تفسير سورة هود

تفسير الألوسي
تفسير سورة سورة هود من كتاب روح المعاني المعروف بـتفسير الألوسي .
لمؤلفه الألوسي . المتوفي سنة 1342 هـ
سورة هود
كما أخرج ذلك ابن النحاس في تاريخه وأبو الشيخ وابن مردويه من طرق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وابن مردويه عن عبدالله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما ولم يستثنيا منها شيئا وإلى ذلك ذهب الجمهور واستثنى بعضهم منها ثلاث آيات ( فعلك تارك + أفمن كان على بينة من ربه + أقم الصلاة طرفي النهار ) وروي استثناء الثالثة عن قتادة قال الجلال السيوطي : ودليله من عدةطرق أنها نزلت بالمدينة في حق أبي اليسر وهي كما قال الداني في كتاب العدد مائة وإحدى وعشرون آية في المدني الأخير وإثنتان فيالمدني الأول وثلاث في الكوفي ووجه إتصالها بسورة يونس عليه السلامأنه ذكر في سورة يونس قصة نوح عليه السلام مختصرة جدا مجملةفشرحت فيهذه السورة وبسطت فيها ما لم تبسط في غيرها من السور ولا سورة الأعراف على طولها ولا سورة ( إنا أرسلنا نوحا ) التي أفردت لقصته فكانت هذه السورة شرحا لما أجمل في تلك السورة وبسطا له ثم إن مطلعها شديدالإرتباط بمطلع تلك فإن قوله تعالى هنا :( الر كتاب أحكمت آياته ) نظير قوله سبحانه هناك :( الر تلك آيات الكتاب الحكيم ) بل بين مطلع هذهوختام تلك شدة إرتباط أيضا حيث ختمت بنفي الشرك وإتباع الوحي وأفتتحت هذه ببيان الوحي والتحذير من الشرك وورد في فضلها ما ورد فقد أخرج الدارمي وأبو داود في مراسيله والبيهقي في شعب الإيمان وغيرهم عن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اقرأوا هودا يوم الجمعة وأخرج الترمذي وحسنه وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في البعث والنشور من طريق عكرمة عن ابن عباس قال : قال أبو بكر رضيالله تعالى عنه : يا رسول الله قد شبت قال : شيبتني هود والواقعة والمرسلات وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت وأخرج ابن عساكر منطريق يزيد الرقاشي عن أنس عن الصديق رضي الله تعالى عنه أنه قال : يا رسول الله أسرع إليك الشيب قال : أجل شيبتني سورة هود وأخواتهاالواقعة والقارعة والحاقة وإذا الشمس كورت وسأل سائل :: + وقد جاء في بعض الروايات أيضا أن عمر رضي الله تعالى عنه قال لهعليه الصلاة والسلام : أسرع إليك الشيب يا رسول الله فأجابه بنحو ما ذكر إلا أنه ذكر من الأخوات الواقعة وعم وإذا الشمس كورت وفي روايةأخرى عن سعد بن أبي وقاص قال : قلت يا رسول الله لقد شبت فقال : شيبتني هود والواقعة إلى
آخر ما في خبر عمر وفي بعضها الإقتصار على شيبتني هود وأخواتها وفي بعض آخر بزيادة وما فعل بالأمم من قبلي وقد أخرج ذلك ابن عساكر عن جعفر بن محمد عن أبيه رضي الله تعالى عنهما مرفوعا + وأخرج ابن مردويه وغيره عن عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قالله أصحابه : أسرع إليك الشيب فقال : شيبتني هود وأخواتها من المفصل والواقعة وكل ذلك يدل على خطرها وعظم ما إشتملت عليه وأشارت إليه وهو الذي صار سببا لإسراع الشيب إليه صلى الله تعالى عليه وسلم وفسره بعضهم بذكر يوم القيامة وقصص الأمم ويشهد له بعض الآثار وأخرج البيهقي في شعبالإيمان عن أبي علي الشتري قال : رأيت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في المنام : فقلتيا رسول الله روي عنك أنك قلت : شيبتني هود قال : نعم فقلت : ما الذي شيبك منها قصص الأنبياء عليهم السلام وهلاك الأمم قال : لا ولكن قوله تعالى :( فاستقم كما أمرت ) وهذا هو الذي اعتمد عليه بعض السادةالصوفية قدس الله تعالى أسرارهم وبينه بما بينه والحق أن الذي شيبه صلى الله تعالى عليه وسلم ما تضمنته هذه السورة أعم من هذا الأمر وغيره مما عظم أمرهعلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بمقتضى علمه الجليل ومقامه الرفيع وهذا هوالمنقدح لذهن السامع ولذلك لم يسأله صلى الله عليه وسلم أصحابه عما شيبه منها ومن أخواتها بل إكتفوا بما يتبادر من أمثال ذلك الكلام + ودعوى أن المتبادر لهم رضي الله تعالى عنهم ما خفي على أبي علي فلذلكلم يسألوا على تقدير تسليمها يبقى أنهم لم لم يسألوا عما شيبه عليهالصلاة والسلام من الأخوات مع أنه ليس فيها إلا ذكر يوم القيامة وهلاكالأمم دون ذلك الأمر وكونهم علموا أن المشيب فيها ذلك وفي أخواتها شيء آخر هو ذكر يوم القيامة وهلاك الأمم يأباه ما في خبر أبي علي من نفيه صلى الله عليه وسلم وكون ما ذكر مشيبا مفهوما ما من سورة دون أخرى لا يخفى حاله وبالجملة لا ينبغي التعويل على هذه الرواية وإن سلم أنها صحت عن أبي علي وإتهام الرائي بعدم الحفظ أو بعدم تحقيق المرئي أهون من القول بصحة الرؤية والتكلف لتوجيه ما فيها وسيأتي في آخر السورة إن شاء الله تعالى تمام الكلام في هذا المقام فليفهم

شيبتني هود وأخواتها من المفصل والواقعة»
وكل ذلك يدل على خطرها وعظم ما اشتملت عليه وأشارت إليه وهو الذي صار سببا لإسراع الشيب إليه صلّى الله عليه وسلم، وفسره بعضهم بذكر يوم القيامة وقصص الأمم ويشهد له بعض الآثار.
وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن أبي علي الشتري قال: رأيت النبي صلّى الله عليه وسلم في المنام: فقلت يا رسول الله روي عنك أنك قلت: «شيبتني هود» قال: نعم. فقلت: ما الذي شيبك منها قصص الأنبياء عليهم السلام وهلاك الأمم؟ قال: لا ولكن قوله تعالى: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ [هود: ١١٢] وهذا هو الذي اعتمد عليه بعض السادة الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم وبينه بما بينه، والحق أن الذي شيبه صلّى الله عليه وسلم ما تضمنته هذه السورة أعم من هذا الأمر وغيره ما عظم أمره على رسول الله صلّى الله عليه وسلم بمقتضى علمه الجليل ومقامه الرفيع، وهذا هو المنقدح لذهن السامع ولذلك لم يسأله صلّى الله عليه وسلم أصحابه عما شيبه منها ومن أخواتها بل اكتفوا بما يتبادر من أمثال ذلك الكلام.
ودعوى أن المتبادر لهم رضي الله تعالى عنهم ما خفي على أبي علي فلذلك لم يسألوا على تقدير تسليمها يبقى أنهم لم يسألوا عما شيبه عليه الصلاة والسلام من الأخوات مع أنه ليس فيها إلا ذكر يوم القيامة وهلاك الأمم دون ذلك الأمر؟ وكونهم علموا أن المشيب فيها ذلك وفي أخواتها شيء آخر هو ذكر يوم القيامة وهلاك الأمم يأباه ما في خبر أبي علي من نفيه صلّى الله عليه وسلم، وكون ما ذكر مشيبا مفهوما من سورة دون أخرى لا يخفى حاله، وبالجملة لا ينبغي التعويل على هذه الرواية وإن سلم أنها صحت عن أبي علي، واتهام الرائي بعدم الحفظ أو بعدم تحقيق المرئي أهون من القول بصحة الرؤية والتكلف لتوجيه ما فيها، وسيأتي في آخر السورة إن شاء الله تعالى تمام الكلام في هذا المقام فليفهم.
الر اسم للسورة على ما ذهب إليه الخليل وسيبويه وغيرهما أو للقرآن على ما روي عن الكلبي والسدي، وقيل: إنها إشارة إلى اسم من أسمائه تعالى أو صفة من صفاته سبحانه، وقيل: هي إقسام منه تعالى بما هو من أصول اللغات ومبادئ كتبه المنزلة ومباني أسمائه الكريمة، وقيل وقيل، وقد تقدم الكلام فيما ينفعك هنا على أتم تفصيل، واختار غير واحد من المتأخرين كونها اسما للسورة وأنها خبر مبتدأ محذوف أي هذه السورة مسماة- بالر- وقيل:
محلها الرفع على الابتداء أو النصب بتقدير فعل يناسب المقام نحو اذكر أو اقرأ، وقوله سبحانه: كِتابٌ خبر لها على تقدير ابتدائيتها أو لمبتدأ محذوف على غيره من الوجوه، والتنوين فيه للتعظيم أي كتاب عظيم الشأن جليل القدر أُحْكِمَتْ آياتُهُ أي نظمت نظما محكما لا يطرأ عليه اختلال فلا يكون فيه تناقض أو مخالفة للواقع والحكمة أو شيء مما يخل بفصاحته وبلاغته فالإحكام مستعار من إحكام البناء بمعنى إتقانه أو منعت من النسخ لبعضها أو لكلها
190
بكتاب آخر كما وقع للكتب السالفة فالإحكام من أحكمه إذا منعه ويقال: أحكمت السفيه إذا منعته من السفاهة، ومنه قول جرير:
أبي حنيفة أحكموا سفهاءكم إني أخاف عليكم إن أغضبا
وقيل: المراد منعت من الفساد أخذا من أحكمت الدابة إذا جعلت في فمها الحكمة وهي حديدة تجعل في فم الدابة تمنعها من الجماح، فكأن ما فيها من بيان المبدأ والمعاد بمنزلة دابة منعها الدلائل من الجماح، ففي الكلام استعارة تمثيلية أو مكنية. وتعقب بأن تشبيهها بالدابة مستهجن لا داعي إليه، ولعل الذوق يفرق بين ذلك وبين تشبيهها بالجمل الأنوف الوارد في بعض الآثار لانقيادها مع المتأولين لكثرة وجوه احتمالاتها الموافقة لأغراضهم.
واعترض بعضهم على إرادة المنع من الفساد بأن فيه إيهام ما لا يكاد يليق بشأن الآيات الكريمة من التداعي إلى الفساد لولا المانع، فالأول إذ يراد معنى المنع أن يراد المنع من النسخ ويراد من الكتاب القرآن وعدم نسخه كلّا أو بعضا على حسب ما أشرنا إليه وكون ذلك خلاف الظاهر في حيز المنع.
وادعى بعضهم أن المراد بالآيات آيات هذه السورة وكلها محكمة غير منسوخة بشيء أصلا، وروي ذلك عن ابن زيد وخولف فيه. وادعى أن فيها من المنسوخ أربع آيات قوله سبحانه: إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [هود: ١٢]. وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ [هود: ١٢١] والتي تليها ونسخت جميعا بآية السيف ومَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها [هود: ١٥] الآية ونسخت بقوله سبحانه: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ [الإسراء: ١٨] ولا يخلو عن نظر، ويجوز أن يكون المعنى منعت من الشبه بالحجج الباهرة وأيدت بالأدلة الظاهرة أو جعلت حكيمة أي ذات حكمة لاشتمالها على أصول العقائد والأعمال الصالحة والنصائح والحكم، والفعل على هذا منقول من حكم بالضم إذا صار حكيما، ومنه قول نمر بن تولب:
وأبغض بغيضك بغضا رويدا إذا أنت حاولت أن تحكما
فقد قال الأصمعي: إن المعنى إذا حاولت أن تكون حكيما، وفي إسناد الإحكام على الوجوه المذكورة إلى الآيات دون الكتاب نفسه لا سيما إذا أريد ما يشمل كل آية آية من حسن الموقع والدلالة على كونه في أقصى غاياته ما لا يخفى ثُمَّ فُصِّلَتْ أي جعلت مفصلة كالعقد المفصل بالفرائد التي تجعل بين اللآلئ، ووجه جعلها كذلك اشتمالها على دلائل التوحيد والأحكام والمواعظ والقصص أو فصل فيها مهمات العباد في المعاش والمعاد على الإسناد المجازي أو جعلت فصلا فصلا من السور ويراد بالكتاب القرآن، وقيل: يصح أن يراد به هذه السورة أيضا على أن المعنى جعلت معاني آياتها في سور ولا يخفى أنه تكلف لا حاجة إليه. أو فرقت في التنزيل فلم تنزل جملة بل نزلت نجما نجما على حسب ما تقتضيه الحكمة والمصلحة، وثُمَّ على هذا ظاهرة في التراخي الزماني لما أن المتبادر من التنزيل المنجم فيه التنزيل المنجم بالفعل، وإن أريد جعلها في نفسها بحيث يكون نزولها منجما حسب الحكمة فهو رتبي لأن ذلك وصف لازم لها حقيق بأن يرتب على وصف أحكامها، وهي على الأوجه الأول للتراخي الرتبي لا غير، وقيل: للتراخي بين الإخبارين. واعترض بأنه لا تراخي هناك إلا أن يراد بالتراخي الترتيب مجازا أو يقال بوجوده باعتبار ابتداء الخبر الأول وانتهاء الثاني.
وأنت تعلم أن القول بالتراخي في الرتبة أولى خلا أن تراخي رتبة التفضيل بأحد المعنيين الأولين عن رتبة الاحكام أمر ظاهر وبالمعنى الثالث فيه نوع خفاء، ولا يخفى عليك أن الاحتمالات في الآية الحاصلة من ضرب معاني
191
الاحكام الأربعة في معاني التفصيل كذلك وضرب المجموع في احتمالات المراد- بثم- تبلغ اثنين ثلاثين أو ثمانية وأربعين احتمالا ولا حجر. والزمخشري ذكر للاحكام ما في الكشف ثلاثة أوجه أخذه من أحكام البناء نظرا إلى التركب البالغ حد الإعجاز. أو من الاحكام جعلها حكيمة، أو جعلها ذات حكمة فيفيد معنى المنع من الفساد، وللتفصيل أربعة جعلها كالقلائد المفصلة بالفرائد لما فيها من دلائل التوحيد وأخواتها. وجعلها فصولا سورة سورة وآية آية وتفريقها في التنزيل وتفصيل ما يحتاج إليه العباد وبيانه فيها روي هذا عن مجاهد، وقال: إن معنى ثُمَّ ليس التراخي في الوقت ولكن في الحال كما تقول هي محكمة أحسن الإحكام ثم مفصلة أحسن التفصيل، وفلان كريم الأصل ثم كريم الفعل.
والظاهر أنه أراد أنها في جميع الاحتمالات كذلك، وفيه أيضا أنه إذا أريد بالاحكام أحد الأولين وبالتفصيل أحد الطرفين فالتراخي رتبي لأن الاحكام بالمعنى الأول راجع إلى اللفظ والتفصيل إلى المعنى، وبالمعنى الثاني وإن كان معنويا لكن التفصيل إكمال لما فيه من الإجمال، وأن أريد أحد الأوسطين فالتراخي على الحقيقة لأن الاحكام بالنظر إلى كل آية في نفسها وجعلها فصولا بالنظر إلى بعضها مع بعض أو لأن كل آية مشتملة على جمل من الألفاظ المرصفة وهذا تراخ وجودي، ولما كان الكلام من السائلات كان زمانيا أيضا، ولكن الزمخشري آثر التراخي في الحال مطلقا حملا على التراخي في الأخبار في هذين الوجهين ليطابق اللفظ الوضع وليظهر وجه العدول من الفاء إلى ثم، وإن أريد الثالث وبالتفصيل أحد الطرفين فرتبي وإلا فإخباري، والأحسن أن يراد بالاحكام الأول وبالتفصيل أحد الطرفين وعليه ينطبق المطابقة بين حَكِيمٍ وخَبِيرٍ وأُحْكِمَتْ وفُصِّلَتْ ثم قال: ومنه ظهر أن التراخي في الحال يشمل التراخي الرتبي والإخباري انتهى فليتأمل، وقرىء «أحكمت» بالبناء للفاعل المتكلم و «فصلت» بفتحتين مع التخفيف وروي هذا عن ابن كثير، والمعنى ثم فرقت بين الحق والباطل، وقيل: «فصلت» هنا مثلها في قوله تعالى:
وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ [يوسف: ٩٤] أي انفصلت وصدرت مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ صفة لكتاب وصف بها بعد ما وصف بأحكام آياته وتفصيلها الدالين على علو مرتبته من حيث الذات إبانة لجلالة شأنه من حيث الإضافة أو خبر ثان للمبتدأ الملفوظ أو المقدر أو هو معمول لأحد الفعلين على التنازع مع تعلقه بهما معنى أي من عنده أحكامها وتفصيلها واختار هذا في الكشف. وفي الكشاف أن فيه طباقا حسنا لأن المعنى أحكمها حكيم وفصلها أي بينها وشرحها خبير عالم بكيفيات الأمور ففي الآية اللف والنشر، وأصل الكلام على ما قال الطيبي: أحكم آياته الحكيم وفصلها الخبير ثم عدل عنه إلى أحكمت حكيم وفصلت خبير على حد قوله تعالى: يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ [النور: ٣٦، ٣٧] على قراءة البناء للمفعول، وقوله:
ليبك يزيد ضارع لخصومة ومختبط مما تطيح الطوائح
ثم إلى ما في النظم الجليل لما في الكناية من الحسن مع إفادة التعظيم البالغ الذي لا يصل إلى كنهه وصف الواصف لا سيما وقد جيء بالاسمين الجليلين منكرين بالتنكير التفخيمي، ولَدُنْ من الظروف المبنية وهي لأول غاية زمان أو مكان، والمراد هنا الأخير مجازا، وبنيت لشبهها بالحرف في لزومها استعمالا واحدا وهي كونها مبدأ غاية وامتناع الإخبار بها وعنها ولا يبنى عليها المبتدأ بخلاف عند ولدي- فإنهما لا يلزمان استعمالا واحدا بل يكونان لابتداء الغاية وغيرها ويبنى عليهما المبتدأ كما في قوله سبحانه: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ [الأنعام: ٥٩] ولَدَيْنا مَزِيدٌ [ق: ٣٥] قيل: ولقوة شبهها بالحرف وخروجها عن نظائرها لا تعرب إذا أضيفت، نعم جاء عن قيس إعرابها تشبيها بعند وعلى ذلك خرجت قراءة عاصم بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ [الكهف: ٢] بالجر وإشمام الدال
192
الساكنة الضم واقترانها بمن كما في الآية، وكذا إضافتها إلى مفرد كيفما كان هو الغالب وقد تتجرد عن- من- وقد تضاف إلى جملة اسمية كقوله:
وتذكر نعماه لدن أنت يافع وفعلية كقوله:
صريع غوان راقهن ورقنه لدن شب حتى شاب سود الذوائب
ومنع ابن الدهان من إضافتها إلى الجملة وأول ما ورد من ذلك على تقدير أن المصدرية بدليل ظهورها معها في قوله:
وليت فلم تقطع لدن أن وليتنا قرابة ذي قربى ولا حق مسلم
ولا يخفى ما في التزام ذلك من التكلف لا سيما في مثل- لدن أنت يافع- وتتمحض للزمان إذا أضيفت إلى الجملة، وجاء نصب غدوة بعدها في قوله:
لدن غدوة حتى دنت لغروب وخرج على التمييز، وحكى الكوفيون رفعها بعدها وخرج على إضمار كان، وفيها ثمان لغات، فمنهم من يقول لَدُنْ بفتح اللام وضم الدال وسكون النون وهي اللغة المشهورة، وتخفف بحذف الضمة كما في عضد وحينئذ يلتقي ساكنان. فمنهم من يحذف النون لذلك فيبقى- لد- بفتح اللام وسكون الدال. ومنهم من لا يحذف ويحرك الدال فتحا فيقول: لدن بفتح اللام والدال وسكون النون، ومنهم من لا يحذف ويحرك الدال كسرا فيقول لدن بفتح اللام وكسر الدال وسكون النون ومنهم من لا يحذف ويحرك النون بالكسر فيقول لدن بفتح اللام وسكون الدال وكسر النون، وقد يخفف بنقل ضمة الدال إلى اللام كما يقال في عضد عضد بضم العين وسكون الضاد على قلة، وحينئذ يلتقي ساكنان أيضا. فمنهم من يحذف النون لذلك فيقول- لد- بضم اللام وسكون الدال، ومنهم من لا يحذف ويحرك النون بالكسر فيقول لدن بضم اللام وكسر النون فهذه سبع لغات. وجاء- لد- بحذف نون لدن التي هي أم الجميع وبذلك تتم الثمانية، ويدل على أن أصل- لد- لدن إنك إذا أضفته لمضمر جئت بالنون فتقول: من لدنك ولا يجوز من- لدك- كما نبه عليه سيبويه، وذكر لها في همع الهوامع عشر لغات ما عدا اللغة القيسية فليراجع.
أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ في موضع العلة للفعلين السابقين على جعل «أن» مصدرية وتقدير اللام معها كأنه قيل: كتاب أحكمت آياته ثم فصلت لئلا تعبدوا إلا الله أي لتتركوا عبادة غيره عز وجل وتتمحضوا لعبادته سبحانه، فإن الأحكام والتفصيل مما يدعوهم إلى الإيمان والتوحيد وما يتفرع عليه من الطاعات قاطبة. وجوز أن تكون مفسرة لما في التفصيل من معنى القول دون حروفه كأنه قيل: فصل وقال: لا تعبدوا إلا الله أو أمر أن لا تعبدوا إلا الله، وقيل: إن هذا كلام منقطع عما قبله غير متصل به اتصالا لفظيا بل هو ابتداء كلام قصد به الإغراء على التوحيد على لسانه صلّى الله عليه وسلم و «أن» وما بعدها في حيز المفعول به لمقدر كأنه قيل: الزموا ترك عبادة غيره تعالى، واحتمال أن يكون ما قبل أيضا مفعولا به بتقدير قل أول الكلام خلاف الظاهر، ومثله احتمال كون «أن» والفعل في موقع المطلق، وقد صرح بعض المحققين أن ذلك مما لا يحسن أو لا يجوز فلا ينبغي أن يلتفت إليه إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ ضمير الغائب المجرور لله تعالى و «من» لابتداء الغاية، والجار والمجرور في الأصل صفة النكرة فلما قدم عليها صار حالا كما هو المعروف في أمثاله أي إني لكم من جهته تعالى نذير أنذركم عذابه إن لم
193
تتركوا ما أنتم عليه من عبادة غيره سبحانه وبشير أبشركم ثوابه إن آمنتم وتمحضتم في عبادته عز وجل، وجوز كون «من» صلة النذير والضمير إما له تعالى أيضا، والمعنى حينئذ على ما قال أبو البقاء نذير من أجل عذابه وأما للكتاب على معنى إني لكم نذير من مخالفته وبشير لمن آمن به، وقوله تعالى: وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ عطف على أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ سواء كان نهيا أو نفيا وفي أَنِ الاحتمالان السابقان وقد علمت أن الحق أن أَنِ المصدرية توصل بالأمر والنهي كما توصل بغيرهما، وفي توسيط جملة إِنَّنِي لَكُمْ إلخ بين المتعاطفين ما لا يخفى من الإشارة إلى علو شأن التوحيد ورفعه قدر النبي صلّى الله عليه وسلم، وقد روعي في تقديم الإنذار على التبشير ما روعي في الخطاب من تقديم النفي على الإثبات والتخلية على التحلية للتجاوب الأطراف، والتعرض لوصف الربوبية تلقين للمخاطبين وإرشاد لهم إلى طريق الابتهال في السؤال وترشيح لما يذكر من التمتيع وإيتاء الفضل، وقوله سبحانه: ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ عطف على اسْتَغْفِرُوا واختلف في توجيه توسيط ثُمَّ بينهما مع أن الاستغفار بمعنى التوبة في العرف فقال الجبائي: إن المراد بالاستغفار هنا التوبة عما وقع من الذنوب وبالتوبة الاستغفار عما يقع منها بعد وقوعه أي استغفروا ربكم من ذنوبكم التي فعلتموها ثم توبوا إليه من ذنوب تفعلونها، فكلمة ثُمَّ على ظاهرها من التراخي في الزمان، وقال الفراء: إن ثُمَّ بمعنى الواو كما في قوله:
بهز (١) كهز الرديني جرى في الأنابيب ثم اضطرب
والعطف تفسيري، وقيل: لا نسلم أن الاستغفار هو التوبة بل هو ترك المعصية والتوبة هي الرجوع إلى الطاعة ولئن سلم أنهما بمعنى- فثم- للتراخي في الرتبة، والمراد بالتوبة الإخلاص فيها والاستمرار عليها وإلى هذا ذهب صاحب الفرائد. وقال بعض المحققين: الاستغفار هو التوبة إلا أن المراد بالتوبة في جانب المعطوف التوصل إلى المطلوب مجازا من إطلاق السبب على المسبب، وثُمَّ على ظاهرها وهي قرينة على ذلك.
وأنت تعلم أن أصل معنى الاستغفار طلب الغفر أي الستر ومعنى التوبة الرجوع، ويطلق الأول على طلب ستر الذنب من الله تعالى والعفو عنه والثاني على الندم عليه مع العزم على عدم العود فلا اتحاد بينهما بل ولا تلازم عقلا، لكن اشترط شرعا لصحة ذلك الطلب وقبوله الندم على الذنب مع العزم على عدم العود إليه، وجاء أيضا استعمال الأول في الثاني، والاحتياج إلى توجيه العطف على هذا ظاهر، وأما على ذاك فلأن الظاهر أن المراد من الاستغفار المأمور به الاستغفار المسبوق بالتوبة بمعنى الندم فكأنه قيل: استغفروا ربكم بعد التوبة ثم توبوا إليه ولا شبهة في ظهور احتياجه إلى التوجيه حينئذ، والقلب يميل فيه إلى حمل الأمر الثاني على الإخلاص في التوبة والاستمرار عليها، والتراخي عليه يجوز أن يكون رتيبا وأن يكون زمانيا كما لا يخفى يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً مجزوم بالطلب، ونصب مَتاعاً على أنه مفعول مطلق من غير لفظه كقوله تعالى: أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح: ١٧] ويجوز أن يكون مفعولا به على أنه اسم لما ينتفع به من منافع الدنيا من الأموال والبنين وغير ذلك، والمعنى كما قيل يعشكم في أمن وراحة، ولعل هذا لا ينافي كون الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر ولا كون أشد الناس بلاء الأمثل فالأمثل لأن المراد بالأمن أمنه من غير الله تعالى وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق: ٣] وبالراحة طيب عيشه برجاء الله تعالى والتقرب إليه حتى يعد المحنة منحة:
وتعذيبكم عذب لدي وجوركم علي بما يقضي الهوى لكم عدل
(١) قوله بهز إلخ كذا في خطه رحمه الله والمعروف
كهز الرديني تحت العجاج
جرى إلخ. [.....]
194
وقال الزجاج: المراد يبقيكم ولا يستأصلكم بالعذاب كما استأصل أهل القرى الذين كفروا، والخطاب لجميع الأمة بقطع النظر عن كل فرد فرد إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى مقدر عند الله تعالى وهو آخر أعماركم أو آخر أيام الدنيا كما يقتضيه كلام الزجاج، ولا دلالة في الآية على أن للإنسان أجلين كما زعمه المعتزلة وَيُؤْتِ أي يعط كُلَّ ذِي فَضْلٍ أي زيادة في العمل الصالح فَضْلَهُ أي جزاء فضله في الدنيا أو في الآخرة لأن العمل لا يعطي، وقد يقال:
لا حاجة إلى تقدير المضاف، والمراد المبالغة على حد سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ [الأنعام: ١٣٩] والضمير لكل، ويجوز أن يعود إلى الرب، والمراد بالفضل الأول ما أريد به أولا وبالثاني زيادة الثواب بقرينة أن الإعطاء ثواب وحينئذ يستغني عن التأويل.
واختار بعض المحققين التفسير الأول ثم قال: وهذه تكملة لما أجمل من التمتيع إلى أجل مسمى وتبيين لما عسى أن يعسر فهم حكمته من بعض ما يتفق في الدنيا من تفاوت الحال بين العالمين فرب إنسان له فضل طاعة وعمل لا يمتع في الدنيا أكثر مما متع آخر دونه في الفضل وربما يكون المفضول أكثر تمتيعا فقيل: ويعط كل فاضل جزاء فضله إما في الدنيا كما يتفق في بعض المواد وإما في الآخرة وذلك مما لا مرد له انتهى.
ويفهم من كلام بعضهم عدم اعتبار الانفصال على أنه سبحانه ينعم على ذي الفضل في الدنيا والآخرة ولا يختص إحسانه بإحدى الدارين، ولا شك أن كل ذي عمل صالح منعم عليه في الآخرة بما يعلمه الله تعالى وكذا في الدنيا بتزيين العمل الصالح في قلبه والراحة حسب تعليق الرجاء بربه ونحو ذلك ولا إشكال في ذلك كما هو ظاهر للمتأمّل، وقيل: في الآية لف ونشر فإن التمتيع مرتب على الاستغفار وإيتاء الفضل مرتب على التوبة انتهى.
وأيّا ما كان ففي الكلام ضرب تفصيل لما أجمل فيما سبق من البشارة، ثم شرع في الإنذار بقوله سبحانه:
وَإِنْ تَوَلَّوْا أي تستمروا على الإعراض عما ألقي إليكم من التوحيد والاستغفار والتوبة، وأصله تتولوا فهو مضارع مبدوء بتاء الخطاب لأن ما بعده يقتضيه وحذفت منه إحدى التاءين كما فعل في أمثاله، وقيل: إن تَوَلَّوْا ماض غائب فلا حذف ويقدر فيما بعد فقل لهم وهم خلاف الظاهر، وأخر الإنذار عن البشارة جريا على سنن تقدم الرحمة على الغضب أو لأن العذاب قد علق بالتولي عما ذكر من التوحيد وما معه وذلك يستدعي سابقة ذكره.
وقرأ عيسى بن عمرو واليماني «تولوا» بضم التاء وفتح الواو وضم اللام وهو مضارع- ولى- من قولهم: ولى هاربا أي أدبر فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ بمقتضى الشفقة والرأفة أو أتوقع عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ هو يوم القيامة وصف بذلك لكبر ما يكون فيه ولذا وصف بالثقل أيضا، وجوز وصفه بالكبر لكونه كذلك في نفسه، وقيل: المراد به زمان ابتلاهم الله تعالى فيه في الدنيا، وقد روي أنهم ابتلوا بقحط عظيم أكلوا فيه الجيف، وأيّا ما كان ففي إضافة العذاب إليه تهويل وتفظيع له إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ مصدر ميمي وكان قياسه فتح الجيم لأنه من باب ضرب وقياس مصدره الميمي ذلك كما علم من محله، أي إليه تعالى رجوعكم بالموت ثم البعث للجزاء في مثل ذلك اليوم لا إلى غيره جميعا لا يتخلف منكم أحد وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فيندرج في تلك الكلية قدرته سبحانه على إماتتكم ثم بعثكم وجزائكم فيعذبكم بأفانين العذاب، وهذا تقرير وتأكيد لما سلف من ذكر اليوم وتعليل للخوف.
أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ كأنه جواب سؤال مقدر، وذلك أنه لما ألقي إليهم ما ألقي وسيق إليهم ما سيق من الترغيب والترهيب وقع في ذهن السامع أنهم بعد ما سمعوا مثل هذا المقال الذي تخر له صم الجبال
195
هل قابلوا بالإقبال أم تمادوا فيما كانوا عليه من الإعراض والضلال فقيل: مصدرا بكلمة التنبيه إشعارا بأن ما بعدها من هناتهم أمر ينبغي أن يفهم ويتعجب منه أَلا إِنَّهُمْ إلخ، فضمير إِنَّهُمْ للمشركين المخاطبين فيما تقدم و «يثنون» بفتح الياء مضارع ثنى الشيء إذا لواه وعطفه، ومنه على ما قيل الاثنان، لعطف أحدهما على الآخر والثناء لعطف المناقب بعضها على بعض وكذا الاستثناء للعطف على المستثنى منه بالإخراج، وأصله يثنيون فأعل بالإعلال المعروف في نحو يرمون، وفي المراد منه احتمالات: منها أن الثني كناية أو مجاز عن الإعراض عن الحق لأن من أقبل على شيء واجهه بصدره ومن أعرض صرفه عنه، أي إنهم يثنون صدورهم عن الحق ويتحرفون عنه، والمراد استمرارهم على ما كانوا عليه من التولي والإعراض المشار إليه بقوله سبحانه: وَإِنْ تَوَلَّوْا إلخ. ومنها أنه مجاز عن الإخفاء لأن ما يجعل داخل الصدر فهو خفي أي إنهم يضمرون الكفر والتولي عن الحق وعداوة النبي صلّى الله عليه وسلم. ومنها أنه باق على حقيقته، والمعنى أنهم إذا رأوا النبي عليه الصلاة والسلام فعلوا ذلك وولوا ظهورهم، والظاهر أن اللام متعلقة- بيثنون- على سائر الاحتمالات، وكأن بعضهم رأى عدم صحة التعلق على الاحتمال الأول لما أن التولي عن الحق لا يصلح تعليله بالاستخفاء لعدم السببية فقدر لذلك متعلقا فعل الإرادة على أنه حال أو معطوف على ما قبله، أي ويريدون ليستخفوا من الله تعالى فلا يطلع رسوله عليه الصلاة والسلام والمؤمنين على أغراضهم، وجعله في قود المعنى أليه من قبيل الإضمار في قوله تعالى: اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ [الشعراء: ٦٣] أي فضرب فانفلق، لكن لا يخفى أن انسياق الذهن إلى توسيط الإرادة بين ثني الصدور والاستخفاء ليس بمثابة انسياقه إلى توسيط الضرب بين الأمر والانفلاق كما ذكره العلامة القسطلاني وغيره، وقيل: إنه لا حاجة إلى التقدير في الاحتمالين الأولين لأن انحرافهم عن الحق بقلوبهم وعطف صدورهم على الكفر والتولي وعداوة النبي صلّى الله عليه وسلم وعدم إظهارهم ذلك يجوز أن يكون للاستخفاء من الله تعالى لجهلهم بما لا يجوز على الله تعالى، وأما على الاحتمال الثالث فالظاهر أنه لا بد من التقدير إلا أن يعاد الضمير منه إلى الرسول صلّى الله عليه وسلم وهو الذي يقتضيه سبب النزول على ما ذكره أبو حيان من أن الآية نزلت في بعض الكفار الذين كانوا إذا لقيهم النبي صلّى الله عليه وسلم تطامنوا وثنوا صدورهم كالمستتر وردوا إليه ظهورهم وغشوا وجوههم بثيابهم تباعدا منه وكراهة للقائه عليه الصلاة والسلام وهم يظنون أنه يخفى عليه صلّى الله عليه وسلم، لكن ظاهر قوله تعالى الآتي:
يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ يقتضي عود الضمير إليه تعالى. واختار بعض المحققين الاحتمال الثاني من الاحتمالات الثلاث، وأمر التعليل والضمير عليه ظاهر، وأيده بما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها نزلت في الأخنس بن شريق وكان رجلا حلو المنطق حسن السياق للحديث يظهر لرسول الله صلّى الله عليه وسلم المحبة ويضمر في قلبه ما يضادها لكنه ليس بمجمع عليه لما سمعت عن أبي حيان.
وقيل: إنه كان الرجل من الكفار يدخل بيته ويرخي ستره ويحني ظهره ويتغشى بثوبه ويقول: هل يعلم الله ما في قلبي فنزلت، وأخرج ابن جرير: وغيره عن عبد الله بن شداد أنها نزلت في المنافقين كان أحدهم إذا مر بالنبي صلّى الله عليه وسلم ثنى صدره وتغشى لئلا يراه، وهو في معنى ما تقدم عن أبي حيان إلا أن فيه بعض الكفار دون المنافقين، فلا يرد عليه ما أورد على هذا من أن الآية مكية والنفاق إنما حدث بالمدينة فكيف يتسنى القول بأنها نزلت في المنافقين؟ وقد أجيب عن ذلك بأنه ليس المراد بالنفاق ظاهره بل ما كان يصدر من بعض المشركين الذين كان لهم مداراة تشبه النفاق، وقد يقال: إن حديث حدوث النفاق بالمدينة ليس إلا غير مسلم بل ظهوره إنما كان فيها والامتياز إلى ثلاث طوائف، ثم لو سلم فلا إشكال بل يكون على أسلوب قوله سبحانه: كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ [الحجر: ٩٠] إذا فسر باليهود ويراد به ما جرى على بني قريظة فإنه إخبار عما سيقع، وجعله كالواقع لتحققه وهو من الإعجاز لأنه وقع كذلك فكذا
196
ما نحن فيه. نعم الثابت في صحيح البخاري. وأخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه من طريق محمد بن عباد ابن جعفر أنه سمع ابن عباس يقرأ الآية فسأله عنها فقال: أناس كانوا يستحيون أن يتخلوا فيفضوا إلى السماء وإن يجامعوا نساءهم فيفضوا إلى السماء فنزل ذلك فيهم، وليس في الروايات السابقة ما يكافىء هذه الرواية في الصحة، وأمر يَثْنُونَ عليها ظاهر خلا أنه إذا كان المراد بالأناس جماعة من المسلمين كما صرح به الجلال السيوطي أشكل الأمر، وذلك لأن الظاهر من حال المسلم إذا استحى من ربه سبحانه فلم يكشف عورته مثلا في خلوة كان مقصوده مجرد إظهار الأدب مع الله تعالى مع علمه بأنه جل شأنه لا يحجب بصره حاجب ولا يمنع علمه شيء ومثل هذا الحياء أمر لا يكاد يذمه أحد بل في الآثار ما هو صريح في الأمر به وهو شعار كثير من كبار الأمة، والقول بأن استحياء أولئك المسلمين كان مقرونا بالجهل بصفاته عز وجل فظنوا أن الثني يحجب عن الله سبحانه فرد عليهم بما رد لا أظنك تقبله، وبالجملة الأمر على هذه الرواية لا يخلو عن إشكال ولا يكاد يندفع بسلامة الأمر، والذي يقتضيه السياق ويستدعيه ربط الآيات كون الآية في المشركين حسبما تقدم فتدبر والله تعالى أعلم.
وقرأ الحبر رضي الله تعالى عنه ومجاهد، وغيرهما «تثنوني» بالتاء لتأنيث الجمع وبالياء التحتية لأن التأنيث غير حقيقي، وهو مضارع اثنونى كاحلولى فوزنه تفعوعل بتكرير العين وهو من أبنية المزيد الموضوعة للمبالغة لأنه يقال حلي فإذا أريد المبالغة قيل احلولى وهو لازم- فصدورهم- فاعلة، ويراد منه ما أريد من المعاني في قراءة الجمهور إلا أن المبالغة ملحوظة في ذلك فيقال: المعنى مثلا تنحرف صدورهم انحرافا بليغا. وعن الحبر أيضا وعروة وغيرهما أنهم قرؤوا «تثنون» بفتح التاء المثناة من فوق وسكون التاء وفتح النون وكسر الواو وتشديد النون الأخيرة، والأصل تثنونن بوزن تفعوعل من الثن بكسر الثاء وتشديد النون وهو ما هش وضعف من الكلأ أنشد أبو زيد:
يا أيها المفضل المعني... إنك ريان فصمت عني
تكفي اللقوح أكلة من ثن
ولزم الإدغام لتكرير العين إذا كان غير ملحق وصُدُورَهُمْ على هذه مرفوع أيضا على الفاعلية، والمعنى على وصف قلوبهم بالسخافة والضعف كذلك النبت الضعيف، فالصدور مجاز عما فيها من القلوب، وجوز أن يكون مطاوع ثناه فإنه يقال: ثناه فانثنى واثنونى كما صرح به ابن مالك في التسهيل فقال: وافعوعل للمبالغة وقد يوافق استفعل ويطاوع فعل ومثلوه بهذا الفعل، فالمعنى أن صدورهم قبلت الثني ويؤول إلى معنى انحرفت كما فسر به قراءة الجمهور. وعن مجاهد وكذا عروة الأعشى أنه قرأ «تثنئن» كتطمئن وأصله يثنان فقلبت الألف همزة مكسورة رغبة في عدم التقاء الساكنين وإن كان على حدة، ويقال في ماضيه اثنان كاحمأر وابيأض، وقيل: أصله تثنون بواو مكسورة فاستثقلت الكسرة على الواو فقلبت همزة كما قيل في وشاح أشاح وفي وسادة إسادة فوزنه على هذا تفوعل وعلى الأول تفعال، ورجح باطراده وهو من الثن الكلأ الضعيف أيضا، وقرىء «تثنوي» كترعوي ونسب ذلك إلى ابن عباس أيضا، وغلط النقل بأنه لا حظ للواو في هذا الفعل إذ لا يقال: ثنوته فانثوى كرعوته فارعوى ووزن ارعوى من غريب الأوزان، وفي الصحاح تقديره افعول ووزنه افعلل، وإنما لم يدغم لسكون الياء وتمام الكلام فيه يطلب من محله، وقرىء بغير ذلك، وأوصل بعضهم القراءات إلى ثلاث عشرة وفصلها في الدر المصون، ومن غريبها أنه قرىء «يثنون» بالضم.
واستشكل ذلك ابن جني بأنه لا يقال: أثنيته بمعنى ثنيته ولم يسمع في غير هذه القراءة، وقال أبو البقاء: لا يعرف ذلك في اللغة إلا أن يقال: معناه عرضوها للانثناء كما تقول: أبعت الفرس إذا عرضته للبيع أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ أي يجعلونها أغشية، ومنه قول الخنساء:
197
أرعى النجوم وما كلفت رعيتها وتارة أتغشى فضل أطماري
وحاصله حين يأوون إلى فراشهم ويلتحفون بما يلتحف به النائم، وهو وقت كثيرا ما يقع فيه حديث النفس عادة، وعن ابن شداد حين يتغطون بثيابهم للاستخفاء، وأيّا ما كان فالمراد من الثياب معناه الحقيقي وقيل: المراد به الليل وهو يستر كما تستر الثياب، ومن ذلك قولهم: الليل أخفى للويل، والظرف متعلق بقوله سبحانه: يَعْلَمُ أي ألا يعلم ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ حين يستغشون ثيابهم ولا يلزم منه تقييد علم الله تعالى بذلك الوقت لأن من يعلم فيه يعلم فيه غيره بالطريق الأولى، وجوز تعلقه بمحذوف وقدره السمين وأبو البقاء يستخفون وبعضهم يريدون، و «ما» في الموضعين إما مصدرية أو موصولة عائدها محذوف أي الذي يسرونه في قلوبهم والذي يعلنونه أي شيء كان ويدخل ما يقتضيه السياق دخولا أوليا، وخصه بعضهم به، وقدم هنا السر على العلن نعيا عليهم من أول الأمر ما صنعوا وإيذانا بافتضاحهم ووقوع ما يحذرونه وتحقيقا للمساواة بين العلمين على أبلغ وجه فكأن علمه سبحانه بما يسرونه أقدم منه بما يعلنونه، وحاصل المعنى يستوي بالنسبة إلى علمه المحيط سرهم وعلنهم فكيف يخفى عليه سبحانه ما عسى أن يظهروه.
وقرأ ابن عباس «على حين يستغشون» قال ابن عطية: ومن هذا الاستعمال قول النابغة:
على حين عاتبت المشيب على الصبا إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ تعليل لما سبق وتقرير له، والمراد- بذات الصدور- الأسرار المستكنة فيها أو القلوب التي في الصدور، وأيّا ما كان فليست الذات مقحمة كما في ذات غدوة ولا من إضافة المسمى إلى اسمه كما توهم، أي إنه تعالى مبالغ في الإحاطة بمضمرات جميع الناس وأسرارهم أو بالقلوب وأحوالها فلا يخفى عليه سر من أسرارها فكيف يخفى عليه ما يسرون وما يعلنون، وكان التعبير بالجملة الاسمية للإشارة إلى أنه سبحانه لم يزل عالما بذلك، وفيه دليل على أنه تعالى يعلم الأشياء قبل وجودها الخارجي، وهذا مما لا ينكره أحد سوى شرذمة من المعتزلة قالوا: إنه تعالى إنما يعلم الأشياء بعد حدوثها تعالى عن ذلك علوا كبيرا، ولا يلزم هذا بعض المتكلمين المنكرين للوجود الذهني لأنهم إذا لم يقولوا به مع إنكار الوجود الذهني يلزمهم القول بتعلق العلم بالمعدوم الصرف، وامتناعه من أجل البديهيات، والإنكار مكابرة أو جهل بمعنى التعلق بالمعدوم الصرف، وقد أورد ذلك عليهم المحقق الدواني، وهو ناشىء على ما قيل عن الذهول عن معنى إنكار الوجود الذهني وبعد تحقيق المراد منه يندفع ذلك وبيانه أنه ليس معنى إنكارهم ذلك أنه لا يحصل صورة عند العقل إذا تصورنا شيئا أو صدقنا به لأن حصولها عنده في الواقع بديهي لا ينكره إلا مكابر، وكيف ينكره الجمهور والعلم الحادث مخلوق عندهم والخلق إنما يتعلق بأعيان الموجودات بل هو بمعنى أن ذلك الحصول ليس نحوا آخر من وجود الماهية المعلومة بأن يكون الماهية واحدة كالشمس مثلا وجودان، أحدهما خارجي والآخر ذهني كما يقول به مثبتوه، فهم لا ينكرون الوجود عن صور الأشياء وأشباحها وهي موجودات خارجية وكيفيات نفسانية وهي المخلوقة عندهم، وإنما ينكرون الوجود الذهني عن أنفس تلك الأشياء وذلك بشهادة أدلتهم حيث قالوا: لو حصلت النار في الأذهان لاحترقت الأذهان بتصورها واللازم باطل فإنه كما ترى إنما ينفي الوجود عن نفس النار لا عن شبحها ومثالها، فالحق أن الجمهور إنما أنكر وإما ذهب إليه محققو الحكماء من أن الحاصل في الأذهان أنفس ماهيات الأشياء ولم ينكروا ما ذهب إليه أهل الأشباح، وحينئذ يقال: علم الواجب عندهم إما تعلقه بأشباح الأشياء أو صفة ذات ذلك التعلق فلا يلزمهم القول بما قاله الشرذمة، ولا يتجه عليهم أن التعلق بتلك الأشباح الموجودة في الأزل لكونه نسبة بينها وبينه تعالى متأخر عنها فيلزم إيجاد تلك الأشباح بلا علم
198
وهو محال، لأنا نقول لما كان الواجب (١) تعالى موجبا فيعلمه وسائر صفاته الذاتية كان وجود تلك الصور الإدراكية التي هي تلك الأشباح مقتضى ذاته تعالى فلا بأس في كونها سابقة على العلم بالذات وإنما المسبوق بالعلم هو أفعاله الاختيارية، ثم ينبغي أن يعلم أنه ليس معنى قولهم: إن علم الواجب تبارك وتعالى بالأشياء أزلي وتعلقه بها حادث أنه ليس هناك إلا تعلق حادث لأنه يلزم حدوث نفس العلم فيعود ما ارتكبه الشرذمة للقطع بأنه لا يصير المعلوم معلوما قبل تعلق العلم به وهو من الفساد بمكان، بل معناه أن التعلق الذي لا تقتضيه حقيقة العلم حادث وهناك تعلق تقتضيه تلك الحقيقة وهو قديم، وذلك لأن الأشباح والأمثال معلومة بالذات وبواسطتها تعلم الأشياء، فتعلق العلم عندهم أعم من تعلقه بذات الشيء المعلوم أو بمثاله وشبحه، ولما لم يمكن وجود الحوادث في الأزل كان العلم الممكن بالنسبة إليها بالتعلق بأمثالها وأشباحها وبعد حدوثها يتجدد التعلق بأن يكون بذات تلك الحوادث. وبالجملة تعلق العلم بأمثال الحوادث وأشباحها أزلي وبأنفسها وذواتها حادث ولا إشكال فيه أصلا، وبهذا التحقيق يندفع شبهات كثيرة كما قيل، لكن أورد عليه أن برهان التطبيق جار في هاتيك الأشباح لما أنها متميزة الآحاد في نفس الأمر فيلزم أحد المحذورين.
وفي المقام أبحاث طويلة الذيل وقد بسط الكلام في ذلك مولانا إسماعيل أفندي الكلنبوي في حواشيه على شرح العضدية، وللمولى الشيخ إبراهيم الكوراني تحقيق على طرز آخر ذكره في كتابه مطلع الجود فارجع إليه.
وبالجملة لا تخفى صعوبة هذه المسألة وهي مما زلت فيها أقدام أقوام، ولعل الله سبحانه يرزقك تحقيقها بمنه سبحانه، وقد قال به أفضل المتأخرين مولانا إسماعيل أفندي الكنبوي (٢).
(١) قوله «لما كان الواجب» إلخ كذا بخطه وتأمله
(٢) تم الجزء الحادي عشر بحول الله وقوته ويليه الجزء الثاني عشر واوله وَما مِنْ دَابَّةٍ.
199
الجزء الثاني عشر
201

بسم الله الرحمن الرحيم

وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها الدابة اسم لكل حيوان ذي روح ذكرا كان أو أنثى عاقلا أو غيره، مأخوذ من الدبيب، وهو في الأصل المشي الخفيف ومنه قوله:
زعمتني شيخا ولست بشيخ إنما الشيخ من يدب دبيبا
واختصت في العرف بذوات القوائم الأربع وقد تخص بالفرس، والمراد بها هنا المعنى اللغوي باتفاق المفسرين أي وما من حيوان يدب على الأرض إلا على الله تعالى غذاؤه ومعاشه، والمراد أن ذلك كالواجب عليه تعالى إذ لا وجوب عليه سبحانه عند أهل الحق كما بين في الكلام، فكلمة عَلَى المستعملة للوجوب مستعارة استعارة تبعية لما يشبهه ويكون من المجاز بمرتبتين، وذكر الإمام أن الرزق واجب بحسب الوعد والفضل والإحسان على معنى أنه باق على تفضله لكن لما وعده سبحانه وهو جل شأنه لا يخل بما وعد صوره بصورة الوجوب لفائدتين: التحقيق لوصوله. وحمل العباد على التوكل فيه، ولا يمنع من التوكل مباشرة الأسباب مع العلم بأنه سبحانه المسبب لها
ففي الخبر «اعقل وتوكل»
وجاء «لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها فاتقوا الله تعالى وأجملوا في الطلب»
ولا ينبغي أن يعتقد أنه لا يحصل الرزق بدون مباشرة سبب فإنه سبحانه يرزق الكثير من دون مباشرة سبب أصلا،
وفي بعض الآثار «إن موسى عليه السلام عند نزول الوحي تعلق قلبه بأحوال أهله فأمره الله تعالى بأن يضرب بعصاه صخرة فضرب
203
فانشقت الصخرة وخرجت صخرة ثانية فضربها فخرجت ثالثة فضربها فانشقت عن دودة كالذرة وفي فمها شيء يجري مجرى الغذاء لها وسمعها تقول: سبحان من يراني ويسمع كلامي ويعرف مكاني ويذكرني ولا ينساني»
وما أحسن قول ابن أذينة:
لقد علمت وما الإشراف من خلقي... إن الذي هو رزقي سوف يأتيني
أسعى إليه فيعييني تطلبه... ولو أقمت أتاني لا يعنيني
وقد صدقه الله تعالى في ذلك يوم وفد على هشام فقرعه بقوله هذا فرجع إلى المدينة فندم هشام على ذلك وأرسل بجائزته إليه، ويقرب من قصته قصة الثقفي مع عبيد الله بن عامر خال عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه وهي مشهورة حكاها ابن أبي الدنيا ونقلها غير واحد، وقد ألغى أمر الأسباب جدا من قال:
مثل الرزق الذي تطلبه... مثل الطل الذي يمشي معك
أنت لا تدركه متبعا... وإذا وليت عنه تبعك
وبالجملة ينبغي الوثوق بالله تعالى وربط القلب به سبحانه فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن واحتج أهل السنة بالآية على أن الحرام رزق وإلا فمن لم يأكل طول عمره إلا من الحرام يلزم أن لا يكون مرزوقا، وأجيب بأن هذا مجرد فرض إذ لا أقل من التغذي بلبن الأم مثلا وهو حلال على أن المراد أن كل حيوان يحتاج إلى الرزق إذا رزق فإنما رزقه من الله تعالى وهو لا ينافي أن يكون هناك من لا رزق له كالمتغذي بالحرام، وكذا من لم يرزق أصلا حتى مات جوعا، وروي هذا عن مجاهد وقد تقدم الكلام في ذلك.
وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها موضع قرارها في الأصلاب وَمُسْتَوْدَعَها موضعها في الأرحام وما يجري مجراها من البيض ونحوه، فالمستقر والمستودع اسما مكان، وجوز فيهما أن يكونا مصدرين وأن يكون المستودع اسم مفعول لتعدي فعله، ولا يجوز في المستقر ذلك لأن فعله لازم. والأول هو الظاهر، وإنما خص كل من الاسمين بما خص به من المحل- كما قال بعض الفضلاء- لأن النطفة مثلا بالنسبة إلى الأصلاب في حيزها الطبيعي ومنشئها الخلقي، وأما بالنسبة إلى الأرحام مثلا فهي مودعة فيها إلى وقت معين، وعن عطاء تفسير المستقر بالأرحام والمستودع بالأصلاب وكأنه أخذ تفسير الأول بذلك من قوله سبحانه: وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ [الحج: ٥]، وجوز أن يكون المراد بالمستقر مساكنها من الأرض حيث وجدت بالفعل، وبالمستودع محلها من المواد والمقار حين كانت بعد بالقرة، وهذا عام لجميع الحيوانات بخلاف الأول إذ من الحيوانات ما لم يستقر في صلب كالمتكون من عفونة الأرض مثلا، ولعل تقديم محلها باعتبار حالتها الأخيرة لرعاية المناسبة بينها وبين عنوان كونها دابة في الأرض مثلا، والمعنى على ما قيل: ما من دابة في الأرض إلا يرزقها الله تعالى حيث كانت من أماكنها يسوقه إليها ويعلم موادها المختلفة المندرجة في مراتب الاستعدادات المتفاوتة المتطورة في الأطوار المتباينة ومقارها المتنوعة يفيض عليها في كل مرتبة ما يليق بها من مبادئ وجودها وكمالاتها المتفرعة عليها، ولا يخلو عن حسن إلا أن فيه بعدا، وأخرج عبد الرزاق وجماعة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن مستقرها حيث تأوي ومستودعها حيث تموت، وتعقب بأن تفسير المستودع بذلك لا يلائم مقام التكفل بأرزاقها، وقد يقال: لعل ذلك إشارة إلى نهاية أمد ذلك التكفل، وفي خبر ابن مسعود رضي الله تعالى عنه إشارة إلى ما هو كالمبدأ له أيضا، فقد أخرج عنه ابن جرير والحاكم وصححه أنه قال: مستقرها الأرحام، ومستودعها حيث تموت، فكأنه قيل: إنه سبحانه متكفل برزق كل دابة ويعلم مكانها أول ما تحتاج إلى
204
الرزق ومكانها آخر ما تحتاج إليه فهو سبحانه يسوقه إليها ولا بد إلى أن ينتهي أمد احتياجها، وجوز في هذه الجملة أن تكون استئنافا بيانيا وأن تكون معطوفة على جملة عَلَى اللَّهِ رِزْقُها داخلة في حيز إِلَّا وعليه اقتصر الأجهوري.
كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ أي كل واحد من الدواب ورزقها ومستقرها ومستودعها، أو كل ما ذكر وغيره مثبت في اللوح المحفوظ البين لمن ينظر فيه من الملائكة عليهم السلام، أو المظهر لما أثبت فيه للناظرين، والجملة- على ما قال الطيبي- كالتتميم لمعنى وجوب تكفل الرزق كمن أقر بشيء في ذمته ثم كتب عليه صكا، وفي الكشف إن الأظهر أنها تحقيق للعلم وكأنه تعالى لما ذكر أنه يعلم ما يسرون وما يعلنون أردفه بما يدل على عموم علمه، ثم أتى سبحانه بما يدل على عظيم قدرته جل شأنه من قوله تبارك وتعالى:
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ تقريرا للتوحيد لأن من شمل علمه وقدرته هو الذي يكون إلها لا غيره مما لا يعلم ولا يقدر على ضر ونفع وتأكيدا لما سبق من الوعد والوعيد لأن العالم القادر يرجى ويخشى، وجوز أن تكون الآية تقريرا لقوله سبحانه: يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ وما بعدها تقريرا لقوله سبحانه:
وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وفيه بعد، وكأن المراد بخلق السماوات والأرض إلخ خلقهما وما فيهما، أو تجعل السماوات مجازا عن العلويات فتشملها وما فيها، وتجعل الأرض مجازا بمعنى السفليات فتشملها وما فيها من غير تقدير، واحتيج لذلك لاقتضاء المقام إياه وإلا فخلقهما في تلك المدة لا ينافي خلق غيرهما فيها، والمراد باليوم الوقت مطلقا لا المتعارف إذ لا يتصور ذلك حين لا شمس ولا أرض، وقيل أريد به مدة زمان دور المحدد المسمى بالعرش دورة تامة، وإليه ذهب الشيخ الأكبر قدس سره، وقد علمت حاله فيما تقدم، وقيل: غير ذلك.
وفي عدم خلقهما دفعة كما علمت دليل- كما قال غير واحد- على كونه سبحانه قادرا مختارا مع ما فيه من الاعتبار للنظار والحث على التأني في الأمور، وقد تقدم ما قيل في وجه تخصيص هذا العدد دون الزائد عليه كالسبعة أو الناقص عنه كالخمسة للخلق، ولعلنا نحقق ذلك في موضع آخر، وإيثار صيغة الجمع في السماوات لاختلافها بالأصل والذات دون الأرض، وإن قيل: إنها مثل السماء في كونها سبعا طباقا بين كل أرض وأرض مسافة وفيها مخلوقات، وبذلك فسر قوله سبحانه: وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ [الطلاق: ٢] والكثير على أن الأرض كرة واحدة منقسمة إلى سبعة أقاليم وحملوا الآية على ذلك.
وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ عطف على جملة خَلَقَ مع ضميره المستتر أو حال من الضمير بتقدير قد على ما هو المشهور في الجملة الحالية الماضوية من اشتراط قد ظاهرة أو مقدرة والمضي المستفاد- من كان- بالنسبة للحكم لا للتكلم أي كان عرشه على الماء قبل خلقهما وهو الذي يقتضيه كلام مجاهد، وبه صرح القاضي البيضاوي، ثم قال: لم يكن حائل بينهما أي العرش والماء لا أنه كان موضوعا على متن الماء، واستدل به على إمكان الخلاء وأن الماء أول حادث بعد العرش من اجرام هذا العالم انتهى، وكذا صرح به العلامة أبو السعود مفتي الديار الرومية لكنه قال: ليس تحته- يعني العرش- شيء غيره أي الماء سواء كان بينهما فرجة، أو موضوعا على متنه كما ورد في الأثر فلا دلالة فيه على إمكان الخلاء كيف لا ولو دل لدل على وجوده لا على إمكانه فقط ولا على كون الماء أول ما حدث في العالم بعد العرش وإنما يدل على أن خلقهما أقدم من خلق السماوات والأرض من غير تعرض للنسبة بينهما انتهى، ولا يخفى ما بين القاضي والمفتي من المخالفة، والأكثرون على أن الحق مع المفتي كما ستعلمه إن شاء الله تعالى.
205
وانتصر بعضهم للقاضي بأنه لو كان موضوعا على متن الماء للزم قبل خلق تمام العالم أحد الأمور الستة: إما خروج الماء عن حيزه الطبيعي، أو خروج العرش عن حيزه الطبيعي، أو تخلخل الماء، أو نموه أو تخلخل العرش أو نموه، وحين خلق العالم أحد الأمور الخمسة: إما حركة العرش بالاستقامة إلى حيزه الطبيعي. أو تكاثف الماء أو ذبوله أو تكاثف العرش أو ذبوله، وهذه الأمور باطلة كما لا يخفى على من تدرب في الحكمة، ويحمل الإمكان في كلامه على الإمكان الوقوعي، أو يراد به الإمكان الذاتي وبالخلاء الخلاء في عالمنا هذا فإنه المتنازع فيه فكأنه قيل واستدل به على أن الخلاء في عالمنا ممكن بالإمكان الذاتي وتوجيه الاستدلال به حينئذ على ذلك هو أن الخلاء قبل عالمنا هذا كان واقعا ووقوع شيء في وقت من الأوقات دليل على إمكانه الذاتي في جميع الأوقات فإن ثبوت الإمكان للممكن واجب فالممكن في وقت ممكن في وقت آخر كما حققه شارح حكمة العين، ووجه الدلالة على أن الماء أول حادث بعد العرش أن كل جسم بسيط فله مكان طبيعي وأن المكان من لوازم وجود الجسم فإن الفاعل إذا أوجد الجسم أوجده لا محالة في مكان كما صرحوا به، والمكان للخفيف من الأجسام هو الفوق، وللثقيل التحت على حسب الثقل والخفة وتحددهما إنما هو بالفلك الأعظم فوجود الماء في جوف العرش يتوقف على وجود مكانه المتوقف على وجود العرش فيتأخر عنه حدوثا ولا يخفى ما في هذا الوجه من النظر، ولا أقل من أن يقال لم لا يجوز أن يخلق الله تعالى العرش والماء معا؟ على أنه قد جاء في بعض الآثار ما هو ظاهر في أن الماء كان مخلوقا قبل العرش
فقد أخرج الطيالسي وأحمد والترمذي وحسنه وابن ماجة وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في الأسماء والصفات وغيرهم عن أبي رزين العقيلي قال: «قلت: يا رسول الله أين كان ربنا قبل أن يخلق السماوات والأرض؟ قال: كان في عماء ما تحته هواء وما فوقه هواء وخلق عرشه على الماء»
وقال بعض في بيان وجه ذلك إنه لما كان معنى كون العرش على الماء أنه موضوع فوقه لا مماسه وأن خلق السماوات إنما كان بعدهما اقتضى ذلك أن العرش مخلوق قبل وأن الماء أول حادث بعده وهو من فحوى الخطاب، وقوله: لا إنه كان موضوعا إلخ لأن سياقه لبيان قدرته تعالى يقتضيه وفيه ما فيه كما لا يخفى، وتعقب بعض فضلاء الروم ما ذكر أولا بأن حاصله أن الشق الثاني من الشقين المذكورين في كلام العلامة الثاني مستلزم لأحد أمور تقرر في علم الحكمة بطلانها فيتعين الأول منهما، وهو الذي ذهب إليه العلامة الأول، وهو إنما يتم أن لو كانت المقدمات المذكورة في إبطال تلك الأمور يقينية وهو ممنوع فإن أكثرها مبني على أصول الفلاسفة، وقد بين القاضي نفسه بطلان أكثرها في الطوالع وهو إنما يراعي القواعد الحكمية إذا لم تكن مخالفة للقواعد الإسلامية على أن في كلام ذلك المنتصر خللا من وجوه: الأول أن قوله: يلزم إما خروج الماء عن حيزه الطبيعي إلخ يقال في جوابه: إنه يجوز أن يخرج الماء عن حيزه الطبيعي وذلك غير محال وإن كان خروجه بنفسه بطريق السيلان عن حيزه الطبيعي محالا، ويشهد لذلك أنهم ذكروا أن الماء لثقله الإضافي يقتضي أن يكون فوق الأرض والأرض لثقلها الحقيقي تقتضي أن تكون مغمورة بأسرها فيه بحيث يمكن أن يفرض في جوفها نقطة تكون الخطوط الخارجة منها إلى سطح الماء متساوية من جميع الجهات مع أن الأمر اليوم ليس كذلك لانكشاف ربع شمالي من الأرض، وانحسار الماء عنه إما بسبب قرب الشمس في الجنوب إلى الأرض عند كونها في الحضيض بقدر ثخن المتمم المحوي كما قيل أو لأمر آخر يعلمه الله تعالى والثاني أن ما ذكره من استحالة تخلخل الماء ممنوع عندهم أيضا، وما يقال: إن القول بالتخلخل لا يتصور في البسائط الحقيقية للزوم تركيب ما فيه مدفوع. فقد صرح في حكمة العين وشرحها بأن التخلخل الحقيقي- وهو أن يزداد مقدار الجسم من غير أن يزاد عليه شيء من خارج- ممكن، وحققه سيد المحققين في حواشيه بأن الجسم سواء كان مركبا من الهيولى والصورة أو لم يكن يمكن التخلخل والتكاثف فيه لأن مقدار الجسم زائد عليه والجسم من حيث هو لا مقدار له في ذاته فنسبته إلى جميع
206
المقادير على السواء فأمكن أن يتصف بأكبر مما هو متصف به أو أصغر، وأيضا الجسم متصل واحد والمقدار زائد عليه والجسم البسيط جزؤه يساوي كله فإذا اتصف الكل بمقدار خاص فجزؤه إذا انفرد وجب أن يكون قابلا للاتصاف بذلك المقدار والكل بالعكس ضرورة تساوي المتماثلات في الأحكام، وحينئذ يتحقق إمكان ذلك، والثالث أن التوجيه بحمل الإمكان على الإمكان الذاتي إلخ منظور فيه إذ لا يلزم من وقوع شيء في وقت من الأوقات إلا إمكان وجوده في ذلك الوقت وإن كان ذلك الإمكان مستمرا واجبا في جميع الأوقات، فقوله: إن ثبوت الإمكان للممكن واجب، فالممكن في وقت ممكن في كل وقت إن أراد به أن إمكانه أمر ثابت له في كل وقت على أن قوله في كل وقت ظرف للإمكان فهو مسلم لكن اللازم منه أن يكون ذلك الشيء متصفا بالإمكان إمكانا مستمرا دائما غير مسبوق بعدم الاتصاف ولا سابق عليه ولا يلزم منه أن يكون وجوده في كل وقت ممكنا لجواز أن يكون وجود الشيء في الجملة ممكنا إمكانا مستمرا ولا يكون وجوده في كل وقت ممكنا بل ممتنع، ولا يلزم من هذا أن يكون الشيء من قبيل الممتنعات دون الممكنات فإن إمكان الشيء ليس معناه جواز اتصافه بجميع أنحاء الوجود بل معناه جواز اتصافه بوجود ما في الجملة فيكفي في إمكان الشيء جواز اتصافه بالوجود الواقع في وقت، والممتنع هو الذي لا يقبل الوجود بوجه من الوجوه، وإن أراد أنه ممكن الوجود في كل وقت على أن يكون في كل وقت ظرفا للوجود فهو ممنوع ولا يتفرع على كون ثبوت الإمكان للممكن واجبا، فإنه قد حقق المحقق الدواني في بعض تصانيفه أن إمكان الممكن وإن كان مستمرا في جميع الأزمنة لا يستلزم إمكان وجود ذلك الممكن في تلك الأزمنة، وعلى هذا اعتمد المتكلمون في الجواب عن استدلال الفلاسفة على قدم العالم بأنه ممكن الوجود في الأزل وإلا لزم الانقلاب وهو محال بالضرورة، وقدرة الباري تعالى أزلية بالاتفاق فلو كان العالم حادثا لزم ترك الجود وهو إفاضة الوجود وما يتبعه من الكمالات
على الممكنات مدة غير متناهية وهو محال على الجواد الحق الكريم وحاصل الجواب أن قولكم العالم ممكن الوجود في الأزل إن أردتم به أنه يمكن له الوجود الأزلي على أن يكون في الأزل متعلقا بالوجود فهو ممنوع لجواز أن يكون وجوده في الأزل ممتنعا، وإن أردتم به أن إمكان وجوده في الجملة مستمر في الأزل على أن يكون الظرف متعلقا بالإمكان فمسلم، ولا يلزم أن يكون وجود العالم في الأزل ممكنا لجواز أن يكون وجوده في الأزل مستحيلا مع أنه في الأزل متصف بإمكان وجوده فيما لا يزال، وهذا ما يقال إن أزلية الإمكان لا تستلزم إمكان الأزلية، وما قيل في إثبات الاستلزام إن إمكانه إذا كان مستمرا في الأزل لم يكن هو في ذاته مانعا من قبول الوجود في شيء من أجزاء الأزل فيكون عدم منعه منه أمرا مستمرا في جميع تلك الأجزاء، فإذا نظر إلى ذاته من حيث هو لم يمنع من اتصافه بالوجود في شيء منها بل جاز اتصافه به في كل منها بدلا فقط بل معا أيضا، وجواز اتصافه في كل منها هو إمكان اتصافه بالوجود المستمر في جميع أجزاء الأزل بالنظر إلى ذاته فأزلية الإمكان مستلزمة لإمكان الأزلية صحيح إلى قوله: لم يمنع من اتصافه بالوجود في شيء منها فإنه إن أراد أن ذاته لا تمنع في شيء من أجزاء الأزل من الاتصاف بالوجود في الجملة بأن يكون قوله في شيء منها متعلقا بعدم المنع فيكون معناه أنه لا يمنع في شيء من أجزاء الأزل من الوجود بعده فهو بعينه أزلية الإمكان ولا يلزم منه عدم منعه من الوجود الأزلي الذي هو إمكان الأزلية، وإن أراد به أن ذاته لا تمنع من الوجود في شيء من أجزاء الأزل بأن يكون الجار متعلقا بالوجود فهو بعينه إمكان الأزلية، والنزاع إنما وقع فيه فهو مصادرة على المطلوب، وليت شعري كيف صدر هذا الكلام من قائله مع أن من الموجودات ما هو إني الوجود كبعض الحروف ومع التصريح بأن ماهية الزمان تقتضي لذاتها عدم اجتماع أجزائها وتقدم بعضها على بعض إذ يلزم منه إمكان وجود كل من تلك الأجزاء في الأزل نظرا إلى ذاته، وتمام الكلام في ذلك يطلب من شرح المواقف وحواشيه.
