تفسير سورة المرسلات

تفسير الرازي
تفسير سورة سورة المرسلات من كتاب مفاتيح الغيب المعروف بـتفسير الرازي .
لمؤلفه فخر الدين الرازي . المتوفي سنة 606 هـ
سورة المرسلات

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة المرسلات
وهي خمسون آية مكية
[سورة المرسلات (٧٧) : الآيات ١ الى ٦]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (١) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (٢) وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (٣) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (٤)
فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (٥) عُذْراً أَوْ نُذْراً (٦)
[في قوله تعالى وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً إلى قوله فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الْخَمْسَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهَا جِنْسًا وَاحِدًا أَوْ أَجْنَاسًا مُخْتَلِفَةً أَمَّا الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ: فَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا بِأَسْرِهَا الْمَلَائِكَةُ فَالْمُرْسَلَاتُ هُمُ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ أَرْسَلَهُمُ اللَّهُ إِمَّا بِإِيصَالِ النِّعْمَةِ إِلَى قَوْمٍ أَوْ لِإِيصَالِ النِّقْمَةِ إِلَى آخَرِينَ، وَقَوْلُهُ: عُرْفاً فِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا:
مُتَتَابِعَةٌ كَشَعْرِ الْعُرْفِ يُقَالُ: جَاءُوا عُرْفًا وَاحِدًا وَهُمْ عَلَيْهِ كَعُرْفِ الضَّبُعِ إِذَا تَأَلَّبُوا عَلَيْهِ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْعُرْفِ الَّذِي هُوَ نَقِيضُ النَّكِرَةِ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَةَ إِنْ كَانُوا بُعِثُوا لِلرَّحْمَةِ، فَهَذَا الْمَعْنَى فِيهِمْ ظَاهِرٌ وَإِنْ كَانُوا لِأَجْلِ الْعَذَابِ فَذَلِكَ الْعَذَابُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا لِلْكُفَّارِ، فَإِنَّهُ مَعْرُوفٌ لِلْأَنْبِيَاءِ وَالْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ انْتَقَمَ اللَّهُ لَهُمْ مِنْهُمْ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا كَأَنَّهُ قِيلَ: وَالْمُرْسَلَاتِ إِرْسَالًا أَيْ مُتَتَابِعَةً وَانْتِصَابُ عُرْفًا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ عَلَى الْحَالِ، وَعَلَى الثَّانِي لِكَوْنِهِ مَفْعُولًا أَيْ أُرْسِلَتْ لِلْإِحْسَانِ وَالْمَعْرُوفِ وَقَوْلُهُ: فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً فِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: يَعْنِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَرْسَلَ أُولَئِكَ الْمَلَائِكَةَ فَهُمْ عَصَفُوا فِي طَيَرَانِهِمْ كَمَا تَعْصِفُ الرِّيَاحُ وَالثَّانِي: أن هؤلاء أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَةَ يَعْصِفُونَ بِرُوحِ الْكَافِرِ يُقَالُ: عَصَفَ بِالشَّيْءِ إِذَا أَبَادَهُ وَأَهْلَكَهُ، يُقَالُ: نَاقَةٌ عَصُوفٌ، أَيْ تَعْصِفُ بِرَاكِبِهَا فَتَمْضِي كَأَنَّهَا رِيحٌ فِي السُّرْعَةِ، وَعَصَفَتِ الْحَرْبُ بِالْقَوْمِ، أَيْ ذَهَبَتْ بِهِمْ، قَالَ الشَّاعِرُ:
فِي فَيْلَقٍ شَهْبَاءُ مَلْمُومَةٌ تَعْصِفُ بِالْمُقْبِلِ وَالْمُدْبِرِ
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَالنَّاشِراتِ نَشْراً مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ نَشَرُوا أَجْنِحَتَهُمْ عِنْدَ انْحِطَاطِهِمْ إِلَى الْأَرْضِ، أَوْ نَشَرُوا الشَّرَائِعَ فِي الْأَرْضِ، أَوْ نَشَرُوا الرَّحْمَةَ أَوِ الْعَذَابَ، أَوِ الْمُرَادُ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ يَنْشُرُونَ/ الْكُتُبَ يَوْمَ الْحِسَابِ، وَهِيَ الْكُتُبُ الَّتِي فِيهَا أَعْمَالُ بَنِي آدَمَ، قَالَ تَعَالَى: وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً [الْإِسْرَاءِ: ١٣] وَبِالْجُمْلَةِ فَقَدْ
764
نَشَرُوا الشَّيْءَ الَّذِي أُمِرُوا بِإِيصَالِهِ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ وَنَشْرِهِ فِيهِمْ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَالْفارِقاتِ فَرْقاً مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يَفْرِقُونَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَقَوْلُهُ: فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يُلْقُونَ الذِّكْرَ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ، ثُمَّ الْمُرَادُ مِنَ الذِّكْرِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُطْلَقَ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ، كَمَا قَالَ: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ [النَّحْلِ: ٢] وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هو القرآن خاصة، وهو قوله: أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا [الْقَمَرِ: ٢٥] وَقَوْلُهُ: وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ [الْقَصَصِ: ٨٦] وَهَذَا الْمُلْقِي وَإِنْ كَانَ هُوَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَحْدَهُ، إِلَّا أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى الْوَاحِدُ بِاسْمِ الْجَمَاعَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّعْظِيمِ.
وَاعْلَمْ أَنَّكَ قَدْ عَرَفْتَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْقَسَمِ التَّنْبِيهُ عَلَى جَلَالَةِ الْمُقْسَمِ بِهِ، وَشَرَفُ الْمَلَائِكَةِ وَعُلُوُّ رُتْبَتِهِمْ أَمْرٌ ظَاهِرٌ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: شِدَّةُ مُوَاظَبَتِهِمْ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ [النحل: ٥٠] ولا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: ٢٧] وَثَانِيهَا: أَنَّهُمْ أَقْسَامٌ: فَمِنْهُمْ مَنْ يُرْسَلُ لِإِنْزَالِ الْوَحْيِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُرْسَلُ لِلُزُومِ بَنِي آدَمَ لِكِتَابَةِ أَعْمَالِهِمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ بِالنَّهَارِ وَطَائِفَةٌ مِنْهُمْ بِاللَّيْلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُرْسَلُ لِقَبْضِ أَرْوَاحِ بَنِي آدَمَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُرْسَلُ بِالْوَحْيِ مِنْ سَمَاءٍ إِلَى أُخْرَى، إِلَى أَنْ يَنْزِلَ بِذَلِكَ الْوَحْيِ مَلَكُ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ، وَمِنْهُمُ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ يَنْزِلُونَ كُلَّ يَوْمٍ مِنَ الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ إِلَى الْكَعْبَةِ عَلَى مَا رُوِيَ ذَلِكَ فِي الْأَخْبَارِ، فَهَذَا مِمَّا يَنْتَظِمُهُ قَوْلُهُ: وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً ثُمَّ مَا فِيهَا مِنْ سُرْعَةِ السَّيْرِ، وَقَطْعِ الْمَسَافَاتِ الْكَثِيرَةِ فِي الْمُدَّةِ الْيَسِيرَةِ، كَقَوْلِهِ: تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [الْمَعَارِجِ: ٤] ثُمَّ مَا فِيهَا مِنْ نَشْرِ أَجْنِحَتِهِمُ الْعَظِيمَةِ عِنْدَ الطَّيَرَانِ، وَنَشْرِ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْهِدَايَةِ وَالْإِرْشَادِ وَالْوَحْيِ وَالتَّنْزِيلِ، وَإِظْهَارِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ بِسَبَبِ إِنْزَالِ ذَلِكَ الْوَحْيِ وَالتَّنْزِيلِ، وَإِلْقَاءِ الذِّكْرِ فِي الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْوَحْيِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمَلَائِكَةُ هُمُ الْوَسَائِطُ بَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَبَيْنَ عِبَادِهِ فِي الفوز فجميع السَّعَادَاتِ الْعَاجِلَةِ وَالْآجِلَةِ وَالْخَيْرَاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ وَالرُّوحَانِيَّةِ، فَلِذَلِكَ أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِمْ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الْخَمْسِ بِأَسْرِهَا الرِّيَاحُ، أَقْسَمَ اللَّهُ بِرِيَاحِ عَذَابٍ أَرْسَلَهَا عُرْفًا، أَيْ مُتَتَابِعَةً كشعر العرف، كما قال: يُرْسِلُ الرِّياحَ [الروم: ٤٦] وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ [الْحِجْرِ: ٢٢] ثُمَّ إِنَّهَا تَشْتَدُّ حَتَّى تَصِيرَ عَوَاصِفَ وَرِيَاحَ رَحْمَةٍ نَشَرَتِ السَّحَابَ فِي الْجَوِّ، كَمَا قَالَ: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ [النمل: ٦٣] وَقَالَ: اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ [الرُّومِ: ٤٨] وَيَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يُقَالَ: الرِّيَاحُ تُعِينُ النَّبَاتَ وَالزَّرْعَ وَالشَّجَرَ عَلَى النُّشُورِ وَالْإِنْبَاتِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا تُلَقِّحُ فَيَبْرُزُ النَّبَاتُ بِذَلِكَ، عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ [الْحِجْرِ: ٢٢] فَبِهَذَا الطَّرِيقِ تَكُونُ الرِّيَاحُ نَاشِرَةً لِلنَّبَاتِ وَفِي كَوْنِ الرِّيَاحِ فَارِقَةً وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّ الرِّيَاحَ تُفَرِّقُ بَعْضَ أَجْزَاءِ السَّحَابِ عَنْ بَعْضٍ وَثَانِيهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَرَّبَ بَعْضَ الْقُرَى بِتَسْلِيطِ الرِّيَاحِ عَلَيْهَا، كَمَا قَالَ: وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا/ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ [الْحَاقَّةِ: ٦] وَذَلِكَ سَبَبٌ لِظُهُورِ الْفَرْقِ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَأَعْدَاءِ اللَّهِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ عِنْدَ حُدُوثِ الرِّيَاحِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَتَرْتِيبِ الْآثَارِ الْعَجِيبَةِ عَلَيْهَا مِنْ تَمَوُّجِ السَّحَابِ وَتَخْرِيبِ الدِّيَارِ تَصِيرُ الْخَلْقُ مُضْطَرِّينَ إِلَى الرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ وَالتَّضَرُّعِ عَلَى بَابِ رَحْمَتِهِ، فَيَحْصُلُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُقِرِّ وَالْمُنْكِرِ وَالْمُوَحِّدِ وَالْمُلْحِدِ، وَقَوْلُهُ: فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً مَعْنَاهُ أَنَّ الْعَاقِلَ إِذَا شَاهَدَ هُبُوبَ الرِّيَاحِ الَّتِي تَقْلِعُ الْقِلَاعَ، وَتَهْدِمُ الصُّخُورَ وَالْجِبَالَ، وَتَرْفَعُ الْأَمْوَاجَ تَمَسَّكَ بِذِكْرِ اللَّهِ وَالْتَجَأَ إِلَى إِعَانَةِ اللَّهِ، فَصَارَتْ تِلْكَ الرِّيَاحُ كَأَنَّهَا أَلْقَتِ الذِّكْرَ وَالْإِيمَانَ وَالْعُبُودِيَّةَ فِي الْقَلْبِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْإِضَافَةَ تَكُونُ عَلَى
765
سَبِيلِ الْمَجَازِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الذِّكْرَ حَصَلَ عِنْدَ حُدُوثِ هَذِهِ.
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: مِنَ النَّاسِ مَنْ حَمَلَ بَعْضَ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الْخَمْسَةِ عَلَى الْقُرْآنِ، وَعِنْدِي أَنَّهُ يُمْكِنُ حَمْلُ جَمِيعِهَا عَلَى الْقُرْآنِ، فَقَوْلُهُ: وَالْمُرْسَلاتِ الْمُرَادُ مِنْهَا الْآيَاتُ الْمُتَتَابِعَةُ الْمُرْسَلَةُ عَلَى لِسَانِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَوْلُهُ: عُرْفاً أَيْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ بِكُلِّ عُرْفٍ وَخَيْرٍ وَكَيْفَ لَا وَهِيَ الْهَادِيَةُ إِلَى سَبِيلِ النَّجَاةِ والموصلة إلى مجامع الخيرات وفَالْعاصِفاتِ عَصْفاً فَالْمُرَادُ أَنَّ دَوْلَةَ الْإِسْلَامِ وَالْقُرْآنِ كَانَتْ ضَعِيفَةً فِي الْأَوَّلِ، ثُمَّ عَظُمَتْ وَقَهَرَتْ سَائِرَ الْمِلَلِ وَالْأَدْيَانِ، فَكَأَنَّ دَوْلَةَ الْقُرْآنِ عَصَفَتْ بِسَائِرِ الدُّوَلِ وَالْمِلَلِ وَالْأَدْيَانِ وَقَهَرَتْهَا، وَجَعَلَتْهَا بَاطِلَةً دَائِرَةً، وَقَوْلُهُ: وَالنَّاشِراتِ نَشْراً الْمُرَادُ أَنَّ آيَاتِ الْقُرْآنِ نَشَرَتْ آثَارَ الْحِكْمَةِ وَالْهِدَايَةِ فِي قُلُوبِ الْعَالَمِينَ شَرْقًا وَغَرْبًا، وَقَوْلُهُ: فَالْفارِقاتِ فَرْقاً فَذَلِكَ ظَاهِرٌ، لِأَنَّ آيَاتِ الْقُرْآنِ هِيَ الَّتِي تَفْرِقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَلِذَلِكَ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الْقُرْآنَ فُرْقَانًا، وَقَوْلُهُ: فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً فَالْأَمْرُ فِيهِ ظَاهِرٌ، لِأَنَّ الْقُرْآنَ ذِكْرٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ [ص: ١] وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزُّخْرُفِ: ٤٤] وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ، [الأنبياء: ٥٠] وتذكرة كَمَا قَالَ: وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ [الْحَاقَّةِ: ٤٨] وَذِكْرَى كَمَا قَالَ: ذِكْرى لِلْعالَمِينَ [الْأَنْعَامِ: ٩٠] فَظَهَرَ أَنَّهُ يُمْكِنُ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الْخَمْسَةِ بِالْقُرْآنِ، وَهَذَا وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ أَحَدٌ فَإِنَّهُ مُحْتَمَلٌ.
