ﰡ
[الجزء الثاني]
سورة الأنفالمدنية وهي سبعون وخمس آيات
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ١ الى ٤]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤)قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ، يعني: الغنائم، واحدها نفل غنيمة، وكذلك قال لبيد:
إنَّ تَقْوَى رَبِّنَا خَيْرُ نَفَل | وبإذن الله ريثي وعجل |
من هداه سبل الخير اهتدى | ناعم البال ومن شاء أضل «١» |
إنما هم سألوا عنها لأنها كانت محرمة من قبل، فسألوا عنها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنزل يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ يعني الغنائم.
قال الفقيه: حدّثنا: أبو الفضل بن أبي حفص قال: حدثنا أبو جعفر الطحاوي قال: حدثنا إبراهيم بن أبي داود قال: حدثنا سعيد بن أبي مريم، عن عبد الرحمن بن أبي زياد، عن عبد الرحمن بن الحارث، عن سليمان بن موسى، عن مكحول، عن أبي أمامة، عن عبادة بن الصامت قال: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى بدر فلقي العدو، فلما هزمهم الله تعالى، أتبعهم طائفة من المسلمين يقتلونهم، وأحدقت طائفة برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، واستولت طائفة بالعسكر والنهب، فقال الذين طلبوهم: نحن طلبنا إحاطة العدو، وبنا نفاهم الله تعالى وهزمهم، فلنا النفل. وقال الذين أحدقوا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم: نحن أحدقنا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم لئلا ينال العدو منه غرة، فهو لنا.
وقال الذين استولوا على العسكر والنّهب: والله ما أنتم بأحق منا، بل هو لنا، نحن حويناه
وعن عكرمة ومجاهد مثله «٢» -.
قوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ، يعني: اخشوا الله وأطيعوه في أمر الغنيمة وأصلحوا ما بينكم من الاختلاف في الغنيمة. وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، يعني: في أمر الصلح والغنيمة. إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، يعني: إن كنتم مصدّقين. ويقال: معناه، اتركوا المراء في أمر الغنيمة إن كنتم مصدِّقين.
ثم نعت المؤمنين المصدّقين، فقال الله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ويقال: إنما المصدقون الذين إذا أُمروا بأمر في أمر الغنيمة وغيرها من قبل الله تعالى، خافت قلوبهم. ويقال: إنما المصدقون الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ أي ذكر عندهم أمر الله. ويقال:
الذين إذا أُمروا بأمر من الله، وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ يعني: قبلت قلوبهم، فسمى قبول القلوب وجلاً، لأن بالوجل يثبت القبول، لأنهم وجلوا عقوبة الله تعالى فقبلوه.
ثم قال: وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ، يعني: إذا قرئت عليهم آياته بالأمر والنهي في أمر الصلح وغيره، زادَتْهُمْ إِيماناً، يعني: تصديقاً ويقيناً. وقال الضحاك: يعني زادتهم تصديقا بحكم الناسخ، مع تصديقهم بالمنسوخ. وقال الزجاج: تأويل الإيمان التصديق، فكل ما تلي عليهم من عند الله تصديقا صدَّقوا به فزادهم تصديقاً، فذلك زيادة إيمانهم. وروي عن ابن عباس أنه قال: «زادتهم تصديقاً بالفرائض مع تصديقهم بالله». وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، يعني:
يفوضون أمرهم إلى الله، ويثقون به، ولا يثقون بما في أيديهم من الغنائم، ويعلمون أن الله رازقهم.
ثم قال الله تعالى: الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ، يعني: يتمونها في مواقيتها بركوعها وسجودها وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ، يعني: يتصدَّقون مما أعطيناهم من الأموال، وينفقونها في طاعة الله.
قوله تعالى: أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا، يعني: أهل هذه الصفة هم المؤمنون الموحدون حَقًّا صدقاً، وهم المصدِّقون. لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ، يعني: فضائل عند ربهم في الآخرة. ويقال: لهم منازل في الرفعة على قدر أعمالهم وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ
(٢) ما بين معقوفتين ساقط من النسخة «ب». [.....]
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٥ الى ٦]
كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (٥) يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٦)
قوله تعالى: كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ، قال القتبي: معناه، كراهتهم فيما فعلته في الغنائم، ككراهتهم الخروج معك. ويقال: معناه، أُوْلَئِكَ هُمُ المؤمنون حقا كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ، وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ فكذلك ننفل الغنيمة لمن نشاء، وإنْ كرهوا ذلك. ويقال: هذا ابتداء القصة، ومعناه: امض على وجهك كما أخرجك ربك من بيتك بالحق، وإن فريقا من المؤمنين لكارهون.
قوله تعالى: يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ وكان هذا بعد خروجه إلى بدر، وكانت غزوة بدر في السنة الثانية من مقدم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم المدينة. وفي تلك السنة، حولت القبلة من بيت المقدس إلى المسجد الحرام، وكانت غزوة بدر في شهر رمضان، وكانت قصته: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بلغه أن عير قريش خرجت من الشام، فيهم أبو سفيان بن حرب ومخرمة بن نوفل في أربعين رجلاً من تجار قريش، ويقال أكثر من ذلك، فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه: «هذه عير أبي سفيان قَدْ أَقْبَلَتْ، فَاخْرُجُوا إلَيْهَا، فَلَعَلَّ الله أنْ يُنَفِّلَكُمُوهَا على جهادكم، وتتقوّوا بها على عَدُوِّكُمْ». فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجلين من جهينة، حليفين في الأنصار بأن ينظرا ويأتيا بخبر العير، فخرجا وأتيا وادي الصفراء، وهي منزل من أحد على طريق الشام، فقالا لأهل الصفراء: هل أحسستم من أحد؟
فقالوا: لا. فخرجا فمرا بجاريتين تتلازمان «١»، فقالت إحداهما للأخرى: اقضيني درهماً لي عليك. فقالت: لا والله ما عندي اليوم، ولكن عير قريش نزلت بموضع كذا، يقدمون غدا فأعمل لهم، فأقضيك درهمك. فسمع الرجلان ما قالت الجاريتان، فرجعا وأخبرا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بذلك.
فجاء أبو سفيان بن حرب حين أمسى الصفراء، فقال لأهل الصفراء: هل أحسستم من أحد؟ قالوا: لا إلاَّ رجلين نزلا عند هذا الكثيب، ثم ركبا. فرجع أبو سفيان إلى ذلك الموضع، فرأى هناك بعر الإبل، فأخذ بعرة ففتّها، فوجد فيه النوى فقال: علائف أهل يثرب واللات والعزى. فأرسل من الطريق ضمضم بن عمرو الغفاري إلى مكة يخبرهم أن محمداً صلّى الله عليه وسلّم قد اعترض لعيركم فأدركوها.
وكانت عاتكة بنت عبد المطلب رأت قبل أن يقدم ضمضم بن عمرو بثلاثة أيام في
فلما كان اليوم الثالث، جاء ضمضم وقد شق قميصه، وجدع أذن ناقته، وجعل التراب على رأسه وهو ينادي: يا معشر قريش، الغوث الغوث، أدركوا عيركم فقد عرض لها محمد صلّى الله عليه وسلّم. فاجتمعوا وخرجوا وهم كارهون مشفقون لرؤيا عاتكة، ومعهم القينات والدفوف بطراً ورياء كما قال الله تعالى: خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ [الأنفال: ٤٧]. وكل يوم يطعمهم واحد من أغنيائهم.
وخرج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من المدينة وأمر أصحابه بالخروج، فخرج معه ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً من المهاجرين والأنصار، فخرجوا على نواضحهم ليس لهم ظهر غيرها، ومعهم ثلاثة أفراس ويقال: فرسان. فخرجوا بغير قوت ولا سلاح، لا يرون أنه يكون ثمة قتالا. فلما نزلوا بالروحاء، نزل جبريل على محمد صلّى الله عليه وسلّم، فأخبره بخروج المشركين من مكة إلى عيرهم، وقال:
يا محمد، أن الله تعالى وعدكم إحدى الطائفتين: إما العير، وإما العسكر. فأخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم أصحابه بخروج المشركين من مكة إلى عيرهم، فشق ذلك على بعضهم وقالوا: يا رسول الله، هلا كنت أخبرتنا أنه يكون ثمّ قتالا فنخرج معنا سلاحنا وقسينا وفرسنا، إنما خرجنا نريد العير، والعير كانت أهون شوكة وأعظم غنيمة. فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه: «أَشِيرُوا عَلَيَّ». فكان أبو بكر وعمر يشيران عليه بالمسير، وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «أَشِيرُوا عَلَيَّ»، وكان يحب أن يكلّمه الأنصار، فقال سعد بن معاذ: يا رسول الله امض حيث شئت، وأقم حيث شئت فو الله لئن أمرتنا أن نخوض في البحر لنخوضنه، ولا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ [المائدة: ٢٤]، ولكن نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا، ونحن معكما متَّبعون، فنزل: كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ يعني: امض من الروحاء كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ، يعني: القتال يُجادِلُونَكَ فِي
، يخاصمونك في الحرب، بَعْدَ ما تَبَيَّنَ، يعني: بَعْدِ مَا تبيَّن لَهُمُ أنك لا تصنع إلا ما أمرك الله به كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ، يعني: ينظرون إلى القتل «١».
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٧ الى ٨]
وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (٧) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨)
ثم قال تعالى: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ، يعني: الغنيمة إما العير وإما العسكر. وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ، يعني تمنون غير ذات السلاح. وقال القتبي: ومنه قيل: فلان شاك في السلاح، ويقال: غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ يعني: شدة القتال. تَكُونُ لَكُمْ الغنيمة، وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ، يعني: أن يظهر الإسلام بتحقيقه بما أنزل عليك من القرآن. وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ، يعني: يهلك الشرك ويستأصله. لِيُحِقَّ الْحَقَّ، يعني:
ليظهر الإسلام. وَيُبْطِلَ الْباطِلَ، يعني: الشرك. وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ، أي: المشركون.