207
وأورد على كون المراد بالخلاء الخلاء في عالمنا لأنه المتنازع فيه أنه صرح غير واحد بأن المتنازع فيه إنما هو الخلاء داخل العالم وحقيقته أن يكون الجسمان بحيث لا يتماسان وليس بينهما ما يماسهما بناء على كونه متقدرا قطعا، وأما الخلاء خارج العالم فمتفق عليه إذ لا تقدر هناك بحسب نفس الأمر، فالنزاع إنما هو في التسمية بالبعد، فالفلاسفة يقولون حقه أن لا يسمى بعدا ولا خلاء، والمتكلمون يسمونه بعدا موهوما ولا شك أن عالم كون العرش على الماء من داخل العالم فالخلاء فيه داخل في المتنازع فيه، وقد نص عليه أيضا بعض المتأخرين.
ومن الناس من اعترض على قوله: إنه لو كان موضوعا على متن الماء للزم إلخ بأن الأمور التي يلزم أحدها ذلك التقدير- وهي فاسدة- أكثر مما ذكر وسود وجه القرطاس ببيان ذلك وهو مما لا يحتاج إليه بل ولا يعول عليه، وزعم البعض أن ما راعاه القاضي في هذا الفصل ليس شيء منه مخالفا للقواعد الإسلامية، ووسوست له نفسه أن خروج الماء عن حيزه مما لا يجوز لأن الله سبحانه إن كان موجبا بالذات فلا يتصور الإخراج منه سبحانه لأن نسبته إليه على السوية بحسب الأوقات فلا يمكن كونه قاصرا في بعض دون بعض، وإن كان مختارا يقال: إن ذلك الخروج ممتنع في نفسه وهو سبحانه لا يفعل الممتنع ولا تتعلق قدرته به، وكذا يقال في التخلخل والتكاثف، ويجوز أن يكون بالطبع وإلا لكانا دائمين لأن مقتضى الذات لا يتخلف عنه، وممن ذهب إلى امتناعهما الأصفهاني في شرح حكمة المطالع ثم تكلم منتصرا لنفسه. وللقاضي بما لا يسمن ولا يغني، وقال ابن صدر الدين بعد نقل كلام العلامتين: قد تقرر في علم الأبعاد والأجرام أن ليس لمجموع كرات العناصر بالنسبة إلى الفلك الأعظم الذي هو المراد بالعرش قدر محسوس فلا يتصور كونه موضوعا على متن كرة الماء فإن ذلك إنما يكون إذا كان عظم كرة الماء بحيث يملأ جوف العرش مماسا محد به مقعره وإلا لم يكن موضوعا على متنه الذي هو عبارة عن السطح المحدب بل إما أن لا يتماسا أصلا أو يتماسا بنقطة على ما يشهد به التخيل الصحيح، وكيف يتصور كونه مالئا له وهو الآن لم يمتلىء إلا بالسماوات والأرض والكرسي والعناصر بجملتها، وليس لك أن تقول: لعل الماء في ابتداء الخلقة قد كان على هذا المقدار الصغير الذي الآن عليه فتخلخل إلى حيث ملأ جوفه لامتناع الخلاء، فلما خلق سائر الأجرام العلوية والسفلية عاد بطبعه إلى ما تراه لأنا نقول: التخلخل عبارة عن ازدياد مقدار الجسم من غير أن ينضم إليه شيء فيستدعي حركة أينية وهي تستدعي وجود فضاء خال عن الشاغل وهو المراد بالخلاء، وكذا ليس لك أن تقول: فليكن في ابتداء الخلقة عظيم المقدار بحيث يملأ جوف العرش وتكاثف بعد خلق سائر الأجرام إلى هذا المقدار الصغير لأنا نقول أيضا: التكاثف الذي هو عبارة عن انتقاص مقدار الجسم من غير أن ينقص منه شيء سببه على ما تقرر عندهم أمران: أحدهما التخلخل السابق العارض له بما يوجبه فإذا زال ذلك العارض عاد بطبعه إلى مقداره الأول كما في المد والجزر، وفي الصورة المذكورة لا يتصور هذا لأن المفروض أنه خلق ابتداء عظيم المقدار بحيث يملأ جوف العرش فكيف يتصور أن يتخلخل بعارض حتى يعود عند زواله إلى مقداره الطبيعي الصغير وهو ظاهر وثانيهما الانجماد باستيلاء البرودة الشديدة، وهذا أيضا لا يتصور هاهنا أما أولا فلأن الماء المنعقد جمدا وإن كان أصغر مقدارا منه غير منعقد لكنه لا إلى مرتبة لا يكون له قدر محسوس بالنسبة إلى مقداره الأول بل يقرب منه في الحس كما يشاهد في المياه المنعقدة ولا قدر لكرة الماء الموجود الآن بالنسبة إلى المالئ جوف العرش وهذا مثل أن ينعقد البحر فيصير كالعدسة ولا يلتزمه عاقل.
وأما ثانيا فلأن كرة الماء على ما يشاهد غير متجمدة بل باقية على طبعها من الذوبان، فإن قلت: بقي على تقدير كون الماء في ابتداء الخلقة عظيم المقدار مالئا لجوف العرش احتمال آخر وهو أن يفرز بعض أجزاء هذه الكرة العظيمة ويجعل مادة لسائر الأجرام السماوية والأرضية كما في سورة انقلاب بعض العناصر إلى بعض.
208
ويؤيده ما
ورد في الأثر من أن العرش كان قبل خلق السماوات والأرض على الماء، ثم إنه تعالى أحدث في الماء اضطرابا فأزبد فارتفع منه دخان وبقي الزبد على وجه الماء فخلق فيه اليبوسة فصار أرضا، وخلق من الدخان السماوات،
وإلى ذلك يشير قوله سبحانه: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ [فصلت: ١١] قلنا: إن هذا الاحتمال غير واقع إما على تقدير تركب الجسم من الهيولى والصورة على ما ذهب إليه المشاءون من الفلاسفة فلأن هيولى العناصر وإن كانت واحدة بالشخص قابلة لأن يتوارد عليها صور العناصر بواسطة استعدادات متعاقبة تعرض إلا أن هيولى كل فلك مخالفة لهيولى فلك آخر لا تقبل إلا الصورة التي حصلت فيها، وإما على تقدير تركبه من الجواهر الفردة على ما هو مذهب أهل الحق فلأنها متخالفة الحقائق عند محققي المتأخرين على ما صرحوا به، فما يتركب منه الماء لا يجوز أن يتركب منه سائر الأجسام، وأما ما ورد في الأثر وأشارت إليه الآية من جعل الدخان المرتفع من الماء مادة للسماوات فمصروف عن ظاهره إذ الدخان أجزاء نارية خالطتها أجزاء صغار أرضية تلطفت بالحرارة ولا تمايز بينهما في الحس لغاية الصغر، فقبل خلق السماوات والأرض بما فيهما لم تكن نار وأرض، فمن أين يتولد الدخان؟
وكذا إن أريد بالدخان البخار لأنه أجزاء هوائية مازجتها أجزاء صغار مائية تلطفت بالحرارة بحيث لا تمايز بينهما في الحس أيضا فحيث لا هواء لا بخار، ولهذا قال القاضي في تفسير وَهِيَ دُخانٌ: أمر ظلماني، ولعله أراد به مادتها أو الأجزاء المتصغرة التي ركبت منها، ومن هنا ظهر أن ما في الأثر لا يؤيد كون العرش موضوعا على متن الماء ملتصقا به بل يؤيد أن لا يكون بينهما حائل إذ ارتفاع الدخان والبخار يستدعي وجود فضاء تتحرك فيه تلك الأجزاء، وفي صورة الالتصاق لا يمكن ذلك كما لا يخفى على من له تخيل سليم.
ويعلم مما ذكر أنه يجب تفسير الآية بما فسرها به القاضي ولا مجال للقول بالوضع على المتن فيتم الاستدلال، وأما قول أبي السعود: إنه لو دل إلخ ففيه أن الوقوع أدل دليل على إمكان الشيء، ومثل هذا الاستدلال، شائع ذائع في كلامهم، وأما أن المراد بالإمكان الإمكان الوقوعي فكلا إذ النزاع في الإمكان لا الوقوع، وما ينقل عن الأصمعي من أن هذا كقولهم السماء على الأرض مع أن أحدهما ليس ملتصقا بالآخر، وحينئذ يكون معنى قول القاضي: لم يكن حائل بينهما أنه لم يكن حائل محسوس بينهما وكان حائل غير محسوس وهو الهواء ليس بشيء ولا يصلح ما ذكر معنى لذلك إذ الفوقية كانت قبل خلق جميع أجرام هذا العالم فعلى تقدير عدم الالتصاق لا يتصور حائل أصلا، ثم بين وجه دلالة الآية على أن الماء أول حادث بعد العرش بنحو ما قدمنا ذكره انتهى المراد منه.
«وأقول» إن هذا الاحتمال الذي أجاب عنه بزعمه قوي جدا، وما ذكره عن محققي المتأخرين صرح الجمهور بخلافه، وقد حقق ذلك في موضعه فلا مانع من أن يخلق الله تعالى من الماء الأجرام السماوية والأرضية بل وكل شيء، وما ذكره في حيز تعليل صرف الأثر عن ظاهره ليس بشيء أصلا إذ يجوز أن يحيل سبحانه بعض ذلك الماء المالئ أجزاء نارية وبعضه أجزاء أرضية ويجعل المجموع دخانا، وكذا يجوز أن يحيل البعض أجزاء هوائية فتمازج أجزاء صغارا مائية متلطفة بحرارة يخلقها حيث شاء فيتكون البخار، وفي الأثر عن وهب بن منبه أنه جل شأنه قبض قبضة من الماء ثم فتح القبضة فارتفع الدخان ثم قضاهن سبع سماوات في يومين ويؤول حديث الارتفاع بما لا يستدعي الفضاء نحو أن يكون المعنى فوجد بعضه دخانا مرتفعا، وقد يقال: يجوز أن يكون الماء في ابتداء الخلقة مالئا للعرش ثم إنه سبحانه لما أراد أن يخلق ما يخلق أفنى منه ما أراد وخلق بلا فاصل يتحقق معه الخلاء بدله ما خلق لا من شيء، والقول باستحالة هذا الخلق مفض إلى فساد عظيم وخطب جسيم لا يكاد يستسهله أحد من المسلمين وهو ظاهر، وما ذكره في دفع قول شيخ الإسلام: إنه لو دل لدل إلخ غير ظاهر فيه قيل: إذ الاعتراض بطريق أنه لو دل لدل
209
على وجود الخلاء لا على إمكانه الصرف لأن الشيء إذا كان موجودا كان وجوده ضروريا لا ممكنا صرفا على ما بين في محله، وينادي على أن الاعتراض كذلك تقييد الإمكان في عبارته بقيد فقط مع القول بالدلالة على الوجود.
وأورد بعضهم على قوله: قد تقرر في علم الأبعاد والأجرام إلخ أن ذلك مبني على ظن أن الماء في الآية هو الماء العنصري وأنه من بعض الظن إذ ذاك إنما خلق بعد خلق الأرض فكيف يتصور أن يكون العرش الذي خلق قبل السماوات والأرض عليه فضلا عن أن يكون موضوعا على متنه أو غير موضوع عليه من غير حائل بينهما، وإنما هو الماء الطبيعي النوري العمائي الذي تكون العرش منه، وفيه صرف اللفظ عن ظاهره، ونظير ذلك ما قاله الكامل بن الكمال:
ليس المراد في العرش تاسع الأفلاك، ولا من الماء أحد العناصر لما شهد بذلك شهادة صحيحة لا مرد لها ما
أخرجه مسلم في صحيحه من قوله صلّى الله عليه وسلم: «كان الله تعالى ولم يكن معه شيء وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء ثم خلق السماوات والأرض»
فلا وجه للاستدلال به على إمكان الخلاء، وأن الماء أول حادث بل عرشه سبحانه عبارة عن قيوميته بناء على أنه في الأصل سرير الملك وهو مظهر سلطانه، والماء إشارة إلى صفة الحياة باعتبار أن منه كل شيء حي، فمعنى وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ وكان حيا قيوما، وفي لفظة عَلَى تنبيه على ترتب أحدهما على الآخر فتدبر انتهى.
ولعل وجه شهادة الخبر بذلك النفي تضمنه على تقدير الإثبات ما ينافي ما تضمنه النفي فيه إذ يكون حينئذ شيئان معه سبحانه فضلا عن شيء، ولا يخفى أن هذا إنما يتم لو كانت الجملة الماضوية في موضع الحال، والظاهر أنها كغيرها معطوفة على الجملة المستأنفة، وليس في الكلام ما يقتضي أن المعنى وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ مع وجوده تعالى بدون معية شيء له ليضطر إلى حمل الماء والعرش على ما علمت من صفتيه تعالى، ولا أرى في الحديث أكثر من إفادة ثبوت ما تضمنته المتعاطفات قبل خلق السماوات والأرض، وأما أن كونه تعالى ولم يكن معه شيء- وكون عرشه سبحانه على الماء، وكتابته في الذكر ما كتب كلها في وقت واحد هو وقت وجوده تعالى الواقع بعده خلق السماوات والأرض بمهلة وتراخ- فلا أراه، وقد جاء في بعض الروايات عطف الخلق على ما قبله بالواو كسائر المعطوفات.
أخرج أحمد والبخاري والترمذي والنسائي وغيرهم عن عمران بن حصين قال: «قال أهل اليمن: يا رسول الله أخبرنا عن أول هذا الأمر كيف كان؟ قال: كان الله تعالى قبل كل شيء وكان عرشه على الماء وكتب في اللوح المحفوظ ذكر كل شيء وخلق السماوات والأرض» الخبر،
ثم إنه لا يتم أمر الشهادة بمجرد ما تقدم بل لا بد أيضا من حمل الكتابة في الذكر على التقدير، ونفى أن يكون هناك كتابه ومكتوب فيه حسبما يتبادر منهما، ويلتزم هذا في الخبر الثاني أيضا، ومع ذلك يعكر على القول بكون زمن التقدير متحدا كزمن قيوميته وحياته تبارك وتعالى مع زمن وجوده سبحانه ما
أخرجه مسلم والترمذي والبيهقي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وعرشه على الماء»
لأن أجزاء الزمان الموهوم الفاصل بين زمان وجوده تعالى ووجود صفاته وزمان وجود الخلق غير متناهية، فكيف تقدر بخمسين ألف سنة وضربها في نفسها وضرب الحاصل من ذلك بنفسه ألف ألف مرة أقل قليل بل لا شيء يذكر بالنسبة إلى غير المتناهي ويعارض هذه الشهادة أيضا ما تقدم
في حديث أبي رزين العقيلي من قوله عليه الصلاة والسلام: «وخلق عرشه على الماء»
فإنه نص في أن العرش مخلوق، ولا يجوز أن تكون القيومية مخلوقة، وكذا ما
روي عن كعب من أنه سبحانه خلق ياقوتة خضراء فنظر إليها بالهيبة فصارت ماء، ثم خلق الريح فجعل الماء على متنها، ثم وضع العرش على الماء،
210
وجاء حديث كون الماء على متن الريح عن ابن عباس، وقد أخرج ذلك عنه ابن جرير وابن المنذر، والحاكم وصححه، والبيهقي، وغيرهم، وإباء ما ذكر عن كون الماء بمعنى صفة الحياة له تعالى ظاهر، ومثله ما أخرجه ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن الربيع بن أنس أنه قال: كان عرشه سبحانه على الماء فلما خلق السماوات والأرض قسم ذلك الماء قسمين فجعل نصفا تحت العرش- وهو البحر المسجور- فلا تقطر منه قطرة حتى ينفخ في الصور فينزل منه مثل الطل فتنبت منه الأجسام، وجعل النصف الآخر تحت الأرض السفلى، ولعل وجه الأمر بالتدبر في كلام هذا الفاضل الإشارة إلى ما ذكرنا.
وبالجملة لا شك أن المتبادر من الماء ما هو أحد العناصر ومن العرش الجسم الذي جاء في الأخبار من وصفه ما يبهر العقول وشهادة الخبر السابق مع كونها شهادة نفي عارضتها شهادات إثبات غير نص في المطلوب كما علمت، ومن كون العرش على الماء ما يعم الشقين كونه موضوعا على متنه مماسا له وكونه فوقه من غير أن يكون بينهما ما يماسهما، وتخصيصه بالشق الثاني مما لا يتم له دليل ولا يصفو عن القال والقيل، وأن الآية لا تصلح دليلا على كون الماء أول حادث بعد العرش، ومن رجع إلى الأخبار المعول عليها رأى بعضها كخبر أبي رزين الذي حسنه الترمذي ظاهرا في أن الماء قبل العرش وقصارى ما يقال في هذا المقام: إن الحق مع شيخ الإسلام وإن نصرة القاضي- وإن كان ناصر الدين- نصرة خارجة عن الطريق المستبين، فلا تلتفت هداك الله سبحانه إلى من أطال في ذلك بلا طائل، وأتى بكلام لا يشبه كلام عاقل، وزعم أن ذاك من الحكمة وهو عنها- علم الله- بمراحل، ولولا الوقوع في العبث لنقلناه ونبهنا على ما فيه، وإن كان حال ظاهره مؤذنا بحال خافيه، نعم قد يقال: إن البيضاوي إنما ذكر أنه استدل بالآية على كذا وكذا، ولم يدّع أن فيها دليلا على ذلك، فما يتوجه من الاعتراضات إنما يتوجه على المستدل دونه وكأن من وجه إليه ذلك ادعى ارتضاءه للاستدلال بدليل ما وطأه له من المقال، وزعم الجبائي أن في الآية دلالة على أنه كان قبل خلق السماوات والأرض حي مكلف لأن خلق العرش على الماء لا وجه لحسنه إلا أن يكون فيه لطف بمكلف يمكنه الاستدلال به، ورده على ابن عيسى بأنه لا يلزم ذلك ويكتفي بكون الإخبار به نافعا للمكلفين واختاره المرتضى، ومنشأ ذلك الاعتزال، والله تعالى الموفق للصواب وإليه المرجع والمآب.
لِيَبْلُوَكُمْ اللام للتعليل مجازا متعلقة ب خَلَقَ أي خلق السماوات والأرض وما فيهما من المخلوقات التي من جملتها أنتم، ورتب فيهما جميع ما تحتاجون إليه من مبادئ وجودكم وأسباب معاشركم وأودع في تضاعيفهما ما تستدلون به من تعاجيب الصنائع والعبر على مطالبكم الدينية ليعاملكم معاملة من يختبركم.
أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا فيجازيكم حسب أعمالكم، وقيل: متعلق بفعل مقدر أي أعلم بذلك لِيَبْلُوَكُمْ وقيل: التقدير وخلقكم لِيَبْلُوَكُمْ وقيل: في الكلام جملة محذوفة أي وكان خلقه لهما لمنافع يعود عليكم نفعها في الدنيا دون الآخرة وفعل ذلك لِيَبْلُوَكُمْ والكل كما ترى، والابتلاء في الأصل الاختبار والكلام خارج مخرج التمثيل والاستعارة، ولا يصح إرادة المعنى الحقيقي لأنه إنما يكون لمن لا يعرف عواقب الأمور.
وقيل: إنه مجاز مرسل عن العلم للتلازم بين العلم والاختبار، وهو محوج إلى تكلف أن يراد ليظهر تعلق علمه الأزلي، وإلا فالعلم القديم الذاتي ليس متفرعا على غيره، وما تقدم لا تكلف فيه، وهو مع بلاغته مصادف محزه، والمراد بالعمل ما يشمل عمل القلب وعمل القالب، ويؤيد ذلك ما
أخرجه ابن جرير، وابن أبي حاتم والحاكم في التاريخ وابن مردويه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: «تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلم هذه الآية لِيَبْلُوَكُمْ إلخ فقلت:
211
ما معنى ذلك يا رسول الله؟ قال: ليبلوكم أيكم أحسن عقلا، ثم قال: وأحسنكم عقلا أورعكم عن محارم الله تعالى وأعملكم بطاعة الله تعالى»
لكن ذكر الحافظ السيوطي أن سنده واه.
وأخرج ابن أبي حاتم عن سفيان أن معنى أَحْسَنُ عَمَلًا أزهد في الدنيا، وعن مقاتل أتقى لله تعالى، وعن الضحاك أكثرهم شكرا. ولعل أخذ العمل شاملا للأمرين أولى، وأفضلها ما كان عمل القلب كيف لا ومدار العبادة القالبية الواجبة على العباد معرفة الله تعالى التي تحل القلب، وقد يرفع به للعبد في يوم مثل عمل أهل الأرض.
وفي بعض الآثار «تفكر ساعة يعدل عبادة سبعين سنة»
واعتبار خلق السماوات في ضمن المفرع عليه لما أن في السماوات مما هو من مبادئ النظر وتهيئة أسباب المعاش الأرضية التي بها قوام القالب ما لا يخفى، وقريب من هذا أن ذكر السماوات وخلقها لتكون أمكنة الكواكب والملائكة العاملين فيها لأجل الإنسان.
وقال بعض المحققين: إن كون خلق الأرض وما فيها للابتلاء ظاهر، وأما خلق السماوات فذكر تتميما واستطرادا مع أن السماوات مقر الملائكة الحفظة وقبلة الدعاء ومهبط الوحي إلى غير ذلك مما له دخل في الابتلاء في الجملة، ولعل ما أشير إليه أولا أولى، وجملة الاستفهام في موضع المفعول الثاني لفعل البلوى على المشهور، وجعل في الكشاف الفعل هنا معلقا لما فيه من معنى العلم، ومنع في سورة الملك تسمية ذلك تعليقا مدعيا أنه إنما يكون إذا وقع بعد الفعل ما يسدّ مسدّ المفعولين جميعا- كعلمت أيهما فعل كذا. وعلمت أزيد منطلق- وبين كلاميه في السورتين اضطراب بحسب الظاهر، وأجاب عنه في الكشف بما حاصله أن للتعليق معنيين: مصطلح ويعدى بعن وهو المنفي في تلك السورة ولغوي ويعدى بالباء وعلى، وهو خاص بفعل القلب من غير تخصيص بالسبعة المتعدية إلى مفعولين ولا يكون إلا في الاستفهام خاصة دون ما فيه لام الابتداء ونحوه، ومعنى تعليق الفعل على ما فيه ذلك أن يرتبط به معنى وإعرابا سواء كان لفظا أو محلا وهو المثبت هاهنا، وقال الطيبي: يمكن أن يكون ما هنا على إضمار العلم كأنه قيل: لِيَبْلُوَكُمْ فيعلم أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا والتعليق فيه ظاهر، وما هناك على تضمين الفعل معنى العلم كأنه قيل: ليعلمكم أيكم إلخ فيصح النفي، ولا يخفى على من راجع كلامه أن فيه ما يأبى ذلك، وقد يقال: إن التعليق لا يختص بما كان من الأفعال بمعنى العلم كما ذهب إليه ثعلب والمبرد وابن كيسان، وإن وجهه أويس بما في همع الهوامع، ورجحه الشلوبين، ولا بالفعل القلبي مطلقا بل يكون فيه وفي غيره مما ألحق به لكن مع الاستفهام خاصة، واقتصر بعضهم في الملحق على بصر وتفكر وسأل- وزاد ابن خروف نظر- ووافقه ابن عصفور، وابن مالك، وزاد الأخير نسي كما في قوله:
ومن أنتم إنا نسينا من أنتم ونازعه أبو حيان بأن- من- تحتمل الموصولية والعائد محذوف أي من هم أنتم، وكذا زاد أيضا ما قارب المذكورات من الأفعال التي لها تعلق بفعل القلب- كترى البصرية- في قوله: أما ترى أي برق هنالك. وكيستنبئون في قوله تعالى: وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ [يونس: ٥٣] وكنبلو فيما نحن فيه، ونازعه أبو حيان بأن ترى في الأول علمية، وأيكم في الأخير موصولة حذف صدر صلتها فبنيت وهي بدل من ضمير الخطاب بدل بعض، ونقل ذلك عنه الجلال السيوطي ولم أجده في بحره، وفي الرضي أن جميع أفعال الحواس تعلق عن العمل، وفي التسهيل ما يؤيده، وأجاز يونس تعليق كل فعل غير ما ذكر، وخرج عليه ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ [مريم: ٦٩] والجمهور لم يوافقوه على ذلك، وقد ذكر بعض الفضلاء أن الفعل القلبي وما جرى مجراه إما متعد إلى واحد أو اثنين، فالأول يجوز تعليقه سواء تعدى بنفسه كعرف، أو بحرف كتفكر لأن معموله لا يكون إلا مفردا، وبالتعليق بطل عمله في
212
المفرد الذي هو مقتضاه وتعلق بالجملة، ولا معنى للتعليق إلا إبطال العمل لفظا لا محلا وإن تعدى لاثنين، فإما أن يجوز وقوع الثاني جملة كما في باب علم أولا، فإن جاز علق عن المفعولين نحو علمت لزيد قائم لا عن الثاني لأنه يكون جملة بدون تعليق فلا وجه لعده منه إذ لا فرق بين أداة التعليق وعدمها فالتعليق لا يبطل عمل الفعل أصلا كما في علمت زيدا أبوه قائم، وعلمت زيدا لا أبوه قائم، فإن عمله في محل الجملة لا فرق فيه بين وجود حرف التعليق وعدمه وإن لم يجز، وورد فيه كلمة تعليق كان منه نحو يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ [البقرة: ٢١٥] فإن المسئول عنه لا يكون إلا مفردا.
والفعل فيما نحن فيه يحتمل أن يكون عاملا فيما بعده وهو المختبر به غير متضمن علما، وفعل البلوى إذا كان كذلك يتعدى بالباء إلى المختبر به ولا يكون إلا مفردا كما في قوله تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ [البقرة: ١٥٥] والاستفهام قد أبطل مقتضاه لفظا وهو التعليق، ويحتمل أن يكون متضمنا معنى العلم ويكون العلم عاملا فيه وهو مفعوله الثاني، وحينئذ لا تعليق، ومن هنا يظهر أن تعليق الفعل في الآية إنما هو على تقدير إعمال فعل البلوى، وعدم تعليقه على تقدير إعمال العلم فلا منافاة بين الكلامين انتهى وهو تفصيل حسن، وفي الهمع أن الجملة بعد المعلق في باب علم وأخواتها في موضع المفعولين فإن كان التعليق بعد استيفاء المفعول الأول فهي في موضع المفعول الثاني، وأما في غير هذا الباب فإن كان الفعل مما يتعدى بحرف الجر فالجملة في موضع نصب بإسقاطه نحو فكرت أهذا صحيح أم لا، وجعل ابن مالك منه فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً [الكهف: ١٩] وإن كان مما يتعدى لواحد فهي في موضعه نحو عرفت أيهم زيد، فإن كان مفعوله مذكورا نحو عرفت زيدا أبو من هو، فالجملة بدل منه على ما اختاره السيرافي وابن مالك، وهو بدل كل من كل بتقدير مضاف أي قصة زيد أو أمره عند ابن عصفور، والتزم ذلك ليكون المبدل منه جملة في المعنى، وبدل اشتمال ولا حاجة إلى التقدير عند ابن الصائغ، وذهب المبرد والأعلم وابن خروف وغيرهم إلى أن الجملة في موضع نصب على الحال، وذهب الفارسي إلى أنها في موضع المفعول الثاني لعرفت على تضمينه معنى علمت، واختاره أبو حيان وفيه نوع مخالفة في الظاهر لما تقدم تظهر بالتأمل إلا أنه اعترض القول بأن ما بعد فعل البلوى مختبر به بأن المختبر به إنما هو خلق السماوات والأرض، وأجيب بأن ذلك وإن كان في نفس الأمن مختبرا عنه والمختبر به ما ذكر إلا أنه جعل مختبرا به باعتبار ترتبه على ذلك، ولا يخفى ما فيه، وقال بعض أرباب التحقيق في دفع المخالفة: إن الزمخشري جعل قوله سبحانه هنا: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا بجملته استعارة تمثيلية فتكون مفرداته مستعملة في معناها الحقيقي معطاة ما تستحقه، وفعل البلوى يعلق عن المفعول الثاني لأنه لا يكون جملة إذ هو يتعدى له بالباء وحرف الجر لا يدخل على الجمل، وجرى التعليق فيه بناء على أنه مناسب لفعل القلوب معنى، وقد صرح غير واحد بجريانه في ذلك وجعله ثمة مستعارا لمعنى العلم، والفعل إذ تجوز به عن معنى فعل آخر عمل عمله وجرى عليه حكمه، وعلم لا يعلق عن المفعول الثاني فكذا ما هو بمعناه فيكون قد سلك في كل من الموضعين مسلكا تفننا، وكثيرا ما يفعل ذلك في كتابه، ولعله لم يعكس الأمر لأن ما فعله في كل أنسب بما قبله من خلق السماوات والأرض وما فيها من النعم والمنافع وخلق الموت والحياة، ولا يخفى أن هذا قريب مما تقدم وفيه ما فيه.
والإتيان بصيغة التفضيل الدالة على الاختصاص بالمختبرين الأحسنين أعمالا مع شمول الاختبار لفرق المكلفين وتتفاوت أعمال الكفار منهم إلى حسن شرعي وقبيح لا إلى حسن وأحسن كما في أعمال المؤمنين للتحريض على أحاسن المحاسن، والتحضيض على الترقي دائما لدلالته على أن الأصل المقصود بالاختبار ذلك الفريق ليجازيهم
213
أكمل الجزاء فكأنه قيل: المقصود أن يظهر أفضليتكم لأفضلكم فإن ذلك مفروغ عنه لا يحيد عنه ذو لب، وجوز أن يكون من باب الزيادة المطلقة وأن يكون من باب أي الفريقين خير مقاما، وأيّا ما كان فالخطاب ليس خاصا بالمؤمنين لأن إظهار حال غيرهم مقصود أيضا لكنه لا بالذات على الوجه الأول.
وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ. أي مثله في الخديعة والبطلان، فالتركيب من التشبيه البليغ، والإشارة إلى القول المذكور، وجوز أن تكون للقرآن كأنه قيل: لو تلوت عليهم من القرآن ما فيه إثبات البعث لقالوا هذا المتلو سحر، والمراد إنكار البعث بطريق الكناية الإيمائية لأن إنكار البعث إنكار للقرآن، وقيل: إن الأخبار عن كونهم مبعوثين وإن لم يجب عن كونه بطريق الوحي المتلو إلا أنهم عند سماعهم ذلك تخلصوا إلى القرآن لإنبائه عنه في كل موضع وكونه علما عندهم في ذلك فعمدوا إلى تكذيبه، وتسميته سحرا تماديا منهم في العناد، وتفاديا عن سنن الرشاد وهو خلاف الظاهر، وقيل: الإشارة إلى نفس البعث، وتعقب بأنه لا يلائمه التسمية بالسحر فإنه إنما يطلق على شيء موجود ظاهرا لا أصل له في الحقيقة، ونفس البعث عندهم معدوم بحت، وفيه بحث لجواز أنهم أرادوا من السحر الأمر الباطل والشيء الذي لا أصل له ولا حقيقة لشيوعه فيما بينهم بذلك حتى كأنه علم له.
وجوز أن تكون الإشارة إلى القائل، والاخبار عنه بالسحر للمبالغة، والخطاب في إِنَّكُمْ إن كان لجميع المكلفين فالموصول مع صلته للتخصيص أي ليقولن الكافرون منهم، وإن كان للكافرين فذكر الموصول ليتوصل به إلى ذمهم بعنوان الصلة، وتعلق الآية الكريمة بما قبلها إما من حيث إن البعث من تتمات الابتلاء المذكور فيه كأنه قيل:
الأمر كما ذكر، ومع ذلك إن أخبرتهم بمقدمة فذة من مقدماته وقضية فردة من تتماته يقولون ما يقولون فضلا عن أنهم يصدقون بما وقع هذا تتمة له، وإما من حيث إن البعث خلق جديد فكأنه قيل: وهو الذي خلق جميع المخلوقات ليترتب عليها ما يترتب، ومع ذلك إن أخبرتهم بأنه سبحانه يعيدهم تارة أخرى وهو أهون عليه يعدون ذلك ما يعدون فسبحان الله عما يصفون.
وقرأ عيسى الثقفي «ولئن قلت» بضم التاء على أن الفعل مسند إليه تعالى أي وَلَئِنْ قُلْتَ ذلك في كتابي المنزل عليك لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إلخ، وفي البحر أن المعنى على ذلك وَلَئِنْ قُلْتَ مستدلا على البعث من بعد الموت إذ في قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ إلخ دلالة على القدرة العظيمة، فمتى أخبر بوقوع ممكن وقع لا محالة وقد أخبر بالبعث فوجب قبوله وتيقن وقوعه انتهى وهو لدى الذوق السليم كماء البحر.
وقرأ الأعمش «أنكم» بفتح الهمزة على تضمين قُلْتَ معنى ذكرت وَلَئِنْ قُلْتَ ذاكرا «أنكم مبعوثون» فإن وما بعدها في تأويل مصدر مفعول للذكر، واستظهر بعضهم كون القول بمعنى الذكر مجازا، وتعقب بأن الذكر والقول مترادفان فلا معنى للتجوز حينئذ، ولما كان القول باقيا في التضمين جاء الخطاب على مقتضاه.
وجوز أن تكون أن بمعنى عل، ونقل ذلك عن سيبويه، وجاء ائت السوق علك تشتري لحما وأنك تشتري لحما، وهي لتوقع المخاطب لكن لا على سبيل الاخبار فإنهم لا يتوقعون البعث بل على سبيل الأمر كأنه قيل: توقعوا بعثكم ولا تبتوا القول بإنكاره، وبذلك يندفع ما يقال: إن النبي صلّى الله عليه وسلم قاطع بالبعث فكيف يقول لعلكم مبعوثون، وأيضا القراءة المشهورة صريحة في القطع والبت، وهذه صريحة في خلافه فيتنافيان، ومنهم من قال: يجوز أن يكون هذا من الكلام المنصف والاستدراج فربما ينتبهون إذا تفكروا ويقطعون بالبعث إذا نظروا.
وقرأ حمزة والكسائي- «إلا ساحر» - والإشارة إلى القائل، ولا مبالغة في الإخبار كما كانت على هذا الاحتمال
214
في قراءة الجمهور، ويجوز أن تكون للقول أو للقرآن، وفيه من المبالغة ما في قولهم: شعر شاعر وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ أي المترتب على بعثهم أو الموعود بقوله سبحانه: وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ وقيل: عذاب يوم بدر، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قتل جبريل عليه السلام المستهزئين وهم خمسة نفر أهلكوا قبل بدر، والظاهر أن المراد العذاب الشامل للكفرة، ويؤيد ذلك ما أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة قال: لما نزل اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ [الأنبياء: ١] قال ناس: إن الساعة قد اقتربت فتناهوا فتناهى القوم قليلا ثم عادوا إلى أعمالهم أعمال السوء فأنزل الله سبحانه أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [النحل: ١] فقال أناس من أهل الضلالة: هذا أمر الله تعالى قد أتى فتناهى القوم ثم عادوا إلى عكرهم عكر السوء فأنزل الله تعالى هذه الآية إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ أي طائفة من الأيام قليلة لأن ما يحصره العد قليل.
وقيل: المراد من الأمة الجماعة من الناس أي ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى جماعة يتعارفون ولا يكون فيهم مؤمن ونقل هذا عن علي بن عيسى، وعن الجبائي أن المعنى إلى أمة بعد هؤلاء نكلفهم فيعصون فتقتضي الحكمة إهلاكهم وإقامة القيامة، وروى الإمامية- وهم بيت الكذب-
عن أبي جعفر وأبي عبد الله رضي الله تعالى عنهما أن المراد بالأمة المعدودة أصحاب المهدي في آخر الزمان وهم ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا كعدة أهل بدر
لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أي أيّ شيء يمنعه من المجيء فكأنه يريده ويمنعه مانع، وكانوا يقولون ذلك بطريق الاستعجال وهو كناية عن الاستهزاء والتكذيب لأنهم لو صدقوا به لم يستعجلوه وليس غرضهم الاعتراف بمجيئه والاستفسار عن حابسه كما يرشد إليه ما بعد.
أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ ذلك العذاب الأخروي أو الدنيوي لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ أي أنه لا يرفعه رافع أبدا، أو لا يدفعه عنهم دافع بل هو واقع بهم، والظاهر أن يَوْمَ منصوب- بمصروفا- الواقع خبر ليس، واستدل بذلك جمهور البصريين على جواز تقديم خبرها عليها كما يجوز تقديمه على اسمها بلا خلاف معتد به لأن تقديم المعمول يؤذن بتقديم العامل بطريق الأولى وإلا لزم مزية الفرع على أصله، وذهب الكوفيون والمبرد إلى عدم الجواز وادعوا أن الآية لا تصلح حجة لأن القاعدة المشار إليها غير مطردة ألا ترى قوله سبحانه: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ [الضحى: ٩] كيف تقدم معمول الفعل مع امتناع تقديمه لأن الفعل لا يلي أما، وجاء عن الحجازيين أنهم يقولون ما اليوم زيد ذاهبا مع أنه لا يجوز تقديم خبر ما اتفاقا، وأيضا المعمول فيها ظرف والأمر فيه مبني على التسامح مع أنه قيل: إنه متعلق بفعل محذوف دل عليه ما بعده، والتقدير ألا يصرف عنهم العذاب أو يلازمهم يوم يأتيهم، ومنهم من جعله متعلقا- بيخافون- محذوفا أي ألا يخافون يوم إلخ، وقيل: هو مبتدأ لا متعلق- بمصروفا- ولا بمحذوف، وبني على الفتح لإضافته للجملة، ونظير ذلك قوله سبحانه: هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ [المائدة: ١١٩] على قراءة الفتح، وأنت تعلم أن في بناء الظرف المضاف لجملة صدرها مضارع معرف خلافا بين النحاة، وأن الظاهر تعلقه- بمصروفا- نعم عدم صلاحية الآية للاحتجاج مما لا ريب فيه، وفي البحر قد تتبعت جملة من دواوين العرب فلم أظفر بتقديم خبر ليس عليها ولا بتقديم معموله إلا ما دل عليه ظاهر هذه الآية الكريمة، وقول الشاعر:
فيأبى فما يزداد إلا لجاجة وكنت أبيا في الخنى لست أقدم
وَحاقَ بِهِمْ أي نزل وأحاط، وأصله حق فهو- كزل وزال- وذم وذام- والمراد يحيق بهم. ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ إلا أنه عبر بالماضي لتحقق الوقوع، والمراد بالموصول العذاب وعبر به عنه تهويلا لمكانه، وإشعارا بعلية ما ورد في حيز الصلة من استهزائهم به لنزوله وإحاطته ووضع الاستهزاء موضع الاستعجال لأنه كان استهزاء وَلَئِنْ
215
أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً
أي أعطيناه نعمة من صحة وأمن وجدة وغيرها وأوصلناها إليه بحيث يجد لذتها فالإذاقة مجاز عن هذا الإعطاء ثُمَّ نَزَعْناها أي سلبنا تلك الرحمة مِنْهُ صلة النزع، والتعبير به للإشعار بشدة تعلقه بها وحرصه عليه إِنَّهُ لَيَؤُسٌ شديد اليأس كثيره قطوع رجائه من عود مثل تلك النعمة عاجلا أو آجلا بفضل الله تعالى لعدم صبره وتوكله عليه سبحانه وثقته به.
كَفُورٌ كثير الكفران لما سلف لله تعالى عليه من النعم، وتأخير هذا الوصف عن وصف يأسهم لرعاية الفواصل على أن اليأس من باب الكفران للنعمة السالفة أيضا وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ كصحة وأمن وجدة بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ كسقم وخوف وعدم، وفي إسناد الإذاقة إليه تعالى دون المس إشعار بأن إذاقة النعمة مقصودة بالذات دون مس الضر بل هو مقصود بالعرض، ومن هنا قال بعضهم: إنه ينبغي أن تجعل- من- في قوله سبحانه: مِنْهُ للتعليل أن نزعناها من أجل شؤمه وسوء صنيعه وقبح فعله ليكون منا، مِنْهُ مشيرا إلى هذا المعنى ومنطبقا عليه كما قال سبحانه: ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النساء: ٧٩] ولا يخفى أن تفسير مِنْهُ بذلك خلاف الظاهر المتبادر ولا ضرورة تدعو إليه، وإنما لم يؤت ببيان تحول النعمة إلى الشدة وبيان العكس على طرز واحد بل خولف التعبير فيهما حيث بدىء في الأول بإعطاء النعمة وإيصال الرحمة ولم يبدأ في الثاني بإيصال الضر على نمطه تنبيها على سبق الرحمة على الغضب واعتناء بشأنها، وفي التعبير عن ملابسة الرحمة والنعماء بالذوق المؤذن على ما قيل بلذتهما وكونهما مما يرغب فيه وعن ملابسة الضراء بالمس المشعر بكونها في أدنى ما يطلق عليه اسم الملاقاة من مراتبها من اللطف ما لا يخفى، ولعله يقوي عظم شأن الرحمة.
وذكر البعض أن في لفظ الإذاقة والمس بناء على أن الذوق ما يختبر به الطعوم، والمس أول الوصول تنبيها على أن ما يجد الإنسان في الدنيا من المنح والمحن نموذج لما يجده في الآخرة، وأنه يقع في الكفران والبطر بأدنى شيء لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي أي المصائب التي تسوءني ولن يعتريني بعد أمثالها إِنَّهُ لَفَرِحٌ بطر بالنعمة مغتر بها، وأصله فارح إلا أنه حول لما ترى للمبالغة، وفي البحر أن فعلا بكسر العين هو قياس اسم الفاعل من فعل اللازم، وقرىء «فرح» بضم الراء كما تقول: ندس ونطس، وأكثر ما ورد الفرح في القرآن للذم فإذا قصد المدح قيد كقوله سبحانه: فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [آل عمران: ١٧٠] فَخُورٌ متعاظم على الناس بما أوتي من النعم مشغول بذلك عن القيام بحقها، واللام في لَئِنْ في الآيات والأربع موطئة للقسم، وجوابه سادّ مسدّ جواب الشرط كما في قوله:
لئن عاد لي عبد العزيز بمثلها وأمكنني منها إذن لا أقبلها
إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا استثناء من الإنسان، وهو متصل إن كانت أل فيه لاستغراق الجنس، وهو الذي نقله الطبرسي مخالفا لابن الخازن عن الفراء، ومنقطع إن كانت للعهد إشارة إلى الإنسان الكافر مطلقا، وعن ابن عباس أن المراد منه كافر معين وهو الوليد بن المغيرة، وقيل: هو عبد الله بن أمية المخزومي، وذكره الواحدي، وحديث الانقطاع على الروايتين متصل، ونسب غير مقيد بهما إلى الزجاج والأخفش، وأيّا ما كان فالمراد صبروا على ما أصابهم من الضراء سابقا أو لاحقا إيمانا بالله تعالى واستسلاما لقضائه تعالى.
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ شكرا على نعمه سبحانه السابقة واللاحقة، قال المدقق في الكشف: لما تضمن اليأس عدم الصبر والكفران عدم الشكر كان المستثنى من ذلك ضده ممن اتصف بالصبر والشكر فلما قيل: إِلَّا الَّذِينَ إلخ كان بمنزلة إلا الذين صبروا وشكروا وذلك من صفات المؤمن، فكنى بهما عنه فلذا فسره الزمخشري بقوله: إلا الذين آمنوا، فإن عادتهم إذا أتتهم رحمة أن يشكروا وإذا زالت عنهم نعمة أن يصبروا فلذا حسنت الكناية به عن الإيمان، ثم عرض
216
بشيخه الطيبي بقوله: وأما دلالة صَبَرُوا على أن العمل الصالح شكر لأنه
ورد في الأثر الإيمان نصفان: نصف صبر، ونصف شكر،
ودلالة عملوا على أن الصبر إيمان لأنهما ضميمتان في الأكثر فغير مطابق لما نحن فيه إلا أن يراد وجه آخر كأنه قيل: إلا المؤمن الصالح الصابر الشاكر وهو وجه- لكن القول ما قالت حذام- لأن الكناية تفيد ذلك مع ما فيها من الحسن والمبالغة أُولئِكَ إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة وما فيه من معنى البعد لما مر غير مرة أي أولئك الموصوفون بتلك الصفات الحميدة لَهُمْ مَغْفِرَةٌ عظيمة لذنوبهم ما كانت وَأَجْرٌ ثواب لأعمالهم الحسنة كَبِيرٌ وصف بذلك لما احتوى عليه من النعيم السرمدي ورفع التكاليف والأمن من العذاب ورضا الله سبحانه عنهم والنظر إلى وجهه الكريم في جنة عرضها السماوات والأرض، ووجه تعلق الآيات الثلاث بما قبلهن على ما في البحر أنه تعالى لما ذكر أن عذاب الكفار وإن تأخر لا بد أن يحيق بهم ذكر ما يدل على كفرهم وكونهم مستحقين العذاب لما جبلوا عليه من كفر نعماء الله تعالى وما يترتب على إحسانه تعالى إليهم مما لا يليق بهم من البطر والفخر، قيل: وهو إشارة إلى أن الوجه تضمن الآيات تعليل الحيق ويبعده تعليله بما في حيز الصلة قبل، واختار بعضهم أنه الاشتراك في الذم فما تضمنه الآيات قبل بيان بعض هناتهم وما تضمنته هذه بيان بعض آخر.
وقال بعض المحققين: إن وجه التعلق من حيث إن إذاقة النعماء ومساس الضراء فصل من باب الابتلاء واقع موقع التفصيل من الإجمال في قوله سبحانه: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا والمعنى أن كلّا من إذاقة النعماء ونزعها مع كونه ابتلاء للإنسان أيشكر أم يكفر لا يهتدي إلى سنن الصواب بل يحيد في كلتا الحالتين عنه إلى مهاوي الضلال فلا يظهر منه حسن عمل إلا من الصابرين الصالحين، أو من حيث إن إنكارهم البعث واستهزاءهم بالعذاب بسبب بطرهم وفخرهم كأنه قيل: إنما فعلوا ما فعلوا لأن طبيعة الإنسان مجبولة على ذلك انتهى، ولا يخفى ما في الأول من البعد. والثاني أقرب، والله تعالى أعلم.
من باب الإشارة في الآيات: الر إشارة إلى ما مرت الإشارة إليه أُحْكِمَتْ آياتُهُ أي حقائقه وأعيانه في العالم الكلي فلا تتبدل ولا تتغير ثُمَّ فُصِّلَتْ في العالم الجزئي وجعلت مبينة معينة بقدر معلوم مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ فلذا أحكمت خَبِيرٍ فلذا فصلت، وقد يقال: الإشارة إلى آيات القرآن قد أحكمت في قلوب العارفين ثُمَّ فُصِّلَتْ أحكامها على أبدان العاملين، وقيل: أُحْكِمَتْ بالكرامات ثُمَّ فُصِّلَتْ بالبينات أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ أي أن لا تشركوا في عبادته سبحانه وخصصوه عز وجل بالعبادة إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ عقاب الشرك وتبعته وَبَشِيرٌ بثواب التوحيد وفائدته، وقيل. نَذِيرٌ بعظائم قهره وَبَشِيرٌ بلطائف وصله وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ اطلبوا منه سبحانه أن يستركم عن النظر إلى الغير حتى أفعالكم وصفاتكم ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ارجعوا بالفناء ذاتا، وقيل:
اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ من الدعاوى وتُوبُوا إِلَيْهِ من الخطرات المذمومة يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً بتوفيقكم لاتباع الشريعة حال البقاء بعد الفناء، ويقال: المتاع الحسن صفاء الأحوال، وسناء الأذكار، وحلاوة الأفكار وتجلي الحقائق، وظهور اللطائف، والفرح برضوان الله تعالى وطيب العيش بمشاهدة أنواره سبحانه، والمتاع كل المتاع مشاهدة المحب حبيبه، ولله در من قال:
مناي من الدنيا لقاؤك مرة فإن نلتها استوفيت كل منائيا
إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى هو وقت وفاتكم وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ بالسعي والاجتهاد وبذل النفس فَضْلَهُ في الدرجات والقرب إليه سبحانه ويقال: يُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ في الاستعداد فَضْلَهُ في الكمال، وسئل أبو عثمان عن معنى ذلك فقال: يحقق آمال من أحسن به ظنه وَإِنْ تَوَلَّوْا أي تعرضوا عن امتثال الأمر والنهي فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ وهو يوم الرجوع إلى الله تعالى الذي يظهر فيه عجز ما سواه تعالى ويتبين قبح
217
مخالفة ما أمر به وفظاعة ارتكاب ما نهي عنه أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ يعطفون صُدُورَهُمْ على ما فيها من الصفات المذمومة لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ تعالى وذلك لمزيد جهلهم بما يجوز عليه جل شأنه وما لا يجوز أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ من الأقوال والأفعال وسائر الأحوال، وقيل: ما يُسِرُّونَ من الخطرات وَما يُعْلِنُونَ من النظرات، وقيل: ما يُسِرُّونَ بقلوبهم وَما يُعْلِنُونَ بأفواههم، وقيل: ما يُسِرُّونَ بالليل وَما يُعْلِنُونَ بالنهار، والتعميم أولى ومن الناس من جعل ضمير منه للرسول صلّى الله عليه وسلم وقد علمت أنه يبعده ظهور أن ضمير يَعْلَمُ له تعالى لكن ذكر في أسرار القرآن أنه تعالى كسا أنوار جلاله أفئدة الصديقين فيرون بأبصار قلوبهم ما يجري في صدور الخلائق من المضمرات والخطرات كما يرون الظواهر بالعيون الظاهرة،
وقد جاء «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله تعالى»
وعلى هذا فيمكن أن يكون ضمير يَعْلَمُ للرسول عليه الصلاة والسلام، وأيّا ما كان فالآية نازلة في غير المؤمنين حسبما يقتضيه الظاهر، وقد تقدم لك أن الأمر على ما روي عن الحبر رضي الله تعالى عنه مشكل.
وقال بعض أرباب الذوق: إن الآية عليه إشارة إلى أن أولئك الأناس لم يصلوا إلى مقام الجمع ولم يتحققوا بأعلى مراتب التوحيد وفيه خفاء أيضا فتفطن وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها أي ما تتغذى به شبحا وروحا، ويقال: لكل رزق عليه تعالى بقدر حوصلته فرزق الظاهر للأشباح، ورزق المشاهدة للأرواح، ورزق الوصلة للأسرار ورزق الرهبة للنفوس، ورزق الرغبة للعقول، ورزق القربة للقلوب، وهذا بالنظر إلى الإنسان، وأما بالنظر إلى سائر الحيوانات فلها أيضا رزق محسوس، ورزق معقول يعلمه الله تعالى وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها فمستقر الجميع أصلاب العدم وَمُسْتَوْدَعَها أرحام الحدوث وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وما في كل فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ أي كان حيا قيوما- كما قال ابن الكمال..
وقيل: الماء إشارة إلى المادة الهيولانية، والمعنى وَكانَ عَرْشُهُ قبل خلق السماوات والأرض بالذات لا بالزمان مستعليا على المادة فوقها بالرتبة، وقيل: غير ذلك، وإن شئت التطبيق على ما في تفاصيل وجودك فالمعنى على ما قيل: خلق سماوات قوى الروحانية، وأرض الجسد في الأشهر الستة التي هي أقل مدة الحمل، وكان عرشه الذي هو قلب المؤمن على ماء مادة الجسد مستوليا عليه متعلقا به تعلق التصوير والتدبير لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا قيل: جعل غاية الخلق ظهور الأعمال أي خلقنا ذلك لنعلم العلم التفصيلي التابع للوجود الذي يترتب عليه الجزاء أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً إلخ تضمن الإشارة إلى أنه ينبغي للعبد أن يكون في السراء والضراء واثقا بربه تعالى متوكلا عليه غير محتجب عنه برؤية الأسباب لئلا يحصل له اليأس والكفران والبطر والفخر بذلك وجودا وعدما. فإن آتاه رحمة شكره أولا برؤية ذلك منه جل شأنه بقلبه، وثانيا باستعمال جوارحه في مراضيه وطاعاته والقيام بحقوقه تعالى فيها، وثالثا بإطلاق لسانه بالحمد والثناء على الله تعالى وبذلك يتحقق الشكر المشار إليه بقوله تعالى: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ [سبأ: ١٣] وإلى ذلك أشار من قال:
أفادتكم النعماء مني ثلاثة يدي ولساني والضمير المحجبا
وبالشكر تزداد النعم كما قال تعالى: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [إبراهيم: ٧]،
وعن علي كرم الله تعالى وجهه إذا وصلت إليكم أطراف النعم فلا تنفروا أقصاها بقلة الشكر،
ثم إن نزعها منه فليصبر ولا يتهم الله تعالى بشيء فإنه تعالى أبر بالعبد وأرحم وأخبر بمصلحته وأعلم، ثم إذا أعادها عليه لا ينبغي أن يبطر ويغتر ويفتخر بها على الناس فإن الاغترار والافتخار بما لا يملكه من الجهل بمكان، وقد أفاد سبحانه أن من سجايا الإنسان في الشدة بعد الرحمة اليأس
218
ﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣ ﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵ ﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄ ﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖ ﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣ ﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽ ﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪ ﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴ ﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼ ﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌ ﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛ ﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥ ﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓ ﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱ ﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩ ﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴ ﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕ ﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣ ﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮ ﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣ ﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱ ﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃ ﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤ ﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯ ﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋ ﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙ ﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭ ﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨ ﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻ ﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪ ﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿ ﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓ ﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪ
والكفران وبالنعماء بعد الضراء الفرح والفخر إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا مع الله تعالى في حالتي النعماء والضراء والشدة والرخاء، فالفقر والغنى مثلا عندهم مطيتان لا يبالون أيهما امتطوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ما فيه صلاحهم في كل أحوالهم أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ من ذنوب ظهور النفس باليأس والكفران والفرح والفخر وَأَجْرٌ كَبِيرٌ من ثواب تجليات الأفعال والصفات وجنانهما، والله تعالى ولي التوفيق.
219
فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ أي تترك تبليغ بعض ما يوحى إليك وهو ما يخالف رأي المشركين مخافة ردهم واستهزائهم به، فاسم الفاعل للمستقبل ولذا عمل، ولعل- للترجي وهو يقتضي التوقع ولا يلزم من توقع الشيء وقوعه ولا ترجح وقوعه لجواز أن يوجد ما يمنع منه، فلا يشكل بأن توقع ترك التبليغ منه صلّى الله عليه وسلم مما لا يليق بمقام النبوة، والمانع من ذلك فيه عليه الصلاة والسلام عصمته كسائر الرسل الكرام عليهم السلام عن كتم الوحي المأمور بتبليغه والخيانة فيه وتركه تقية، والمقصود من ذلك تحريضه صلّى الله عليه وسلم وتهييج داعيته لأداء الرسالة، ويقال نحو ذلك في
220
كل توقع نظير هذا التوقع، وقيل: إن التوقع تارة يكون للمتكلم وهو الأصل لأن المعاني الإنشائية قائمة به، وتارة للمخاطب، وأخرى لغيره ممن له تعلق وملابسة به، ويحتمل أن يراد هنا هذا الأخير ويجعل التوقع للكفار، والمعنى أنك بلغ بك الجهد في تبليغهم ما أوحي إليك أنهم يتوقعون منك ترك التبليغ لبعضه، وقيل: إن- لعل- هنا ليست للترجي بل هي للتبعيد، وقد تستعمل لذلك كما تقول العرب: لعلك تفعل كذا لمن لا يقدر عليه، فالمعنى لا تترك، وقيل: إنها للاستفهام الإنكاري كما
في الحديث «لعلنا أعجلناك»
واختار السمين. وغيره كونها للترجي بالنسبة إلى المخاطب على ما علمت آنفا، ولا يجوز أن يكون المعنى كأني بك ستترك بعض ما أوحي إليك مما شق عليك بإذني ووحي مني، وهو أن يرخص لك فيه كأمر الواحد بمقاومة عشرة إذ أمروا بمقاومة الواحد لاثنين وغير ذلك من التخفيفات لأنه وإن زال به الإشكال إلا أن قوله تعالى بعد أن يقولوا يأباه، نعم قيل: لو أريد ترك الجدال بالقرآن إلى الجلاد والضرب والطعان- لأن هذه السورة مكية نازلة قبل الأمر بالقتال- صح لكن في الكشف بعد كلام: اعلم لو أخذت التأمل لاستبان لك أن مبنى هذه السورة الكريمة على إرشاده تعالى كبرياؤه نبيه صلّى الله عليه وسلم إلى كيفية الدعوة من مفتتحها إلى مختتمها وإلى ما يعتري لمن تصدى لهذه الرتبة السنية من الشدائد واحتماله لما يترتب عليه في الدارين من العوائد لا على التسلي له عليه الصلاة والسلام فإنه لا يطابق المقام، وانظر إلى الخاتمة الجامعة أعني قوله سبحانه: وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ [هود: ١٢٣] تقضي العجب وهو يبعد هذه الإرادة إن قلنا: إن ذلك من باب التخفيف المؤذن بالتسلي فتأمله، والضمير في قوله سبحانه: وَضائِقٌ بِهِ لما يوحى أو للبعض وهو الظاهر عند أبي حيان، وقيل: للتبليغ أو للتكذيب، وقيل: هو مبهم يفسره أن يقولوا، والواو للعطف وَضائِقٌ قيل: عطف على تارِكٌ وقوله تعالى: صَدْرُكَ فاعله، وجوز أن يكون الوصف خبرا مقدما وصَدْرُكَ مبتدأ والجملة معطوفة على تارِكٌ، وقيل: يتعين أن تكون الواو للحال، والجملة بعدها حالية لأن هذا واقع لا متوقع فلا يصح العطف، ونظر فيه بأن ضيق صدره عليه الصلاة والسلام بذلك إن حمل على ظاهره ليس بواقع، وإنما يضيق صدره الشريف لما يعرض له في تبليغه من الشدائد، وعدل عن ضيق الصفة المشبهة إلى- ضائق- اسم الفاعل ليدل على أن الضيق مما يعرض له صلّى الله عليه وسلم أحيانا، وكذا كل صفة مشبهة إذا قصد بها الحدوث تحول إلى فاعل فتقول في سيد وجواد وسمين مثلا: سائد وجائد وسامن، وعلى ذلك قول بعض اللصوص يصف السجن ومن سجن فيه:
بمنزلة أما اللئيم «فسامن» بها وكرام الناس باد شحوبها وظاهر كلام البحر أن ذلك مقيس فكل ما يبنى من الثلاثي للثبوت والاستقرار على غير وزن فاعل يرد إليه إن أريد معنى الحدوث من غير توقف على سماع، وقيل: إن العدول لمشاركة تارِكٌ وليس بذلك. أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أي مال كثير، وعبروا بالإنزال دون الإعطاء لأن مرادهم التعجيز بكون ذلك على خلاف العادة لأن الكنوز إنما تكون في الأرض ولا تنزل من السماء، ويحتمل أنهم أرادوا بالإنزال الإعطاء من دون سبب عادي كما يشير إليه سبب النزول أي لولا أعطي ذلك ليتحقق عندنا صدقه أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ يصدقه لنصدقه،
روي أنهم قالوا: اجعل لنا جبال مكة ذهبا أو ائتنا بملائكة يشهدون بنبوتك إن كنت رسولا فنزلت،
وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن كلَّا من القولين قالته طائفة فقال عليه الصلاة والسلام: لا أقدر على ذلك فنزلت،
وقيل: القائل لكل عبد الله بن أمية المخزومي، ووجه الجمع عليه يعلم مما مر غير مرة، ومحل أَنْ يَقُولُوا نصب أو جر وكان الأصل كراهة أو مخافة أَنْ يَقُولُوا أو لئلا أو لأن أو بأن يقولوا، ولوقوع القول قالوا: إن المضارع بمعنى الماضي، وأَنْ المصدرية خارجة عن مقتضاها، ورجحوا تقدير
221
الكراهة على المخافة لذلك، وقد يراد عند تقديرها مخافة أن يكرروا هذا القول واختار بعض أن يكون المعنى على الجميع أن يقولوا مثل قولهم لولا إلخ- فأن- على مقتضاها، ولا يرد شيء إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ أي ليس عليك إلا الإنذار بما أوحى غير مبال بما يصدر عنهم وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ أي قائم به وحافظ له فيحفظ أحوالك وأحوالهم فتوكل عليه في جميع أمورك فإنه فاعل بهم ما يليق بحالهم، والاقتصار على النذير في أقصى غاية من إصابة المحز، والآية قيل: منسوخة، وقيل: محكمة.
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ إضراب بأم المنقطعة عن ذكر ترك اعتدادهم بما يوحى وعدم اكتفائهم بما فيه من المعجزات الظاهرة الدالة على صدق الدعوى، وشروع في ذكر ارتكابهم لما هو أشد منه وأعظم، وتقدر ببل والهمزة الإنكارية أي بل أيقولون، وذهب ابن القشيري إلى أن أَمْ متصلة، والتقدير أيكتفون بما أوحينا إليك أم يقولون إنه ليس من عند الله، والأول أظهر، وأيا ما كان فالضمير البارز في افْتَراهُ لما يوحى قُلْ إن كان الأمر كما تقولون فَأْتُوا أنتم أيضا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ في البلاغة وحسن النظم وهو نعت- لسور- وكان الظاهر مطابقته لها في الجمع لكنه أفرد باعتبار مماثلة كل واحدة منها إذ هو المقصود لا مماثلة المجموع، وقيل: مثل وإن كان مفردا يجوز فيه المطابقة وعدمها فيوصف به الواحد وغيره نظرا إلى أنه مصدر في الأصل كقوله تعالى: أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا [المؤمنون: ٤٧] وقد يطابق كقوله سبحانه: ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ [محمد: ٣٨]، وقيل: إنه هنا صفة لمفرد مقدر أي قدر عشر سور مثله، وقيل: إنه وصف لمجموع العشر لأنها كلام وشيء واحد، وأيضا- عشر- ليس بصيغة جمع فيعطى حكم المفرد- كنخل منقعر- وقوله سبحانه: مُفْتَرَياتٍ نعت آخر- لسور- قيل: أخر عن نعتها بالمماثلة لما يوحى لأنه النعت المقصود بالتكليف إذ به قعودهم على العجز عن المعارضة، وأما نعت الافتراء فلا يتعلق به غرض يدور عليه شيء في مقام التحدي، وإنما ذكر على نهج المساهلة وإرخاء العنان ولأنه لو عكس الترتيب لربما توهم أن المراد هو المماثلة له في الافتراء، والمعنى فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مماثلة له في البلاغة مختلقات من عند أنفسكم إن صح أني اختلقته من عند نفسي فإنكم عرب فصحاء بلغاء ومبادي ذلك فيكم من ممارسة الخطب والأشعار ومزاولة أساليب النظم والنثر وحفظ الوقائع والأيام أتم.