الْقَوْلُ الرَّابِعُ: يُمْكِنُ حَمْلُهَا أَيْضًا عَلَى بَعْثَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً هُمُ الْأَشْخَاصُ الَّذِينَ أُرْسِلُوا بِالْوَحْيِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى كُلِّ خَيْرٍ وَمَعْرُوفٍ، فَإِنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّهُمْ أُرْسِلُوا بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَهُوَ مِفْتَاحُ كُلِّ خَيْرٍ وَمَعْرُوفٍ فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً مَعْنَاهُ أَنَّ أَمْرَ كُلِّ رَسُولٍ يَكُونُ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ حَقِيرًا ضَعِيفًا، ثُمَّ يَشْتَدُّ وَيَعْظُمُ وَيَصِيرُ فِي الْقُوَّةِ كَعَصْفِ الرِّيَاحِ وَالنَّاشِراتِ نَشْراً الْمُرَادُ مِنْهُ انْتِشَارُ دِينِهِمْ وَمَذْهَبِهِمْ وَمَقَالَتِهِمْ فَالْفارِقاتِ فَرْقاً الْمُرَادُ أَنَّهُمْ يَفْرِقُونَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالتَّوْحِيدِ وَالْإِلْحَادِ فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً الْمُرَادُ أَنَّهُمْ يَدْعُونَ الْخَلْقَ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ، وَيَأْمُرُونَهُمْ بِهِ وَيَحُثُّونَهُمْ عَلَيْهِ.
الْقَوْلُ الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَكُونُ مُشْتَغِلًا بِمَصَالِحِ الدُّنْيَا مُسْتَغْرِقًا فِي طَلَبِ لَذَّاتِهَا وَرَاحَاتِهَا، فَفِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ يَرِدُ فِي قَلْبِهِ دَاعِيَةُ الْإِعْرَاضِ عَنِ الدُّنْيَا وَالرَّغْبَةِ فِي خِدْمَةِ الْمَوْلَى، فَتِلْكَ الدَّوَاعِي هِيَ الْمُرْسَلَاتُ عُرْفًا، ثُمَّ هَذِهِ الْمُرْسَلَاتُ لَهَا أَثَرَانِ أَحَدُهُمَا: إِزَالَةُ حُبِّ/ مَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى عَنِ الْقَلْبِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً وَالثَّانِي: ظُهُورُ أَثَرِ تِلْكَ الدَّاعِيَةِ فِي جَمِيعِ الْجَوَارِحِ وَالْأَعْضَاءِ حَتَّى لَا يَسْمَعَ إِلَّا اللَّهَ، وَلَا يُبْصِرَ إِلَّا اللَّهَ، وَلَا يَنْظُرَ إِلَّا اللَّهَ، فَذَلِكَ هُوَ قَوْلُهُ: وَالنَّاشِراتِ نَشْراً ثُمَّ عِنْدَ ذَلِكَ يَنْكَشِفُ لَهُ نُورُ جَلَالِ اللَّهِ فَيَرَاهُ مَوْجُودًا، وَيَرَى كُلَّ مَا سِوَاهُ مَعْدُومًا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: فَالْفارِقاتِ فَرْقاً ثُمَّ يَصِيرُ الْعَبْدُ كَالْمُشْتَهِرِ فِي مَحَبَّتِهِ، وَلَا يَبْقَى فِي قَلْبِهِ وَلِسَانِهِ إِلَّا ذِكْرُهُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْوُجُوهَ الثَّلَاثَةَ الْأَخِيرَةَ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَذْكُورَةٍ إِلَّا أَنَّهَا مُحْتَمَلَةٌ جِدًّا. وَأَمَّا الِاحْتِمَالُ الثَّانِي:
وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْكَلِمَاتِ الْخَمْسِ شَيْئًا وَاحِدًا، فَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: مَا ذَكَرَهُ الزَّجَّاجُ وَاخْتِيَارُ الْقَاضِي، وَهُوَ أَنَّ الثَّلَاثَةَ الْأُوَلَ هِيَ الرِّيَاحُ، فَقَوْلُهُ: وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً هِيَ الرِّيَاحُ التي تتصل على العرف المعتاد وفَالْعاصِفاتِ مَا يَشْتَدُّ مِنْهُ، وَالنَّاشِراتِ مَا يَنْشُرُ السَّحَابَ. أَمَّا قَوْلُهُ: فَالْفارِقاتِ فَرْقاً فَهُمُ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالْحَلَّالِ وَالْحَرَامِ، بِمَا يَتَحَمَّلُونَهُ مِنَ الْقُرْآنِ وَالْوَحْيِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ:
766
فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً أَنَّهَا الْمَلَائِكَةُ الْمُتَحَمِّلَةُ لِلذِّكْرِ الْمُلْقِيَةُ ذَلِكَ إِلَى الرُّسُلِ، فَإِنْ قِيلَ: وَمَا الْمُجَانَسَةُ بَيْنَ الرِّيَاحِ وَبَيْنَ الْمَلَائِكَةِ حَتَّى يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا فِي الْقَسَمِ؟ قُلْنَا: الْمَلَائِكَةُ رُوحَانِيُّونَ، فَهُمْ بِسَبَبِ لَطَافَتِهِمْ وَسُرْعَةِ حَرَكَاتِهِمْ كَالرِّيَاحِ الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الِاثْنَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ هُمَا الرِّيَاحُ، فَقَوْلُهُ: وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً هُمَا الرِّيَاحُ، وَالثَّلَاثَةُ الْبَاقِيَةُ الْمَلَائِكَةُ، لِأَنَّهَا تَنْشُرُ الْوَحْيَ وَالدِّينَ، ثُمَّ لِذَلِكَ الْوَحْيِ أَثَرَانِ أَحَدُهُمَا: حُصُولُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُحِقِّ وَالْمُبْطِلِ وَالثَّانِي: ظُهُورُ ذِكْرِ اللَّهِ فِي الْقُلُوبِ وَالْأَلْسِنَةِ، وَهَذَا الْقَوْلُ مَا رَأَيْتُهُ لِأَحَدٍ، وَلَكِنَّهُ ظَاهِرُ الِاحْتِمَالِ أَيْضًا، وَالَّذِي يُؤَكِّدُهُ أَنَّهُ قَالَ: وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً، فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً عَطَفَ الثَّانِيَ عَلَى الْأَوَّلِ بِحَرْفِ الْفَاءِ، ثُمَّ ذَكَرَ الْوَاوَ فَقَالَ: وَالنَّاشِراتِ نَشْراً وَعَطَفَ الِاثْنَيْنِ الْبَاقِيَيْنِ عَلَيْهِ بِحَرْفِ الْفَاءِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلَانِ مُمْتَازَيْنِ عَنِ الثلاثة الأخيرة القول الثالث: يمكن أيضا أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ بِالْأَوَّلَيْنِ الْمَلَائِكَةُ، فَقَوْلُهُ:
وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ، وَقَوْلُهُ: فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ، وَالثَّلَاثَةُ الْبَاقِيَةُ آيَاتُ الْقُرْآنِ، لِأَنَّهَا تَنْشُرُ الْحَقَّ فِي الْقُلُوبِ وَالْأَرْوَاحِ، وَتُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَتُلْقِي الذِّكْرَ فِي الْقُلُوبِ وَالْأَلْسِنَةِ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَيْضًا مَا رَأَيْتُهُ لِأَحَدٍ، وَهُوَ مُحْتَمَلٌ، وَمَنْ وَقَفَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ أَمْكَنَهُ أَنْ يذكر فيه وجوها، والله أعلم بمراده.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْقَفَّالُ: الْوَجْهُ فِي دُخُولِ الْفَاءِ فِي بَعْضِ مَا وَقَعَ بِهِ الْقَسَمُ، وَالْوَاوِ فِي بَعْضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الْأَصْلِ، وَهُوَ أَنَّ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ الْفَاءُ تَقْتَضِي الْوَصْلَ وَالتَّعَلُّقَ، فَإِذَا قِيلَ: قَامَ زَيْدٌ فَذَهَبَ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ قَامَ لِيَذْهَبَ فَكَانَ قِيَامُهُ سَبَبًا لِذَهَابِهِ وَمُتَّصِلًا بِهِ، وَإِذَا قِيلَ: قَامَ وَذَهَبَ فَهُمَا خَبَرَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَائِمٌ بِنَفْسِهِ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْآخَرِ، ثُمَّ إِنَّ الْقَفَّالَ لَمَّا مَهَّدَ هَذَا الْأَصْلَ فَرَّعَ الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِوُجُوهٍ لَا يَمِيلُ قَلْبِي إِلَيْهَا، وَأَنَا أُفَرِّعُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ فَأَقُولُ: أَمَّا مَنْ/ جَعَلَ الْأَوَّلَيْنِ صِفَتَيْنِ لِشَيْءٍ وَالثَّلَاثَةَ الْأَخِيرَةَ صِفَاتٍ لِشَيْءٍ وَاحِدٍ، فَالْإِشْكَالُ عَنْهُ زَائِلٌ، وَأَمَّا مَنْ جَعَلَ الْكُلَّ صِفَاتٍ لِشَيْءٍ وَاحِدٍ، فَنَقُولُ: إِنْ حَمَلْنَاهَا عَلَى الْمَلَائِكَةِ، فَالْمَلَائِكَةُ إِذَا أُرْسِلَتْ طَارَتْ سَرِيعًا، وَذَلِكَ الطَّيَرَانُ هُوَ الْعَصْفُ، فَالْعَصْفُ مُرَتَّبٌ عَلَى الْإِرْسَالِ فَلَا جَرَمَ ذَكَرَ الْفَاءَ، أَمَّا النَّشْرُ فَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْإِرْسَالِ، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ أَوَّلَ مَا يُبَلِّغُونَ الْوَحْيَ إِلَى الرُّسُلِ لَا يَصِيرُ فِي الْحَالِ ذَلِكَ الدِّينُ مَشْهُورًا مُنْتَشِرًا، بَلِ الْخَلْقُ يُؤْذُونَ الْأَنْبِيَاءَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ وَيَنْسُبُونَهُمْ إِلَى الْكَذِبِ وَالسِّحْرِ وَالْجُنُونِ، فَلَا جَرَمَ لم يذكر الفاء التي تفيد بل ذكر الواو، بلى إِذَا حَصَلَ النَّشْرُ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ حُصُولُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْحَقِّ، وَالْبَاطِلِ وَظُهُورُ ذِكْرِ الْحَقِّ عَلَى الْأَلْسِنَةِ فَلَا جَرَمَ ذَكَرَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ بِحَرْفِ الْفَاءِ، فَكَأَنَّهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قِيلَ: يَا مُحَمَّدُ إِنِّي أَرْسَلْتُ الْمَلَكَ إِلَيْكَ بِالْوَحْيِ الَّذِي هُوَ عُنْوَانُ كُلِّ سَعَادَةٍ، وَفَاتِحَةُ كُلِّ خَيْرٍ، وَلَكِنْ لَا تَطْمَعْ فِي أَنْ نَنْشُرَ ذَلِكَ الْأَمْرَ في الحالة، وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنَ الصَّبْرِ وَتَحَمُّلِ الْمَشَقَّةِ، ثُمَّ إِذَا جَاءَ وَقْتُ النُّصْرَةِ أَجْعَلُ دِينَكَ ظَاهِرًا مُنْتَشِرًا فِي شَرْقِ الْعَالَمِ وَغَرْبِهِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ الِانْتِشَارِ يَظْهَرُ الْفَرْقُ فَتَصِيرُ الْأَدْيَانُ الْبَاطِلَةُ ضَعِيفَةً سَاقِطَةً، وَدِينُكَ هُوَ الدِّينَ الْحَقَّ ظَاهِرًا غَالِبًا، وَهُنَالِكَ يُظْهِرُ ذَلِكَ اللَّهُ عَلَى الْأَلْسِنَةِ، وفي المحاريب وعلى المنابر ويصير العالم مملوا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ، فَهَذَا إِذَا حَمَلْنَا هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الْخَمْسَ عَلَى الْمَلَائِكَةِ، وَمَنْ عَرَفَ هَذَا الْوَجْهَ أَمْكَنَهُ ذِكْرُ مَا شَابَهَهُ فِي الرِّيَاحِ وَسَائِرِ الْوُجُوهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
أَمَّا قَوْلُهُ: عُذْراً أَوْ نُذْراً فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِيهِمَا قِرَاءَتَانِ التَّخْفِيفُ وَهُوَ قِرَاءَةُ أَبِي عَمْرٍو وَعَاصِمٍ مِنْ رِوَايَةِ حَفْصٍ وَالْبَاقُونَ قَرَءُوا
767
بِالتَّثْقِيلِ، أَمَّا التَّخْفِيفُ فَلَا نِزَاعَ فِي كَوْنِهِ مَصْدَرًا، وَالْمَعْنَى إِعْذَارًا وَإِنْذَارًا، وَأَمَّا التَّثْقِيلُ فَزَعَمَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَنَّهُ جَمْعٌ وَلَيْسَ بِمَصْدَرٍ، وَأَمَّا الْأَخْفَشُ وَالزَّجَّاجُ فَزَعَمَا أَنَّهُ مَصْدَرٌ، وَالتَّثْقِيلُ وَالتَّخْفِيفُ لُغَتَانِ، وَقَرَّرَ أَبُو عَلِيٍّ قَوْلَ الْأَخْفَشِ وَالزَّجَّاجِ، وَقَالَ: الْعُذُرُ وَالْعَذِيرُ وَالنُّذُرُ وَالنَّذِيرُ مِثْلُ النُّكُرِ وَالنَّكِيرِ، ثُمَّ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَيَجُوزُ فِي قِرَاءَةِ مَنْ ثَقَّلَ أَنْ يَكُونَ عُذُرًا جَمْعَ عَاذِرٍ كَشُرُفٍ وَشَارِفٍ، وَكَذَلِكَ النُّذُرُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ نَذِيرٍ، قَالَ تَعَالَى: هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى [النَّجْمِ: ٥٦].
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي النَّصْبِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، أَمَّا عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ مَصْدَرًا فَوَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا عَلَى الْبَدَلِ مِنْ قَوْلِهِ: ذِكْرًا وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا لَهُ، وَالْمَعْنَى وَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا لِلْإِعْذَارِ وَالْإِنْذَارِ، وَأَمَّا عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ جَمْعًا، فَنُصِبَ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْإِلْقَاءِ وَالتَّقْدِيرُ فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا حَالَ كونهم عاذرين ومنذرين.
[سورة المرسلات (٧٧) : آية ٧]
إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (٧)
جَوَابُ الْقَسَمِ وَالْمَعْنَى، إِنَّ الَّذِي تُوعَدُونَ بِهِ مِنْ مَجِيءِ/ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَكَائِنٌ نَازِلٌ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: الْمُرَادُ أَنَّ كُلَّ مَا تُوعَدُونَ بِهِ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ لَوَاقِعٌ، وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِالتَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ عَقِيبَ هَذِهِ الْآيَاتِ، عَلَامَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ الْقِيَامَةُ فَقَطْ، ثُمَّ إِنَّهُ ذَكَرَ عَلَامَاتِ وُقُوعِ هذا اليوم.