فقال لهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «سِيرُوا عَلَىَ بَرَكَةِ الله، فَإِنِي رَأَيْتُ مَصَارِعَ القَومِ». وجاءت قريش وأدركوا العير وأفلتوهم، فقال بعضهم لبعض: إنما خرجتم لأجل العير، فلما وجدتم العير فارجعوا سالمين. فقال أبو جهل: لا نرجع حتى نقتل محمداً ومن معه. فسار النبيّ صلّى الله عليه وسلّم حتى نزل بدراً بجانب الوادي الأدنى، ونزل المشركون على جانبه الأقصى على الماء، والوادي فيما بينهما. فصلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تلك الليلة، حتى أوتر وكانت ليلة النصف من شهر شعبان، وقال في قنوته: «اللَّهُمَّ لا تُفْلِتَنَّ أَبَا جَهْلِ بْنِ هِشّامِ وَفُلاَناً وفلاناً» فباتوا تلك الليلة وقد أجنبوا وليس معهم ماء، فأتاهم الشيطان عند ذلك فوسوس إليهم، فقال: تزعمون أنكم على دين الله، وأنكم تصلون محدثين مجنبين، والمشركون على الماء. وكان الوادي ذا رمل تغيب فيه الأقدام، فمطرت السماء حتى سال الوادي، فاشتد ذلك الرمل واغتسل المسلمون من جنابتهم وشرّبوا وسقوا دوابهم فذلك قوله: وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ [الأنفال: ١١] إلى قوله:
وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ [الأنفال: ١١].
وكان عليّ والزبير يحرسان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فجاء سقاة قريش يستقون الماء، فأخذهم عليّ والزبير، فسألاهم عن أبي سفيان، فقالوا: ما لنا بأبي سفيان من علم. فقالا: فمع من أنتم؟
فقالوا: مع قريش من أهل مكة. فقالا: فكم هم؟ قالوا: لا ندري، هم كثير، فضرباهم فقالوا:
هم قليل فتركاهم. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «تَضْرِبُونَهُمْ إنْ صَدَقُوكُمْ، وَتَتْرُكُونَهُمْ إن كذبوكم».
«كَمْ يُنْحَرُ لهم في كل يوم» ؟ فقالوا: في يوم ينحر لهم عشرة جذور، وفي يوم تسعة. فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «القَوْمُ ما بَيْنَ تِسْعِمائَةٍ إلى أَلْفٍ» وكانت عدتهم تسعمائة وخمسين، وكانوا قد خرجوا من مكة ألفاً ومائتين وخمسين، فرجع الأخنس بن شريق مع ثلاثمائة من بني زهرة مع العير، وبقي تسعمائة وخمسون رجلاً.
فصلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلاة الخوف «١» الغداة ورفع يديه وقال: «اللَّهُمَّ لا تُهْلِكْ هذه العِصَابَةَ فَإنَّكَ إنْ أَهْلَكْتُهُمْ، لا تعْبَد عَلَى وَجْهِ الأرْضِ أبَداً» فقال أبو بكر: عليك يا رسول الله، قد دنا القوم. فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أَبْشِرْ يا أبا بَكْرٍ، فإنّي رأيت جبريل معتمرا بِعِمَامةٍ، يقودُ فَرَساً بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ». فأمدَّه الله بجبريل في ألف من الملائكة، وميكائيل في ألف من الملائكة، وإسرافيل في ألف من الملائكة فذلك قوله يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ [آل عمران: ١٢٤].
فقال أبو جهل: اللهم انصر أحب الدينين إليك، ديننا العتيق ودين محمد الحديث. فقال عتبة بن ربيعة: يا معشر قريش، إن محمداً رجل منكم، فإن يكن نبياً فأنتم أسعد الناس به، وإن يكن ملكاً تعيشوا في ملك أخيكم، وإن يك كاذباً يقتله سواكم، لا يكون هذا منكم، وإني مع ذلك لأرى قوماً زرق العيون لا يموتون حتى يقتلوا عدداً منكم. فقال أبو جهل: يا أبا الوليد، جبنت وانتفخ سحرك. فقال له عتبة: يا كذاب ستعلم اليوم أيّنا الجبان، فلبس لأمته، وخرج معه أخوه شيبة بن ربيعة، وخرج معه ابنه الوليد بن عتبة، وتقدموا إلى القوم وقالوا: يا محمد، ابعث إلينا أكفاءنا. فخرج إليهم قوم من الأنصار، فقالوا لهم: من أنتم؟ فقالوا: نحن أنصار الله ورسوله، فقالوا: لا نريدكم، ولكن نريد إخواننا من قريش، فانصرفوا.
فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «يا بَنِي هَاشمٍ تَقَدَّمُوا إليهم» فقام إليهم علي بن أبي طالب، وحمزة بن عبد المطلب، وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب، وعليهم البيض، فقال لهم عتبة: تكلموا حتى نعرفكم. فقال حمزة: أنا أسد الله وأسد رسوله. فقال عتبة: كفوء كريم. قال: فمن هذان معك؟ فقال: علي بن أبي طالب وعبيدة بن الحارث. فذهب الشيخ إلى الشيخ والشاب إلى الشاب والكهل إلى الكهل. فذهب عبيدة إلى شيبة بن ربيعة وكلاهما شيخان، وذهب عليّ إلى الوليد بن عتبة وكلاهما شابان، وذهب حمزة إلى عتبة بن ربيعة وكلاهما كهلان. فقتل حمزة بن عبد المطلب عتبة بن ربيعة، وقتل علي بن أبي طالب الوليد بن عتبة، واختلف عبيدة بن الحارث وشيبة بن ربيعة ضربتين، ضرب عبيدة بالسيف على رأس شيبة بن ربيعة، وضرب شيبة ضربة في رجل عبيدة. فمال حمزة وعليٌّ على شيبة بن ربيعة، فقتلا شيبة وحملا
ففي هذا الخبر دليل من الفقه: أن المشركين إذا طلبوا البراز، فلا بأس للمؤمنين بأن يخرجوا بغير إذن الإمام ما لم ينههم عن ذلك، لأن الأنصار قد خرجوا قبل أن يأذن لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وفيه دليل: أنه لا بأس بأن ينصر أحد المبارزين صاحبه، لأن حمزة وعليّاً قد أعانا عبيدة على قتل شيبة. وفيه دليل: أنه لا بأس بالافتخار عند الحرب، لأن حمزة قال: أنا أسد الله، وأسد رسوله. ولا بأس بأن يتبختر في مشيته في حال القتال.
ثم خرج مهجع مولى عمر بن الخطاب، فأصابته رمية بين الصفين، وكان أول قتيل يوم بدر. وحرّض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الناس على القتال، فقال عمير بن الحمام السلمي، وهو قائم وفي يده تمرات يأكلها فقال: يا رسول الله، إن قتلت في سبيل الله فلي الجنة؟ قال: «نعم». فألقى التمرات، وأخذ سيفه وشدّ على القوم، فقاتل حتى قتل. فخرج أبو جهل بن هشام على جمل له فخرج إليه شاب من الأنصار، يقال له: معاذ بن عمرو بن الجموح، فضربه ضربة على فخذه، فخر أبو جهل عن بعيره. فخرج إليه عبد الله بن مسعود، فلما رآه أبو جهل قال: يا ابن أم عبد لمن الدولة اليوم؟ وعلى من الدائرة؟ فقال له ابن مسعود: لله ولرسوله يا عدو الله لأنت أعتى من فرعون، لأن فرعون جزع عند الغرق وأنت لم يزدك هذا المصرع إلاَّ تمادياً في الضلالة؟ ثم وضع رجله على عاتق أبي جهل، فقال له أبو جهل: لأنت رويعنا بالأمس، لقد ارتقيت مرتقى عظيما. فقتله عبد الله بن مسعود وحز رأسه وجاء برأسه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فخر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ساجداً، ثم قال لأبي بكر، ويقال قال لعليّ: «نَاوِلْنِي كَفّاً مِنْ التراب». فأخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبضة من تراب، ورمى بها في وجوه القوم وقال: «شاهت الوجوه» فدخلت في أعين القوم كلهم، وأقبل أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقتلونهم ويأسرون منهم، وحملوا على المشركين والملائكة معهم، وقُذِف في قلوب المشركين الرعب، وقتلوا في تلك المعركة منهم سبعين، وأسروا سبعين، واستشهد يومئذ من المهاجرين والأنصار ثلاثة عشر رجلاً. ورجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالأسارى والغنائم إلى المدينة، واستشار النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في أمر الأسارى، فأقبل على أبي بكر فقال: «مَا تَقُولُ يَا أبَا بَكْرٍ» ؟ فقال: قومك وبنو عمك، فإن قتلتهم صاروا إلى النار، وإن تفدهم فلعل الله يهديهم إلى الإسلام، ويكون ما نأخذه منهم قوة للمسلمين، وقوة على جهادهم بأعدائهم. ثم أقبل على عمر فقال: «مَا تَقُولُ يَا أبَا حَفْصٍ» ؟ فقال عمر: إن في يديك رؤوس المشركين وصناديدهم، فاضرب أعناقهم وسيغني الله المؤمنين من فضله. فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم:
«مَثَلَكَ يَا أبَا بَكْرٍ مِنَ المَلاَئِكَةِ مَثَلُ مِيكائِيلَ فَإنَّهُ لاَ يَنْزِلُ إلاَّ بالرَّحْمَةَ، وَمَثَلَكَ مِنَ الأَنْبِياءِ مَثَلُ إبْرَاهِيمَ، حَيْثَ قَالَ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [إبراهيم: ٣٦] وَمَثَلُ عِيسَى، حَيْثُ قَال إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة: ١١٨]
وروى سماك بن حرب، عن عكرمة، عن عبد الله بن عباس «١» قال: قيل للنبي صلّى الله عليه وسلّم حين فرغ من بدر: عليك بالعير ليس دونها شيء. فناداه العباس وهو أسير في وثاقه: إنه لا يصلح.
فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «لِمَ» ؟ قال: لأن الله تعالى وعدك إحدى الطائفتين، وقد أعطاك ما وعدك.
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٩ الى ١١]
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (٩) وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (١٠) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ مآء لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (١١)
قوله تعالى: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ، وذلك أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لما رأى كثرة المشركين، علم أنه لا قوة لهم إلا بالله، فدعا ربه فقال: «اللَّهُمَّ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ المِيعَادَ». فَاسْتَجابَ له ربه ونزل إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ يقول: واذكروا إذ تسألون ربكم وتدعونه يوم بدر بالنصرة على عدوكم.
فَاسْتَجابَ لَكُمْ، يعني: فأجابكم ربكم: أَنِّي مُمِدُّكُمْ، يعني: أزيدكم بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ، يعني: متتابعين بعضهم على إثر بعض. قرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر مُرْدِفِينَ بالنصب، وقرأ الباقون بالكسر، وكلاهما يرجع إلى معنى واحد، وهو التتابع.
وقال عكرمة: أمدهم يوم بدر بألف من الملائكة، ووعد لهم ثلاثة آلاف من الملائكة لغزوة بعدها بدعائه، وزاده ألفين، فذلك خمسة آلاف من الملائكة، ويقال: هذا كله كان في يوم بدر.
ثم قال عز وجل: وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى يقول: وما أنزل الله الملائكة إلا للبشارة.
وقال بعضهم: الملائكة لم يقاتلوا، وإنّما كانوا مبشرين. وروي عن ابن عباس أنه قال: «قاتلت الملائكة يوم بدر، ولم يقاتلوا يوم الأحزاب ولا يوم حنين» وَما جَعَلَهُ اللَّهُ، يعني: مدد الملائكة إِلَّا بُشْرى ولِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ يعني: لتسكن إليه قلوبكم. وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، يعني: ليس النصر بقلة العدد ولا بكثرة العدد، ولكن النصر من عند الله. إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ عَزِيزٌ بالنقمة، حَكِيمٌ حكم بالنصرة للنبي صلّى الله عليه وسلّم وللمؤمنين، والهزيمة للمشركين.
قوله تعالى: إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ، يقول: ألقى عليكم النوم أَمَنَةً مِنْهُ، يعني: أمناً من عند الله. وروى عاصم، عن ابن رزين، عن عبد الله بن مسعود قال: «النعاس عند القتال
ثم قال: وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ مآء لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ، يعني: بالماء من الأحداث والجنابة، وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ، يعني: وسوسة الشيطان وكيده. وقال القتبي: أصل الرجز العذاب، كقوله تعالى: رِجْزاً مِنَ السَّماءِ [البقرة: ٥٩] ثم سمي كيد الشيطان رجزاً، لأنه سبب للعذاب.
ثم قال: وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ، يعني: يشدد قلوبكم بالنصرة منه عند القتال، وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ، يعني: لتستقر الأرجل على الرمل، حتى أمكنهم الوقوف عليه. ويقال: وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ في الحرب.
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ١٢ الى ١٤]
إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (١٢) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٣) ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (١٤)
ثم قال تعالى: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ، يعني: ألهم ربك الملائكة، أَنِّي مَعَكُمْ، أي: معينكم وناصركم، فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا، يعني: بشّروا المؤمنين بالنصرة، فكان الملك يمشي أمام الصف فيقول: أبشروا فإنكم كثير وعدوكم قليل، والله تعالى ناصركم.
سَأُلْقِي، يعني: سأقذف فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ، يعني: الخوف من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين.
ثم علَّم المؤمنين كيف يضربون ويقتلون، فقال تعالى: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ، يعني:
على الأعناق وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ، يعني: أطراف الأصابع وغيرها، ويقال: كل مفصل.
قال الفقيه: سمعت من حكى عن أبي سعيد الفاريابي أنه قال: أراد الله إلاَّ يلطخ سيوفهم بفرث المشركين، فأمرهم أن يضربوا على الأعناق ولا يضربوا على الوسط ويقال: معناه اضربوا كل شيء استقبلكم من أعضائهم ولا ترحموهم. لِكَ بِأَنَّهُمْ
، يعني: ذلك الضرب والقتل بسبب أَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ
، يعني: عادوا الله ورسوله، وخالفوا الله ورسوله. مَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
، يعني: من يخالف الله ورسوله إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ
إذا عاقب.
ثم قال تعالى: ذلِكُمْ، القتل يوم بدر، فَذُوقُوهُ في الدنيا، وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ
يوم القيامة مع القتل في الدنيا، يعني: إن القتل والضرب لم يصر كفارة لهم.
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ١٥ الى ١٦]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (١٥) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا، يعني: إذا لقيتم الذين كفروا بتوحيد الله تعالى يوم بدر زَحْفاً، يعني: مزاحفة، ويقال: زحف القوم، إذا دنوا للقتال، ومعناه: إذا واقعتموهم للقتال، فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ يعني: منهزمين. وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ، يعني: تولّى ظهره منهزماً يَوْمَئِذٍ يعني: يوم حربهم. وقال الكلبي: يعني يوم بدر خاصة إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ، يعني مستطرداً للكرة يريد الكرة للقتال أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ، يعني ينحاز من فئة إلى فئة من أصحابه يمنعونه من العدو. قال أهل اللغة: تحوَّزت وتحيَّزت، أي انضممت إليه، ومعناه: إذا كان منفرداً فينحاز ليكون مع المقاتلة، فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وفي الآية تقديم، يعني: وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ أي: استوجب الغضب من الله. وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ إلا متحرفا لقتال أو متحيزاً إلى فئة.
وروي عن الحسن أنه قال: «كان كلّ هذا يوم بدر وغيره. - وعن الضحاك قال: هذا يوم بدر خاصة «١» - خاصة، لأنه لم يكن لهم فئة ينحازون إليها». وعن داود بن أبي هند، عن أبي نضرة قال: «نزلت يوم بدر، لأنهم لم ينحازوا إلا إلى المشركين، لم يكن في الأرض مسلمون غيرهم». وقد قال بعضهم: بأن الآية غير منسوخة، لأنه لا يجوز للواحد أن يهرب من الاثنين، ويجوز أن يهرب من الجماعة. وإذا لم يكن معه سلاح جاز له أن يهرب ممن معه السلاح، وإذا لم يكن رامياً جاز له أن يهرب من الرامي. فإذا كان عدد المسلمين نصف عدد الكفار ومعهم سلاح، لا يجوز لهم أن يهربوا من الكفار، وإذا كان المسلمون اثني عشر ألفاً ومعهم سلاح، لا يجوز لهم أن يهربوا من الكفار وإن كانوا مائة ألف، لأنه روي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «خَيْرُ الصَّحَابَةِ أَرْبَعَةٌ، وَخَيْرُ السَّرَايَا أرْبَعُمِائِةٍ، وَخَيْرُ الجُيُوشِ أرْبَعَةُ آلافٍ وَلَنْ يُغْلَبَ اثنا عَشَرَ ألفاً مِنْ قِلَّةٍ إذَا كَانَتْ كَلِمَتُهُمْ وَاحِدَةً» «٢»، فَيَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا كَلِمَتَهُمْ وَاحِدَةً وَيُقَاتِلُوهُمْ، حَتَّى يَنْصُرَهُمُ الله تَعَالَى». والآية نزلت في الذي لا يجوز له الهرب. وروى سليمان بن هلال، عن ثور بن زيد، عن أبي المغيث، عن أبي هريرة، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «اجتنبوا الموبقات».
(٢) حديث ابن عباس: أخرجه الترمذي (١٥٥٥) وأبو داود (٢٦١١) والبيهقي: ٩/ ١٥٦ وأحمد ١/ ٢٩٣ وصححه الحاكم: ١/ ٤٤٣ وابن خزيمة (٢٥٣٨).
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ١٧ الى ١٨]
فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٧) ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (١٨)
قوله تعالى: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ. وذلك أن المسلمين كانوا يقولون: قتلنا فلاناً وقتلنا فلاناً، فأراد الله تعالى أن لا يعجبوا بأنفسهم، فقال: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ يقول: فما قتلتموهم وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ، يعني: الله تعالى نصركم وأمدكم بالملائكة. وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى يعني: الله تعالى تولى ذلك، وذلك حين رمى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قبضة من التراب، فملأ الله تعالى أعينهم بها فانهزموا، قال الله تعالى: وَما رَمَيْتَ أي: لم تصب رميتك ولم تبلغ ذلك المبلغ، ولكن الله تعالى تولى ذلك. ويقال: رمى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يوم أحد بالحربة فأصابت أبي بن خلف الجمحي فقتله.
قرأ حمزة والكسائي وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى بكسر النون والتخفيف واللَّهَ بالضم، وكذلك في قوله وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وقرأ الباقون: بنصب النون مع التشديد ونصب ما بعده.
ثم قال: وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً، يعني: لينصرهم نصراً جميلاً ويختبرهم بالتي هي أحسن، ويقال: ولينعم المؤمنين نعمة بينة. إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، يعني: سميع لدعاء النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وعليم بإجابته.