والكثير على أن هذا التحدي وقع أولا فلما عجزوا تحداهم بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ كما نطقت به سورة [البقرة:
٢٣] ويونس، وهو وإن تأخر تلاوة متقدم نزولا وأنه لا يجوز العكس إذ لا معنى للتحدي بعشر لمن عجز عن التحدي بواحدة وأنه ليس المراد تعجيزهم عن الإتيان بعشر سور مماثلات لعشر معينة من القرآن.
وروي عن ابن عباس أن المراد ذلك، وجعل العشر ما تقدم من السور إلى هنا، واعترضه أبو حيان بأن أكثر ما ذكر مدني وهذه السورة حسبما علمت مكية فكيف تصح الحوالة بمكة على ما لم ينزل بعد، ثم قال: ولعل هذا لا يصح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وذهب ابن عطية إلى أن هذا التحدي إنما وقع بعد التحدي بسورة، وروي هذا عن المبرد وأنكر تقدم نزول هذه السورة على نزول تينك السورتين وقال: بل نزلت سورة يونس أولا، ثم نزلت سورة هود.
وقد أخرج ذلك ابن الضريس في فضائل القرآن عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. ووجه ذلك بأن ما وقع أولا هو التحدي بسورة مثله في البلاغة والاشتمال على ما اشتمل عليه من الأخبار عن المغيبات والأحكام وأخواتها، فلما عجزوا عن ذلك أمرهم بأن يأتوا بعشر سور مثله في النظم وإن لم تشتمل على ما اشتمل عليه، وضعفه في الكشف، وقال: إنه لا يطرد في كل سورة من سور القرآن، وهب أن السورة متقدمة النزول إلا أنها لما نزلت على التدريج جاز أن تتأخر تلك الآية عن هذه، ولا ينافي تقدم السورة على السورة انتهى.
222
وتعقبه الشهاب بأن قوله لا يطرد مما لا وجه له لأن مراد المبرد اشتماله على شيء من الأنواع السبعة ولا يخلو شيء من القرآن عنها، وادعاء تأخر نزول تلك الآية خلاف الظاهر، ومثله لا يقال بالرأي، وادعى أن الحق ما قاله المبرد من أنه عليه الصلاة والسلام تحداهم أولا بسورة مثله في النظم والمعنى، ثم تنزل فتحداهم بعشر سور مثله في النظم من غير حجر في المعنى، ويشهد له توصيفها بمفتريات، وأيد بعضهم نظر المبرد بأن التكليف في آية البقرة إنما كان بسبب الريب ولا يزيل الريب إلا العلم بأنهم لا يقدرون على المماثلة التامة، وهو في هذه الآية ليس إلا بسبب قولهم:
افْتَراهُ فكلفوا نحو ما قالوا، وفيه أن الأمر في سورة يونس كالأمر هنا مسبوق بحكاية زعمهم الافتراء قاتلهم الله تعالى مع أنهم لم يكلفوا إلا بنحو ما كلفوا به في آية البقرة على أن في قوله: ولا يزيل الريب إلخ منعا ظاهرا، وللعلامة الطيبي هاهنا كلام- زعم أنه الذي يقتضيه المقام- وهو على قلة جدواه لا وجه لما أسسه عليه كما بين ذلك صاحب الكشف.
هذا ونقل الإمام أنه استدل بهذه الآية على أن إعجاز القرآن بفصاحته لا باشتماله على المغيبات وكثرة العلوم إذ لو كان كذلك لم يكن لقوله سبحانه: مُفْتَرَياتٍ معنى أما إذا كان وجه الإعجاز الفصاحة صح ذلك لأن فصاحة الكلام تظهر إن صدقا وإن كذبا، واعترض عليه الفاضل الجلبي بما هو مبني على الغفلة عن معنى الافتراء والاختلاق، نعم ما ذكر إنما يدل على صحة كون وجه الإعجاز ذلك ولا يمنع احتمال كونه الأسلوب الغريب وعدم اشتماله على التناقض كما قيل به.
وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ أي استعينوا بمن أمكنكم أن تستعينوا به من آلهتكم التي تزعمون أنها ممدة لكم في كل ما تأتون وما تذرون. والكهنة الذين تلجئون إلى آرائهم في الملمات ليسعدوكم في ذلك.
مِنْ دُونِ اللَّهِ متعلق- بادعوا- أي متجاوزين الله تعالى، وفيه على ما قال غير واحد إشارة إلى أنه لا يقدر على مثله إلا الله عز وجل إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في أني افتريته، فإن ذلك يستلزم الإتيان بمثله وهو أيضا يستلزم قدرتكم عليه، وجواب إِنْ محذوف دل عليه المذكور قبل فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ الخطاب- على ما روي عن الضحاك- للمأمورين بدعاء من استطاعوا، وضمير الجمع الغائب عائد إلى من أي فإن لم يستجب لكم من تدعونه من دون الله تعالى إلى الإسعاد والمظاهرة على المعارضة لعلمهم بالعجز عنه وأن طاقتهم أقصر من أن تبلغه فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ أي ما أنزل إلا ملتبسا بعلمه تعالى لا بعلم غيره على ما تقتضيه كلمة أَنَّما فإنها تفيد الحصر كالمكسورة على الصحيح، قيل: وهو معنى قول من قال: أي ملتبسا بما لا يعلمه إلا الله تعالى ولا يقدر عليه سواه.
وادعى بعضهم أن الحصر إنما أفادته الإضافة كما في قوله تعالى: فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً [الجن: ٢٦] والمراد بما لا يعلمه غيره تعالى الكيفيات والمزايا التي بها الإعجاز والتحدي، وذكر عدم قدرة غيره سبحانه مما يقتضيه السياق وإلا فالمذكور في النظم الكريم العلم دون القدرة، وقيل: ذاك لأن نفي العلم بالشيء يستلزم نفي القدرة لأنه لا يقدر أحد على ما لا يعلم، والجملة الشرطية داخلة في حيز القول وإيراد كلمة الشك مع الجزم بعدم الاستجابة من جهة من يدعونه تهكم بهم وتسجيل عليهم بكمال سخافة العقل، وترتيب الأمر بالعلم على مجرد عدم الاستجابة من حيث إنه مسبوق بالدعاء المسبوق بتعجيزهم واضطرارهم فكأنه قيل: فإن لم يستجيبوا لكم عند التجائكم إليهم بعد ما اضطررتم إلى ذلك وصاعت عليكم الحيل وعيت بكم العلل فَاعْلَمُوا إلخ أو من حيث إن من يدعونهم إلى المعارضة أقوى منهم في اعتقادهم فإذا ظهر عجزهم بعدم استجابتهم وإن كان ذلك قبل ظهور عجز أنفسكم يكون عجزهم أظهر وأوضح.
223
وبمجموع ما ذكرنا يظهر أن لا إشكال في الآية، ومما يقتضى منه العجب قول العز بن عبد السلام في أماليه: إن ترتيب هذا المشروط يعني العلم على ذلك الشرط يعني عدم الاستجابة مشكل، وكذا قوله سبحانه: أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ مشكل أيضا إذ لا تصلح الباء للسببية إذ ليس العلم سببا في إنزاله ولا للمصاحبة إذ العلم لا يصحبه في إنزاله، وأن الجواب أنه ليس المراد بالعلم إلا علمنا نحن، وأضيف إليه عز وجل لأنه مخلوق له تعالى، ونظير ذلك ما في قوله جل وعلا: وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ [المائدة: ١٠٦] حيث أضيفت الشهادة إلى الله سبحانه باعتبار أنه تعالى شرعها، والقرآن قد نزل بأدلة العلم بأحكام الله تبارك اسمه، فعبر بالمدلول عن الدليل، والتقدير فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ مصحوبا بانتشار علم الأحكام، وهي الأدلة، ولا شك أنه يناسب إذا عجزوا عن معارضته أن يعلموا أن هذه الآيات أدلة أحكام الله تعالى انتهى، وليت شعري كيف غفل هذا العالم الماهر عن ذلك التفسير الظاهر، ولعله كما قيل: من شدة الظهور الخفاء وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أي واعلموا أيضا أنه تعالى المختص بالألوهية وأحكامها وأن آلهتكم بمعزل عن رتبة الشركة له تعالى في ذلك فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ أي داخلون في الإسلام إذ لم يبق بعد شائبة شبهة في حقيته وفي بطلان ما أنتم فيه من الشرك، فيدخل فيه الإذعان بكون القرآن من عند الله تعالى دخولا أوليا، أو منقادون للحق الذي هو كون القرآن من عند الله تعالى وتاركون ما أنتم عليه من المكابرة والعناد، وفي هذا الاستفهام إيجاب بليغ لما فيه من معنى الطلب والتنبيه على قيام الموجب وزوال المانع، ولهذا جيء بالفاء، وفي التعبير- بمسلمون- دون تسلمون تأييد لما يقتضيه ترتيب ما ذكر على ما قيل بها من وجوبه بلا مهلة، قيل: وفي ذلك أيضا إقناط لهم من أن يجيرهم آلهتهم من بأس الله تعالى شأنه وعز سلطانه، وجوز أن يكون الضمير في لَكُمْ للرسول صلّى الله عليه وسلم، ويؤيده أنه جاء في آية أخرى فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ [القصص: ٥٠]، وروي ذلك عن مجاهد، وكان المناسب للأمر بقل الافراد لكنه جمع للتعظيم، وهو لا يختص بضمير المتكلم كما قاله الرضي، ومن ذلك:
وإن شئت حرمت النساء سواكم والجملة غير داخلة في حيز القول بل هي من قبله تعالى للحكم بعجزهم كقوله سبحانه: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة: ٢٤] وعبر بالاستجابة إيماء إلى أنه صلّى الله عليه وسلم على كمال الأمن من أمره كأن أمره عليه الصلاة والسلام لهم بالإتيان بمثله دعاء لهم إلى أمر يريد وقوعه، ويجوز أن يكون الضمير له صلّى الله عليه وسلم وللمؤمنين لأنهم أتباع له صلّى الله عليه وسلم في الأمر بالتحدي، وفيه تنبيه لطيف على أن حقهم أن لا ينفكوا عنه عليه الصلاة والسلام ويناصبوا معه لمعارضة المعاندين كما كانوا يفعلونه في الجهاد وإرشاد إلى أن ذلك مما يفيد الرسوخ في الإيمان، ولذلك رتب عليه ما ترتب.
والمراد بالعلم المأمور به ما هو في المرتبة العليا التي كأن ما عداها من مراتب العلم ليس بعلم لكن لا للإشعار بانحطاط تلك المراتب بل بارتفاع هذه المرتبة، ويعلم من ذلك سر إيراد كلمة الشك مع القطع بعدم الاستجابة، فإن تنزيل سائر المراتب منزلة العدم مستتبع لتنزيل الجزم بعدم الاستجابة منزلة الشك، ويجوز أن يكون المأمور به الاستمرار على ما هم عليه من العلم ومعنى مُسْلِمُونَ مخلصون في الإسلام أو ثابتون عليه، والكلام من باب التثبيت والترقية إلى معارج اليقين، واختار تفسير الآية بذلك الجبائي وغيره، وذكر شيخ الإسلام أنه أنسب بما سلف من قوله تعالى: وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ ولما سيأتي إن شاء الله تعالى من قوله سبحانه: فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ وأشد بما يعقبه، وقد يؤيد أيضا بما أشرنا إليه لكن لا يخفى أن الكلام على التفسير الأول موافق لما قبله لأن ضمير الجمع في الآية المتقدمة للكفار والضمير في هذه ضمير الجمع فليكن لهم أيضا، ولأن الكفار أقرب المذكورين فرجوع الضمير إليهم أولى، ولأن في التفسير الثاني تأويلات لا يحتاج إليها في الأول.
224
ومن هنا استظهره أبو حيان واستحسنه الزمخشري، ولعل مرجحاته أقوى من مرجحات الأخير عند من تأمل فلذا قدمناه، وإن قيل: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك، ويكتب- فما لم- في المصحف- على ما قال الأجهوري- بغير نون، وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما- نزل- بفتح النون والزاي وتشديدها، وفي البحر أن- ما- يحتمل أن تكون مصدرية أي إن التنزيل، وأن تكون موصولة بمعنى الذي أي إن الذي نزله، وحذف العائد المنصوب في مثل ما ذكر شائع، وفعل- نزل- ضميره تعالى، وجوز بعضهم كون- ما- موصولة على قراءة الجمهور أيضا، ويبعد ذلك بحسب المعروف في مثله أنها موصولة فافهم.
مَنْ كانَ يُرِيدُ أي بأعماله الصالحة بحسب الظاهر الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها أي ما يزينها ويحسنها من الصحة والأمن وكثرة الأموال والأولاد والرياسة وغير ذلك، وإدخال كانَ للدلالة على الاستمرار أي من يريد ذلك بحيث لا يكاد يريد الآخرة أصلا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها أي نوصل إليهم أجور أعمالهم في الدنيا وافية، فالكلام على حذف مضاف، وقيل: الأعمال عبارة عن الأجور مجازا، وإليه يشير كلام شيخ الإسلام والأول أولى، ونُوَفِّ متضمن معنى نوصل ولذا عدي بإلى، وإلا فهو مما يتعدى بنفسه، وقيل: إنه مجاز عن ذلك، وقرأ طلحة بن ميمون- «يوف» - بالياء، وإسناد الفعل إلى الله تعالى، وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما- «يوف» - بالياء مخففا مضارع أوفى، وقرىء- «توّف» - بالتاء مبنيا للمفعول، ورفع «أعمالهم» والفعل في كل ذلك مجزوم على أنه جواب الشرط كما انجزم في قوله سبحانه: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ [الشورى: ٢٠] وحكى الفراء أن كانَ زائدة ولذا جزم الجواب، وتعقبه أبو حيان بأنه لو كانت زائدة لكان فعل الشرط يُرِيدُ وكان يكون مجزوما، وأجيب بأنه يحتمل أنه أراد بكونها زائدة أنها غير لازمة في المعنى، وقرأ الحسن- نوفي- بالتخفيف وإثبات الياء، وذلك إما على لغة من يجزم المنقوص بحذف الحركة المقدرة كما في قوله:
ألم يأتيك والأنباء تنمي أو على ما سمع في كلام العرب إذا كان الشرط ماضيا من عدم جزم الجزاء وإما لأن الأداة لما لم تعمل في الشرط القريب ضعفت عن العمل في لفظ الجزاء البعيد فعملت في محله.
ونقل عن عبد القاهر أنها لا تعمل فيه أصلا لضعفها، والمشهور فيه عن النحاة مذهبان: كون الجزاء في نية التقديم. وكونه على تقدير الفاء والمبتدأ، ويمكن أن يرد ذلك إلى هذا، وليس هذا مخصوصا فيما إذا كان الشرط كان على الصحيح لمجيئه في غيره كثيرا، ومنه:
وإن أتاه خليل يوم مسغبة... يقول: لا غائب مالي ولا حرم
وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ أي لا ينقصون، والظاهر أن الضمير المجرور- للحياة الدنيا- وقيل: الأظهر أن يكون للأعمال لئلا يكون تكرارا بلا فائدة، وردّ بأن فائدته إفادته من أول الأمر أن عدم البخس ليس إلا في الدنيا فلو لم يذكر توهم أنه مطلق على أنه لا يجوز أن يكون للتأكيد ولا ضرر فيه، وإنما عبر عن ذلك بالبخس الذي هو نقص الحق، ولذلك قال الراغب: هو نقص الشيء على سبيل الظلم مع أنه ليس لهم شائبة حق فيما أوتوه كما عبر عن إعطائه بالتوفية التي هي إعطاء الحقوق مع أن أعمالهم بمعزل من كونها مستوجبة لذلك- كما قال بعض المحققين- بناء للأمر على ظاهر الحال ومحافظة على صور الأعمال ومبالغة في نفي النقص كأن ذلك نقص لحقوقهم فلا يدخل تحت الوقوع والصدور عن الكريم أصلا لكن ينبغي أن يعلم أن هذا ليس على إطلاقه بل الأمر دائر على المشيئة الجارية على قضية الحكمة كما نطق به قوله سبحانه: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ [الإسراء: ١٨].
225
وأخرج النحاس في ناسخه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن هذه الآية نسخت الآية التي نحن فيها، وأنت تعلم أنه لا نسخ في الأخبار، ولعل هذا إن صح محمول على المسامحة أُولئِكَ إشارة إلى المذكورين باعتبار استمرارهم على إرادة الحياة الدنيا، أو باعتبار توفيتهم أجورهم فيها من غير بخس، أو باعتبارهما معا، وما فيه من معنى للإيذان ببعد منزلتهم في سوء الحال الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ لأن هممهم كانت مصروفة إلى اقتناص الدنيا وأعمالهم كانت ممدودة ومقصورة على تحصيلها وقد ظفروا بما يترتب على ذلك ولم يريدوا به شيئا آخر فلا جرم لم يكن لهم في الآخرة إلا النار وعذابها المخلد.
وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها أي في الآخرة كما هو الظاهر، فالجار متعلق- بحبط- وما تحتمل المصدرية والموصولية أي ظهر في الآخرة حبوط صنعهم، أو الذي صنعوه من الأعمال التي كانت تؤدي إلى الثواب الأخروي لو كانت معمولة للآخرة، ويجوز أن يعود الضمير إلى الدنيا فيكون الجار متعلقا- بصنعوا- وما على حالها، والمراد بحبوط الأعمال عدم مجازاتهم عليها لفقد الاعتداد بها لعدم الإخلاص الذي هو شرط ذلك، وقيل: لجزائهم عليها في الدنيا وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ قال أبو حيان: هو تأكيد لقوله سبحانه: حَبِطَ إلخ. والظاهر أنه حمل ما كانُوا يَعْمَلُونَ على معنى ما صَنَعُوا والبطلان على عدم النفع وهو راجع إلى معنى الحبوط.
ولما رأى بعضهم أن التأسيس أولى من التأكيد أبقى ما يَعْمَلُونَ على ذلك المعنى، وحمل بطلان ذلك على فساده في نفسه لعدم شرط الصحة، وقال: كأن كلّا من الجملتين علة لما قبلها على معنى ليس لهم في الآخرة إلا النار لحبوط أعمالهم وعدم ترتب الثواب عليها لبطلانها وكونها ليست على ما ينبغي، والأولى ما صنعه المولى أبو السعود عليه الرحمة حيث حمل البطلان على الفساد في نفسه، وما كانُوا يَعْمَلُونَ على أعمالهم في أثناء تحصيل المطالب الدنيوية. ثم قال: ولأجل أن الأول من شأنه استتباع الثواب والأجر وأن عدمه لعدم مقارنته للإيمان والنية الصحيحة، وأن الثاني ليس له جهة صالحة قط علق بالأول الحبوط المؤذن بسقوط أجره بصيغة الفعل المنبئ عن الحدوث، وبالثاني البطلان المفصح عن كونه بحيث لا طائل تحته أصلا بالاسمية الدالة على كون ذلك وصفا لازما له ثابتا فيه، وفي زيادة- كان- في الثاني دون الأول إيماء إلى أن صدور أعمال البر منهم وإن كان لغرض فاسد ليس في الاستمرار والدوام كصدور الأعمال التي هي مقدمات مطالبهم الدنيئة انتهى.
ويحتمل عندي على بعد أن يراد- بما كانوا يعملون- هو ما استمروا عليه من إرادة الحياة الدنيا وهو غير ما صنعوه من الأعمال التي نسب إليها الحبوط وإطلاق مثل ذلك على الإرادة مما لا بأس به لأنها من أعمال القلب، ووجه الإتيان- بكان- فيه موافقته لما أشار هو إليه، وفي الجملة تصريح باستمرار بطلان تلك الإرادة وشرح حالها بعد شرح حال المريد وشرح أعماله أراد بها الحياة الدنيا وزينتها، وأيا ما كان فالظاهر أن باطِلٌ خبر مقدم وما كانُوا هو المبتدأ، وجوز في البحر كون باطِلٌ خبرا بعد خبر، وما مرتفعة به على الفاعلية، وقرىء- وبطل- بصيغة الفعل أي ظهر بطلانه حيث علم هناك أن ذاك وما يستتبعه من الحظوظ الدنيوية مما لا طائل تحته أو انقطع أثره الدنيوي فبطل مطلقا، وقرأ أبي وابن مسعود- وباطلا- بالنصب ونسب ذلك إلى عاصم وخرجه صاحب اللوامح على أن ما سيف خطيب- وباطل- مفعول- ليعملون- وفيه تقديم معمول كان وفيه- كتقديم الخبر- خلاف، والأصح الجواز لظاهر قوله تعالى: أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ [سبأ: ٤٠] ومن منع تأول، وجوز أن يكون منصوبا- بيعملون- و «ما» إبهامية صفة له أي باطلا أي باطل، ونظير ذلك حديث ما على قصره ولأمر ما جدع قصير أنفه، وأن يكون مصدرا بوزن فاعل، وهو منصوب بفعل مقدر، و «ما» اسم موصول فاعله أي بطل بطلانا الذي كانوا يعملونه، ونظيره خارجا في قول الفرزدق:
226
ألم ترني عاهدت ربي وأنني لبين رتاج قائما ومقام
عليّ حلفة لا أشتم الدهر مسلما ولا «خارجا» من في زور كلام
فإنه أراد ولا يخرج من في زور كلام خروجا، وفي ذلك على ما في البحر إعمال المصدر الذي هو بدل من الفعل في غير الاستفهام والأمر هذا، والظاهر أن الآية في مطلق الكفرة الذين يعملون البر لا على الوجه الذي ينبغي، وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وغيرهما عن أنس رضي الله تعالى عنه أنها نزلت في اليهود والنصارى، ولعل المراد- كما قال ابن عطية- إنهم سبب النزول فيدخلون فيها لا أنها خاصة بهم ولا يدخل فيها غيرهم، وقال الجبائي: هي في الذين جاهدوا من المنافقين مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جعل الله تعالى حظهم من ذلك سهمهم في الغنائم، وفيه أن ذلك إنما كان بعد الهجرة والآية مكية، وقيل: في أهل الرياء يقال لقارىء القرآن منهم: أردت أن يقال: فلان قارئ، فقد قيل:
اذهب فليس لك عندنا شيء، وهكذا لغيره من المتصدق والمقتول في الجهاد وغيرهما ممن عمل من أعمال البر لا لوجه الله تعالى، وربما يؤيد ذلك ما روي عن معاوية حين حدثه أبو هريرة بما تضمن ذلك فبكى، وقال: صدق الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها إلى قوله سبحانه: وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ وعليه فلا بد من تقييد قوله عز وجل: لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ بأن ليس لهم بسبب أعمالهم الريائية إلا ذلك وهو خلاف الظاهر، والسياق يقتضي أنها في الكفرة مطلقا وبرهم كما قلنا، ومن هنا اشتهر أن الكافر يعجل له ثواب أعماله في الدنيا بتوسعة الرزق وصحة البدن وكثرة الولد ونحو ذلك وليس لهم في الآخرة من نصيب لكن ذهب جماعة إلى أنه يخفف بها عنه عذاب الآخرة، ويشهد له قصة أبي طالب، وذهب آخرون إلى أن ما يتوقف على النية من الأعمال لا ينتفع الكافر به في الآخرة أصلا لفقدان شرطه إذ لم يكن من أهل النية لكفره، وما لا ينتفع به ويخفف به عذابه، وبذلك يجمع بين الظواهر المقتضي بعضها للانتفاع في الجملة وبعضها لعدمه أصلا فتدبر.
ووجه ارتباط هذه الآية بما قبلها على ما في مجمع البيان أنه سبحانه لما قال: فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ؟ فكأن قائلا قال: إن أظهرنا الإسلام لسلامة النفس والمال يكون ماذا؟ فقيل: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا إلخ، أو يقال:
إن فيما قبل ما يتضمن إقناط الكفرة من أن يجيرهم آلهتهم من بأس الله عز سلطانه كما تقدم، وذكره بعض المحققين فلا يبعد أن يكون سماعهم ذلك سببا لعزمهم على إظهار الإسلام، أو فعل بعض الأعمال الصالحة ظنا منهم أن ذلك مما يجيرهم وينفعهم فشرح لهم حكم مثل ذلك بقوله سبحانه: مَنْ كانَ يُرِيدُ إلخ لكن أنت تعلم أن هذا يحتاج إلى ادعاء أن ذلك العزم من باب الاحتياط، وفي البحر في بيان المناسبة أنه سبحانه لما ذكر شيئا من أحوال الكفار في القرآن ذكر شيئا من أحوالهم الدنيوية وما يؤولون إليه في الآخرة، وأبو السعود بين ذلك على وجه يقوي به ما ادعاه من أنسبية كون الخطاب فيما سلف له عليه الصلاة والسلام والمؤمنين، فقال: والذي يقتضيه جزالة النظم الكريم أن المراد مطلق الكفرة بحيث يندرج فيهم القادحون في القرآن العظيم اندراجا أوليا فإنه عز وجل لما أمر نبيه صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين بأن يزدادوا علما ويقينا بأن القرآن منزل بعلم الله سبحانه وبأن لا قدرة لغيره سبحانه على شيء أصلا وهيجهم على الثبات على الإسلام والرسوخ فيه عند ظهور عجز الكفرة وما يدعون من دون الله تعالى عن المعارضة وتبين أنهم ليسوا على شيء أصلا اقتضى الحال أن يتعرض لبعض شؤونهم الموهمة لكونهم على شيء في الجملة من نيلهم الحظوظ العاجلة واستوائهم على المطالب الدنيوية، وبيان أن ذلك بمعزل عن الدلالة عليه، ولقد بين ذلك أي بيان انتهى، ولا يخفى أنه يمكن أن يقرر هذا على وجه لا يحتاج فيه إلى توسيط حديث جعل الخطاب السابق له صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين فليفهم، واستدل في الأحكام بالآية على أن ما سبيله أن لا يفعل إلا على وجه القربة لا يجوز أخذ الأجرة عليه لأن الأجرة من
227
حظوظ الدنيا فمن أخذ عليه الأجرة خرج من أن يكون قربة بمقتضى الكتاب والسنة، وادعى الكيا أنها مثل
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إنما الأعمال بالنيات»
وتدل على أن من صام في رمضان لا عن رمضان لا يقع عن رمضان، وعلى أن من توضأ للتبرد أو التنظف لا يصح وضوءه، وفي ذلك خلاف مبسوط بما له وعليه في محله.
أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ تدل على الحق والصواب فيما يأتيه ويذره، ويدخل في ذلك الإسلام دخولا أوليا، واقتصر عليه بعضهم بناء على أنه المناسب لما بعد، وأصل- البينة- كما قيل: الدلالة الواضحة عقلية كانت أو محسوسة، وتطلق على الدليل مطلقا، وهاؤها للمبالغة، أو النقل، وهي وإن قيل: إنها من بان بمعنى تبين واتضح لكنه اعتبر فيها دلالة الغير والبيان له، وأخذها بعضهم من صيغة المبالغة، والتنوين فيها هنا للتعظيم أي بينة عظيمة الشأن، والمراد بها القرآن وباعتبار ذلك أو البرهان ذكر الضمير الراجع إليها في قوله سبحانه: وَيَتْلُوهُ أي يتبعه شاهِدٌ عظيم يشهد بكونه من عند الله تعالى شأنه وهو- كما قال الحسين بن الفضل- الإعجاز في نظمه، ومعنى كون ذلك تابعا له أنه وصف له لا ينفك عنه حتى يرث الله تعالى الأرض ومن عليها فلا يستطيع أحد من الخلق جيلا بعد جيل معارضته ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا. وكان الضمير في مِنْهُ وهو متعلق بمحذوف وقع صفة لشاهد، ومعنى كونه منه أنه غير خارج عنه.
وجوز أن يكون هذا الضمير راجعا إلى الرب سبحانه، ومعنى كونه منه تعالى أنه وارد من جهته سبحانه للشهادة، وعلى هذا يجوز أن يراد بالشاهد المعجزات الظاهرة على يد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإنها من الشواهد التابعة للقرآن الواردة من قبله عز وجل، وأمر التبعية فيها ظاهر، والمراد بالموصول كل من اتصف بتلك الكينونة من المؤمنين.
وعن أبي العالية أنه النبي عليه الصلاة والسلام ولا يخفى أن قوله سبحانه الآتي: أُولئِكَ إلخ لا يلائمه إلا أن يحمل على التعظيم، وأيضا إن السياق كما ستعلم إن شاء الله تعالى للفرق بين الفريقين المؤمنين ومن يريد الحياة الدنيا لا بينهم وبين النبي صلّى الله عليه وسلّم، وفسر أبو مسلم وغيره البينة بالدليل العقلي، والشاهد بالقرآن وضمير مِنْهُ لله تعالى، ومن ابتدائية، أو للقرآن فقد تقدم ذكره، ومن حينئذ إما بيانية، وإما تبعيضية بناء على أن القرآن ليس كله شاهدا وليس من التجريد على ما توهم الطيبي، فيكون في الآية إشارة إلى الدليلين العقلي، والسمعي، ومعنى كون الثاني تابعا للأول على ما قيل: إنه موافق له لا يخالفه أصلا، ومن هنا قالوا: إن النقل الصحيح لا يخالف العقل الصريح، ولذا أولوا الدليل السمعي إذا خالف ظاهره الدليل العقلي، ولعل في التعبير عن الأول بالبينة التي جاء إطلاقها في كلام الشارع على شاهدين، وعن الثاني بالشاهد الإيماء إلى أن الدليل العقلي أقوى دلالة من الدليل السمعي لأن دلالة الأول قطعية، ودلالة الثاني ظنية غالبا للاحتمالات الشهيرة التي لا يمكن القطع معها، وقد يقال: إن التعبير عن الثاني بالشاهد لمكان التلو.
وعن ابن عباس، ومجاهد، والنخعي، والضحاك، وعكرمة، وأبي صالح، وسعيد بن جبير أن البينة القرآن، والشاهد هو جبريل عليه السلام- ويتلو- من التلاوة لا التلو، وضمير مِنْهُ لله تعالى، وفي رواية عن مجاهد أن الشاهد ملك يحفظ القرآن وليس المراد الحفظ المتعارف لأنه- كما قال ابن حجر- خاص بجبريل عليه السلام، وضمير مِنْهُ كما في سابقه إلا أن يتلو من التلو والضمير المنصوب للبينة، وقيل: لمن كان عليها، وعن الفراء أن الشاهد هو الإنجيل، وَيَتْلُوهُ وضمير مِنْهُ على طرز ما روي عن مجاهد سوى أن ضمير- يتلوه- للقرآن.
وأخرج أبو الشيخ عن محمد بن الحنفية أن الشاهد لسانه صلّى الله عليه وسلّم، وقد ذكر أهل اللغة ذلك، وكذا الملك من معانيه، ويتلو- حينئذ من التلاوة، والإسناد مجازي ومفعوله للبينة، وضمير مِنْهُ للرسول صلّى الله عليه وسلّم بناء على أنه المراد
228
بالموصول، ومن تبعيضية، وقيل: الشاهد صورته عليه الصلاة والسلام ومخائله لأن كل عاقل يراه يعلم أنه عليه الصلاة والسلام رسول الله.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: «ما من رجل من قريش إلا نزل فيه طائفة من القرآن، فقال له رجل: ما نزل فيك؟ قال: أما تقرأ سورة هود أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ الآية من كان على بينة من ربه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنا شاهد منه»، وأخرج المنهال عن عبادة بن عبد الله مثله،
وأخرج ابن مردويه بوجه آخر عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ أنا وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ علي.
وأخرج الطبرسي نحو ذلك عن بعض أهل البيت رضي الله تعالى عنهم وتعلق به بعض الشيعة في أن عليا كرم الله تعالى وجهه هو خليفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأن الله تعالى سماه شاهدا كما سمى نبيه عليه الصلاة والسلام كذلك في قوله سبحانه: إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً [الفتح: ٨] والمراد شاهِداً على الأمة كما يشهد له عطف مُبَشِّراً وَنَذِيراً عليه فينبغي أن يكون مقامه كرم الله تعالى وجهه بين الأمة كمقامه عليه الصلاة والسلام بينهم.
وحيث أخبر سبحانه أنه يتلوه أي يعقبه ويكون بعده دل على أنه خليفته، وأنت تعلم أن الخبر مما لا يكاد يصح، وفيما سيأتي في الآية إن شاء الله تعالى إباء عنه، ويكذبه ما أخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والطبراني في الأوسط عن محمد بن الحنفية رضي الله تعالى عنه قال: قلت لأبي كرم الله تعالى وجهه: إن الناس يزعمون في قول الله تعالى: وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ أنك أنت التالي؟ قال: وددت أني هو ولكنه لسان محمد صلّى الله عليه وسلّم، على أن في تقرير الاستدلال ضعفا وركاكة بلغت الغاية القصوى كما لا يخفى على من له أدنى فطنة.
ونقل أبو حيان أن هذا الشاهد هو أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وفيه ما فيه، وفي عطف- يتلوه- احتمالان: الأول أن يكون على ما وقع صفة لبينة، والثاني أن يكون على جملة «كان» ومرفوعها، وقوله سبحانه: وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى عطف على شاهِدٌ والضمير المجرور له، وقد توسط الجار والمجرور بينهما، والظاهر أنه متعلق بمحذوف وقع حالا من الكتاب أي وَيَتْلُوهُ في التصديق كِتابُ مُوسى منزلا من قبله، وحاصله أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ ويشهد لصدقه شاهد منه وشاهد آخر من قبله وهو كتاب موسى، قيل: وإنما قدم في الذكر المؤخر في النزول لكونه وصفا لازما له غير مفارق عنه ولعراقته في وصف التلو، وهذا على تقدير أن يكون المراد بالشاهد الإعجاز- كما اختاره بعض المحققين- وقد يقال: إن تأخير بيان شهادة هذا الشاهد عن بيان شهادة الشاهد الأول لأنها ليست في الظهور عند الأمة كشهادة الأول وهو جار على غير ذلك التقدير أيضا، وتخصيص كتاب موسى عليه السلام بالذكر بناء على عدم إرادة الإنجيل فيما تقدم لأن الملتين مجتمعتان على أنه من عند الله تعالى بخلاف الإنجيل فإن اليهود مخالفون فيه فكان الاستشهاد بما تقوم به الحجة على الفريقين أولى.
وأوجب بعضهم كون وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى جملة مبتدأة غير داخلة في حيز شيء مما قبلها وهو مبني على كثير من الاحتمالات السابقة في الشاهد، وقرأ محمد بن السائب الكلبي وغيره كِتابُ بالنصب على أنه معطوف على مفعول- يتلوه- أو منصوب بفعل مقدر أي ويتول كتاب موسى، والأول أولى لأن الأصل عدم التقدير، ويتلو في هذه القراءة من التلاوة، والضمير المنصوب للقرآن والمجرور لمن، ومِنْ تبعيضية لا تجريدية، والمعنى على ما يقتضيه كلام الكشاف أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ على أن القرآن حق لا مفترى، والمراد به أهل الكتاب ممن كان يعلم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الحق وأن كتابه هو الحق لما كانوا وجدوه في التوراة، ويقرأ القرآن شاهد من هؤلاء، ويقرأ من قبل القرآن كتاب موسى، والمراد بهذا الشاهد ما أريد به في قوله سبحانه: وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي
229
إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ [الأحقاف: ١٠] وهو عبد الله بن سلام رضي الله تعالى عنه، ففي الآية مدح أهل الكتاب وخص من بينهم تالي الكتابين وشاهدهم بالذكر دلالة على مزيد فضله وتنبيها على أنهم مشايعوه في اتباع الحق وإن لم يبلغوا رتبة الشاهد، وفي قوله تعالى: يَتْلُوهُ استحضار للحال ودلالة على استمرار التلاوة، وهو كما قيل في غاية التطابق للكلام إِماماً، أي مؤتما به في الدين ومقتدى، وفي التعرض لهذا الوصف مع بيان تلو الكتاب ما لا يخفى من تفخيم شأن المتلو والتنوين فيه للتعظيم، وكذا في قوله سبحانه: وَرَحْمَةً أي نعمة عظيمة على من أنزل إليهم ومن بعدهم إلى يوم القيامة باعتبار أحكامه الباقية المؤيدة بالقرآن العظيم وهما حالان من الكتاب أُولئِكَ أي الموصوفون بتلك الصفة الحميدة وهي الكون على بينة يُؤْمِنُونَ بِهِ أي يصدقون بالقرآن حق التصديق حسبما يشهد به تلك الشواهد الحقة المعربة عن حقيته ولا يقلدون أحدا من عظماء الدين فالضمير للقرآن، وقيل: إنه لكتاب موسى عليه السلام لأنه أقرب ولا يناسب ما بعد، وإن لم يك خاليا عن الفائدة، وقيل: إنه للنبي صلّى الله عليه وسلّم وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ أي بالقرآن ولم يعتد بتلك الشواهد الحقة ولم يصدق بها مِنَ الْأَحْزابِ من أهل مكة ومن تحزب معهم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قاله بعضهم، وأخرج عبد الرزاق عن قتادة أن الأحزاب الكفار مطلقا فإنهم تحزبوا على الكفر، وروي ذلك عن ابن جبير، وفي رواية أبي الشيخ عن قتادة أنهم اليهود والنصارى، وقال السدي: هم قريش، وقال مقاتل: هم بنو أمية وبنو المغيرة ابن عبد الله المخزومي وآل أبي طلحة بن عبيد الله فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ أي يردها لا محالة حسبما نطق به قوله سبحانه:
لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وآيات أخر، والموعد اسم مكان الوعد كما في قول حسان:
أوردتموها حياض الموت ضاحية فالنار موعدها والموت لاقيها
وفي جعل النار موعدا إشعار بأن له فيها ما لا يوصف من أفانين العذاب فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ أي في شك من أمر القرآن وكونه من عند الله تعالى غبّ ما شهدت به الشواهد وظهر فضل من تمسك به، أو لا تك في شك من كون النار موعدهم، وادعى بعضهم أنه الأظهر وليس كذلك، وأيا ما كان فالخطاب إن كان عاما لمن يصلح له فالمراد التحريض على النظر الصحيح المزيل للشك، وإن كان للنبي صلّى الله عليه وسلّم فهو بيان لأنه ليس محلا للشك تعريضا بمن شك فيه ولا يلزم من نهيه عليه الصلاة والسلام عنه وقوعه ولا توقعه منه صلّى الله عليه وسلّم، وقرأ السلمي وأبو رجاء وأبو الخطاب السدوسي والحسن مِرْيَةٍ بضم الميم وهي لغة أسد وتميم، والكسر لغة أهل الحجاز إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ أي الذي يربيك في دينك ودنياك وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ بذلك إما لقصور أنظارهم واختلال أفكارهم وإما لاستكبارهم وعنادهم والنَّاسِ على ما روي عن ابن عباس أهل مكة، وقال صاحب الفينان: جميع الكفار، هذا والهمزة في أَفَمَنْ قيل: للتقرير ومن- مبتدأ والخبر محذوف أي أفمن كان كذا كمن يريد الحياة الدنيا وزينتها، وحذف معادل الهمزة ومثله كثير، واختار هذا أبو حيان، والذي يقتضيه كلام الزمخشري- ولعله الأولى- خلافه حيث قال: المعنى أمن كان يريد الحياة الدنيا كمن كان على بينة أي لا يعقبونهم ولا يقاربونهم في المنزلة إلى آخر ما قال، وحاصله على ما في الكشف أن الفاء عاطفة للتعقيب مستدعية ما يعطف عليه وهو الدال عليه قوله سبحانه: مَنْ كانَ الآية، فالتقدير أمن كان يريد الحياة الدنيا على أنها موصولة فمن كان على بينة من ربه، والخبر محذوف لدلالة الفاء أي يعقبونهم أو يقربونهم، والاستفهام للإنكار فيفيد أن لا تقارب بين الفريقين فضلا عن التماثل فلذلك صار أبلغ من نحو قوله تعالى: أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً [السجدة: ١٨] وأما إنها عطف على قوله تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا فلا وجه له لأنه يصير من عطف الجملة، ولا يدل على إنكار التماثل، ولا معنى لتقدير الاستفهام في الأول فإن الشرط والجزاء لا إنكار عليه انتهى، وهو جار على أحد مذهبين للنحاة في مثله، ويعلم مما
230
تقرر أن الآية مرتبطة بقوله سبحانه: مَنْ كانَ إلخ، ومساقها عند شيخ الإسلام للترغيب أيضا فيما ذكر من الإيمان بالقرآن والتوحيد والإسلام، وادعى الطبرسي أنها مرتبطة بقوله تعالى: قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ [هود: ١٣] وأن المراد أنهم إذا لم يأتوا بذلك فقل لهم: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ ولا بينة على ذلك.
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً بأن نسب إليه ما لا يليق به كقولهم: الملائكة بنات الله تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. وقولهم لآلهتهم: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [يونس: ١٨] والمراد من الآية ذم أولئك الكفرة بأنهم مع كفرهم بآيات الله تعالى مفترون عليه سبحانه، ويجوز أن تكون لنوع آخر من الدلالة على أن القرآن ليس بمفترى، فإن من يعلم حال من يفتري على الله سبحانه كيف يرتكبه، وأن تكون من الكلام المنصف أي لا أحد أظلم مني أن أقول لما ليس بكلام الله تعالى إنه كلامه كما زعمتم، أو منكم إن كنتم نفيتم أن يكون كلامه سبحانه مع تحقق أنه كلامه جل وعلا، وفيه من الوعيد والتهويل ما لا يخفى، ويجوز عندي إذا كان ما قبل في مؤمني أهل الكتاب أن يكون هذا في بيان حال كفرتهم الذين أسندوا إليه سبحانه ما لم ينزله من المحرف الذي صنعوه ونفوا عنه سبحانه ما أنزله من القرآن أو من نعت النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأيا ما كان فالمراد نفي أن يكون أظلم من ذلك أو مساويا في الظلم على ما تقدم أُولئِكَ أي الموصوفون بالظلم البالغ وهو الافتراء يُعْرَضُونَ من حيث إنهم موصوفون بذلك عَلى رَبِّهِمْ أي مالكهم الحق والمتصرف فيهم حسبما يريد، وفيه على ما قيل: إيماء إلى بطلان رأيهم في اتخاذهم أربابا من دونه سبحانه وتعالى، وجعل بعضهم الكلام على تقدير المضاف أي تعرض أعمالهم، أو على ارتكاب المجاز ولا يحتاج إلى ذلك على ما أشير إليه لأن عرضهم من تلك الحيثية وبذلك العنوان عرض لأعمالهم على وجه أبلغ فإن عرض العامل بعمله أفظع من عرض عمله مع غيبته، والظاهر أنه لا حذف في قوله سبحانه: عَلى رَبِّهِمْ ويفوض من يقف على الله.
وقيل: هناك مضاف محذوف أي على ملائكة ربهم وأنبياء ربهم وهم المراد بالأشهاد في قوله تعالى: وَيَقُولُ الْأَشْهادُ وتفسيرهم بالملائكة مطلقا هو المروي عن مجاهد، وعن ابن جريج تفسيرهم بالحفظة من الملائكة عليهم السلام، وقيل: المراد بهم الملائكة، والأنبياء، والمؤمنون، وقيل: جوارحهم، وعن مقاتل وقتادة هم جميع أهل الموقف، وهو جمع شاهد بمعنى حاضر- كصاحب وأصحاب- بناء- على جواز جمع فاعل على أفعال، أو جمع شهيد بمعناه كشريف وأشراف أي ويقول الحاضرون عند العرض أو في موقف القيامة هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ ويحتمل أن يكون شهادة على تعيين من صدر منه الكذب كأن وقوعه أمر واضح غني عن الشهادة، وإنما المحتاج إليها ذلك ولذا لم يقولوا: هؤلاء كذبوا بدون الموصول، ويحتمل أن يكون ذما لهم بتلك الفعلة الشنيعة لا شهادة عليهم كما يشعر به قوله تعالى: وَيَقُولُ دون ويشهد، وتوطئة لما يعقبه من قوله تعالى: أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ أي بالافتراء المذكور، والظاهر أن هذا من كلام الأشهاد على الاحتمالين، ويؤيده ما
أخرجه الشيخان وخلق كثير عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن الله تعالى يدني المؤمن حتى يضع كنفه عليه ويستره من الناس ويقرره بذنوبه ويقول له: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: رب أعرف حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه قد هلك قال: فإني قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم ثم يعطي كتاب حسناته، وأما الكفار والمنافقون فيقول: الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين».
وجوز على الاحتمال الأول أن يكون من كلام الله تعالى، وحينئذ يجوز أن يراد بالظالمين ما يعم الظالمين بالافتراء والظالمين بغير ذلك، ويدخل فيه الأولون دخولا أولياء، ويؤيده ما أخرجه ابن أبي حاتم عن ميمون بن مهران
231
قال: إن الرجل ليصلي ويلعن نفسه في قراءته فيقول: ألا لعنة الله على الظالمين وهو ظالم. وربما يجوز ذلك على الاحتمال الثاني أيضا، وأيّا ما كان- فهؤلاء الذين- مبتدأ وخبر، واحتمال أن يكون هؤُلاءِ مبتدأ، والَّذِينَ تابع له، وجملة أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ خبره، وقد أقيم الظاهر مقام المضمر أي عليهم لذمهم بمبدأ الاشتقاق مع الإشارة إلى علة الحكم كما ترى، وجملة- يقول الأشهاد- قيل: مستأنفة على أنها جواب سؤال مقدر كأن سائلا سأل إذ سمع أنهم يعرضون على ربهم ماذا يكون إذ ذاك؟ فأجيب بما ذكر، وقيل وهو الظاهر- إنها معطوفة على جملة يُعْرَضُونَ على معنى أولئك يعرضون ويقول الأشهاد في حقهم، أو ويقول أشهادهم والحاضرون عند عرضهم هؤُلاءِ إلخ، وكأن هذا لبيان أنها مرتبطة في التقدير بالمبتدأ كارتباط الجملة المعطوفة هي عليها به، وقيل: كفى اسم الإشارة القائم مقام الضمير للتحقير رابطا فتدبر.
الَّذِينَ يَصُدُّونَ أي كل من يقدرون على صده أو يفعلون الصد عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي دينه القويم وإطلاق ذلك عليه كالصراط المستقيم مجاز وَيَبْغُونَها عِوَجاً أي يطلبون لها انحرافا، والمراد أنهم يصفونها بذلك وهي أبعد شيء عنه، وإطلاق الطلب على الوصف مجاز من إطلاق السبب على المسبب، ويجوز أن يكون الكلام على حذف مضاف أي يبغون أهلها أن ينحرفوا عنها ويرتدوا، وقيل: المعنى يطلبونها على عوج ونصب عِوَجاً على أنه مفعول به، وقيل: على أنه حال ويؤول بمعوجين وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ أي والحال أنهم لا يؤمنون بالآخرة، وتكرير الضمير لتأكيد كفرهم واختصاصهم به لأنه بمنزلة الفصل فيفيد الاختصاص وضربا من التأكيد، والاختصاص ادعائي مبالغة في كفرهم بالآخرة كأن كفر غيرهم بها ليس بكفر في جنبه، وقيل: إن التكرير للتأكيد وتقديم بِالْآخِرَةِ للتخصيص، والأولى كون تقديمه لرؤوس الآي.
أُولئِكَ الموصوفون بما يوجب التدمير لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ لله تعالى مفلتين أنفسهم من أخذه لو أراد ذلك فِي الْأَرْضِ مع سعتها وإن هربوا منها كل مهرب بعضهم كناية عن الدنيا وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ينصرونهم من بأسه ولكن أخر ذلك لحكمة تقتضيه. ومِنْ زائدة لاستغراق النفي، وجمع أَوْلِياءَ إما باعتبار أفراد الكفرة كأنه قيل: وما كان لأحد منهم من ولي، أو باعتبار تعدد ما كانوا يدعون من دون الله تعالى فيكون ذلك بيانا لحال آلهتهم من سقوطها عن رتبة الولاية يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ جملة مستأنفة بين فيها ما يكون لهم ويحل بهم، وادعى أنها تتضمن حكمة تأخير المؤاخذة، وزعم بعضهم أنها من كلام الأشهاد، وهي دعائية ليس بشيء.
وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب- «يضعّف» - بالتشديد ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ أي إنهم كانوا يستثقلون سماع الحق الذي جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلّم ويستكرهونه إلى أقصى الغايات حتى كأنهم لا يستطيعونه، وهو نظير قول القائل: العاشق لا يستطيع أن يسمع كلام العاذل، ففي الكلام استعارة تصريحية تبعية، ولا مانع من اعتبار الاستعارة التمثيلية بدلها وإن قيل به، وبالجملة لا ترد الآية على المعتزلة وكذا على أهل السنة لأنهم لا ينفون الاستطاعة رأسا وإن منعوا إيجاد العبد لشيء ما، وكأنه لما كان قبح حالهم في عدم إذعانهم للقرآن الذي طريق تلقيه السمع أشد منه في عدم قبولهم سائر الآيات المنوطة بالإبصار. بالغ سبحانه في نفي الأول عنهم حسبما علمت واكتفى في الثاني بنفي الإبصار فقال عز قائلا: وَما كانُوا يُبْصِرُونَ أي أنهم كانوا يتعامون عن آيات الله تعالى المبسوطة في الأنفس والآفاق، وكأن الجملة جواب سؤال مقدر عن علة مضاعفة العذاب كأنه قيل: ما لهم استوجبوا تلك المضاعفة؟ فقيل:
لأنهم كرهوا الحق أشد الكراهة واستثقلوا سماعه أعظم الاستثقال وتعاموا عن آيات الملك المتعال، ولا يشكل على
232
هذا قوله سبحانه: مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [الأنعام: ١٦٠] بناء على أن المراد بمثل السيئة ما تقتضيه من العقاب عند الله تعالى فلعل ما فعلوه من السيئات يقتضي تلك المضاعفة فتكون هي المثل كما أن مثل سيئة الكفر هو الخلود في النار، وقيل: إن المضاعفة لافترائهم وكذبهم على ربهم وصدّهم عن سبيل الله تعالى وبغيهم إياها العوج وكفرهم بالآخرة- على ما يدل عليه نسبة مضاعفة العذاب إلى هؤلاء الموصوفين بتلك الصفات- وبه جمع بين ما هنا وقوله سبحانه: مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ [الأنعام: ١٠٦] الآية، ولعل التعليل بما تفيده الجملة على هذا لأنه الأصل الأصيل لسائر قبائحهم ومعاصيهم.
وزعم بعضهم أن المضاعفة لحفظ الأصل إذ لولا ذلك لارتفع ولم يبق عذابا للألف بطول الأمد وفيه ما فيه، وقيل: إن الجملة بيان لما نفي من ولاية الآلهة فإن ما لا يسمع ولا يبصر بمعزل عن الولاية وقوله سبحانه: يُضاعَفُ إلخ اعتراض وسط بينهما نعيا عليهم من أول الأمر بسوء العاقبة، وفيه أنه مخالف للسياق ومستلزم تفكيك الضمائر، وجوز أبو البقاء أن تكون ما مصدرية ظرفية أي يضاعف لهم العذاب مدة استطاعتهم السمع وإبصارهم، والمعنى أن العذاب وتضعيفه دائم لهم متماد، وأجاز الفراء أن تكون مصدرية وحذف حرف الجر منها كما يحذف من أن وأن، وفيه بعد لفظا ومعنى أُولئِكَ
الموصوفون بتلك القبائح.
الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ
باشتراء عبادة الآلهة بعبادة الله تعالى شأنه، وقيل: خَسِرُوا
بسبب تبديلهم الهداية بالضلالة والآخرة بالدنيا وضاع عنهم ما حصلوه بذلك التبديل من متاع الحياة الدنيا والرياسة.
وفي البحر أنه على حذف مضاف أي خَسِرُوا
سعادة أنفسهم وراحتها فإن أنفسهم باقية معذبة.
وتعقب بأن إبقاءه على ظاهره أولى لأن البقاء في العذاب كلا بقاء وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ
من الآلهة وشفاعتها لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ أي لا أحد أبين أو أكثر خسرانا منهم، فأفعل للزيادة إما في الكم أو الكيف، وتعريف المسند بلام الجنس لإفادة الحصر، وإن جعل هُمُ ضمير فصل أفاد تأكيد الاختصاص، وإن جعل مبتدأ وما بعده خبره والجملة خبر أن أفاد تأكيد الحكم، وفي لا جَرَمَ أقوال: ففي البحر عن الزجاج أن- لا- نافية ومنفيها محذوف أي لا ينفعهم فعلهم مثلا، وجرم- فعل ماض بمعنى كسب يقال: جرمت الذنب إذا كسبته وقال الشاعر:
نصبنا رأسه في جذع نخل بما «جرمت» يداه وما اعتدينا
وما بعده مفعوله، وفاعله ما دل عليه الكلام أي كسب ذلك أظهرية أو أكثرية خسرانهم، وحكي هذا عن الأزهري، ونقل عن سيبويه أن- لا- نافية حسبما نقل عن الزجاج، وجرم- فعل ماض بمعنى حق، وما بعد فاعله كأنه قيل: لا ينفعهم ذلك الفعل حق أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ إلخ.
وذكر أبو حيان أن مذهب سيبويه وكذا الخليل أيضا كون مجموع لا جَرَمَ بمعنى حق وأن ما بعده رفع به على الفاعلية، وقيل: لا صلة وجَرَمَ فعل بمعنى كسب أو حق، وعن الكسائي أن لا نافية وجَرَمَ اسمها مبني معها على الفتح نحو لا رجل، والمعنى لا ضد ولا منع، والظاهر أن الخبر على هذا محذوف وحذف حرف الجر من أن ويقدر حسبما يقتضيه المعنى، وقيل: إن جَرَمَ اسم لا ومعناه القطع من جرمت الشيء أي قطعته، والمعنى لا قطع لثبوت أكثرية خسرانهم أي إن ذلك لا ينقطع في وقت فيكون خلافه.
ونقل السيرافي عن الزجاج أن لا جَرَمَ في الأصل بمعنى لا يدخلنكم في الجرم أي الإثم كإثمه أي أدخله في الإثم، ثم كثر استعماله حتى صار بمعنى لا بد، ونقل هذا المعنى عن الفراء، وفي البحر أن جَرَمَ عليه اسم
233
لا، وقيل: إن جَرَمَ بمعنى باطل إما على أنه موضوع له، وإما أنه بمعنى كسب والباطل محتاج له، ومن هنا يفسر لا جَرَمَ بمعنى حقا لأن الحق نقيض الباطل، وصار لا باطل يمينا كلا كذب في
قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أنا النبي لا كذب»
وفي القاموس أنه يقال: لا جَرَمَ ولاذا جرم ولا أن ذا جرم ولا عن ذا جرم ولا جرم ككرم، ولا جَرَمَ بالضم أي لا بد أو حقا أو لا محالة وهذا أصله ثم كثر حتى تحول إلى معنى القسم فلذلك يجاب عنه باللام، فيقال:
لا جَرَمَ لآتينك انتهى، وفيه مخالفة لما نقله السيرافي عن الزجاج، وما ذكره من لا جَرَمَ ككرم رواه بعضهم عن أبي عمرو في الآية، ومن لا ذا جرم حكاه الفراء عن بني عامر، وحكي أيضا لا جَرَمَ بالضم عن أناس من العرب، ولكن قال الشهاب: إن في ثبوت هذه اللغة في فصيح كلامهم ترددا، وجرم فيها يحتمل أن يكون اسما وأن يكون فعلا مجهولا سكن للتخفيف، وحكى بعضهم لا ذو جرم ولا عن جرم ولا جر بحذف الميم لكثرة الاستعمال كما حذفت الفاء من سوف لذلك في قولهم: سو ترى.
والظاهر أن المقحمات بين لا وجَرَمَ زائدة، وإليه يشير كلام بعضهم، وحكي بغير لا جرم أنك أنت فعلت ذاك، ولعل المراد أن كونك الفاعل لا يحتاج إلى أن يقال فيه لا جرم فليراجع ذاك والله تعالى يتولى هداك.
ثم إنه تعالى لما ذكر طريق الكفار وأعمالهم وبين مصيرهم وما لهم شرع في شرح حال أضدادهم وهم المؤمنون وبيان ما لهم من العواقب الحميدة تكملة لما سلف من محاسن المؤمنين المذكورة عند جمع في قوله سبحانه: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ الآية ليتبين ما بينهما من التباين البين حالا ومآلا فقال عز من قائل:
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا أي صدقوا بكل ما يجب التصديق به من القرآن وغيره ولا يكون ذلك إلا باستماع الحق ومشاهدة الآيات الآفاقية والأنفسية والتدبر فيها، أو المعنى فعلوا الإيمان واتصفوا به كما في فلان يعطي ويمنع وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي الأعمال الصالحات ولعل المراد بها ما يشمل الترغيب في سلوك سبيل الله عز وجل ونحوه مما على ضده فريق الكفار وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أي اطمأنوا إليه سبحانه وخشعوا له، وأصل الإخبات نزول الخبت وهو المنخفض من الأرض، ثم أطلق على اطمئنان النفس والخشوع تشبيها للمعقول بالمحسوس ثم صار حقيقة فيه، ومنه الخبيت بالتاء المثناة للدنيء، وقيل: إن التاء بدل من الثاء المثلثة أُولئِكَ المنعوتون بتلك النعوت الجليلة الشأن أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ دائمون أبدا وليس المراد حصر الخلود فيها لأن العصاة من المؤمنين يدخلون الجنة عند أهل الحق ويخلدون فيها، ولعل من يدعي ذلك يريد بنفي الخلود عن العصاة نقصه من أوله كما قيل به فيما ستسمعه إن شاء الله تعالى مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ المذكورين من المؤمنين والكفار أي حالهما العجيب، وأصل المثل كالمثل النظير ثم استعير لقول شبه مضربه بمورده ولا يكون إلا لما فيه غرابة وصار في ذلك حقيقة عرفية، ومن هنا يستعار للقصة والحال والصفة العجيبة.
كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ أي كحال من جمع بين العمى والصمم، ومن جمع بين البصر والسمع فهناك تشبيهان: الأول تشبيه حال الكفرة الموصوفين بالتعامي والتصام عن آيات الله تعالى بحال من خلق أعمى أصم لا تنفعه عبارة ولا إشارة، والثاني تشبيه حال الذين آمنوا وعملوا الصالحات فانتفعوا بأسماعهم وأبصارهم اهتداء إلى الجنة وانكفاء عما كانوا خابطين فيه من ضلال الكفر والدجنة بحال من هو بصير سميع يستضيء بالأنوار في الظلام ويستفيء بمغانم الإنذار والإبشار فوزا بالمرام، والعطف لتنزيل تغاير الصفات منزلة تغاير الذوات كما في قوله:
يا لهف زيابة للحرث الص... ابح فالغانم فالآيب
ويحتمل أن يكون هناك أربع تشبيهات بأن يعتبر تشبيه حال كل من الفريقين الفريق الكافر والفريق المؤمن بحال
234
اثنين أي مثل الفريق الكافر كالأعمى ومثله أيضا كالأصم، ومثل الفريق المؤمن كالبصير ومثله أيضا كالسميع، وقد يعتبر تنويع كل من الفريقين إلى نوعين فيشبه نوع من الكفار بالأعمى ونوع منهم بالأصم ويشبه نوع من المؤمنين بالبصير ونوع منهم بالسميع، واستبعد ذلك إذ تقسيم الكفار إلى مشبه بالأول ومشبه بالثاني وكذلك المؤمنون غير مقصود البتة بدليل نظائره في الآيات الأخر كقوله سبحانه: وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ [فاطر: ١٩، غافر: ٥٨] وكقوله تعالى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ [البقرة: ٧] في الكفار الخلص، وقوله تبارك وتعالى: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ [البقرة:
١٨، ١٧١] في المنافقين، وللآية على احتمالاتها شبه في الجملة بقول امرئ القيس:
كأن قلوب الطير رطبا ويابسا لدى وكرها العناب والحشف البالي
فتدبره، وقد يعتبر التشبيه تمثيليا بأن ينتزع من حال الفريق الأول في تصامهم وتعاميهم المذكورين ووقوعهم بسبب ذلك في العذاب المضاعف والخسران الذي لا خسران فوقه هيئة منتزعة ممن فقد مشعري البصر والسمع فتخبط في مسلكه فوقع في مهاوي الردى ولم يجد إلى مقصده سبيلا، وينتزع من حال الفريق الثاني في استعمال مشاعرهم في آيات الله تعالى حسبما ينبغي وفوزهم بدار الخلود هيئة تشبه بهيئة منتزعة ممن له بصر وسمع يستعملهما في مهماته فيهتدي إلى سبيله وينال مرامه، ولا يخفى أنه خلاف الظاهر. ولعل أظهر الاحتمالات ما أشير إليه أولا، والكلام من باب اللف والنشر، واللف إما تقديري إن اعتبر في الفريقين لأنه في قوة الكافرين والمؤمنين، أو تحقيقي إن اعتبر فيما دل عليه قوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى إلخ، وقوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا الآية، وأمر النشر ظاهر، ولا يخفى ما فيه من الطباق بين الأعمى والبصير وبين الأصم والسميع، وقدم ما للكافرين قيل: مراعاة لما تقدم ولأن السياق لبيان حالهم، وقدم الأعمى على الأصم لكونه أظهر وأشهر في سوء الحال منه.
وفي البحر إنما لم يجىء التركيب كالأعمى والبصير، والأصم والسميع ليكون كل من المتقابلين على إثر مقابلة لأنه تعالى لما ذكر انسداد العين أتبعه بانسداد السمع، ولما ذكر انفتاح البصر أتبعه بانفتاح السمع وذلك هو الأسلوب في المقابلة والأتم في الإعجاز، وسيأتي إن شاء الله تعالى نظير ذلك في قوله سبحانه: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى [طه: ١١٨، ١١٩] ثم الظاهر مما تقدم أن الكلام على حذف مضاف وهو مجرور بالكاف، والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع خبرا عن مثل.
وجوز أن تكون الكاف نفسها خبر المبتدأ ويكون معناها معنى المثل، ولا حاجة إلى تقدير مضاف أي مثل الفريقين مثل الأعمى والأصم والبصير والسميع هَلْ يَسْتَوِيانِ يعني الفريقين المذكورين، والاستفهام إنكاري مذكر على ما قيل: لما سبق من إنكار المماثلة في قوله سبحانه: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ إلخ مَثَلًا أي حالا وصفة ونصبه على التمييز المحول عن الفاعل، والأصل هل يستوي مثلهما.
وجوز ابن عطية أن يكون حالا، وفيه بعد أَفَلا تَذَكَّرُونَ أي أتشكون في عدم الاستواء وما بينهما من التباين أو تغفلون عنه فلا تتذكرونه بالتأمل فيما ذكر لكم من المثل، فالهمزة للاستفهام الإنكاري وهو وارد على المعطوفين معا أو أتسمعون هذا فلا تتذكرون فيكون الإنكار واردا على عدم التذكر بعد تحقق ما يوجب وجوده وهو المثل المضروب أي أفلا تفعلون التذكر، أو أفلا تعقلون، ومعنى إنكار عدم التذكر استبعاده من المخاطبين وأنه مما لا يصح أن يقع، وليس من قبيل الإنكار في أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وهَلْ يَسْتَوِيانِ فإن ذلك لنفي المماثلة ونفي الاستواء، ثم إنه تعالى شرع في ذكر قصص الأنبياء الداعين إلى الله تعالى وبيان حالهم مع أممهم ليزداد صلّى الله عليه وسلّم تشميرا في الدعوة وتحملا لما يقاسيه من المعاندين، فقال عز من قائل: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ الواو ابتدائية
235
واللام واقعة في جواب قسم محذوف ويقدر حرفه ياء لا واو وإن كان هو الشائع لئلا يجتمع واوان. وبعضهم يقدرها- ولا يبالي بذلك..