أولها: قوله تعالى:
[سورة المرسلات (٧٧) : آية ٨]
فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (٨)
وَذَكَرْنَا تَفْسِيرَ الطَّمْسِ عِنْدَ قَوْلِهِ: رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ [يُونُسَ: ٨٨] وَبِالْجُمْلَةِ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مُحِقَتْ ذَوَاتُهَا، وَهُوَ موافق لقوله: انْتَثَرَتْ [الإنفطار: ٢] وانْكَدَرَتْ [التكوير: ٢] وَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مُحِقَتْ أَنْوَارُهَا، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ فِيهِ إِلَى الْإِضْمَارِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُمْحَقَ نُورُهَا ثُمَّ تَنْتَثِرَ مَمْحُوقَةَ النُّورِ.
وثانيها:
[سورة المرسلات (٧٧) : آية ٩]
وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ (٩)
الْفَرْجُ الشَّقُّ يُقَالُ: فَرَّجَهُ اللَّهُ فَانْفَرَجَ، وَكُلُّ مَشْقُوقٍ فَرْجٌ، فَهَهُنَا قَوْلُهُ: فرجت أي شقت نظيره وإِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ [الِانْشِقَاقِ: ١] ويَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ [الْفُرْقَانِ: ٢٥] وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: مَعْنَاهُ فُتِحَتْ، نَظِيرُهُ وَفُتِحَتِ السَّماءُ [النبأ: ١٩] قَالَ الشَّاعِرُ:
الْفَارِجِي بَابَ الْأَمِيرِ الْمُبْهَمِ
وَثَالِثُهَا: قوله:
[سورة المرسلات (٧٧) : آية ١٠]
وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ (١٠)
وَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: نُسِفَتْ كَالْحَبِّ الْمُغَلَّثِ إِذَا نُسِفَ بِالْمِنْسَفِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ [طه: ٩٧] وَنَظِيرُهُ وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا [الْوَاقِعَةِ: ٥] وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا [الْمُزَّمِّلِ: ١٤] فَقُلْ
يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً
[طه: ١٠٥] وَالثَّانِي: اقْتُلِعَتْ بِسُرْعَةٍ مِنْ أَمَاكِنِهَا مِنِ انْتَسَفْتُ الشَّيْءَ إِذَا اخْتَطَفْتَهُ، وقرئ طُمِسَتْ وفُرِجَتْ ونُسِفَتْ مشددة.
ورابعها: قوله تعالى:
[سورة المرسلات (٧٧) : آية ١١]
وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (١١)
وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أُقِّتَتْ أَصْلُهَا وُقِّتَتْ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: قِرَاءَةُ أَبِي عَمْرٍو وُقِّتَتْ بِالْوَاوِ وَثَانِيهَا: أَنَّ أَصْلَ الْكَلِمَةِ مِنَ الْوَقْتِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ كُلَّ وَاوٍ انْضَمَّتْ وَكَانَتْ ضَمَّتُهَا لَازِمَةً فَإِنَّهَا تُبْدَلُ عَلَى الِاطِّرَادِ هَمْزَةً أَوَّلًا وَحَشْوًا، وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ تَقُولَ: صَلَّى الْقَوْمُ إِحْدَانًا، وَهَذِهِ أُجُوهٌ حِسَانٌ وَأَدْؤُرٌ فِي جَمْعِ دَارٍ، وَالسَّبَبُ فِيهِ أن الضمة من جنس الواو، فالجمع بينهما يَجْرِي مَجْرَى جَمْعِ الْمِثْلَيْنِ فَيَكُونُ ثَقِيلًا، وَلِهَذَا السَّبَبِ كَانَ كَسْرُ الْيَاءِ ثَقِيلًا.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ [الْبَقَرَةِ: ٢٣٧] فَلَا يَجُوزُ فِيهِ الْبَدَلُ لِأَنَّ الضَّمَّةَ غَيْرُ لَازِمَةٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَسُوغُ فِي نَحْوِ قولك: هذا وعد أَنْ تُبْدِلَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي التَّأْقِيتِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَالزَّجَّاجِ أَنَّهُ تَبْيِينُ الْوَقْتِ الَّذِي فِيهِ يَحْضُرُونَ لِلشَّهَادَةِ عَلَى أُمَمِهِمْ، وَهَذَا ضَعِيفٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ جُعِلَتْ عَلَامَاتٍ/ لِقِيَامِ الْقِيَامَةِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: إِذَا كَانَ كَذَا وَكَذَا كَانَتِ الْقِيَامَةُ، وَلَا يَلِيقُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ أَنْ يُقَالَ: وَإِذَا بَيَّنَ لَهُمُ الْوَقْتَ الَّذِي يَحْضُرُونَ فِيهِ لِلشَّهَادَةِ عَلَى أُمَمِهِمْ قَامَتِ الْقِيَامَةُ لِأَنَّ ذَلِكَ الْبَيَانَ كَانَ حَاصِلًا فِي الدنيا ولأن الثلاثة المتقدمة هي الطَّمْسُ وَالْفَرْجُ وَالنَّسْفُ مُخْتَصَّةٌ بِوَقْتِ قِيَامِ الْقِيَامَةِ، فَكَذَا هَذَا التَّوْقِيتُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُخْتَصًّا بِوَقْتِ قِيَامِ الْقِيَامَةِ الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا التَّأْقِيتِ تَحْصِيلُ الْوَقْتِ وَتَكْوِينُهُ، وَهَذَا أَقْرَبُ أَيْضًا إِلَى مُطَابَقَةِ اللَّفْظِ، لِأَنَّ بِنَاءَ التَّفْعِيلَاتِ عَلَى تَحْصِيلِ تِلْكَ الْمَاهِيَّاتِ، فَالتَّسْوِيدُ تَحْصِيلُ السَّوَادِ وَالتَّحْرِيكُ تَحْصِيلُ الْحَرَكَةِ، فَكَذَا التَّأْقِيتُ تَحْصِيلُ الْوَقْتِ ثُمَّ إِنَّهُ لَيْسَ فِي اللَّفْظِ بَيَانُ أَنَّهُ تَحْصِيلٌ لِوَقْتِ أَيِّ شَيْءٍ، وَإِنَّمَا لَمْ يُبَيِّنْ ذَلِكَ وَلَمْ يُعَيِّنْ لِأَجْلِ أَنْ يَذْهَبَ الْوَهْمُ إِلَى كُلِّ جَانِبٍ فَيَكُونُ التَّهْوِيلُ فِيهِ أَشَدَّ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ تَكْوِينَ الْوَقْتِ الَّذِي يَحْضُرُونَ فِيهِ لِلشَّهَادَةِ عَلَى أُمَمِهِمْ وَأَنْ يَكُونَ هُوَ الْوَقْتَ الَّذِي يَجْتَمِعُونَ فِيهِ لِلْفَوْزِ بِالثَّوَابِ، وَأَنْ يَكُونَ هُوَ وَقْتَ سُؤَالِ الرُّسُلِ عَمَّا أُجِيبُوا بِهِ وَسُؤَالِ الْأُمَمِ عَمَّا أَجَابُوهُمْ، كَمَا قال: فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [الْأَعْرَافِ: ٦] وَأَنْ يَكُونَ هُوَ الْوَقْتَ الَّذِي يُشَاهِدُونَ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ وَالْعَرْضَ وَالْحِسَابَ وَالْوَزْنَ وَسَائِرَ أَحْوَالِ الْقِيَامَةِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ [الزمر: ٦٠].
[سورة المرسلات (٧٧) : آية ١٢]
لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (١٢)
أَيْ أُخِّرَتْ كَأَنَّهُ تَعَالَى يُعَجِّبُ الْعِبَادَ مِنْ تَعْظِيمِ ذَلِكَ الْيَوْمِ فَقَالَ: لِأَيِّ يَوْمٍ أُخِّرَتِ الْأُمُورُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِهَؤُلَاءِ.
وَهِيَ تَعْذِيبُ مَنْ كَذَّبَهُمْ وَتَعْظِيمُ مَنْ آمَنَ بِهِمْ وَظُهُورُ مَا كَانُوا يَدْعُونَ الْخَلْقَ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ مِنَ الْأَهْوَالِ وَالْعَرْضِ وَالْحِسَابِ وَنَشْرِ الدَّوَاوِينِ وَوَضْعِ الْمَوَازِينِ.
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ ذَلِكَ فقال:

[سورة المرسلات (٧٧) : آية ١٣]

لِيَوْمِ الْفَصْلِ (١٣)
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: يَوْمُ يَفْصِلُ الرَّحْمَنُ بَيْنَ الْخَلَائِقِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ [الدُّخَانِ: ٤٠].
ثم أتبع ذلك تعظيما ثانيا فقال:
[سورة المرسلات (٧٧) : آية ١٤]
وَما أَدْراكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (١٤)
أَيْ وَمَا عِلْمُكَ بِيَوْمِ الْفَصْلِ وَشِدَّتِهِ وَمَهَابَتِهِ.
ثُمَّ أَتْبَعَهُ بتهويل ثالث فقال:
[سورة المرسلات (٧٧) : آية ١٥]
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٥)
أَيْ لِلْمُكَذِّبِينَ بِالتَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ وَبِكُلِّ مَا وَرَدَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السلام وأخبروا عنه، بقي هاهنا سُؤَالَانِ.
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: كَيْفَ وَقَعَ النَّكِرَةُ مُبْتَدَأً فِي قَوْلِهِ: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ؟ الْجَوَابُ: هُوَ فِي أَصْلِهِ مَصْدَرٌ مَنْصُوبٌ سَادٌّ مَسَدَّ فِعْلِهِ، وَلَكِنَّهُ عُدِلَ بِهِ إِلَى الرَّفْعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى مَعْنَى ثَبَاتِ الْهَلَاكِ/ وَدَوَامِهِ لِلْمَدْعُوِّ عَلَيْهِ، وَنَحْوُهُ سَلامٌ عَلَيْكُمْ [الزمر: ٧٣] وَيَجُوزُ وَيْلًا بِالنَّصْبِ، وَلَكِنْ لَمْ يُقْرَأْ بِهِ.
السؤال الثاني: أين جوابه قَوْلِهِ: فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ؟ الْجَوَابُ: مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: التَّقْدِيرُ: إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ، إِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ، وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ يَقَعُ فِي قَوْلِهِ: فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ، الثَّانِي: أَنَّ الْجَوَابَ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ وَإِذَا وَإِذَا، فَحِينَئِذٍ تقع المجازاة بالأعمال وتقوم القيامة.
[سورة المرسلات (٧٧) : الآيات ١٦ الى ١٩]
أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (١٦) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (١٧) كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (١٨) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٩)
اعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الصُّورَةِ تَخْوِيفُ الْكُفَّارِ وَتَحْذِيرُهُمْ عَنِ الْكُفْرِ.
فَالنَّوْعُ الْأَوَّلُ: مِنَ التَّخْوِيفِ أَنَّهُ أَقْسَمَ عَلَى أَنَّ الْيَوْمَ الَّذِي يُوعَدُونَ بِهِ، وَهُوَ يَوْمُ الْفَصْلِ وَاقِعٌ ثُمَّ هَوَّلَ فَقَالَ: وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ [المرسلات: ١٤] ثُمَّ زَادَ فِي التَّهْوِيلِ فَقَالَ: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [المرسلات: ١٥].
وَالنَّوْعُ الثَّانِي مِنَ التَّخْوِيفِ: مَا ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ أَهْلَكَ الْكَفَرَةَ الْمُتَقَدِّمِينَ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ، فَإِذَا كَانَ الْكُفْرُ حَاصِلًا فِي هَؤُلَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يُهْلِكَهُمْ أَيْضًا ثُمَّ قَالَ: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ كَأَنَّهُ يَقُولُ، أَمَّا الدُّنْيَا فَحَاصِلُهُمُ الْهَلَاكُ، وَأَمَّا الْآخِرَةُ فَالْعَذَابُ الشَّدِيدُ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ [الْحَجِّ: ١١] وَفِي الْآيَةِ سُؤَالَانِ الْأَوَّلُ: مَا الْمُرَادُ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ؟ الْجَوَابُ: فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ
أَهْلَكَ الْأَوَّلِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ ثُمَّ أَتْبَعَهُمُ الْآخِرِينَ قَوْمَ شُعَيْبٍ وَلُوطٍ وَمُوسَى كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ وَهُمْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ، وَهَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ: نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ بِلَفْظِ الْمُضَارِعِ فَهُوَ يَتَنَاوَلُ الْحَالَ وَالِاسْتِقْبَالَ وَلَا يَتَنَاوَلُ الْمَاضِيَ أَلْبَتَّةَ الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَوَّلِينَ جَمِيعُ الْكُفَّارِ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَوْلُهُ: ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ عَلَى مَعْنَى سَنَفْعَلُ ذَلِكَ وَنُتْبِعُ الْأَوَّلَ الْآخِرَ، وَيَدُلُّ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ سَنُتْبِعُهُمُ، فَإِنْ قِيلَ: قَرَأَ الْأَعْرَجُ ثُمَّ نُتْبِعْهُمُ بِالْجَزْمِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى الِاشْتِرَاكِ فِي أَلَمْ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْمُرَادُ بِهِ الْمَاضِيَ لَا الْمُسْتَقْبَلَ، قُلْنَا: الْقِرَاءَةُ الثَّابِتَةُ بِالتَّوَاتُرِ نُتْبِعُهُمُ بِحَرَكَةِ الْعَيْنِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْمُسْتَقْبَلَ، فَلَوِ اقْتَضَتِ الْقِرَاءَةُ بِالْجَزْمِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُوَ الْمَاضِيَ لَوَقَعَ التَّنَافِي بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ، وَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ.