ذلِكُمْ، يعني: الهلاك والهزيمة للكفار، ويقال: معناه، الأمر من ربكم. ذلِكُمْ ثمّ ابتداء فقال: وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ، يعني: مضعف كيد الكافرين، يعني: صنيع الكافرين ببدر. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ بنصب الواو والتشديد منونة كَيْدِ بنصب الدال، وقرأ عاصم في رواية حفص مُوهِنُ بضم النون بغير تنوين كَيْدِ بكسر الدال على معنى الإضافة، وقرأ الباقون: مُوهِنُ بالتنوين والتخفيف كَيْدِ بنصب الدّال والمُوهِنُ والمُوهَنُ واحد، ويقال: وهنت الشيء وأوهنته، إذا جعلته واهنا ضعيفا.
[سورة الأنفال (٨) : آية ١٩]
إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (١٩)
ثم قال تعالى: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ، يقول: إن تستنصروا فقد نصركم الله،
ثم قال: وَإِنْ تَنْتَهُوا عن قتاله، فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ من قتاله، ويقال: إن أهل مكة حين أرادوا الخروج إلى بدر، أخذوا بأستار الكعبة وقالوا: اللهم أي الفئتين أحب إليك فانصرهم، فنزل إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا عن قتال محمد صلّى الله عليه وسلّم وعن الكفر فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ من الإقامة عليه، وَإِنْ تَعُودُوا لقتال محمد صلّى الله عليه وسلّم، نَعُدْ عليكم الهزيمة. وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ، يعني: جماعتكم شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ في العدد. وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، يعني: معين لهم وناصرهم. قرأ نافع وابن عامر وعاصم في إحدى الروايتين: وَأَنَّ اللَّهَ بالنصب، والباقون بالكسر على معنى الاستئناف، ويشهد لها قراءة عبد الله بن مسعود: والله مع المؤمنين.
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٢٠ الى ٢١]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (٢٠) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ (٢١)
ثم قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ في أمر الغنيمة والصلح. وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ، يعني: لا تعرضوا عن أمره، ويقال: عن طاعته، ويقال: عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ المواعظ في القرآن وفي أمر الصلح.
قوله تعالى: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ، يعني: لم يسمعوا ولم يفهموا ولم يتفكروا فيما سمعوا. ويقال إنّ قوله: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا أي: قالوا أطعنا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ، يعني لا يطيعون. قال الكلبي: وهم بنو عبد الدار، لم يسلم منهم إلا رجلان: مصعب بن عمير وسويد بن خويلد. وقال الضحاك ومقاتل: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا الإيمان وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ أي لا يؤمنون، هم المنافقون.
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٢٢ الى ٢٣]
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (٢٢) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣)
ثم قال عز وجل: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ، يعني: إن شر الناس عند الله الصُّمُّ عن الهدى الْبُكْمُ، يعني: الخرس الذين لا يتكلمون بخير، الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ الإيمان، يعني:
بني عبد الدار وغيرهم من الكفار الذين لم يسلموا.
قوله تعالى: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ، يعني: يقول: لو علم الله تعالى فيهم صدقاً لأعطاهم الإيمان وأكرمهم به. وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ، يعني: لو أكرمهم بالإسلام، لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ يعني: أعرضوا عن الإيمان بما سبق في علم الله فيهم. وقال الزجاج: معناه،
ولو بيَّن لهم كل ما يختلج في نفوسهم، لأعرضوا عنه لمعاندتهم.
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٢٤ الى ٢٦]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢٥) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٢٦)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ، يعني: أجيبوا الله بالطاعة في أمر القتال، وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ إلى القتال أو غيره. وإنّما قال: إِذا دَعاكُمْ ولم يقل: إذا دعواكم، لأن الدعوة واحدة، ومن يجب الرسول فقد أجاب الله تعالى.
قوله تعالى: لِما يُحْيِيكُمْ، يعني: القرآن الذي به حياة القلوب، ويقال لِما يُحْيِيكُمْ- أي أمر الحرب الذي يعزّكم ويصلحكم ويقويكم بعد الضعف «١» - ويقال: لِما يُحْيِيكُمْ يعني: يهديكم. ويقال: لِما يُحْيِيكُمْ، يعني: لما يكون سبباً للحياة الدائمة في نعيم الآخرة.
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ. قال الفقيه: حدثنا محمد بن الفضل قال:
حدثنا فارس بن مردويه، عن محمد بن الفضل، عن أبي مطيع، عن حماد بن سلمة، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس أنه قال: «يحول بين المؤمن ومعاصيه التي تسوقه وتجره إلى النار، ويحول بين الكافر وطاعته التي تجره إلى الجنة» «٢» ويقال: يحول بين المرء وإرادته، لأن الأمر لا يكون بإرادة العبد، وإنما يكون بإرادة الله تعالى، كما قال أبو الدرداء:
يُرِيدُ المَرْءُ أَنْ يُعْطَى مُنَاه | وَيَأْبَى الله إلاَّ مَا أَرَادَا |
قوله تعالى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً قال مقاتل: نزلت الآية في شأن عليّ وطلحة والزبير. قال الفقيه: حدثنا عمر بن محمد قال: حدّثنا أبو بكر الواسطي قال: حدثنا إبراهيم بن يوسف قال: حدثنا قبيصة، عن سفيان، عن جويبر، عن الضحاك في قوله تعالى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً قال: نزلت في شأن أصحاب
(٢) عزاه السيوطي ٤/ ٤٤ إلى ابن شيبة وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم والحاكم وصححه.
١٨].
ثم قال تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ، أي: لمن وقع في الفتنة. ثم ذكرهم النعم فقال: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ، يعني واحفظوا نعمة الله عليكم إذ كنتم قليلاً في العدد وهم المهاجرون والأنصار، مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ يعني: مقهورون في أرض مكة.
تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ، يعني: يختلسكم الناس ويذهب بكم الكفار- وهم أهل فارس والروم «٢» -. فَآواكُمْ بالمدينة وَأَيَّدَكُمْ يعني: وقوّاكم وأعانكم بِنَصْرِهِ يوم بدر. وقال قتادة: كانوا بين أسدين: قيصر وكسرى، تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ وهم أهل فارس والروم والعرب ممن حول مكة.
ثم قال: وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ، يعني: الحلال، وهو الغنيمة. لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، يعني لكي تشكروا الله وتطيعوه وتعرفوا ذلك منه.
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٢٧ الى ٢٩]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٧) وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ روى أسباط عن السدي قال:
كانوا يسمعون من النبي عليه السلام الحديث، فيفشونه حتى يبلغ المشركين، فنهاهم الله عن ذلك فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ. ويقال: كل رجل مؤتمن على ما فرض الله عليه، إن شاء أداها، وإن شاء خانها. وقال القتبي: الخيانة أن يؤتمن على شيء فلا يؤدي إليه، ثم سمّى العاصي من المسلمين خائناً، لأنه قد ائتمن على دينه فخان. كما قال في آية أخرى: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ [البقرة: ١٨٧]، ويقال: نزلت الآية في أبي
(٢) ما بين معقوفتين ساقط من النسخة «أ».
ثم قال عز وجل: وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ
، يعني: بلاء عليكم، لأن أبا لبابة إنما ناصحهم من أجل ماله وولده الذي كان عند بني قريظة. وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ
، يعني: الجنة لمن صبر ولم يخن.
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ، يعني: إن تطيعوا الله ولا تعصوه، يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً يعني: يجعل لكم مخرجاً ونجاة ونصرا في الدنيا- ويقال: المخرج من الشبهات. وقال مجاهد: مخرجاً في الدنيا والآخرة «٣» -. وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ، يقول:
يمحو عنكم ذنوبكم، وَيَغْفِرْ لَكُمْ يعني: يستر ذنوبكم وعيوبكم. وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ، يعني: ذو الكرم والتجاوز عن عباده.
[سورة الأنفال (٨) : آية ٣٠]
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٣٠)
قوله تعالى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا وذلك أن نفراً من قريش اجتمعوا في دار الندوة. وكانت قريش إذا اجتمعوا للمشورة والتدبير كانوا يجتمعون في تلك الدار، فاجتمعوا فيها وأغلقوا الباب لكيلا يدخل رجل من بني هاشم، ليمكروا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم ويحتالوا في أمره.
(٢) عزاه السيوطي إلى ابن جرير، وإلى ابن مردويه عن عكرمة.
(٣) ما بين معقوفتين ساقط من النسخة «ب». [.....]
فقال أبو جهل: أرى أن يجتمع من كل بطن منكم رجل، ثم تعطونهم السيوف فيضربونه جميعاً، فلا يدري قومه من يأخذون، وتؤدي قريش ديته. فقال إبليس: صدق والله هذا الشاب.
فتفرقوا على ذلك، فأمره الله تعالى بالهجرة وأخبره بمكر المشركين فنزلت هذه الآية وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ، يعني: ليحبسوك في البيت أَوْ يَقْتُلُوكَ بالسيف، أَوْ يُخْرِجُوكَ من مكة.
فأمر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم علي بن أبي طالب بأن يبيت في مكانه، ثم خرج ومعه أبو بكر ونام عليّ مكانه، وأهل مكة يحرسونه ويظنون أنه في البيت، ثم دخلوا البيت، فإذا هو عليّ رضي الله عنه فقالوا: يا عليّ أين محمد؟ فقال: لا أدري. فطلبوه فلم يجدوه. وَيَمْكُرُونَ، يعني:
ويمكرون بالنبي صلّى الله عليه وسلّم ويريدون به الشر وَيَمْكُرُ اللَّهُ، يعني: ويريد بهم الهلاك حين أخرجهم إلى بدر فقتلوا. وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ، يعني: أصدق الماكرين فعلاً، وأفضل الصانعين صنعاً، وأعدل العادلين عدلاً.