ونوح في المشهور ابن لمك بن متوشلخ بن إدريس عليه السلام وأنه أول نبي بعث بعده قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: بعث عليه السلام على رأس أربعين من عمره ولبث يدعو قومه ما قص الله تعالى ألف سنة إلا خمسين عاما وعاش بعد الطوفان ستين سنة وكان عمره ألفا وخمسين سنة. وقال مقاتل: بعث وهو ابن مائة سنة، وقيل: ابن خمسين، وقيل: ابن مائتين وخمسين ومكث يدعو قومه ما قص سبحانه وعاش بعد الطوفان مائتين وخمسين سنة فكان عمره ألفا وأربعمائة وخمسين سنة إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ بالكسر على إرادة القول أي فقال أو قائلا.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بالفتح على إضمار حرف الجر أي ملتبسا بذلك الكلام وهو إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ فلما اتصل الجار فتح كما فتح في كان، والمعنى على الكسر وهو قولك: إن زيدا كالأسد بناء على أن كان مركبة وليست حرفا برأسه، وليس في ذلك خروج من الغيبة إلى الخطاب خلافا لأبي علي، ولعل الاقتصار على ذكر كونه عليه السلام نذيرا لأنهم لم يغتنموا مغانم إبشاره عليه السلام مُبِينٌ أي موضح لكم موجبات العذاب ووجه الخلاص منه أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ أي بأن لا تعبدوا إلا الله على أن أَنْ مصدرية والباء متعلقة- بأرسلنا- ولا ناهية أي أرسلناه ملتبسا بنهيهم عن الإشراك إلا أنه وسط بينهما بيان بعض أوصافه ليكون أدخل في القبول ولم يفعل ذلك في صدر السورة لئلا يكون من قبيل الفصل بين الشجر ولحائه، وجوز كون أَنْ وما بعدها في تأويل مصدر مفعولا- لمبين- أي مبينا النهي عن الإشراك، ويجوز أن تكون أَنْ مفسرة متعلقة- بأرسلنا- أو- بنذير- أو- بمبين- أي أرسلناه بشيء أو نذير بشيء أو مبين شيئا هو أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ لكن قيل: الإنذار في هذا غير ظاهر وهذا على قراءة الكسر فيما مر، وأما على قراءة الفتح فإن لا إلخ بدل من إِنِّي لَكُمْ إلخ ويقدر القول بعد أَنْ فيكون التقدير أرسلناه بقوله: إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ، وبقوله لا تَعْبُدُوا فهو بدل البعض أو الكل على المبالغة، وادعاء أَنْ الإنذار كله هو، وجاز أن لا يقدر القول، فالأظهر حينئذ بدل الاشتمال، ومن زعم أنه كذلك مطلقا إذ لا علاقة بينهما بجزئية أو كلية فقد غفل عن أنه على تقدير القول يكون قوله تعالى: إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ المعلل به النهي من جملة المقول، وهو إنذار خاص فيكون ذلك بعضا له أو كلّا على الادعاء، والظاهر أن المراد- باليوم- يوم القيامة، وجوز أن يكون يوم الطوفان، ووصفه- بالأليم- أي المؤلم على الإسناد المجازي لأن المؤلم هو الله سبحانه نزل الظرف منزلة الفاعل نفسه لكثرة وقوع الفعل فيه، فجعل كأنه وقع الفعل منه، وكذا وصف العذاب بذلك في غير موضع من القرآن العظيم ويمكن اعتباره هنا أيضا، وجعل الجر للجوار، ووجه التجوز حينئذ أنه جعل وصف الشيء لقوة تلبسه به كأنه عينه فأسند إليه ما يسند إلى الفاعل، ونظير ذلك على الوجهين نهاره صائم، وجد جده، وقد يقال: إن وصف العذاب بالإيلام حقيقة عرفية ومثله يعدّ فاعلا في اللغة، فيقال:
آلمه العذاب من غير تجوز، قيل: وهذه المقالة- وكذا ما في معناها- مما قص في غير آية لما لم تصدر عنه عليه السلام مرة واحدة بل كان يكررها في مدته المتطاولة حسبما نطق به قوله تعالى حكاية عنه: رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً [نوح: ٥] الآيات عطف على فعل الإرسال المقارن لها أو القول المقدر بعده جوابهم المتعرض لأحوال المؤمنين الذين اتبعوه بعد اللتيا والتي بالفاء التعقيبية فقال سبحانه: فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ أي الأشراف منهم- وهو كما قال غير واحد- من قولهم: فلان مليء بكذا إذا كان قادرا عليه لأنهم ملئوا بكفاية الأمور وتدبيرها، أو لأنهم متمالئون أي متظاهرون متعاونون، أو لأنهم يملؤون القلوب جلالا والعيون جمالا والأكف نوالا، أو
236
لأنهم مملؤون بالآراء الصائبة والأحلام الراجحة على أنه من الملأ لازما، ومتعديا ووصفهم بالكفر لذمهم والتسجيل عليهم بذلك من أول الأمر لا لأن بعض أشرافهم ليسوا بكفرة.
ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا أرادوا ما أنت إلا بشر مثلنا ليس فيك مزية تخصك من بيننا بالنبوة ولو كان ذلك لرأيناه لا أن ذلك محتمل لكن لا نراه، وكذا الحال في وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ فالفعلان من رؤية العين- وبشرا واتبعك- حالان من المفعول بتقدير قد في الثاني أو بدونه على الخلاف ويجوز أن يكونا من رؤية القلب وهو الظاهر فهما حينئذ المفعول الثاني، وتعلق الرأي في الأول بالمثلية لا البشرية فقط، ويفهم من الكشاف أن في الآية وجهين: الأول أنهم أرادوا التعريض بأنهم أحق بالنبوة كأنهم قالوا: هب أنك مثلنا في الفضيلة والمزية من كثرة المال والجاه فلم اختصصت بالنبوة من دوننا، والثاني أنهم أرادوا أنه ينبغي أن يكون ملكا لا بشرا، وتعقب هذا بأن فيه اعتزالا خفيا، وقد بينه العلامة الطيبي، ونوزع في ذلك ففي الكشف أن قولهم مِثْلَنا علية لتحقيق البشرية، وقولهم وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إلخ استدلال بأنهم ضعفاء العقول لا تمييز لهم، فجوّزوا أن يكون الرسول بشرا وقولهم الآتي وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ تسجيل بأن دعوى النبوة باطلة- لإدخاله عليه السلام والأراذل- في سلك على أسلوب يدل على أنهم أنقص البشر فضلا عن الارتقاء، وليس في هذا الكلام اعتزال خفي ولا المقام عنه أبي انتهى.
وفي الانتصاف يجوز أن يكونوا قد أرادوا الوجهين جميعا كأنهم قالوا: من حق الرسول أن يكون ملكا لا بشرا وأنت بشر، وإن جاز أن يكون الرسول بشرا فنحن أحق منك بالرسالة، ويشهد لإرادتهم الأولى قوله في الجواب وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ ويشهد لإرادتهم الثانية وَما نَرى لَكُمْ إلخ، والظاهر أن مقصودهم ليس إلا إثبات أنه عليه السلام مثلهم وليس فيه مزية يترتب عليها النبوة ووجوب الإطاعة والاتباع، ولعل قولهم وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إلخ جواب عما يرد عليهم من أنه عليه السلام ليس مثلهم حيث اتبعه من وفق لاتباعه، فكأنهم قالوا: إنه لم يميزك اتباع من اتبعك فيوجب علينا اتباعك لأنه لم يتبعك إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا أي أخساؤنا وأدانينا، وهو جمع أرذل والأغلب الأقيس في مثله إذا أريد جمعه أن يجمع جمع سلامة كالأخسرون جمع أخسر لكنه كسر هنا لأنه صار بالغلبة جاريا مجرى الاسم، ولذا جعل في القاموس الرذل والأرذل بمعنى وهو الخسيس الدنيء، ومعنى جريانه مجرى الاسم أنه لا يكاد يذكر الموصوف معه كالأبطح والأبرق.
وجوز أن يكون جمع أرذل جمع رذل فهو جمع الجمع ونظير ذلك أكالب وأكلب وكلب وكونه جمع رذل مخالف للقياس وإنما لم يقولوا: إلا أراذلنا مبالغة في استرذالهم وكأنهم إنما استرذلوهم لفقرهم لأنهم لما لم يعلموا إلا ظاهرا من الحياة الدنيا كان الأشرف عندهم الأكثر منها حظا والأرذل من حرمها ولم يفقهوا أن الدنيا بحذافيرها لا تعدل عند الله تعالى جناح بعوضة وأن النعيم إنما هو نعيم الآخرة. والأشرف من فاز به والأرذل من حرمه، ومثل هؤلاء في الجهل كثير من أهل هذا الزمان عافانا الله سبحانه مما هم فيه من الخذلان والحرمان وكان القوم على ما في بعض الأخبار حاكة وأساكفة وحجامين وأرادوا بقولهم بادِيَ الرَّأْيِ ظاهره وهو ما يكون من غير تعمق، والرأي من رؤية الفكر والتأمل، وقيل: من رؤية العين وليس بذاك.
وجوز أن يكون البادي بمعنى الأول، وهو على الأول من البدو، وعلى الثاني من البدء، والباء مبدلة من الهمزة لانكسار ما قبلها وقد قرأ أبو عمرو وعيسى الثقفي بها، وانتصابه على القراءتين على الظرفية- لاتبعك- على معنى اتبعوك في ظاهر رأيهم أو أوله ولم يتأملوا ولم يتثبتوا ولو فعلوا ذلك لم يتبعوك وغرضهم من هذا المبالغة في عدم اعتبار
237
ذلك الاتباع وجعل ذلك بعضهم علة الاسترذال وليس بشيء، وقيل: المعنى أنهم اتبعوك في أول رأيهم أو ظاهره وليسوا معك في الباطن.
واستشكل هذا التعليق بأن ما قبل إِلَّا لا يعمل فيما بعدها إلا إذا كان مستثنى منه نحو ما قام إلا زيدا القوم أو مستثنى نحو جاء القوم إلا زيدا أو تابعا للمستثنى منه نحو ما جاءني أحد إلا زيدا خير من عمرو، وبادِيَ الرَّأْيِ ليس واحدا من هذه الثلاثة في بادي الرأي وأجيب بأنه يغتفر ذلك في الظرف لأنه يتسع فيه ما لا يتسع في غيره، واستشكل أمر الظرفية بأن فاعلا ليس بظرف في الأصل، وقال مكي: إنما جاز في فاعل أن يكون ظرفا كما جاز في فعيل كقريب، ومليء لإضافته إلى الرأي وهو كثيرا ما يضاف إلى المصدر الذي يجوز نصبه على الظرفية نحو جهد رأيي أنك منطلق.
وقال الزمخشري:- وتابعه غيره- أن الأصل وقت حدوث أول أمرهم أو وقت حدوث ظاهر رأيهم فحذف ذلك وأقيم المضاف إليه مقامه، ولعل تقدير الوقت ليكون نائبا عن الظرف فينتصب على الظرفية، واعتبار الحدوث بناء على أن اسم الفاعل لا ينوب عن الظرف وينتصب والمصدر ينوب عنه كثيرا فأشاروا بذكره إلى أنه متضمن معنى الحدوث بمعنييه فلذا جاز فيه ذلك، وليس مرادهم أنه محذوف إذ لا داعي لذلك في المعنى على التفسيرين، وما ذكروه هنا من أن الصفات لا ينوب منها عن الظرف إلا فعيل من الفوائد الغريبة- كما قال الشهاب- لكن استدركه بالمنع لأن فاعلا وقع ظرفا كثيرا كفعيل، وذلك مثل خارج الدار وباطن الأمر وظاهره وغير ذلك مما هو كثير في كلامهم، وقيل: هو ظرف- لنراك- أي ما نراك في أول رأينا أو فيما يظهر منه، وقيل: لأراذلنا أي أنهم أراذل في أول النظر أو ظاهره لأن رذالتهم مكشوفة لا تحتاج إلى تأمل.
وقيل: هو نعت- لبشرا- وقيل: منصوب على أنه حال من ضمير نوح في اتَّبَعَكَ أي وأنت مكشوف الرأي لا حصافة فيك، وقيل: انتصب على النداء لنوح عليه السلام أي- يا بادي الرأي- أي ما في نفسك من الرأي ظاهر لكل أحد، وقيل: هو مصدر على فاعل منصوب على المفعولية المطلقة والعامل فيه ما تقدم على تقدير الظرفية.
وَما نَرى لَكُمْ خطاب له عليه السلام ولمتبعيه جميعا على سبيل التغليب أي وما نرى لك ولمتبعيك.
عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ أي زيادة تؤهلكم لاتباعنا لكم، وعن ابن عباس تفسير ذلك بالزيادة في الخلق والخلق، وعن بعضهم تفسيره بكثرة الملك والملك، ولعل ما ذكرناه أولى، وكأنّ مرادهم نفي رؤية فَضْلٍ بعد الاتباع أي ما نرى فيك وفيهم بعد الاتباع فضيلة علينا لنتبع وإلا فهم قد نفوا أولا أفضليته عليه السلام في قولهم ما نَراكَ إلخ وصرحوا بأن متبعيه- وحاشاهم- أراذل، وهو مستلزم لنفي رؤية فَضْلٍ لهم عليهم، وقيل: إن هذا تأكيد لما فهم أولا، وقيل: الخطاب لأتباعه عليه السلام فقط فيكون التفاتا أي ما نرى لكم علينا شرف في تلك التبعية لنوافقكم فيها، وحمل الفضل على التفضل والإحسان في احتمالي الخطاب على أن يكون مراد الملأ من جوابهم له عليه السلام حين دعاهم إلى ما دعاهم إليه أنا لا نتبعك ولا نترك ما نحن عليه لقولك لأنك بشر مثلنا ليس فيك ما يستدعي نبوتك وكونك رسول الله تعالى إلينا بذلك وأتباعك أراذل اتبعوك من غير تأمل وتثبت فلا يدل اتباعهم على أن فيك ما يستدعي ذلك وخفي عنا، وأيضا لست ذا تفضل علينا ليكون تفضلك داعيا لنا لموافقتك كيفما كنت ولا أتباعك ذوو تفضل علينا لتوافقهم وإن كانوا أراذل مراعاة لحق التفضل، فإن الإنسان قد يوافق الرذيل لتفضله ولا يبالي بكونه رذيلا لذلك مما يدور في الخلد إلا أن في القلب منه شيئا بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ جميعا لكون كلامكم واحدا ودعوتكم واحدة أو إياك في دعوى النبوة وإياهم في تصديقك، قيل: واقتصروا على الظن احترازا منهم عن نسبتهم إلى المجازفة كما
238
أنهم عبروا بما عبروا أولا لذلك مع التعريض من أول الأمر برأي المتبعين ومجاراة معه عليه السلام بطريق الآراء على نهج الإنصاف قالَ استئناف بياني يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ أي أخبروني، وفيه إيماء إلى ركاكة رأيهم المذكور إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ حجة ظاهرة مِنْ رَبِّي وشاهد يشهد لي بصحة دعواي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ هي النبوة على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وجوز أن تكون هي البينة نفسها جيء بها إيذانا بأنها مع كونها بينة من الله تعالى رحمة ونعمة عظيمة منه سبحانه، ووجه إفراد الضمير في قوله تعالى: فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أي أخفيت على هذا ظاهر، وإن أريد بها النبوة وبالبينة البرهان الدال على صحتها فالافراد لإرادة كل واحدة منهما، أو لكون الضمير للبينة والاكتفاء بذلك لاستلزام خفاء البينة خفاء المدعى، وجملة وَآتانِي رَحْمَةً على هذا معترضة أو لكونه للرحمة، وفي الكلام مقدر أي أخفيت الرحمة بعد إخفاء البينة وما يدل عليها وحذف للاختصار، وقيل: إنه معتبر في المعنى دون تقدير، أو لتقدير- عميت- غير المذكور بعد لفظ البينة وحذف اختصارا، وفيه تقدير جملة قبل الدليل.
وقرأ أكثر السبعة «فعميت» بفتح العين وتخفيف الميم مبنيا للفاعل، وهو من العمى ضد البصر، والمراد به هذا الخفاء مجازا يقال: حجة عمياء كما يقال: مبصرة للواضحة، وفي الكلام استعارة تبعية من حيث إنه شبه خفاء الدليل بالعمى في أن كلّا منهما يمنع الوصول إلى المقاصد، ثم فعل ما لا يخفى عليك، وجوز أن يكون هناك استعارة تمثيلية بأن شبه الذي لا يهتدي بالحجة لخفائها عليه بمن سلك مفازة لا يعرف طرقها واتبع دليلا أعمى فيها، وقيل: الكلام على القلب، والأصل فعميتم عنها كما تقول العرب: أدخلت القلنسوة في رأسي، ومنه قول الشاعر:
ترى الثور فيها يدخل الظل رأسه
وقوله سبحانه: فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ [إبراهيم: ٤٧] وتعقبه أبو حيان بأن القلب عند أصحابنا مطلقا لا يجوز إلا في الضرورة، وقول الشاعر ليس منه بل من باب الاتساع في الظرف، وكذا الآية ليست منه أيضا لأن أخلف يتعدى إلى المفعولين، والوصف منه كذلك ولك أن تضيفه إلى أيهما شئت على أنه لو كان ما ذكر من القلب لكان التعدي بعن دون على، ألا ترى أنك تقول: عميت عن كذا ولا تقول: عميت على كذا.
وروى الأعمش عن وثاب- وعميت- بالواو الخفيفة، وقرأ أبيّ والسلمي والحسن وغيرهم فعماها عليكم على أن الفعل لله تعالى، وقرىء بالتصريح به وظاهر ذلك مع أهل السنة القائلين بأن الحسن والقبيح منه تعالى، ولذا أوله الزمخشري حفظا لعقيدته أَنُلْزِمُكُمُوها أي أنكرهكم على الاهتداء بها وهو جواب أرأيتم وساد مسد جواب الشرط.
وفي البحر أنه في موضع المفعول الثاني له ومفعول الأول البينة مقدرا وجواب الشرط محذوف دل عليه أَرَأَيْتُمْ أي إِنْ كُنْتُ إلخ فأخبروني وحيث اجتمع ضميران منصوبان وقد قدم أعرفهما- وهو ضمير المخاطب الأعرف من ضمير الغائب- جاز في الثاني الوصل والفصل فيجوز في غير القرآن أنلزمكم إياها وهو الذي ذهب إليه ابن مالك في التسهيل ووافقه عليه بعضهم، وقال ابن أبي الربيع: يجب الوصل في مثل ذلك ويشهد له قول سيبويه في الكتاب: فإذا كان المفعولان اللذان تعدى إليهما فعل الفاعل مخاطبا وغائبا فبدأت بالمخاطب قبل الغائب فإن علامة الغائب العلامة التي لا يقع موقعها إياه وذلك نحو أعطيتكه وقد أعطاكه، قال الله تعالى: أَنُلْزِمُكُمُوها فهذا كهذا إذ بدأت بالمخاطب قبل الغائب انتهى، ولو قدم الغائب وجب الانفصال على الصحيح فيقال: أنلزمها إياكم.
وأجاز بعضهم الاتصال، واستشهد بقول عثمان رضي الله تعالى عنه: أراهمني، ولم يقل: أراهم إياي، وتمام الكلام على ذلك في محله، وجيء بالواو تتمة لميم الجمع، وحكي عن أبي عمرو إسكان الميم الأولى تخفيفا،
239
ويجوز مثل ذلك عند الفراء، وقال الزجاج: أجمع النحويون البصريون على أنه لا يجوز إسكان حركة الإعراب إلا في ضرورة الشعر كقوله:
فاليوم أشرب غير مستحقب إثما من الله ولا واغل
وقوله:
وناع يخبرنا بمهلك سيد تقطع من وجد عليه الأنامل
وأما ما روي عن أبي عمرو من الإسكان فلم يضبطه عنه الراوي، وقد روى عنه سيبويه أنه كان يخفف الحركة ويختلسها وهذا هو الحق، وذكر نحو ذلك الزمخشري، وقال: إن الإسكان الصريح لحن عند الخليل، وسيبويه، وحذاق البصريين، وفي قراءة أبيّ «أنلزمكموها» من شطر أنفسنا، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قرأ من شطر قلوبنا أي من تلقائها وجهتها، وفي البحر أن ذلك على جهة التفسير لا على أنه قرآن لمخالفته سواد المصحف وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ أي لا تختارونها ولا تتأملون فيها، والجملة في موضع الحال قال السمين: إما من الفاعل، أو من أحد المفعولين، واختير أنها في موضع الحال من ضمير المخاطبين، وقدم الجار رعاية للفواصل، ومحصول الجواب أخبروني إن كنت على حجة ظاهرة الدلالة على صحة دعواي إلا أنها خافية عليكم غير مسلمة لديكم أيمكننا أن نكرهكم على قبولها وأنتم معرضون عنها غير متدبرين فيها أي لا يكون ذلك- كذا قرره شيخ الإسلام- ثم قال:
وظاهره مشعر بصدوره عنه عليه السلام بطريق إظهار اليأس عن إلزامهم والقعود عن محاجتهم كقوله: وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي [هود: ٣٤] إلخ لكنه محمول على أن مراده عليه السلام ردهم عن الإعراض عنها وحثهم على التدبر فيها بصرف الإنكار المستفاد من الهمزة إلى الإلزام حال كراهتهم لا إلى الإلزام مطلقا، وقال مولانا سعدي جلبي: إن المراد من الإلزام هنا الجبر بالقتل ونحوه لا الإيجاب لأنه واقع فليفهم.
وجوز أن يراد بالبينة دليل العقل الذي هو ملاك الفضل وبحسبه يمتاز أفراد البشر بعضها عن بعض وبه تناط الكرامة عند الله عز وجل والاجتباء للرسالة وبالكون عليها التمسك به والثبات عليه وبخفائها على الكفرة على أن يكون الضمير للبينة عدم إدراكهم لكونها رحمة عليهم وبالرحمة النبوة التي أنكروا اختصاصه عليه السلام بها بين ظهرانيهم ويكون المعنى أنكم زعمتم أن عهد النبوة لا يناله إلا من له فضيلة على سائر الناس مستتبعة لاختصاصه به دونهم أخبروني إن امتزت عليكم بزيادة مزية وحيازة فصيلة من ربي وآتاني بحسبها نبوة من عنده فخفيت عليكم تلك البينة ولم تصيبوها ولم تنالوها ولم تعلموا حيازتي لها وكوني عليها إلى الآن حتى زعمتم أني مثلكم وهي متحققة في نفسها أنلزمكم قبول نبوتي التابعة لها والحال أنكم كارهون لذلك، ثم قيل: فيكون الاستفهام للحمل على الإقرار وهو الأنسب بمقام المحاجة، وحينئذ يكون كلامه عليه السلام جوابا عن شبهتهم التي أدرجوها في خلال مقالهم من كونه عليه السلام بشرا قصارى أمره أن يكون مثلهم من غير فضل له عليهم وقطعا لشأفة آرائهم الركيكة انتهى، وفيه أن كون معنى- أنلزمكموها- أنلزمكم قبول نبوتي التابعة لها غير ظاهر على أن في أمر التبعية نظرا كما لا يخفى، ولعل الإتيان بما أتي به من الشرط من باب المجاراة وإسناد الإلزام لضمير الجماعة إما للتعظيم أو لاعتبار متبعيه عليه السلام معه في ذلك وَيا قَوْمِ ناداهم بذلك تلطفا بهم واستدراجا لهم لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أي التبليغ المفهوم مما تقدم، وقيل:
الضمير للإنذار، وإفراد الله سبحانه بالعبادة، وقيل: للدعاء إلى التوحيد، وقيل: غير ذلك، وكلها أقوال متقاربة أي لا أطلب منكم على ذلك مالًا تؤدونه إلي بعد إيمانكم، وأجرا لي في مقابلة اهتدائكم إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ فهو سبحانه يثيبني على ذلك في الآخرة ولا بدّ حسب وعده الذي لا يخلف. فالمراد بالأجر الأجر على التبليغ، وجوز
240
أن يراد الأجر على الطاعة مطلقا، ويدخل فيه ذلك دخولا أوليا، وفي التعبير بالمال أولا وبالأجر ثانيا ما لا يخفى من مزية ما عند الله تعالى على ما عندهم وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا قيل: هو جواب عما لوحوا به بقولهم: وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا من أنه لو اتبعه الأشراف لوافقوهم وأن اتباع الفقراء مانع لهم عن ذلك كما صرحوا به في قولهم أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ [الشعراء: ١١١] فكان ذلك التماسا منهم لطردهم وتعليقا لإيمانهم به عليه السلام بذلك أنفة من الانتظام معهم في سلك واحد انتهى، والمروي عن ابن جريج أنهم قالوا له: يا نوح إن أحببت أن نتبعك فاطرد هؤلاء وإلا فلن نرضى أن نكون نحن وهم في الأمر سواء، وذلك كما قال قريش للنبي صلّى الله عليه وسلّم في فقراء الصحابة رضي الله تعالى عنهم: اطرد هؤلاء عنك ونحن نتبعك فإنا نستحيي أن نجلس معهم في مجلسك فهو جواب عما لم يذكر في النظم الكريم لكن فيه نوع إشارة إليه، وقرىء «بطارد» بالتنوين قال الزمخشري: على الأصل يعني أن اسم الفاعل إذا كان بمعنى الحال أو الاستقبال فأصله أن يعمل ولا يضاف، وهو ظاهر كلام سيبويه، واستدرك عليه أبو حيان بأنه قد يقال: إن الأصل الإضافة لأنه قد اعتوره شبهان: أحدهما شبهه بالمضارع وهو شبه بغير جنسه، والآخر شبهه بالأسماء إذا كانت فيها الإضافة، وإلحاقه بجنسه أولى من إلحاقه بغير جنسه انتهى، وربما يقال: إن أولوية إلحاقه بالأسماء إنما يتم القول بها إذا كانت الإضافة في الأسماء هي الأصل وليس فليس إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ تعليل للامتناع من طردهم كأنه قيل: لا أطردهم ولا أبعدهم عن مجلسي لأنهم من أهل الزلفى المقربون الفائزون عند الله تعالى وانفهام الفوز بمعونة المقام وإلا فملاقاة الله تعالى تكون للفائز وغيره، أو أنهم ملاقو ربهم فيخاصمون طاردهم عنده فيعاقبه على ما فعل- وحمله على أنهم مصدقون في الدنيا بلقاء ربهم موقنون به عالمون أنهم ملاقوه لا محالة فكيف أطردهم- خلاف الظاهر على أن هذا التصديق من توابع الإيمان، وقيل: المعنى أنهم يلاقونه تعالى فيجازيهم على ما في قلوبهم من إيمان صحيح ثابت كما ظهر لي أو على خلاف ذلك مما تعرفونهم به من بناء أمرهم على بادىء الرأي من غير تعمق في الفكر، وما علي أن أشق عن قلوبهم وأتعرف سر ذلك منهم حتى أطردهم إن كان الأمر كما تزعمون، وفيه أنه مع كونه مبنيا على أن سؤال الطرد لعدم إخلاصهم لا لاسترذالهم وحاله أظهر من أن يخفى يأباه الجزم بترتب غضب الله تعالى على طردهم كما سيأتي إن شاء الله تعالى: وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ أي بكل ما ينبغي أن يعلم، ويدخل فيه جهلهم بمنزلتهم عند الله تعالى وبما يترتب من المحذور على طردهم وبركاكة رأيهم في التماس ذلك، وتوقيف إيمانهم عليه وغير ذلك وإيثار صيغة الفعل للدلالة على التجدد والاستمرار، وعبر بالرؤية موافقة لتعبيرهم، وجوز أن يكون الجهل بمعنى الجناية على الغير وفعل ما يشق عليه لا بمعنى عدم العلم المذموم وهو معنى شائع كما في قوله:
ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا
أي ولكني أراكم قوما تتسفهون على المؤمنين بنسبتهم إلى الخساسة وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ أي من يصونني منه تعالى ويدفع عني حلول سخطه، والاستفهام للإنكار أي لا ينصرني أحد من ذلك إِنْ طَرَدْتُهُمْ وأبعدتهم عني وهم بتلك المثابة والزلفى منه تعالى، وفي الكلام ما لا يخفى من تهويل أمر طردهم أَفَلا تَذَكَّرُونَ أي أتستمرون على ما أنتم عليه من الجهل فلا تتذكرون ما ذكر من حالهم حتى تعرفوا أن ما تأتونه بمعزل عن الصواب، قيل: ولكون هذه العلة مستقلة بوجه مخصوص ظاهر الدلالة على وجوب الامتناع عن الطرد أفردت عن التعليل السابق وصدرت- بيا قوم- وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ شروع- على ما قال غير واحد- في دفع الشبه التي أوردوها تفصيلا وذلك من قبيل النشر المشوش ثقة بعلم السامع وتخلل ما تخلل بين شبههم وجوابها- على ما قال العلامة
241
الطيبي- لأنه مقدمة وتمهيد للجواب، وبينه بأن قوله يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ إثبات لنبوته يعني ما قلت لكم إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إلا عن بينة على إثبات نبوتي وصحة دعوتي لكن خفيت عليكم وعميت حتى أوردتم تلك الشبه الواهية ومع ذلك ليس نظري فيما ادعيت إلا إلى الهداية وإني لا أطمع بمال حتى ألازم الأغنياء منكم وأطرد الفقراء وأنتم تجهلون هذا المعنى حيث تقولون: اطرد الفقراء وإن الله سبحانه ما بعثني إلا للترغيب في طلب الآخرة ورفض الدنيا فمن ينصرني إن كنت أخالف ما جئت به، ثم شرع فيما شرع، وفي الكشف إن قوله أَرَأَيْتُمْ الآية جواب إجمالي عن الشبه كلها مع التعبير بأنهم لا يرجعون فيما يرمون إلى أدنى تدبر وقوله وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ تتميم للتعبير وحث على ما ضمنه من التشويق إلى ما عنده، وقوله:
ما أَنَا بِطارِدِ تصريح بجواب ما ضمنوه في قولهم: وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا من خسة الشركاء وأنه لولا مكانهم لكان يمكن الاتباع إظهارا للتصلب فيما هو فيه وأن ما يورده ويصدره عن برهان من الله تعالى يوافيه وأنى يدع الحق الأبلج بالباطل اللجلج، ثم شرع في الجواب التفصيلي بقوله: وَلا أَقُولُ إلخ، وهو أحسن مما ذكره الطيبي، وجعلوا هذا ردا لقولهم: وَما نَرى لَكُمْ إلخ كأنه يقول: عدم اتباعي وتكذيبي إن كان لنفيكم عني فضل المال والجاه فأنا لم أدعه ولم أقل لكم إن خزائن رزق الله تعالى وماله عندي حتى أنكم تنازعوني في ذلك وتنكرونه وإنما كان مني دعوى الرسالة المؤيدة بالمعجزات، ولعل جوابه عليه السلام عن ذلك من حيث إنه معني به مستتبع للجواب عنه من حيث إنه عني به متبعوه عليه السلام أيضا، وجعله جوابا عن قولهم: ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا كما جوزه الطبرسي ليس بشيء، وحمل الخزائن على ما أشرنا إليه هو المعول عليه.
وقال الجبائي وأبو مسلم: إن المراد بها مقدورات الله تعالى أي لا أقول لكم حين أدعي النبوة عندي مقدورات الله تعالى فأفعل ما أشاء وأعطي ما أشاء وأمنع ما أشاء وليس بشيء، ومثله- بل أدهى وأمر- قول ابن الأنباري: إن المراد بها غيوب الله تعالى وما انطوى عن الخلق، وجعل ابن الخازن هذه الجملة عطفا على لا أَسْئَلُكُمْ إلخ، والمعنى عنده لا أسألكم عليه مالا ولا أقول لكم عندي خزائن الله التي لا يفنيها شيء فأدعوكم إلى اتباعي عليها لأعطيكم منها وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ عطف على عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ المقول للقول، وذكر معه النفي مع أن العطف على مقول القول المنفي منفي أيضا من غير أن يذكر معه أداة نفي لتأكيد النفي السابق والتذكير به ودفع احتمال أن لا يقول هذا المجموع فلا ينافي أن يقول أحدهما أي ولا أقول أنا أعلم الغيب حتى تكذبوني لاستبعاد ذلك وما ذكرت من دعوى النبوة والإنذار بالعذاب إنما هو بوحي وإعلام من الله تعالى مؤيد بالبينة والغيب ما لم يوح به ولم يقم عليه دليل، ولعله إنما لم ينف عليه السلام القول بعلم الغيب على نحو ما فعل في السابق واللاحق مبالغة في نفي هذه الصفة التي ليس لأحد سوى الله تعالى منها نصيب أصلا، ويجوز عطفه على أَقُولُ أي لا أقول لكم ذلك ولا أدعي علم الغيب في قولي إني نذير مبين إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم حتى تسارعوا إلى الإنكار والاستبعاد، وقيل: هو معطوف على هذا أو ذاك إلا أن المعنى لا أعلم الغيب حتى أعلم أن هؤلاء اتبعوني بادي الرأي من غير بصيرة وعقد قلب ولا يخفى حاله، واعترض على الأول بأنه غير ملائم للمقام، ثم قيل: والظاهر أنه صلّى الله عليه وسلّم حين ادعى النبوة سألوه عن المغيبات، وقالوا له: إن كنت صادقا أخبرنا عنها فقال: أنا أدعي النبوة بآية من ربي ولا أعلم الغيب إلا بإعلامه سبحانه، ولا يلزم أن يذكر ذلك في النظم الكريم كما أن سؤال طردهم كذلك انتهى، وفيه أن زعم عدم الملاءمة ليس على ما ينبغي، وأيضا لا يخفى أنه لا قرينة تدل على وقوعه جوابا لما لم يذكر، وأما سؤال طردهم فإن الاستحقار قرينة عليه في الجملة، وقد صرح بعض السلف به ومثله لا يقال من قبل الرأي وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ رد لقولهم ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا أي لا أقول ترويجا لما أدعيه من النبوة إني ملك حتى تقولوا لي ذلك وتكذبوني فإن البشرية ليست من موانع النبوة بل من
242
مباديها يعني كما قيل: إنكم اتخذتم فقدان هذه الأمور الثلاثة ذريعة إلى تكذيبي، والحال أني لا أدعي شيئا من ذلك ولا الذي يتعلق بشيء منها، وإنما الذي أدعيه يتعلق بالفضائل التي تتفاوت بها مقادير البشر، وقيل: أراد بهذا لا أقول:
إني روحاني غير مخلوق من ذكر وأنثى بل إنما أنا بشر مثلكم فلا معنى لردكم علي بقولكم ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا وعلى القولين لا دليل فيه على أن الملائكة أفضل من الأنبياء عليهم السلام خلافا لمن استدل به، وجعل ذلك كلاما آخر ليس ردا لما قالوه سابقا مما لا وجه له فتدبر وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ أي تستحقرهم والأصل تزتري بالتاء إلا أنها قلبت دالا لتجانس الزاي في الجهر لأنها من المهموسة، وأصل الازدراء الإعابة يقال: ازدراه إذا عابه، والتعبير بالمضارع للاستمرار، أو لحكاية الحال لأن الازدراء قد وقع، وإسناده إلى الأعين مجاز للمبالغة في رأي من حيث إنه إسناد إلى الحاسة التي لا يتصور منها تعييب أحد فكأن من لا يدرك ذلك يدركه، وللتنبيه على أنهم استحقروهم بادي الرؤية وبما عاينوا من رثاثة حالهم وقلة منالهم دون تأمل وتدبر في معانيهم وكمالاتهم، وعائد الموصول محذوف كما أشرنا إليه، واللام للأجل لا للتبليغ وإلا لقيل فيما بعد يؤتيكم أي لا أقول مساعدة لكم ونزولا على هواكم في شأن الذين استرذلتموهم واستحقرتموهم لفقرهم من المؤمنين لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً في الدنيا أو في الآخرة فعسى الله سبحانه يؤتيهم خيري الدارين.
اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ مما يستعدون به لإيتاء ذلك، وفي إرشاد العقل السليم من الإيمان، وفيه توجيه لعطف نفي هذا القول الذي ليس مما يستنكره الكفرة ولا مما يتوهمون صدوره عنه عليه السلام أصالة واستتباعا على نفي هاتيك الأقوال التي هي مما يستنكرونه ويتوهمون صدوره عنه عليه السلام إن ذلك من جهة أن كلا النفيين رد لقياسهم الباطل الذي تمسكوا به فيما سلف فإنهم زعموا أن النبوة تستتبع الأمور المذكورة من ادعاء الملكية وعلم الغيب وحيازة الخزائن وأن العثور على مكانها واغتنام مغانمها ليس من داب الأراذل، فأجاب عليه السلام بنفي ذلك جميعا فكأنه قال: لا أقول وجود تلك الأشياء من مواجب النبوة ولا عدم المال والجاه من موانع الخير، واقتصر عليه السلام على نفي القول المذكور مع أنه عليه السلام جازم بأن الله سبحانه سيؤتيهم خيرا عظيما في الدارين وأنهم على يقين راسخ في الإيمان جريا على سنن الإنصاف مع القوم واكتفاء بمخالفة كلامهم وإرشادا لهم إلى مسلك الهداية بأن اللائق لكل أحد أن لا يبت القول إلا فيما يعلمه يقينا ويبني أموره على الشواهد الظاهرة ولا يجارف فيما ليس فيه على بينة انتهى، وأنت تعلم أنه عليه السلام قد بتّ القول بفوز هؤلاء في قوله: وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ بناء على أنهم المعنيون بالذين آمنوا، وأن المراد من كونهم ملاقو ربهم أنهم مقربون في حضرة القدس- كما قال به غير واحد- وكذا الحكم إذا كان المعني بالموصول من اتصف بعنوان الصلة مطلقا إذ يدخلون فيه دخولا أوليا لما أن المسئول صريحا أو تلويحا طردهم، ولعل البت تارة وعدمه أخرى لاقتضاء المقام ذلك وأن في كون الكفرة قد زعموا أن العثور على مكان النبوة واغتنام مغانمها ليس من دأب الأراذل خفاء مع دعوى أنهم لوحوا بقولهم: وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إلخ الذي هو مظنة ذلك الزعم إلى التماس طردهم وتعليق إيمانهم به عليه السلام بذلك أنفة من الانتظام معهم في سلك واحد.
وفي البحر أن معنى وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ إلخ ليس احتقاركم إياهم ينقص ثوابهم عند الله تعالى ولا يبطل أجورهم ولست أحكم عليهم بشيء من هذا، وإنما الحكم بذلك للذي يعلم ما في أنفسهم فيجازيهم عليه، وقيل: إن هذا رد لقولهم وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إلخ على معنى لست أحكم عليهم بأن لا يكون لهم خير لظنكم بهم أن بواطنهم ليست كظواهرهم الله أعلم بما في نفوسهم انتهى، ولا يخفى ما فيه.
243
وقد أخرج أبو الشيخ عن السدي أنه فسر الخير بالإيمان أي- لا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله إيمانا- واستشكل بأن الظاهر أن المراد بالموصول أولئك المتبعون المسترذلون وهم مؤمنون عندهم فلا معنى لنفي القول بإيتاء الله تعالى إياهم الإيمان مساعدة لهم ونزولا على هواهم.
وأجيب بأن المراد من هذا الإيمان هو المعتد به الذي لا يزول أصلا كما ينبىء عن ذلك التعبير عنه بالخير وهم إنما أثبتوا لهم الاتباع بادي الرأي وأرادوا بذلك أنهم آمنوا إيمانا لا ثبات له، ويجعل ذلك ردا لذلك القول، ويراد من لَنْ يُؤْتِيَهُمُ ما آتاهم فكأنهم قالوا: إنهم اتبعوك وآمنوا بك بلا تأمل ومثل ذلك الإيمان في معرض الزوال، فهم لا يثبتون عليه ويرتدون فرد عليهم عليه السلام بأني لا أحكم على أولئك بأن الله تعالى ما آتاهم إيمانا لا يزول وأنهم سيرتدون كما زعمتم ويكون قوله عليه السلام: اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ تفويضا للحكم بذلك إليه تعالى أو إشارة إلى جلالة ما آتاهم الله تعالى إياه من الإيمان كما يقال الله تعالى أعلم بما يقاسي زيد من عمرو وإذا كان ما يقاسيه منه أمرا عظيما لا يستطاع شرحه، فكأنه قيل: إن إيمانهم عظيم القدر جليل الشأن فكيف أقول لن يؤتيهم الله تعالى إيمانا ثابتا، وفيه من التكلف والتعسف ما الله تعالى به أعلم، وحمل الموصول على أناس مسترذلين جدا غير أولئك ولم يؤمنوا بعد أي لا أقول للذين تزدريهم أعينكم ولم يؤمنوا بعد لن يوفقهم الله تعالى للإيمان حيث كانوا في غاية من رثاثة الحال والدناءة التي تزعمونها مانعة من الخير اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ مما يتأهلون به لإفاضة التوفيق عليهم وهو المدار لذلك لا الأحوال الظاهرة مما لا أقول به إِنِّي إِذاً أي إذا قلت ذلك لَمِنَ الظَّالِمِينَ لهم بحط مرتبتهم ونقص حقوقهم، أو من الظالمين لأنفسهم بذلك، وفيه تعريض بأنهم ظالمون في ازدرائهم واسترذالهم.
ويجوز أن يكون إذا قلت شيئا مما ذكر من حيازة الخزائن وادعاء علم الغيب والملكية، ونفي إيتاء الله تعالى أولئك الخير والقوم لمزيد جهلهم محتاجون لأن يعلل لهم نحو الأقوال الأول بلزوم الانتظام في زمرة الظالمين.
قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا أي خاصمتنا ونازعتنا، وأصله من جدلت الحبل أي أحكمت فتله ومنه الجديل وجدلت البناء أحكمته، ودرع مجدولة، والأجدل الصقر المحكم البنية، والمجدل القصر المحكم البناء، وسميت المنازعة جدالا لأن المتجادلين كأنهما يفتل كل واحد منهما الآخر عن رأيه، وقيل: الأصل في الجدال الصراع وإسقاط الإنسان صاحبه على الجدالة، وهي الأرض الصلبة فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا عطف على ما قبله على معنى شرعت في جدالنا فأطلته أو أتيت بنوع من أنواع الجدال فأعقبته بأنواع أخر فالفاء على ظاهرها، ولا حاجة إلى تأويل جادَلْتَنا بأردت جدالنا- كما قاله الجمهور- في قوله تعالى: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [النحل: ٩٨] ونظير ذلك جادل فلان فأكثر، وجعل بعضهم مجموع ذلك كناية عن التمادي والاستمرار.
وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما جدلنا، وهو- كما قال ابن جني- اسم بمعنى الجدال ولما حجهم عليه السلام وأبرز لهم ما ألقمهم به الحجر ضاقت عليهم الحيل وعيت بهم العلل. وقالوا: فَأْتِنا بِما تَعِدُنا من العذاب المعجل، وجوز أن يكون المراد به العذاب الذي أشير إليه في قوله: إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ بناء على أن لا يكون المراد باليوم يوم القيامة، و «ما» موصولة والعائد محذوف أي بالذي تعدنا به، وفي البحر تعدناه، وجوز أن تكون مصدرية وفيه نوع تكلف إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في حكمك بلحوق العذاب إن لم نؤمن بك.
قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ أي إن ذلك ليس إلي ولا مما هو داخل تحت قدرتي وإنما هو لله عز وجل الذي كفرتم به وعصيتم أمره يأتيكم به عاجلا أو آجلا إن تعلقت به مشيئته التابعة للحكمة، وفيه كما قيل: ما لا يخفى
244
من تهويل الموعود، فكأنه، قيل: الإتيان به أمر خارج عن دائرة القوى البشرية وإنما يفعله الله تعالى.
وفي الإتيان بالاسم الجليل الجامع تأكيد لذلك التهويل وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ بمصيريه سبحانه وتعالى عاجزا بدفع العذاب أو الهرب منه، والباء زائدة للتأكيد، والجملة الاسمية للاستمرار، والمراد استمرار النفي وتأكيده لا نفي الاستمرار والتأكيد وله نظائر وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي النصح تحري قول أو فعل فيه صلاح وهو كلمة جامعة، وقيل:
هو إعلام مواقع الغي ليتقي ومواضع الرشد ليقتفي، وهو من قولهم: نصحت له الود أي أخلصته، وناصح العسل خالصه، أو من قولهم نصحت الجلد خطته، والناصح الخياط، والنصاح الخيط، وقرأ عيسى بن عمر الثقفي «نصحي» بفتح النون وهو مصدر، وعلى قراءة الجماعة- على ما قال أبو حيان- يحتمل أن يكون مصدرا كالشكر، وأن يكون اسما إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ شرط حذف جوابه لدلالة ما سبق عليه وليس جوابا له لامتناع تقدم الجواب على الشرط على الأصح الذي ذهب إليه البصريون أي إن أردتم أن أنصح لكم لا ينفعكم نصحي، والجملة كلها دليل جواب قوله سبحانه: إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ والتقدير إن كان الله يريد أن يغويكم فإن أردت أن أنصح لكم لا ينفعكم نصحي، وجعلوا الآية من باب اعتراض الشرط على الشرط، وفي شرح التسهيل لابن عقيل أنه إذا توالى شرطان مثلا كقولك: إن جئتني إن وعدتك أحسنت إليك، فالجواب للأول، واستغنى به عن جواب الثاني، وزعم ابن مالك أن الشرط الثاني مفيد للأول بمنزلة الحال، فكأنه قيل في المثال: إن جئتني في حال وعدي لك أحسنت إليك، والصحيح في المسألة أن الجواب للأول، وجواب الثاني محذوف لدلالة الشرط الثاني وجوابه عليه، فإذا قلت: إن دخلت الدار إن كلمت زيدا إن جاء إليك فأنت حر، فأنت حر جواب إن دخلت وهو وجوابه دليل جواب إن كلمت وإن كلمت وجوابه دليل جواب إن جاء، والدليل على الجواب جواب في المعنى، والجواب متأخر، فالشرط الثالث مقدم وكذا الثاني، فكأنه قيل إن جاء فإن كلمت فإن دخلت فأنت حر فلا يعتق إلا إذا وقع هكذا مجيء. ثم كلام ثم دخول، وهو مذهب الشافعي عليه الرحمة، وذكر الجصاص أن فيها خلافا بين محمد وأبي يوسف رحمهما الله تعالى، وليس مذهب الإمام الشافعي فقط، وقال بعض الفقهاء: إن الجواب للأخير. والشرط الأخير وجوابه جواب الثاني. والشرط الثاني وجوابه جواب الأول، وعلى هذا لا يعتق حتى يوجد هكذا دخول ثم كلام ثم مجيء، وقال بعضهم: إذا اجتمعت حصل العتق من غير ترتيب وهذا إذا كان التوالي بلا عاطف فإن عطف بأو فالجواب لأحدهما دون تعيين نحو إن جئتني أو إن أكرمت زيدا أحسنت إليك وإن كان بالواو فالجواب لهما وإن كان بالفاء فالجواب للثاني وهو وجوابه جواب الأول فتخرج الفاء عن العطف، وادعى ابن هشام أن في كون الآية من ذلك الباب نظرا قال: إذ لم يتوال شرطان وبعدهما جواب كما فيما سمعت من الأمثلة، وكما في قول الشاعر:
إن تستغيثوا بنا إن تذعروا تجدوا منا معاقل عز زانها كرم
إذا لم يذكر فيها جواب وإنما تقدم على الشرطين ما هو جواب في المعنى للأول فينبغي أن يقدر إلى جانبه ويكون الأصل إن أردت أن أنصح لكم فلا ينفعكم نصحي إن كان الله يريد أن يغويكم، وأما أن يقدر الجواب بعدهما ثم يقدر بعد ذلك مقدما إلى جانب الشرط الأول فلا وجه له انتهى.
وقد ألف في المسألة رسالة- كما قال الجلال السيوطي- وأوردها في حاشيته على المغني حسنة، ولا يخفى عليك أن المقدر في قوة المذكور، والكثير في توالي شرطين بدون عاطف تأخره سماعا فيقدر كذلك ويجري عليه حكمه.
والكلام على ما تقدم متضمن لشرطين مختلفين: أحدهما جواب للآخر وقد جعل المتأخر في الذكر متقدما في
245
المعنى على ما هو المعهود في المسألة، وهو عند الزمخشري على ما قيل شرطية واحدة مقيدة حيث جعل لا ينفعكم دليل الجواب لأن كان، وجعل إن أردت قيدا لذلك نظير إن أحسنت إلي أحسنت إليك إن أمكنني فتأمل، والكلام متعلق بقولهم: قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا صدر عنه عليه السلام إظهارا للعجز عن ردهم عما هم عليه من الضلال بالحجج والبينات لفرط تماديهم في العناد وإيذانا بأن ما سبق منه إنما كان بطريق النصيحة لهم والشفقة عليهم وأنه لم يأل جهدا في إرشادهم إلى الحق وهدايتهم إلى سبيله المستبين ولكن لا ينفعهم ذلك عند إرادته سبحانه لإغوائهم، وتقييد عدم نفع النصح بإرادته مع أنه محقق لا محالة للإيذان بأن ذلك النصح مقارن للإرادة والاهتمام به، ولتحقيق المقابلة بين ذلك، وبين ما وقع بإزائه من إرادته تعالى لإغوائهم، وإنما اقتصر في ذلك على مجرد إرادة الإغواء دون نفسه حيث لم يقل إن كان الله يغويكم مبالغة في بيان غلبة جنابه جل جلاله حيث دل ذلك على أن نصحه المقارن للاهتمام به لا يجديهم نفعا عند مجرد إرادة الله تعالى إغواءهم فكيف عند تحققه وخلقه فيهم، وزيادة كان للإشعار بتقدم إرادته تعالى زمانا كتقدمه رتبة، وللدلالة على تجددها واستمرارها، وقدم على هذا الكلام ما يتعلق بقولهم: فَأْتِنا بِما تَعِدُنا من قوله: إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ ردا عليهم من أول الأمر وتسجيلا عليهم بحلول العذاب مع ما فيه من اتصال الجواب بالسؤال- قال ذلك مولانا شيخ الإسلام- ثم إن إِنْ أَرَدْتُ أن أبقى على الاستقبال لا ينافي كونه نصحهم في الزمن الماضي، وقيل: إنه مجاراة لهم لاستظهار الحجة لأنهم زعموا أن ما فعله ليس بنصح إذ لو كان نصحا قبل منه، واللام في لَكُمْ ليست للتقوية كما قد يتوهم لتعدي الفعل بنفسه كما في قوله:
نصحت بني عوف فلم يتقبلوا رسولي ولم تنجح لديهم رسائلي
لما في الصحاح أنه باللام أفصح، وفي الآية دليل على أن إرادة الله تعالى مما يصح تعلقها بالإغواء وأن خلاف مراده سبحانه محال، وإلا لم تصدق الشرطية الدالة على لزوم الجواب للشرط، والمعتزلة وقعوا في حيص بيص منها واختلفوا في تأويلها، فقيل: إن يُغْوِيَكُمْ بمعنى يهلككم من غوى الفصيل إذا بشم من كثرة شرب اللبن فهلك، وقد روي مجيء الغوي- بمعنى الهلاك- الفراء. وغيره، وأنكره مكي.
وقيل: إن الإغواء مجاز عن عقوبته أي إن كان الله يريد عقوبة إغوائكم الخلق وإضلالكم إياهم.
وقيل: إن قوم نوح كانوا يعتقدون أن الله تعالى أراد إغواءهم فأخرج عليه السلام ذلك مخرج التعجب والإنكار أي إن نصحي لا ينفعكم إن كان الأمر كما تزعمون، وقيل: سمي ترك إلجائهم وتخليتهم وشأنهم إغواء مجازا، وقيل:
إن نافية أي ما كان الله يريد أن يغويكم، ونفي ذلك دليل على نفي الإغواء، ويكون لا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إلخ إخبارا منه عليه السلام لهم وتعزية لنفسه عنهم لما رأى من إصرارهم وتماديهم على الكفر، ولا يخفى ما في ذلك من مخالفة الظاهر المعروف في الاستعمال وارتكاب ما لا ينبغي ارتكاب مثله في كلام الملك المتعال.
ومن الناس من اعترض الاستدلال بأن الشرطية لا تدل على وقوع الشرط ولا جوازه فلا يتم ولا يحتاج إلى التأويل ولا إلى القال والقيل، ودفع بأن المقام ينبو عنه لعدم الفائدة في مجرد فرض ذلك فإن أرادوا إرجاعه إلى قياس استثنائي فإما أن يستثنى عين المقدم فهو المطلوب أو نقيض التالي فخلاف الواقع لعدم حصول النفع.
وبالجملة الآية ظاهرة جدا فيما ذهب إليه أهل السنة، والله سبحانه الموفق هُوَ رَبُّكُمْ أي خالقكم ومالك أمركم وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فيجازيكم على أفعالكم لا محالة.
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: يعني نوحا عليه السلام أي بل أيقول قوم نوح إن
246
نوحا افترى ما جاء به مسندا إلى الله عز وجل قُلْ يا نوح إِنِ افْتَرَيْتُهُ بالفرض البحت. فَعَلَيَّ إِجْرامِي أي وباله فهو على تقدير مضاف، أو على التجوز بالسبب عن المسبب، وفسر الإجرام بكسب الذنب وهو مصدر أجرم، وجاء على قلة جرم، ومن ذلك قوله:
طريد عشيرة ورهين ذنب بما «جرمت» يدي وجنى لساني
وقرىء «أجرامي» بفتح الهمزة على أنه كما قال النحاس: جمع جرم، واستشكل العز بن عبد السلام الشرطية بأن الافتراء المفروض هنا ماض والشرط يخلص للاستقبال بإجماع أئمة العربية، وأجاب أن المراد- كما قال ابن السراج- إن ثبت أني افتريته فعلي إجرامي على ما قيل في قوله تعالى: إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ [المائدة: ١١٦] وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ أي من إجرامكم في إسناد الافتراء إلي، قيل: والأصل إن افتريته فعلي عقوبة افترائي ولكنه فرض محال وأنا بريء من افترائكم أي نسبتكم إياي إلى الافتراء، وعدل عنه إدماجا لكونهم مجرمين، وأن المسألة معكوسة، وحملت ما على المصدرية لما في الموصولية من تكلف حذف العائد مع أن ذلك هو المناسب لقوله إِجْرامِي فيما قبل، وما يقتضيه كلام ابن عباس من أن الآية من تتمة قصة نوح عليه السلام وفي شأنه هو الظاهر، وعليه الجمهور، وعن مقاتل أنها في شأن النبي صلّى الله عليه وسلّم مع مشركي مكة أي بل أيقول مشركو مكة افترى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خبر نوح، قيل: وكأنه إنما جيء به في تضاعيف القصة عند سوق طرف منها تحقيقا لحقيقتها وتأكيدا لوقوعها وتشويقا للسامعين إلى استماعها لا سيما وقد قص منها طائفة متعلقة بما جرى بينه عليه السلام وبين قومه من المحاجة، وبقيت طائفة مستقلة متعلقة بعذابهم، ولا يخفى أن القول بذلك بعيد وإن وجه بما وجه، وقال في الكشف: إن كونها في شأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أظهر وأنسب من كونها من تتمة قصة نوح عليه السلام لأن أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ كالتكرير لقوله سبحانه:
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ دلالة على كمال العناد وأن مثله بعد الإتيان بالقصة على هذا الأسلوب المعجز مما لا ينبغي أن ينسب إلى افتراء فجاء زيادة إنكار على إنكار كأنه قيل: بل أمع هذا البيان أيضا يقولون: افْتَراهُ وهو نظير اعتراض قوله سبحانه في سورة وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ [العنكبوت: ١٨] بين قصة إبراهيم عليه السلام في أحد الوجهين انتهى، ولا أراه معولا عليه.
وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ إقناط له عليه السلام من إيمانهم وإعلام بأنه لم يبق فيهم من يتوقع إيمانه، أخرج إسحاق بن بشر وابن عساكر عن ابن عباس قال: إن نوحا عليه السلام كان يضرب ثم يلف في لبد فيلقى في بيته يرون أنه قد مات ثم يخرج فيدعوهم، واتفق أن جاءه رجل ومعه ابنه وهو يتوكأ على عصا فقال:
يا بني انظر هذا الشيخ لا يغرنك قال: يا أبت أمكني من العصا فأخذ العصا ثم قال: ضعني على الأرض فوضعه فمشى إليه فضربه فشجه موضحة في رأسه وسالت الدماء فقال نوح عليه السلام: رب قد ترى ما يفعل بي عبادك فإن يك لك في عبادك حاجة فاهدهم وإن يكن غير ذلك فصبرني إلى أن تحكم وأنت خير الحاكمين فأوحى الله تعالى إليه وآيسه من إيمان قومه وأخبره أنه لم يبق في أصلاب الرجال ولا في أرحام النساء مؤمن. وقال سبحانه: يا نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ إلخ، والمراد بمن آمن قيل: من استمر على الإيمان وللدوام حكم الحدوث، ولذا لو حلف لا يلبس هذا الثوب وهو لابسه فلم ينزعه في الحال حنث، وقيل: المراد إلا من قد استعد للإيمان وتوقع منه ولا يراد ظاهره وإلا كان المعنى إلا من آمن فإنه يؤمن، وأورد عليه أنه مع بعده يقتضي أن من القوم من آمن بعد ذلك، وهو ينافي تقنيطه من إيمانهم، وقد يقال: المراد ما هو الظاهر والاستثناء على حد الاستثناء في قوله تعالى: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ [النساء: ٢٣] على ما قاله غير واحد، فيفيد الكلام الإقناط على أتم وجه وأبلغه أي لن يحدث من قومك إيمانا
247
ويحصله بعد إلا من قد أحدثه وحصله قبل، وذلك مما لا يمكن لما فيه من تحصيل الحاصل وإحداث المحدث، فإحداث الإيمان وتحصيله بعد مما لا يكون أصلا، وفي الحواشي الشهابية لو قيل: إن الاستثناء منقطع وإن المعنى لا يؤمن أحد بعد ذلك غير هؤلاء لكان معنى بليغا فتدبر، وقرأ أبو البرهسم وَأُوحِيَ مبنيا للفاعل وأنه بكسر الهمزة على إضمار القول على مذهب البصريين وعلى إجراء أُوحِيَ مجرى قال على مذهب الكوفيين، واستدل بالآية من أجاز التكليف بما لا يطاق.
فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ أي لا تلتزم البؤس ولا تحزن بما كانوا يتعاطونه من التكذيب والاستهزاء والإيذاء في هذه المدة الطويلة فقد حان وقت الانتقام منهم وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا عطف على فَلا تَبْتَئِسْ والأمر قيل للوجوب إذ لا سبيل إلى صيانة الروح من الغرق إلا به فيجب كوجوبها، وقيل: للإباحة وليس بشيء، وأل في الْفُلْكَ إما للجنس أو للعهد بناء على أنه أوحي إليه عليه السلام من قبل أن الله سبحانه سيهلكهم بالغرق وينجيه ومن معه بشيء يصنعه بأمره تعالى من شأنه كيت وكيت واسمه كذا، والباء للملابسة والجار والمجرور في موضع الحال من الفاعل، والأعين حقيقة في الجارحة وهي جارية مجرى التمثيل كأن لله سبحانه أعينا تكلؤه من تعدي الكفرة ومن الزيغ في الصنعة، والجمع للمبالغة، وقد انسلخ عنه لإضافته على ما قيل. معنى القلة وأريد به الكثرة، وحينئذ يقوى أمر المبالغة، وزعم بعضهم أن الأعين بمعنى الرقباء وأن في ذلك ما هو من أبلغ أنواع التجريد، وذلك أنهم ينتزعون من نفس الشيء آخر مثله في صفته مبالغة بكمالها كما أنشد أبو علي:
أفات بنو مروان ظلما دماءنا وفي الله إن لم يعدلوا حكم عدل
وقد جرد هاهنا من ذات المهيمن جماعة الرقباء وهو سبحانه الرقيب نفسه، وقيل: إن ملابسة العين كناية عن الحفظ وملابسة الأعين لمكان الجمع كناية عن كمال الحفظ والمبالغة فيه، ونظير ذلك بسط اليد وبسط اليدين، فإن الأول كناية عن الجود والثاني عن المبالغة فيه، وجوز أن يكون المراد الحفظ الكامل على طريقة المجاز المرسل لما أن الحفظ من لوازم الجارحة، وقيل: المراد من أعيننا ملائكتنا الذين جعلناهم عيونا على مواضع حفظك ومعونتك، والجمع حينئذ على حقيقته لا للمبالغة، ويفهم من صنيع بعضهم أن هذا من المتشابه، والكلام فيه شهير، ففي الدر المنثور عند الكلام على هذه الآية أخرج البيهقي عن سفيان بن عيينة قال: ما وصف الله تبارك وتعالى به نفسه في كتابه فقراءته تفسيره ليس لأحد أن يفسره بالعربية ولا بالفارسية، وقرأ أبو طلحة بن مصرف بأعينا بالإدغام وَوَحْيِنا إليك كيف تصنعها وتعليمنا، أخرج إسحاق بن بشر وابن عساكر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه عليه السلام لم يعلم كيف صنعة الفلك فأوحى الله تعالى إليه أن اجعل رأسها كرأس الديك. وجؤجؤها كجؤجؤ الطير، وذنبها كذنب الديك، واجعل لها أبوابا في جنبها وشدها بدسر وأمره أن يطلبها بالقار ولم يكن في الأرض قار ففجر الله تعالى له عين القار حيث ينحتها يغلي غليانا حتى طلاها الخبر، وفيه أن الله تعالى بعث جبريل عليه السلام فعلمه صنعتها، وقيل: كانت الملائكة عليهم السلام تعلمه.
وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا أي لا تراجعني فيهم ولا تدعني باستدفاع العذاب عنهم وفيه من المبالغة ما ليس فيما لو قيل: ولا تدعني فيهم، وحيث كان فيه ما يلوح بما يستتبعه أكد التعليل فقيل: إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ أي محكوم عليهم بالإغراق وقد جرى به القضاء وجف القلم فلا سبيل إلى كفه، والظاهر أن المراد من الموصول من لم يؤمن من قومه مطلقا، وقيل: المراد واعلة زوجته وكنعان ابنه وليس بشيء وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ حكاية حال ماضية لاستحضار صورتها العجيبة.
248
وقيل: تقديره، وأخذ أو أقبل يصنع الفلك، وكانت على ما روي عن قتادة وعكرمة والكلبي من خشب الساج وقد غرسه بنفسه ولم يقطعه حتى صار طوله أربعمائة ذراع والذراع إلى المنكب في أربعين سنة على ما روي عن سليمان الفراسي، وقيل: أبقاه عشرين سنة، وقيل: مكث مائة سنة يغرس ويقطع وييبس، وقال عمرو بن الحارث: لم يغرسه بل قطعه من جبل لبنان.
وعن ابن عباس أنها كانت من خشب الشمشاد وقطعه من جبل لبنان، وقيل: إنه ورد في التوراة أنها كانت من الصنوبر، وروي أنه كان سام وحام ويافث ينحتون معه، وفي رواية أنه عليه السلام كان معه أيضا أناس استأجرهم ينحتون، وذكر أن طولها ثلاثمائة ذراع وعرضها خمسون وارتفاعها في السماء ثلاثون.
وأخرج ابن جرير وغيره عن الحسن قال: كان طولها ألف ذراع ومائتي ذراع وعرضها ستمائة ذراع وصنع لها بابا في وسطها، وأتم صنعها على ما روي عن مجاهد في ثلاث سنين.
وعن كعب الأحبار في أربعين سنة، وقيل: في ستين، وقيل: في مائة سنة، وقيل: في أربعمائة سنة، واختلف في أنه في أي موضع صنعها، فقيل: في الكوفة، وقيل: في الهند، وقيل: في أرض الجزيرة، وقيل: في أرض الشام، وسفينة الأخبار في تحقيق الحال فيما أرى لا تصلح للركوب فيها إذ هي غير سالمة عن عيب، فالحري بحال من لا يميل إلى الفضول أن يؤمن بأنه عليه السلام صنع الفلك حسبما قص الله تعالى في كتابه ولا يخوض في مقدار طولها وعرضها وارتفاعها ومن أي خشب صنعها وبكم مدة أتم عملها إلى غير ذلك مما لم يشرحه الكتاب ولم تبينه السنة الصحيحة، هذا وفي التعبير- بيصنع- على ما قيل: ملاءمة للاستمرار المفهوم من الجملة الواقعة حالا من ضميره أعني قوله تعالى:
وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ أي استهزؤوا به لعمله السفينة إما لأنهم ما كانوا يعرفونها ولا كيفية استعمالها فتعجبوا من ذلك وسخروا منه، ويشهد لعدم معرفتهم ما روي عن ابن عباس أنه عليه السلام حين قال الله تعالى له: اصْنَعِ الْفُلْكَ قال: يا رب وما الفلك؟ قال: بيت من خشب يجري على وجه الماء، قال: يا رب وأين الماء؟ قال: إني على ما أشاء قدير، وإما لأنه عليه السلام كان يصنعها في برية بعيدة عن الماء وكانوا يتضاحكون، ويقولون: يا نوح صرت نجارا بعد ما كنت نبيا، وهذا مبني على أن السفينة كانت معروفة بينهم، ويشهد له ما
أخرجه ابن جرير والحاكم وصححه- وضعفه الذهبي- عن عائشة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: كان نوح قد مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم حتى كان آخر زمانه غرس شجرة فعظمت وذهبت كل مذهب ثم قطعها ثم جعل يعملها سفينة فيرونه ويسألونه فيقول أعملها سفينة فيسخرون منه ويقولون: تعمل سفينة في البر وكيف تجري؟ فيقول:
سوف تعلمون الحديث
والأكثرون- كما قال ابن عطية- على أنهم لم يكونوا رأوا سفينة قط ولا كانت إذ ذاك، وقد ذكر في كتب الأوليات أن نوحا عليه السلام أول من عمل السفينة، والحق أنه لا قطع بذلك، وكل- منصوب على الظرفية و «ما» مصدرية وقتية أي كل وقت مرور، والعامل فيه جوابه وهو سَخِرُوا وقوله سبحانه:
قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ استئناف بياني كأن سائلا سأل فقال: فما صنع نوح عليه السلام عند بلوغهم منه هذا المبلغ؟ فقيل: قال: إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا لهذا العمل ومباشرة أسباب الخلاص من العذاب فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ لما أنتم فيه من الإعراض عن استدفاعه بالإيمان والطاعة ومن الاستمرار على الكفر والمعاصي، والتعرض لأسباب حلول سخط الله تعالى التي من جملتها سخريتكم منا واستهزاؤكم بنا، وإطلاق السخرية عليهم حقيقة، وعليه عليه السلام للمشاكلة لأنها لا تليق بالأنبياء عليهم السلام، وفسرها بعضهم بالاستجهال وهو مجاز لأنه سبب للسخرية، فأطلقت السخرية وأريد سبها.