فَعَلِمْنَا أن تسكين العين ليس للجزم لِلتَّخْفِيفِ كَمَا رُوِيَ فِي بَيْتِ امْرِئِ الْقَيْسِ:
وَالْيَوْمَ أُشْرَبْ غَيْرَ مُسْتَحْقِبٍ
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ يَفْعَلُ بِهَؤُلَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِثْلَ مَا يَفْعَلُ بِأُولَئِكَ الْمُتَقَدِّمِينَ قَالَ: كَذلِكَ/ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ أَيْ هَذَا الْإِهْلَاكُ إِنَّمَا نَفْعَلُهُ بِهِمْ لكونهم مجرمين، فلا جرم فِي جَمِيعِ الْمُجْرِمِينَ، لِأَنَّ عُمُومَ الْعِلَّةِ يَقْتَضِي عُمُومَ الْحُكْمِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أَيْ هَؤُلَاءِ وَإِنْ أُهْلِكُوا وَعُذِّبُوا فِي الدُّنْيَا، فَالْمُصِيبَةُ الْعُظْمَى وَالطَّامَّةُ الْكُبْرَى مُعَدَّةٌ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: الْمُرَادُ مِنَ الْإِهْلَاكِ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ هُوَ مُطْلَقُ الْإِمَاتَةِ أَوِ الْإِمَاتَةُ بِالْعَذَابِ؟
فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ هُوَ الْأَوَّلَ لَمْ يَكُنْ تَخْوِيفًا لِلْكُفَّارِ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ حَاصِلٌ لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، فَلَا يَصْلُحُ تَحْذِيرًا لِلْكَافِرِ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ هُوَ الثَّانِيَ وَهُوَ الْإِمَاتَةُ بِالْعَذَابِ، فَقَوْلُهُ: ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ اللَّهُ قَدْ فَعَلَ بِكُفَّارِ قُرَيْشٍ مِثْلَ ذَلِكَ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ، وَأَيْضًا فَلِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ:
وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الْأَنْفَالِ: ٣٣] الْجَوَابُ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْإِمَاتَةَ بِالتَّعْذِيبِ، وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ فِي حَقِّ قُرَيْشٍ وَهُوَ يَوْمُ بَدْرٍ؟ سَلَّمْنَا ذَلِكَ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ الْإِهْلَاكِ مَعْنًى ثَالِثًا مُغَايِرًا لِلْأَمْرَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرُوهُمَا وَهُوَ الْإِمَاتَةُ الْمُسْتَعْقِبَةُ لِلذَّمِّ وَاللَّعْنِ؟ فكأنه قيل: إن أولئك المتقدمين لحصرهم عَلَى الدُّنْيَا عَانَدُوا الْأَنْبِيَاءَ وَخَاصَمُوهُمْ، ثُمَّ مَاتُوا فَقَدْ فَاتَتْهُمُ الدُّنْيَا وَبَقِيَ اللَّعْنُ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْعُقُوبَةُ الْأُخْرَوِيَّةُ دَائِمًا سَرْمَدًا، فَهَكَذَا يَكُونُ حَالُ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ الْمَوْجُودِينَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ مِثْلَ هذا الكلام من أعظم وجوه الزجر.
[سورة المرسلات (٧٧) : الآيات ٢٠ الى ٢٤]
أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٢٠) فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (٢١) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢٢) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (٢٣) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٤)
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّوْعُ الثَّالِثُ مِنْ تَخْوِيفِ الْكُفَّارِ وَوَجْهُ التَّخْوِيفِ فِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى
ذَكَّرَهُمْ عَظِيمَ إِنْعَامِهِ عَلَيْهِمْ، وَكُلَّمَا كَانَتْ نِعْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَكْثَرَ كَانَتْ جِنَايَتُهُمْ فِي حَقِّهِ أَقْبَحَ وَأَفْحَشَ، وَكُلَّمَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْعِقَابُ أَعْظَمَ، فَلِهَذَا قَالَ عَقِيبَ ذِكْرِ هَذَا الْإِنْعَامِ: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَّرَهُمْ كَوْنَهُ قَادِرًا عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَظَاهِرٌ فِي الْعَقْلِ أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى الِابْتِدَاءِ قَادِرٌ عَلَى الْإِعَادَةِ، فَلَمَّا أَنْكَرُوا هَذِهِ الدَّلَالَةَ الظَّاهِرَةَ، لَا جَرَمَ قَالَ فِي حَقِّهِمْ: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ وَأَمَّا التَّفْسِيرُ فَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ أَيْ مِنَ النُّطْفَةِ، كَقَوْلِهِ: ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ [السَّجْدَةِ: ٨] فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ وَهُوَ الرَّحِمُ، لِأَنَّ مَا يُخْلَقُ مِنْهُ الْوَلَدُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَثْبُتَ فِي الرَّحِمِ وَيَتَمَكَّنَ بِخِلَافِ مالا يُخْلَقُ مِنْهُ الْوَلَدُ، ثُمَّ قَالَ: إِلى / قَدَرٍ مَعْلُومٍ وَالْمُرَادُ كَوْنُهُ فِي الرَّحِمِ إِلَى وَقْتِ الْوِلَادَةِ، وَذَلِكَ الْوَقْتُ مَعْلُومٌ لِلَّهِ تَعَالَى لَا لِغَيْرِهِ كَقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ إِلَى قَوْلِهِ: وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحامِ [لُقْمَانَ: ٣٤] فَقَدَرْنا قَرَأَ نَافِعٌ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ بِالتَّشْدِيدِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّخْفِيفِ، أَمَّا التَّشْدِيدُ فَالْمَعْنَى إِنَّا قَدَّرْنَا ذَلِكَ تَقْدِيرًا فَنِعْمَ الْمُقَدِّرُونَ لَهُ نَحْنُ، وَيَتَأَكَّدُ هَذَا الْوَجْهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ وَلِأَنَّ إِيقَاعَ الْخَلْقِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ وَالتَّحْدِيدِ نِعْمَةٌ مِنَ الْمُقَدِّرِ عَلَى الْمَخْلُوقِ فَحَسُنَ ذِكْرُهُ فِي مَوْضِعِ ذِكْرِ الْمِنَّةِ وَالنِّعْمَةِ، وَمَنْ طَعَنَ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ قَالَ: لَوْ صَحَّتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ لَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ: فَقَدَّرْنَا فَنَعِمَ الْمُقَدِّرُونَ وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ الْعَرَبَ قَدْ تَجْمَعُ بَيْنَ اللُّغَتَيْنِ، قَالَ تَعَالَى: فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً [الطَّارِقِ: ١٧] وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ بِالتَّخْفِيفِ فَفِيهَا وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مِنَ الْقُدْرَةِ أَيْ فَقَدَرْنَا عَلَى خَلْقِهِ وَتَصْوِيرِهِ كَيْفَ شِئْنَا وَأَرَدْنَا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ حَيْثُ خَلَقْنَاهُ فِي أَحْسَنِ الصُّوَرِ وَالْهَيْئَاتِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُقَالُ: قَدَرْتُ الشَّيْءَ بِالتَّخْفِيفِ عَلَى مَعْنَى قَدَّرْتُهُ، قَالَ: الْفَرَّاءُ الْعَرَبُ تَقُولُ: قَدَرَ عَلَيْهِ الْمَوْتَ، وَقَدَّرَ عَلَيْهِ الْمَوْتَ، وَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ وَقَدَّرَ بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ، قَالَ تَعَالَى: فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ [الفجر: ١٦].
[سورة المرسلات (٧٧) : الآيات ٢٥ الى ٢٨]
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (٢٥) أَحْياءً وَأَمْواتاً (٢٦) وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ مَاءً فُراتاً (٢٧) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٨)
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّوْعُ الرَّابِعُ مِنَ تَخْوِيفِ الْكُفَّارِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ ذَكَّرَهُمْ بِالنِّعَمِ الَّتِي لَهُ عَلَيْهِمْ فِي الْأَنْفُسِ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ ذَكَّرَهُمْ بِالنِّعَمِ الَّتِي لَهُ عَلَيْهِمْ فِي الْآفَاقِ، ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِ الْآيَةِ: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ وَالسَّبَبُ فِيهِ مَا قَدَّمْنَا أَنَّ النِّعَمَ كُلَّمَا كَانَتْ أَكْثَرَ كَانَتِ الْجِنَايَةُ أَقْبَحَ فَكَانَ اسْتِحْقَاقُ الذَّمِّ عَاجِلًا وَالْعِقَابِ آجِلًا أَشَدَّ، وَإِنَّمَا قَدَّمَ تِلْكَ الْآيَةَ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّ النِّعَمَ الَّتِي فِي الْأَنْفُسِ كَالْأَصْلِ لِلنِّعَمِ الَّتِي فِي الْآفَاقِ، فَإِنَّهُ لَوْلَا الْحَيَاةُ وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالْأَعْضَاءُ السَّلِيمَةُ لَمَا كَانَ الِانْتِفَاعُ بِشَيْءٍ مِنَ الْمَخْلُوقِ مُمْكِنًا.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذكر هاهنا ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ أَوَّلُهَا: الْأَرْضُ، وَإِنَّمَا قَدَّمَهَا لِأَنَّ أَقْرَبَ الْأَشْيَاءِ إِلَيْنَا مِنَ الْأُمُورِ الْخَارِجِيَّةِ هُوَ الْأَرْضُ، وَمَعْنَى الْكِفَاتِ فِي اللُّغَةِ الضَّمُّ وَالْجَمْعُ يُقَالُ: كَفَتُّ الشَّيْءَ أَيْ ضَمَمْتُهُ، وَيُقَالُ: جِرَابٌ كَفِيتٌ وَكِفْتٌ إِذَا كَانَ لَا يُضَيِّعُ شَيْئًا مِمَّا يُجْعَلُ فِيهِ، وَيُقَالُ: لِلْقِدْرِ: كِفْتٌ. قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: هُوَ اسْمُ مَا يَكْفِتُ، كَقَوْلِهِمْ الضِّمَامُ وَالْجِمَاعُ لِمَا يَضُمُّ وَيَجْمَعُ، وَيُقَالُ: هَذَا الْبَابُ جِمَاعُ الْأَبْوَابِ، وَتَقُولُ: شَدَدْتُ الشَّيْءَ ثُمَّ تسمي الخيط الذي تشد بِهِ الشَّيْءَ شِدَادًا، وَبِهِ انْتَصَبَ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا كَأَنَّهُ قِيلَ: كَافِتَةً أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا، أَوْ بِفِعْلٍ
مُضْمَرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَهُوَ نَكْفِتُ وَيَكُونُ الْمَعْنَى نَكْفِتُكُمْ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا، فَيُنْصَبَانِ عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ هَذَا هُوَ اللُّغَةُ، ثُمَّ فِي الْمَعْنَى/ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهَا تَكْفِتُ أَحْيَاءً عَلَى ظَهْرِهَا وَأَمْوَاتًا فِي بَطْنِهَا وَالْمَعْنَى أَنَّ الْأَحْيَاءَ يَسْكُنُونَ فِي مَنَازِلِهِمْ وَالْأَمْوَاتَ يُدْفَنُونَ فِي قُبُورِهِمْ، وَلِهَذَا كَانُوا يُسَمُّونَ الْأَرْضَ أُمًّا لِأَنَّهَا فِي ضَمِّهَا لِلنَّاسِ كَالْأُمِّ الَّتِي تَضُمُّ وَلَدَهَا وَتَكْفُلُهُ، وَلَمَّا كَانُوا يُضَمُّونَ إِلَيْهَا جُعِلَتْ كَأَنَّهَا تَضُمُّهُمْ وَثَانِيهَا: أَنَّهَا كِفَاتُ الْأَحْيَاءِ بِمَعْنَى أَنَّهَا تَكْفِتُ مَا ينفصل الْأَحْيَاءِ مِنَ الْأُمُورِ الْمُسْتَقْذَرَةِ، فَأَمَّا أَنَّهَا تَكْفِتُ [الْأَحْيَاءَ] حَالَ كَوْنِهِمْ عَلَى ظَهْرِهَا فَلَا وَثَالِثُهَا:
أَنَّهَا كِفَاتُ الْأَحْيَاءِ بِمَعْنَى أَنَّهَا جَامِعَةٌ لِمَا يَحْتَاجُ الْإِنْسَانُ إِلَيْهِ فِي حَاجَاتِهِ مِنْ مَأْكَلٍ وَمَشْرَبٍ، لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ يَخْرُجُ مِنَ الْأَرْضِ وَالْأَبْنِيَةُ الْجَامِعَةُ لِلْمَصَالِحِ الدَّافِعَةُ لِلْمَضَارِّ مَبْنِيَّةٌ مِنْهَا وَرَابِعُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: أَحْياءً وَأَمْواتاً مَعْنَاهُ رَاجِعٌ إِلَى الْأَرْضِ، وَالْحَيُّ مَا أُنْبِتَ وَالْمَيِّتُ مَا لَمْ يُنْبَتْ، بَقِيَ فِي الْآيَةِ سُؤَالَانِ:
الْأَوَّلُ: لِمَ قِيلَ: أَحْياءً وَأَمْواتاً عَلَى التَّنْكِيرِ وَهِيَ كِفَاتُ الْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ جَمِيعًا؟ الْجَوَابُ: هُوَ مِنْ تَنْكِيرِ التَّفْخِيمِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: تَكْفِتُ أَحْيَاءً لَا يُعَدُّونَ، وَأَمْوَاتًا لَا يُحْصَرُونَ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: هَلْ تَدُلُّ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى وُجُوبِ قَطْعِ النَّبَّاشِ؟ الْجَوَابُ: نَقَلَ الْقَفَّالُ أَنَّ رَبِيعَةَ قَالَ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ كِفَاتُ الْمَيِّتِ فَتَكُونُ حِرْزًا لَهُ، وَالسَّارِقُ مِنَ الْحِرْزِ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَطْعُ.
النَّوْعُ الثَّانِي: مِنَ النِّعَمِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ فَقَوْلُهُ:
رَواسِيَ أَيْ ثَوَابِتَ عَلَى ظَهْرِ الأرض لا تزول شامِخاتٍ أَيْ عَالِيَاتٍ، وَكُلُّ عَالٍ فَهُوَ شَامِخٌ، وَيُقَالُ:
لِلْمُتَكَبِّرِ شَامِخٌ بِأَنْفِهِ، وَمَنَافِعُ خِلْقَةِ الْجِبَالِ قَدْ تَقَدَّمَتْ فِي هَذَا الْكِتَابِ.
النَّوْعُ الثَّالِثُ: مِنَ النِّعَمِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَسْقَيْناكُمْ مَاءً فُراتاً الْفُرَاتُ هُوَ الْغَايَةُ فِي الْعُذُوبَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي قَوْلِهِ: هَذَا عَذْبٌ فُراتٌ [الْفُرْقَانِ: ٥٣].