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٣١ الى ٣٢]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٣١) وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٢)
قوله تعالى: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا، يعني: القرآن. قالُوا قَدْ سَمِعْنا، يعني قد سمعنا قولك. لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا، القرآن. إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ، نزلت في شأن نضر بن الحارث، كان يحدث عن الأمم الخالية من حديث رستم وإسفنديار، فقال: إن
اتق الله يا نضر، فإنه ما يقول إلا حقاً، فقال النضر بن الحارث: وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ، يعني: إن كان ما يقول محمد من القرآن حقاً، فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ. قال أبو عبيدة: كل شيء في القرآن أمطر فهو من العذاب، وما كان من الرحمة فهو مطر. وروى أسباط عن السدي قال: قال النضر بن الحارث: اللهم إن كان ما يقول محمد حقا، فأمطر علينا حجارة من السماء، أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ فنزل سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ [المعارج: ١] فاستجيب دعاؤه، وقتل في بدر.
قال سعيد بن جبير: قتل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ثلاثة يوم بدر صبراً: النضر بن الحارث، وطعمة بن عدي، وعتبة بن أبي معيط. وكان النضر أسره المقداد، فقال المقداد: يا رسول الله أسيري، فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إنه كان يقول في الله وَرَسُولِهِ مَا يَقُولُ»، فقال: يا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أسيري.
فقال: اللَّهُمَّ أَغْنِ المِقْدَادَ مِنْ فَضْلِكَ». فقال المقداد: هذا الذي أردت فنزل وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وكان ذلك القول من النضر حين كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في مكة، فأخبر الله تعالى أنه لا يعذبهم وأنت بين ظهرانيهم، حتى يخرجك عنهم كما أخرج الأنبياء قبلك عن قومهم ثم عذبهم.
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٣٣ الى ٣٥]
وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (٣٣) وَما لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (٣٤) وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٥)
ثم قال عز وجل: وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ، يعني: يصلّون لله الصلوات الخمس وهم أهل الإيمان وقال مجاهد: وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ يعني: وهم مسلمون ويقال:
فيهم من يؤول أمره إلى الإسلام. ويقال: وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ يعني: وفي أصلابهم من يسلم.
وروي عن أبي موسى الأشعري قال: «كان أمانان في الأرض، رفع أحدهما وبقي الآخر وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وقال عطية: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ، يعني المشركين حتى يخرجك منهم. وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ، يعني المؤمنين.
ثم عاد إلى ذكر المشركين فقال: وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ، يعني: بعد ما أخرج النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه من بينهم. وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ، يعني: يمنعون المؤمنين عن المسجد الحرام. وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ يعني: المشركين. قال الكلبي: يعني، ما كانوا
ثم قال: وَما كانَ صَلاتُهُمْ، معناه: وما لهم ألا يعذبهم الله وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً، يعني: لم تكن صلاتهم حول البيت إِلَّا مُكاءً يعني: إلا الصفير وَتَصْدِيَةً يعني: التصفيق باليدين، إذا صلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في المسجد الحرام. قرأ الأعمش مَا كَانَ صَلاَتِهِمْ بالنصب إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً كلاهما بالضم وهكذا قرأ عاصم في إحدى الروايتين، فجعل الصلاة خبر كان، وجعل المكاء والتصدية اسم كان. وقرأ الباقون:
صَلاَتِهِمْ بالضم فجعلوه اسم كان ومكاء وَتَصْدِيَةً بالنصب على معنى خبر كان.
ثم قَالَ: فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ بتوحيد الله تعالى، فأهلكهم الله في الدنيا ولهم عذاب الخلود في الآخرة.
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٣٦ الى ٣٨]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (٣٦) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٣٧) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (٣٨)
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ على عداوة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ يعني: ليصرفوا الناس عن دين الله وطاعته. قال ابن عباس: «نزلت الآية في المطعمين يوم بدر، وهم الذين كانوا يطعمون أهل بدر حين خرجوا في طريقهم».
قال الله تعالى: فَسَيُنْفِقُونَها. وكانوا ثلاثة عشر رجلاً أطعموا الناس الطعام، فكان على كل رجل منهم يوماً، منهم: أبو جهل، وأخوه الحارث، ابنا هشام، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة، ومنبه ونبيه ابنا الحجاج، وأبو البختري بن هشام، وحكيم بن حزام، وأبي بن خلف وغيرهم.
يقول الله تبارك وتعالى: فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً، يعني: تكون نفقاتهم عليهم حسرة وندامة، لأنها تكون لهم زيادة العذاب، فتكوى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وظهورهم.
وقال مجاهد: هو نفقة أبي سفيان على الكفار يوم أحد. وقال الحكم: أنفق أبو سفيان على المشركين يوم أحد أربعين أوقية ذهباً. ثُمَّ يُغْلَبُونَ، يعني: يهزمون ولا تنفعهم نفقتهم شيئاً.
وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ، يعني: القتل والهزيمة لم تكن كفارة لذنوبهم، فيحشرون في الآخرة إلى جهنم.
ثم قال الله تعالى: لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ، يعني: الْخَبِيثَ من العمل
ثم قال: أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ، يعني: المغبونين في العقوبة. قرأ حمزة والكسائي لِيَمِيزَ اللَّهُ بضم الياء مع التشديد، والباقون لِيَمِيزَ بالنصب مع التخفيف، ومعناهما واحد:
مَازَ يُميِزُ وَمَيَّزَ يُمَيِّزُ.
قوله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا، يعني أبا سفيان وأصحابه، وما كان في مثل حالهم إلى يوم القيامة: إِنْ يَنْتَهُوا أي: عن الشرك وعن قتال محمد، وعن المؤمنين، يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ يعني: يتجاوز عنهم ما سلف من ذنوبهم وشركهم. وَإِنْ يَعُودُوا إلى قتال محمد صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ بنصرة أوليائه وقهر أعدائه. ويقال: يعني، القتل يحذرهم بالعقوبة لكيلا يعودوا فيصيبهم مثل ما أصابهم وقال الكلبي: فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ أن ينصر الله أنبيائه ومن آمن معهم، كقوله: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا [غافر: ٥١].
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٣٩ الى ٤٠]
وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣٩) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٤٠)
ثم حث المؤمنين على قتال الكفار فقال تعالى: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ، يعني:
لا يكون الشرك بمكة، ويقال: حتى لا يتخذوا شركاء ويوحدوا ربهم، وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ يعني: يظهر دين الإسلام ولا يكون دين غير دين الإسلام. فَإِنِ انْتَهَوْا عن الشرك وعن عبادة الأوثان وقتال المسلمين، فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فيثيبكم بأعمالكم. وَإِنْ تَوَلَّوْا، يعني: أبوا وأعرضوا عن الإيمان، يا معشر المؤمنين، فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ يعني:
حافظكم وناصركم.
ثم قال: نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ، نِعْمَ الْمَوْلى يعني: الحفيظ ونِعْمَ النَّصِيرُ يعني: المانع.
[سورة الأنفال (٨) : آية ٤١]
وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤١)
وروى سفيان، عن قيس بن مسلم قال: سألت الحسن بن محمد بن الحنفية عن قوله:
فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ قال: «هذا مفتاح الكلام لله الدنيا والآخرة، ثم قال: وقد اختلف بعد وفاة الرسول صلّى الله عليه وسلّم في سهم الرسول وسهم ذوي القربى، فقال بعضهم: للخليفة، وقال بعضهم: لقرابة الخليفة، فاجتمعوا على أن جعلوا هذين السهمين في الكراع والعدة في سبيل الله تعالى، فكانا كذلك في خلافة أبي بكر وعمر» «١». وروى أبو يوسف، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس قال: «كان الخمس على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقسم على خمسة أسهم: سهم الله ورسوله واحد، وَلِذِى القربى، واليتامى، والمساكين، وابن السبيل وقسم بعد عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ على ثلاثة أسهم: لليتامى، والمساكين، وابن السبيل «٢». وبهذا أخذ أبو حنيفة وأصحابه: أن الخمس يقسم على ثلاثة أسهم، ولا يكون لأغنياء ذوي القربى شيء، ويكون لفقرائهم فيه نصيب، كما يكون لسائر الفقراء، وكذلك يُتَاماهم وابن السبيل منهم.
ثم قال: إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ. يجوز أن تكون متعلقة بقوله: فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ، إن كنتم آمنتم بالله عز وجل، ويجوز أن يكون معناه: فاقبلوا ما أمرتم به من القسمة في الخمس إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ، يعني: إن كنتم صدقتم بتوحيد الله، وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يعني: وصدقتم بما أنزلنا على محمد صلّى الله عليه وسلّم من القرآن يوم الفرقان، يعني: يوم بدر. قال الكلبي:
يعني: يوم النصر، يوم بدر، فَرَّقَ بين الحق والباطل. وقال مقاتل: معناه وما أنزلنا من الفرقان يوم بدر فأَقرُّوا بحكم الله تعالى في أمر الغنيمة. يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ يعني: يوم جمع المسلمين وجمع المشركين. وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، يعني: على نصرة المؤمنين وهزيمة الكفار.
[سورة الأنفال (٨) : آية ٤٢]
إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (٤٢)
(٢) عزاه السيوطي: إلى ابن جرير والطبراني وابن مردويه، وابن المنذر وابن أبي حاتم.
شفير الوادي. ويقال عِدْوَةِ الوادي وعُدْوَتِهِ، يعني: كنتم على شاطئ الوادي مما يلي المدينة.
وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى، يعني: من الجانب الآخر مما يلي مكة، وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ يعني: العير أسفل منكم بثلاثة أميال على شاطئ البحر حين أقبلوا من الشام. وَلَوْ تَواعَدْتُمْ، أنتم والمشركون بالإجماع للقتال، لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ أنتم والمشركون، وَلكِنْ جمع الله بينكم على غير ميعاد، لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا يعني: كائناً. وكان من قضائه هزيمة الكفار، ونصرة محمد صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه.
