يجمع فيه الأولون والآخرون: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً..
[١٧- ٢٠].
ثم وصفت ألوان عذاب الكافرين، وأنواع نعيم المتقين، بطريق المقابلة والموازنة، والجمع بين الترغيب والترهيب: إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً.. [٢١- ٣٨].
وختمت السورة بالإخبار بأن هذا اليوم حق لا ريب فيه، وبإنذار الكفار بالعذاب الأليم القريب الذي يتمنون من شدته أن يعود ترابا.
والسورة كلها يشيع فيها جو التهويل والتخويف، والتهديد والإنذار، حتى لكأن التالي لها يكاد يلمس الصور الرهيبة لأحداث القيامة، ويتملكه الذعر والخوف من شدائدها وأحوالها.
6
Icon