[سورة المرسلات (٧٧) : الآيات ٢٩ الى ٣٤]
انْطَلِقُوا إِلى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٩) انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (٣٠) لَا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (٣١) إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (٣٢) كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (٣٣)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٤)
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّوْعُ الْخَامِسُ: مِنْ وُجُوهِ تَخْوِيفِ الْكُفَّارِ وَهُوَ بَيَانُ كَيْفِيَّةِ عَذَابِهِمْ فِي الْآخِرَةِ فَأَمَّا قَوْلُهُ:
انْطَلِقُوا إِلى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ يُقَالُ لَهُمْ انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ مِنَ الْعَذَابِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ القائلين هم خزنة النار وانطلقوا الثَّانِي تَكْرِيرٌ، وَقَرَأَ/ يَعْقُوبُ انْطَلَقُوا عَلَى لَفْظِ الْمَاضِي، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمُ انْقَادُوا لِلْأَمْرِ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ مُضْطَرُّونَ إِلَيْهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ امْتِنَاعًا مِنْهُ، وَهَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّهُ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: فَانْطَلَقُوا بِالْفَاءِ، لِيَرْتَبِطَ آخِرُ الْكَلَامِ بِأَوَّلِهِ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إن الشمس تقرب يوم القيامة من رؤوس الْخَلَائِقِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ يَوْمَئِذٍ لِبَاسٌ وَلَا كِنَانٌ، فتلفحهم الشمس وتسفعهم وتأخذ بأنفسهم وَيَمْتَدُّ ذَلِكَ الْيَوْمُ، ثُمَّ
773
يُنْجِي اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ إِلَى ظِلٍّ مِنْ ظِلِّهِ فَهُنَاكَ يَقُولُونَ: فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ [الطُّورِ: ٢٧] وَيُقَالُ لِلْمُكَذِّبِينَ: انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ وَعِقَابِهِ، وَقَوْلُهُ: إِلى ظِلٍّ يَعْنِي دُخَانَ جَهَنَّمَ كَقَوْلِهِ: وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ [الْوَاقِعَةِ: ٤٣] ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ هَذَا الظِّلَّ بِصِفَاتٍ:
الصِّفَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ وَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: قَالَ الْحَسَنُ: مَا أَدْرِي مَا هَذَا الظِّلُّ، وَلَا سَمِعْتُ فِيهِ شَيْئًا وَثَانِيهَا: قَالَ قَوْمٌ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ كَوْنُ النَّارِ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَمُحِيطَةً بِهِمْ، وَتَسْمِيَةُ النَّارِ بِالظِّلِّ مَجَازٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا مُحِيطَةٌ بِهِمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ كَقَوْلِهِ: لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ، وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ [الزُّمَرِ: ١٦] وَقَالَ تَعَالَى: يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ [الْعَنْكَبُوتِ: ٥٥] وَثَالِثُهَا: قَالَ قَتَادَةُ: بَلِ الْمُرَادُ الدُّخَانُ وَهُوَ مِنْ قَوْلِهِ: أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها [الْكَهْفِ: ٢٩] وَسُرَادِقُ النَّارِ هُوَ الدُّخَانُ، ثُمَّ إِنَّ شُعْبَةً مِنْ ذَلِكَ الدُّخَانِ عَلَى يَمِينِهِ وَشُعْبَةً أُخْرَى عَلَى يَسَارِهِ، وَشُعْبَةً ثَالِثَةً مِنْ فَوْقِهِ. وَأَقُولُ هَذَا غَيْرُ مُسْتَبْعَدٍ لِأَنَّ الْغَضَبَ عَنْ يَمِينِهِ وَالشَّهْوَةَ عَنْ شِمَالِهِ، وَالْقُوَّةَ الشَّيْطَانِيَّةَ فِي دماغه، ومنبع جميع الآفاق الصَّادِرَةِ عَنِ الْإِنْسَانِ فِي عَقَائِدِهِ، وَفِي أَعْمَالِهِ، لَيْسَ إِلَّا هَذِهِ الثَّلَاثَةُ، فَتَوَلَّدَتْ مِنْ هَذِهِ الْيَنَابِيعِ الثَّلَاثَةِ أَنْوَاعٌ مِنَ الظُّلُمَاتِ، وَيُمْكِنُ أَيْضًا أن يقال: هاهنا درجات ثلاث، وَهِيَ الْحِسُّ وَالْخَيَالُ، وَالْوَهْمُ، وَهِيَ مَانِعَةٌ لِلرُّوحِ عَنِ الِاسْتِنَارَةِ بِأَنْوَارِ عَالَمِ الْقُدْسِ وَالطَّهَارَةِ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْمَرَاتِبِ الثَّلَاثَةِ نَوْعٌ خَاصٌّ مِنَ الظُّلْمَةِ وَرَابِعُهَا: قَالَ قَوْمٌ: هَذَا كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِ ذَلِكَ الدُّخَانِ عَظِيمًا، فَإِنَّ الدُّخَانَ الْعَظِيمَ يَنْقَسِمُ إِلَى شُعَبٍ كَثِيرَةٍ وَخَامِسُهَا: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ وَيَحْتَمِلُ فِي ثَلاثِ شُعَبٍ مَا ذَكَرَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَهُوَ أَنَّهُ: غَيْرُ ظَلِيلٍ وَأَنَّهُ لَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ وَبِأَنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ.
الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: لِذَلِكَ الظِّلِّ قَوْلُهُ: لَا ظَلِيلٍ وَهَذَا تَهَكُّمٌ بِهِمْ وَتَعْرِيضٌ بِأَنَّ ظللهم غير ظلل الْمُؤْمِنِينَ، وَالْمَعْنَى أَنَّ ذَلِكَ الظِّلَّ لَا يَمْنَعُ حَرَّ الشَّمْسِ.
الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ يُقَالُ: أَغْنِ عَنِّي وَجْهَكَ، أَيْ أَبْعِدْهُ لِأَنَّ الْغَنِيَّ عَنِ الشَّيْءِ يُبَاعِدُهُ، كَمَا أَنَّ الْمُحْتَاجَ يُقَارِبُهُ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : إِنَّهُ فِي مَحَلِّ الْجَرِّ، أَيْ وَغَيْرُهُ مُغْنٍ عَنْهُمْ، مِنْ حَرِّ اللَّهَبِ شَيْئًا، قَالَ الْقَفَّالُ: وَهَذَا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا الظِّلَّ إِنَّمَا يَكُونُ فِي جَهَنَّمَ، فَلَا يُظِلُّهُمْ مِنْ حَرِّهَا، وَلَا يَسْتُرُهُمْ مِنْ لَهِيبِهَا، وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ فِي سُورَةِ الْوَاقِعَةِ الظِّلَّ فَقَالَ: فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ لَا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ [الْوَاقِعَةِ: ٤٢- ٤٤] وَهَذَا كَأَنَّهُ فِي جَهَنَّمَ إِذَا دَخَلُوهَا، ثُمَّ قَالَ: لَا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: لَا ظَلِيلٍ فِي مَعْنَى: لَا بارِدٍ وَقَوْلُهُ: وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ/ فِي مَعْنَى: وَلا كَرِيمٍ أَيْ لَا رَوْحَ لَهُ يَلْجَأُ إِلَيْهِ مِنْ لَهَبِ النَّارِ وَالثَّانِي: أَنَّ تَكَوُّنَ ذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ قَبْلَ ان يدخلوا جهنم بل عند ما يُحْبَسُونَ لِلْحِسَابِ وَالْعَرْضِ، فَيُقَالُ لَهُمْ: إِنَّ هَذَا الظِّلَّ لَا يُظِلُّكُمْ مِنْ حَرِّ الشَّمْسِ وَلَا يَدْفَعُ لَهَبَ النَّارِ، وَفِي الْآيَةِ وَجْهٌ ثَانٍ «١» : وَهُوَ الَّذِي قَالَهُ قُطْرُبٌ: وَهُوَ أَنَّ اللَّهَبَ هاهنا هُوَ الْعَطَشُ يُقَالُ: لَهِبَ لَهَبًا وَرَجُلٌ لَهْبَانُ وَامْرَأَةٌ لَهْبَى.
الصِّفَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: يُقَالُ شَرَرَةٌ وَشَرَرٌ وَشَرَارَةٌ وَشَرَارٌ، وَهُوَ مَا تَطَايَرَ مِنَ النَّارِ مُتَبَدِّدًا فِي كُلِّ جِهَةٍ وَأَصْلُهُ مِنْ شَرَرْتُ الثَّوْبَ إِذَا أَظْهَرْتَهُ وَبَسَطْتَهُ لِلشَّمْسِ وَالشَّرَارُ يَنْبَسِطُ مُتَبَدِّدًا، وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ النَّارَ الَّتِي كَانَ ذَلِكَ الظِّلُّ دُخَانًا لَهَا بِأَنَّهَا ترمي بالشرارة العظيمة، والمقصود منه بيان
(١) الصواب أن يقال: وفي الآية وجه ثالث. لأن الذي تقدم وجهان.
774
أَنَّ تِلْكَ النَّارَ عَظِيمَةٌ جِدًّا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى شَبَّهَ ذَلِكَ الشَّرَرَ بِشَيْئَيْنِ الْأَوَّلُ: بِالْقَصْرِ وَفِي تَفْسِيرِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْبِنَاءُ الْمُسَمَّى بِالْقَصْرِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ الْقُصُورَ الْعِظَامَ الثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ ذَلِكَ، ثُمَّ عَلَى التَّقْدِيرِ فَفِي التَّفْسِيرِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهَا جَمْعُ قَصْرَةٍ سَاكِنَةَ الصَّادِ كَتَمْرَةٍ وَتَمْرٍ وَجَمْرَةٍ وَجَمْرٍ، قَالَ الْمُبَرِّدُ: يُقَالُ لِلْوَاحِدِ مِنَ الْحَطَبِ الْجَزْلِ الْغَلِيظِ قَصْرَةٌ وَالْجَمْعُ قَصْرٌ، قَالَ عبد الرحمن بن عباس: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنِ الْقَصْرِ فَقَالَ: هُوَ خَشَبٌ كُنَّا نَدَّخِرُهُ لِلشِّتَاءِ نَقْطَعُهُ وَكُنَّا نُسَمِّيهِ الْقَصْرَ، وَهَذَا قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُقَاتِلٍ والضحاك، وإلا أَنَّهُمْ قَالُوا: هِيَ أُصُولُ النَّخْلِ وَالشَّجَرِ الْعِظَامِ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قُرِئَ كَالْقَصَرِ بِفَتْحَتَيْنِ وَهِيَ أَعْنَاقُ الْإِبِلِ أَوْ أَعْنَاقُ النَّخْلِ نَحْوُ شَجَرَةٍ وَشَجَرٍ، وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ كَالْقُصُرِ بِمَعْنَى الْقَصْرِ كَرَهْنٍ وَرُهُنٍ، وَقَرَأَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ كَالْقِصَرِ فِي جَمْعِ قَصْرَةٍ كَحَاجَةٍ وَحِوَجٍ.
التَّشْبِيهُ الثَّانِي: قوله تعالى: كأنه جمالات صُفْرٌ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: جِمَالَاتٌ جَمْعُ جمال كقوهم: رِجَالَاتٌ وَرِجَالٌ وَبُيُوتَاتٌ وَبُيُوتٌ، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ حمالات بِضَمِّ الْجِيمِ وَهُوَ قِرَاءَةُ يَعْقُوبَ وَذَكَرُوا وُجُوهًا أَحَدُهَا: قِيلَ: الْجُمَالَاتُ بِالضَّمِّ الْحِبَالُ الْغِلَاظُ وَهِيَ حِبَالُ السُّفُنِ، وَيُقَالُ لَهَا: الْقُلُوسُ وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ وَقَالَ: الْمَعْرُوفُ فِي الْحِبَالِ إِنَّمَا هُوَ الْجُمَّلُ بِضَمِّ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ وَقُرِئَ: حتى يلوج الجمل [الأعراف: ٤٠] وَثَانِيهَا: قِيلَ هِيَ قِطَعُ النُّحَاسِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَابْنِ عَبَّاسٍ وَمُعْظَمُ أَهْلِ اللُّغَةِ لَا يَعْرِفُونَهُ وَثَالِثُهَا: قَالَ الْفَرَّاءُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْجُمَالَاتُ بِالضَّمِّ مِنَ الشَّيْءِ الْمُجْمَلِ، يُقَالُ: أَجْمَلْتُ الْحِسَابَ، وَجَاءَ الْقَوْمُ جُمْلَةً أَيْ مُجْتَمِعِينِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ هَذِهِ الشَّرَرَةَ تَرْتَفِعُ كَأَنَّهَا شَيْءٌ مَجْمُوعٌ غَلِيظٌ أَصْفَرُ، وَهَذَا قَوْلُ الْفَرَّاءِ وَرَابِعُهَا: قَالَ الْفَرَّاءُ: يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: جُمَالَاتٌ بِضَمِّ الْجِيمِ جَمْعَ جُمَالٍ بِضَمِّ الْجِيمِ وَجُمَالٌ بِضَمِّ الْجِيمِ يَكُونُ جَمْعَ جَمَلٍ، كَمَا يُقَالُ: رِخْلٌ وَرُخَالٌ وَرِخَالٌ.
القراءة الثاني: جِمَالَةٌ بِكَسْرِ الْجِيمِ هِيَ جَمْعُ جَمَلٍ مِثْلُ حَجَرٍ وَحِجَارَةٍ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَالتَّاءُ إِنَّمَا لَحِقَتْ جِمَالًا لِتَأْنِيثِ الْجَمْعِ، كَمَا لَحِقَتْ فِي فَحْلٍ وَفِحَالَةٍ.