قوله تعالى: لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ. يقول: ليكفر من أراد أن يكفر بعد البيان له من الله تعالى، وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ، يقول: ويؤمن من أراد أن يؤمن بعد البيان له من الله تعالى. وقال الكلبي: لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ على الكفر بعد البيان، وَيَحْيى مَنْ حَيَّ بالإيمان عَنْ بَيِّنَةٍ ويقال: هذا وعيد من الله لأهل مكة يقول: ليقم على كفره من أراد أن يقيم بعد ما بينت له الحق ببدر، حين فرقت الحق من الباطل، وَيَحْيى يعني: يقم على الإيمان من أراد أن يقيم بعد ما أرسلت إليه الرسول، وأقمت عليه الحجة. قرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر، وابن كثير في رواية شبل البزي مِنْ حيي بإظهار الياءين، والباقون بياء واحدة، وأصله بياءين، إلا أن أحد الحرفين أدغم في الآخر، لأنهما من جنس واحد. ثم قال: وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ.
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٤٣ الى ٤٤]
إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٤٣) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤٤)
قوله تعالى: إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلًا وذلك أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم رأى في المنام أن العدو قليل قبل أن يلتقوا، فأخبر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أصحابه بما رأى في المنام: أن العدو قليل، فقالوا:
رؤيا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم حق، والقوم القليل. فلما التقوا ببدر، قلَّل الله المشركين في أعين المؤمنين لتصديق رؤيا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
ثم قال: وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ، يعني: لجبنتم وتركتم الصف، وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ يعني: اختلفتم في أمر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ، يعني: ولكن الله أتمّ للمسلمين أمرهم على عدوهم، ويقال: سَلَّمَ يعني: قضى بالهزيمة على الكفار والنصرة للمؤمنين، ويقال: إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلًا يعني: في عينك، لأن العين موضع النوم، في موضع منامك. وروي عن الحسن قال: معناه في عينيك التي تنام بها. ثم قال: إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ.
كنا ألفاً».
ثم قال: وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ يا معشر المؤمنين في أعين المشركين، وذلك حين لقوا العدو وقلّل الله المشركين في أعين المؤمنين لكيلا يجبنوا، وقلل المؤمنين في أعين المشركين، ليزدادوا جرأة على القتال حتى قتلوا، ولكي يظهر عندهم فضل المؤمنين. لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا، يعني: إذا قضى الله تعالى أمراً فهو كائن، وهو النصرة للمؤمنين، والذل لأهل الشرك بالقتل والهزيمة. وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ، يعني: عواقب الأمور في الآخرة.
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٤٥ الى ٤٧]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٤٥) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (٤٦) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٤٧)
ثم ثبت «١» المؤمنين على القتال فقال تبارك وتعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا، يعني: جماعة من الكفار فَاثْبُتُوا لهم وقاتلوهم مع نبيكم، وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً يعني: في الحرب، لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ يعني: تفوزون به وتؤمنون به.
ثم قال الله تعالى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ فيما يأمركم من القتال. وَلا تَنازَعُوا، يعني: لا تختلفوا فيما بينكم من القتال، فَتَفْشَلُوا يعني: فتجبنوا من عدوكم، وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ. وقال مجاهد: يعني نصرتكم، وذهبت ريحكم يوم أُحد حين نازعتموه وقال الأخفش: يعني دولتكم. وقال قتادة: الريح الحرب، وأصله في اللغة: تستعمل في الدولة، ويقال: الريح له اليوم، يراد به الدولة.
ثم قال: وَاصْبِرُوا، يعني: لقتال عدوكم. إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ، يعني: معين لهم وناصرهم. وَلا تَكُونُوا، يعني: وَلا تَكُونُوا يا أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ- معناه: قاتلوا لوجه الله تعالى، ولا تقاتلوا رياءً وسمعة «٢» - بَطَراً يعني أشرا ورياء.
وأصله: الطغيان في النعمة. وَرِئاءَ النَّاسِ، يعني: لكي يذكروا بمسيرهم، يقولون: تسامع الناس بمسيرنا. وقال محمد بن إسحاق: خرجت قريش وهم تسعمائة وخمسون مقاتلاً، ومعهم مائتا فرس يقودونها، وخرجوا ومعهم القينات يضربون بالدفوف، ويتغنّين بهجاء المسلمين.
(٢) ما بين معقوفتين ساقط من النسخة «أ».
قوله تعالى:
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٤٨ الى ٥١]
وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لاَ غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (٤٨) إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٩) وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٥٠) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٥١)
قوله تعالى: وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ يعني: مسيرهم. ومعناه: أن خروجهم لما كان للشيطان، زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ يعني: مسيرهم. ومعناه: أن خروجهم لما كان للشيطان، زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وذلك أن أهل مكة لما وجدوا العير، أرادوا الرجوع إلى مكة، فأتاهم إبليس على صورة سراقة بن مالك بن جعشم الكناني، فقال لهم: لا ترجعوا حتى تستأصلوهم، فإنكم كثير وعدوكم قليل.
ثم قال: وَقالَ لاَ غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ، يعني: لا يطيقكم أحد لكثرتكم وقوتكم. وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ يعني: معين لكم، وهؤلاء بنو كنانة تأتيكم وهم على أثرى.
فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ، يعني: اجتمع الجمعان، جمع المؤمنين وجمع المشركين، نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ يعني: راجعاً «١» وراءه فقال له الحارث بن هشام: أين ما ضمنت لنا؟
وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ. فقال له الحارث: وهل ترى إلا جعاشيش أهل يثرب؟ والجعاشيش: جمع جعشوش، وهو الرجل الحقير الدميم القصير. فقال: إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ. قال ابن عباس: «خاف إبليس أن يأخذه جبريل أسيراً، فيعرفه الناس، فيراه الكفار فيعرفونه بعد ذلك، فلا يطيعونه، ولم يخف على نفسه الموت والقتل، لأنه كان يعلم أن له بقاء إلى يوم ينفخ فى الصور». قال إبليس: إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ أي: أرى جبريل معتجراً بردائه يقود الفرس، فلما تولى قالوا: هزم الناس سراقة، فسار سراقة بعد رجوعهم إلى مكة، وقال: والله ما شعرت بمسيركم حتى بلغني هزيمتكم. فقالوا له: ألم تأتنا يوم كذا وكذا؟
فحلف أنه لم يحضر، فلما أسلموا، علموا أنه كان إبليس.
وقال مقاتل: لم يجتمع جمع قط منذ كانت الدنيا أكثر من يوم بدر، وذلك أن إبليس جاء
قوله تعالى: إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ، يعني شكا ونفاقاً. قال الحسن: هم قوم من المنافقين لم يشهدوا القتال يوم بدر، فسموا منافقين. وقال الضحاك:
نزلت في عبد الله بن أبيّ وأصحابه ويقال: معناه إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وهم الذين فى قلوبهم مرض. قال ابن عباس: «نزلت الآية في الذين أسلموا بمكة وتخلفوا عن الهجرة، فأخرجهم أهل مكة إلى بدر كرهاً، فلما رأوا قلة المؤمنين ارتابوا ونافقوا، وقالوا لأهل مكة: غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ. وقاتلوا مع المشركين فقتل عامتهم».
يقول الله تعالى: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ، يعني يثق بالله ولا يثق بغيره، فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ بالنقمة، حَكِيمٌ حكم الهزيمة على المشركين. فلما قتلوا ضربت الملائكة وجوههم وأدبارهم، فنزل: وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا، يعني: ولو ترى يا محمد إذ يتوفى الذين كفروا حين يقبض أرواحهم الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ عند قبض أرواحهم ويضربون، وَأَدْبارَهُمْ يعني: ويضربون ويقول لهم الملائكة يوم القيامة: ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ ولم يذكر الجواب، لأن في الكلام دليلاً عليه، ومعناه: لو رأيت ذلك لرأيت أمراً عظيماً. قرأ ابن عامر إذ تتوفّى الذين بلفظ التأنيث، وقرأ الباقون يَتَوَفَّى بلفظ التذكير. وروي عن ابن مسعود أنه كان يُذَكِّر الملائكة في جميع القرآن، خلافاً للمشركين لقولهم: الملائكة بنات الله.
ثم قال تعالى: ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ، يعني ذلك العذاب بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ من الكفر والتكذيب وبترككم الإيمان. وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ يقول: لم يعذبهم بغير ذنب:
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٥٢ الى ٥٤]
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (٥٢) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٥٣) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ (٥٤)
ثم قال عز وجل: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ، يعني: صنيعهم كصنيع آل فرعون، ويقال:
كأشباه آل فرعون في التكذيب والجحود، وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم الخالية. كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ، يعني: جحدوا بعذاب الله في الدنيا إنه غير نازل بهم، فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ يعني: عاقبهم
قوله تعالى: ذلِكَ العذاب الذي نزل بهم، بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ في الدين والنعم. فإذا غيّروا، غيّر الله عليهم ما بهم من النعمة وهذا قول الكلبي. وروى أسباط، عن السدي في قوله لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ قال:
أنعم الله تعالى بمحمد صلّى الله عليه وسلّم على أهل مكة وكفروا به، فنقله إلى الأنصار. ويقال: أطعمهم من جوع، وأمنهم من خوف، فلم يشكروا، فجعل لهم مكان الأمن الخوف، ومكان الرخاء الجوع.