249
وقيل: إنها منه عليه السلام لما كانت لجزأئهم من جنس صنيعهم لم تقبح فلا حاجة لارتكاب خلاف الظاهر، وجمع الضمير في مِنَّا إما لأن سخريتهم منه عليه السلام سخرية من المؤمنين أيضا أو لأنهم كانوا يسخرون منهم أيضا إلا أنه اكتفى بذكر سخريتهم منه عليه السلام ولذلك تعرض الجميع للمجازاة في قوله: نَسْخَرُ مِنْكُمْ فتكافأ الكلام من الجانبين، والتشبيه في قوله سبحانه: كَما تَسْخَرُونَ إما في مجرد التحقق والوقوع، وإما في التجدد والتكرر حسبما صدر عن ملأ بعد ملأ، وقيل: لا مانع من أن يراد الظاهر ولا ضرر في ذلك لحديث الجزاء، ومن هنا قال بعضهم: إن في الآية دليلا على جواز مقابلة نحو الجاهل والأحمق بمثل فعله ويشهد له قوله تعالى: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى [البقرة: ١٩٤] وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى: ٤٠] وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ [النحل: ١٢٦] إلى غير ذلك، والظاهر أن كلا الفعلين واقع في الحال.
وقال ابن جريج: المعنى إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا في الدنيا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ في الآخرة، وقيل: في الدنيا عند الغرق. وفي الآخرة عند الحرق، قال الطبرسي: إن المراد من نسخر منكم على هذا نجازيكم على سخريتكم أو نشمت بكم عند غرقكم وحرقكم، وفيه خفاء، هذا وجوز أن يكون عامل كُلَّما قال، وهو الجواب، وجملة سَخِرُوا صفة لملأ أو بدل من مَرَّ بدل اشتمال لأن مرورهم للسخرية فلا يضركون السخرية ليست بمعنى المرور ولا نوعا منه، وأبو حيان جعل ذلك مبعدا للبدلية وليس بذلك، ويلزم على هذا التجويز استمرار هذا القول منه عليه السلام وهو ظاهر، وعلى الاعراب قيل: لا استمرار وإنما أجابهم به في بعض المرات، ورجح بأن المقصود بيان تناهيهم في إيذائه عليه السلام وتحمله لأذيتهم لا مسارعته عليه السلام إلى الجواب كُلَّما وقع منهم ما يؤذيه من الكلام، وقد يقال: إن في ذلك إشارة إلى أنه عليه السلام بعد أن يئس من إيمانهم لم يبال بإغضابهم ولذا هددهم التهديد البليغ بقوله: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ أي يفضحه أو يذله أو يهلكه، وهي أقوال متقاربة، والمراد بذلك العذاب الغرق وَيَحِلُّ عَلَيْهِ حلول الدين المؤجل عَذابٌ مُقِيمٌ أي دائم وهو عذاب النار، ومَنْ عبارة عنهم، وهي موصولة في محل نصب مفعول للعلم، وهو بمعنى المعرفة فيتعدى إلى واحد.
وجوز ابن عطية أن يراد العلم المتعدي إلى مفعولين لكنه اقتصر على واحد، وتعقبه في البحر بأنه لا يجوز حذف الثاني اقتصارا لأن أصله خبر مبتدأ، ولا اختصارا هنا لأنَّه لا دليل على حذفه.
وقيل: إن مَنْ استفهامية مبتدأ، والجملة بعدها خبر، وجملة المبتدأ والخبر معلق عنها سادة مسد المفعول أو المفعولين، قيل: ولما كان مدار سخريتهم استجالهم إياه عليه السلام في مكابدة المشاق الفادحة لدفع ما لا يكاد يدخل تحت الصحة على زعمهم من الطوفان ومقاساة الشدائد في عمل السفينة وكانوا يعدونه عذابا قيل: بعد استجهالهم فَسَوْفَ إلخ يعني أن ما أباشره ليس فيه عذاب لاحق بي فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ من يعذب، ولقد أصاب العلم بعد استجالهم محزه انتهى، وهو ظاهر على تقدير حمل السخرية المنسوبة إليه عليه السلام على الاستجهال.
ولعله يمكن إجراؤه على تقدير حملها على ظاهرها أيضا بأدنى عناية فافهم، ووصف العذاب بالإخزاء لما في الاستهزاء والسخرية من لحوق الخزي والعار عادة والتعرض لحلول العذاب المقيم للمبالغة في التهديد، وفيه من المجاز ما لا يخفى، وتخصيصه بالمؤجل، وإيراد الأول بالإتيان غاية الجزالة، وحكى الزهراوي أنه قرىء يحل بضم الحاء.
حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا غاية لقوله سبحانه: يَصْنَعُ الْفُلْكَ وحَتَّى إما جارة متعلقة به، وإِذا لمجرد الظرفية، وإما ابتدائية داخلة على الشرط وجوابه، والجملة لا محل لها من الإعراب، وحال ما وقع في البين قد
250
مرت الإشارة إليه، والأمر إما واحد الأوامر أي الأمر بركوب السفينة أو بالفوران أو للسحاب بالإرسال أو للملائكة عليهم السلام بالتصرف فيما يراد أو نحو ذلك، وإما واحد الأمور وهو الشأن أعني نزول العذاب بهم وَفارَ التَّنُّورُ أي نبع منها الماء وارتفع بشدة كما تفور القدر بغليانها وفيه من الاستعارة ما لا يخفى، والمراد من التنور تنور الخبز عند الجمهور، وكان على ما روي عن الحسن ومجاهد تنورا لحواء تخبز فيه ثم صار لنوح عليه السلام وكان من حجارة، وقيل:
هو تنور في الكوفة في موضع مسجدها عن يمين الداخل مما يلي باب كندة، وجاء ذلك في رواية عن علي كرم الله تعالى وجهه،
وقيل: تنور بالهند، وقيل: بعين وردة من أرض الجزيرة العمرية أو من أرض الشام، وقيل: ليس المراد به تنورا معينا بل الجنس، والمراد فار الماء من التنانير، وفي ذلك من عجيب القدرة ما لا يخفى، ولا تنافي بين هذا وقوله سبحانه: وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً [القمر: ١٢] إذ يمكن أن يكون التفجير غير الفوران فحصل الفوران للتنور والتفجير للأرض، أو يراد بالأرض أماكن التنانير، ووزنه تفعول من النور، وأصله تنوور فقلبت الواو الأولى همزة لانضمامها، ثم حذفت تخفيفا، ثم شددت النون عوضا عما حذف، ونقل هذا عن ثعلب، وقال أبو علي الفارسي: وزنه فعول، وقيل: على هذا إنه أعجمي ولا اشتقاق له، ومادته تنر، وليس في كلام العرب نون قبل راء، ونرجس معرب أيضا، والمشهور أنه مما اتفق فيه لغة العرب والعجم كالصابون والسمور، وعن ابن عباس وعكرمة والزهري أن التَّنُّورُ وجه الأرض هنا، وعن قتادة أنه أشرف موضع منها أي أعلاه وأرفعه،
وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ وغيرهما عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه تنوير الصبح،
والظاهر أنه لم يستعمل في اللغة العجمية بهذه المعاني الأخيرة، وجوز أن يكون فوران التنور مجازا عن ظهور العذاب وشدة الهول، وهذا كما جاء في الخبر حمى الوطيس مجازا عن شدة الحرب وليس بين الجملتين كثير فرق في المعنى وهو معنى حسن لكنه بعيد عما جاءت به الأخبار قُلْنَا احْمِلْ فِيها أي في الفلك، وأنث الضمير لأنه بمعنى السفينة، والجملة استئناف أو جواب إذا مِنْ كُلٍّ أي من كل نوع من الحيوانات ينتفع به الذين ينجون من الغرق وذراريهم بعد، ولم تكن العادة جارية بخلقه من غير ذكر وأنثى، والجار والمجرور متعلق- بأحمل- أو بمحذوف وقع حالا من مفعوله أعني قوله سبحانه: زَوْجَيْنِ وهو تثنية زوج، والمراد به الواحد المزدوج بآخر من جنسه، فالذكر زوج للأنثى كما هي زوج له، وقد يطلق على مجموعها، وليس بمراد، وإلا لزم أن يحمل من كل صنف أربعة، ولئلا يراد ذلك وصف بقوله تعالى: اثْنَيْنِ وحاصل المعنى احمل ذكرا وأنثى من كل نوع من الحيوانات، وقرأ الأكثرون مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ بالإضافة فاثنين على هذا مفعول- احمل- ومِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ حال منه، ولو أخر لكان صفة له أي احمل اثنين من كل زوجين أي صنف ذكر وصنف أنثى، وقيل: مِنْ زائدة وما بعدها مفعول احمل، واثْنَيْنِ نعت لزوجين بناء على جواز زيادة مِنْ في الموجب ثم ما ذكرناه في تفسير العموم الذي مال إليه البعض وأدرج فيه أناس الهوام والطير، وذكر أنه
روي أنه عليه السلام جعل للسفينة ثلاثة بطون وحمل في البطن الأسفل الوحوش والسباع والهوام، وفي البطن الأوسط الدواب والأنعام، وركب هو ومن معه في البطن الأعلى مع ما يحتاج إليه من الزاد، وحمل معه جسد آدم عليه السلام وجعله معترضا بين الرجال والنساء، وكان حمله بوصية منه عليه السلام توارثها ولده حتى وصلت إلى نوح عليه السلام،
ويعارض هذا التقسيم ما
روي أن الطبقة السفلى للوحش. والوسطى للطعام والعليا له عليه السلام ولمن آمن،
وتوسع بعضهم في العموم فأدرج فيه ما ليس من جنس الحيوان، وأيد بما
أخرجه إسحاق بن بشر وغيره عن علي كرم الله تعالى وجهه مرفوعا أن نوحا عليه السلام حمل معه في السفينة من جميع الشجر،
وبما
أخرجه أبو الشيخ عن جعفر بن محمد رضي الله تعالى عنهما قال: أمر نوح عليه السلام أن يحمل معه مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ فحمل من التمر العجوة واللون.
251
وأخرج النسائي عن أنس بن مالك أن نوحا عليه السلام نازعه الشيطان في عود الكرم، فقال: هذا لي، وقال نوح: هو لي فاصطلحا على أن لنوح ثلثها، وللشيطان ثلثيها
ولا يكاد يعول على مثل هذه الأخبار عند التنقير، ومما يحمل معها في سفينة ما
أخرج أبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: تأذى أهل السفينة بالفأر فعطس الأسد فخرج من منخريه سنوران ذكر وأنثى فأكلا الفأر إلا ما أراد الله تعالى أن يبقي منه، وتأذوا بأذى أهل السفينة فعطس الفيل فخرج من منخريه خنزيران ذكر وأنثى فأكلا أذى أهل السفينة،
وفي رواية الحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن جرير وغيرهما عنه أن نوحا عليه السلام شكا إلى الله تعالى قرض الفأر حبال السفينة فأوحى الله إليه فسمح جبهة الأسد فخرج سنوران، وشكا عذرة في السفينة فأوحى إليه سبحانه، فمسح ذنب الفيل فخرج خنزيران فأكلا العذرة.
وأخرج ابن أبي حاتم من طريق زيد بن أسلم عن أبيه مرفوعا أن أهل السفينة شكوا الفأرة فقالوا: الفويسقة تفسد علينا طعامنا ومتاعنا. فأوحى الله تعالى إلى الأسد فعطس فخرجت الهرة منه فتخبأت الفأرة منها،
ولم يذكر فيه بحث الخنزير، ويفهم منها على ما فيها أن الهرة لم تكن عند الحمل، ومن الأولين أنها والخنزير لم يكونا، وفي بعض الآثار ما يخالفه،
فقد أخرج أحمد في الزهد وأبو الشيخ عن وهب بن منبه قال لما أمر الله تعالى نوحا عليه السلام بالحمل قال: كيف أصنع بالأسد، والبقرة وكيف أصنع بالعناق والذئب، وكيف أصنع بالحمام والهر؟ فقال الله تعالى: من ألقى بينهما العداوة؟ قال: أنت يا رب قال: فإني أؤلف بينهم حتى لا يتضارون،
ولا يخفى ما بين هذا وبين التقسيم الأول أيضا، وجاء في شأن الأسد روايات مختلفة:
ففي رواية أن أصحابه عليه السلام قالوا: كيف نطمئن ومعنا الأسد؟
فسلط الله تعالى عليه الحمى، وكانت أول حمى نزلت الأرض وفي رواية أنه كان يؤذيهم في السفينة فألقيت عليه الحمى ليشتغل بنفسه، وفي أخرى أنه عليه السلام حين أمر بالحمل قال: يا رب كيف بالأسد والفيل؟ فقال له سبحانه:
سألقي عليهما الحمى وهي ثقيلة وفي أخرى عن أبي عبيدة أنه عليه السلام حين أمر بالحمل لم يستطع أن يحمل الأسد حتى ألقيت عليه الحمى فحمله فأدخله،
ولا يخفى أنها مع دلالة بعضها على أن إلقاء الحمى قبل الدخول، وبعضها على أنه بعده، وكان يغني عن إلقائها بعد دفعا لأذاء التأليف بينه وبين الإنسان كما ألف بين ما مر بعضه مع بعض، ولعل لدفع الأذى بالحمى دون التأليف إن صح ذلك حكمة لكنها غير ظاهرة لنا، وجاء في بعض الآثار ما يفهم منه أنه كان معه عليه السلام في السفينة من الجن ما كان، وفي بعضها أن إبليس عليه اللعنة كان أيضا.
فعن ابن عباس أنه لما أراد الله تعالى أن يدخل الحمار السفينة أخذ نوح بأذني الحمار وأخذ إبليس بذنبه فجعل نوح يجذبه وجعل إبليس يجذبه فقال نوح عليه السلام: ادخل شيطان فدخل الحمار ودخل إبليس معه فلما سارت السفينة جلس في ذنبها يتغنى فقال له نوح: ويلك من أذن لك؟ قال: أنت قال: متى؟ قال: إذ قلت للحمار ادخل شيطان فدخلت بإذن منك، وفي رواية أخرى عنه أن نوحا عليه السلام قال للحمار: ويحك ادخل وإن كان الشيطان معك كلمة جرت على لسانه فدخل ودخل معه الشيطان.
وأخرج ابن عساكر عن عطاء أن اللعين جاء ليركب السفينة فدفعه نوح عليه السلام فقال: يا نوح إني منظور ولا سبيل لك علي فعرف أنه صادق فأمره أن يجلس على خيزران السفينة،
وهو بظاهره مخالف لما روي عن ابن عباس، واختلفوا في أنه كيف جمعت الحيوانات على تفرقها في أكناف الأرض، فقيل: إنها أحست بالعذاب فاجتمعت وعن الزهري أن الله تعالى بعث ريحا فحمل إليه من كل زوجين اثنين من الطير والسباع والوحش والبهائم.
وعن جعفر بن محمد رضي الله تعالى عنهما أن الله تعالى بعث جبريل عليه السلام فحشرها فجعل عليه السلام
252
يضرب بيديه على الزوجين فتقع يده اليمنى على الذكر واليسرى على الأنثى فيدخلهما السفينة حتى أدخل عدة ما أمر الله تعالى به،
وروى إسحاق بن بشر وغيره عن زيد بن ثابت أنه استعصت عليه عليه السلام الماعزة فدفعها في ذنبها فمن ثم انكسر وبدا حياها ومضت النعجة حتى دخلت فمسح على ذنبها فستر حياها.
وفي كتب الأخبار كثير من هذه الآثار التي يقضى منها العجب، وأنا لا أعتقد سوى أن الله عزت قدرته خلق الماعزة والنعجة من قبل على ما هما عليه اليوم وأنه سبحانه لم يخلق الهرة من الأسد وإن أشبهته صورة ولا الخنزير من الفيل وإن كان بينهما شبه ما كما شاهدناه عام مجيء الفيل إلى بغداد ولو كلف الفيل أكل العذرة لكان أحب إلى أهل السفينة من زيادة خنزير فيها وأحب من ذلك كله إليهم أن لا يكون في السفينة غيرهم أو يكون حيوان واحد يخلق لهم من عطاسه ما يريدونه من الحيوانات ويحتاجون إليه بعد.
والذي يميل القلب إليه أن الطوفان لم يكن عاما- كما قال به البعض- وأنه عليه السلام لم يؤمر بحمل ما جرت العادة بتكونه من عفونة الأرض كالفأر والحشرات بل أمر بحمل ما يحتاج إليه إذا نجا ومن معه من الغرق لئلا يغتموا لفقده ويتكلفوا مشقة جلبه من الأصقاع النائية التي لم يصلها الغرق فكأنه قيل: قلنا احمل فيها من كل ما تحتاجونه إذا نجوتم زوجين اثنين، وإن قلنا بعموم الغرق نقول أيضا: إنه عليه السلام لم يكلف بحمل شيء من المتكونات من العفونة بل كلف بالحمل مما يتناسل من الحيوانات لمصلحة بقاء النوع، وكانت السفينة بحيث تسع ذلك عادة أو معجزة وقدرة الله تعالى أجل من أن تضيق عن ذلك، وإن قيل بالعموم على وجه يبقى معه بعض الجبال أجاز أن يقال: إنه عليه السلام لم يحمل إلا مما لا مهرب له ويضر فقده بجماعته، ولو قيل: إن العموم على إطلاقه وأنه عليه السلام لم يحمل في السفينة إلا ما تتسع له عادة مما يحتاج إليه لئلا يضيق أصحابه ذرعا بفقده بالكلية حسبما تقتضيه الطباع البشرية وغرق ما عدا ذلك لكن الله تعالى جلت قدرته خلق نظير ما غرق بعد على الوجه الذي فعل قبل لم يكن ذلك بدعا ممن أمره بين الكاف والنون جل شأنه وعظم سلطانه.
هذا وإنما قدم ذلك على أهله وسائر المؤمنين قيل: لكونه عريقا بالحمل المأمور به لأنه يحتاج إلى مزاولة الأعمال منه عليه السلام في تمييز بعض عن بعض وتعيين الأزواج، وأما البشر فإنما يدخل الفلك باختياره فيخف فيه معنى الحمل، أو لأن ذلك إنما يحمل بمباشرة البشر وهم إنما يدخلونها بعد حملهم إياه، ويجوز أن يكون التقديم حفظا للنظم الكريم عن الانتشار، وأيا ما كان فقوله سبحانه: وَأَهْلَكَ عطف على زَوْجَيْنِ أو على اثْنَيْنِ والمراد بأهله على ما في بعض الآثار امرأته المسلمة وبنوه منها وهم سام عليه السلام- وهو أبو العرب- وأصله على ما قال البكري: بالشين المعجمة، وحام- وهو أبو السودان- قيل: إنه أصاب زوجته في السفينة فدعا نوح عليه السلام أن تغير نطفته فغيرت، وأخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق ابن جريج عن أبي صالح، ويافث كصاحب- وهو أبو الترك ويأجوج ومأجوج- وزوجة كل منهم إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ بأنه من المغرقين لظلمهم، وذلك في قوله سبحانه:
وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا الآية، والمراد زوجة له أخرى تسمى واعلة بالعين المهملة، وفي رواية والقة وابنه منها كنعان وكان اسمه فيما قيل: يام وهذا لقبه عند أهل الكتاب وكانا كافرين، وفي هذا دلالة على أن الأنبياء عليهم السلام يحل لهم نكاح الكافرة بخلاف نبينا صلّى الله عليه وسلّم لقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ [الأحزاب: ٥٠] الآية، والاستثناء جوز أن يكون متصلا إن أريد بالأهل الأهل إيمانا، وأن يكون منقطعا إن أريد به الأهل قرابة، ويكفي في صحة الاستثناء المعلومية عند المراجعة إلى أحوالهم والتفحص عن أعمالهم، وجيء بعلى لكون السابق ضارا لهم كما جيء باللام فيما هو نافع في قوله تعالى: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ [الصافات: ١٧١] وقوله سبحانه: إِنَّ
253
الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى
[الأنبياء: ١٠١] وَمَنْ آمَنَ عطف على الأهل أي والمؤمنين من غيرهم وإفراد أولئك منهم للاستثناء المذكور، وإيثار صيغة الافراد في آمَنَ محافظة على لفظ مِنْ للإيذان بالقلة كما أفصح عن ذلك قوله تعالى: وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ قيل: كانوا سبعة زوجته وأبناؤه الثلاثة وكنائنه الثلاث، وروي هذا عن قتادة والحكم بن عقبة وابن جريج ومحمد بن كعب، ويرده عطف وَمَنْ آمَنَ على الأهل إلا أن يكون الأهل بمعنى الزوجة فإنه قد ثبت بهذا المعنى لكن قيل: إنه خلاف الظاهر، والاستثناء عليه منقطع أيضا، وعن ابن إسحاق أنهم عشرة خمسة رجال وخمس نسوة، وعنه أنهم كانوا مع نوح عليه السلام عشرين نصفهم رجال ونصفهم الآخر نساؤهم، وقيل: كانوا ثمانية وسبعين نصفهم ذكور ونصفهم إناث، وقيل: كانوا ثمانين رجلا وثمانين امرأة- وقيل:
والرواية الصحيحة أنهم كانوا تسعة وسبعين، زوجته وبنوه الثلاثة ونساؤهم واثنان وسبعون رجلا وامرأة من غيرهم من بني شيث، واعتبار المعية في الإيمان للإيماء إلى المعية في مقر الإيمان والنجاة.
وَقالَ أي نوح عليه السلام لمن معه من المؤمنين كما ينبىء عنه قوله تعالى: إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ.
وقيل: الضمير لله تعالى، وفيه أنه لو كان كذلك لكان المناسب إن ربكم إلخ، ولعل هذا القول بعد إدخال ما أمر بحمله في الفلك من الأزواج كأنه قيل: فحمل الأزواج حسبما أمر أو أدخلها في الفلك، وقال للمؤمنين ارْكَبُوا فِيها أي صيروا فيها، وجعل ذلك ركوبا لأنها في الماء كالمركوب في الأرض ففيه استعارة تبعية من حيث تشبيه الصيرورة فيها بالركوب، وقيل: استعارة مكنية والتعدية بفي لاعتبار الصيرورة وإلا فالفعل يتعدى بنفسه، وإلى هذا ذهب القاضي البيضاوي، وقيل: التعدية بذلك لأنه ضمن معنى ادخلوا، وقيل: تقديره اركبوا الماء فيها، وقيل: في زائدة للتوكيد، وكأن الأول أولى، وقال بعض المحققين: الركوب العلو على شيء متحرك ويتعدى بنفسه واستعماله هاهنا بفي ليس لأن المأمور به كونهم في جوفها لا فوقها كما ظن فإن أظهر الروايات أنه عليه السلام ركب هو ومن معه في الأعلى بل لرعاية جانب المحلية والمكانية في الفلك.
والسر فيه أن معنى الركوب العلو على شيء له حركة إما إرادية كالحيوان أو قسرية كالسفينة والعجلة ونحوهما فإذا استعمل في الأول توفر له حظ الأصل فيقال: ركبت الفرس، وعليه قوله تعالى: وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها [النحل: ٨] وإن استعمل في الثاني يلوح بمحلية المفعول بكلمة في فيقال: ركبت في السفينة، وعليه الآية الكريمة، وقوله سبحانه: فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ [العنكبوت: ٦٥] وحَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها [الكهف: ٧١] انتهى، وظاهره أن الركوب هاهنا حقيقي. وصرح بعضهم أنه ليس به.
وقال الراغب: الركوب في الأصل كون الإنسان على ظهر حيوان، وقد يستعمل في السفينة، وفيه تأكيد لما صرح به البعض بِسْمِ اللَّهِ حال من فاعل (١) ارْكَبُوا والباء للملابسة ولما كانت ملابسة اسم الله عز اسمه بذكره قالوا: المعنى اركبوا مسمين الله، وجوزوا أن تكون الحال محذوفة وهذا معمول لها سادّ مسدّها ولذلك سموه حالا، والأصل ارْكَبُوا قائلين بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها نصب على الظرفية أي وقت إجرائها وإرسائها على أنهما اسما زمان أو مصدران ميميان بمعنى الإجراء والإرساء، ويقدر مضاف محذوف وهو وقت كما في قولك:
أتيتك خفوق النجم فإن التقدير وقت خفوقه إلا أنه لما حذف المضاف سدّ المضاف إليه مسده وانتصب انتصابه وهو
(١) قوله: حال من فاعل اركبوا في طرة الأصل بخطه رحمه الله ما نصه، وجوز في هذه الحال أن تكون مقارنة وأن تكون مقدرة بناء على أن الركوب المأمور به ليس إحداثه بل الاستمرار عليه.
254
كثير في المصادر، ويجوز أن يكونا اسمي مكان وانتصابهما بالاستقرار الذي تعلق به الجار والمجرور أو بقائلين، ولا يجوز أن يكون- باركبوا- إذ ليس المعنى على ارْكَبُوا في وقت الإجراء والإرساء، أو في مكانهما وإنما المعنى متبركين أو قائلين فيهما، وتعقب القول بانتصابهما مطلقا بأنهما محدودان ومحدود المكان لا بد له من في، وبعضهم يجوز النصب في مثل ذلك بما فيه من الإبهام، وجوز رفعهما فاعلين بالظرف لاعتماده على ذي الحال أو على أنهما مبتدأ ومعطوف عليه وبِسْمِ اللَّهِ خبرا والخبر محذوف تقديره متحققان ونحوه وهو صلة لهما، والجملة إما مقتضية منقطعة عما قبلها لاختلافهما خبرا وطلبا على أن نوحا عليه السلام أمرهم بالركوب في السفينة ثم أخبرهم بأن إجراءها وإرساءها بسم الله تعالى أو بأن إجراءها وإرساءها باسمه تعالى متحققان لا يشك فيهما، وفي ذلك حث على الركوب وإزالة لما عسى يختلج في قلوبهم من خوف الغرق ونحوه، ويروى عن الضحاك أنه عليه السلام كان إذا أراد أن يجريها، ويقول: بِسْمِ اللَّهِ فتجري، وإذا أراد أن يرسيها قال: بِسْمِ اللَّهِ فترسوا، وإما في موضع الحال من ضمير الفلك أي اركبوا فيها مجراة ومرساة باسم الله وهي حال مقدرة إذ لا إجراء ولا إرساء وقت الركوب كذا قيل، وتعقبه في التقريب بأن الحال إنما تكون مقدرة إذا كانت مفردة كمجراة أما إذا كانت جملة فلا لأن معنى الجملة اركبوا وإجراؤها بِسْمِ اللَّهِ وهذا واقع حال الركوب انتهى، وأجاب عنه في الكشف بأنه لا فرق بين قوله تعالى:
فَادْخُلُوها خالِدِينَ [الزمر: ٧٣] وقول القائل: ادخلوها وأنتم مخلدون في عدم المقارنة والرجوع إلى الحال المقدرة فكذلك ما نحن فيه، واعترض على المجيب بأن مراد ذلك القائل إجراؤها مجرى المفرد على نحو كلمته فوه إلى في بأنه تكلف لا حاجة إليه، وهو غير مسلم في المستشهد به أيضا، وإنما ذلك في قول القائل كلمته فاه إلى في انتهى، وكأنه لم ينكشف له مراد صاحب التقريب فإنهم ذكروا أن الفرق بين الحال إذا كانت مفردة وإذا كانت جملة أن الثانية تقتضي التحقق في نفسها والتلبس بها، وربما أشعرت بوقوعها قبل العامل واستمرارها معه كما إذا قلت:
جاءني وهو راكب فإنه يقتضي تلبسه بالركوب واستمراره عليه، وهذا ينافي كونها منتظرة ولا أقل من أن لا يحسن الحمل عليه حيث تيسر الإفراد فافهم، وجوز أن تكون حالا مقدرة أيضا من فاعل ارْكَبُوا، واعترض بأنه لا عائد على ذي الحال، وضمير بِسْمِ اللَّهِ للمبتدأ وتقديره أي فإجراؤها معكم أو بكم كائن بِسْمِ اللَّهِ تكلف، والقول بأن الرضي قد ذكر أن الجملة الحالية إذا كانت اسمية قد تخلو من الرابطين عند ظهور الملابسة نحو خرجت زيد على الباب ليس بشيء لضعف ما ذكر في العربية فلا ينبغي التخريج عليه نعم كون الاسمية لا بد فيها من الواو والقول بأن الحال المقدرة لا تكون جملة مطلقا كل منهما في حيز المنع كما لا يخفى. وجوز أن يكون الاسم مقحما كما في قول لبيد:
فقوما وقولا بالذي قد عرفتما ولا تخمشا وجها ولا تحلقا الشعر
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر
ويراد بالله إجراؤها وإرساؤها أي بقدرته أو بأمره أو بإذنه، ويقدر ذلك أو يراد معنى، وخص بعضهم هذا الجواز بما إذا لم يقدر مسمين أو قائلين إذ لا يظهر المعنى حينئذ، ويجري على تقديري الكلام الواحد والكلامين، وكذا على تقدير الزمان والمكان في رأي، ويعتبر الإسناد مجازيا من قبيل نهاره صائم وطريق بر.
وقرأ- مجراها ومرساها- بفتح الميم مصدرين أو زمانين أو مكانين على أنهما من جرى ورسا الثلاثيين، وقرأ مجاهد- مجريها ومرسيها- بصيغة اسم الفاعل، وخرج ذلك أبو البقاء على أنهما صفتان للاسم الجليل، وقيل عليه: إن إضافة اسم الفاعل إذا كان بمعنى المستقبل لفظية فهو نكرة لا يصح توصيف المعرفة به فالحق البدلية، والقول بأن مراد المعرب الصفة المعنوية لا النعت النحوي فلا ينافي البدلية بعيد لكن عن الخليل إن ما كانت إضافته غير محضة قد
255
يصح أن تجعل محضة فتعرف إلا ما كان من الصفة المشبهة فلا تتمحض إضافتها فلا تعرف، والرسو الثبوت والاستقرار ومنه قول الشاعر:
فصبرت نفسا عند ذلك حرة «ترسو» إذا نفس الجبان تطلع
إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ قيل: الجملة مستأنفة لبيان الموجب أي لولا مغفرته لفرطانكم ورحمته إياكم لما أنجاكم من هذه الطامة إيمانكم، وفيه دلالة على أن نجاتهم لم تكن عن استحقاق بسبب أنهم كانوا مؤمنين بل بمحض رحمة الله تعالى وغفرانه على ما عليه أهل السنة، ومنع صلاحية كونها علة- لاركبوا- لعدم المناسبة فيقدر ما يصح به الكلام بأن يقال: امتثلوا هذا الحكم لينجيكم من الهلاك بمغفرته ورحمته، أو يقال: ارْكَبُوا فِيها ذاكرين الله تعالى ولا تخافوا الغرق لما عسى فرط منكم من التقصير لأن الله تعالى شأنه غفور للخطايا والذنوب رحيم بعباده، وجعلها بعضهم تعليلا بالنظر إلى ما فيها من الإشارة إلى النجاة فكأنه قيل: اركبوا لينجيكم الله سبحانه، وقوله سبحانه: وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ جوز فيه ثلاثة أوجه: الأول أن يكون مستأنفا، الثاني أن يكون حالا من الضمير المستتر في بِسْمِ اللَّهِ أي جريانها استقر بِسْمِ اللَّهِ حال كونها جارية، الثالث أنه حال من شيء محذوف دل عليه السياق أي فركبوا فيها جارية، والفاء المقدرة للعطف، وبِهِمْ متعلق- بتجري- أو بمحذوف أي ملتبسة والمضارع لحكاية الحال الماضية ولا معنى للحالية من الضمير المستتر في الحال الأولى كما لا يخفى، والموج ما ارتفع من الماء عند اضطرابه، واحده موجة وكَالْجِبالِ في موضع الصفة لموج أي في موج مرتفع متفاوت في الارتفاع متراكم، قيل: إنها جرت بهم في موج كذلك وقد بقي منها فوق الماء ستة أذرع، واستشكل هذا الجريان مع ما روي أن الماء طبق ما بين السماء والأرض وأن السفينة كانت تجري في داخله كالسمك، وأجيب بأن الرواية مما لا صحة لها ويكاد العقل يأبى ذلك، نعم أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن عساكر وعبد بن حميد من طريق مجاهد عن عبيد بن عمير قال: إن الماء علا رأس كل جبل خمسة عشر ذراعا على أنه لو سلم صحة ما ذكر فهذا الجريان كان في ابتداء الأمر قبل أن يتفاقم الخطب كما يدل عليه قوله سبحانه: وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ إلخ فإن ذلك إنما يتصور قبل أن تنقطع العلاقة بين السفينة والبر إذ حينئذ يمكن جريان ما جرى بين نوح عليه السلام وبين ابنه من المفاوضة والاستدعاء إلى السفينة، والجواب بالاعتصام بالجبل.
وقال بعض المحققين: إن هذا النداء إنما كان قبل الركوب في السفينة والواو لا تدل على الترتيب، وعن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قرأ ابنها على أن ضمير التأنيث لامرأته، وفي إضافته إليها إشعار بأنه ربيبه لأن الإضافة إلى الأم مع ذكر الأب خلاف الظاهر، وإن جوزوه، ووجه بأنه نسب إليها لكونه كافرا مثلها، وما يقال من أنه كان لغير رشدة لقوله سبحانه: فَخانَتاهُما [التحريم: ١٠] فارتكاب عظيمة لا يقادر قدرها فإن الله تعالى قد طهر الأنبياء عليهم السلام عما هو دون ذلك من النقص بمراحل فحاشاهم ثم حاشاهم أن يشار إليهم بأصبع الطعن وإنما المراد بالخيانة الخيانة في الدين، ونسبة هذا القول إلى الحسن ومجاهد- كما زعم الطبرسي- كذب صريح، وقرأ محمد بن علي وعروة بن الزبير رضي الله تعالى عنهم ابْنَهُ بهاء مفتوحة دون ألف اكتفاء بالألف (١) عنها وهو لغة- كما قال ابن عطية- ومن ذلك قوله:
أما تقود بها شاة فتأكلها أو أن تبيعه في بعض الأراكيب
(١) قوله اكتفاء بالألف إلخ كذا في خطه، ولعله بالفتحة عن الألف.
256
قيل: وهو ضعيف في العربية حتى خصه بعضهم بالضرورة والضمير للأم أيضا، وقرأ ابن عباس ابنه بسكون الهاء، وهي على ما قال ابن عطية وأبو الفضل الرازي لغة أزد فإنهم يسكنون هاء الكناية من المذكر، ومنه قوله:
ونضواي (٢) مشتاقان له أرقان وقيل: إنها لغة لبني كلاب وعقيل، ومن النحويين من يخص هذا السكون بالضرورة وينشد:
وأشرب الماء ما بي نحوه عطش ألا لأن عيونه سيل واديها
وقرأ السدي- «ابناه» - بألف وهاء سكت، وخرج ذلك على الندبة، واستشكل بأن النحاة صرحوا بأن حرف النداء لا يحذف في الندبة، وأجيب بأن هذا حكاية، والذي منعوه في الندبة نفسها لا في حكايتها، وعن ابن عطية- أبناه- بفتح همزة القطع التي للنداء، وفيه أنه لا ينادي المندوب بالهمزة، وأن الرواية بالوصل فيها والنداء بالهمزة لم يقع في القرآن، ويبعد القول بالندبة أنها لا تلائم الاستدعاء إلى السفينة بعد كما لا يخفى ولو قيل: إن ابناه على هذه القراءة مفعول- نادى- أيضا كما في غيرها من القراءات، والألف للإشباع والهاء الساكنة هاء الضمير في بعض اللغات لم يكن هناك محذور من جهة المعنى وهو ظاهر، نعم يتوقف القول بذلك على السماع في مثله ومتى ثبت تعين عندي تخريج القراءة إن صحت عليه، وقرأ الجمهور «ابنه» بالإضافة إلى ضمير نوح، ووصلوا بالهاء واوا وتوصل في الفصيح، وتنوين «نوح» مكسور عند الجمهور دفعا لالتقاء الساكنين، وقرأ وكيع بضمه اتباعا لحركة الإعراب.
وقال أبو حاتم: هي لغة سوء لا تعرف وَكانَ فِي مَعْزِلٍ أي مكان عزل فيه نفسه عن أبيه وإخوته ومن آمن من قومه، والمراد بعده عنهم إما حسا أو معنى، وحاصله المخالفة لهم في الدين فمعزل بالكسر اسم مكان العزلة، وهي إما حقيقية أو مجازية، وقد يكون اسم زمان، وإذا فتح كان مصدرا، وقيل: المراد- كان في معزل- عن الكفار قد انفرد عنهم، وظن نوح عليه السلام أنه يريد مفارقتهم ولذلك دعاه إلى السفينة، وقيل: إنما ناداه لأنه كان ينافقه فظن أنه مؤمن، واختاره كثير من المحققين كالماتريدي وغيره، وقيل: كان يعلم أنه كافر إلى ذلك الوقت لكنه عليه السلام ظن أنه عند مشاهدة تلك الأهوال وبلوغ السيل الزبي ينجر عما كان عليه ويقبل الإيمان، وقيل: لم يجزم بدخوله في الاستثناء لما أنه كان كالمجمل فحملته شفقة الأبوة على أن ناداه يا بُنَيَّ بفتح الياء التي هي لام الكلمة اجتزاء بالفتحة عن الألف المبدلة من ياء الإضافة في قوله يا بنيا، وقيل: إنها سقطت لالتقائها ساكنة مع الراء الساكنة بعدها، ويؤيد الأول أنه قرىء كذلك حيث لا ساكن بعد.
ومن الناس من قال: فيه ضعف على ما حكاه يونس من ضعف يا أب ويا أم بحذف الألف والاجتزاء عنها بالفتحة.
وقرأ الجمهور بالكسر اقتصارا عليه من ياء الإضافة، وقيل: إنها حذفت لالتقاء الساكنين كما قيل ذلك في الألف، ونداؤه بالتصغير من باب التحنن والرأفة، وكثيرا ما ينادي الوالد ولده كذلك ارْكَبْ مَعَنا أي في السفينة ولتعينها وللإيذان بضيق المقام حيث حال الجريض دون القريض مع إغناء المعية عن ذكرها لم تذكر، وأطلق الركوب وتخفيف الباء وإدغامها في الميم قراءتان سبعيتان ووجه الإدغام التقارب في المخرج وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ تأكيد للأمر وهو نهي عن مشايعة الكفرة والدخول في غمارهم، وقطع بأن الدخول فيه يوجب الغرق على الطريق البرهاني قالَ سَآوِي أي سأنضم إِلى جَبَلٍ من الجبال، وقيل: عنى طورزيتا يَعْصِمُنِي أي يحفظني بارتفاعه مِنَ
(٢) قوله: ونضواي كذا بخطه رحمه الله، والذي في الصحاح وغيره ومطواي.
257
الْماءِ فلا يصل إلي. قال ذلك زعما منه أن ذلك كسائر المياه في أزمنة السيول المعتادة التي ربما يتقي منها بالصعود إلى مرتفع وجهلا منه بأن ذلك إنما كان لإهلاك الكفرة فلا بد أن يدركهم ولو كانوا في قلل الجبال قالَ مبينا له حقيقة الحال وصارفا له عن ذلك الفكر المحال لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ نفي لجنس العاصم المنتظم لنفي جميع أفراده ذاتا وصفة للمبالغة في نفي كون الجبل عاصما، وزاد الْيَوْمَ للتنبيه على أنه ليس كسائر الأيام التي تقع فيها الوقائع وتلم فيها الملمات المعتادة التي ربما يتخلص منها بالالتجاء إلى بعض الأسباب العادية، وعبر عن الماء في محل إضماره بأمر الله أي عذابه الذي أشير إليه أولا بقوله سبحانه: حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا تفخيما لشأنه وتهويلا لأمره وتنبيها لابنه على خطئه في تسميته ماء وتوهمه أنه كسائر المياه التي يتخلص منها بالهرب إلى بعض المهارب المعهودة، وتعليلا للنفي المذكور فإن أمر الله سبحانه لا يغالب وعذابه لا يرد، وتمهيدا لحصر العصمة في جناب الله تعالى عز جاره بالاستثناء كأنه قيل: لا عاصم من أمر الله تعالى إلا هو تعالى، وإنما قيل: إِلَّا مَنْ رَحِمَ تفخيما لشأنه الجليل جل شأنه وإشعارا بعلية رحمته بموجب سبقها غضبه كل ذلك لكمال عنايته عليه السلام بتحقيق ما يتوخاه من نجاة ابنه ببيان شأن الداهية وقطع أطماعه الفارغة وصرف عنانه عن التعلل بما لا يغني عنه شيئا وإرشاده إلى العياذ بالمعاذ الحق عز حماه، ولذا عدل عما يقتضيه الظاهر من الجواب بقوله: لا يعصمك الجبل منه كذا ذكره بعض المحققين وهو أحد أوجه في الآية وأقواها.
والوجه الثاني أن عاصما صيغة نسبة، والمراد بالموصول المرحوم أي لا ذا عصمة أي معصوم إلا من رحمه الله تعالى، وأيد ذلك بأنه قرىء إِلَّا مَنْ رَحِمَ بالبناء للمفعول، واعترضه في الكشف بأن فاعلا بمعنى النسبة قليل، وأجيب بأنه إن أراد قلته في نفسه فممنوع وإن بالنسبة إلى الوصف فلا يضر.
والثالث أن- عاصما- على ظاهره، ومَنْ رَحِمَ بمعنى المرحوم والاستثناء منقطع لا متصل كما في الوجهين الأولين أي لا عاصم من أمر الله لكن من رحمه الله تعالى فهو معصوم، وأورد عليه بأن مثل هذا المنقطع قليل لأنه في الحقيقة جملة منقطعة تخالف الأولى لا في النفي والإثبات فقط بل في الاسمية والفعلية أيضا، والأكثر فيه مثل ما جاءني القوم إلا حمارا، والرابع أن- عاصما- بمعنى معصوم كدافق بمعنى مدفوق وفاتن بمعنى مفتون في قوله:
بطيء القيام رخيم الكلا م أمسى فؤادي به «فاتنا»
ومَنْ رَحِمَ بمعنى الراحم، والاستثناء منقطع أيضا أي لا معصوم إلا الراحم على معنى لكن الراحم يعصم من أراد، والخامس أن الكلام على إضمار المكان والاستثناء متصل أي لا عاصم إلا مكان من رحمه الله من المؤمنين وهو السفينة، قيل: وهو وجه حسن فيه مقابلة لقوله: يَعْصِمُنِي وهو المرجح بعد الأول، والعاصم على هذا حقيقة لكن إسناده إلى المكان مجازي، وقيل: إنه مجاز مرسل عن مكان الاعتصام، والمعنى لا مكان اعتصام إلا مكان من رحمه الله، وادعى أنه أرجح من الكل لأنه ورد جوابا عن قوله: سَآوِي إِلى جَبَلٍ إلخ وليس بمسلم، والسادس ما أبداه صاحب الكشف من عنده وهو أن المعنى لا معصوم إلا مكان من رحمه الله تعالى، ويراد به عصمة من فيه على الكناية فإن السفينة إذا عصمت عصم من فيها، والسابع أن الاستثناء مفرغ، والمعنى لا عاصم اليوم أحدا أو لأحد إلا من رحمه الله أو لمن رحمه الله سبحانه، وعده بعضهم أقربها، ولا أظنك تعدل بالوجه الأول وجها وهو الذي اختاره، والظاهر على ما قال أبو حيان: إن خبر لا محذوف للعلم به أي لا عاصِمَ موجود، والأكثر الحذف في مثل ذلك عند الحجازيين، والتزم الحذف فيه بنو تميم ويكون اليوم منصوبا على إضماره فعل يدل عليه عاصِمَ أي لا عاصِمَ
258
يعصم اليوم والجار والمجرور متعلق بذلك الفعل ومنع جواز أن يكون الْيَوْمَ منصوبا باسم- لا- وأن يكون الجار متعلقا به لأنه يلزم حينئذ أن يكون معربا منونا للطول.
وجوز الحوفي أن يكون الْيَوْمَ متعلقا بمحذوف وقع خبرا- للا- والجار متعلق بذلك المحذوف أيضا، وأن يكون متعلقا بمحذوف هو الخبر، والْيَوْمَ في موضع النعت لعاصم، ورد أبو البقاء خبرية اليوم بأنه ظرف زمان وهو لا يكون خبرا عن الجثة، والتزم كونه معمول من أمر الله وكون الخبر هو الجار والمجرور، ورد أبو حيان جواز النعتية بأن ظرف الزمان لا يكون نعتا للجثث كما لا يكون خبرا عنها وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ أي بين نوح عليه السلام وابنه فانقطع ما بينهما من المجاوبة، قيل: كانا يتراجعان الكلام فما استتمت المراجعة حتى جاءت موجة عظيمة وكان راكبا على فرس قد بطر وأعجب بنفسه فالتقمته وفرسه، وليس في الآية هنا إلا إثبات الحيلولة، وأما علمه عليه السلام بغرقه فلم يحصل إلا بعد، وقال الفراء: بينهما أي بين ابن نوح عليه السلام والجبل، وأخرج ذلك ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن القاسم بن أبي بزة، وتعقبه العلامة أبو السعود بأن قوله تعالى: فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ إنما يتفرع على حيلولة الموج بينه عليه السلام وبين ابنه لا بينه وبين الجبل لأنه بمعزل عن كونه عاصما وإن لم يحل بينه وبين الملتجأ إليه موج، وأجيب بأن التفريع لا ينافي ذلك لأن المراد فكان من غير مهلة أو هو بناء على ظنه أن الماء لا يصل إليه، وفي الآية دلالة على غرق سائر الكفرة على أبلغ وجه. فكأن ذلك أمر مقرر الوقوع غير مفتقر إلى البيان، وفي إيراد- كان- دون صار مبالغة في كونه منهم وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي أي انشفي استعير من ازدراد الحيوان ما يأكله للدلالة على أن ذلك ليس كالشف المعتاد التدريجي، وتخصيص البلع بما يؤكل هو المشهور عن اللغويين، وقال الليث: يقال:
بلع الماء إذا شربه وهو ظاهر في أنه غير خاص بالمأكول، وذكر السيد أن ذلك مجاز، وأخرج ابن المنذر وغيره عن وهب بن منبه أن البلع بمعنى الازدراد لغة حبشية، وأخرج أبو الشيخ عن جعفر بن محمد عن أبيه أنه بمعنى الشرب لغة هندية ماءَكِ أي ما على وجهك من ماء الطوفان وعبر عنه بالماء بعد ما عبر عنه فيما سلف بأمر الله تعالى لأن المقام مقام النقص والتقليل لا مقام التفخيم والتهويل وَيا سَماءُ أَقْلِعِي أي أمسكي عن إرسال المطر يقال: أقلعت السماء إذا انقطع مطرها وأقلعت الحمى إذا كفت، والظاهر أن المطر لم ينقطع حتى قيل للسماء ما قيل، وهل فوران الماء كان مستمرا حتى قيل للأرض ما قيل أم لا؟ لم أر فيه شيئا، والآية ليست نصا في أحد الأمرين وَغِيضَ الْماءُ أي نقص يقال: غاضه إذا نقصه وجميع معانيه راجعة إليه.
وقول الجوهري: غاض الماء إذا قل ونضب، وغيض الماء فعل به ذلك لا يخالفه فإن القلة عين النقصان، وتفسير ذلك بالنقص مروي عن مجاهد وَقُضِيَ الْأَمْرُ أي أنجز ما وعد الله تعالى نوحا عليه السلام من إهلاك كفار قومه وإنجائه بأهله المؤمنين، وجوز أن يكون المعنى أتم الأمر وَاسْتَوَتْ استقرت يقال: استوى على السرير إذا استقر عليه عَلَى الْجُودِيِّ بتشديد الياء، وقرأ الأعمش وابن أبي عبلة بتخفيفها وهما لغتان- كما قال ابن عطية- وهو جبل بالموصل، أو بالشام، أو بآمل- بالمد وضم الميم والمشهور الأول.
وجاء في بعض الآثار أن الجبال تشامخت إذ ذاك وتواضع هو لله تعالى شأنه فأكرمه سبحانه باستواء السفينة عليه، من تواضع الله سبحانه رفعه، وكان استواؤها عليه يوم عاشوراء فقد أخرج أحمد وغيره عن أبي هريرة قال: «مر النبي صلّى الله عليه وسلّم بأناس من اليهود وقد صاموا يوم عاشوراء فقال: ما هذا الصوم؟ فقيل: هذا اليوم الذي أنجى الله تعالى فيه موسى عليه السلام وبني إسرائيل من الغرق وغرق فيه فرعون، وهذا يوم استوت فيه السفينة على الجودي فصامه نوح وموسى عليهما السلام شكرا لله تعالى، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: أنا أحق بموسى عليه السلام وأحق بصوم هذا اليوم فصامه وأمر أصحابه بالصوم»
وأخرج الأصبهاني في الترغيب عنه رضي الله تعالى عنه أنه اليوم الذي ولد فيه عيسى عليه
259
السلام أيضا وأن صيامه يعدل سنة مبرورة، وكان ركوبه عليه السلام- فيما روي عن قتادة- في عشر خلون من رجب.
وأخرج ابن جرير عن عبد العزيز بن عبد الغفور عن أبيه مرفوعا أنه عليه السلام ركب في أول يوم من رجب فصام هو ومن معه وجرت بهم السفينة ستة أشهر فانتهى ذلك إلى المحرم فأرست السفينة على الجودي يوم عاشوراء فصام نوح عليه السلام وأمر جميع من معه من الوحش والدواب فصاموا شكرا لله.
وفي بعض الآثار أنها طافت بهم الأرض كلها ولم تدخل الحرم لكنها طافت به أسبوعا وأن الحجر الأسود خبىء في جبل أبي قبيس وأن البيت رفع إلى السماء، وفي رواية ابن عساكر عن مجاهد أنه لم يدخل الحرم من الماء شيء،
والظاهر على هذا أنه لا خبء كما أنه لا رفع، وعندي أن رواية ثبوتهما جميعا مما لا تكاد تصح، وبفرض صحتها لا يظهر لي سر رفع البيت بلا حجر وخبء الحجر بلا بيت بل عندي في رفع البيت مطلقا تردد، وإن كنت ممن لا يتردد في أن الله تعالى على كل شيء قدير وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي هلاكا لهم، واللام صلة المصدر، وقيل: متعلق بقيل وأن المعنى قيل لأجلهم بعدا وهو خلاف الظاهر، والتعرض لوصف الظلم للإشعار بعليته للهلاك ولتذكير ما سبق في قوله سبحانه: وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا [هود: ٣٧] ولا يخفى ما في هذه الآية أيضا من الدلالة على عموم هلاك الكفرة. ويشهد لذلك آيات أخر وأخبار كثيرة بل فيها ما هو على علاته ظاهر في عموم هلاك من على الأرض ما عدا أهل السفينة فعن عبيد بن عمير أن فيمن أصاب الغرق امرأة معها صبي لها فوضعته على صدرها فلما بلغها الماء وضعته على منكبها فلما بلغها الماء وضعته على يديها فقال الله سبحانه: لو رحمت أحدا من أهل الأرض لرحمتها ولكن حق القول مني.
وزعم بعضهم أنه لم ينج أحد من الكفار سوى عوج بن عوق وكان الماء يصل إلى حجرته، وسبب نجاته أن نوحا عليه السلام احتاج إلى خشب ساج فلم يمكنه نقله فحمله عوج من الشام إليه عليه السلام فنجاه الله تعالى من الغرق لذلك، وظاهر كلام القاموس يقتضي نجاته، فقد ذكر فيه عوج بن عوق- بضمهما- رجل ولد في منزل آدم عليه السلام فعاش إلى زمن موسى عليه السلام، والحق أنه لم ينج أحد من الكفار أصلا، وخبر عوج يرويه هيان بن بيان فلا تعج إلى القول به ولا يشكل إغراق الأطفال الذين لا ذنب لهم لما أنه مجرد سبب للموت بالنسبة إليهم وأي محذور في إماتة من لا ذنب له وفي كل وقت يميت الله سبحانه من ذلك ما لا يحصى وهو جل شأنه المالك الحق والمتصرف المطلق يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، ولا يحتاج في الجواب إلى ما
أخرجه إسحاق بن بشر وابن عساكر عن عبد الله ابن زياد بن سمعان عن رجال سماهم أن الله تعالى أعقم رجالهم قبل الطوفان بأربعين عاما وأعقم نساءهم فلم يتوالدوا أربعين عاما منذ دعا نوح عليه السلام حتى أدرك الصغير فبلغ الحنث وصارت لله تعالى عليهم الحجة ثم أنزل السماء عليهم بالطوفان إذ يبقى عليه مع ضعفه والتعارض بينه
وبين الخبر السابق آنفا أمر إهلاك ما لم يكن في السفينة من الحيوانات وقد جاء عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه أن نوحا عليه السلام لما حمل من حمل في السفينة رأت البهائم والوحش والسباع العذاب فجعلت تلحس قدمه عليه السلام وتقول: احملنا معك فيقول: إنما أمرت أن أحمل من كل زوجين اثنين ولم يحملها وكذا لا يحتاج إلى الجواب بأن الله تعالى إنما أهلك أولئك الأطفال لعلمه جل شأنه بما كانوا فاعلين وذلك كما يقال في وجه إدخال أطفال الكفار النار يوم القيامة على قول من يراه لما أن فيه ما فيه، وبالجملة إماتة الأحياء بأي سبب كان دفعة أو تدريجا مما لا محذور فيه ولا يسأل عنه.
260
هذا واعلم أن هذه الآية الكريمة قد بلغت من مراتب الإعجاز أقاصيها واستذلت مصاقع العرب فسفعت بنواصيها وجمعت من المحاسن ما يضيق عنه نطاق البيان وكانت من سمهري البلاغة مكان السنان، يروى أن كفار قريش قصدوا أن يعارضوا القرآن فعكفوا على لباب البر ولحوم الضأن وسلاف الخمر أربعين يوما لتصفوا أذهانهم فلما أخذوا فيما قصدوه وسمعوا هذه الآية قال بعضهم لبعض: هذا الكلام لا يشبه كلام المخلوقين فتركوا ما أخذوا فيه وتفرقوا، ويروى أيضا أن ابن المقفع- وكان كما في القاموس فصيحا بليغا، بل قيل: إنه أفصح أهل وقته- رام أن يعارض القرآن فنظم كلاما وجعله مفصلا وسماه سورا فاجتاز يوما بصبي يقرؤها في مكتب فرجع ومحا ما عمل، وقال: أشهد أن هذا لا يعارض أبدا وما هو من كلام البشر، ولا يخفى أن هذا لا يستدعي أن لا يكون سائر آيات القرآن العظيم معجزا لما أن حد الإعجاز هو المرتبة التي يعجز البشر عن الإتيان بمثلها ولا تدخل على قدرته قطعا، وهي تشتمل على شيئين: الأول الطرف الأعلى من البلاغة أعني ما ينتهي إليه البلاغة ولا يتصور تجاوزها إياه، والثاني ما يقرب من ذلك الطرف أعني المراتب العلية التي تتقاصر القوى البشرية عنها أيضا ومعنى إعجاز آيات الكتاب المجيد بأسرها هو كونها مما تتقاصر القوى البشرية عن الإتيان بمثلها سواء كانت من القسم الأول أو الثاني، فلا يضر تفاوتها في البلاغة وهو الذي قاله علماء هذا الشأن، وأنشد بعض الفرس في ذلك:
در بيان ودر فصاحت كي بود يكسان سخن ور چهـ كوينده بود جون حافظ وجون أصمعي
در كلام ايزد بيجون كه وحي منزلست... كي بود تيت يداجون قيل: يا أرض ابلعي
وقد فصل بعض مزايا هذه الآية المهرة المتقنون وتركوا من ذلك ما لا يكاد يصفه الواصفون، ولا بأس بذكر شيء مما ذكر إفادة لجاهل وتذكير لفاضل غافل، فنقول: ذكر العلامة السكاكي أن النظر فيها من أربع جهات: من جهة علم البيان، ومن جهة علم المعاني وهما مرجعا البلاغة ومن جهة الفصاحة المعنوية ومن جهة الفصاحة اللفظية، أما النظر فيها من جهة علم البيان وهو النظر فيها من المجاز والاستعارة والكناية وما يتصل بذلك من القرينة والترشيح والتعريض فهو أنه عز سلطانه لما أراد أن يبين معنى أردنا أن نردّ ما انفجر من الأرض إلى بطنها فارتد. وأن نقطع طوفان السماء فانقطع، وأن نغيض الماء النازل من السماء فغاض، وأن نقضي أمر نوح عليه السلام وهو إنجاء ما كنا وعدناه من إغراق قومه فقضى، وأن نسوي السفينة على الجودي فاستوت وأبقينا الظلمة غرقى، بنى سبحانه الكلام على تشبيه المراد منه بالمأمور الذي لا يتأتى منه لكمال هيبته من الآمر العصيان، وتشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافذ في تكون المقصود تصويرا لاقتداره سبحانه العظيم، وأن هذه الأجرام العظيمة من السماوات والأرض تابعة لإرادته تعالى إيجادا وإعداما ولمشيئته فيها تغييرا أو تبديلا كأنها عقلاء مميزون قد عرفوه جل شأنه حق معرفته وأحاطوا علما بوجوب الانقياد لأمره والإذعان لحكمه وتحتم بذل المجهود عليه في تحصيل مراده وتصوروا مزيد اقتداره فعظمت مهابته في نفوسهم وضربت سرادقها في أفنية ضمائرهم فكما يلوح لهم إشارته سبحانه كان المشار إليه مقدما، وكما يرد عليهم أمره تعالى شأنه كان المأمور به متمما لا تلقى لإشارته بغير الإمضاء والانقياد ولا لأمره بغير الإذعان والامتثال. ثم بنى على مجموع التشبيهين نظم الكلام فقال جل وعلا: قِيلَ على سبيل المجاز عن الإرادة من باب ذكر المسبب وإرادة السبب لأن الإرادة تكون سببا لوقوع القول في الجملة وجعل قرينة هذا المجاز خطاب الجماد وهو يا أَرْضُ وَيا سَماءُ إذ يصح أن يراد حصول شيء متعلق بالجماد ولا يصح القول له ثم قال سبحانه كما ترى: يا أَرْضُ وَيا سَماءُ مخاطبا لهما على سبيل الاستعارة للشبه المذكور، والظاهر أنه أراد أن هناك استعارة بالكناية حيث ذكر المشبه أعني السماء والأرض المراد منهما حصول أمر وأريد المشبه به أعني المأمور
261
الموصوف بأنه لا يتأتى منه العصيان ادعاء بقرينة نسبة الخطاب إليه ودخول حرف النداء عليه- وهما من خواص المأمور المطيع- ويكون هذا تخييلا.
وقد يقال: أراد أن الاستعارة هاهنا تصريحية تبعية في حرف النداء بناء على تشبيه تعلق الإرادة بالمراد منه بتعلق النداء والخطاب بالمنادى المخاطب وليس بشيء إذ لا يحسن هذا التشبيه ابتداء بل تبعا للتشبيه الأول فكيف يجعل أصلا لمتبوعه؟! على أن قوله للشبه المذكور يدفع هذا الحمل، ثم استعار لغور الماء في الأرض البلع الذي هو اعمال الجاذبة في المطعوم للشبه بينهما وهو الذهاب إلى مقر خفي.
وفي الكشاف جعل البلع مستعارا لنشف الأرض الماء وهو أولى، فإن النشف دال على جذب من أجزاء الأرض لما عليها كالبلع بالنسبة إلى الحيوان، ولأن النشف فعل الأرض والغور فعل الماء مع الطباق بين الفعلين تعديا، ثم استعار الماء للغذاء استعارة بالكناية تشبيها له بالغذاء لتقوي الأرض بالماء في الإنبات للزروع والأشجار تقوي الآكل بالطعام، وجعل قرينة الاستعارة لفظة ابْلَعِي لكونها موضوعة للاستعمال في الغذاء دون الماء.
ولا يخفى عليك أنه إذا اعتبر مذهب السلف في الاستعارة يكون ابْلَعِي استعارة تصريحية ومع ذلك يكون بحسب اللفظ قرينة للاستعارة بالكناية في الماء على حد ما قالوا في: يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ [البقرة: ٢٧، الرعد:
٢٥] وأما إذا اعتبر مذهبه فينبغي أن يكون البلع باقيا على حقيقته كالإنبات في أنبت الربيع البقل وهو بعيد، أو يجعل مستعارا لأمر متوهم كما في نطقت الحال، فيلزمه القول بالاستعارة التبعية كما هو المشهور، ثم إنه تعالى أمر على سبيل الاستعارة للتشبيه الثاني وخاطب في الأمر ترشيحا لاستعارة النداء.
والحاصل أن في لفظ ابْلَعِي باعتبار جوهره استعارة لغور الماء وباعتبار صورته أعني كونه صورة أمر استعارة أخرى لتكوين المراد وباعتبار كونه أمر خطاب ترشيح للاستعارة المكنية التي في المنادى فإن قرينتها النداء وما زاد على قرينة المكنية يكون ترشيحا لها، وأما جعل النداء استعارة تصريحية تبعية حتى يكون خطاب الآمر ترشيحا لها فقد عرفت ما فيه، ثم قال جل وعلا: ماءَكِ بإضافة الماء إلى الأرض على سبيل المجاز تشبيها لاتصال الماء بالأرض باتصال الملك بالمالك، واختار ضمير الخطاب لأجل الترشيح، وحاصله أن هناك مجازا لغويا في الهيئة الإضافية الدالة على الاختصاص الملكي ولهذا جعل الخطاب ترشيحا لهذه الاستعارة من حيث إن الخطاب يدل على صلوح الأرض للمالكية فما قيل: إن المجاز عقلي والعبارة مصروفة عن الظاهر ليس بشيء، ثم اختار لاحتباس المطر الإقلاع الذي هو ترك الفاعل الفعل للشبه بينهما في عدم ما كان من المطر أو الفعل ففي أَقْلِعِي استعارة باعتبار جوهره وكذا باعتبار صيغته أيضا وهي مبنية على تشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافذ، والخطاب فيه أيضا ترشيح لاستعارة النداء، والحاصل أن الكلام فيه مثل ما مر في ابْلَعِي ثم قال سبحانه: وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً
فلم يصرح جل وعلا بمن غاض الماء ولا بمن قضى الأمر وسوى السفينة وقال بعدا كما لم يصرح سبحانه بقائل يا أَرْضُ وَيا سَماءُ في صدر الآية سلوكا في كل واحد من ذلك لسبيل الكناية لأن تلك الأمور العظام لا تصدر إلا من ذي قدرة لا يكتنه قهار لا يغالب فلا مجال لذهاب الوهم إلى أن يكون غيره جلت عظمته قائلا: يا أَرْضُ ويا سَماءُ ولا غائض ما غاض ولا قاضي مثل ذلك الأمر الهائل، أو أن يكون تسوية السفينة وإقرارها بتسوية غيره.
والحاصل أن الفعل إذا تعين لفاعل بعينه استتبع لذلك أن يترك ذكره ويبني الفعل لمفعوله، أو يذكر ما هو أثر لذلك الفعل على صيغة المبني للفاعل، ويسند إلى ذلك المفعول فيكون كناية عن تخصيص الصفة التي هي الفعل بموصوفها، وهذا أولى مما قيل في تقرير الكناية هنا: إن ترك ذكر الفاعل وبناء الفعل للمفعول من لوازم العلم بالفاعل
262
وتعينه لفاعلية ذلك الفعل فذكر اللازم وأريد الملزوم لما أن استوت غير مبني للمفعول- كقيل وغيض- ثم إنه تعالى ختم الكلام بالتعريض تنبيها لسالكي مسلك أولئك القوم في تكذيب الرسل عليهم السلام ظلما لأنفسهم لا غير ختم إظهار لمكان السخط ولجهة استحقاقهم إياه وأن قيامة الطوفان وتلك الصورة الهائلة ما كانت إلا لظلمهم كما يؤذن بذلك الدعاء بالهلاك بعد هلاكهم والوصف بالظلم مع تعليق الحكم به، وذكر بعضهم أن البعد في الأصل ضد القرب وهو باعتبار المكان ويكون في المحسوس، وقد يقال في المعقول نحو ضَلُّوا ضَلالًا بَعِيداً [النساء: ١٦٧] واستعماله في الهلاك مجاز، قال ناصر الدين: يقال بعد بعدا بضم فسكون وبعدا بالتحريك إذا بعد بعدا بعيدا بحيث لا يرجى عوده، ثم استعير للهلاك وخص بدعاء السوء ولم يفرق في القاموس بين صيغتي الفعل في المعنيين حيث قال:
البعد معروف والموت وفعلهما- ككرم وفرح- بعدا وبعدا فافهم.
وزعم بعضهم أن الأرض والسماء أعطيتا ما يعقلان به الأمر فقيل لهما حقيقة ما قيل، وأن القائل بُعْداً نوح عليه السلام ومن معه من المؤمنين، ولا يخفى أن هذا خلاف الظاهر ولا أثر فيه يعول عليه، والكلام على الأول أبلغ، وأما النظر فيها من جهة علم المعاني وهو النظر في فائدة كل كلمة فيها وجهة كل تقديم وتأخير فيما بين جملها فذلك أنه اختير يا دون سائر أخواتها لكونها أكثر في الاستعمال وأنها دالة على بعد المنادى الذي يستدعيه مقام إظهار العظمة وإبداء شأن العزة والجبروت، وهو تبعيد المنادى المؤذن بالتهاون به ولم يقل يا أَرْضُ بالكسر لأن الإضافة إلى نفسه جل شأنه تقتضي تشريفا للأرض وتكريما لها فترك إمدادا للتهاون لم يقل يا أيتها الأرض مع كثرته في نداء أسماء الأجناس قصدا إلى الاختصار والاحتراز عن تكلف التنبيه المشعر بالغفلة التي لا تناسب ذلك المقام، واختير لفظ الأرض والسماء على سائر أسمائهما كالمقلة والغبراء وكالمظلة والخضراء لكونهما أخصر وأورد في الاستعمال وأوفى بالمطابقة، فإن تقابلهما إنما اشتهر بهذين الاسمين، واختير لفظ ابْلَعِي على ابتلعي لكونه أخصر وأوفر تجانسا- باقلعي- لأن همزة الوصل إن اعتبرت تساويا في عدد الحروف وإلا تقاربا فيه بخلاف ابتلعي، وقيل:
ماءَكِ بالإفراد دون الجمع لما فيه من صورة الاستكثار المتأبى عنها مقام إظهار الكبرياء وهو الوجه في إفراد الأرض والسماء وإنما لم يقل ابْلَعِي بدون المفعول لئلا يستلزم تركه ما ليس بمراد من تعميم الابتلاع للجبال والتلال والبحار وساكنات الماء بأسرهن نظرا إلى مقام عظمة الآمر المهيب وكمال انقياد المأمور، ولما علم أن المراد بلع الماء وحده علم أن المقصود بالإقلاع إمساك السماء عن إرسال الماء فلم يذكر متعلق أَقْلِعِي اختصارا واحترازا عن الحشو المستغنى عنه وهذا هو السبب في ترك ذكر حصول المأمور به بعد الأمر فلم يقل قِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي فبلعت وَيا سَماءُ أَقْلِعِي فقلعت لأن مقام الكبرياء وكمال الانقياد يغني عن ذكره الذي ربما أوهم إمكان المخالفة، واختير غيض على غيض المشدد لكونه أخصر.