الْقِرَاءَةُ الرَّابِعَةُ: جُمْلَةٌ بِضَمِّ الْجِيمِ وَهِيَ الْقَلْسُ، وَقِيلَ: صُفْرٌ لِإِرَادَةِ الْجِنْسِ، أَمَّا قَوْلُهُ: صُفْرٌ فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ سُودٌ تَضْرِبُ إِلَى الصُّفْرَةِ، قَالَ الْفَرَّاءُ: لَا تَرَى أَسْوَدَ مِنَ الْإِبِلِ إِلَّا وَهُوَ مَشُوبٌ صُفْرَةً، وَالشَّرَرُ إِذَا تَطَايَرَ فَسَقَطَ وَفِيهِ بَقِيَّةٌ مِنْ لَوْنِ النَّارِ كَانَ أَشْبَهَ بِالْجَمَلِ الْأَسْوَدِ الَّذِي يَشُوبُهُ شَيْءٌ مِنَ الصُّفْرَةِ. وَزَعَمَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الصُّفْرَةُ لَا السَّوَادُ، لِأَنَّ الشَّرَرَ إِنَّمَا يُسَمَّى شَرَرًا، مَا دَامَ يَكُونُ نَارًا، وَمَتَى كَانَ نَارًا كَانَ أَصْفَرَ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ أَسْوَدَ إِذَا انْطَفَأَ، وَهُنَاكَ لَا يُسَمَّى شَرَرًا، وَهَذَا الْقَوْلُ عِنْدِي هُوَ الصَّوَابُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى شَبَّهَ الشَّرَرَ فِي الْعِظَمِ بِالْقَصْرِ، وَفِي اللَّوْنِ وَالْكَثْرَةِ وَالتَّتَابُعِ وَسُرْعَةِ الْحَرَكَةِ بِالْجِمَالَاتِ الصُّفْرِ، وَقِيلَ: أَيْضًا إِنَّ ابْتِدَاءَ الشَّرَرِ يَعْظُمُ فَيَكُونُ كَالْقَصْرِ ثُمَّ يَفْتَرِقُ فَتَكُونُ تِلْكَ الْقِطَعُ الْمُتَفَرِّقَةُ الْمُتَتَابِعَةُ كَالْجِمَالَاتِ الصُّفْرِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ إِنَّ هَذَا التَّشْبِيهَ إِنَّمَا وَرَدَ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ، وَقُصُورُهُمْ قَصِيرَةُ السَّمْكِ جَارِيَةٌ مَجْرَى الْخَيْمَةِ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ، فَلَمَّا سَمِعَ أَبُو الْعَلَاءِ الْمَعَرِّيُّ بِهَذَا تَصَرَّفَ فِيهِ وَشَبَّهَهُ بِالْخَيْمَةِ مِنَ الْأَدِيمِ، وَهُوَ قَوْلُهُ:
775
ثُمَّ زَعَمَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ أَنَّهُ ذَكَرَ ذَلِكَ مُعَارَضَةً لِهَذِهِ الْآيَةِ، وَأَقُولُ: كَانَ الْأَوْلَى لِصَاحِبِ الْكَشَّافِ أَنْ لَا يَذْكُرَ ذَلِكَ، وَإِذْ قَدْ ذَكَرَهُ فَلَا بُدَّ لَنَا مِنْ تَحْقِيقِ الْكَلَامِ فِيهِ، فَنَقُولُ: تَشْبِيهُ الشَّرَارَةِ بِالطِّرَافِ يُفِيدُ التَّشْبِيهَ فِي الشَّكْلِ وَالْعِظَمِ، أَمَّا الشَّكْلُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الشَّرَارَةَ تَكُونُ قَبْلَ انْشِعَابِهَا كَالنُّقْطَةِ مِنَ النَّارِ، فَإِذَا انْشَعَبَتِ اتَّسَعَتْ فَهِيَ كَالنُّقْطَةِ الَّتِي تَتَّسِعُ فَهِيَ تُشْبِهُ الْخَيْمَةَ فَإِنَّ رَأْسَهَا كَالنُّقْطَةِ ثُمَّ إِنَّهَا لَا تَزَالُ تَتَّسِعُ شَيْئًا فَشَيْئًا الثَّانِي: أَنَّ الشَّرَارَةَ كَالْكُرَةِ أَوِ الْأُسْطُوَانَةِ فَهِيَ شَدِيدَةُ الشَّبَهِ بِالْخَيْمَةِ الْمُسْتَدِيرَةِ وَأَمَّا التَّشْبِيهُ بِالْخَيْمَةِ فِي النَّظْمِ فَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ، هَذَا مُنْتَهَى هَذَا التَّشْبِيهِ. وَأَمَّا وَجْهُ الْقَدْحِ فِيهِ فَمِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ لَوْنَ الشَّرَارَةِ أَصْفَرُ يَشُوبُهَا شَيْءٌ مِنَ السَّوَادِ، وَهَذَا الْمَعْنَى حَاصِلٌ فِي الْجِمَالَاتِ الصُّفْرِ وَغَيْرُ حَاصِلٍ فِي الْخَيْمَةِ مِنَ الْأَدِيمِ الثَّانِي: أَنَّ الْجِمَالَاتِ مُتَحَرِّكَةً وَالْخَيْمَةُ لَا تَكُونُ مُتَحَرِّكَةً فَتَشْبِيهُ الشَّرَارِ الْمُتَحَرِّكِ بِالْجِمَالَاتِ الْمُتَحَرِّكَةِ أولى والثالث: أن الشرارات متتابعة يجيء بَعْضُهَا خَلْفَ الْبَعْضِ وَهَذَا الْمَعْنَى حَاصِلٌ فِي الْجِمَالَاتِ الصُّفْرِ وَغَيْرُ حَاصِلٍ فِي الطِّرَافِ الرَّابِعُ: أَنَّ الْقَصْرَ مَأْمَنُ الرَّجُلِ وَمَوْضِعُ سَلَامَتِهِ فَتَشْبِيهُ الشَّرَرِ بِالْقَصْرِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا تَوَلَّدَتْ آفَتُهُ مِنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي تَوَقَّعَ مِنْهُ الْأَمْنَ وَالسَّلَامَةَ، وَحَالُ الْكَافِرِ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ كَانَ يَتَوَقَّعُ الْخَيْرَ وَالسَّلَامَةَ مِنْ دِينِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ مَا ظَهَرَتْ لَهُ آفَةٌ وَلَا مِحْنَةٌ إِلَّا مِنْ ذَلِكَ الدِّينِ، وَالْخَيْمَةُ لَيْسَتْ مِمَّا يُتَوَقَّعُ مِنْهَا الْأَمْنُ الْكُلِّيُّ الْخَامِسُ: أَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ كُلَّ الْجَمَالِ فِي مِلْكِ الْجِمَالِ وَتَمَامَ النِّعَمِ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِمِلْكِ النَّعَمِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ [النَّحْلِ: ٦] فَتَشْبِيهُ الشَّرَرِ بِالْجِمَالِ السُّودِ كَالتَّهَكُّمِ بِهِمْ، كَأَنَّهُ قِيلَ لَهُمْ: كُنْتُمْ تَتَوَقَّعُونَ مِنْ دِينِكُمْ كَرَامَةً وَنِعْمَةً وَجَمَالًا إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ الْجَمَالَ هُوَ هَذِهِ الشَّرَارَاتُ الَّتِي هِيَ كَالْجِمَالِ، وَهَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ حَاصِلٍ فِي/ الطِّرَافِ السَّادِسُ: أَنَّ الْجِمَالَ إِذَا انْفَرَدَتْ وَاخْتَلَطَ بَعْضُهَا بِالْبَعْضِ فَكُلُّ مَنْ وَقَعَ فِيمَا بَيْنَ أَيْدِيهَا وَأَرْجُلِهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ نَالَ بَلَاءً شَدِيدًا وَأَلَمًا عَظِيمًا، فَتَشْبِيهُ الشَّرَارَاتِ بِهَا حَالَ تَتَابُعِهَا يُفِيدُ حُصُولَ كَمَالِ الضَّرَرِ، وَالطِّرَافُ لَيْسَ كَذَلِكَ السَّابِعُ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْقَصْرَ يَكُونُ فِي الْمِقْدَارِ أَعْظَمَ مِنَ الطِّرَافِ وَالْجِمَالَاتُ الصُّفْرُ تَكُونُ أَكْثَرَ فِي الْعَدَدِ مِنَ الطِّرَافِ فَتَشْبِيهُ هَذِهِ الشَّرَارَاتِ بِالْقَصْرِ وَبِالْجِمَالَاتِ يَقْتَضِي الزِّيَادَةَ فِي الْمِقْدَارِ وَفِي الْعَدَدِ وَتَشْبِيهُهَا بِالطِّرَافِ لَا يُفِيدُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ هُوَ التَّهْوِيلَ وَالتَّخْوِيفَ كَانَ التَّشْبِيهُ الْأَوَّلُ أَوْلَى الثَّامِنُ: أَنَّ التَّشْبِيهَ بِالشَّيْئَيْنِ فِي إِثْبَاتِ وَصْفَيْنِ أَقْوَى فِي ثُبُوتِ ذَيْنِكَ الْوَصْفَيْنِ مِنَ التَّشْبِيهِ بِالشَّيْءِ الْوَاحِدِ فِي إِثْبَاتِ ذَيْنِكَ الْوَصْفَيْنِ، وَبَيَانُهُ أَنَّ مَنْ سَمِعَ قَوْلَهُ: إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ تَسَارَعَ ذِهْنُهُ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ إِثْبَاتُ عِظَمِ تِلْكَ الشَّرَارَاتِ، ثُمَّ إذا سمع بعد ذلك قوله: كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ تَسَارَعَ ذِهْنُهُ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ كَثْرَةُ تِلْكَ الشَّرَارَاتِ وَتَتَابُعُهَا وَلَوْنُهَا. أَمَّا مَنْ سَمِعَ أَنَّ الشَّرَارَ كَالطِّرَافِ يَبْقَى ذِهْنُهُ مُتَوَقِّفًا فِي أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالتَّشْبِيهِ إِثْبَاتُ الْعِظَمِ أَوْ إِثْبَاتُ اللَّوْنِ، فَالتَّشْبِيهُ بِالطِّرَافِ كَالْمُجْمَلِ، وَالتَّشْبِيهُ بِالْقَصْرِ وَبِالْجِمَالَاتِ الصُّفْرِ، كَالْبَيَانِ الْمُفَصَّلِ الْمُكَرَّرِ الْمُؤَكِّدِ. وَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْبَيَانِ هُوَ التَّهْوِيلَ وَالتَّخْوِيفَ، فَكُلَّمَا كَانَ بَيَانُ وُجُوهِ الْعَذَابِ أَتَمَّ وَأَبْيَنَ كَانَ الْخَوْفُ أَشَدَّ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا التَّشْبِيهَ أَتَمُّ. التَّاسِعُ: أَنَّهُ قَالَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ: انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ وَالْإِنْسَانُ إِنَّمَا يَكُونُ طَيِّبَ الْعَيْشِ وَقْتَ الِانْطِلَاقِ، وَالذَّهَابِ إِذَا كَانَ رَاكِبًا، وَإِنَّمَا يَجِدُ الظِّلَّ الطَّيِّبَ إِذَا كَانَ فِي قَصْرِهِ، فَوَقَعَ تَشْبِيهُ الشَّرَارَةِ بِالْقَصْرِ وَالْجِمَالَاتِ، كَأَنَّهُ قِيلَ لَهُ: مَرْكُوبُكَ هَذِهِ الْجِمَالَاتُ، وَظِلُّكَ فِي مِثْلِ هَذَا الْقَصْرِ، وَهَذَا يَجْرِي مَجْرَى التَّهَكُّمِ بِهِمْ، وَهَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ حَاصِلٍ فِي الطِّرَافِ الْعَاشِرُ: مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ تَطَايُرَ الْقَصْرِ إِلَى الْهَوَاءِ أَدْخَلُ فِي التَّعَجُّبِ مِنْ تَطَايُرِ الْخَيْمَةِ، لِأَنَّ الْقَصْرَ يَكُونُ مُرَكَّبًا مِنَ اللَّبَنِ وَالْحَجَرِ وَالْخَشَبِ. وَهَذِهِ الْأَجْسَامُ أَدْخَلُ فِي الثِّقَلِ وَالِاكْتِنَازِ من
776
الْخَيْمَةِ الْمُتَّخَذَةِ إِمَّا مِنَ الْكِرْبَاسِ أَوْ مِنَ الْأَدِيمِ، وَالشَّيْءُ كُلَّمَا كَانَ أَثْقَلَ وَأَشَدَّ اكْتِنَازًا كَانَ تَطَايُرُهُ فِي الْهَوَاءِ أَبْعَدَ، فَكَانَتِ النَّارُ الَّتِي تُطَيِّرُ الْقَصْرَ إِلَى الْهَوَاءِ أَقْوَى مِنَ النَّارِ الَّتِي تُطَيِّرُ الطِّرَافَ فِي الْهَوَاءِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَقْصُودَ تَعْظِيمُ أَمْرِ النَّارِ فِي الشِّدَّةِ وَالْقُوَّةِ، فَكَانَ التَّشْبِيهُ بِالْقَصْرِ أَوْلَى الْحَادِيَ عَشَرَ: وَهُوَ أَنَّ سُقُوطَ الْقَصْرِ عَلَى الْإِنْسَانِ أَدْخَلُ فِي الْإِيلَامِ وَالْإِيجَاعِ مِنْ سُقُوطِ الطِّرَافِ عَلَيْهِ، فَتَشْبِيهُ تِلْكَ الشَّرَارَاتِ بِالْقَصْرِ يُفِيدُ أَنَّ تِلْكَ الشَّرَارَاتِ إِذَا ارْتَفَعَتْ فِي الْهَوَاءِ ثُمَّ سَقَطَتْ عَلَى الْكَافِرِ فَإِنَّهَا تُؤْلِمُهُ إِيلَامًا شَدِيدًا، فَصَارَ ذَلِكَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ لَا يَزَالُ يَسْقُطُ عَلَيْهِ مِنَ
الْهَوَاءِ شَرَارَاتٌ كَالْقُصُورِ بِخِلَافِ وُقُوعِ الطِّرَافِ عَلَى الْإِنْسَانِ، فَإِنَّهُ لَا يُؤْلِمُ فِي الْغَايَةِ الثَّانِيَ عَشَرَ: أَنَّ الْجِمَالَ فِي أَكْثَرِ الْأُمُورِ تَكُونُ مُوَقَّرَةً، فَتَشْبِيهُ الشَّرَارَاتِ بِالْجِمَالِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الشَّرَارَاتِ أَنْوَاعًا مِنَ الْبَلَاءِ وَالْمِحْنَةِ لَا يُحْصِي عَدَدَهَا إِلَّا اللَّهُ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: تِلْكَ الشَّرَارَاتُ كَالْجِمَالَاتِ الْمُوَقَّرَةِ بِأَنْوَاعِ الْمِحْنَةِ وَالْبَلَاءِ، وَهَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ حَاصِلٍ فِي الطِّرَافِ فَكَانَ التَّشْبِيهُ بِالْجِمَالَاتِ أَتَمَّ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْوُجُوهَ تَوَالَتْ عَلَى الْخَاطِرِ فِي اللَّحْظَةِ الْوَاحِدَةِ وَلَوْ تَضَرَّعْنَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي طَلَبِ الْأَزْيَدِ/ لَأَعْطَانَا أَيَّ قَدْرٍ شِئْنَا بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَلَكِنَّ هَذِهِ الْوُجُوهَ كَافِيَةٌ فِي بَيَانِ التَّرْجِيحِ وَالزِّيَادَةُ عَلَيْهَا تُعَدُّ من الإطناب والله أعلم.