وهذا كقوله: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً إلى قوله فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ [النحل: ١١٢] وقال الضحاك: ما عذب الله قوماً قط ولا سلبهم النعمة، ولا فرق بينهم وبين العافية، حتى كذبوا رسلهم، فلما فعلوا ذلك ألزمهم الذل وسلبهم العز، فذلك قوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ ثم قال:
وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ سَمِيعٌ لمقالتهم، عَلِيمٌ بأفعالهم.
ثم قال: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ في الهلاك. وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ، يعني: بكفرهم، وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ يعني: فرعون لادعائه الربوبية، ولأنهم عبدوا غيري. وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ، يعني: مشركين. ومعناه: كصنيع آل فرعون وقد أعطاه الله تعالى الملك والعز في الدنيا، ولم يغير عليه تلك النعمة، حتى كذب بآيات الله، فغيَّر الله عليه النعمة وأهلكه مع قومه.
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٥٥ الى ٥٩]
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٥٥) الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (٥٦) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٥٧) وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْخائِنِينَ (٥٨) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (٥٩)
قوله تعالى: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ، قال ابن عباس:
«نزلت في بني قريظة، كعب بن الأشرف وأصحابه، لأنهم عاهدوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم نقضوا العهد وأعانوا أهل مكة بالسلاح على قتال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ثم قالوا: نسينا وأخطأنا، فعاهدهم مرة أُخرى، فنقضوا العهد»، فذلك قوله تعالى: الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ يعني: في كل حين وفي كلّ وقت وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ نقض العهد.
قوله تعالى: فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ يقول: إن تظفر بهم في الحرب، يعني: في
قوله تعالى: وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً، يعني: وإن علمت من قوم نقض العهد.
والخيانة: أن يؤتمن الرجل على شيء فلا يؤدي الأمانة، وسمي ناقض العهد خائناً، لأنه اؤتمن بالعهد فغدر ونكث. فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ، يعني: فأعلمهم بأنك قد نقضت العهد، وأعلمهم بالحرب لتكون أنت وهم في العلم بالنقض على سواء. وقال القتبي: إذا أردت أن تعرف فضل العربية على غيرها، فانظر في الآية، وقد ترجموا سائر الكتب، ومن أراد أن يترجم القرآن إلى لغة أُخرى فلا يمكنه ذلك، لأنك لو أردت أن تنقل قوله: وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً لم تستطع بهذا للفظ، ما لم تبسط مجموعها وتظهر مستورها فتقول: إن كان بينك وبين قوم هدنة وعهد، فخفت منهم خيانة ونقضاً، فأعلمهم أنك قد نقضت ما شرطت لهم وآذنهم بالحرب، لتكون أنت وهم في العلم بالنقض على سواء. ثم قال: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ، يعني: الناقضين للعهد.
قوله تعالى: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا، يعني: لا يظنن الذين كفروا من العرب وغيرهم من الذين جحدوا بوحدانية الله تعالى سَبَقُوا، يعني: فاتوا بأعمالهم الخبيثة إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ، يقول: لن يفوتوا الله حتى يعاقبهم، ويقال: لا يجدون الله تعالى عاجزاً عن عقوبتهم. قرأ ابن عامر وحمزة وعاصم في رواية حفص: وَلا يَحْسَبَنَّ بالياء على وجه المغايبة ونصب السين، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وَلاَ تَحْسَبَنَّ بالتاء على وجه المخاطبة ونصب السين، وقرأ الباقون على وجه المخاطبة وكسر السين، وقرأ ابن عامر أَنَّهُمْ بالنصب على معنى البناء، وقرأ الباقون بالكسر على معنى الابتداء. فمن قرأ بالنصب، معناه: لأنهم لا يعجزون، يعني: لا يفوتون. وقرأ بعضهم بكسر النون لاَ يُعْجِزُونَ يعني: لا يعجزونني وهي قراءة شاذة.
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٦٠ الى ٦٣]
وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ (٦٠) وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦١) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (٦٢) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مآ أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٣)
الإناث من الخيل.
ثم قال: تُرْهِبُونَ بِهِ، يعني: تخوفون بالسلاح عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ، يعني: كفار العرب، وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ، يعني: بني قريظة. لاَ تَعْلَمُونَهُمُ، يعني: لا تعرفونهم. اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ، يعني: يعرفهم ويعرفكم، فأعدوا لهم أيضا. وقال مقاتل: وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ أي:
من دون كفار العرب، يعني: اليهود. وقال السدي: وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ أهل فارس.
ثم قال: وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، يعني: السلاح والخيل. يُوَفَّ إِلَيْكُمْ ثوابه. وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ، أي: لا تنقصون من ثواب أعمالكم. ويقال: إن الجن لا يدخل في بيت فيه قوس وسهام.
قوله تعالى: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ، يقول: إن أرادوا الصلح ومالوا إليه، فَاجْنَحْ لَها يعني: مل إليها وأرده يعني: صالحهم. قرأ عاصم في رواية أبي بكر وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ بالكسر، وقرأ الباقون بالنصب. وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ، يعني: ثق بالله وإن نقضوا العهد والصلح، فإني أنصرك ولا أخذلك. إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، يعني السَّمِيعُ بمقالتهم، الْعَلِيمُ بنقض العهد.
قال الفقيه: إنما يجوز الصلح إذا لم يكن للمسلمين قوة القتال، فأما إذا كان للمسلمين قوة فلا ينبغي أن يصالحوهم، وينبغي أن يقاتلوهم حتى يسلموا أو يعطوا الجزية إن لم يكونوا من العرب. وإنّما لم توضع الجزية على العرب وتوضع على غير العرب، حتى لا تبقى بقية الكفر في أنساب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، لأن العرب كلهم من نسبه، ولا توضع حتى يسلموا أو يقتلوا. وإنما أمر الله تعالى نبيه بالصلح، حين كانت الغلبة للمشركين، وكانت بالمسلمين قلة.
ثم قال الله تعالى: وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ بالصلح، يعني: يهود بني قريظة أرادوا أن يصالحوك لتكف عنهم، حتى إذا جاء مشركو العرب أعانوهم عليك.
قال الله تعالى: فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ، يعني: إن أرادوا إن يخدعوك، حسبك الله بالنصرة لك. هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ، وأعانك وقواك بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ، يعني: الأنصار وهم قبيلتان:
الأوس والخزرج.
وروى أبو إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود قال: «نزلت هذه الآية في المتحابين في الله» لَوْ أَنْفَقْتَ مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مآ أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ وقال عبد الله: «المؤمن متألف يألف ويؤلف، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف».
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٦٤ الى ٦٦]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٦٤) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ (٦٥) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٦٦)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ بالنصر والعون لك، وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. قال بعضهم: مَنِ في موضع الرفع، ومعناه: حسبك من اتبعك من المؤمنين خاصة وهم الأنصار. ويقال: يعني عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ويقال: هذه الآية خاصة من هذه السورة، نزلت بمكة، حين أسلم عمر وكان المسلمون تسعة وثلاثين، فلما أسلم عمر رضي الله عنه تمّ أربعون، وظهر الإسلام بمكة بإسلام عمر «١». وقال بعضهم: مَنِ في موضع النصب، يعني: حسبك ومن اتبعك من المؤمنين. وقال الضحاك: ومن اتبعك من المؤمنين حسبهم الله، وهو ناصرهم في الدنيا والآخرة.
ثم قال عز وجل: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ، يعني: حثَّهم على قتال الكفار. إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ، يعني: محتسبين في الجهاد، يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ يعني: يقاتلون مائتين، ويثبتوا على القتال لينصرهم الله. وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابرة يعني:
محتسبة يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ أمر الله تعالى. وروى ابن أبي نجيح، عن مجاهد: فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا ألفاً يوم بدر، جعل على كل رجل منهم قتال عشرة، فرفعوا أصواتهم بالدعاء فضجوا، فجعل على كل رجل قتال رجلين تخفيفاً من الله، وهو قوله تعالى: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ يعني: هوَّن الله عليكم القتال الذي افترض الله عليكم
وقال مقاتل: لم تكن فريضة، ولكن كان تحريضاً، فلم يطق المؤمنون، فخفف الله عنهم بعد قتال بدر فنزل: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وروى عكرمة، عن ابن عباس أنه قال: «فرض على المسلمين أن لا يفر رجل من عشرة، ولا عشرة من مائة، فجهد الناس وشقّ عليهم، فنزلت هذه الآية «١» : الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ ففرض عليهم أن لا يفر رجل من رجلين، ولا قوم من مثلهم، فنقص من النصرة بقدر ما نقص من العدد. وروى عطاء، عن ابن عباس قال: «من فرّ من رجلين فقد فرّ، ومن فرّ من ثلاثة لم يفر». قال الفقيه: إذا لم يكن معه سلاح ومع الآخر سلاح، جاز له أن يفر، لأنه ليس بمقاتل.
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٦٧ الى ٦٩]
مَا كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٧) لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٦٨) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٩)
قوله تعالى: مَا كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى يقول: ما ينبغي وما يجوز للنبيّ أن يبيع الأسارى، يقول: لا يقبل الفدية عن الأسارى، ولكن السيف حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ، يعني:
حتى يغلب في الأرض على عدوه. قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر: فَانٍ تَكُنْ كلاهما بالتاء بلفظ التأنيث، لأن لفظ جماعة العدد مؤنث، وقرأ أبو عمرو الأولى خاصة بالياء، والأخرى بالتاء. وقرأ الباقون كلاهما بالتاء بلفظ التذكير، لأن الفعل مقدم. وقرأ حمزة وعاصم وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً بنصب الضاد وجزم العين، وقرأ الباقون بضم الضاد، ومعناهما واحد: ضَعْف وضِعْف، وهما لغتان. وقرأ بعضهم ضعفا بضم الضاد ونصب العين، وهي قراءة أبي جعفر المدني يعني: عجزة.
