تفسير سورة عبس

غاية الأماني في تفسير الكلام الرباني
تفسير سورة سورة عبس من كتاب غاية الأماني في تفسير الكلام الرباني المعروف بـغاية الأماني في تفسير الكلام الرباني .
لمؤلفه أحمد بن إسماعيل الكَوْرَاني . المتوفي سنة 893 هـ

سُورَةُ عَبَسَ
مكية، وهي إحدى وأربعون آية

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

(عَبَسَ وَتَوَلَّى (١) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (٢) اتفقوا على أنها نزلت في ابن أم مكتوم مؤذن رسول اللَّه، واسمه عمرو بن قيس أو عبد اللَّه بن عمرو، واسم أمه عاتكة بنت عبد اللَّه المخزومية، جاء إلى رسول اللَّه - ﷺ - وعنده صناديد قريش يدعوهم إلى اللَّه باهتمام، وقطع عليه كلامه وكرر عليه يقول: يا رسول اللَّه علمني ما علمك اللَّه ولم يعلم
تشاغله، فعبس في وجهه وأعرض عنه. والمعنى: عبس لأن جاءه، وأعرض لذلك على تنازع الفعلين. وفي الوصف بالأعمى دون اسمه، أو وصف آخر توكيد للعتاب؛ فإنَّ ذلك يناسب الإقبال والتعطف دون العبوس والإعراض، وإيماء إلى أنَّ كل ضعيف في معناه. كقوله: " لَا يَقْضِي الْقَاضِي بَينَ اثنَيْن وَهُوَ غَضْبَان" فكان بعد ذلك يكرمه ويقول: " مرحبا بمن عاتبني فيه ربِّي ".
(وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (٣) بما يسمعه منك من أوضار الآثام. والمراد: نفي درايته بما هو مترقب. والرجاء إما راجع إلى الأعمى، أو إلى الرسول - ﷺ -. وإيثاره؛ للدلالة على أن رجاء التزكي كافٍ في منع العبوس والإعراض، كيف وهو في نفسه زكي حقيقة؟. وقيل: الضمير للكافر أي: وما يدريك أنَّ ما طمعت فيه من تزكية كائن حتى تهتمّ به، فالترجي لرسول اللَّه - ﷺ -.
(أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (٤) أو يتّعظ فتنفعه موعظتك. وقرأ عاصم بالنصب جواب (لعل) المحمول على التمني، وهذا يؤيد رجوع الضمير إلى الكافر، إلا أن يحمل في
الوجه الأول على المبالغة. أي: كأن الأعمى جديراً بالإقبال لضعفه وإن كان يعيداً حصول تزكيته.
(أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (٥) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (٦) تتعرض بالإقبال إليه.
(وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (٧) أي: وليس عليك عتب في أن لا يزكى بالإسلام، إن عليك إلا البلاغ. هذا وأمثاله وإن كان عتاباً في الظاهر، لكن فيه كمال مدح له - ﷺ - لاهتمامه بشأن ما أرسل به وبذل جهده.
(وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (٨) يسرع إلى تعلم شرائع الإسلام. (وَهُوَ يَخْشَى (٩) يخاف اللَّه بقلبه.
فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (١٠) وهو التشاغل، من لهي يلهى. وقدم الضمير في الموضعين؛ للتقوى. ويجوز التخصيص على معنى أن التصدي والتلهي إنما ينكر منه دون غيره؛ لعلو مقامه.
(كَلَّا... (١١) ردع عن المعاتب عليه والعود إلى مثله (إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (١٢) الضمير للقرآن، والتأنيث باعتبار الخبر؛ ولذا ذكره ثانياً. والمعنى: أن القرآن موعظة، فمن شاء حفظها، فلا حاجة في الموعظة إلى المبالغة. وفيه توكيد لما تقدم.
(فِي صُحُفٍ... (١٣) مكتوبه فيها. خير ثان، أو خبر محذوف، أو صفةلـ " تذكرة ".
(مُكَرَّمَةٍ) عند اللَّه؛ لأنَّها أَوعية كلامه.
(مَرْفُوعَةٍ... (١٤) في السماء، أو مرفوعة المقدار. (مُطَهَّرَةٍ) عن أيدي الشياطين.
(بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥) كتبة ينسخونها من اللوح المحفوظ، جمع سافر: وهو الكاتب، أو من السفر: وهو الكشف؛ لإظهاره المكتوب. منه السفر، لأنه يكشف عن الأخلاق.
(كِرَامٍ... (١٦) عند اللَّه. (بَرَرَةٍ) أتقياء، روى البخاري عن عائشة أن رسول اللَّه - ﷺ - قال: " الْمَاهِرُ بِالْقُرْآنِ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ ".
(قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (١٧) القتل أعظم ما يخافه الإنسان من الشدائد. وعابه على الإنسان المرتكب أعظم القبائح. والدعاء منه تعالى؛ إظهار لغاية السخط.
(مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (١٨) تحقيراً له؛ ولذلك فسّره بقوله: (مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ... (١٩) ولا أقدر منه. (فَقَدَّرَهُ) فسوّاه مهيئاً معداً بالقوى والآلات لمصالح التكليف.
(ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (٢٠) أي: طريق خروجه من بطن أمّه بأن فتح له فم الرحم وألهمه بأن ينتكس، فإنه في البطن جالس وجهه إلى ظهر أمه فإذا حان وقت خروجه قدّم رأسه وأخرّ رجليه على صفة الغواص، أو ذلّل له سبيل الخير ولم يكلفه ما لا طاقة له به. وفي هذا إشارة إلى أن الدنيا طريق الآخرة كسبيل المارة. وانتصاب السبيل بما يفسِّره الظاهر.
ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (٢١) عدّ الموت من النعم؛ لأنه وسيلة إلى النعيم في الجملة. يقال: قَبرت الرجل: إذا دفنته، وأقبرته: إذا مكنته من أن يقبر. (ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (٢٢) للجزاء.
(كَلَّا... (٢٣) ردع للإنسان عما هو عليه. (لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ) اللَّه به من الإيمان به بعد هذه النعم. وعن مجاهد: لم يقض أحد من لدن آدم إلى هذا الأوان ما أمره اللَّه
به إذ لم يخل أحد من نوع تفريط. ووجه ذلك أنَّ الضمير عائد إلى مطلق الإنسان المذكور في ضمن المقيّد؛ ولذلك أعاد ذكر الإنسان في قوله: (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (٢٤)؛ لأن المذكور بعده يعمّ الكل.
(أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (٢٥) استئناف؛ لبيان كيفية إيجاد الطعام، وقرأ الكوفيون: (أَنَّا) بفتح الألف بدل اشتمال.
(ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (٢٦) بالنبات أو الحراث، وأسنده إلى ذاته؛ لأنه السبب. (فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (٢٧) جنس الحبوب.
(وَعِنَبًا وَقَضْبًا (٢٨) مصدر قضبَ: قطع، سمي به الرطبة وهي المسمى بالقت؛ لأنها تقطع في عام مراراً. وعن الحسن: كل علف يقطع.
(وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (٢٩) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (٣٠) متكاثفة الأوراق والعروق. مستعار من وصف الرقاب بغلظ الأوداج وانتفاخ الأعصاب مع تداخل بعضها في بعض.
(وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (٣١) هو للدواب كالفاكهة للإنسان، وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - كل مرعى الدواب أبٌّ. وروى أبو عبيد القاسم بن سلام أن الصدّيق - رضي الله عنه - سئل عن الأبِّ
فقال. لا أقول في كتاب اللَّه ما لا أعلم. وعن أنس أنَّ عمر بن الخطاب تلا هذه الآية فلما وصل إلى قوله: (وَأَبًّا) قال: ما الأبُّ، ثم حاد وقال: لعمرك يا عمر إن هذا لهو التكلّف.
وهذا يدل على أنهم كانوا طالبين لمقاصد كلام اللَّه تعالى والعمل بمقتضى ما علموا ولهم عن طلب اللغات شغل شاغل وقد علموا أنَّ الآية مسوقة للامتنان على الإنسان، فهم كانوا ساعين في القيام بشكر تلك النعم (مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (٣٢) أي: المذكورات.
(فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (٣٣) أي: النفخة الثانية يقال: صخَّ للحديث وأصاخ: إذا استمع له. وصفت النفخة به مجازاً؛ لأنَّ الناس يصخّون عندها.
(يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (٣٤) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (٣٥) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (٣٦) لاشتغاله بحاله، أو خوفاً من مطالبتهم إياه بما قصَّر فيه من حقوقهم. ويؤيد الأول قوله:
(لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (٣٧) وقول الرسل نفسى نفسي. وتأخير الأحب فالأحب؛ للترقي كأنه قيل: يفرّ من أخيه من أبويه من صاحبته من بنيّه.
(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (٣٨) مضيئة، من أسفر الصبح: أضاء؛ لسرور القلوب، وقيل: من الصلاة بالليل فإن من تَهَجَّدَ استناَرَ وجهُه. وقيل: من آثار الوضوء. وقيل: من طول ما اغبرّت في سبيل اللَّه.
(ضَاحِكَةٌ... (٣٩) بما نالت من الربح والفوز. (مُسْتَبْشِرَةٌ) برحمة الله ورضوانه. (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (٤٠) غبار وكدورة.
(تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (٤١) يعلوها سواد كالدخان، ولا ترى أقبح من سواد الوجه إذا علاه الغبار.
(أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (٤٢) أي: الموصوفون باغبرار الوجوه واسودادها هم الذين ضموا إلى الكفر الفجور، فالجزاء على وفق العمل.
* * *
تمّت سورة عبس، والحمد لمن عن كل مكروب نفَّس، والصلاة على رسوله بالليل [إذا] عسعس، وآله وصحبه ما الصبح تنفس.
* * *
Icon