[سورة المرسلات (٧٧) : الآيات ٣٥ الى ٣٧]
هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (٣٥) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (٣٦) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٧)
نَصَبَ الْأَعْمَشُ (يَوْمَ) أَيْ هَذَا الَّذِي قَصَّ عَلَيْكُمْ وَاقِعٌ يَوْمَئِذٍ، اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّوْعُ السَّادِسُ: مِنَ أَنْوَاعِ تَخْوِيفِ الْكُفَّارِ وَتَشْدِيدِ الْأَمْرِ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ عُذْرٌ وَلَا حُجَّةٌ فِيمَا أَتَوْا بِهِ مِنَ الْقَبَائِحِ، وَلَا قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَى دَفْعِ الْعَذَابِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، فَيَجْتَمِعُ فِي حَقِّهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَنْوَاعٌ مِنَ الْعَذَابِ أَحَدُهَا: عَذَابُ الْخَجَالَةِ، فَإِنَّهُ يَفْتَضِحُ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ، وَيَظْهَرُ لِكُلٍّ قُصُورُهُ وَتَقْصِيرُهُ وَكُلُّ مَنْ لَهُ عَقْلٌ سَلِيمٌ، عَلِمَ أَنَّ عَذَابَ الْخَجَالَةِ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ بِالسَّيْفِ وَالِاحْتِرَاقِ بِالنَّارِ وَثَانِيهَا: وُقُوفُ الْعَبْدِ الْآبِقِ عَلَى بَابِ الْمَوْلَى وَوُقُوعُهُ فِي يَدِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ الصَّادِقُ الَّذِي يَسْتَحِيلُ الْكَذِبُ عَلَيْهِ، عَلَى مَا قَالَ: مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ [ق: ٢٩] وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ يَرَى فِي ذَلِكَ الْمَوْقِفِ خُصَمَاءَهُ الَّذِينَ كَانَ يَسْتَخِفُّ بِهِمْ وَيَسْتَحْقِرُهُمْ فَائِزِينَ بِالثَّوَابِ وَالتَّعْظِيمِ، وَيَرَى نَفْسَهُ فَائِزًا بِالْخِزْيِ وَالنَّكَالِ، وَهَذِهِ الثلاثة أَنْوَاعٍ مِنَ الْعَذَابِ الرُّوحَانِيِّ وَرَابِعُهَا: الْعَذَابُ الْجُسْمَانِيُّ وَهُوَ مُشَاهَدَةُ النَّارِ وَأَهْوَالِهَا نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْهَا فَلَمَّا اجْتَمَعَتْ فِي حَقِّهِ هَذِهِ الْوُجُوهُ مِنَ الْعَذَابِ بَلْ مَا هُوَ مِمَّا لَا يَصِفُ كُنْهَهُ إِلَّا اللَّهُ، لَا جَرَمَ قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّهِمْ: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ وَفِي الْآيَةِ سُؤَالَانِ:
الْأَوَّلُ: كَيْفَ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ قَوْلِهِ: هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ وَقَوْلِهِ: ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ [الزُّمَرِ: ٣١] وَقَوْلِهِ: وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الْأَنْعَامِ: ٢٣] وَقَوْلِهِ: وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً [النِّسَاءِ: ٤٢] وَيُرْوَى أَنَّ نَافِعَ بْنَ الْأَزْرَقِ سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ وَالْجَوَابُ: عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: قَالَ الْحَسَنُ: فِيهِ إِضْمَارٌ، وَالتَّقْدِيرُ:
هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ فِيهِ بِحُجَّةٍ، وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ، لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ فِيمَا عَمِلُوهُ عُذْرٌ صحيح وجواب مستقيم، فإذا لم ينطلقوا بِحُجَّةٍ سَلِيمَةٍ وَكَلَامٍ مُسْتَقِيمٍ فَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَنْطِقُوا، لِأَنَّ مَنْ نَطَقَ بِمَا لَا يُفِيدُ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَنْطِقْ، وَنَظِيرُهُ مَا يُقَالُ
777
لِمَنْ ذَكَرَ كَلَامًا غَيْرَ مُفِيدٍ: مَا قُلْتَ شَيْئًا وَثَانِيهَا: قَالَ الْفَرَّاءُ: أَرَادَ بِقَوْلِهِ: يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ تِلْكَ السَّاعَةَ وَذَلِكَ الْقَدْرَ مِنَ الْوَقْتِ الَّذِي لَا يَنْطِقُونَ فِيهِ، كَمَا يَقُولُ: آتِيكَ يَوْمَ يَقْدَمُ فُلَانٌ، وَالْمَعْنَى سَاعَةَ يَقْدَمُ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْيَوْمِ كُلَّهُ، لِأَنَّ الْقُدُومَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي سَاعَةٍ يَسِيرَةٍ، وَلَا يَمْتَدُّ فِي كُلِّ الْيَوْمِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: لَا يَنْطِقُونَ لَفْظٌ مُطْلَقٌ، وَالْمُطْلَقُ لَا يُفِيدُ الْعُمُومَ لَا فِي الْأَنْوَاعِ وَلَا فِي الْأَوْقَاتِ، بِدَلِيلِ أَنَّكَ تَقُولُ: فُلَانٌ لَا يَنْطِقُ بِالشَّرِّ وَلَكِنَّهُ يَنْطِقُ بِالْخَيْرِ، وَتَارَةً تَقُولُ: فُلَانٌ لَا يَنْطِقُ بِشَيْءٍ أَلْبَتَّةَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَفْهُومَ لَا يَنْطِقُ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ/ بَيْنَ أَنْ لَا يَنْطِقَ بِبَعْضِ الْأَشْيَاءِ، وَبَيْنَ أَنْ لَا يَنْطِقَ بِكُلِّ الْأَشْيَاءِ، وَكَذَلِكَ تَقُولُ: فُلَانٌ لَا يَنْطِقُ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ، وَتَقُولُ:
فُلَانٌ لَا يَنْطِقُ أَلْبَتَّةَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَفْهُومَ لَا يَنْطِقُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الدَّائِمِ وَالْمُوَقَّتِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَفْهُومُ لَا يَنْطِقُ يَكْفِي فِي صِدْقِهِ عَدَمُ النُّطْقِ بِبَعْضِ الْأَشْيَاءِ وَفِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، وَذَلِكَ لَا يُنَافِي حُصُولَ النُّطْقِ بِشَيْءٍ آخَرَ فِي وَقْتٍ آخَرَ، فَيَكْفِي فِي صِدْقِ قَوْلِهِ: لَا يَنْطِقُونَ أَنَّهُمْ لَا يَنْطِقُونَ بِعُذْرٍ وَعِلَّةٍ فِي وَقْتِ السُّؤَالِ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ إِشَارَةٌ إِلَى صِحَّةِ الْجَوَابَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ بِحَسَبِ النَّظَرِ الْعَقْلِيِّ، فَإِنْ قِيلَ: لَوْ حَلَفَ لَا يَنْطِقُ فِي هَذَا الْيَوْمِ، فَنَطَقَ فِي جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْيَوْمِ يَحْنَثُ؟ قُلْنَا: مَبْنِيُّ الْأَيْمَانِ عَلَى الْعُرْفِ، وَالَّذِي ذَكَرْنَاهُ بَحْثٌ عَنْ مَفْهُومِ اللَّفْظِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ هُوَ وَرَابِعُهَا: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَرَدَتْ عَقِيبَ قَوْلِ خَزَنَةِ جَهَنَّمَ لَهُمْ انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ فَيَنْقَادُونَ وَيَذْهَبُونَ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّهُمْ كَانُوا يُؤْمَرُونَ فِي الدُّنْيَا بِالطَّاعَاتِ فَمَا كَانُوا يَلْتَفِتُونَ. أَمَّا فِي هَذِهِ السَّاعَةِ [فقد] صاروا منقادين مطيعين فِي مِثْلِ هَذَا التَّكْلِيفِ الَّذِي هُوَ أَشَقُّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُمْ لَوْ تَرَكُوا الْخُصُومَةَ فِي الدُّنْيَا لَمَا احْتَاجُوا فِي هَذَا الْوَقْتِ إِلَى هَذَا الِانْقِيَادِ الشَّاقِّ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ قَوْلَهُ: هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ مُتَقَيِّدٌ بِهَذَا الْوَقْتِ فِي هَذَا الْعَمَلِ، وَتَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ بِسَبَبِ مُقَدِّمَةِ الْكَلَامِ مَشْهُورٌ فِي الْعُرْفِ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا قَالَتْ: أَخْرُجُ هَذِهِ السَّاعَةَ مِنَ الدَّارِ، فَقَالَ الزَّوْجُ: لَوْ خَرَجْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَإِنَّهُ يَتَقَيَّدُ هَذَا الْمُطْلَقُ بِتِلْكَ الْخَرْجَةِ، فكذا هاهنا.
السُّؤَالُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ يُوهِمُ أَنَّ لَهُمْ عُذْرًا وَقَدْ مُنِعُوا مِنْ ذِكْرِهِ، وَهَذَا لَا يَلِيقُ بِالْحَكِيمِ وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ عُذْرٌ وَلَكِنْ رُبَّمَا تَخَيَّلُوا خَيَالًا فَاسِدًا أَنَّ لَهُمْ فِيهِ عُذْرًا، فهم لا يؤذن لهم في ذلك ذكر الْعُذْرِ الْفَاسِدِ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ الْعُذْرَ الْفَاسِدَ هُوَ أَنْ يَقُولَ: لَمَّا كَانَ الْكُلُّ بِقَضَائِكَ وَعِلْمِكَ وَمَشِيئَتِكَ وَخَلْقِكَ فَلِمَ تُعَذِّبُنِي عَلَيْهِ، فَإِنَّ هَذَا عُذْرٌ فَاسِدٌ إِذْ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَمْنَعَ الْمَالِكَ عَنِ التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِهِ كَيْفَ شَاءَ وَأَرَادَ، فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّهُ قَالَ: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النِّسَاءِ: ١٦٥] وَقَالَ: وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا [طه: ١٣٤] وَالْمَقْصُودُ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ أَنْ لَا يَبْقَى فِي قَلْبِهِ، أَنَّ لَهُ عُذْرًا، فَهَبْ أَنَّ عُذْرَهُ فِي مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ فَاسِدٌ فَلِمَ لَا يُؤْذَنُ لَهُ فِي ذِكْرِهِ حَتَّى يَذْكُرَهُ، ثُمَّ يُبَيَّنُ لَهُ فَسَادَهُ؟ قُلْنَا: لَمَّا تَقَدَّمَ الْإِعْذَارُ وَالْإِنْذَارُ فِي الدُّنْيَا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً، عُذْراً أَوْ نُذْراً [المرسلات: ٦] كَانَ إِعَادَتُهَا غَيْرَ مُفِيدَةٍ.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: لِمَ لَمْ يَقُلْ: وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ؟ كَمَا قَالَ: لَا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا [فَاطِرٍ: ٣٦] الْجَوَابُ: الفاء هاهنا لِلنَّسَقِ فَقَطْ، وَلَا يُفِيدُ كَوْنَهُ جَزَاءً أَلْبَتَّةَ وَمِثْلُهُ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ [الْبَقَرَةِ: ٢٤٥] بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ، وَإِنَّمَا رُفِعَ يَعْتَذِرُونَ بِالْعَطْفِ لِأَنَّهُ لَوْ نُصِبَ لَكَانَ ذَلِكَ يُوهِمُ أَنَّهُمْ مَا يَعْتَذِرُونَ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُؤْذَنُوا فِي الِاعْتِذَارِ، وَذَلِكَ يُوهِمُ أَنَّ لَهُمْ فِيهِ عُذْرًا مُنِعُوا عَنْ ذِكْرِهِ وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ. أَمَّا لَمَّا رُفِعَ كَانَ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَمْ يُؤْذَنُوا فِي الْعُذْرِ وَهُمْ أَيْضًا لَمْ يَعْتَذِرُوا لَا لِأَجْلِ عَدَمِ الْإِذْنِ بَلْ لِأَجْلِ عَدَمِ الْعُذْرِ فِي نَفْسِهِ،
778
ثُمَّ إِنَّ فِيهِ فَائِدَةً أُخْرَى وَهِيَ حُصُولُ الْمُوَافَقَةِ فِي رُءُوسِ الْآيَاتِ/ لِأَنَّ الْآيَاتِ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ، وَلَوْ قِيلَ: فَيَعْتَذِرُوا لَمْ تَتَوَافَقِ الْآيَاتُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ فِي سُورَةِ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ: إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ [الْقَمَرِ: ٦] فَثَقَّلَ لِأَنَّ آيَاتِهَا مُثَقَّلَةٌ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً [الطَّلَاقِ: ٨] وَأَجْمَعَ الْقُرَّاءُ عَلَى تَثْقِيلِ الْأَوَّلِ وَتَخْفِيفِ الثَّانِي لِيُوَافِقَ كُلٌّ مِنْهُمَا مَا قبله.
[سورة المرسلات (٧٧) : الآيات ٣٨ الى ٤٠]
هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (٣٨) فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (٣٩) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٠)
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّوْعُ السَّابِعُ: مِنْ أَنْوَاعِ تَهْدِيدِ الْكُفَّارِ، وَهَذَا الْقِسْمُ مِنْ بَابِ التَّعْذِيبِ بِالتَّقْرِيعِ وَالتَّخْجِيلِ، فَأَمَّا قَوْلُهُ: هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ فَاعْلَمْ أَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ يَقَعُ فِيهِ نَوْعَانِ مِنَ الْحُكُومَةِ أَحَدُهُمَا: مَا بَيْنَ الْعَبْدِ وَالرَّبِّ وَفِي هَذَا الْقِسْمِ كُلُّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالرَّبِّ فَلَا حَاجَةَ فِيهِ إِلَى الْفَصْلِ وَهُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالثَّوَابِ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ الْمَرْءُ عَلَى عَمَلِهِ وَكَذَا فِي الْعِقَابِ إِنَّمَا يُحْتَاجُ إِلَى الْفَصْلِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِجَانِبِ الْعَبْدِ وَهُوَ أَنْ تُقَرَّرَ عَلَيْهِمْ أَعْمَالُهُمُ الَّتِي عَمِلُوهَا حَتَّى يَعْتَرِفُوا.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا يَكُونُ بَيْنَ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ، فَإِنَّ هَذَا يَدَّعِي عَلَى ذَاكَ أَنَّهُ ظَلَمَنِي وَذَاكَ يَدَّعِي عَلَى هَذَا أَنَّهُ قَتَلَنِي فَهَهُنَا لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ الْفَصْلِ وَقَوْلُهُ: جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ كَلَامٌ مُوَضِّحٌ لِقَوْلِهِ: هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ هَذَا الْيَوْمُ يَوْمَ فَصْلِ حُكُومَاتِ جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ فَلَا بُدَّ مِنْ إِحْضَارِ جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ لَا سِيَّمَا عِنْدَ مَنْ لَا يُجَوِّزُ الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ، ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ يُشِيرُ بِهِ إِلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَدْفَعُونَ الْحُقُوقَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ بِضُرُوبِ الْحِيَلِ وَالْكَيْدِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: فَهَهُنَا إِنْ أَمْكَنَكُمْ أَنْ تَفْعَلُوا مِثْلَ تِلْكَ الْأَفْعَالِ الْمُنْكَرَةِ مِنَ الْكَيْدِ وَالْمَكْرِ وَالْخِدَاعِ وَالتَّلْبِيسِ فَافْعَلُوا، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [الْبَقَرَةِ: ٢٣] ثُمَّ إِنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ الْحِيَلَ مُنْقَطِعَةٌ وَالتَّلْبِيسَاتِ غَيْرُ مُمْكِنَةٍ، فَخِطَابُ اللَّهِ تَعَالَى لَهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ نِهَايَةٌ فِي التَّخْجِيلِ وَالتَّقْرِيعِ، وَهَذَا مِنْ جِنْسِ الْعَذَابِ الرُّوحَانِيِّ، فَلِهَذَا قَالَ عَقِيبَهُ: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ.