قوله تعالى: تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا، يعني: الفداء وروي عن ابن عباس قال: «لما أسروا الأسارى، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما: «ما تَرَوْنَ في هَؤُلاءِ الأُسَارَى» ؟ قال أبو بكر: يا رسول الله هم بنو العم والعشيرة، أرى لهم أن تأخذ منهم الفدية فتكون لنا عدة على الكفار، ولعل الله يهديهم الإسلام. وقال عمر: أرى أن تمكننا منهم، فنضرب أعناقهم. فهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يفعل ما قال أبو بكر، قال عمر: فلما كان من الغد
ثم قال: وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ، يعني: عزة الدين. وَاللَّهُ عَزِيزٌ في ملكه حَكِيمٌ في أمره.
قوله تعالى: لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ، يقول: لولا أن الله أحلّ الغنائم لأمة محمد صلّى الله عليه وسلّم لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ يعني: لأصابكم فيما أخذتم من الفداء عَذابٌ عَظِيمٌ، ثم طيّبها- وأحلها لهم فقال: فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّباً. وروى الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة أنه قال: «لم تحل الغنيمة لقوم سود الرؤوس قبلكم، كان تنزل نار من السماء فتأكلها، حتى كان بدر، فوقعوا في الغنائم فأحلت لهم» فأنزل الله تعالى: لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ وقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «أُعْطِيتُ خَمْساً لَمْ يُعْطَها أَحَدٌ قَبْلِي، بُعِثْتُ إلَى النَّاسِ كَافَّةً، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَأُحِلَّتْ لِي الغَنَائِمُ، وَجُعِلَتْ لِي الأَرْضُ مَسْجِداً وَطَهُوراً، وَجُعِلَتْ لِي شَفَاعَةٌ لأُمَّتِي يَوْمَ القِيَامَةِ» «١».
وللآية وجه آخر. روى الضحاك في قوله تعالى: مَا كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى وذلك: أنه لما كان يوم بدر ووقعت الهزيمة على المشركين، أسرع أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أخذ أسلاب المشركين ممن قتل يوم بدر، وأخذ الغنائم وفداء الأسرى وشغلوا أنفسهم بذلك عن القتال، فقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله، ألا ترى إلى ما يصنع أصحابك؟ تركوا قتال العدو، وأقبلوا على أسلابهم، وإني أخاف أن تعطف عليهم خيل من خيل المشركين فنزل:
تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا، يعني: أتطلبون الغنائم وتتركون القتال وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ، يعني:
قهر المشركين وإظهار الإسلام، وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ قوله تعالى: لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ يعني: لولا ما سبق في الكتاب أن الغنائم تحلّ لهذه الأمة، لأصابكم عَذابٌ عَظِيمٌ وقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «لَوْ نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ عَذَابٌ، مَا نَجَا أَحَدٌ غَيْرُ عُمَرَ، لأَنَّهُ لَمْ يترك القتال» «٢».
١/ ٢١٠ والبغوي (٣٦١٦).
(٢) أخرجه السيوطي: ٣/ ٢٠٣ والقرطبي: ٨/ ٤٧ والطبراني: ١٠/ ٣٤.
ثم قال تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ يعني: اتقوا الله فيما أمركم به ولا تعصوه. إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ، متجاوز يعني: ذو تجاوز فيما أخذتم من الغنيمة قبل حلها رَحِيمٌ إذ أحلها لكم.
[سورة الأنفال (٨) : آية ٧٠]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٠)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى، قرأ أبو عمرو من الأسارى بالضم وزيادة الألف، وقرأ الباقون الْأَسْرى بالنصب وبغير الألف. فمن قرأ بالأسرى فهو جماعة الأسير، يقال: أسير وأسرى، مثل جريح وجرحى، ومريض ومرضى، وقتيل وقتلى. من قرأ بالأسارى فهو جمع الجمع ويقال: هما لغتان بمعنى واحد.
وذلك أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لما وضع الفداء على كل إنسان من الأسارى أربعين أوقية من ذهب، فكان مع العباس عشرون أوقية من ذهب، فأخذ منه ولم يحسبها من فدائه، وكان قد خرج بها معه ليطعم بها أهل بدر من المشركين لأنه كان أحد الثلاثة عشر الذين ضمنوا إطعام أهل بدر، وقد جاءت توبته فأراد أن يطعمهم، فاقتتلوا يومئذ فلم يطعمهم، حتى أخذ وأخذ ما معه فكلَّم العباس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يجعل العشرين أوقية من فدائه، فأبى عليه وقال: «هذا شَيْءٌ خَرَجْتَ لِتَسْتَعِينَ بِهِ عَلَيْنَا فَلا أتركه لَكَ»، فوضع عليه فداءه وفداء ابن أخيه عقيل، فقال العباس: «أتترك عمك يسأل الناس بكفه؟» فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أيْنَ الذَّهَبُ الَّذِي أعْطَيْتَ لأمِّ الفَضْلِ، وَقُلْتَ لَهَا كَيْتَ وَكَيْتَ» ؟ فقال له: من أعلمك بهذا يا ابن أخي؟ قال: «الله أخْبَرَنِي». فأسلم العباس وأمر ابن أخيه أن يسلم «١» فنزل: قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى يعني العباس وابن أخيه.
إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً، يعني: معرفة وصدقاً وإيمانا، كقوله: لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً [هود: ٣١] يعني: إيماناً. يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ، يعني يعطيكم في الدنيا من الفداء، وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذنوبكم. وَاللَّهُ غَفُورٌ لما كان في الشرك، رَحِيمٌ به في الإسلام.
روى سليمان بن المغيرة، عن حميد بن هلال قال: بعث العلاء بن الحضرمي إلى رسول
يا رسول الله، ارفع عَلَيَّ. فتبسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «أعِدْ مِنَ المَالِ طَائِفَةً وَقُمْ بِمَا تُطِيقُ».
قال: ففعل، فجعل العباس يقول وهو منطلق: أما إحدى اللتين وعدنا الله فقد أنجزها، فلا ندري ما يصنع في الأُخرى وهو قوله: يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وعن أبي صالح أنه قال: رأيت للعباس بن عبد المطلب عشرين عبداً، كل واحد منهم يتجر بعشرة آلاف، قال العباس: أنجزني الله أحد الوعدين، فأرجو أن ينجز الوعد الثاني «١».
ويقال: يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ يعني الجنة.
[سورة الأنفال (٨) : آية ٧١]
وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٧١)
قوله تعالى: وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ، يعني خلافك ويميلوا إلى الكفر بعد إسلامهم، فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ يعني: عصوا الله وكفروا من قبل. فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ، يعني: فأمكنك منهم وأظهرك عليهم يوم بدر، حتى قهرتهم وأسرتهم. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بخلقه، حَكِيمٌ حيث أمكنك عليهم، يعني: إن خانوك أمكنك منهم، لتفعل بهم مثل ما فعلت من قبل.
[سورة الأنفال (٨) : آية ٧٢]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٧٢)
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا، يعني: صدّقوا بتوحيد الله وبمحمد صلّى الله عليه وسلّم والقرآن، وَهاجَرُوا من مكة إلى المدينة، وَجاهَدُوا العدو بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يعني:
في طاعته وفيما فيه رضاء الله.
ثم ذكر الأنصار فقال: وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا، يعني: آووا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ونصروه والمهاجرين، يعني: أنزلوهم وأسكنوهم ديارهم، ونصروا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالسيف. أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ، يعني: في الميراث وفي الولاية، ليرغبهم في الهجرة فريضة في ذلك الوقت.
النصرة، ومن قرأ بالكسر فهو من الإمارة والسلطان. ثم قال حَتَّى يُهاجِرُوا، يعني: إلى المدينة قالوا: يا رسول الله، هل نعينهم إذا استعانوا بنا على المشركين؟ يعني: الذين آمنوا ولم يهاجروا، قال الله تعالى: وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ، يعني استغاثوا بكم على المشركين فانصروهم، فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ على من قاتلهم، إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ يعني: إلا أن يقاتلوا قوماً بينكم وبينهم ميثاق عهد، فلا تنصروهم عليهم وأصلحوا بينهم. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ في العون والنصرة.
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٧٣ الى ٧٥]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ (٧٣) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٧٤) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧٥)
قوله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ، يعني: في الميراث، يرث بعضهم من بعض. إِلَّا تَفْعَلُوهُ، يعني: إن لم تفعلوا، يعني: ولاية المؤمن للمؤمن، والكافر للكافر، تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ يعني: بلية وَفَسادٌ كَبِيرٌ، يعني: سفك الدماء، فافعلوا ما أمرتم واعرفوا أن الولاية في الدين. وقال الضحاك: وَالَّذِينَ كَفَرُوا يعني: كفار مكة وكفار ثقيف بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ، يعني: إن لم تطيعوا الله في قتل الفريقين، تكن فتنة في الأرض وفساد كبير. وقال مقاتل: وفي الآية تقديم ومعناه: وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر، إِلَّا تَفْعَلُوهُ يعني: إن لم تنصروهم على غير أهل عهدكم من المشركين، تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ يعني: كفر وفساد كبير في الأرض.
ثم قال: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا، يعني: أنزلوا وأوطنوا ديارهم المهاجرين، وَنَصَرُوا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. وإنما سُمِّي المهاجرون مهاجرين، لأنهم هجروا قومهم وديارهم. أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا، يعني: صدقاً. لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ، يعني: ثواب حسن في الجنة.
ثم قال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا، يعني: من بعد المهاجرين وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ يعني: على دينكم. وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ، يعني: في الميراث من المهاجرين والأنصار.
وروى عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة قال: كان المسلمون يتوارثون بالهجرة