وقيل: الماء دون ماء طوفان السماء، وكذا الأمر دون أمر نوح وهو إنجاز ما وعد لقصد الاختصار، والاستغناء بحرف التعريف عن ذلك لأنه إما بدل من المضاف إليه كما هو مذهب الكوفية، وإما لأنه يغني غناء الإضافة في الإشارة إلى المعهود، واختير استوت على سويت أي أقرت مع كونه أنسب بأخواته المبنية للمفعول اعتبارا لكون الفعل المقابل للاستقرار أعني الجريان منسوبا إلى السفينة على صيغة المبني للفاعل في قوله تعالى: وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ مع أن اسْتَوَتْ أخصر من سويت، واختير المصدر أعني بُعْداً على ليبعد القوم طلبا لتأكيد معنى الفعل بالمصدر مع الاختصار في العبارة وهو نزول بُعْداً وحده منزلة ليبعدوا بعدا مع فائدة أخرى هي الدلالة على استحقاق الهلاك بذكر اللام، وإطلاق الظلم عن مقيداته في مقام المبالغة يفيد تناول كل نوع فيدخل فيه ظلمهم على
263
أنفسهم لزيادة التنبيه على فظاعة سوء اختيارهم في التكذيب من حيث إن تكذيبهم للرسل ظلم على أنفسهم لأن ضرره يعود إليهم، هذا من حيث النظر إلى تركيب الكلم، وأما من حيث النظر إلى ترتيب الجمل فذلك أنه قدم النداء على الأمر فقيل: يا أَرْضُ ابْلَعِي وَيا سَماءُ أَقْلِعِي دون أن يقال: ابلعي يا أرض، واقلعي يا سماء جريا على مقتضى اللازم فيمن كان مأمورا حقيقة من تقديم التنبيه ليتمكن الأمر الوارد عقيبه في نفس المنادى قصدا بذلك لمعنى الترشيح للاستعارة المكنية في الأرض والسماء، ثم قدم أمر الأرض على أمر السماء لكونها الأصل نظرا إلى كون ابتداء الطوفان منها حيث فار تنورها أولا، ثم جعل قوله سبحانه: وَغِيضَ الْماءُ تابعا لأمر الأرض والسماء لاتصاله بقصة الماء وأخذه بحجزتها، ألا ترى أصل الكلام قِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ فبلعت ماءها وَيا سَماءُ أَقْلِعِي عن إرسال الماء فأقلعت عن إرساله وَغِيضَ الْماءُ النازل من السماء فغاض.
وقيد الماء بالنازل وإن كان في الآية مطلقا لأن ابتلاع الأرض ماءها فهم من قوله سبحانه: ابْلَعِي ماءَكِ.
واعترض بأن الماء المخصوص بالأرض إن أريد به ما على وجهها فهو يتناول القبيلين الأرضي والسمائي وإن أريد به ما نبع منها فاللفظ لا يدل عليه بوجه، ولهذا حمل الزمخشري الماء على مطلقه، وأشعر كلامه بأن غيض الماء إخبار عن الحصول المأمور به من قوله سبحانه: يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي فالتقدير قيل لهما ذلك فامتثلا الأمر ونقص الماء.
ورجح الطيبي ما ذهب إليه السكاكي زاعما أن معنى الغيض حينئذ ما قاله الجوهري، وهو عنده مخالف للمعنى الذي ذكره الزمخشري فقال: إن إضافة الماء إلى الأرض لما كانت ترشيحا للاستعارة تشبيها لاتصاله بها باتصال الملك بالمالك ولذا جيء بضمير الخطاب اقتضت إخراج سائر المياه سوى الذي بسببه صارت الأرض مهيأة للخطاب بمنزلة المأمور المطيع وهو المعهود في قوله تعالى: وَفارَ التَّنُّورُ وبهذا الاعتبار يحصل التواغل في تناسي التشبيه والترشيح، ولو أجريت الإضافة على غير هذا تكون كالتجريد وكم بينهما، هذا ولو حمل على العموم لاستلزام تعميم ابتلاعه المياه بأسرها لورود الأمر من مقام العظمة كما علمت من كلام السكاكي، وليس بذاك، وتعقبه في الكشف بأنه دعوى بلا دليل ورد يمين إذ لا معهود، والظاهر ما على وجه الأرض من الماء ولا ينافي الترشيح وإضافة المالكية، ثم الظاهر من تنزيل الماء منزلة الغذاء أن تجعل الإضافة من باب إضافة الغذاء إلى المغتذي في النفع والتقوية وصيرورته جزءا منه ولا نظر فيه إلى كونه مملوكا أو غير ذلك، وأما التعميم فمطلوب وحاصل على التفسيرين لانحصار الماء في الأرضي والسمائي، وقد قلتم بنضوبهما من قوله سبحانه فبلعت. وقوله تعالى: وَغِيضَ ولا شك أن ما عندنا من الماء غير ماء الطوفان، هذا والمطابق تفسير الزمخشري، ألا ترى إلى قوله جل وعلا: فَالْتَقَى الْماءُ أي الأرضي والسمائي، وهاهنا تقدم الماءان في قوله سبحانه: ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي لأن تقديره عن إرسال الماء على زعمهم، فإذا قيل: وغيض الماء رجع إليهما لا محالة لتقدمهما، ثم إذا جعل من توابع أَقْلِعِي خاصة لم يحسن عطفه على أصل القصة أعني وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي كيف وفي إيثار هذا التفسير الإشارة إلى أنه زال كونه طوفانا لأن نقصان الماء غير الإذهاب بالكلية، وإلى أن الأجزاء الباطنة من الأرض لم تبق على ما كانت عليه من قوة الإنباع ورجعت إلى الاعتدال المطلوب وليس في الاختصاص بالنضوب هذا المعنى البتة انتهى.
وزعم الطبرسي أن أئمة البيت رضي الله تعالى عنهم على أن الماء المضاف هو ما نبع وفار وأنه هو الذي ابتلع وغاض لا غير، وأن ماء السماء صار بحارا أو نهارا.
وأخرج ابن عساكر من طريق الكلبي عن ابن عباس ما يؤيده، وهذا مخالف لما يقتضيه كلام السكاكي مخالفة
264
ظاهرة، وفي القلب من صحته ما فيه، ثم إنه تعالى أتبع غيض الماء ما هو المقصود الأصلي من القصة، وهو قوله جلت عظمته: وَقُضِيَ الْأَمْرُ ثم أتبع ذكر المقصود حديث السفينة لتأخره عنه في الوجود، ثم ختمت القصة بالتعريض الذي علمته، وهذا كله نظر في الآية من جانبي البلاغة، وأما النظر فيها من جانب الفصاحة المعنوية فهي كما ترى نظم للمعاني لطيف. وتأدية لها ملخصة مبينة لا تعقيد يعثر الكفر في طلب المراد ولا التواء يشيك الطريق إلى المرتاد بل إذا جربت نفسك عند استماعها وجدت ألفاظها تسابق معانيها ومعانيها تسابق ألفاظها فما من لفظة فيها تسبق إلى أذنك إلا ومعناها أسبق إلى قلبك، وأما النظر فيها من جانب الفصاحة اللفظية فألفاظها على ما ترى عربية مستعملة جارية على قوانين اللغة سليمة عن التنافر بعيدة عن البشاعة عذبة على العذبات سلسلة على الإسلات كل منها كالماء في السلالة وكالعسل في الحلاوة وكالنسيم في الرقة، ولله تعالى در التنزيل ماذا جمعت آياته:
وعلى تفنن واصفيه بحسنه يفني الزمان وفيه ما لم يوصف
وما ذكر في شرح مزايا هذه الآية بالنسبة إلى ما فيها قطرة من حياض وزهرة من رياض، وقد ذكر ابن أبي الأصبع أن فيها عشرين ضربا من البديع مع أنها سبع عشرة لفظة وذلك المناسبة التامة في ابْلَعِي وأَقْلِعِي والاستعارة فيهما والطباق بين الأرض والسماء والمجاز في يا سَماءُ فإن الحقيقة يا مطر السماء، والإشارة في وَغِيضَ الْماءُ فإنه عبر به عن معان كثيرة لأن الماء لا يغيض حتى يقلع مطر السماء وتبلع الأرض ما يخرج منها فينقص ما على وجه الأرض، والإرداف في وَاسْتَوَتْ والتمثيل في وَقُضِيَ الْأَمْرُ والتعليل فإن غيض الماء علة للاستواء وصحة التقسيم فإنه استوعب أقسام الماء حال نقصه والاحتراس في الدعاء لئلا يتوهم أن الغرق لعمومه شمل من لا يستحق الهلاك فإن عدله تعالى يمنع أن يدعو على غير مستحق، وحسن النسق وائتلاف اللفظ مع المعنى والإيجاز فإنه سبحانه قص القصة مستوعبة بأخصر عبارة، والتسهيم لأن أول الآية يدل على آخرها، والتهذيب لأن مفرداتها موصوفة بصفات الحسن، وحسن البيان من جهة أن السامع لا يتوقف في فهم معنى الكلام ولا يشكل عليه شيء منه، والتمكين لأن الفاصلة مستقرة في محلها مطمئنة في مكانها، والانسجام، وزاد الجلال السيوطي بعد أن نقل هذا عن ابن أبي الأصبع الاعتراض، وزاد آخرون أشياء كثيرة إلا أنها ككلام ابن أبي الأصبع قد أشير إليها بأصبع الاعتراض، وقد ألف شيخنا علاء الدين- أعلى الله تعالى درجته في أعلى عليين- رسالة في هذه الآية الكريمة جمع فيها ما ظهر له ووقف عليه من مزاياها فبلغ ذلك مائة وخمسين مزية، وقد تطلبت هذه الرسالة لأذكر شيئا من لطائفها فلم أظفر بها وكأن طوفان الحوادث أغرقها، ولعل فيما نقلناه سدادا من عوز، والله تعالى الموفق للصواب وعنده علم الكتاب.
وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ أي أراد ذلك بدليل تفريع قوله سبحانه: فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي عليه، وقيل:
النداء على حقيقته والعطف بالفاء لكون حق التفصيل يعقب الإحمال وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ أي وإن وعدك ذلك أو كل وعد تعده حق لا يتطرق إليه خلف فيدخل فيه الوعد المعهود دخولا أوليا.
وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ لأنك أعلمهم وأعدلهم، وقد ذكر أنه إذا بنى أفعل من الشيء الممتنع من التفضيل والزيادة يعتبر فيما يناسب معناه معنى الممتنع، وقال العز بن عبد السلام في أماليه: إن هذا ونحوه من أرحم الراحمين وأحسن الخالقين مشكل لأن أفعل لا يضاف إلا إلى جنسه، وهنا ليس كذلك لأن الخلق من الله سبحانه بمعنى الإيجاد ومن غيره بمعنى الكسب وهما متباينان يعني على المشهور من مذهب الأشاعرة، والرحمة من الله تعالى إن حملت على الإرادة أو جعلت من مجاز التشبيه صح وإن أريد إيجاد فعل الرحمة كان مشكلا أيضا إذ لا موجد سواه سبحانه،
265
وأجاب الآمدي بأنه بمعنى أعظم من يدعي بهذا الاسم، واستشكل بأن فيه جعل التفاضل في غير ما وضع اللفظ بإزائه وهو يناسب مذهب المعتزلة فافهم، وقيل: المعنى هنا أنك أكثر حكمة من ذوي الحكم على أن الحاكم من الحكم كالدارع من الدرع، واعترض عليه بأن الباب ليس بقياسي وأنه لم يسمع حاكم بمعنى حكيم وأنه لا يبنى منه أفعل إذا لأنه ليس جاريا على الفعل لا يقال: ألبن وأتمر من فلان إذا لا فعل بذلك المعنى، والجواب بأنه قد كثر في كلامهم فجوز على أن يكون وجها مرجوحا وبأنه من قبيل أحنك الشاتين لا يخلو عن تعسف كما في الكشف، وتعقب بأن للحكمة فعلا ثلاثيا وهو حكم، وأفعل من الثلاثي مقيس، وأيضا سمع احتنك الجراد وألبن وأتمر فغايته أن يكون من غير الثلاثي ولا يخفى ما فيه، ومنهم من فسره على هذا بأعلمهم بالحكمة كقولهم: آبل من أبل بمعنى أعلم وأحذق بأمر الإبل، وأيا ما كان فهذا النداء منه عليه السلام يقطر منه الاستعطاف، وجميل التوسل إلى من عهده منعما مفضلا في شأنه أولا وآخرا وهو على طريقة دعاء أيوب عليه السلام إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأنبياء:
٨٣] فيكون ذلك قبل الغرق، والواو لا تقتضي الترتيب، وقيل: إن النداء إنما كان بعده والمقصود منه الاستفسار عن سبب عدم إنجائه مع سبق وعده تعالى بإنجاء أهله وهو منهم، وسيأتي إن شاء الله تعالى قريبا تمام الكلام في ذلك قالَ استئناف بياني كأنه قيل، ما قال له ربه سبحانه حين ناداه بذلك؟ فقيل: قال: يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ أي ليس منهم أصلا لأن مدار الأهلية هو القرابة الدينية وقد انقطعت بالكفر فلا علاقة بين مسلم وكافر ولذا لم يتوارثا، وقد ذكروا أن قرابة الدين أقرب من قرابة النسب كما أشار إلى ذلك أبو فراس بقوله:
كانت مودة سلمان له نسبا ولم يكن بين نوح وابنه رحم
أو لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ الذين أمرتك بحملهم في الفلك لخروجه عنهم بالاستثناء، وحكي هذا عن ابن جرير وعكرمة، والأول عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وعلى القولين ليس هو من الذين وعد بإنجائهم، وكأنه لما كان دعاؤه عليه السلام بتذكير وعده جل ذكره مبنيا على كون كنعان من أهله نفى أولا كونه منهم، ثم علل عدم كونه منهم على طريقة الاستئناف التحقيقي بقوله سبحانه: إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ وأصله إنه ذو عمل فاسد فحذف ذو للمبالغة بجعله عين عمله لمداومته عليه، ولا يقدر المضاف لأنه حينئذ تفوت المبالغة المقصودة منه، ونظير ذلك ما في قول الخنساء ترثي أخاها صخرا.
ما أم سقب على بو تحن له قد ساعدتها على التحنان آظار
ترتع ما رتعت حتى إذا ادّكرت فإنما هي إقبال وإدبار
يوما بأوجع مني حين فارقني صخر وللعيش إحلاء وإمرار
وأبدل فاسد بغير- صالح- إما لأن الفاسد ربما يطلق على ما فسد ومن شأنه الصلاح فلا يكون نصا فيما هو من قبيل الفاسد المحض كالمظالم، وإما للتلويح بأن نجاة من نجا إنما هو لصلاحه.
وقرأ الكسائي ويعقوب «إنه عمل غير صالح» على صيغة الماضي، ونصب «غير» وهي قراءة عليّ كرم الله تعالى وجهه وابن عباس وأنس وعائشة، وقد روتها هي وأم سلمة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، والأصل عمل عملا غير صالح، وبه قرىء أيضا كما روي عن عكرمة فحذف الموصوف وأقيمت صفته مقامه، وذلك شائع مطرد عند انكشاف المعنى وزوال اللبس، وضعفه بعضهم هنا بأن العرب لا تكاد تقول: عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ وإنما تقول عمل عملا غير صالح، وليس بشيء، وأيد بهذه القراءة كون ضمير إنه في القراءة الأولى لابن نوح لأنه فيها له قطعا فيضعف ما قيل: إنه في الأولى لترك الركوب معهم والتخلف عنهم أي إن ذلك الترك عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ على أنه خلاف الظاهر في نفسه كما لا
266
يخفى. ومثله في ذلك ما قيل: إنه لنداء نوح عليه السلام أي إن نداءك هذا عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ وتخرج بذلك الجملة عن أن تكون تعليلا لما تقدم ويفوت ما في ذاك من الفائدة ولا يكون الكلام على مساق واحد، نعم روي عن ابن عباس ما يقتضيه فقد أخرج ابن أبي حاتم. وأبو الشيخ عنه أنه قال: إن نساء الأنبياء عليهم السلام لا يزنين، ومعنى الآية مساءلتك إياي يا نوح عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ لا أرضاه لك.
وفي رواية ابن جرير عنه سؤالك ما ليس لك به علم غير صالح، ولعل ذلك لم يثبت عن هذا الحبر لأن الظاهر من الرواية الأولى أنه إنما جعل الضمير للمسألة دون ابن نوح لما في ذلك من نسبة الزنا إلى من لا ينسب إليه وهو رضي الله تعالى عنه أجل قدرا من أن يخفى عليه أنه لا يلزم من ذلك هذا المحذور، ثم إنه لما كان دعاؤه عليه السلام مبنيا على كون كنعان من أهله وقد نفى ذلك وحقق ببيان علته فرع على ذلك النهي عن سؤال إنجائه إلا أنه جيء بالنهي على وجه عام يندرج فيه ما ذكر اندراجا أوليا فقال سبحانه: فَلا تَسْئَلْنِ أي إذا وقفت على جلية الحال فلا تطلب مني ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ أي مطلبا لا تعلم يقينا أن حصوله صواب وموافق للحكمة على تقدير كون ما عبارة عن المسئول الذي هو مفعول للسؤال أو طلبا لا تعلم أنه صواب على تقدير كونه عبارة عن المصدر الذي هو مفعول مطلق فيكون النهي واردا بصريحه في كل من معلوم الفساد ومشتبه الحال قاله شيخ الإسلام، وجوز أن يكون ما ليس لك علم بأنه صواب أو غير صواب وهو الذي ذهب إليه القاضي فيكون النهي واردا في مشتبه الحال ويفهم منه حال معلوم الفساد بالطريق الأولى، وأيا ما كان فهو عام يندرج تحته ما نحن فيه كما ذكرنا، وسمي النداء سؤالا لتضمنه إياه وإن لم يصرح به كما لا يخفى، وبه على ما نقل عن أبي علي إما متعلق بما يدل عليه العلم المذكور وإن لم يتسلط عليه كقوله:
ربيته حتى إذا تمعددا كان جزائي بالعصا أن أجلدا
وإما أن يتعلق بالمستقر في ذلك وكذا الكلام فيما سيأتي إن شاء الله تعالى، والآية ظاهرة في أن نداءه عليه السلام لم يكن استفسارا عن سبب عدم إنجائه مع تحقق سبب الإنجاء فيما عنده كما جوزه القاضي بناء على أنه كان بعد الغرق بل هو دعاء منه عليه السلام لإنجاء ابنه حين حال الموج بينهما ولم يعلم بهلاكه بعد إما بتقريبه إلى الفلك بتلاطم الأمواج مثلا أو بتقريبها إليه، وقيل: أو بإنجائه بسبب آخر ويأباه تذكير الوعد في الدعاء فإنه مخصوص بالإنجاء في الفلك، ومجرد حيلولة الموج لا يستوجب الهلاك فضلا عن العلم به لظهور إمكان عصمة الله تعالى عليه إياه برحمته، وقد وعده بإنجاء أهله ولم يعتقد أن فيه مانعا من الانتظام في سلكهم لمكان النفاق وعدم المجاهرة بالكفر لما في ذلك لفظا من الاحتياج إلى القول بالحذف والإيصال، ومعنى من أن النهي عن الاستفسار عما لا يعلم غير موافق للحكمة إذ عدم العلم بالشيء داع إلى الاستفسار عنه لا إلى تركه.
وقيل: إن السؤال عن موجب عدم النجاة مع ما فيه من الجرأة، وشبه الاعتراض فيه أنه تعين له عليه السلام أنه من المستثنين بهلاكه فهو غير سديد كيف ونداؤه ذاك مما يقطر منه الاستعطاف.
وقيل: إن النهي إنما هو عن سؤال ما لا حاجة إليه إما لأنه لا يهمّ أو لأنه قامت القرائن على حاله لا عن السؤال للاسترشاد فلا ضير إذن في كلام القاضي وهو كما ترى:
ولا يصلح العطار ما أفسد الدهر فالحق أن ذلك مسألة الإنجاء، وكان قبل تحقق الغرق عند رؤية المشارفة عليها ولم يكن عالما بكفره إذ ذاك لأنه لم يكن مجاهرا به وإلا لم يدع له بل لم يدعه أيضا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ لا يدل على أنه كافر عنده بل هو
267
نهي عن الدخول في غمارهم، وقطع بأن ذلك يوجب الغرق على الطريق البرهاني كما قدمنا، وكأنه عليه السلام حمل مقاولته على غير المكابرة والتعنت لغلبة المحبة وذهوله عن إعطاء التأمل حقه فلذلك طلب ما طلب، فعوتب بأن مثله في معرض الإرشاد والقيام بأعباء الدعوة تلك المدة المتطاولة لا ينبغي أن يشتبه عليه كلام المسترشد والمعاند، ويرجع هذا إلى ترك الأولى، وهو المراد بقوله: إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ.
وذكر شيخ الإسلام أن اعتزاله قصده الالتجاء إلى الجبل ليس بنص في الإصرار على الكفر لظهور جواز أن يكون ذلك لجهله بانحصار النجاة في الفلك، وزعمه أن الجبل أيضا يجري مجراه أو لكراهة الاحتباس في الفلك بل قوله: سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ بعد ما قال له نوح وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ ربما يطعمه عليه السلام في إيمانه حيث لم يقل أكون معهم أو سنأوي أو يعصمنا فإن إفراد نفسه بنسبة الفعلين المذكورين ربما يشعر بانفراده من الكافرين واعتزاله عنهم وامتثاله ببعض ما أمره به نوح عليه السلام إلا أنه عليه السلام لو تأمل في شأنه حق التأمل وتفحص عن أحواله في كل ما يأتي وما يذر لما اشتبه عليه أنه ليس بمؤمن وأنه مستثنى من أهله ولذلك قيل له:
إِنِّي إلخ، وهو ظاهر في أن مدار العتاب الاشتباه كما ذكرنا، وإليه ذهب الزمخشري قال: إن الله تعالى قدم إليه عليه السلام الوعد بإنجاء أهله مع استثناء من سبق عليه القول منهم فكان عليه أن يعتقد أن في الجملة من هو مستوجب للعذاب لكونه غير صالح وأن كلهم ليسوا بناجين وأن لا تخالجه شبهة حين شارف ولده الغرق في أنه من المستثنين لا من المستثنى منهم فعوتب على أن اشتبه عليه ما يجب أن لا يشتبه، وكأنه أراد أن الاستثناء دل على أن المعنى المعتبر الصلاح لا القرابة فكان ينبغي أن يجعله الأصل ويتفحص في الأهل عن وجوده، وأن يجعل كلهم سواسية في استحقاق العذاب إلا من علم صلاحه وإيمانه لا أن يجعل كونه من الأهل أصلا فيسأل إنجاءه مع الشك في إيمانه فقد قصر فيما كان عليه بعض التقصير وأولي العزم مؤاخذون بالنقير والقطمير وحسنات الأبرار سيئات المقربين، وابن المنير لم يرض كون ذلك عتابا قال: وفي كلام الزمخشري ما يدل على أنه يعتقد أن نوحا عليه السلام صدر منه ما أوجب نسبة الجهل إليه ومعاتبته على ذلك وليس الأمر كما تخيله، ثم قال: ونحن نوضح أن الحق في الآية منزلا على نصها مع تبرئة نوح عليه السلام مما توهم الزمخشري نسبته إليه فنقول: لما وعد عليه السلام بتنجية أهله إلا من سبق عليه القول منهم ولم يكن كاشفا لحال ابنه ولا مطلعا على باطن أمره بل كان معتقدا بظاهر الحال أنه مؤمن بقي على التمسك بصيغة العموم للأهلية الثابتة ولم يعارضها يقين في كفر ابنه حتى يخرج من الأهل ويدخل في المستثنين فسأل الله تعالى فيه بناء على ذلك فبين له أنه في علمه من المستثنين وأنه هو لا علم له بذلك فلذلك سأل فيه، وهذا بأن يكون إقامة عذر أولى منه من أن يكون عتبا فإن نوحا عليه السلام لا يكلفه الله تعالى علم ما استأثر به غيبا وأما قوله سبحانه: إِنِّي أَعِظُكَ إلخ فالمراد النهي عن وقوع السؤال في المستقبل بعد أن أعلمه سبحانه باطن أمره وأنه إن وقع في المستقبل في السؤال كان من الجاهلين، والغرض من ذلك تقديم ما يبقيه عليه السلام على سمت العصمة، والموعظة لا تستدعي وقوع ذنب بل المقصد منها أن لا يقع الذنب في الاستقبال ولذلك امتثل عليه السلام ذلك واستعاذ بالله سبحانه أن يقع منه ما نهى عنه كما يدل عليه قوله سبحانه: قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ولا يخفى سقوطه على ما علمت وهو خلاف الظاهر جدا،
وقد جاء عن الفضيل بن عياض أنه قال: بلغني أن نوحا عليه السلام بكى عن قول الله تعالى له ما قال أربعين يوما، وأخرج أحمد في الزهد عن وهيب بن الورد الحضرمي قال: لما عاتب الله تعالى نوحا في ابنه وأنزل عليه إِنِّي أَعِظُكَ بكى ثلاثمائة عام حتى صار تحت عينيه مثل الجدول من البكاء.
268
وزعم الواحدي أن السؤال قبل الغرق ومع العلم بكفره، وذلك أن نوحا عليه السلام لم يعلم أن سؤاله ربه نجاة ولده محظور عليه مع إصراره على الكفر حتى أعلمه الله تعالى ذلك، واعترض بأنه إذا كان عالما بكفره مع التصريح بأن في أهله من يستحق العذاب كان طلب النجاة منكرا من المناكير فتدبر، والظاهر على ما قررنا أن قوله: رَبِّ إلخ توبة مما وقع منه عليه السلام وما هنا أيضا عبارة إما عن المسئول أو عن السؤال أي أعوذ بك أن أطلب منك من بعد مطلوبا لا أعلم أن حصوله مقتضى الحكمة أو طلبا لا أعلم أنه صواب سواء كان معلوم الفساد أو مشتبه الحال، أو لا أعلم أنه صواب أو غير صواب، ولم يقل أعوذ بك منه أو من ذلك مبالغة في التوبة وإظهارا للرغبة والنشاط فيها وتبركا بذكر ما لقنه الله تعالى وهو أبلغ من أن يقول: أتوب إليك أن أسألك لما فيه من الدلالة على كون ذلك أمرا هائلا محذورا لا محيص منه إلا بالعوذ بالله تعالى وأن قدرته عليه السلام قاصرة عن النجاة من المكاره إلا بذلك كما في إرشاد العقل السليم، واحتمال أن يكون فيه رد وإنكار نظير ما في [البقرة: ٦٧] من قول موسى عليه السلام:
أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ مما لا يكاد يمر بفكر أحد من الجاهلين.
هذا وفي مصحف ابن مسعود إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ أن تسألني، ورجح به كون ضمير إِنَّهُ في القراءة المتواترة للنداء المتضمن للسؤال، وقرأ ابن كثير فَلا تَسْئَلْنِ بفتح اللام وتشديد النون مفتوحة وهي قراءة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وكذا قرأ نافع وابن عامر غير أنهما كسرا النون على أن أصله تسألنني فحذفت نون الوقاية لاجتماع النونات وكسرت الشديدة للياء ثم حذفت الياء اكتفاء بالكسرة، وقرأ أبو جعفر وشيبة وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما كذلك إلا أنهم أثبتوا الياء بعد النون وأمره ظاهر، وقرأ الحسن وابن أبي مليكة «تسألني» من غير همز من سال يسال فهما يساولان، وهي لغة سائرة، وقرأ باقي السبعة بالهمز وإسكان اللام وكسر النون وتخفيفها. وأثبت الياء في الوصل ورش وأبو عمرو، وحذفها الباقون وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي ما صدر عني من السؤال المذكور وَتَرْحَمْنِي بقبول توبتي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ أعمالا بسبب ذلك وتأخير ذكر هذا عن حكاية الأمر الوارد على الأرض والسماء وما يتلوه مع أن حقه أن يذكر عقيب قوله سبحانه: فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ حسبما وقع في الخارج على ما علمت من أن النداء كان لطلب الإنجاء قبل العلم بالهلاك قيل: ليكون على أسلوب قصة البقرة في سورتها دلالة على استقلال هذا المعنى بالغرض لما فيه من النكت من جعل قرابة الدين غامرة لقرابة النسب وأن لا يقدم في الأمور الدينية الأصولية إلا بعد اليقين، وتعقب بالفرق بين ما هنا وما هناك عند من كان ذا قلب، وما ذكر من جعل قرابة الدين غامرة لقرابة النسب إلخ لا يفوت على تقدير سوق الكلام على ترتيب الوقوع أيضا.
واختار بعض المحققين أن ذلك لأن ذكر هذا النداء كما ترى مستدع لما مر من الجواب المستدعي لذكر توبته عليه السلام المؤدي إلى ذكر قبولها في ضمن الأمر بهبوطه عليه السلام من الفلك بالسلام والبركات الفائضة عليه وعلى المؤمنين حسبما يجيء إن شاء الله تعالى، ولا ريب أن هذه المعاني آخذ بعضها بحجزة بعض بحيث لا تكاد تفرق الآيات الكريمة المنطوية عليها بعضها من بعض وأن ذلك إنما يتم بتمام القصة، وذلك إنما يكون بتمام الطوفان فلا جرم اقتضى الحال ذكر تمامها قبل هذا النداء وهو إنما يكون عند ذكر كون كنعان من المغرقين، ولهذه النكتة ازداد حسن موقع الإيجاز البليغ، وفيه فائدة أخرى هي التصريح بهلاكه من أول الأمر ولو ذكر النداء بعد فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ لربما توهم من أول الأمر إلى أن يرد أنه ليس من أهلك إلخ أنه ينجو بدعائه فنص على هلاكه، ثم ذكر القصة على وجه أفحم مصاقع البلغاء، ثم تعرض لما وقع في تضاعيف ذلك مما جرى بين نوح عليه السلام ورب العزة جلت حكمته وعلت كلمته، ثم ذكر بعد توبته عليه السلام قبولها: بقوله عز وجل: قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ إلخ وهو من
269
الحسن بمكان، وبني الفعل لما لم يسم فاعله لظهور أن القائل هو الله تعالى، وقيل: القائل الملائكة عليهم السلام والهبوط النزول قيل: أي أنزل من الفلك، وقيل: من الجبل إلى الأرض وذلك أنه روي أن السفينة استوت على الجودي في عاشر ذي الحجة فأقام بمن معه هناك شهرا، ثم قيل له: اهبط فهبط بأرض الموصل وبنى قرب الجبل قرية يقال لها:
قرية الثمانين عدد من في السفينة، وفي رواية عن ابن عباس أنه بنى كل منهم بيتا فسميت سوق الثمانين.
وأخرج ابن مردويه عن عمر رضي الله تعالى عنه قال: لما استقرت السفينة على الجودي لبث نوح عليه السلام ما شاء الله تعالى، ثم إنه أذن له بالهبوط فهبط على الجبل فدعا الغراب فقال: ائتني بخبر الأرض، فانحدر إلى الأرض وفيها الغرقى من قوم نوح فوقع على جيفة منهم فأبطأ عليه فلعنه، ودعا الحمامة فوقفت على كفه فقال: اهبطي فأتني بخبر الأرض فانحدرت فلم تلبث قليلا حتى جاءت تنفض ريشها بمنقارها فقالت: اهبط فقد أنبتت الأرض فقال نوح:
بارك الله تعالى فيك وفي بيت يأويك وحببك إلى الناس ولولا أن يغلبك الناس على نفسك لدعوت الله سبحانه أن يجعل رأسك من الذهب،
والظاهر عندي أن الهبوط من الجودي الذي استقرت عليه السفينة إلى الأرض، وليس في الكلام ما يستدعي أن يكون بعد الاستقرار بلا مهلة ليقال: إن ما تحت الجبل مغمور إذ ذاك بالماء، والتعبير بالهبوط على هذا في غاية الظهور، ولعل ذلك على أن يكون المراد من السفينة لمكان الركوب، وخبر الحمامة والغراب قد طار في الآفاق وأولع به القصاصون، والله تعالى أعلم بصحته، وغالب الظن أنه لم يصح، وكذا اشتهر خبر قرية الثمانين في أرض الموصل وأنها لما ضاقت عليهم تحولوا إلى بابل فبنوها.
وأخرج ابن عساكر عن كعب الأحبار أنه قال: أول حائط وضع على وجه الأرض بعد الطوفان حائط حران ودمشق ثم بابل وقرىء اهْبِطْ بضم الباء بِسَلامٍ أي ملتبسا بسلامة مما تكره كائنة مِنَّا أي من جهتنا، ويجوز أن يكون السلام بمعنى التسليم والتحية أي مسلما عليك من جهتنا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ أي خيرات نامية في نسلك وما يقوم به معاشك ومعاشهم من أنواع الأرزاق، أو مباركا عليك أي مدعوا لك بالبركة بأن يقال: بارك الله تعالى فيك وهو مناسب لكون السلام بمعنى التسليم فيكون كقوله: السلام عليك ورحمة الله تعالى وبركاته. وأصل البرك- كما قال الراغب- صدر البعير يقال: برك البعير إذا ألقى بركه، واعتبر فيه اللزوم ولذا سمي محتبس الماء بركة، والبركة ثبوت الخير الإلهي في الشيء سمي بذلك لثبوت الخير فيه ثبوت الماء في البركة.
ولما كان الخير الإلهي يصدر على وجه لا يحس ولا يحصى قيل لكل ما يشاهد فيه زيادة غير محسوسة: هو مبارك وفيه بركة، ولما في ذلك من الإشعار باللزوم- وكونه غير محسوس- اختص تبارك بالاستعمال في الله تبارك وتعالى كما قيل: وفي الكشف كل شيء ثبت وأقام فقد برك وأخذ بروك البعير منه، ثم البرك بمعنى الصدر من الثاني لأنه آلة بروكه أظهر، وحكى عبد العزيز بن يحيى عن الكسائي أنه قرأ- وبركة- بالتوحيد، وفي الآية على القراءتين صنعة الاحتباك لأنه حذف من الثاني ما ذكر في الأول، وذكر فيه ما حذف من الأول، والتقدير سلام منا عليك وبركات، أو وبركة منا عليك، وهذا منه تعالى إعلام وبشارة بقبول توبته عليه السلام وخلاصه من الخسران مع الإشارة إلى عود الأرض إلى حالها من الإنبات وغيره وَعَلى أُمَمٍ ناشئة مِمَّنْ مَعَكَ متشعبة منهم- فمن- ابتدائية، والمراد الأمم المؤمنة المتناسلة ممن معه إلى يوم القيامة، والمراد- ممن معه- أولاده من إطلاق العام وإرادة الخاص بناء على ما قيل: إنه لم يعقب غيرهم، فالناس كلهم على هذا من نسل نوح عليه السلام ومن هنا سمي عليه السلام آدم الثاني وآدم الأصغر، واستدل لذلك بقوله تعالى: وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ [الصافات: ٧٧] وقد يقال ببقاء- من- على عمومه بناء على ما عليه أكثر المفسرين من عدم اختصاص النسل بأولاده عليه السلام بل لمن معه نسل باق
270
أيضا، والكلام في استدلال الأولين سيأتي إن شاء الله تعالى، وقوله سبحانه: وَأُمَمٌ بالرفع- وهو على ما ذهب إليه الزمخشري- مبتدأ، وجملة قوله تعالى: سَنُمَتِّعُهُمْ صفته، والخبر محذوف أي ومنهم أمم، وساغ ذلك لدلالة ما سبق عليه فإن إيراد الأمم المبارك عليهم المتشعبة منهم نكرة يدل على أن بعض من يتشعب منهم ليسوا على صفتهم، والمعنى ليس جميع من يتشعب منهم مشاركا له في السلام والبركات بل منهم أمم يمتعون في الدنيا ثُمَّ يَمَسُّهُمْ فيها أو في الآخرة أو فيهما مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ وجوز أبو حيان أن يكون أُمَمٍ مبتدأ محذوف الصفة وهي المسوغة للابتداء بالنكرة، والتقدير وأمم منهم، وجملة سَنُمَتِّعُهُمْ هو الخبر كما قالوا: السمن منوان بدرهم، وأن يكون مبتدأ ولا يقدر له صفة والخبر أيضا سَنُمَتِّعُهُمْ ومسوغ الابتداء كون المكان مكان تفصيل فكان مثل قول الشاعر:
إذا ما بكى من خلفها انحرفت له بشق وشق عندنا لم يحول
وقول القرطبي: إنه ارتفع أُمَمٍ على معنى ويكون أمم إن أراد به تفسير معنى فحسن وإن أراد الإعراب فليس يجيد لأن هذا ليس من مواضع إضمار يكون، وقال الأخفش: هذا كما تقول: كلمت زيدا وعمرو جالس يحتمل أن يكون من باب العطف، ويحتمل أن يكون الواو للحال وتكون الجملة هنا حالا مقدرة لأن وقت الأمر بالهبوط لم تكن تلك الأمم موجودة.
وقال أبو البقاء: إن أُمَمٍ معطوف على الضمير في اهْبِطْ والتقدير- اهبط أنت وأمم- وكان الفصل بينهما مغنيا عن التأكيد، وسَنُمَتِّعُهُمْ نعت لأمم، وفيه إن الذين كانوا مع نوح عليه السلام في السفينة كلهم مؤمنون لقوله تعالى: وَمَنْ آمَنَ ولم يكونوا قسمين كفارا ومؤمنين ليؤمر الكفار بالهبوط معه اللهم إلا أن يلتزم أن من أولئك المؤمنين من علم الله سبحانه أنه يكفر بعد الهبوط فأخبر عنهم بالحالة التي يؤولون إليها وفيه بعد.
وجوز أن تكون- من- في مِمَّنْ مَعَكَ بيانية أي وعلى أمم هم الذين معك، وسموا أمما لأنهم أمم متحزبة وجماعات متفرقة أو لأن جميع الأمم إنما تشعبت منهم فهم أمم مجازا فحينئذ يكون المراد بالأمم المشار إليهم في قوله سبحانه: وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ بعض الأمم المتشعبة منهم وهي الأمم الكافرة المتناسلة منهم إلى يوم القيامة.
وفي الكشاف إن الوجه هو الأول قيل: ليقابل قوله تعالى: وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ولأنه أشمل ولأن- من- الابتدائية لا سيما في المنكر أكثر وللنكتة في إدخال الناشئين في المسلم عليهم، وقطع الممتعين عنهم من الدلالة على ما صرح به في قوله سبحانه: إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ ولهذه النكتة حذف منهم في الثاني، واكتفى بسلام نوح عليه السلام عن سلام مؤمني قومه لأن النبي زعيم أمته وكفاهم هذا التعظيم والاتحاد معه عليه السلام، فلا يراد أن الحمل على البيانية أرجح لئلا يلزم أن لا يكون مسلما عليهم على أن لفظ الأمم في الإطلاق على من معه بأحد الاعتبارين لا فخامة فيه لأن تسمية الجماعة القليلة بالأمة لا يناسب فكيف بالأمم، ولا مبالغة في هذا المقام فيه فلا يعدل عن الحقيقة، وإن جعل من باب إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً [النحل: ١٢٠] لم يلائم تفخيم نوح عليه السلام، وقد ذكر أنه يبقى على البيانية أمر الأمم المؤمنة الناشئة من الذين معه عليه السلام مبهما غير متعرض له ولا مدلول عليه إلا أن يقال:
حيث كان المراد بمن معك المؤمنين يعلم أن المشاركين لهم في وصف الإيمان مثلهم فيما تقدم، نعم قيل: إن في دلالة المذكور على الخبر المحذوف على ذلك الوجه خفاء لأن- من المذكورة بيانية، والمحذوفة تبعيضية، أو ابتدائية، وربما يجاب عنه أيضا بإلزام أن لا حذف أصلا كما هو أحد الأوجه التي ذكرناها آنفا فتدبر جميع ما ذكر.
والمأثور عدم تخصيص الأمم في الموضعين بمؤمنين معينين وكافرين كذلك، فقد أخرج ابن جرير وابن المنذر
271
وغيرهما عن محمد القرظي قال: دخل في ذلك السلام والبركات كل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة ودخل في ذلك المتاع والعذاب الأليم كل كافر وكافرة إلى يوم القيامة، وأخرج أبو الشيخ عن الحسن أنه قال في الآية ما زال الله تعالى يأخذ لنا بسهمنا وحظنا ويذكرنا من حيث لا نذكر أنفسنا كلما هلكت أمة خلقنا في أصلاب من ينجو بلطفه حتى جعلنا في خير أمة أخرجت للناس، وقيل: المراد بالأمم الممتعة قوم هود وصالح ولوط وشعيب عليهم السلام، وبالعذاب ما نزل بهم، وبالغ بعضهم في عموم الأمم في الأول فجعلها شاملة لسائر الحيوانات التي كانت معه عليه السلام فإن الله تعالى جعل فيها البركة- وليس بشيء- كما لا يخفى، وهاهنا لطيفة وهي أنه قد تكرر في هذه الآية حرف واحد مرات مع غاية الخفة ولم تتكرر الراء مثله في قوله:
وقبر حرب بمكان قفر... وليس قرب قبر حرب قبر
ومع ما ترى فيه من غاية الثقل وعسر النطق، ولله تعالى شأن التنزيل ما أكثر لطائفه تِلْكَ إشارة إلى قصة نوح عليه السلام وهي لتقضيها في حكم البعيد، ويحتمل أنه أشير بأداة البعد إلى بعد منزلتها، وقيل: إن الإشارة إلى آيات القرآن وليس بذاك وهي في محل الرفع على الابتداء، وقوله سبحانه: مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ أي بعض أخباره التي لها شأن وكونها بعض ذلك باعتبار أنها على التفصيل لم تبق لطول العهد معلومة لغيره تعالى حتى أن المجوس على ما قيل: ينكرونها رأسا، وقيل: إن كونها من الغيب لغير أهل الكتاب. وقد ذكر غير واحد أن الغيب قسمان: ما لا يتعلق به علم مخلوق أصلا وهو الغيب المطلق، وما لا يتعلق به علم مخلوق معين وهو الغيب المضاف بالنسبة إلى المخلوق، وهو مراد الفقهاء في تكفير الحاكم على الغيب، وقوله سبحانه: نُوحِيها خبر ثان- لتلك- والضمير لها أي موحاة إِلَيْكَ أو هو الخبر، ومِنْ أَنْباءِ متعلق به، وفائدة تقديمه نفي أن يكون علم ذلك بكهانة أو تعلم من الغير، والتعبير بصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية، أو مِنْ أَنْباءِ هو الخبر، وهذا في موضع الحال من أَنْباءِ والمقصود من ذكر كونها موحاة إلجاء قومه صلّى الله عليه وسلَّم للتصديق بنبوته عليه الصلاة والسلام وتحذيرهم مما نزل بالمكذبين، وقوله تعالى:
ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ خبر آخر أي مجهولة عندك وعند قومك مِنْ قَبْلِ هذا أي الإيحاء إليك المعلوم مما مر، وقيل: أي الوقت، وقيل: أي العلم المكتسب بالوحي.
وفي مصحف ابن مسعود- من قبل هذا القرآن- ويحتمل أن يكون حالا من الهاء في نُوحِيها أو الكاف من إِلَيْكَ أي غير عالم أنت ولا قومك بها، وذكر القوم معه صلّى الله عليه وسلّم من باب الترقي كما تقول: هذا الأمر لا يعلمه زيد ولا أهل بلدة لأنهم مع كثرتهم إذا لم يعلموا ذلك فكيف يعلمه واحد منهم، وقد علم أنه لم يخالط غيرهم. فَاصْبِرْ متفرع على الإيحاء أو على العلم المستفاد منه المدلول عليه بما تقدم مِنْ قَبْلِ هذا أي وإذ قد أوحيناها إليك أو علمتها بذلك فاصبر على مشاق تبليغ الرسالة وأذية قومك كما صبر نوح عليه السلام على ما سمعته من أنواع البلايا في هذه المدة المتطاولة. قيل: وهذا ناظر إلى ما سبق من قوله سبحانه: فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ [هود:
١٢] إلخ إِنَّ الْعاقِبَةَ بالظفر في الدنيا وبالفوز بالآخرة لِلْمُتَّقِينَ كما سمعت ذلك في نوح عليه السلام وقومه، قيل: وهو تعليل للأمر بالصبر وتسلية له صلّى الله عليه وسلّم، والمراد بالتقوى الدرجة الأولى منها، وجوز أن يراد بها الدرجة الثالثة وهي بذلك المعنى منطوية على الصبر فكأنه قيل: فاصبر فإن العاقبة للصابرين، وقيل: الآية فذلكة لما تقدم وبيان للحكمة في إيحاء ذلك من إرشاده صلّى الله عليه وسلّم وتهديد قومه المكذبين له والله تعالى أعلم.
ومن باب الإشارة في الآيات: فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ إلخ لما كان مقتضى الطباع البشرية عدم
272
نشاط المتكلم إذا لم يجد محلا قابلا لكلامه وضيق صدره من ذلك هيج جل شأنه نشاط نبيه صلّى الله عليه وسلّم بما أنزل عليه من هذه الآية الكريمة، وقال سبحانه: إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ ولا يخلو الإنذار عن إحدى فائدتين: رفع الحجاب عمن وفق وإلزام الحجة لمن خذل وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ فكل الهداية إليه مَنْ كانَ يُرِيدُ بعلمه الذي هو بظاهره من أعمال الآخرة الْحَياةَ الدُّنْيا كالجاه والمدح نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ أي جزاءها فيها إن شئنا وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ أي لا ينقصون شيئا منها أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ لتعذب قلوبهم بالحجب الدنيوية وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها من أعمال البر فلم ينتفعوا بها،
وجاء «إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى» الحديث
أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ أي يقين برهاني عقلي أو وجداني كشفي وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وهو القرآن المصدق لذلك، ومن هنا تؤيد الأدلة العقلية بالآيات النقلية القرآنية. ويحكم بكون الكشف صحيحا إذا شهدت له ووافقته، ولذا قالوا: كل كشف خالف ما جاء عن الله تعالى ليس بمعتبر وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى أي يتبع البرهان من قبل هذا الكتاب كتاب موسى عليه السلام في حالة كونه إِماماً يؤتم به في تحقيق المطالب وَرَحْمَةً لمن يهتدي به، وهذا وجه في الآية ذكره بعضهم، وقد قدمنا ما فيها من الاحتمالات وقد ذكروا أن المراد بيان بعد ما بين مرتبتي من يريد الحياة الدنيا ومن هو على بينة من ربه.
وللصوفية قدست أسرارهم عبارات شتى في البينة فقال رويم: هي الإشراف عن القلوب والحكم على الغيوب، وقال سيد الطائفة: هي حقيقة يؤيدها ظاهر العلم، وقيل: غير ذلك، وعن أبي بكر بن طاهر أن من كان على بينة من ربه كانت جوارحه وقفا على الطاعات والموافقات ولسانه مشغولا بالذكر ونشر الآلاء والنعماء وقلبه منورا بأنوار التوفيق وضياء التحقيق وسره وروحه مشاهدين للحق في جميع الأوقات وكان عالما بما يبدو من مكنون الغيوب ورؤيته يقين لا شك فيه وحكمه على الخلق كحكم الحق لا ينطق إلا بالحق ولا يرى إلا الحق لأنه مستغرق به فأنى يرى سواه وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً إلخ جعله بعضهم إشارة إلى المثبتين لغيره سبحانه وجودا وهم أهل الكثرة والحجاب، وفسر الأشهاد بالموحدين الذين لا يشهدون في الدار غيره سبحانه ديارا.
ومن الناس من عكس الأمر وجعلها ردا على أهل الوحدة القائلين: إن كل ما شاهدته بعينك أو تصورته بفكرك فهو الله سبحانه بمعنى كفر النصارى إيمان بالنسبة إليه وحاش أهل الله تعالى من القول به على ما يشعر به ظاهره، ومنهم من جعلها مشيرة إلى حال من يزعم أنه ولي الله تعالى ويتزيا بزي السادات ويتكلم بكلماتهم وهو في الباطن أفسق من قرد وأجهل من حمار تومه مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ قيل: الْبَصِيرِ من عاين ما يراد به وما يجري له وعليه في جميع أوقاته وَالسَّمِيعِ من يسمع ما يخاطب به من تقريع وتأديب وحث وندب لا يغفل عن الخطاب في حال من الأحوال، وقيل: الْبَصِيرِ الناظر إلى الأشياء بعين الحق فلا ينكر شيئا ولا يتعجب من شيء وَالسَّمِيعِ من يسمع من الحق فيميز الإلهام من الوسواس، وقيل: الْبَصِيرِ هو الذي يشهد أفعاله بعلم اليقين وصفاته بعين اليقين وذاته بحق اليقين فالغائبات له حضور والمستورات له كشف وَالسَّمِيعِ من يسمع من دواعي العلم شرعا، ثم من خواطر التعريف قدرا، ثم يكاشف بخطاب من الحق سرا، وقيل: السَّمِيعِ من لا يسمع إلا كلام حبيبه، والْبَصِيرِ من لا يشاهد إلا أنواره فهو في ضيائها ليلا ونهارا، وإلى هذا يشير قول قائلهم:
ليلي من وجهك شمس الضحى وإنما السدفة في الجو
الناس في الظلمة من ليلهم ونحن من وجهك في الضو
وفسر كل من- الأعمى والأصم- بضد ما فسر به الْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ والمراد من قوله سبحانه: هَلْ
273
يَسْتَوِيانِ
أنهما لا يستويان لما بينهما من التقابل والتباعد إلى حيث لا تتراءى نارهما، ثم إنه تعالى ذكر من قصة نوح عليه السلام مع قومه ما فيه إرشاد وتهديد وعظة ما عليها مزيد فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ أي الأشراف المليئون بأمور الدنيا الذين حجبوا بما هم فيه عن الحق ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا لكونهم واقفين عند حد العقل المشوب بالوهم فلا يرون لأحد طورا وراء ما بلغوا إليه ولم يشعروا بمقام النبوة ومعناها وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وصفوهم بذلك لفقرهم حيث كانوا لا يعلمون إلا ظاهرا من الحياة الدنيا ولم يعلموا أن الشرف بالكمال لا بالمال.
وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ وتقدم يؤهلكم لما تدعونه بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ فلا نبوة لك ولا علم لهم.
قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي يجب عليكم الإذعان بها وَآتانِي رَحْمَةً هداية خاصة كشفية متعالية عن درجة البرهان مِنْ عِنْدِهِ فوق طور عقولكم من العلوم اللدنية ومقام النبوة فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ لاحتجابكم بالظاهر عن الباطن وبالخليقة عن الحقيقة أَنُلْزِمُكُمُوها ونجبركم عليها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ لا تلتفتون إليها كأنه عليه السلام أراد أنه لا يكون إلزام ذلك مع الكراهة لكن إن شئتم تلقيه فزكوا أنفسكم واتركوا إنكاركم حتى يظهر عليكم أثر نور الإرادة فتقبلوا ذلك، وفيه إشارة إلى أن المنكر لا يمكن له الاستفاضة من أهل الله تعالى ولا يكاد ينتفع بهم ما دام منكرا ومن لم يعتقد لم ينتفع وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالًا أي ليس لي مطمح في شيء من أموالكم التي ظننتم أن الشرف بها إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ فهو يثيبني بما هو خير وأبقى وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ أي إنهم أهل الزلفى عنده تعالى وهم حمائم أبراج الملكوت وبزاة معارج الجبروت وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ تسفهون عليهم وتؤذونهم وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ كما تريدون وهم بتلك المثابة أَفَلا تَذَكَّرُونَ لتعرفوا التماس طردهم ضلال، وفيه إشارة إلى أن الإعراض عن فقراء المؤمنين مؤد إلى سخط رب العالمين.
قال أبو عثمان: في الآية ما أَنَا بمعرض عمن أقبل على الله تعالى، فإن من أقبل على الله تعالى بالحقيقة أقبل الله تعالى عليه، ومن أعرض عمن أقبل الله تعالى عليه فقد أعرض عن الله سبحانه وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ إلخ أي أنا لا أدعي الفضل بكثرة المال ولا بالاطلاع على الغيب ولا بالملكية حتى تنكروا فضلي بفقدان ذلك وبمنافاة البشرية لما أنا عليه وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تنظرون إليهم بعين الحقارة لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً كما تقولون أنتم إذ الخير عندي ما عند الله تعالى لا المال اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ من الخير مني ومنكم وهو أعلم بقدرهم وخطرهم إِنِّي إِذاً أي إذ نفيت لَمِنَ الظَّالِمِينَ مثلكم وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا قيل: فيه إشارة إلى عين الجمع المشار إليه
بخبر «لا زال عبدي يتقرب إلي بالنوافل» الحديث.
وقيل: أي كن في أعين رعايتنا وحفظنا ولا تكن في رؤية عملك والاعتماد عليه، فإن من نظر إلى غيري احتجب به عني، وقال بعضهم: أي أسقط عن نفسك تدبيرك واصنع ما أنت صانع من أفعالك على مشاهدتنا دون مشاهدة نفسك أو أحد من خلقي، وقيل: أي اصنع الفلك ولا تعتمد عليه فإنك بأعيننا رعاية وكلاءة فإن اعتمدت على الفلك وكلت إليه وسقطت من أعيننا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ فيه إشارة إلى رقة قلبه عليه السلام بعد احتمال جفوتهم وأذيتهم، وهكذا شأن الصديقين، والكلام في باقي الآية ظاهر، ولا يخفى أنه يجب الإيمان بظاهرها والتصديق بوقوع الطوفان حسبما قص الله سبحانه وإنكار ذلك كفر صريح، لكن ذكر بعض السادة أنه بعد
274
الإيمان بذلك يمكن احتمال التأويل على أنه حظ الصوفي من الآية وذلك بأن يؤول الفلك بشريعة نوح التي نجا بها هو ومن آمن معه، والطوفان باستيلاء بحر الهيولى وإهلاك من لم يتجرد عنها بمتابعة نبي وتزكية نفس كما جاء في مخاطبات إدريس عليه السلام لنفسه ما معناه أن هذه الدنيا بحر مملوء ماء فإن اتخذت سفينة تركبها عند خراب البدن نجوت منها إلى عالمك وإلا غرقت فيها وهلكت، وعلى هذا يقال: معنى وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ يتخذ شريعة من ألواح الأعمال الصالحة ودسر العلوم تنتظم بها الأعمال وتحكم وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ كما هو المشاهد في أرباب الخلاعة الممطتين غارب الهوى يسخرون من المتشرعين المتقيدين بقيود الطاعة قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا بجهلكم فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ عند ظهور وخامة عاقبتكم كَما تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ عند ذلك مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ في الدنيا من حلول ما لا يلائم غرضه وشهوته وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ في الآخرة من استيلاء نيران الحرمان وظهور هيئات الرذائل المظلمة حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا بإهلاك أمته وَفارَ التَّنُّورُ باستيلاء الأخلاط الفاسدة والرطوبات الفضلية على الحرارة الغريزية وقوة طبيعة ماء الهيولى على نار الروح الحيوانية، أو أَمْرُنا بإهلاكهم المعنوي وَفارَ التَّنُّورُ باستيلاء ماء هوى الطبيعة على القلب وإغراقه في بحر الهيولى الجسماني قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ أي من كل صنفين من نوع اثنين هما صورتاهما النوعية والصنفية الباقيتان عند فناء الأشخاص.
ومعنى حملهما فيها علمه ببقائهما مع بقاء الأرواح الإنسية فإن علمه جزء من السفينة المتركبة من العلم والعمل فمعلوميتهما محموليتهما وعالميته بهما حامليته إياهما فيها وَأَهْلَكَ ومن يتصل بك في سيرتك من أقاربك إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ أي الحكم بإهلاكه في الأزل لكفره وَمَنْ آمَنَ من أمتك وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها أي بسم الله تعالى الأعظم الذي هو وجود كل عارف كامل من أفراد نوع الإنسان إجراء أحكامها وترويجها في بحر العالم الجسماني وإثباتها وأحكامها كما ترى من إجراء كل شريعة وأحكامها بوجود الكامل ممن ينسب إليها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ لهيئات نفوسكم البدنية المظلمة وذنوب ملابس الطبيعة المهلكة إياكم المغرقة في بحرها وذلك بمتابعة الشريعة رَحِيمٌ بإفاضة المواهب العلمية والكشفية والهيئات النورانية التي ينجيكم بها وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ من بحر الطبيعة الجسمانية كَالْجِبالِ الحاجبة للنظر المانعة من السير وهم لا يبالون بذلك محفوظون من أن يصيبهم شيء من ذلك الموج، وهذا الجريان يعرض للسالك في ابتداء أمره ولولا أنه محفوظ في لزوم سفينة الشرع لهلك.
ولعل في الآية على هذا تغليبا وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ المحجوب بالعقل المشوب بالوهم وَكانَ فِي مَعْزِلٍ لذلك الحجاب عن الدين والشريعة يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا أي ادخل في ديننا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ المحجوبين الهالكين بأمواج هوى النفس المغرقين في بحر الطبع قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ أي سألتجىء إلى الدماغ وأستعصم بالعقل المشرق هناك ليحفظني من استيلاء بحر الهيولى فلا أغرق فيه قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وهو الله الذي رحم أهل التوحيد وأفاض عليهم من شآبيب لطفه ما عرفوا به دينه الحق وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ أي موج هوى النفس واستيلاء ماء بحر الطبيعة وحجب عن الحق فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ في بحر الهيولى الجسمانية، وقيل: من جهة الحق على لسان الشرع لأرض الطبيعة يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وقفي على حد الاعتدال، ولسماء العقل المحجوبة بالعادة والحس المشوبة بالوهم المغيمة بغيم الهوى يا سَماءُ أَقْلِعِي عن إمداد الأرض وَغِيضَ الْماءُ أي ماء قوة الطبيعة الجسمانية ومدد الرطوبة الحاجبة لنور الحق
275
ﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟ ﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯ ﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁ ﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡ ﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪ ﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿ ﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗ ﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦ ﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕ ﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩ ﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉ ﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑﰒﰓﰔﰕﰖﰗﰘﰙﰚﰛﰜﰝﰞﰟﰠ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧ ﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻ ﰿ ﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈ ﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜ ﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥ ﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕ ﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧ ﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻ ﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝ ﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮ ﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺ ﭼﭽﭾﭿﮀ ﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑ ﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟ ﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞ ﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬ ﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸ ﯺﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑﰒﰓﰔﰕﰖﰗﰘﰙﰚﰛﰜ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜ ﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦ ﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅ ﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕ ﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢ ﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙ ﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧ ﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲ ﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇ ﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘ ﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮ ﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢ ﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮ
المانعة للحياة الحقيقية وَقُضِيَ الْأَمْرُ بإنجاء من نجا وإهلاك من هلك وَاسْتَوَتْ أي سفينة شريعته عَلَى الْجُودِيِّ وهو جبل وجود نوح وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ الذين عبدوا الهوى دون الحق ووضعوا الطبيعة مكان الشريعة وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ إلخ الكلام على هذا الطرز فيه ظاهر قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ من محل الجمع وذروة مقام الولاية والاستغراق في التوحيد إلى مقام التفصيل وتشريع النبوة بالرجوع إلى الخلق ومشاهدة الكثرة في عين الوحدة غير معطل للمراتب بِسَلامٍ مِنَّا أي سلامة عن الاحتجاب بالكثرة وَبَرَكاتٍ من تقنين قوانين الشرع عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ ناشئة مِمَّنْ مَعَكَ على دينك إلى آخر الزمان وَأُمَمٌ أي وينشأ ممن معك أمم سَنُمَتِّعُهُمْ في الدنيا ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا في العقبى عَذابٌ أَلِيمٌ بإحراقهم بنار الآثار وتعذيبهم بالهيئات المظلمة.
هذا ثم ذكر أنه إذا شئت التطبيق على ما في الأنفس أولت نوحا بروحك والفلك بكمالك العلمي والعملي الذي به نجاتك عند طوفان بحر الهيولى والتنور بتنور البدن وفورانه استيلاء الرطوبة الغريبة والأخلاط الفاسدة، وما أشار إليه مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ بجيوش القوى الحيوانية والطبيعية وطيور القوى الروحانية، وأولت ما جاء في القصة من البنين الثلاثة والزوجة بحام القلب وسام العقل النظري ويافث العقل العملي وزوجة النفس المطمئنة والابن الآخر الوهم والزوجة الأخرى الطبيعة الجسمانية التي يتولد منها الوهم. والجبل بالدماغ. واستواءها على الجودي وهبوطه بمثل نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان انتهى، ومن نظر بعين الإنصاف لم يعول إلا على ظاهر القصة وكان له به غنى عن هذا التأويل، واكتفى بما أشار إليه من أن النسب إذا لم يحط بالصلاح كان غريقا في بحر العدم.
فما ينفع الأصل من هاشم إذا كانت النفس من باهله
ومن أنه ينبغي للإنسان التحري بالدعاء وأن لا تشغله الشفقة عن ذلك إلى غير ما ذكر، والآية نص في كفر قوم نوح عليه السلام الذين أغرقهم الله تعالى، وفي فصوص الحكم للشيخ الأكبر قدس سره ما هو نص في إيمانهم ونجاتهم من العذاب يوم القيامة وذلك أمر لا نفهمه من كتاب ولا سنة وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
276
وَإِلى عادٍ متعلق بمحذوف معطوف على قوله سبحانه: أَرْسَلْنا في قصة نوح وهو الناصب لقوله تعالى: أَخاهُمْ أي وأرسلنا إلى عاد أخاهم أي واحدا منهم في النسب كقولهم: يا أخا العرب، وقدم المجرور ليعود الضمير عليه، وقيل: إن إِلى عادٍ أَخاهُمْ عطف على قوله تعالى: نُوحاً إِلى قَوْمِهِ [هود: ٢٥] المنصوب على المنصوب والجار والمجرور على الجار والمجرور، وهو من العطف على معمولي عامل واحد وليس من المسألة المختلف فيها، نعم الأول أقرب- كما في البحر- لطول الفصل بالجمل الكثيرة بين المفردات المتعاطفة، وقوله سبحانه: هُوداً عطف بيان- لأخاهم- وجوز أن يكون بدلا منه وكان عليه السلام ابن عم أبي عاد وأرسل إليهم من هو منهم ليكون ذلك أدعى إليه اتباعه قالَ استئناف بياني حيث كان إرساله عليه السلام مظنة للسؤال عما قال لهم ودعاهم كأنه قيل: فما قال لهم حين أرسل إليهم؟ فقيل: قال: يا قَوْمِ ناداهم بذلك استعطافا لهم، وقرأ ابن محيصن «يا قوم» بالضم وهي لغة في المنادى المضاف إلى الياء حكاها سيبويه وغيره اعْبُدُوا اللَّهَ أي وحده وكانوا مشركين يعبدون الأصنام ويدل على أن المراد ذلك قوله تعالى: ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ فإنه استئناف يجري مجرى البيان للعبادة المأمور بها، والتعليل للأمر بها كأنه قيل: أفردوه بالعبادة ولا تشركوا به شيئا إذ ليس لكم إله غيره سبحانه على أنه لا اعتداد بالعبادة مع الإشراك، فالأمر بها يستلزم الأمر بإفراده سبحانه بها وغَيْرُهُ بالرفع صفة- لإله- باعتبار محله لأنه فاعل للظرف لاعتماده على النفي، وقرأ الكسائي بالجر على أنه صفة له جار على لفظه إِنْ أَنْتُمْ ما أنتم بجعلكم الألوهية لغيره تعالى كما قال الحسن- أو بقولكم: إن الله تعالى أمرنا بعبادة الأصنام إِلَّا
278
مُفْتَرُونَ
عليه تعالى عن ذلك علوا كبيرا يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي خاطب به كل رسول قومه إزاحة لما عسى أن يتوهموه وتمحيضا للنصيحة فإنها ما دامت مشوبة بالمطامع بمعزل عن التأثير، وإيراد الموصول للتفخيم، وجعل الصلة فعل الفطر الذي هو الإيجاد والإبداع لكونه أبعد من أن يتوهم نسبته إلى شركائهم وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان: ٢٥، الزمر: ٣٨] مع كونه أقدم النعم الفائضة من جناب الله تعالى المستوجبة للشكر الذي لا يتأتى إلا بالجريان على موجب أمره سبحانه الغالب معرضا عن المطالب الدنيوية التي من جملتها الأجر، ولعل فيه إشارة إلى أنه عليه السلام غني عن أجرهم الذي إنما يرغب فيه للاستعانة به على تدبير الحال وقوام العيش بالله تعالى الذي أوجده بعد أن لم يكن وتكفل له بالرزق كما تكفل لسائر من أوجده من الحيوانات أَفَلا تَعْقِلُونَ أي أتغفلون عن ذلك فلا تعقلون نصيحة من لا يطلب عليها أجرا إلا من الله تعالى ولا شيء أنفى للتهمة من ذلك فتناقدون لما يدعوكم إليه أو تجهلون كل شيء فلا تعقلون شيئا أصلا فإن الأمر مما لا ينبغي أن يخفى على أحد من العقلاء.
وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ من الشرك ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ أي ارجعوا إليه تعالى بالطاعة أو توبوا إليه سبحانه وأخلصوا التوبة واستقيموا عليها، وقيل: الاستغفار كناية عن الإيمان لأنه من روادفه، وحيث إن الإيمان بالله سبحانه لا يستدعي الكفر بغيره لغة قيل: ثُمَّ تُوبُوا فكأنه قيل: آمنوا به ثم توبوا إليه تعالى من عبادة غيره، وتعقب بأن قوله سبحانه: اعْبُدُوا اللَّهَ دل على اختصاصه تعالى بالعبادة فلو حمل اسْتَغْفِرُوا على ما ذكر لم يفد فائدة زائدة سوى ما علق عليه، وقد كان يمكن تعليقه بالأول، والحمل على غير الظاهر مع قلة الفائدة مما يجب الاحتراز عنه في كلام الله تعالى المعجز، وقيل: المراد بالاستغفار التوبة عن الشرك وبالتوبة التوبة عما صدر منهم غير الشرك، وأورد عليه أيضا أن الإيمان يجب ما قبله، وقيل: المراد بالأول طلب المغفرة بالإيمان، وبالثاني التوسل إليه سبحانه بالتوبة عن الشرك، وأورد عليه أن التوسل المذكور لا ينفك عن طلب المغفرة بالإيمان لأنه من لوازمه فلا يكون بعده كما تؤذن به ثُمَّ- وقيل: وقيل- وقد تقدم بعض الكلام في ذلك أول السورة. يُرْسِلِ السَّماءَ أي المطر كما في قوله:
إذا «نزل السماء» بأرض قوم رعيناه وإن كانوا غضابا
عَلَيْكُمْ مِدْراراً كثير الدر متتابعه من غير إضرار فمفعال للمبالغة كمعطار ومقدام.
وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ أي عزا مضموما إلى عزكم أو مع عزكم ويرجع هذا إلى قوله تعالى: وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ [نوح: ١٢] لأن العز الدنيوي بذلك، وعن الضحاك تفسير- القوة- بالخصب، وعن عكرمة تفسيرها بولد الولد، وقيل: المراد بها قوة الجسم، ورغبهم عليه السلام بكثرة المطر وزيادة القوة لأنهم كانوا أصحاب زروع وبساتين وعمارات، وقيل: حبس الله تعالى عنهم القطر وأعقم أرحام نسائهم ثلاث سنين فوعدهم هود عليه السلام على الاستغفار والتوبة كثرة الأمطار وتضاعف القوة بالتناسل، وقيل: القوة الأولى في الإيمان، والثانية في الأبدان أي يزدكم قوة في إيمانكم إلى قوة في أبدانكم وَلا تَتَوَلَّوْا أي لا تعرضوا عما دعوتكم إليه مُجْرِمِينَ مصرين على ما أنتم عليه من الإجرام، وقيل: مجرمين بالتولي وهو تكلف. قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ أي بحجة واضحة تدل على صحة دعواك، وإنما قالوه لفرط عنادهم أو لشدة عماهم عن الحق وعدم نظرهم في الآيات فاعتقدوا أن ما هو آية ليس بآية وإلا فهو وغيره من الأنبياء عليهم السلام جاؤوا بالبينات الظاهرة والمعجزات الباهرة وإن لم يعين لنا بعضها،
ففي الخبر «ما من نبي إلا وقد أوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر»
وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا أي بتاركي عبادتها عَنْ قَوْلِكَ أي بسبب قولك المجرد عن البينة- فعن- للتعليل كما قيل في قوله تعالى: إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها
279
إِيَّاهُ [التوبة: ١١٤] وإلى هذا يشير كلام ابن عطية وغيره، فالجار والمجرور متعلق بِتارِكِي.
وذهب بعض المحققين إلى أنه متعلق بمحذوف وقع حالا من الضمير المستتر فيه أي صادرين وهو من الصدر مقابل الورد بمعنى الرجوع عن الماء، وقد شاع في كلامهم استعمال الصدر والورد كناية عن العمل والتصرف، ومنه قوله:
ما أمسى الزمان حاجا إلى من يتولى الإيراد والإصدارا
أي يتصرف في الأمور بصائب رأيه، وقد يكتفي بالصدر في ذلك لاستلزامه للورد فيقولون: لا يصدر إلا عن رأيه، والمعنى هنا حينئذ ما نحن بِتارِكِي آلِهَتِنا عاملين بقولك، والنفي فيه راجع إلى القيد والمقيد جميعا لأنهم لا يتركون آلهتهم ولا يعملون بقوله عليه السلام، وقيل: إن صادرين بمعنى معرضين وهو قيد للنفي، والمعنى انتفى تركنا عبادة آلهتنا معرضين عَنْ قَوْلِكَ ويكون هذا جوابا لقوله: لا تَتَوَلَّوْا وجعل بعضهم إرادة ذلك من باب التضمين لا من باب تقدير المتعلق بقرينة عَنْ وجعله كناية كما علمت، وكلام الزمخشري ظاهر في هذا كما يكشف عنه كلام الكشف وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ أي بمصدقين فيما جئت به أو في كل ما تأتي وتذر، ويندرج فيه ذلك، وقد بالغوا في الإباء عن الإجابة فأنكروا الدليل على نبوته عليه السلام، ثم قالوا مؤكدين لذلك وَما نَحْنُ بِتارِكِي إلخ، ثم كرروا ما دل عليه الكلام السابق من عدم إيمانهم بالجملة الاسمية مع زيادة الباء، وتقديم المسند إليه المفيد للتقوى دلالة على أنهم لا يرجى منهم ذلك بوجه من الوجوه، وفي ذلك من الدلالة على الإقناط ما فيه إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ أي أصابك من عراه يعروه، وأصله من اعتراه بمعنى قصد عراه أي محله وناحيته بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ أرادوا به- قاتلهم الله تعالى- الجنون، والباء للتعدية والتنكير فيه قيل: للتقليل كأنهم لم يبالغوا في العتو كما ينبىء عنه نسبة ذلك إلى بعض آلهتهم دون كلها، وقيل: للتكثير إشارة إلى أن ما قاله لا يصدر إلا عمن أصيب بكثير سوء مبالغة في خروجه عن قانون العقل، وذكر البعض تعظيما لأمر آلهتهم وأن البعض منها له من التأثير ما له، والجملة مقول القول وإلا لغو لأن الاستثناء مفرغ، وأصله أن نقول قولا إلا قولنا هذا فحذف المستثنى منه وحذف القول المستثنى وأقيم مقوله مقامه، أو اعْتَراكَ هو المستثنى لأنه أريد به لفظه فلا حاجة إلى تقدير قول بعد إِلَّا وليس مما استثنى فيه الجملة، ومعنى هذا أنه أفسد عقلك بعض آلهتنا لسبك إياها وصدك عن عبادتها وحطك لها عن رتبة الألوهية بما مر من قولك: ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ وغرضهم من هذا على ما قيل: بيان سبب ما صدر عن هود عليه السلام بعد ما ذكروا من عدم التفاتهم لقوله عليه السلام، وقيل: هو مقرر لما مر من قولهم: وَما نَحْنُ بِتارِكِي إلخ وَما نَحْنُ لَكَ إلخ فإن اعتقادهم بكونه عليه السلام كما قالوا- وحاشاه عن ذلك- يوجب عدم الاعتداد بقوله، وعده من قبيل الخرافات فضلا عن التصديق والعمل بمقتضاه يعنون أنا لا نعتقد كلامك إلا ما لا يحتمل الصدق من الهذيانات الصادرة عن المجانين فكيف نؤمن به ونعمل بموجبه؟ ولقد سلكوا طريق المخالفة والعناد إلى سبيل الترقي من السيّء إلى الأسوأ حيث أخبروا أولا عن عدم مجيئه بالبينة مع احتمال كون ما جاء به حجة في نفسه وإن لم تكن واضحة الدلالة على المراد وثانيا عن ترك الامتثال لقوله عليه السلام: بقولهم: وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ مع إمكان تحقق ذلك بتصديقهم له في كلامه. ثم نفوا عنه تصديقهم له عليه السلام بقولهم: وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ مع كون كلامه عليه السلام مما يقبل التصديق، ثم نفوا عنه تلك المرتبة أيضا حيث قالوا ما قالوا قاتلهم الله أنى يؤفكون انتهى.
وللبحث فيه مجال، ولعل الإتيان بهذه الجملة غير مقترنة بالعاطف كالجملتين الأوليين يؤيد كونها ليست
280
مسوقة للتأكيد مثلهما، نعم تضمنها لتقرير ما تقدم مما لا يكاد ينكر فتدبر.
قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ أي مما أنتم تجعلونه شريكا وهو سبحانه لم يجعله شريكا ولم ينزل به سلطانا- فما موصولة، ومِنْ دُونِهِ متعلق- بتشركون- لا حال من فاعله أي تشركون مجاوزين الله تعالى في هذا الحكم إذ لا فائدة في التقييد به، وجوز أن تكون مصدرية أيضا أي من إشراككم، وقد جوز كلا الاحتمالين الزمخشري فقال: أي من إشراككم آلهة من دونه أو مما تشركونه آلهة من دونه وأمر تعلق الجار فيهما واحد، وتقدير آلهة لإيضاح المعنى والإشارة إلى أن المفعول مراد لسوق الكلام ولا يصلح أن يكون الظرف صفة له على الوجهين لأن بيانه حاصلهما بنحو ما ذكرناه في بيان حاصل الأول إنما يستقيم إذا تعلق بالفعل المذكور وليس المعنى على آلهة غير الله على ذلك التفسير، وللطيبي ما يخالف ذلك وليس بذاك، وأَنِّي بَرِيءٌ متنازع فيه للفعلين قبله وقد يتنازع المختلفان في التعدي الاسم الذي يكون صالحا لأن يعملا فيه تقول: أعطيت ووهبت لعمرو درهما كما يتنازع اللازم والمتعدي نحو قام وضربت زيدا.
وقد أجاب عليه السلام بهذا عن مقالتهم الشنعاء المبنية على اعتقاد كون آلهتهم تضر وتنفع، ولما كان ما وقع أولا منه عليه السلام في حقها من كونها بمعزل عن الألوهية إنما وقع في ضمن الأمر بعبادة الله تعالى واختصاصه بها وقد شق ذلك عليهم وعدوه مما يورث شينا حتى زعموا ما زعموا صرح عليه السلام بالحق وصدع به حيث أخبر ببراءته القديمة عنها بالجملة الاسمية المصدرة- بأن- وأكد ذلك- بأشهد الله- فإنه كالقسم في إفادة التأكيد وأمرهم بأن يسمعوا ذلك ويشهدوا به، والمقصود منه الاستهانة والاستهزاء كما يقول الرجل لخصمه إذا لم يبال به: أشهد على أني قائل لك كذا، وكأنه غاير بين الشهادتين لذلك، وعطف الإنشاء على الاخبار جائز عند بعض، ومن لم يجوزه قدر قولا أي وأقول اشْهَدُوا ويحتمل أن يكون إشهاد الله تعالى إنشاء أيضا وإن كان في صورة الخبر، وحينئذ لا قيل ولا قال، وجوز أن يكون إشهاده عليه السلام لهم حقيقة إقامة للحجة عليهم.
وعدل عن الخبر فيه تمييزا بين الخطابين فهو خبر في المعنى كما هو المشهور في الأول لكن الأولى الحمل على المجاز، ثم أمرهم بالاجتماع والاحتشاد مع آلهتهم جميعا دون بعض منها حسبما يشعر به قولهم بَعْضُ آلِهَتِنا والتعاون في إيصال الكيد إليه عليه السلام، ونهاهم عن الإنظار والإمهال في ذلك فقال: فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ أي إن صح ما لوحتم به من كون آلهتكم مما يقدرون على إضرار من ينال منها ويصد عن عبادتها ولو بطريق ضمني فإني بريء منها فكونوا أنتم معها جميعا وباشروا كيدي ثم لا تمهلوني ولا تسامحوني في ذلك. فالفاء لتفريع الأمر على زعمهم من قدرة آلهتهم على ما قالوا وعلى البراءة كليهما، والخطاب للقوم وآلهتهم، ويفهم من كلام بعض أنه للقوم فقط، وفيه نفي قدرة آلهتهم على ضره بطريق برهاني فإن الأقوياء والأشداء إذا لم يقدروا مع اجتماعهم واحتشادهم على الضر كان عدم قدرة الجمادات عليه معلوما من باب أولى، وأيا ما كان فذاك من أعظم المعجزات بناء على ما قيل: إنه كان عليه السلام مفردا بين جمع عتاة جبابرة عطاش إلى إراقة دمه يرمونه عن قوس واحدة، وقد خاطبهم بما خاطبهم وحقرهم وآلهتهم وهيجهم على ما هيجهم فلم يقدروا على مباشرة شيء مما كلفوه، وظهر عجزهم عن ذلك ظهورا بينا. وفي ذلك دلالة على مزيد ثقته بالله سبحانه وكمال عنايته به وعصمته له، وقد قرر ذلك بإظهار التوكل على من كفاه ضرهم في قوله: إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ وفيه تعليل لنفي ضرهم بطريق برهاني يعني أنكم وإن لم تبقوا في القوس منزعا وبذلتم في مضادتي مجهودكم لا تقدرون على شيء مما تريدون بي فإني متوكل على الله تعالى واثق بكلاءته وهو مالكي ومالككم لا يصدر عنكم شيء ولا يصيبني أمر إلا بإرادته، وجيء
281
بلفظ الماضي لأنه أدل على الإنشاء المناسب للمقام، ثم إنه عليه السلام برهن على عدم قدرتهم على ضره مع توكله عليه سبحانه بقوله: ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها أي إلا هو مالك لها قادر عليها يصرفها كيف يشاء غير مستعصية عليه سبحانه، والناصية مقدم الرأس وتطلق على الشعر النابت عليها، واستعمال الأخذ بالناصية في القدرة والتسلط مجاز أو كناية، وفي البحر أنه صار عرفا في القدرة على الحيوان، وكانت العرب تجز الأسير الممنون عليه علامة على أنه قد قدر عليه وقبض على ناصيته، وقوله: إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ مندرج في البرهان وهو تمثيل واستعارة لأنه تعالى مطلع على أمور العباد مجاز لهم بالثواب والعقاب كاف لمن اعتصم به كمن وقف على الجادة فحفظها ودفع ضرر السابلة بها، وهو كقوله سبحانه: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ [الفجر: ١٤]، وقيل: معناه أن مصيركم إليه تعالى للجزاء وفصل القضاء، ولعل الأول أولى، وفي الكشف أن في قوله: إِنِّي تَوَكَّلْتُ الآية من اللطائف ما يبهرك تأمله من حسن التعليل، وما يعطيه أن من توكل عليه لم يبال بهول ما ناله ثم التدرج إلى تعكيس التخويف بقوله: رَبِّي وَرَبِّكُمْ فكيف يصاب من لزم سدّة العبودية وينجو من تولى مع ما يعطيه من وجوب التوكل عليه سبحانه إذا كان كذلك وترشيحه بقوله: ما مِنْ دَابَّةٍ إلى تمام التمثيل فإنه في الاقتدار على المعرض أظهر منه في الرأفة على المقبل خلاف الصفة الأولى، وما فيه من تصوير ربوبيته واقتداره تعالى وتصوير ذل المعبودين بين يدي قهره أيا ما كان، والختم بما يفيد الغرضين على القطع كفاية من إياه تولى وخزاية من أعرض عن ذكره وتولى بناء على أن معناه أنه سبحانه على الحق والعدل لا يضيع عنده معتصم ولا يفوته ظالم، وفي قوله: رَبِّي من غير إعادة وَرَبِّكُمْ كما في الأول نكتة سرية بعد اختصار المعنى عن الحشو فيه ما يدل على زيادة اختصاصه به وأنه رب الكل استحقاقا وربه دونهم تشريفا وإرفاقا فَإِنْ تَوَلَّوْا أي تتولوا فهو مضارع حذف منه إحدى التاءين وحمل على ذلك لاقتضاء أبلغتكم له، وجوز ابن عطية كونه ماضيا، وفي الكلام التفات ولا يظهر حسنه ولذا قدر غيره ممن جعله كذلك فقل أبلغتكم لكنه لا حاجة إليه، ويؤيد ذلك قراءة الأعرج وعيسى الثقفي تَوَلَّوْا بضم التاء واللام مضارع ولى، والمراد فإن تستمروا على
ما كنتم عليه من التولي والإعراض لوقوع ذلك منهم فلا يصلح للشرط، وجوز أن يبقى على ظاهره بحمله على التولي الواقع بعد ما حجهم، والظاهر أن الضمير لقوم هود والخطاب معهم، وهو من تمام الجمل المقولة قبل، وقال التبريزي: إن الضمير لكفار قريش وهو من تلوين الخطاب، وقد انتقل من الكلام الأول إلى الاخبار عمن بحضرة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وكأنه قيل: أخبرهم عن قصة قوم هود وادعهم إلى الإيمان بالله تعالى لئلا يصيبهم كما أصاب قوم هود عليه السلام فَإِنْ تَوَلَّوْا فقل لهم- قد أبلغتكم- إلخ وهو من البعد بمكان كما لا يخفى، وقوله سبحانه: فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ دليل جواب الشرط أي إن تتولوا لم أعاتب على تفريط في الإبلاغ فإن ما أرسلت به إليكم قد بلغكم فأبيتم إلا تكذيب الرسالة وعداوة الرسول، وقيل: التقدير إن تتولوا فما علي كبير همّ منكم فإنه قد برئت ساحتي بالتبليغ وأنتم أصحاب الذنب في الإعراض عن الإيمان، وقيل: إنه الجزاء باعتبار لازم معناه المستقبل باعتبار ظهوره أي فلا تفريط مني ولا عذر لكم، وقيل: إنه جزاء باعتبار الإخبار لأنه كما يقصد ترتب المعنى يقصد ترتب الإخبار كما في وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النحل: ٥٣] على ما مر وكل ذلك لما أن الإبلاغ واقع قبل توليهم، والجزاء يكون مستقبلا بالنظر إلى زمان الشرط.
وزعم أبو حيان أن صحة وقوعه جوابا لأن في إبلاغه إليهم رسالته تضمن ما يحل بهم من العذاب المستأصل فكأنه قيل: فإن تتولوا استؤصلتم بالعذاب، ويدل على ذلك الجملة الخبرية، وهي قوله سبحانه: وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وفيه منع ظاهر، وهذا كما قال غير واحد: استئناف بالوعيد لهم بأن الله تعالى يهلكهم ويستخلف قوما
282
آخرين في ديارهم وأموالهم وهو استئناف نحوي عند بعض بناء على جواز تصديره بالواو.
وقال الطيبي: المراد به أن الجملة ليست بداخلة في الجملة الشرطية جزاء بل تكون جملة برأسها معطوفة على الجملة الشرطية وهو خلاف الظاهر من العبارة، وعليه تكون مرتبة على قوله سبحانه: إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ والمعنى أنه على العدل ينتقم منكم ويهلككم، وقال الجلبي: لا مانع عندي من حمله على الاستئناف البياني جوابا عما يترتب على التولي وهو الظاهر كأنه قيل: ما يفعل بهم إذا تولوا؟ فقيل: يَسْتَخْلِفُ إلخ.
وتعقبه بعضهم بأن الاستئناف البياني لا يقترن بالواو، وجوز أن يكون عطفا على الجواب لكن على ما بعد الفاء لأنه الجواب في الحقيقة، والفاء رابطة له ودخول الفاء على المضارع هنا لأنه تابع يتسامح فيه.
وقيل: تقديره فقل: يَسْتَخْلِفُ إلخ، وقرأ حفص برواية هبيرة و «يستخلف» بالجزم وهو عطف على موضع الجملة الجزائية مع الفاء كأنه قيل: فَإِنْ تَوَلَّوْا يعذرني ويهلككم وَيَسْتَخْلِفُ مكانكم آخرين.
وجوز أبو البقاء كون ذلك تسكينا لتوالي الحركات، وقرأ عبد الله كذلك، وبجزم قوله سبحانه: وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً، وقيل: إن من جزم الأول جزم هذا لعطفه عليه وهو الظاهر، والمعنى لا تضرونه بهلاككم شيئا أي لا ينتقص ملكه ولا يختل أمره، ويؤيد هذا ما روي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قرأ ولا تنقصونه شيئا، ونصب شَيْئاً على أنه مفعول مطلق لتضرون أي شيئا من الضرر لأنه لا يتعدى لاثنين، وجعله بعضهم مفعولا ثانيا مفسرا له بما يتعدى لهما لمكان الرواية، وجوز ابن عطية أن يكون المعنى أنكم لا تقدرون إذا أهلككم على إضراره بشيء ولا على الانتصار منه ولا تقابلون فعله بشيء يضره تعالى عن ذلك علوا كبيرا، والأول أظهر، وقدر بعضهم التولي بدل الإهلاك أي ولا تضرونه بتوليكم شيئا من الضرر لاستحالة ذلك عليه سبحانه إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ أي رقيب محيط بالأشياء علما فلا يخفى عليه أعمالكم ولا يغفل عن مؤاخذتكم. فالحفظ كناية عن المجازاة، ويجوز أن يكون الحفيظ بمعنى الحافظ بمعنى الحاكم المستولي أي إنه سبحانه حافظ مستول على كل شيء، ومن شأنه ذلك كيف يضره شيء وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا أي نزل عذابنا على أن الأمر واحد الأمور، قيل: أو المأمور به، وفي التعبير عنه بذلك مضافا إلى ضميره جل جلاله، وعن نزوله بالمجيء ما لا يخفى من التفخيم والتهويل.
وجوز أن يكون واحد الأوامر أي وورد أمرنا بالعذاب، والكلام على الحقيقة إن أريد أمر الملائكة عليهم السلام، ويجوز أن يكون ذلك مجازا عن الوقوع على سبيل التمثيل نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قيل: كانوا أربعة آلاف، وقيل: ثلاثة آلاف، ولعل الانتصار للأنبياء عليهم السلام لم يكن مأذونا به للمؤمنين إذ ذاك فلا ينافي ما تقدم نقله من أنه عليه السلام كان وحده، ولذا عد مواجهته للجم الغفير معجزة له صلّى الله عليه وسلّم لكن لا بد لهذا من دليل كدعوى انفراده عنهم حين المقاولة وفي الحواشي الشهابية أنه لا مانع من ذلك باعتبار حالين وزمانين فتأمل، والظاهر أن ما كان من المقاولة إنما هو في ابتداء الدعوة ومجيء الأمر كان بعد بكثير وإيمان من آمن كان في البين فترتفع المنافاة بِرَحْمَةٍ عظيمة كائنة مِنَّا وهي الإيمان الذي أنعمنا به عليهم.
وروي هذا عن ابن عباس والحسن، وذكره الزمخشري- ولشم بعضهم منه رائحة الاعتزال- لم يلتفت إليه ولا بأس بأن تحمل الرحمة عن الفضل فيفيد أن ذلك بمحض فضل الله تعالى إذا له سبحانه تعذيب المطيع كما أن له جل وعلا إثابة العاصي، والجار والمجرور الأول متعلق- بنجينا- وهو الظاهر الذي عليه كثير من المفسرين.
وجوز أبو حيان كونه متعلقا- بآمنوا- أي إن إيمانهم بالله تعالى ورسوله عليه السلام برحمة من الله تعالى إذ وفقهم إليه، ولعل ترتيب الإنجاء على النزول باعتبار ما تضمنه من تعذيب الكفار فيكون قد صرح بالإنجاء اهتماما،
283
ورتب باعتبار الآخر إشارة إلى أنه مقصود منه، ويجوز أن تكون- لما لمجرد الحين- وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ تكرير لأجل بيان ما نجاهم عنه وهي الريح التي كانت تحمل الظعينة وتهدم المساكن وتدخل في أنوف أعداء الله تعالى وتخرج من أدبارهم فتقطعهم إربا إربا، أو المراد بهذا الإنجاء من عذاب الآخرة وبالأول الإنجاء من عذاب الدنيا، ورجح الأول بأنه أوفق لمقتضى المقام، وحاصله أن الأول إخبار بأن الإيمان الذي وفقوا له صار سبب إنجائهم.
والثاني بأن ذلك الإنجاء كان من عذاب أي عذاب دلالة على كمال الامتنان وتحريضا على الإيمان وليس من أسلوب- أعجبني زيد وكرمه- في شيء كما ظنه العلامة الطيبي.
وقد أورد على الثاني أن إنجاءهم من عذاب الآخرة ليس في وقت نزول العذاب في الدنيا ولا مسببا عنه إلا أن يجاب بأنه عطف على القيد والمقيد كما قيل في قوله سبحانه: لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف: ٣٤] قيل: ولا يخفى ما فيه من التكلف من غير داع لأن الموافق للتعبير بالماضي المفيد لتحققه حتى كأنه وقع أن يجعل باعتبار ذلك واقعا في وقت النزول تجوزا أو المعنى حكمنا بذلك وتبين ما يكون لهم لأن الدنيا أنموذج الآخرة وأيا ما كان فالمراد بغلظ العذاب تضاعفه، وقد يقال على الاحتمال الأول في وصف العذاب الذي كان بالريح: بالغلظ الذي هو ضد الرقة التي هي صفة الريح ما لا يخفى من اللطف، وفيه أيضا مناسبة لحالهم فإنهم كانوا غلاظا شدادا وَتِلْكَ عادٌ أنث اسم الإشارة باعتبار القبيلة على ما قيل، فالإشارة إلى ما في الذهن وصيغة البعيد لتحقيرهم أو لتنزيلهم منزلة البعيد لعدمهم، أو الإشارة إلى قبورهم ومصارعهم، وحينئذ الإشارة للبعيد المحسوس والإسناد مجازي أو هو من مجاز الحذف أي تلك قبور عاد، وجوز أن يكون بتقدير أصحاب تلك عاد، والجملة مبتدأ وخبر، وكان المقصود الحث على الاعتبار بهم والاتعاظ بأحوالهم، وقوله سبحانه: جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ إلخ استئناف لحكاية بعض قبائحهم أي كفروا بآيات ربهم التي أيد بها رسوله الداعي إليه ودل بها على صدقه وأنكروها فقالوا: يا هود ما جئتنا ببينة، أو أنكروا آياته سبحانه في الآفاق والأنفس الدالة عليه تعالى حسبما قال لهم هود عليه السلام.
وجوز أن يراد بها الآيات التي أتى بها هود وغيره من الرسل عليهم الصلاة والسلام، ويلائمه جمع الرسل الآتي على قول، وعدي- جحد- بالباء حملا له على كفر لأنه المراد، أو بتضمينه معناه كما أن كفر يجري مجرى جحد فيعدى بنفسه نحو قوله سبحانه: أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ، وقيل: كفر كشكر يتعدى بنفسه وبالباء، وظاهر كلام القاموس أن جحد كذلك وَعَصَوْا رُسُلَهُ قيل: المراد بالرسل هود عليه السلام والرسل الذين كانوا معه من قبله وهو خلاف الظاهر، وقيل: المراد بهم هود عليه السلام وسائر الرسل من قبله تعالى للأمم من قبله ومن بعده عليه السلام بناء على أن عصيانه عليه السلام وكذا عصيان كل رسول بمنزلة عصيان الرسل جميعهم لأن الجميع متفقون على التوحيد فعصيان واحد عصيان للجميع فيه، أو على أن القوم أمرهم كل رسول من قبل بطاعة الرسل والإيمان بهم إن أدركوهم فلم يمتثلوا ذلك الأمر وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ متعال عن قبول الحق، وقال الكلبي: هو الذي يقتل على الغضب ويعاقب على المعصية.
وقال الزجاج: هو الذي يجبر الناس على ما يريد، وذكر ابن الأنباري أنه العظيم في نفسه المتكبر على العباد عَنِيدٍ أي طاغ من- عند- بتثليث النون- عندا- بالإسكان- وعندا- بالتحريك- وعنودا- بضم العين إذا طغا وجاوز الحد في العصيان. وفسره الراغب بالمعجب بما عنده، والجوهري بمن خالف الحق ورده وهو يعرفه، وكذا عاند، ويطلق الأخير على البعير الذي يجور عن الطريق ويعدل عن القصد، وجمعه- عند- كراكع وركع، وجمع العنود- عند- كرغيف ورغف، والعنود قيل: بمعنى العنيد.
284
وزعم بعضهم أنه يقال: بعير عنود، ولا يقال: عنيد، ويجمع الأول على عندة والثاني على عند، وآخر أن العنود العادل عن الطريق المحسوس. والعنيد العادل عن الطريق في الحكم وكلاهما من- عند- وأصل معناه على ما قيل:
اعتزل في جانب لأن- العند- بالتحريك الجانب يقال: يمشي وسطا لا عندا، ومنه- عند الظرفية، ويقال للناحية أيضا:
العند مثلثة، وهذا الحكم ليس كالحكمين السابقين من جحود الآيات وعصيان الرسل في الشمول لكل فرد فرد منهم فإن اتباع الأمر من أحكام الأسافل دون الرؤساء.
وقيل: هو مثل ذلك في الشمول، والمراد- بالأمر- الشأن- وبكل جبار عنيد- من هذه صفته من الناس لا أناس مخصوصون من عاد متصفون بذلك، والمراد باتباع الأمر ملازمته أو الرضا به على أتم وجه، ويؤول ذلك إلى الاتصاف أي إن كلّا منهم اتصف بصفة كل جبار عنيد، ولا يخفى ما فيه من التكلف الظاهر، وقد يدعى العموم من غير حاجة إلى ارتكاب مثله، والمراد على ما تقدم أنهم عصوا من دعاهم إلى سبيل الهدى وأطاعوا من حداهم إلى مهاوي الردى وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً أي إبعادا عن الرحمة وعن كل خير أي جعلت اللعنة لازمة لهم، وعبر عن ذلك بالتبعية للمبالغة فكأنها لا تفارقهم وإن ذهبوا كل مذهب بل تدور معهم حسبما داروا، أو لوقوعه في صحبة اتباعهم، وقيل: الكلام على التمثيل بجعل اللعنة كشخص تبع آخر ليدفعه في هوة قدامه، وضمير الجمع لعاد مطلقا كما هو الظاهر.
وجوز أن يكون للمتبعين للجبارين منهم، وما حال قوم قدامهم الجبارون أهل النار وخلفهم اللعنة، والبوار، ويعلم من لعنة هؤلاء لعنة غيرهم المتبوعين على ما قيل بالطريق الأولى وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أي واتبعوا يوم القيامة أيضا لعنة وهي عذاب النار المخلد حذف ذلك لدلالة الأول عليه وللإيذان بأن كلا من العنين نوع برأسه لم يجتمعا في قرن واحد بأن يقال: وأتبعوا في هذه الدنيا ويوم القيامة لعنة، ونظير هذا قوله تعالى: وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ [الأعراف: ١٥٦] وعبر- بيوم القيامة- بدل الآخرة هنا للتهويل الذي يقتضيه المقام.
أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أي بربهم أو كفروا نعمته ولم يشكروها بالإيمان أو جحدوه أَلا بُعْداً لِعادٍ دعاء عليهم بالهلاك مع أنهم هالكون أيّ هلاك تسجيلا عليهم باستحقاق ذلك والاستئهال له، ويقال في الدعاء بالبقاء واستحقاقه: لا يبعد فلان، وهو في كلام العرب كثير، ومنه قوله:
لا يبعدن قومي الذين هم سم العداة وآفة الجزر
وجوز أن يكون دعاء باللعن كما في القاموس: البعد والبعاد اللعن، واللام للبيان كما في قولهم: سقيا لك، وقيل: للاستحقاق وليس بذاك، وتكرير حرف التنبيه وإعادة عاد للمبالغة في تفظيع حالهم والحث على الاعتبار بقصتهم، وقوله سبحانه: قَوْمِ هُودٍ عطف بيان على «عاد» وفائدته الإشارة إلى أن عادا كانوا فريقين: عادا الأولى وعادا الثانية، وهي عاد إرم في قول، وذكر الزمخشري في الفجر أن عقب عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح قيل لهم: عاد كما يقال لبني هاشم: هاشم، ثم قيل للأولين منهم عاد الأولى وإرم تسمية لهم باسم جدهم، ولمن بعدهم عاد الأخيرة، وأنشد لابن الرقيات:
مجدا تليدا بناه أوله أدرك عادا وقبلها إرما
ولعله الأوفق للنقل مع الإيماء إلى أن استحقاقهم للبعد بسبب ما جرى بينهم وبين هود عليه السلام وهم قومه، وليس ذلك لدفع اللبس إذ لا لبس في أن عادا هذه ليست إلا قوم هود عليه السلام للتصريح باسمه وتكريره في القصة، وقيل: ذكر ليفيد مزيد تأكيد بالتنصيص عليهم مع ما في ذلك من تناسب فواصل الآي.
285
وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ الكلام فيه كالكلام في نظيره السابق آنفا، وجمهور القراء على منع صرف ثَمُودَ ذهابا إلى القبيلة، وقرأ ابن وثاب والأعمش بالصرف على إرادة الحي هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ أي ابتدأ خلقكم منها فإنها المادة الأولى وآدم الذي هو أصل البشر خلق منها، وقيل: الكلام على حذف مضاف أي أنشأ أباكم، وقيل: مِنْ بمعنى في، وليس بشيء، والمراد الحصر كما يفهمه كلام بعض الأجلة كأن القوم لعدم أدائهم حقه سبحانه قد اعتقدوا أن الفاعل لذلك غيره تعالى، أو هو مع غيره فخوطبوا على وجه قصر القلب أو قصر الأفراد بذلك، واحتمال أنهم كانوا يعتقدون أحد الأمرين حقيقة لا تنزيلا يستدعي القول بأنهم كانوا طبيعية أو ثنوية وإلا فالوثنية- وإن عبدوا معه سبحانه غيره- لا يعتقدون خالقية غيره لهم بوجه من الوجوه، وأخذ الحصر على ما قيل: من تقديم الفاعل المعنوي، وقيل: إنه مستفاد من السياق لأنه لما حصر الإلهية فيه تعالى اقتضى حصر الخالقية أيضا فبيان ما خلقوا منه بعد بيان أنه الخالق لا غيره يقتضي هذا فتدبر، والظاهر أن من يقول بالحصر هنا يقول به في قوله سبحانه: وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها لمكان العطف وكونه معطوفا بعد اعتبار التقديم فلا ينسحب على ما بعده مما لا فائدة في التزامه أي وهو الذي جعلكم عمارها وسكانها فالاستفعال بمعنى الافعال يقال:
أعمرته الأرض واستعمرته إذا جعلته عامرها وفوضت إليه عمارتها، وإلى هذا ذهب الراغب وكثير من المفسرين، وقال زيد بن أسلم: المعنى أمركم بعمارة ما تحتاجون إليه من بناء مساكن وحفر أنهار وغرس أشجار وغير ذلك، فالسين للطلب، وإلى هذا ذهب الكيا، واستدل بالآية على أن عمارة الأرض واجبة لهذا الطلب. وقسمها في الكشاف إلى واجب كعمارة القناطر اللازمة والمسجد الجامع. ومندوب كعمارة المساجد. ومباح كعمارة المنازل وحرام كعمارة الخانات، وما يبنى للمباهاة أو من مال حرام كأبنية كثير من الظلمة، واعترض على الكيا بأنه لم يكن هناك طلب حقيقة ولكن نزل جعلهم محتاجين لذلك- وإقدارهم عليه وإلهامهم كيف يعمرون- منزلة الطلب، وقال الضحاك:
المعنى عمركم فيها واستبقاكم وكان أحدهم يعمر طويلا حتى أن منهم من يعمر ألف سنة، والمشهور أن الفعل من العمر وهو مدة الحياة بالتشديد ومن العمارة نقيض الخراب بالتخفيف ففي أخذ ذلك من العمر تجوز.
وعن مجاهد أن استعمر من العمرى بضم فسكون مقصور، وهي- كما قال الراغب- في العطية أن تجعل له شيئا مدة عمرك أو عمره، والمعنى أعمركم فيها ورباكم أي أعطاكم ذلك ما دمتم أحياء ثم هو سبحانه وارثها منكم، أو المعنى جعلكم معمرين دياركم فيها لأن الرجل إذا ورث داره من بعده فكأنما أعمره إياها لأنه يسكنها عمره ثم يتركها لغيره فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ تفريع على ما تقدم فإن ما ذكر من صنوف إحسانه سبحانه داع إلى الاستغفار والتوبة، وقوله: إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ أي قريب الرحمة لقوله سبحانه: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف: ٥٦] والقرآن يفسر بعضه بعضا مُجِيبٌ لمن دعاه وسأله زيادة في بيان ما يوجب ذلك والأول علة باعثة، وهذا علة غائية وما ألطف التقديم والتأخير، وصرح بعضهم أن قَرِيبٌ ناظر- لتوبوا- ومُجِيبٌ- لاستغفروا- كأنه، قيل: ارجعوا إلى الله تعالى فإنه سبحانه قَرِيبٌ منكم أقرب من حبل الوريد واسألوه المغفرة فإنه جلا وعلا مُجِيبٌ السائلين ولا يخلو عن حسن قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا أي فيما بيننا مَرْجُوًّا فاضلا خيرا نقدمك على جميعنا على ما روي عن ابن عباس.
وقال ابن عطية مشورا نأمل منك أن تكون سيدا سادا مسد الأكابر، وقال كعب: كانوا يرجونه للملك بعد ملكهم لأنه كان ذا حسب وثروة.
وقال مقاتل: كانوا يرجون رجوعه إلى دينهم إذ كان يبغض أصنامهم ويعدل عن دينهم قَبْلَ هذا أي الذي
286
باشرته من الدعوة إلى التوحيد وترك عبادة الآلهة فلما سمعنا منك ما سمعناه انقطع عنك رجاؤنا، وقيل: كانوا يرجون دخوله في دينهم بعد دعواه إلى الحق ثم انقطع رجاؤهم- فقبل هذا- قبل هذا الوقت لا قبل الذي باشره من الدعوة، وحكى النقاش عن بعضهم أن مَرْجُوًّا بمعنى حقيرا وكأنه فسره أولا بمؤخرا غير معتنى به ولا مهتم بشأنه، ثم أراد منه ذلك وإلا- فمرجوا- بمعنى حقير لم يأت في كلام العرب، وجاء قولهم: أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا على جهة التوعد والاستبشاع لتلك المقالة منه والتعبير- بيعبد- لحكاية الحال الماضية، وقرأ طلحة «مرجؤا» بالمد والهمز وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ من التوحيد وترك عبادة الآلهة وغير ذلك من الاستغفار والتوبة مُرِيبٍ اسم فاعل من أرابه المتعدي بنفسه إذا أوقعه في الريبة وهي قلق النفس وانتفاء الطمأنينة باليقين، أو من أراب الرجل اللازم إذا كان ذا ريبة، والإسناد على الوجهين مجازي إلا أن بينهما- كما قال بعض المحققين- فرقا، وهو أن الأول منقول من الأعيان إلى المعنى. والثاني منقول من صاحب الشك إلى الشك كما تقول: شعر شاعر، فعلى الأول هو من باب الإسناد إلى السبب لأن وجود الشك سبب لتشكيك المشكك ولولاه لما قدر على التشكيك، والتنوين في مُرِيبٍ وفي شَكٍّ للتفخيم، وَإِنَّنا بثلاث نونات، ويقال: إنا بنونين وهما لغتان لقريش.
قال الفراء: من قال: إننا أخرج الحرف على أصله لأن كناية المتكلمين- نا- فاجتمعت ثلاث نونات، ومن قال:
إنا استثقل اجتماعها فأسقط الثالثة وأبقى الأوليين.
واختار أبو حيان أن المحذوف النون الثانية لا الثالثة لأن في حذفها إجحافا بالكلمة إذ لا يبقى منها إلا حرف واحد ساكن دون حذف الثانية لظهور بقاء حرفين بعده على أنه قد عهد حذف النون الثانية من إن مع غير ضمير المتكلمين ولم يعهد حذف نون- نا- ولا ريب في أن ارتكاب المعهود أولى من ارتكاب غير المعهود قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ أخبروني إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ حجة ظاهرة وبرهان وبصيرة مِنْ رَبِّي مالكي ومتولي أموري وَآتانِي مِنْهُ من قبله سبحانه رَحْمَةً نبوة، وهذا من الكلام المنصف، والاستدراج إذ لا يتصور منه عليه السلام شك فيما في حيز إن، وأصل وضعها أنها لشك المتكلم فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ أي فمن يمنعني من عذابه، ففي الكلام مضاف مقدر والنصرة مستعملة في لازم معناها أو أنّ الفعل مضمن معنى المنع، ولذا تعدى- بمن- والعدول إلى الإظهار لزيادة التهويل والفاء لترتيب إنكار النصر على ما سبق من كونه على بينة وإيتاء الرحمة على تقدير العصيان حسبما يعرب عنه قوله: إِنْ عَصَيْتُهُ أي في المساهلة في تبليغ الرسالة والمنع عن الشرك به تعالى والمجاراة معكم فيما تشتهون فإن العصيان ممن ذلك شأنه أبعد والمؤاخذة عليه ألزم وإنكار نصرته أدخل فَما تَزِيدُونَنِي إذن باستتباعكم إياي أي لا تفيدونني إذ لم يكن فيه أصل الخسران حتى يزيدوه غَيْرَ تَخْسِيرٍ أي غير أن تجعلوني خاسرا بإبطال أعمالي وتعريضي لسخط الله تعالى، أو فَما تَزِيدُونَنِي بما تقولون غير أن أنسبكم إلى الخسران، وأقول لكم: إنكم لخاسرون لا أن أتبعكم.
وروي هذا عن الحسن بن الفضل، فالفاعل على الأول هم والمفعول صالح، وعلى الثاني بالعكس والتفعيل كثيرا ما يكون للنسبة كفسقته وفجرته، والزيادة على معناها والفاء لترتيب عدم الزيادة على انتفاء الناصر المفهوم من إنكاره على تقدير العصيان مع تحقق ما ينفيه من كونه عليه السلام على بينة من ربه وإيتائه النبوة.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المعنى فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ مضارة في خسرانكم، فالكلام على حذف مضاف، وعن مجاهد ما تزدادون أنتم باحتجاجكم بعبادة آبائكم إلا خسارا، وأضاف الزيادة إلى نفسه لأنهم أعطوه ذلك وكان قد سألهم الإيمان، قال ابن عطية: المعنى فما تعطوني فيما أقتضيه منكم من الإيمان غَيْرَ تَخْسِيرٍ
287
لأنفسكم، وأضاف الزيادة إلى نفسه من حيث إنه مقتض لأقوالهم موكل بإيمانهم كما تقول لمن توصيه: أنا أريد بك خيرا وأنت تريد بي سوءا وكان الوجه البين أن تقول: وأنت تريد شرا لكن من حيث كنت مريد خير ومقتضى ذلك حسن أن تضيف الزيادة إلى نفسك، وقيل: المعنى فما تزيدونني غير تخسيري إياكم حيث إنكم كلما ازددتم تكذيبا إياي ازدادت خسارتكم، وهي أقوال كما ترى وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ الإضافة للتشريف والتنبيه على أنها مفارقة لسائر ما يجانسها خلقا، وخلقا لَكُمْ آيَةً معجزة دالة على صدقي في دعوى النبوة، وهي حال من ناقَةُ اللَّهِ، والعامل ما في اسم الإشارة من معنى الفعل.
وقيل: معنى التنبيه، والظاهر أنها حال مؤسسة، وجوز فيها أن تكون مؤكدة كهذا أبوك عطوفا لدلالة الإضافة على أنها آية، ولَكُمْ كما في البحر وغيره حال منها فقدمت عليها لتنكيرها ولو تأخرت لكانت صفة لها، واعترض بأن مجيء الحال من الحال لم يقل به أحد من النحاة لأن الحال تبين هيئة الفاعل أو المفعول وليست الحال شيئا منهما، وأجيب بأنها في معنى المفعول للإشارة لأنها متحدة مع المشار إليه الذي هو مفعول في المعنى ولا يخفى ما فيه من التكلف، وقيل: الأولى أن يقال: إن هذه الحال صفة في المعنى لكن لم يعربوها صفة لأمر تواضع النحويون عليه من منع تقدم ما يسمونه تابعا على المتبوع فحديث- إن الحال تبين الهيئة- مخصوص بغير هذه الحال، واعترض بأن هذا ونحوه لا يحسم مادة الاعتراض لأن المعترض نفى قول أحد من النحاة بمجيء الحال من الحال، وبما ذكر لا يثبت القول وهو ظاهر، نعم قد يقال: إن اقتصار أبي حيان والزمخشري- وهما من تعلم في العربية- على هذا النحو من الاعراب كاف في الغرض على أتم وجه، وأراد الزمخشري بالتعلق في كلامه التعلق المعنوي لا النحوي فلا تناقض فيه على أنه بحث لا يضر.
وقيل: لَكُمْ حال من ناقَةُ وآيَةً حال من الضمير فيه فهي متداخلة، ومعنى كون الناقة للمخاطبين أنها نافعة لهم ومختصة بهم هي ومنافعها فلا يرد أنه لا اختصاص لذات الناقة بهم، وإنما المختص كونها آية لهم، وقيل:
لَكُمْ حال من الضمير في آيَةً لأنها بمعنى المشتق، والأظهر كون لَكُمْ بيان من هي آيَةً له، وجوز كون ناقَةُ بدلا أو عطف بيان من اسم الإشارة، ولَكُمْ خبره، وآيَةً حال من الضمير المستتر فيه فَذَرُوها دعوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ فليس عليكم مؤنتها والفعل مجزوم لوقوعه في جواب الطلب، وقرىء بالرفع على الاستئناف أو على الحال- كما في البحر- والمتبادر من الأكل معناه الحقيقي لكن قيل في الآية اكتفاء أي تأكل وتشرب، وجوز أن يكون مجازا عن التغذي مطلقا والمقام قرينة لذلك.
وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ أي بشيء منه فضلا عن العقر والقتل، والنهي هنا على حدّ النهي في قوله تعالى: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ
[الأنعام: ١٥٢] إلخ فَيَأْخُذَكُمْ لذلك عَذابٌ قَرِيبٌ عاجل لا يستأخر عن مسكم إياها بسوء إلا يسيرا وذلك ثلاثة أيام ثم يقع عليكم، وقيل: أراد من وصفه بالقرب كونه في الدنيا، وإلى الأول ذهب غير واحد من المفسرين وكان الإخبار عن وحي من الله تعالى فَعَقَرُوها أي فخالفوا ما أمروا به فعقروها، والعقر قيل:
قطع عضو يؤثر في النفس.
وقال الراغب: يقال: عقرت البعير إذا نحرته ويجيء بمعنى الجرح أيضا- كما في القاموس- وأسند العقر إليهم مع أن الفاعل واحد منهم وهو قدار- كهمام- في قول، ويقال له: أحمر ثمود، وبه يضرب المثل في الشؤم لرضاهم بفعله، وقد جاء أنهم اقتسموا لحمها جميعا فَقالَ لهم صالح عليه السلام تَمَتَّعُوا عيشوا فِي دارِكُمْ أي بلدكم، وتسمى البلاد الديار لأنها يدار فيها أي يتصرف يقال: ديار بكر لبلادهم، وتقول العرب الذين حوالي مكة:
288
نحن من عرب الدار يريدون من عرب البلد، وإلى هذا ذهب الزمخشري، وقال ابن عطية: هو جمع دارة كساحة وساح وسوح، ومنه قول أمية بن أبي الصلت يمدح عبد الله بن جدعان:
له داع بمكة مشمعل... وآخر فوق «دارته» ينادي
ويمكن أن يسمى جميع مسكن الحي دارا وتطلق الدار على الدنيا أيضا، وبذلك فسرها بعضهم هنا، وفسر الطبرسي التمتع بالتلذذ أي تلذذوا بما تريدون ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ثم يأخذكم العذاب،
قيل: إنهم لما عقروا الناقة صعد فصيلها الجبل ورغا ثلاث رغوات فقال صالح عليه السلام: لكل رغوة أجل يوم،
وابتداء الأيام على ما في بعض الروايات الأربعاء،
وروي أنه عليه السلام قال لهم: تصبح وجوهكم غدا مصفرة. وبعد غد محمرة واليوم الثالث مسودة ثم يصبحكم العذاب فكان كما قال:
ذلِكَ إشارة إلى ما يدل عليه الأمر بالتمتع ثلاثة أيام من نزول العذاب عقيبها وما فيه من معنى البعد للتفخيم وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ أي غير مكذوب فيه فحذف الجار وصار المجرور مفعولا على التوسع لأن الضمير لا يجوز نصبه على الظرفية والجار لا يعمل بعد حذفه، ويسمون هذا الحذف والإيصال، وهو كثير في كلامهم ويكون في الاسم- كمشترك- وفي الفعل كقوله:
ويوم شهدناه سليما وعامرا... قليل سوى طعن النهال نوافله
أو غَيْرُ مَكْذُوبٍ على المجاز كأن الواعد قال له: أفي بك فإن وفى به صدقه وإلا كذبه فهناك استعارة مكنية تخييلية، وقيل: مجاز مرسل بجعل مَكْذُوبٍ بمعنى باطل ومتخلف، أو وعد غير كذب على أن مكذوب مصدر على وزن مفعول كمجلود ومعقول بمعنى عقل وجلد فإنه سمع منهم ذلك لكنه نادر، ولا يخفى ما في تسمية ذلك وعدا من المبالغة في التهكم فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا أي عذابنا أو أمرنا بنزوله، وفيه ما لا يخفى من التهويل نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ متعلق بنجينا أو بآمنوا بِرَحْمَةٍ مِنَّا أي بسببها أو ملتبسين بها، وفي التنوين والوصف نوعان من التعظيم وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ أي نجيناهم من خزي يومئذ وهو الهلاك بالصيحة وهذا كقوله تعالى:
وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ على معنى إنا نجيناهم، وكانت تلك التنجية من خزي يومئذ، وجوز أن يراد ونجيناهم من ذل وفضيحة يوم القيامة أي من عذابه، فهذه الآية كآية هود سواء بسواء.
وتعقب أبو حيان هذا بأنه ليس بجيد إذ لم تتقدم جملة ذكر فيها يوم القيامة ليكون التنوين عوضا عن ذلك، والمذكور إنما هو جاء أمرنا فليقدر يوم إذ جاء أمرنا وهو جيد، والدفع بأن القرينة قد تكون غير لفظية كما هنا فيه نظر، وقيل: القرينة قوله سبحانه فيما مر: «عذاب يوم غليظ» وفيه ما فيه، وقيل: الواو زائدة فيتعلق مِنْ- بنجينا- المذكور، وهذا لا يجوز عند البصريين لأن الواو لا تزاد عندهم فيوجبون هنا التعلق بمحذوف وهو معطوف على ما تقدم، وقرأ طلحة وأبان «ومن خزي» بالتنوين ونصب «يومئذ» على الظرفية معمولا لخزي، وعن نافع والكسائي أنهما قرآ بالإضافة وفتح- يوم- لأنه مضاف إلى إذ وهو غير متمكن، وهذا كما فتح حين في قول النابغة:
على «حين» عاتبت المشيب على الصبا... فقلت: ألما أصح والشيب وازع
إِنَّ رَبَّكَ خطاب لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ أي القادر على كل شيء والغالب عليه في كل وقت ويندرج في ذلك الإنجاء والإهلاك في ذلك اليوم وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قوم صالح، وعدل عن الضمير إلى الظاهر تسجيلا عليهم بالظلم وإشعارا بعليته لنزول العذاب بهم الصَّيْحَةُ أي صيحة جبريل أو صيحة من السماء فيها كل صاعقة وصوت مفزغ، وهي على ما في البحر فعلة للمرة الواحدة من الصياح، يقال: صاح يصيح إذا صوت بقوة، وأصل ذلك- كما قال الراغب- تشقيق الصوت من قولهم: إنصاح الخشب. أو الثوب إذا انشق فسمع منه
289
صوت، وصيح الثوب كذلك، وقد يعبر بالصيحة عن الفزع، وفي فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ [الأعراف: ٧٨، ٩١] قيل:
ولعلها وقعت عقيب الصيحة المستتبعة لتموج الهواء، وقد تقدم الكلام منا في ذلك فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ أي منازلهم ومساكنهم، وقيل: بلادهم جاثِمِينَ هامدين موتى لا يتحركون، وقد مر تمام الكلام في ذلك معنى وإعرابا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا أي كأنهم لم يقيموا فِيها أي في ديارهم، والجملة قيل: في موضع الحال أي أصبحوا جاثِمِينَ مماثلين لمن لم يوجد ولم يقم في مقام قط أَلا إِنَّ ثَمُودَ وضع موضع المضمر لزيادة البيان، ومنعه من الصرف حفص وحمزة نظرا إلى القبيلة، وصرفه أكثر السبعة نظرا إلى الحي كما قدمنا آنفا، وقيل: نظرا إلى الأب الأكبر يعني يكون المراد به الأب الأول وهو مصروف وحينئذ يقدر مضاف كنسل وأولاد ونحوه، وقيل: المراد أنه صرف نظرا لأول وضعه وإن كان المراد به هنا القبيلة كَفَرُوا رَبَّهُمْ صرح بكفرهم مع كونه معلوما مما سبق من أحوالهم تقبيحا لحالهم وتعليلا لاستحقاقهم الدعاء عليهم بالبعد والهلاك في قوله سبحانه: أَلا بُعْداً لِثَمُودَ، وقرأ الكسائي لا غير بالتنوين، وقد تقدم الكلام في شرح قصتهم على أتم وجه وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ وهم الملائكة روي عن ابن عباس أنهم كانوا اثني عشر ملكا.
وقال السدي: أحد عشر على صورة الغلمان في غاية الحسن والبهجة، وحكى صاحب الفينان أنهم عشرة منهم جبريل، وقال الضحاك: تسعة، وقال محمد بن كعب: ثمانية، وحكى الماوردي أنهم أربعة ولم يسمهم.
وجاء في رواية عن عثمان بن محيصن أنهم جبريل وإسرافيل وميكائيل ورفائيل عليهم السلام، وفي رواية عن ابن عباس وابن جبير أنهم ثلاثة الأولون فقط، وقال مقاتل: جبرائيل وميكائيل وملك الموت عليهم السلام، واختار بعضهم الاقتصار على القول بأنهم ثلاثة لأن ذلك أقل ما يدل عليه الجمع وليس هناك ما يعول عليه في الزائد وإنما أسند إليهم المجيء دون الإرسال لأنهم لم يكونوا مرسلين إليه عليه السلام بل إلى قوم لوط لقوله تعالى: إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ [هود: ٧٠] وإنما جاؤوه لداعية البشرى، قيل: ولما كان المقصود في السورة الكريمة ذكر صنيع الأمم السالفة مع الرسل المرسلة إليهم ولحوق العذاب بهم ولم يكن جميع قوم إبراهيم عليه السلام من لحق بهم العذاب بل إنما لحق بقوم لوط منهم خاصة غير الأسلوب المطرد فيما سبق من قوله تعالى: وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً [هود: ٥٠] وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً [هود: ٦١] ثم رجع إليه حيث قيل: وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً [هود: ٨٤] والباء في قوله تعالى: بِالْبُشْرى للملابسة أي ملتبسين بالبشرى، والمراد بها قيل: مطلق البشارة المنتظمة بالبشارة بالولد من سارة لقوله تعالى: فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ [هود: ٧١] الآية، وقوله سبحانه: فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ [الصافات: ١٠١] إلى غير ذلك، وللبشارة بعدم لحوق الضرر به لقوله تعالى: فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى [هود: ٧٤] لظهور تفرع المجادلة على مجيئها، وكانت البشارة الأولى على ما قيل: من ميكائيل والثانية من إسرافيل عليهما السلام، وقيل: المراد بها البشارة بهلاك قوم لوط عليه السلام فإن هلاك الظلمة من أجل ما يبشر به المؤمن.
واعترض بأنه يأباه مجادلته عليه السلام في شأنهم، واستظهر الزمخشري أنها البشارة بالولد وهي المرادة بالبشرى فيما سيأتي، وسر تفرع المجادلة عليها سيذكر إن شاء الله تعالى، وعلل في الكشف استظهار ذلك بقوله: لأنه الأنسب بالإطلاق، ولقوله سبحانه في الذاريات: وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ [الذاريات: ٢٨] ثم قال بعده: فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ [الذاريات: ٣١] ثم قال: وقوله تعالى: فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ إلخ، وإن كان يحتمل أن ثمة بشارتين فيحمل في كل موضع على واحدة لكنه خلاف الظاهر انتهى، ولما كان الاخبار بمجيء الرسل عليهم
290
السلام مظنة لسؤال السامع بأنهم ما قالوا: أجيب بأنهم قالُوا سَلاماً أي سلمنا أو نسلم عليك سلاما فهو منصوب بفعل محذوف، والجملة مقول القول قال ابن عطية: ويصح أن يكون مفعول قالُوا على أنه حكاية لمعنى ما قالوا لا حكاية للفظهم.
وروي ذلك عن مجاهد والسدي، ولذلك عمل فيه القول، وهذا كما تقول لرجل قال: لا إله إلا الله قلت حقا وإخلاصا.
وقيل: إن النصب- بقالوا- لما فيه من معنى الذكر كأنه قيل: ذكروا سلاما قالَ سَلامٌ أي عليكم سلام أو سلام عليكم، والابتداء بنكرة مثله سائغ كما قرر في النحو، وقد حياهم عليه السلام بأحسن من تحيتهم لأنها بجملة اسمية دالة على الدوام والثبات فهي أبلغ، وأصل معنى السلام السلامة مما يضر.
وقرأ حمزة والكسائي «سلم» في الثاني بدون ألف مع كسر السين وسكون اللام وهو على ما قيل: لغة في سَلامٌ كحرم، وحرام، ومنه قوله:
مررنا فقلنا: إيه «سلم» فسلمت... كما اكتل بالبرق الغمام اللوائح
وقال ابن عطية: ويحتمل أن يراد بالسلم ضد الحرب، ووجه بأنهم لما امتنعوا من تناول طعامه وخاف منهم قاله أي أنا مسالم لا محارب لأنهم كانوا لا يأكلون طعام من بينهم وبينه حرب، واعترض بأنه يدل على أن قوله هذا بعد تقديم الطعام. وقوله سبحانه: فَما لَبِثَ إلخ صريح في خلافه، وذكر في الكشاف أن حمزة والكسائي قرآ بكسر السين وسكون اللام في الموضعين وهو مخالف للمنقول في كتب القراءات، وقرأ ابن أبي عبلة- قال سلاما- بالنصب كالأول، وعنه أنه قرأ بالرفع فيهما فَما لَبِثَ أي فما أبطأ إبراهيم عليه السلام أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ أي في مجيئه به أو عن مجيئه به فَما نافية، وضمير لَبِثَ لإبراهيم. وأَنْ جاءَ بتقدير حرف جر متعلق بالفعل وحذف الجار قبل أن وأن مطرد، وحكى ابن العربي أن أَنْ بمعنى حتى، وقيل: أَنْ وما بعدها فاعل لَبِثَ أي فما تأخر مجيئه، وروي ذلك عن الفراء، واختاره أبو حيان.
وقيل: ما مصدرية والمصدر مبتدأ أو هي اسم موصول بمعنى الذي كذلك، وأَنْ جاءَ على حذف مضاف أي قدر وهو الخبر أي فلبثه أو الذي لبثه قدر مجيئه وليس بشيء والعجل ولد البقرة، ويسمى الحسيل والخبش (١) بلغة أهل السراة والباء فيه للتعدية أو الملابسة، والحنيذ السمين الذي يقطر ودكه من حنذت الفرس إذا عرقته بالجلال كأن ودكه كالجلال عليه، أو كأن ما يسيل منه عرق الدابة المجللة للعرق، واقتصر السدي على السمين في تفسيره لقوله تعالى: بِعِجْلٍ سَمِينٍ [الذاريات: ٢٦]، وقيل: هو المشوي بالرضف في أخدود، وجاء ذلك في رواية عن ابن عباس ومجاهد وقتادة، وفي رواية عن مجاهد تفسيره بالمطبوخ. وإنما جاء عليه السلام بالعجل لأن ما له كان البقر وهو أطيب ما فيها، وكان من دأبه عليه السلام إكرام الضيف، ولذا عجل القرى، وذلك من أدب الضيافة لما فيه من الاعتناء بشأن الضيف، وفي مجيئه بالعجل كله مع أنهم بحسب الظاهر يكفيهم بعضه دليل على أنه من الأدب أن يحضر للضيف أكثر مما يأكل، واختلف في هذا العجل هل كان مهيأة قبل مجيئهم أو أنه هيىء بعد أن جاؤوا؟ قولان اختار أبو حيان أولهما لدلالة السرعة بالإتيان به على ذلك، ويختار الفقير ثانيهما لأنه أزيد في العناية وأبلغ في الإكرام، وليست السرعة نصا في الأول كما لا يخفى.
(١) قوله: والخبش كذا في خطه على احتمال أنه الحبش، ولم نظفر بأيهما اسم ولد البقرة حرره.
291
فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ كناية عن أنهم لا يمدون إليه أيديهم ويلزمه أنهم لا يأكلون، وقيل: لا كناية بناء على ما روي أنهم كانوا ينكتون اللحم بقداح في أيديهم وليس بشيء، وفي القلب من صحة هذه الرواية شيء إذ هذا النكت أشبه شيء بالبعث، والملائكة عليهم السلام يجلون عن مثله ورَأى قيل: علمية فجملة لا تَصِلُ مفعول ثان، والظاهر أنها بصرية، والجملة في موضع الحال ففيه دليل على أن من أدب الضيافة النظر إلى الضيف هل يأكل أولا لكن ذكروا أنه ينبغي أن يكون بتلفت ومسارقة لا بتحديد النظر لأن ذلك مما يجعل الضيف مقصرا في الأكل أي لما شاهد منهم ذلك نَكِرَهُمْ أي نفرهم وَأَوْجَسَ أي استشعر وأدرك، وقيل: أضمر مِنْهُمْ أي من جهتهم خِيفَةً أي خوفا، وأصلها الحالة التي عليها الإنسان من الخوف، ولعل اختيارها بالذكر للمبالغة حيث تفرس لذلك مع جهالته لهم من قبل وعدم معرفته من أي الناس يكونون كما ينبىء عنه ما في الذاريات من قوله سبحانه حكاية عنه: قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ [الذاريات: ٢٥] أنهم ملائكة، وظن أنهم أرسلوا لعذاب قومه أو لأمر أنكره الله تعالى عليه قالُوا حين رأوا أثر ذلك عليه عليه السلام، أو أعلمهم الله تعالى به، أو بعد أن قال لهم ما في [الحجر: ٥٢] إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ فإن الظاهر منه أن هناك قولا بالفعل لا بالقوة كما هو احتمال فيه على ما ستراه إن شاء الله تعالى، وجوز أن يكون ذلك لعلمهم أن علمه عليه السلام أنهم ملائكة يوجب الخوف لأنهم لا ينزلون إلا بعذاب، وقيل: إن الله تعالى جعل للملائكة مطلقا ما لم يجعل لغيرهم من الاطلاع كما قال تعالى: يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ [الانفطار: ١٢]
وفي الصحيح «قالت الملائكة رب عبدك هذا يريد أن يعمل سيئة» الحديث،
وهو قول بأن الملائكة يعلمون الأمور القلبية.
وفي الأخبار الصحيحة ما هو صريح بخلافه، والآية والخبر المذكوران لا يصلحان دليلا لهذا المطلب، وإسناد القول إليهم ظاهر في أن الجميع قالوا: لا تَخَفْ ويحتمل أن القائل بعضهم، وكثيرا ما يسند فعل البعض إلى الكل في أمثال ذلك، وظاهر قوله سبحانه: إِنَّا أُرْسِلْنا أنه استئناف في معنى التعليل للنهي المذكور كما أن قوله سبحانه:
إِنَّا نُبَشِّرُكَ [الحجر: ٥٣، مريم: ٧] استئناف كذلك فإن إرسالهم إلى قوم آخرين يوجب أمنه من الخوف أي أُرْسِلْنا بالعذاب إِلى قَوْمِ لُوطٍ خاصة، ويعلم مما ذكرنا أنه عليه السلام أحس بأنهم ملائكة، وإليه ذهب ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقد يستدل له بقولهم: لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا فإنه كما لا يخفى على من له أدنى ذوق إنما يقال لمن عرفهم ولم يعرف فيهم أرسلوا فخاف، وأن الإنكار المدلول عليه بنكرهم غير المدلول عليه بما في الذاريات فلا إشكال في كون الإنكار هناك قبل إحضار الطعام وهنا بعده، وأصل الإنكار ضد العرفان، ونكرت وأنكرت واستنكرت بمعنى، وقيل: إن أنكر فيما لا يرى من المعاني ونكر فيما يرى بالبصر، ومن ذلك قول الشاعر:
وأنكرتني وما كان الذي نكرت من الحوادث إلا الشيب والصلعا
فإنه أراد في الأول على ما قيل: أنكرت مودتي، وقال الراغب: إن أصل ذلك أن يرد على القلب ما لا يتصوره وذلك ضرب من الجهل وبه فسر ما في الآية، وفرق بعضهم بين ما هنا وبين ما وقع في الذاريات بأن الأول راجع إلى حالهم حين قدم إليهم العجل. والثاني متعلق بأنفسهم ولا تعلق له برؤية عدم أكلهم بل وقع عند رؤيته عليه السلام لهم لعدم كونهم من جنس ما يعده من الناس، ويحتاج هذا إلى اعتبار حذف المضاف أو ملاحظة الحيثية، واعترض ما قدمناه بأن فيه ارتكاب مجاز، ولعل الأمر فيه سهل.
وذهب بعضهم إلى أنه عليه السلام لم يعرف أنهم ملائكة حتى قالوا له: لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا وكأن سبب خوفه منهم أنهم لم يتحرموا بطعامه فظن أنهم يريدون به سوءا إذ كانت العادة إذ ذاك كذلك، وكان عليه السلام نازلا
292
في طرف من الأرض منفردا عن قومه، وهي رواية عن ابن عباس أخرجها إسحاق بن بشر وابن عساكر من طريق جويبر عن الضحاك عنه، وقيل: كان سبب خوفه أنهم دخلوا بغير إذن وبغير وقت.
وقال العلامة الطيبي: الحق أن الخوف إنما صدر عن مجموع كونهم منكرين وكونهم ممتنعين من الطعام كما يعلم من الآيات الواردة في هذه القصة ولأنه لو عرفهم بأنهم ملائكة لم يحضر بين أيديهم الطعام ولم يحرضهم على الأول وإنما عدلوا إلى قولهم: إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ ليكون جامعا للمعاني بحيث يفهم منه المقصود أيضا انتهى.