[سورة المرسلات (٧٧) : الآيات ٤١ الى ٤٥]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (٤١) وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٤٢) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٤٤) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٥)
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّوْعُ الثَّامِنُ: مِنْ أَنْوَاعِ تَهْدِيدِ الْكُفَّارِ وَتَعْذِيبِهِمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْخُصُومَةَ الشَّدِيدَةَ وَالنَّفْرَةَ الْعَظِيمَةَ كَانَتْ فِي الدُّنْيَا قَائِمَةً بَيْنَ الْكُفَّارِ وَالْمُؤْمِنِينَ، فَصَارَتْ تِلْكَ النَّفْرَةُ بِحَيْثُ إِنَّ الْمَوْتَ كَانَ أَسْهَلَ عَلَى الْكَافِرِ مِنْ أَنْ يَرَى لِلْمُؤْمِنِ دَوْلَةً وَقُوَّةً، فَلَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ اجْتِمَاعَ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ وَالْخِزْيِ وَالنَّكَالِ عَلَى الْكُفَّارِ، بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ اجْتِمَاعَ أَنْوَاعِ السَّعَادَةِ وَالْكَرَامَةِ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِ، حَتَّى إِنَّ الْكَافِرَ حَالَ مَا يرى نفسه في غاية الذال وَالْهَوَانِ وَالْخِزْيِ وَالْخُسْرَانِ، وَيَرَى خَصْمَهُ فِي نِهَايَةِ الْعِزِّ وَالْكَرَامَةِ وَالرِّفْعَةِ وَالْمَنْقَبَةِ، تَتَضَاعَفُ
779
حَسْرَتُهُ وَتَتَزَايَدُ غُمُومُهُ وَهُمُومُهُ، وَهَذَا أَيْضًا مِنْ جِنْسِ الْعَذَابِ الرُّوحَانِيِّ، فَلِهَذَا قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يَتَّقُونَ الشِّرْكَ بِاللَّهِ، وَأَقُولُ هَذَا الْقَوْلُ عِنْدِي هُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي لَا مَعْدِلَ عَنْهُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُتَّقِيَ عَنِ الشِّرْكِ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ مُتَّقٍ، لِأَنَّ الْمُتَّقِيَ عَنِ الشِّرْكِ مَاهِيَّةٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ قَيْدَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُتَّقٍ وَالثَّانِي: خُصُوصُ كَوْنِهِ عَنِ الشِّرْكِ، وَمَتَى وُجِدَ الْمُرَكَّبُ، فَقَدْ وُجِدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ مُفْرَدَاتِهِ لَا مَحَالَةَ، فَثَبَتَ أَنَّ كُلَّ مَنْ صَدَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مُتَّقٍ عَنِ الشِّرْكِ، فَقَدْ صَدَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مُتَّقٍ، أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُقَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تَتَنَاوَلُ كُلَّ مَنْ كَانَ مُتَّقِيًا لِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ، إِلَّا أَنَّا نَقُولُ كَوْنُهُ كَذَلِكَ لَا يَقْدَحُ فِيمَا قُلْنَاهُ، لِأَنَّهُ خَصَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ مُتَّقِيًا عَنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ فَيَبْقَى فِيمَا عداه حجة لأن العام الَّذِي دَخَلَ التَّخْصِيصَ يَبْقَى حُجَّةً فِيمَا عَدَاهُ وَثَانِيهَا: أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا مُرَتَّبَةٌ فِي تَقْرِيعِ الْكُفَّارِ عَلَى كُفْرِهِمْ وَتَخْوِيفِهِمْ عَلَيْهِ، فَهَذِهِ الْآيَةُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مَذْكُورَةً لِهَذَا الْغَرَضِ، وَإِلَّا لَتَفَكَّكَتِ السُّورَةُ فِي نَظْمِهَا وَتَرْتِيبِهَا، وَالنَّظْمُ إِنَّمَا يَبْقَى لَوْ كَانَ هَذَا الْوَعْدُ حَاصِلًا لِلْمُؤْمِنِينَ بِسَبَبِ إِيمَانِهِمْ، لِأَنَّهُ لَمَّا تَقَدَّمَ وَعِيدُ الْكَافِرِ بِسَبَبِ كُفْرِهِ، وَجَبَ أَنْ يُقْرَنَ ذَلِكَ بِوَعْدِ الْمُؤْمِنِ بِسَبَبِ إِيمَانِهِ حَتَّى يَصِيرَ ذَلِكَ سَبَبًا فِي الزَّجْرِ عَنِ الْكُفْرِ، فَأَمَّا أَنْ يُقْرَنَ بِهِ وَعْدُ الْمُؤْمِنِ بِسَبَبِ طَاعَتِهِ، فَذَلِكَ غَيْرُ لَائِقٍ بِهَذَا النَّظْمِ وَالتَّرْتِيبِ، فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ الْمُتَّقِينَ كُلُّ مَنْ كَانَ مُتَّقِيًا عَنِ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ حَمْلَ اللَّفْظِ عَلَى الْمُسَمَّى الْكَامِلِ أَوْلَى، وَأَكْمَلُ أَنْوَاعِ التَّقْوَى هُوَ التَّقْوَى عَنِ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ، فَكَانَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَيْهِ أَوْلَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَعَثَ الْكُفَّارَ إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ أَعَدَّ فِي مُقَابَلَتِهِ لِلْمُؤْمِنِينَ ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ مِنَ النِّعْمَةِ أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ كَأَنَّهُ قِيلَ: ظِلَالُهُمْ مَا كَانَتْ ظَلِيلَةً، وَمَا كَانَتْ مُغْنِيَةً عَنِ اللَّهَبِ وَالْعَطَشِ أَمَّا الْمُتَّقُونَ فَظِلَالُهُمْ ظَلِيلَةٌ، وَفِيهَا عُيُونٌ عَذْبَةٌ مُغْنِيَةٌ لَهُمْ عَنِ الْعَطَشِ وَحَاجِزَةٌ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّهَبِ وَمَعَهُمُ الْفَوَاكِهُ الَّتِي يَشْتَهُونَهَا وَيَتَمَنَّوْنَهَا، وَلَمَّا قَالَ لِلْكُفَّارِ: انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ قَالَ لِلْمُتَّقِينَ:
كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْإِذْنُ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَا بِوَاسِطَةٍ، وَمَا أَعْظَمَهَا، أَوْ مِنْ جِهَةِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى وَجْهِ الْإِكْرَامِ، وَمَعْنَى هَنِيئاً أَيْ خَالِصَ اللَّذَّةِ لَا يَشُوبُهُ سَقَمٌ وَلَا تَنْغِيصٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَنَّ قَوْلَهُ: كُلُوا وَاشْرَبُوا أَمْرٌ أَوْ إِذْنٌ قَالَ أَبُو هَاشِمٍ: هُوَ أَمْرٌ، وَأَرَادَ اللَّهُ مِنْهُمُ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ، لِأَنَّ سُرُورَهُمْ يَعْظُمُ بِذَلِكَ، وَإِذَا عَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ أَرَادَهُ مِنْهُمْ جَزَاءً عَلَى عَمَلِهِمْ فَكَمَا يَزِيدُ إِجْلَالُهُمْ وَإِعْظَامُهُمْ بِذَلِكَ، فَكَذَلِكَ يُرِيدُ نَفْسَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ مَعَهُمْ، وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: ذَلِكَ لَيْسَ بِأَمْرٍ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ بِقَوْلِهِ: عَلَى وَجْهِ الْإِكْرَامِ، لِأَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ إِنَّمَا يَحْصُلَانِ فِي زَمَانِ التَّكْلِيفِ، وَلَيْسَ هَذَا صِفَةَ الْآخِرَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: تَمَسَّكَ مَنْ قَالَ الْعَمَلُ يُوجِبُ الثَّوَابَ بِالْبَاءِ فِي قَوْلِهِ: بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ الْبَاءَ لِلْإِضَافَةِ، وَلَمَّا جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ الْعَمَلَ عَلَامَةً لِهَذَا الثَّوَابِ كَانَ الْإِتْيَانُ بِذَلِكَ الْعَمَلِ كَالْآلَةِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى تَحْصِيلِ ذَلِكَ الثَّوَابِ، وَقَوْلُهُ: إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ أَنْ يُذَكِّرَ الْكُفَّارَ مَا فَاتَهُمْ مِنَ النِّعَمِ الْعَظِيمَةِ، لِيَعْلَمُوا أَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا مِنَ الْمُتَّقِينَ الْمُحْسِنِينَ لَفَازُوا بِمِثْلِ تِلْكَ الْخَيْرَاتِ، وَإِذَا لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ لَا جرم وقعوا فيما وقعوا فيه.
780

[سورة المرسلات (٧٧) : الآيات ٤٦ الى ٤٧]

كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (٤٦) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٧)
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّوْعُ التَّاسِعُ: مِنْ أَنْوَاعِ تَخْوِيفِ الْكُفَّارِ، كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ للكفار حَالَ كَوْنِهِ فِي الدُّنْيَا إِنَّكَ إِنَّمَا عَرَّضْتَ نَفْسَكَ لِهَذِهِ الْآفَاتِ الَّتِي وَصَفْنَاهَا وَلِهَذِهِ الْمِحَنِ الَّتِي شَرَحْنَاهَا لِأَجْلِ حُبِّكَ لِلدُّنْيَا وَرَغْبَتِكَ فِي طَيِّبَاتِهَا وَشَهَوَاتِهَا إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الطَّيِّبَاتِ قَلِيلَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى تِلْكَ الْآفَاتِ الْعَظِيمَةِ وَالْمُشْتَغِلُ بِتَحْصِيلِهَا يَجْرِي مَجْرَى لُقْمَةٍ وَاحِدَةٍ مِنَ الْحَلْوَاءِ، وَفِيهَا السلم الْمُهْلِكُ فَإِنَّهُ يُقَالُ لِمَنْ يُرِيدُ أَكْلَهَا وَلَا يَتْرُكُهَا بِسَبَبِ نَصِيحَةِ النَّاصِحِينَ وَتَذْكِيرِ الْمُذَكِّرِينَ: كُلْ هَذَا وَوَيْلٌ لَكَ مِنْهُ بَعْدَ هَذَا فَإِنَّكَ مِنَ الْهَالِكِينَ بِسَبَبِهِ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ فِي اللَّفْظِ أَمْرًا إِلَّا أَنَّهُ فِي الْمَعْنَى نَهْيٌ بَلِيغٌ وَزَجْرٌ عَظِيمٌ وَمَنْعٌ فِي غَايَةِ الْمُبَالَغَةِ.
ثم قال تعالى:
[سورة المرسلات (٧٧) : الآيات ٤٨ الى ٤٩]
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (٤٨) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٩)
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّوْعُ الْعَاشِرُ: مِنْ أَنْوَاعِ تَخْوِيفِ الْكُفَّارِ كَأَنَّهُ قِيلَ لَهُمْ: هَبْ أَنَّكُمْ تُحِبُّونَ الدُّنْيَا وَلَذَّاتِهَا وَلَكِنْ لَا تُعْرِضُوا بِالْكُلِّيَّةِ عَنْ خِدْمَةِ خَالِقِكُمْ بَلْ تَوَاضَعُوا لَهُ فَإِنَّكُمْ إِنْ آمَنْتُمْ ثُمَّ ضَمَمْتُمْ إِلَيْهِ طَلَبَ اللَّذَّاتِ وَأَنْوَاعِ الْمَعَاصِي حَصَلَ لَكُمْ رَجَاءُ الْخَلَاصِ عَنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ وَالْفَوْزِ بِالثَّوَابِ، كَمَا قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النِّسَاءِ: ٤٨] ثم إن هؤلاء الكفار لا يفعلوا ذَلِكَ وَلَا يَنْقَادُونَ لِطَاعَتِهِ، وَيَبْقَوْنَ مُصِرِّينَ عَلَى جَهْلِهِمْ وَكُفْرِهِمْ وَتَعْرِيضِهِمْ أَنْفُسَهُمْ لِلْعِقَابِ الْعَظِيمِ، فَلِهَذَا قَالَ: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أَيِ الْوَيْلُ لِمَنْ يُكَذِّبُ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءَ الَّذِينَ يُرْشِدُونَهُمْ إِلَى هَذِهِ المصالح الجامعة بين خيرات الدنيا والآخرة، وَهَاهُنَا مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَوْلُهُ: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ الْمُرَادُ بِهِ الصَّلَاةُ، وَهَذَا ظَاهِرٌ لِأَنَّ الرُّكُوعَ مِنْ أَرْكَانِهَا، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ مِنْ صِفَتِهِمْ أَنَّهُمْ إِذَا دُعُوا إِلَى الصَّلَاةِ لَا يُصَلُّونَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرَائِعِ، وَأَنَّهُمْ حَالَ كَفْرِهِمْ كَمَا يَسْتَحِقُّونَ الذَّمَّ وَالْعِقَابَ بِتَرْكِ الْإِيمَانِ، فَكَذَلِكَ يَسْتَحِقُّونَ الذَّمَّ وَالْعِقَابَ بِتَرْكِ الصَّلَاةِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَمَّهُمْ حَالَ كَفْرِهِمْ عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ، وَقَالَ قَوْمٌ آخَرُونَ: الْمُرَادُ بِالرُّكُوعِ الْخُضُوعُ وَالْخُشُوعُ لِلَّهِ تَعَالَى، وَأَنْ لَا يُعْبَدَ سِوَاهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ اسْتَدَلُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَمَّهُمْ بِمُجَرَّدِ تَرْكِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُجَرَّدَ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُمْ كُفَّارٌ فَلِكُفْرِهِمْ ذَمَّهُمْ؟ قُلْنَا: إِنَّهُ تَعَالَى ذَمَّهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا ذَمَّهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّهُمْ تَرَكُوا الْمَأْمُورَ بِهِ، فَعَلِمْنَا أَنَّ تَرْكَ الْمَأْمُورِ بِهِ غَيْرُ جائز.
[سورة المرسلات (٧٧) : آية ٥٠]
فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (٥٠)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَالَغَ فِي زَجْرِ الْكُفَّارِ مِنْ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ إِلَى آخِرِهَا بِالْوُجُوهِ الْعَشَرَةِ الَّتِي شرحناها،
781
وَحَثَّ عَلَى التَّمَسُّكِ بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ وَالِانْقِيَادِ لِلدِّينِ الْحَقِّ خَتَمَ السُّورَةَ بِالتَّعَجُّبِ مِنَ الْكُفَّارِ، وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ إِذَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذِهِ الدَّلَائِلِ اللَّطِيفَةِ مَعَ تَجَلِّيهَا وَوُضُوحِهَا فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ قَالَ الْقَاضِي: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ مُحْدَثٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُ بِأَنَّهُ حَدِيثٌ، وَالْحَدِيثُ ضِدُّ الْقَدِيمِ وَالضِّدَّانِ لَا يَجْتَمِعَانِ، فَإِذَا كَانَ حَدِيثًا وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ قَدِيمًا، وَأَجَابَ الْأَصْحَابُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ وَلَا نِزَاعَ فِي أَنَّهَا مُحْدَثَةٌ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سيد المرسلين محمد وآله أجمعين.
تم الجزء الثلاثون ويليه الجزء الحادي والثلاثون وأوله سورة النبأ
782
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
حَمْرَاءَ سَاطِعَةَ الذَّوَائِبِ فِي الدُّجَى تَرْمِي بِكُلِّ شرارة كطراف