وفيه إشارة إلى الردّ على الزمخشري، وقد اختلف كلامه في تعليل الخوف فعلله تارة بعرفانه أنهم ملائكة وأخرى بأنهم لم يتحرموا طعامه، ولعله أراد بذلك العرفان العرفان بعد إحضار الطعام، وما ذكره الطيبي من أنه لو عرفهم بأنهم ملائكة لم يحضر إلخ غير قادح إذ يجوز أن يخافهم بعد الإحضار أولا لعدم التحرم ثم بعد تفرس أنهم ملائكة خافهم لأنهم ملائكة أرسلوا للعذاب، والزمخشري حكى أحد الخوفين في موضع والآخر في آخر.
قال بعض المحققين والتعليل بأنهم ملائكة هو الوجه لينتظم قوله سبحانه: لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ [الحجر: ٥٣] مع ما قبله إذ لو كان الوجل لكونهم على غير زي من عرف ونحوه لم يحسن التعليل بقوله تعالى: إِنَّا نُبَشِّرُكَ فإنه إنما هو تعليل للنهي عن الوجل من أنهم ملائكة أرسلوا للعذاب كأنهم قالوا: لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ وإِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ فجاء على اختصارات القرآن بذكر أحد التعليلين في أحد الموضعين والآخر في الآخر، ولا شك أن في الحجر اختصارا لطي حديث الرواع، والتعجيل بالعجل الحنيذ وعدم تحرمهم بطعامه لما أن المقصود من سوق القصة هنالك الترغيب والترهيب للاعتبار بحال إبراهيم عليه السلام وما لقي من البشرى والكرامة، وحال قوم لوط عليه السلام وما منوا به من السوأى والملامة، ألا ترى إلى قوله سبحانه: نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الحجر: ٤٩] إلى قوله جل وعلا: عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ [الحجر: ٥١] فاقتصر على ما يفيد ذلك الغرض، وأما في هذه السورة فجيء بها للإرشاد الذي بنى عليه السورة الكريمة مع إدماج التسلية ورد ما رموه به عليه الصلاة والسلام من الافتراء، وفي كل من أجزاء القصة ما يسد من هذه الأغراض فسرد على وجهها، وفي سورة الذاريات للأخيرين فقط فجيء بما يفيد ذلك فلا عليك إن رأيت اختصارا أن تنقل إليه من المبسوط ما يتم به الكلام بعد أن تعرف نكتة الاختصار، وهذا من خواص كتاب الله تعالى الكريم انتهى ولا يخلو عن حسن، وفيه ذهاب إلى كون جملة إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ استئنافا في موضع التعليل كما هو الظاهر.
وقال شيخ الإسلام عليه الرحمة: الظاهر ما ذكر إلا أنه ليس كذلك فإن قوله تعالى: قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ [الحجر: ٥٨] صريح في أنهم قالوه جوابا عن سؤاله عليه السلام وقد أوجز الكلام اكتفاء بذلك انتهى.
وتعقب بأنه قد يقال: إن ذلك لا يقدح في الحمل على الظاهر لجواز أن يكونوا قالوا ذلك على معنى التعليل للنهي عن الخوف، ولكنه وإن أريد منه الإرسال بالعذاب لقوم لوط عليه السلام مجمل لم يؤت به على وجه يظهر منه ما نوع هذا العذاب هل هو استئصال أم لا؟ فسأل عليه السلام لتحقيق ذلك فكأنه قال: أيها المرسلون إلى قوم لوط ما هذا الأمر العظيم الذي أرسلتم به؟ فأجابوه بما يتضمن بيان ذلك مع الإشارة إلى علة نزول ذلك الأمر بهم وهو قولهم:
إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ [الحجر: ٥٨، ٥٩] الآية فإن انفهام عذاب الاستئصال لقوم لوط عليه السلام من ذلك ظاهر، وكذا الإشارة إلى العلة.
293
والحاصل أن السؤال في تلك الآية عن الخطب وهو في الأصل الأمر العظيم الذي يكثر فيه التخاطب ويراد من السؤال عنه تحقيق أمر لم يعلمه عليه السلام من كلامهم قيل إما لأنه لم يعلم ذلك منه أو لأنه كان مشغولا عن كمال التوجه ليعلم عليه السلام منه ذلك، وفي خطابه عليه السلام لهم عليهم السلام بعنوان الرسالة ما يؤيد تقدم قولهم: إِنَّا أُرْسِلْنا على هذا السؤال لكنه أسقط هناك تعويلا على ما هنا ولا بدع في الإسقاط من المتأخر تعويلا على المتقدم، وتأخر الحجر والذاريات عن هود تلاوة مما لا كلام فيه، وتأخرهما نزولا مما رواه ابن ضريس في فضائل القرآن عن محمد بن عبد الله بن أبي جعفر الرازي عن عمر بن هارون عن عثمان بن عطاء الخراساني عن أبيه عن ابن عباس، وذكر أنها كلها نزلت بمكة وأن بين هود والحجر سورة واحدة، وبين الحجر والذاريات ثلاثة عشرة سورة فليتأمل في هذا المقام، ويفهم من كلام بعضهم أنه عليه السلام لم يتحقق كونهم ملائكة إلا بعد أن مسح جبريل عليه السلام العجل بجناحه فقام يدرج حتى لحق بأمه فحينئذ عرفهم وأمن منهم، ولم يتحقق صحة الخبر عندي، والذي أميل إليه أنه عليه السلام عرفهم قبل ذلك وأن خوفه منهم لكونهم ملائكة لم يدر لأي شيء نزلوا، ويبعد عند من عرف حال إبراهيم عليه السلام والقول بأنه خاف بشرا وبلغ منه الخوف حتى قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ [الحجر: ٥٢] لا سيما إذا قلنا: إن من خافهم كانوا ثلاثة وأنه عليه السلام لم يكن في طرف من الأرض بل كان بين أصحابه، أو كان هناك لكن بين خدمه وغلمانه وَامْرَأَتُهُ سارة بنت هاران بن ناحور وهي بنت عمه قائِمَةٌ في الخدمة كما أخرجه ابن أبي حاتم عن مجاهد وكانت نساؤهم لا تحتجب لا سيما العجائز منهم، وكانت رضي الله تعالى عنها عجوزا، وقال وهب: كانت قائمة وراء الستر تسمع محاورتهم، وأخذ منه بعضهم أن تستر النساء كان لازما، والظاهر أنه لم يكن كذلك لتأخر آية الحجاب، ويجوز أن يقال: إن القيام وراء الستر كان اتفاقيا، وعن ابن إسحاق أنها كانت قائمة تصلي، وقال المبرد: كانت قائمة عن الولد وهو خلاف المشهور في الاستعمال، وأخرج ابن المنذر عن المغيرة قال في مصحف ابن مسعود: وامرأته قائمة وهو جالس، وفي الكشاف بدل وهو جالس وهو قاعد، وعن ابن عطية بدل وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ وهي قائمة ففيه الإضمار من غير تقدم ذكر، وكأن ذلك إن صح للتعويل على انفهام المرجع من سياق الكلام، والجملة إما في موضع الحال من ضمير قالُوا وإما مستأنفة للأخبار فَضَحِكَتْ من الضحك المعروف، والمراد به حقيقته عند الكثير، وكان ذلك عند بعضهم سرورا بزوال الخوف عن إبراهيم عليه السلام، والنساء لا يملكن أنفسهن كالرجال إذا غلب عليهن الفرح، وقيل: كان سرورا بهلاك أهل الفساد، وقيل: بمجموع الأمرين، وقال ابن الأنباري: إن ضحكها كان سرورا بصدق ظنها لأنها كانت تقول لإبراهيم: اضمم إليك لوطا فإني أرى العذاب سينزل بقومه وكان لوط ابن أخيه وقيل: ابن خالته وقيل: كان أخا سارة وقد مر آنفا أنها بنت عم إبراهيم عليه السلام، وعن ابن عباس أنها ضحكت من شدة خوف إبراهيم وهو في أهله وغلمانه، والذين جاؤوه ثلاثة وهي تعهده يغلب الأربعين، وقيل: المائة، وقال قتادة: كان ذلك من غفلة قوم لوط وقرب العذاب منهم، وقال السدي:
ضحكت من إمساك الأضياف عن الأكل وقالت: عجبا لأضيافنا نخدمهم بأنفسنا وهم لا يأكلون طعامنا، وقال وهب بن منبه: وروي أيضا عن ابن عباس أنها ضحكت من البشارة بإسحاق، وفي الكلام على ذلك تقديم وتأخير، فَضَحِكَتْ من المعجز الذي تقدم نقله عن جبريل عليه السلام، ولعل الأظهر ما ذكرناه أولا عن البعض، وذهب بعضهم إلى أن المراد بالضحك التبسم ويستعمل في السرور المجرد نحو مسفرة ضاحكة، ومنه قوله: روضة تضحك، وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ وغيرهما عن ابن عباس أن فَضَحِكَتْ بمعنى حاضت، وروي ذلك عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ومجاهد وعكرمة، وقولهم: ضحكت الأرنب بهذا المعنى أيضا، وأنكر أبو عبيدة وأبو عبيد والفراء مجيء ضحك بمعنى حاض، وأثبت ذلك جمهور اللغويين، وأنشدوا له قوله:
294
«وضحك» الأرانب فوق الصفا كمثل دم الجوف يوم اللقا
وقوله:
وعهدي بسلمى «ضاحكا» في لبابة ولم يعد حقا ثديها أن تحلما
وقوله:
إني لآتي العرس عند ظهورها وأهجرها يوما إذا تك «ضاحكا»
والمثبت مقدم على النافي ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، نعم قال ابن المنير: إنه يبعد الحمل على ذلك هنا قولها: أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ إلخ فإنه لو كان الحيض قبل البشارة لما تعجبت إذ لا عجب في حمل من تحيض، والحيض في العادة معيار على إمكان الحمل، ودفع بأن الحيض في غير أوانه مؤكد للتعجب أيضا، ولأنه يجوز أن تظن أن دمها ليس بحيض بل استحاضة فلذا تعجبت، وقرأ محمد بن زياد الأعرابي من قراء مكة «فضحكت» بفتح الحاء، وزعم المهدوي أنه غير معروف وأن «ضحك» بالكسر هو المعروف، ومصدره ضحكا وضحكا بسكون الحاء وفتح الضاد وكسرها، وضحكا وضحكا بكسر الحاء مع فتح الضاد وكسرها، والظاهر أن هذه مصادر ضحك بأي معنى كان ويفهم من مجمع البيان أن مصدر- ضحك- بمعنى حاضت إنما هو ضحكا بفتح الضاد وسكون الحاء، ولم نر هذا التخصيص في غيره، وعن بعضهم أن فتح الحاء في الماضي مخصوص بضحك بمعنى حاض، وعليه فالقراءة المذكورة تؤيد تفسير ضحكت على قراءة الجمهور بحاضت.
فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ قيل: أي عقبنا سرورها بسرور أتم منه على ألسنة رسلنا وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ بالنصب، وهي قراءة ابن عامر وحمزة وحفص وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما على أنه منصوب بتقدير فعل يفسره ما يدل عليه الكلام أي ووهبنا لها من وراء إسحاق يعقوب، ورجع ذلك أبو علي، واعترض البعض بأنه حينئذ لا يكون ما ذكر داخلا تحت البشارة، ودفع بأن ذكر هذه الهبة قبل وجود الموهوب بشارة معنى، وقيل: هو معطوف على محل بِإِسْحاقَ لأنه في محل نصب، واعترض أنه إنما يتأتى العطف على المحل إذا جاز ظهور المحل في فصيح الكلام كقوله:
ولسنا بالجبال ولا الحديدا وبشر لا تسقط باؤه من المبشر به في الفصيح، وزعم بعضهم أن العطف على بِإِسْحاقَ على توهم نصبه لأنه في معنى وهبنا لها إسحاق فيكون كقوله:
«مشائيم» ليسوا مصلحين عشيرة ولا ناعب إلا يبين غرابها
إلا أنه توهم في هذا وجود الباء في المعطوف عليه على عكس ما في الآية الكريمة، ويقال لمثل هذا: عطف التوهم، ولا يخفى ما في هذه التسمية هنا من البشاعة على أن هذا العطف شاذ لا ينبغي التخريج عليه مع وجود غيره، وبهذا اعترض على الزمخشري من حمل كلامه حيث قال: وقرىء بالنصب كأنه قيل: وهبنا لها إسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب على طريقة قوله: مشائيم. البيت عليه لما أنه الظاهر منه، وقال في الكشف أراد أنه عطف معنوي ومثله شائع مستفيض في العطف والإضمار على شريطة التفسير وغيرهما، وإنما شبهه بقوله: ولا ناعب تنبيها على أن ذلك مع بعده لما كان واقعا فهذا أجدر، والغرض من التشبيه أن غير الموجود في اللفظ جعل بمنزلته وأعمل، ولا يخفى أنه خلاف المتبادر من عبارته، وقيل: إنه معطوف على لفظ إِسْحاقَ وفتحته للجر لأنه غير مصروف للعلمية
295
والعجمة، وعلى هذا دخوله في البشارة ظاهر إلا أنه قيل عليه: إنه يلزمه الفصل بين نائب الجار ومجروره وهو أبعد منه بين الجار ومجروره، وفي البحر أن من ذهب إلى أنه معطوف على ما ذكر فقوله ضعيف لأنه لا يجوز الفصل بالظرف أو المجرور بين حرف العطف ومعطوفه المجرور، فلا يجوز مررت بزيد اليوم وأمس عمرو فإن جاء ففي شعر، فإن كان المعطوف منصوبا أو مرفوعا ففي جواز ذلك خلاف نحو قام زيد واليوم عمرو وضربت زيدا واليوم عمرا، وقرأ الحرميان والنحويان وأبو بكر ويَعْقُوبَ بالرفع على الابتداء، وَمِنْ وَراءِ الخبر كأنه قيل: ومن وراء إسحاق يعقوب كائن أو موجود أو مولود- قال النحاس: والجملة حال داخلة في البشارة أي فبشرناها بإسحاق متصلا به يعقوب.
وأجاز أبو علي أن يرتفع بالجار والمجرور كما أجازه الأخفش، وقيل: إنه جائز على مذهب الجمهور أيضا لاعتماده على ذي الحال، وتعقب بأنه وهم لأن الجار والمجرور إذا كان حالا لا يجوز اقترانه بالواو فليتدبر.
وجوز النحاس أيضا أن يكون فاعلا بإضمار فعل تقديره ويحدث من وراء إسحاق يعقوب.
قال ابن عطية: وعلى هذا لا يدخل في البشارة، وقد مر ما يعلم منه الجواب، ووَراءِ هنا بمعنى خلف وبذلك فسرها الراغب، وغيره هنا، وهو رواية عن ابن عباس، وفي رواية أخرى عنه تفسيرها بولد الولد وهو أحد معانيها كما في الصحاح والقاموس، وبذلك قال الشعبي، واختاره أبو عبيدة، واستشكل بأن يَعْقُوبَ ولد إسحاق عليه السلام لصلبه لا ولد ولده، ولدفع ذلك قال الزمخشري فيما نقل عنه: إن وجه هذا التفسير أن يراد بيعقوب أولاده كما يقال: هاشم ويراد أولاده فكأنه قيل: من ولد ولد إسحاق أولاد يعقوب، ويتضمن ذلك البشارة بيعقوب من طريق الأولى، وقيل: وجه ذلك أنه سمي ولد إسحاق وَراءِ بالنسبة إليها أي وراؤها من إسحاق كأنهم بشروها بأن تعيش حتى ترى ولد ولدها، أو بأن يولد لولدها ولد، قيل: وهذا أقرب، والمنقول عن الزمخشري أظهر، والمعول عليه تفسيره بمعنى خلف إذ في كلا الوجهين تكلف لا يخفى، والاسمان يحتمل وقوعهما في البشارة كما في قوله تعالى: نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى [مريم: ٧] وهو الأظهر.
وروي عن السدي: ويحتمل أنها بشرت بولد وولد ولد من غير تسمية ثم سميا بعد الولادة، وتوجيه البشارة إليها مع أن الأصل في ذلك إبراهيم عليه السلام، وقد وجهت إليه في آيتي الحجر والذاريات للإيذان بأن ما بشر به يكون منهما ولكونها عقيمة حريصة على الولد وكانت قد تمنته حينما ولد لهاجر إسماعيل عليه السلام قالَتْ استئناف بياني كأن سائلا سأل ما فعلت حين بشرت؟ فقيل قالت: يا وَيْلَتى من الويل وأصله الخزي، ويستعمل في كل أمر فظيع، والمراد هنا التعجب وقد كثرت هذه الكلمة على أفواه النساء إذا طرأ عليهن ما يتعجبن منه، والظاهر أن الألف بدل من ياء المتكلم، ولذا أمالها أبو عمرو وعاصم في رواية، وبهذا يلغز فيقال: ما ألف هي ضمير مفرد متكلم.
وقرأ الحسن «يا ويلتي» بالياء على الأصل، وقيل: إنها ألف الندبة ولذا يلحقونها الهاء فيقولون: يا ويلتاه أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ ابنة تسعين سنة على ما روي عن ابن إسحاق، أو تسع وتسعين على ما روي عن مجاهد. وَهذا الذي تشاهدونه بَعْلِي أي زوجي، وأصل البعل القائم بالأمر فأطلق على الزوج لأنه يقوم بأمر الزوجة، وقال الراغب:
هو الذكر من الزوجين وجمعه بعولة نحو فحل وفحولة، ولما تصوروا من الرجل استعلاء على المرأة فجعل سائسها والقائم عليها وسمى به شبه كل مستعل على غيره به فسمي باسمه، ومن هنا سمى العرب معبودهم الذي يتقربون به إلى الله تعالى بعلا لاعتقادهم ذلك فيه شَيْخاً ابن مائة سنة. أو مائة وعشرين، وهو من شاخ يشيخ، وقد يقال:
296
للأنثى شيخة كما قال:
وتضحك مني «شيخة» عبشمية ويجمع على أشياخ وشيوخ وشيخان ونصبه على الحال عند البصريين، والعامل فيه ما في هذا من معنى الإشارة أو التنبيه.
قال الزجاج: «ومثل هذه الحال من لطيف النحو وغامضه إذ لا تجوز إلا حيث يعرف الخبر ففي قولك: هذا زيد قائما لا يقال إلا لمن يعرفه فيفيده قيامه ولو لم يكن كذلك لزم أن لا يكون زيدا عند عدم القيام وليس بصحيح فهنا بعليته معروفة، والمقصود بيان شيوخته وإلا لزم أن لا يكون بعلها قبل الشيخوخة قاله الطيبي، ونظر فيه بأنه إنما يتوجه إذا لم تكن الحال لازمة غير منفكة أما في نحو هذا أبوك عطوفا فلا يلزم المحذور، والحال هاهنا مبينة هيئة الفاعل أو المفعول لأن العامل فيها ما أشير إليه وبذلك التأويل يتحد عامل الحال وذوها، وذهب الكوفيون إلى أن هذا يعمل عمل كان وشَيْخاً خبره وسموه تقريبا».
وقرأ ابن مسعود- وهو في مصحفه- والأعمش- شيخ- بالرفع على أنه خبر محذوف أي هو شيخ، أو خبر بعد خبر، وفي البحر إن الكلام على هذا كقولهم: هذا حلو حامض، أو هو الخبر، وبَعْلِي بدل من اسم الإشارة. أو بيان له، وجوز أن يكون بَعْلِي الخبر، وشيخ- تابعا له، وكلتا الجملتين وقعت حالا من الضمير في أَأَلِدُ لتقرير ما فيه من الاستبعاد وتعليله أي ألد وكلانا على حالة منافية لذلك، وإنما قدمت بيان حالها على بيان حاله عليه السلام لأن مباينة حالها لما ذكر من الولادة أكثر إذ ربما يولد للشيوخ من الشواب أما العجائز داؤهن عقام، ولأن البشارة متوجهة إليها صريحا ولأن العكس في البيان ربما يوهم من أول الأمر نسبة المانع عن الولادة إلى جانب إبراهيم عليه السلام وفيه ما لا يخفى من المحذور، واقتصارها في الاستبعاد على ولادتها من غير تعرض لحال النافلة لأنها المستبعدة وأما ولادة ولدها فلا يتعلق بها استبعاد قاله شيخ الإسلام إِنَّ هذا أي ما ذكر من حصول الولد من هرمين مثلنا، وقيل: هو إشارة إلى الولادة أو البشارة بها، والتذكير لأن المصدر في تأويل إِنَّ مع الفعل ولعل المآل أن هذا الفعل لَشَيْءٌ عَجِيبٌ أي من سنة الله تعالى المسلوكة في عباده، والجملة تعليل بطريق الاستئناف التحقيقي ومقصدها كما قيل: استعظام نعمة الله تعالى عليها في ضمن الاستعجاب العادي لا استبعاد ذلك من حيث القدرة قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ أي قدرته وحكمته. أو تكوينه وشأنه سبحانه أنكروا عليها تعجبها لأنها كانت ناشئة في بيت النبوة ومهبط الوحي ومحل الخوارق فكان حقها أن تتوقر ولا يزدهيا ما يزدهي سائر النساء من أمثال هذه الخوارق من ألطاف الله سبحانه الخفية ولطائف صنعه الفائضة على كل أحد ممن يتعلق بإفاضته عليه مشيئته تعالى الأزلية لا سيما أهل بيت النبوّة الذين هم هم وأن تسبح الله تعالى وتمجده وتحمده، وإلى ذلك أشاروا بقوله تعالى:
رَحْمَةِ اللَّهِ المستتبعة كل خير ووضع المظهر موضع المضمر لزيادة تشريفها والإيماء إلى عظمتها وَبَرَكاتُهُ أي خيراته التامة المتكاثرة التي من جملتها هبة الأولاد، وقيل: الرحمة النبوة. والبركات الأسباط من بني إسرائيل لأن الأنبياء عليهم السلام منهم وكلهم من ولد إبراهيم عليه السلام وقيل: رحمته تحيته. وبركاته فواضل خيره بالخلة والإمامة.
عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ نصب على المدح. أو الاختصاص كما ذهب إليه كثير من المعربين، قال أبو حيان:
وبينهما فرق ولذلك جعلهما سيبويه في بابين وهو أن المنصوب على المدح لفظ يتضمن بوضعه المدح كما أن المنصوب على الذم يتضمن بوضعه الذم والمنصوب على الاختصاص يقصد به المدح. أو الذم لكن لفظه لا يتضمن
297
بوضعه ذلك كقول رؤبة: بنا تميما يكشف الضباب. انتهى، وفي الهمع أن النصب في الاختصاص بفعل واجب الإضمار وقدره سيبويه- بأعني- ويختص بأي الواقعة بعد ضمير المتكلم كأنا أفعل كذا أيها الرجل. وكاللهم اغفر لنا أيتها العصابة، وحكمها في هذا الباب- إلا عند السيرافي والأخفش- حكمها في باب النداء ويقوم مقامها في الأكثر كما- قال سيبويه- بنو نحو قوله: نحن بني ضبة أصحاب الجمل. ومنه قوله:
نحن بنات طارق... نمشي على النمارق
ومعشر كقوله:
لنا معشر الأنصار مجد مؤثل... بإرضائنا خير البرية أحمدا
وفي الحديث «نحن معاشر الأنبياء لا نورث»
وآل وأهل، وأبو عمرو لا ينصب غيرهما وليس بشيء، وقلّ كون ذلك علما كما في بيت رؤبة السابق في كلام أبي حيان، ولا يكون اسم إشارة ولا غيره ولا نكرة البتة، ولا يجوز تقديم اسم الاختصاص على الضمير، وقلّ وقوع الاختصاص بعد ضمير المخاطب كسبحانك الله العظيم، وبعد لفظ غائب في تأويل المتكلم أو المخاطب نحو على المضارب الوضيعة أيها البائع، فالمضارب لفظ غيبة لأنه ظاهر لكنه في معنى على أو عليك ومنع ذلك الصفار البتة لأن الاختصاص شبه النداء فكما لا ينادى الغائب فكذلك لا يكون فيه الاختصاص انتهى مع أدنى زيادة وتغيير، ومنه يعلم بعض ما في كلام أبي حيان وأن حمل ما في الآية الكريمة على الاختصاص من ارتكاب ما قل في كلامهم، وجوز في الكشاف نصبه على النداء، وقدمه على احتمال النصب على الاختصاص، ولعله أشار بذلك إلى ترجيحه على الاحتمال الثاني لكن ذكر بعض الأفاضل ان في ذلك فوات معنى المدح المناسب للمقام، والمراد من البيت- كما في البحر- بيت السكنى، وأصله مأوى الإنسان بالليل، ثم قد يقال من غير اعتبار الليل فيه، ويقع على المتخذ من حجر ومن مدر ومن صوف ووبر وعبر عن مكان الشيء بأنه بيته ويجمع على بيوت وأبيات، وجمع الجمع أبابيت وبيوتات وأبياوات، ويصغر على بييت وبييت بالكسر، ويقال: بويت كما تقوله العامة، وصرف الخطاب من صيغة الواحدة إلى الجمع ليكون جوابهم عليهم السلام لها جوابا لمن يخطر بباله مثل ما خطر ببالها من سائر أهل البيت.
والجملة كلام مستأنف علل به إنكار تعجبها فيه جملة خبرية، واختاره جمع من المحققين، وقيل: هي دعائية وليس بذاك، واستدل بالآية على دخول الزوجة في أهل البيت، وهو الذي ذهب إليه السنيون، ويؤيده ما في سورة الأحزاب، وخالف في ذلك الشيعة فقالوا: لا تدخل إلا إذا كانت قريب الزوج، ومن نسبه فإن المراد من البيت بيت النسب لا بيت الطين والخشب، ودخول سارة رضي الله تعالى عنها هنا لأنها بنت عمه، وكأنهم حملوا البيت على الشرف كما هو أحد معانيه، وبه فسر في قول العباس رضي الله تعالى عنه يمدح النبي صلّى الله عليه وسلّم:
حتى احتوى «بيتك» المهيمن من... خندف علياء تحتها النطف
ثم خصوا الشرف بالشرف النسبي وإلا فالبيت بمعنى النسب مما لم يشع عند اللغويين، ولعل الذي دعاهم لذلك بغضهم لعائشة رضي الله تعالى عنها فراموا إخراجها من حكم يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً [الأحزاب: ٣٣]، وسيأتي إن شاء الله تعالى تفصيل الكلام في هذا المقام، واستدل بالآية على كراهة الزيادة في التحية على السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وروي ذلك عن غير واحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم.
أخرج البيهقي في الشعب عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رجلا قال له: سلام عليك ورحمة الله وبركاته
298
ومغفرته فانتهره ابن عمر وقال: حسبك ما قال الله تعالى، وأخرج عن ابن عباس أن سائلا قام على الباب وهو عند ميمونة فقال: السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته وصلواته ومغفرته، فقال: انتهوا بالتحية إلى ما قال الله سبحانه، وفي رواية عن عطاء قال: كنت جالسا عند ابن عباس فجاء سائل فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ومغفرته ورضوانه فقال: ما هذا السلام؟! وغضب حتى احمرت وجنتاه إن الله تعالى حد للسلام حدا ثم انتهى ونهى عما وراء ذلك ثم قرأ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ قال أبو الهيثم: أي تحمد أفعاله، وفي الكشاف أي فاعل ما يستوجب به الحمد من عباده ففعيل بمعنى مفعول، وجوز الراغب أن يكون حَمِيدٌ هنا بمعنى حامد ولعل الأول أولى مَجِيدٌ أي كثير الخير والإحسان، وقال ابن الأعرابي: هو الرفيع يقال: مجد كنصر وكرم مجدا ومجادة أي كرم وشرف وأصله من مجدت الإبل إذا وقعت في مرعى كثير واسع، وقد أمجدها الراعي إذا أوقعها في ذلك، وقال الأصمعي: يقال: أمجدت الدابة إذا أكثرت علفها، وقال الليث: أمجد فلان عطاءه ومجده إذا كثره، ومن ذلك قول أبي حية النميري:
تزيد على صواحبها وليست «بماجدة» الطعام ولا الشراب
أي ليست بكثيرة الطعام ولا الشراب، ومن أمثالهم في كل شجر نار، واستمجد المرخ والعفار أي استكثر من ذلك، وقال الراغب: أي تحرى السعة في بذل الفضل المختص به، وقال ابن عطية: مجد الشيء إذا حسنت أوصافه، والجملة على ما في الكشف تذييل حسن لبيان أن مقتضى حالها أن تحمد مستوجب الحمد المحسن إليها بما أحسن وتمجده إذ شرفها بما شرف، وقيل: هي تعليل لما سبق من قوله سبحانه: رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ أي الخوف والفزع، قال الشاعر:
إذا أخذتها هزة «الروع» أمسكت بمنكب مقدام على الهول أروعا
والفعل راع، ويتعدى بنفسه كما في قوله:
«ما راعني» إلا حمولة أهلها وسط الديار تسف حب الخمخم
والروع بضم الراء النفس وهي محل الروع، والفاء لربط بعض أحوال إبراهيم عليه السلام ببعض غب انفصالها بما ليس بأجنبي من كل وجه بل له مدخل في السياق والسباق، وتأخر الفاعل عن الظرف لكونه مصب الفائدة، والمعنى لما زال عنه ما كان أوجسه منهم من الخيفة واطمأنت نفسه بالوقوف على جلية أمرهم وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ أي يجادل رسلنا في حالهم وشأنهم، ففيه مجاز في الإسناد، وكانت مجادلته عليه السلام لهم ما قصه الله سبحانه في قوله سبحانه في سورة العنكبوت: وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ قالَ: إِنَّ فِيها لُوطاً [العنكبوت: ٣١، ٣٢] فقوله عليه السلام: إِنَّ فِيها لُوطاً مجادلة وعدّ ذلك مجادلة لأن مآله على ما قيل: كيف تهلك قرية فيها من هو مؤمن غير مستحق للعذاب؟ ولذا أجابوه بقولهم نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ [العنكبوت: ٣٣] وهذا القدر من القول هو المتيقن.
وعن حذيفة أنهم لما قالوا له عليه السلام ما قالوا، قال: أرأيتم إن كان فيها خمسون من المسلمين أتهلكونها؟
قالوا: لا، قال: فثلاثون؟ قالوا: لا، قال: فعشرون، قالوا: لا، قال: فإن كان فيهم عشرة أو خمسة- شك الراوي. ؟ قالوا:
لا، قال: أرأيتم إن كان فيها رجل واحد من المسلمين أتهلكونها؟ قالوا: لا، فعند ذلك قال: إِنَّ فِيها لُوطاً فأجابوه بما أجابوه،
وروي نحو ذلك عدة روايات الله تعالى أعلم بصحتها، وفسر بعضهم المجادلة بطلب الشفاعة، وقيل:
هي سؤاله عن العذاب هل هو واقع بهم لا محالة أم على سبيل الإخافة ليرجعوا إلى الطاعة؟ وأيا ما كان- فيجادلنا-
299
جواب- لما- وكان الظاهر جادلنا إلا أنه عبر بالمضارع لحكاية الحال الماضية واستحضار صورتها، وقيل: إن- لما- كلو تقلب المضارع ماضيا كما أن- إن- تقلب الماضي مستقبلا، وقيل: الجواب محذوف، وهذه الجملة في موضع الحال من فاعله أي أخذ أو أقبل مجادلا لنا، وآثر هذا الوجه الزجاج ولكنه جعله مع حكاية الحال وجها واحدا لأنه قال: ولم يذكر في الكلام أخذ لأن الكلام إذا أريد به حكاية حال ماضية قدر فيه أخذ وأقبل لأنك إذا قلت: قام زيد دل على فعل ماض، وإذا قلت: أخذ زيد يقوم دل على حال ممتدة من أجلها ذكر أخذ وأقبل، وصنيع الزمخشري يدل على أنهما وجهان، وتحقيقه على ما في الكشف أنه إذا أريد استمرار الماضي فهو كما ذكره الزجاج، وإن أريد التصوير المجرد فلا، وقيل: الجواب محذوف.
والجملة مستأنفة استئنافا نحويا أو بيانيا وهي دليل عليه، والتقدير اجترأ على خطابنا أو فطن بمجادلتنا وقال:
كيت وكيت، واختاره في الكشاف، وقيل: إن هذه الجملة- وكذا الجملة التي قبلها- في موضع الحال من إِبْراهِيمَ على الترادف أو التداخل وجواب لما قلنا يقدر قبل يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا، وأقرب الأقوال أولها، والبشرى إن فسرت بقولهم: لا تَخَفْ فسببية ذهاب الخوف ومجيء السرور للمجادلة ظاهرة، وأما إن فسرت ببشارة الولد- كما أخرجه ابن جرير وابن المنذر وغيرهما عن قتادة واختاره جمع أو بما يعمها- فلعل سببيتها لها من حيث إنها تفيد زيادة اطمئنان قلبه عليه السلام بسلامته وسلامة أهله كافة كذا قاله مولانا شيخ الإسلام، ثم قال: إن قيل: إن المتبادر من هذا الكلام أن يكون إبراهيم عليه السلام قد علم أنهم مرسلون لإهلاك قوم لوط قبل ذهاب الروع عن نفسه ولكن لم يقدر على مجادلتهم في شأنهم لاشتغاله بشأن نفسه، فلما ذهب عنه الروع فرغ لها مع أن ذهاب الروع إنما هو قبل العلم بذلك لقوله سبحانه: قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ قلنا: كان لوط عليه السلام على شريعة إبراهيم عليه السلام وقومه مكلفين بها فلما رأى من الملائكة عليهم السلام ما رأى خاف على نفسه وعلى كافة أمته التي من جملتهم قوم لوط، ولا ريب في تقدم هذا الخوف على قولهم: لا تَخَفْ وأما الذي علمه عليه السلام بعد النهي فهو اختصاص قوم لوط بالهلاك لا دخول لهم تحت العموم فتأمل انتهى.
وفيه أن كون الكل أمته في حيز المنع، وما أشار إليه من اتحاد الشريعتين إن أراد به الاتحاد في الأصول كاتحاد شريعة نبينا صلّى الله عليه وسلّم مع شريعة إبراهيم عليه السلام فمسلم لكن لا يلزم منه ذلك، وإن أراد به الاتحاد في الأصول والفروع فغير مسلم ولو سلم. ففي لزوم كون الكل أمته له تردد على أنه لو سلمنا كل ذلك فلقائل أن يقول: سلمنا أنه عليه السلام لما رأى من الملائكة عليهم السلام ما رأى حصل له خوف على نفسه وعلى كافة أمته التي من جملتهم قوم لوط عليه السلام لكن لا نسلم أن هذا الخوف كان عن علم بأن أولئك الملائكة كانوا مرسلين لإهلاك الكل المندرج فيه قوم لوط بل عن تردد وتحير في أمرهم، وحينئذ لا ينحل السؤال بهذا الجواب كما لا يخفى على المتبصر، وكأنه لذلك أمر بالتأمل وقد يقال: المفهوم من الكلام تحقق المجادلة بعد تحقق مجموع الأمرين ذهاب الروع ومجيء البشارة، وهو لا يستدعي إلا سبق العلم بأنهم مرسلون لإهلاك قوم لوط على تحقق المجموع، ويكفي في ذلك سبقه على تحقق البشارة، وهذا العلم مستفاد من قولهم له: لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ وكأنه عليه السلام إنما لم يجادل بعد هذا العلم، وأخر المجادلة إلى مجيء البشارة ليرى ما ينتهي إليه كلام الملائكة عليهم السلام، أو لأنه لم يقع فاصل سكوت في البين ليجادل فيه إلا أن هذا لا يتم إلا أن يكون الإخبار بالإرسال إلى قوم لوط سابقا على البشارة بالولد، وفيه تردد.
وفي بعض الآيات ما هو ظاهر في سبق البشارة على الإخبار بذلك، نعم يمكن أن يلتزم سبق الاخبار على البشارة، ويقال: إنهم أخبروه أولا ثم بشروه ثانيا، ثم بعد أن تحقق مجموع الأمرين قال: فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا
300
الْمُرْسَلُونَ [الحجر: ٥٧، الذاريات: ٣١] ويقال: المراد منه السؤال عن حال العذاب هل هو واقع بهم لا محالة أم هو على سبيل الإخافة ليرجعوا إلى الإيمان؟ وتفسير المجادلة به كما مر عن بعض فتدبر ذاك والله سبحانه يتولى هداك إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ غير عجول على الانتقام إلى المسيء إليه أَوَّاهٌ كثير التأوه من الذنوب والتأسف على الناس مُنِيبٌ راجع إلى الله تعالى، والمقصود من وصفه عليه السلام بهذه الصفات المنبئة عن الشفقة ورقة القلب بيان ما حمله على ما صدر عنه من المجادلة، وحمل الحلم على عدم العجلة والتأني في الشيء مطلقا، وجعل المقصود من الوصف بتلك الصفات بيان ما حمله على المجادلة وإيقاعها بعد أن تحقق ذهاب الروع ومجيء البشرى لا يخفى حاله.
يا إِبْراهِيمُ على تقدير القول ليرتبط بما قبل أي قالت الملائكة، أو قلنا يا إِبْراهِيمُ.
أَعْرِضْ عَنْ هذا الجدال إِنَّهُ أي الشأن قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ أي قدره تعالى المقضي بعذابهم، وقد يفسر بالعذاب، ويراد بالمجيء المشارفة فلا يتكرر مع قوله سبحانه: وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ أي لا بجدال ولا بدعاء ولا بغيرهما إذ حاصل ذلك حينئذ شارفهم ثم وقع بهم، وقيل: لا حاجة إلى اعتبار المشارفة، والتكرار مدفوع بأن ذاك توطئة لذكر كونه غير مردود.
وقرأ عمرو بن هرم- وإنهم أتاهم- بلفظ الماضي وعَذابٌ فاعل به، وعبر بالماضي لتحقيق الوقوع وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: انطلقوا من عند إبراهيم عليه السلام وبين القريتين أربعة فراسخ ودخلوا عليه في صورة غلمان مرد حسان الوجوه فلذلك سِيءَ بِهِمْ أي أحدث له عليه السلام مجيئهم المساءة لظنه أنهم أناس فخاف أن يقصدهم قومه ويعجز عن مدافعتهم، وقيل: كان بين القريتين ثمانية أميال فأتوها عشاء، وقيل نصف النهار ووجدوا لوطا في حرث له.
وقيل: وجدوا بنتا له تستقي ماء من نهر سدوم وهي أكبر محل للقوم فسألوها الدلالة على من يضيفهم ورأت هيئاتهم فخافت عليهم من قوم أبيها فقالت لهم: مكانكم وذهبت إلى أبيها فأخبرته فخرج إليهم فقالوا: إنا نريد أن تضيفنا الليلة، فقال: أو ما سمعتم بعمل هؤلاء القوم؟ فقالوا: وما عملهم؟ فقال: أشهد بالله تعالى أنهم شر قوم في الأرض، وقد كان الله تعالى قال للملائكة لا تعذبوهم حتى يشهد عليهم لوط أربع شهادات، فلما قال هذه قال جبريل عليه السلام: هذه واحدة وتكرر القول منهم حتى كرر لوط الشهادة فتمت الأربع ثم دخل المدينة فدخلوا معه منزله وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً أي طاقة وجهدا، وهو في الأصل مصدر ذرع البعير بيديه يذرع في مسيره إذا سار مادا خطوه مأخوذ من الذراع وهي العضو المعروف، ثم توسع فيه فوضع موضع الطاقة والجهد، وذلك أن اليد كما تجعل مجازا عن القوة فالذراع المعروفة كذلك، وفي الصحاح يقال: ضقت بالأمر ذرعا إذا لم تطقه ولم تقو عليه، وأصل الذرع بسط اليد فكأنك تريد مددت يدي إليه فلم تنله، وربما قالوا: ضقت به ذراعا، قال حميد بن ثور يصف ذئبا:
وإن بات وحشا ليلة لم يضق بها «ذراعا» ولم يصبح لها وهو خاشع
وفي الكشاف جعلت العرب ضيق الذراع والذرع عبارة عن فقد الطاقة كما قالوا: رحب الذراع بكذا إذا كان مطيقا له، والأصل فيه أن الرجل إذا طالت ذراعه نال ما لا يناله القصير الذراع فضرب ذلك مثلا في العجز والقدرة، ونصبه على أنه تمييز محول عن الفاعل أي ضاق بأمرهم وحالهم ذرعه، وجوز أن يكون الذرع كناية عن الصدر والقلب، وضيقه كناية عن شدة الانقباض للعجز عن مدافعة المكروه والاحتيال فيه، وهو على ما قيل: كناية متفرعة على كناية أخرى مشهورة وقيل: إنه مجاز لأن الحقيقة غير مرادة هنا، وأبعد بعضهم في تخريج هذا الكلام فخرجه
301
على أن المراد أن بدنه ضاق قدر عن احتمال ما وقع وَقالَ هذا اليوم يَوْمٌ عَصِيبٌ أي شديد، وأصله من العصب بمعنى الشد كأنه لشدة شره عصب بعضه ببعض، وقال أبو عبيدة: سمي بذلك لأنه يعصب الناس بالشر، قال الراجز:
يوم عصيب يعصب الأبطالا عصب القوى السلم الطوالا
وفي معناه العصبصب والعصوصب وَجاءَهُ أي لوطا وهو في بيته مع أضيافه قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ قال أبو عبيدة: أي يستحثون إليه كأنه يحث بعضهم بعضا، أو يحثهم كبيرهم ويسوقهم، أو الطمع في الفاحشة، والعامة على قراءته مبنيا للمفعول، وقرأ جماعة «يهرعون» بفتح الياء مبنيا للفاعل من هرع، وأصله من الهرع وهو الدم الشديد السيلان كأن بعضه يدفع بعضا، وجاء أهرع القوم إذا أسرعوا، وفسر بعضهم الإسراع بالمشي بين الهرولة والجمز. وعن ابن عباس أنه سئل عما في الآية، فقال: المعنى يقبلون إليه بالغضب، ثم أنشد قول مهلهل:
فجاؤوا يهرعون وهم أسارى نقودهم على رغم الأنوف
وفي رواية أخرى عنه أنه فسر ذلك بيسرعون وهو بيان للمراد ويستقيم على القراءتين، وجملة يُهْرَعُونَ في موضع الحال من قومه أي جاؤوا مهرعين إليه، روي أنه لما جاء لوط بضيفه لم يعلم ذلك أحد إلا أهل بيته فخرجت امرأته حتى أتت مجالس قومها فقالت: إن لوطا قد أضاف الليلة فئة ما رئي مثلهم جمالا فحينئذ جاؤوا يهرعون إليه وَمِنْ قَبْلُ أي من قبل وقت مجيئهم، وقيل: «من قبل» بعث لوط رسولا إليهم كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قيل:
المراد سيئة إتيان الذكور إلا أنها جمعت باعتبار تكررها أو باعتبار فاعليها.
وقيل: المراد ما يعم ذلك، وإتيان النساء في محاشهن. والمكاء والصفير واللعب بالحمام والقمار والاستهزاء بالناس وغير ذلك، والمراد من ذكر عملهم السيئات من قبل بيان أنهم اعتادوا المنكر فلم يستحيوا فلذلك أسرعوا لطلب الفاحشة من ضيوفه مظهرين غير مكترثين، فالجملة معترضة لتأكيد ما قبلها.
وقيل: إنها بيان لوجه ضيق صدره لما عرف من عادتهم، وجعلها شيخ الإسلام في موضع الحال كالتي قبلها أي جاؤوا مسرعين، والحال أنهم كانوا منهمكين في عمل السيئات.
قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فتزوجوهن وكانوا يطلبونهن من قبل ولا يجيبهم لخبثهم وعدم كفاءتهم لا لعدم مشروعية تزويج المؤمنات من الكفار فإنه كان جائزا، وقد زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم ابنته زينب لأبي العاص بن الربيع وابنته رقية لعتبة بن أبي لهب قبل الوحي- وكانا كافرين- إلا أن عتبة لم يدخل بها وفارقها بطلب أبيه حين نزلت تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ [المسد: ١] فتزوّجها عثمان رضي الله تعالى عنه، وأبا العاص كان قد دخل بها لكن لما أسر يوم بدر وفادى نفسه أخذ النبي صلّى الله عليه وسلّم العهد عليه أن يردها إذا عاد فأرسل عليه الصلاة والسلام زيد بن حارثة ورجلا من الأنصار في طلبها فجاءا بها ثم إنه أسلم وأتى المدينة فردها عليه الصلاة والسلام إليه بنكاح جديد أو بدونه على الخلاف.
وقال الحسن بن الفضل: إنه عليه السلام عرض بناته عليهم بشرط الإسلام، وإلى ذلك ذهب الزجاج، وهو مبني على أن تزويج المسلمات من الكفار لم يكن جائزا إذ ذاك، فقيل: كان لهم سيدان مطاعان فأراد أن يزوجهما ابنتيه ولم يكن له عليه السلام سواهما، واسم إحداهما- على ما في بعض الآثار- زعوراء والأخرى زيتاء، وقيل: كان له عليه السلام ثلاث بنات، وأخرجه الحاكم وصححه عن ابن عباس، ويؤيده ظاهر الجمع وإن جاء إطلاقه على اثنين، وأيا ما كان فقد أراد عليه السلام بذلك وقاية ضيفه وهو غاية الكرم فلا يقال: كيف يليق به عليه السلام أن يعرض بناته على
302
أعدائه ليزوجهن إياهم؟! نعم استشكل عرض بناته- بناء على أنهن اثنتان كما هو المشهور، أو ثلاث كما قيل- على أولئك المهرعين ليتزوجوهن مع القول بأنهم أكثر منهن إذ لا يسوغ القول بحل تزوج الجماعة بأقل منهم في زمان واحد، ومن هنا قال بعض أجلة المفسرين: إن ذلك القول لم يكن منه عليه السلام مجريا على الحقيقة من إرادة النكاح بل كان ذلك مبالغة في التواضع لهم وإظهارا لشدة امتعاضه مما أوردوا عليه طمعا في أن يستحيوا منه ويرقوا له إذا سمعوا ذلك فيتركوا ضيوفه مع ظهور الأمر واستقرار العلم عنده وعندهم أن لا مناكحة بينه وبينهم وهو الأنسب بجوابهم الآتي، وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس وابن أبي حاتم عن ابن جبير ومجاهد وابن أبي الدنيا وابن عساكر عن السدي أن المراد ببناته عليه السلام نساء أمته، والإشارة بهؤلاء لتنزيلهن منزلة الحاضر عنده وإضافتهن إليه لأن كل نبي أب لأمته، وفي قراءة ابن مسعود رضي الله تعالى عنه- النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم وأزواجه أمهاتهم.
وقرأ أبي رضي الله تعالى عنه مثل ذلك لكنه قدم وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ [الأحزاب: ٦] على- وهو أب لهم- وأراد عليه السلام بقوله: هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ أنظف فعلا، أو أقل فحشا كقولك: الميتة أطيب من المغصوب وأحل منه، ويراد من الطهارة على الأول الطهارة الحسية وهي الطهارة عما في اللواطة من الأذى والخبث، وعلى الثاني الطهارة المعنوية وهو التنزه عن الفحش والإثم، وصيغة أفعل في ذلك مجاز، والظاهر- أن هؤلاء بناتي- مبتدأ وخبر، وكذلك هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ وجوز أبو البقاء كون بَناتِي بدلا أو عطف بيان وهُنَّ ضمير فصل، وأَطْهَرُ هو الخبر، وكون هُنَّ مبتدأ ثانيا، وأَطْهَرُ خبره، والجملة خبر هؤُلاءِ.
وقرأ الحسن وزيد بن علي وعيسى الثقفي وسعيد بن جبير والسدي «أطهر» بالنصب، وقد خفي وجهه حتى قال عمرو بن العلاء: إن من قرأ «أطهر» بالنصب فقد تربع في لحنه وذلك لأن انتصابه على أن يجعل حالا عمل فيها ما في هؤُلاءِ من الإشارة أو التنبيه أو ينصب هؤُلاءِ بفعل مضمر كأنه قيل: خذوا هؤلاء وبَناتِي بدل، ويعمل هذا المضمر في الحال وهُنَّ في الصورتين فصل وهذا لا يجوز لأن الفصل إنما يكون بين المسند والمسند إليه، ولا يكون بين الحال وذيها كذا قيل، وهذا المنع هو المروي عن سيبويه وخالف في ذلك الأخفش فأجاز توسط الفصل بين الحال وصاحبها فيقول: جاء زيد هو ضاحكا، وجعل من ذلك هذه الآية على هذه القراءة، وقيل: بوقوعه شذوذا كما في قولهم: أكثر أكلي التفاحة هي نضيجة، ومن منع ذلك خرج هذا على إضمار كان، والآية الكريمة على أن هُنَّ مبتدأ ولَكُمْ الخبر، وأَطْهَرُ حال من الضمير في الخبر، واعترض بأن فيه تقديم الحال على عاملها الظرفي، والأكثرون على منعه أو على أن يكون هؤُلاءِ مبتدأ وبَناتِي هُنَّ جملة في موضع خبر المبتدأ كقولك: هذا أخي هو، ويكون أَطْهَرُ حالا وروي هذا عن المبرد وابن جني، أو على أن يكون هؤُلاءِ مبتدأ وبَناتِي بدلا منه أو عطف بيان وهُنَّ خبر وأَطْهَرُ على حاله.
وتعقب بأنه ليس فيه معنى طائل، ودفع بأن المقصود بالإفادة الحال كما في قولك: هذا أبوك عطوفا وادعى في الكشف أن الأوجه أن يقدروا خذوا هؤلاء أطهر لكم، وقوله: بَناتِي هُنَّ جملة معترضة تعليلا للأمر وكونهن أولى قدمت للاهتمام كأنه قيل: خذوا هؤلاء العفائف أطهر لكم إن بناتي هن وأنتم تعلمون طهارتي وطهارة بناتي ويجوز أن يقال هُنَّ تأكيد للمستكن في بَناتِي لأنه وصف مشتق لا سيما على المذهب الكوفي فافهم ولا تغفل فَاتَّقُوا اللَّهَ بترك الفواحش أو بإيثارهن عليهم وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أي لا تفضحوني في شأنهم فإن إخزاء ضيف الرجل إخزاء له، أو لا تخجلوني فيهم، والمصدر على الأول الخزي وعلى الثاني الخزاية، وأصل معنى خزي لحقه انكسار إما من نفسه وهو الحياء المفرط، وإما من غيره وهو الاستخفاف والتفضيح، والضيف في الأصل مصدر،
303
ولذا إذا وصف به المثنى أو المجموع لم يطابق على المشهور، وسمع فيه ضيوف، وأضياف، وضيفان، وَلا ناهية، والفعل مجزوم بحذف النون، والموجودة نون الوقاية، والياء محذوفة اكتفاء بالكسرة، وقرىء بإثباتها على الأصل أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ يهتدي إلى الحق الصريح ويرعوي عن الباطل القبيح، وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس أنه قال: يأمر بمعروف أو ينهى عن منكر، وهو إما بمعنى ذو رشد أو بمعنى مرشد كالحكيم بمعنى المحكم، والاستفهام للتعجب، وحمله على الحقيقة لا يناسب المقام.
قالُوا معرضين عما نصحهم به من الأمر بالتقوى والنهي عن الإخزاء عن أول كلامه لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ أي حق وهو واحد الحقوق، وعنوا به قضاء الشهوة أي ما لنا حاجة في بناتك، وقد يفسر بما يخالف الباطل أي ما لنا في بناتك نكاح حق لأنك لا ترى جواز نكاحنا للمسلمات، وما هو إلا عرض سابري كذا قيل، وهو ظاهر في أنه كان من شريعته عليه السلام عدم حل نكاح الكافر المسلمة.
وقيل: إنما نفوا أن يكون لهم حق في بناته لأنهم كانوا قد خطبوهن فردهم وكان من سنتهم أن من رد في خطبة امرأة لم تحل له أبدا، وقيل: إنهم لما اتخذوا إتيان الذكور مذهبا كان عندهم هو الحق وأن نكاح الإناث من الباطل فقالوا ما قالوا، وقيل: قالوا ذلك لأن عادتهم كانت أن لا يتزوج الرجل منهم إلا واحدة وكانوا كلهم متزوجين وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ أي من إتيان الذكور، والظاهر أن ما مفعول لتعلم، وهو بمعنى تعرف، وهي موصولة والعائد محذوف أي الذي نريده، وقيل: إنها مصدرية فلا حذف أي إرادتنا.
وجوز أن تكون استفهامية وقعت مفعولا- لنريد- وهي حينئذ معلقة- لتعلم- ولما يئس عليه السلام من ارعوائهم عما هم عليه من الغي قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أي لو ثبت أن لي قوة ملتبسة بكم بالمقاومة على دفعكم بنفسي لفعلت- فلو- شرطية وجوابها محذوف كما حذف في قوله سبحانه: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ [الرعد: ٣١] وجوز أن تكون للتمني، وبِكُمْ حال من قُوَّةً كما هو المعروف في صفة النكرة إذا قدمت عليها، وضعف تعلقه بها لأن معمول المصدر لا يتقدم عليه في المشهور، وقوله: أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ عطف على ما قبله بناء على ما علمت من معناه الذي يقتضيه مذهب المبرد، والمضارع واقع موقع الماضي، واستظهر ذلك أبو حيان، وقال الحوفي: إنه عطف على ما تقدم باعتبار أن المراد أو أني آوي، وجوز ذلك أبو البقاء، وكذا جوز أن تكون الجملة مستأنفة، والركن- في الأصل الناحية من البيت أو الجبل، ويقال: ركن بضم الكاف، وقد قرىء به ويجمع على أركان، وأراد عليه السلام به القوي شبهه بركن الجبل في شدته ومنعته أي أو أنضم إلى قوي أتمنع به عنكم وأنتصر به عليكم، وقد عد رسول الله صلّى الله عليه وسلم هذا القول منه عليه السلام بادرة واستغربه،
فقد أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه صلّى الله عليه وسلم قال: «رحم الله تعالى أخي لوطا كان يأوي إلى ركن شديد»
يعني عليه الصلاة والسلام به الله تعالى فإنه لا ركن أشد منه عز وجل.
إذا كان غير الله للمرء عدة أتته الرزايا من وجوه الفوائد
وجاء أنه سبحانه- لهذه الكلمة- لم يبعث بعد لوط نبيا إلا في منعة من عشيرته، وفي البحر أنه يجوز- على رأي الكوفيين- أن تكون أَوْ بمعنى بل ويكون عليه السلام قد أضرب عن الجملة السابقة، وقال: بل آوي في حالي معكم إلى ركن شديد وكني به عن جناب الله تعالى ولا يخفى أنه يأبى الحمل على هذه الكناية تصريح الأخبار الصحيحة بما يخالفها، وقرأ شيبة وأبو جعفر «آوي» بالنصب على إضمار أن بعد أَوْ فيقدر بالمصدر عطفا على قُوَّةً ونظير ذلك قوله:
304
ولولا رجال من رزام أعزة وآل سبيع أو أسوأك علقما
أي لو أن لي بكم قوة أو أويا،
روي أنه عليه السلام أغلق بابه دون أضيافه وأخذ يجادل قومه عنهم من وراء الباب فتسوروا الجدار فلما رأت الملائكة عليهم السلام ما على لوط من الكرب.
قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ بضرر ولا مكروه فافتح الباب ودعنا وإياهم، ففتح الباب فدخلوا فاستأذن جبريل عليه السلام رب العزة في عقوبتهم فأذن له فلما دنوا طمس أعينهم فانطلقوا عميا يركب بعضهم بعضا وهم يقولون: النجاء النجاء فإن في بيت لوط قوما سحرة، وفي رواية أنه عليه السلام أغلق الباب على ضيفه فجاؤوا فكسروا الباب فطمس جبريل أعينهم فقالوا: يا لوط جئتنا بسحرة وتوعدوه فأوجس في نفسه خيفة قال:
يذهب هؤلاء ويذروني فعندها قال جبريل عليه السلام: «لا تخف إنا رسل ربك»
فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بالقطع من الإسراء، وقرأ ابن كثير ونافع بالوصل حيث جاء في القرآن من السرى، وقد جاء سرى وهما بمعنى واحد عند أبي عبيدة والأزهري، وعن الليث أسرى سار أول الليل وسرى سار آخره ولا يقال في النهار: إلا سار وليس هو مقلوب سرى، والفاء لترتيب الأمر بالإسراء على الإخبار برسالتهم المؤذنة بورود الأمر والنهي من جنابه عز وجل إليه عليه السلام، والباء للتعدية أو للملابسة أي سر ملابسا بأهلك بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ قال ابن عباس: بطائفة منه، وقال قتادة: بعد مضي صدر منه، وقيل: نصفه، وفي رواية أخرى عن الحبر آخره وأنشد قول مالك بن كنانة:
ونائحة تقوم بقطع ليل على رحل أهانته شعوب
وليس من باب الاستدلال، وإلى هذا ذهب محمد بن زياد لقوله سبحانه: نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ [القمر: ٣٤] وتعقبه ابن عطية بأنه يحتمل أنه أسرى بأهله من أول الليل حتى جاوزوا البلد المقتلع، ووقعت نجاتهم بسحر، وأصل القطع القطعة من الشيء لكن قال ابن الأنباري: إن ذلك يختص بالليل فلا يقال: عندي قطع من الثوب.
وفسر بعضهم القطع من الليل بطائفة من ظلمته، وعن الحبر أيضا تفسيره بنفس السواد، ولعله من باب المساهلة وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ أي لا يتخلف كما روي عن ابن عباس، أو لا ينظر إلى ورائه كما روي عن قتادة، قيل:
وهذا هو المعنى المشهور الحقيق للالتفات، وأما الأول فلأنه يقال: لفته عن الأمر إذا صرفته عنه فالتفت أي انصرف، والتخلف انصراف عن المسير، قال تعالى: أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا [يونس: ٧٨] أي تصرفنا كذا قال الراغب.
وفي الأساس أنه معنى مجازي، والنهي في اللفظ لأحد، وفي المعنى للوط عليه السلام على ما نقل عن المبرد، وهذا كما تقول لخادمك: لا يقم أحد في أن النهي في الظاهر لأحد، وهو في الحقيقة للخادم أن لا يدع أحدا يقوم، فالمعنى هنا فأسر بأهلك ولا تدع أحدا منهم يلتفت ولا يخفى أنه على هذا تتم المناسبة بين المعطوف عليه والمعطوف لأن الأول لأمره عليه السلام والثاني لنهيه، ويعلم من هذا أن ضمير «منكم» للأهل.
وقد صرح بذلك شهاب فلك الفضل الخفاجي، فقال: وهاهنا لطيفة وهو أن المتأخرين من أهل البديع اخترعوا نوعا من البديع سموه تسمية النوع، وهو أن يؤتى بشيء من البديع ويذكر اسمه على سبيل التورية كقوله في البديعية في الاستخدام:
واستخدموا العين مني فهي جارية وكم سمحت بها في يوم بينهم
وتبجحوا باختراعه، وأنا بمنّ الله تعالى أقول: إنه وقع في القرآن في هذه الآية لأن قوله سبحانه: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ إلخ وقع فيه ضمير مِنْكُمْ للأهل فقوله جل وعلا: لا يَلْتَفِتْ من تسمية النوع وهذا من بديع النكات انتهى،
305
وسر النهي عن الالتفات بمعنى التخلف ظاهر، وأما سره إذا كان بمعنى النظر إلى وراء فهو أن يجدوا في السير فإن من يلتفت إلى ورائه لا يخلو عن أدنى وقفة أو أن لا يروا ما ينزل بقومهم من العذاب فيرقوا لهم.
وذكر بعضهم أن النهي وكذا الضمير للوط عليه السلام ولأهله أي لا يلتفت أحد منك ومن أهلك. إِلَّا امْرَأَتَكَ بالنصب وهو قراءة أكثر السبعة.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالرفع وقد كثر الكلام في ذلك فقال الزمخشري: إنه سبحانه استثناها من قوله:
فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ ويدل عليه قراءة عبد الله- فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بقطع من الليل إلا امرأتك- ويجوز أن ينتصب من- لا يلتفت- على أصل الاستثناء، وإن كان الفصيح هو البدل أعني قراءة من قرأ بالرفع فأبدلها من أحد، وفي إخراجها مع أهله روايتان:
روي أنه أخرجها معهم وأمر أن لا يلتفت منهم أحد إلا هي فلما سمعت هدّة العذاب التفتت وقالت: يا قوماه فأدركها حجر فقتلها.
وروي أنه لما أمر أن يخلفها مع قومها فإن هواها إليهم فلم يسر بها،
واختلاف القراءتين لاختلاف الروايتين انتهى، وأورد عليه ابن الحاجب ما خلاصته أنه إما أن يسري بها فالاستثناء من أحد متعين أولا فيتعين من فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ والقصة واحدة فأحد التأويلين باطل قطعا، والقراءتان الثابتتان قطعا لا يجوز حملهما على ما يوجب بطلان أحدهما، فالأولى أن يكون إِلَّا امْرَأَتَكَ رفعا ونصبا مثل ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ [النساء: ٦٦] ولا يبعد أن يكون بعض القراء على الوجه الأقوى، وأكثرهم على ما دونه بل جوز بعضهم أن تتفق القراء على القراءة بغير الأقوى.
وأجاب عنه بعض المغاربة بما أشار إليه في الكشف من منع التنافي لأن الاستثناء من الأهل يقتضي أن لا يكون لوط عليه السلام مأمورا بالإسراء بها، ولا يمنع أنها سرت بنفسها، ويكفي لصحة الاستثناءين هذا المقدر كيف ولم ينه عن إخراجها ولكنه أمر بإخراج غيرها، نعم يرد على قوله: واختلاف القراءتين لاختلاف الروايتين أنه يلزم الشك في كلام لا ريب فيه من رب العالمين، ويجاب بأن معناه اختلاف القراءتين جالب وسبب لاختلاف الروايتين كما تقول:
السلاح للغزو أي أداة وصالح مثلا له، ولم يرد أن اختلاف القراءتين لأجل اختلاف الروايتين قد حصل، ولا شك أن كل رواية تناسب قراءة وإن أمكن الجمع، وأما قوله: وأمر أن لا يلتفت منهم أحد إلا هي فنقل للرواية لا تفسير للفظ القرآن، وإنما الكائن فيه استثناؤها عن الحكم الذي للاستصلاح إذ لم يعن بها، وإلى معنى ما أشار إليه صاحب الكشف في منع التنافي أشار أبو شامة فقال: وقع في تصحيح ما أعربه النحاة معنى حسن، وذلك أن يكون في الكلام اختصار نبه عليه اختلاف القراءتين فكأنه قيل: فأسر بأهلك إلا امرأتك كما قرأ به عبد الله ورواه أبو عبيدة عن مصحفه، فهذا دليل على أن استثناءها من السري بهم، ثم كأنه قال سبحانه: فإن خرجت معكم وتبعتكم من غير أن تكون أنت سريت بها فانه أهلك عن الالتفات غيرها فإنها ستهلك ويصيبها ما يصيب قومها، فكانت قراءة النصب دالة على المعنى المتقدم، وقراءة الرفع دالة على هذا المعنى المتأخر ومجموعهما دال على جملة المعنى المشروح، ولا يخفى ما في ذلك من التكلف كما قال ابن مالك، ولذا اختار أن الرفع على أن الاستثناء منقطع، وامْرَأَتَكَ مبتدأ، والجملة بعدها خبره وإلا بمعنى لكن.
وقال ابن هشام في المغني في الجهة الثامنة من الباب الخامس: إن ما ذكره الزمخشري وقد سبقه إليه غيره في الآية خلاف الظاهر، والذي حمل القائلين عليه أن النصب قراءة الأكثرين فإذا قدر الاستثناء من أحد كانت قراءتهم على الوجه المرجوح، وقد التزم بعضهم جواز مجيء الأمرين مستدلا بقوله تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ [القمر:
306
٤٩] فإن النصب في ذلك عند سيبويه على حد قولهم: زيدا ضربته، ولم ير خوف إلباس المفسر بالصفة مرجحا كما رآه بعض المتأخرين، ثم قال: والذي أجزم به أن قراءة الأكثرين لا تكون مرجحة، وأن الاستثناء على القراءتين من جملة الأمر بدليل سقوط وَلا يَلْتَفِتْ إلخ في قراءة ابن مسعود، والاستثناء منقطع بدليل سقوطه في آية الحجر، ولأن المراد بالأهل المؤمنون وإن لم يكونوا من أهل بيته لا أهل بيته وإن لم يكونوا مؤمنين كما في قوله تعالى لنوح عليه السلام: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ [هود: ٤٦] ووجه الرفع أنه على الابتداء، وما بعد، الخبر والمستثنى الجملة، ونظيره لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ [الغاشية: ٢٢- ٢٤].
واختار أبو شامة ما اخترته من أن الاستثناء منقطع لكنه قال: وجاء النصب على اللغة الحجازية والرفع على التميمية، وهذا يدل على أنه جعل الاستثناء من جملة النهي، وما قدمته أولى لضعف اللغة التميمية، ولما قدمت من سقوط جملة النهي في قراءة عبد الله انتهى.
واستظهر ذلك الحمصي في حواشيه على التصريح واستحسنه غير واحد، وقد نقل أبو حيان القول بالانقطاع على القراءتين وتخريج النصب على اللغة الحجازية والرفع عن الأخرى، ثم قال: إنه كلام لا تحقيق فيه فإنه إذا لم يقصد إخراجها من المأمور بالإسراء بهم ولا من المنهيين عن الالتفات وكان المعنى لكن امرأتك يجري عليها كذا وكذا كان من الاستثناء الذي لا يتوجه إليه العامل، وهذا النوع من الاستثناء المنقطع يجب فيه النصب بإجماع العرب، وإنما الخلاف في المنقطع الذي يمكن توجه العامل إليه وفيه نظر، ففي التوضيح لابن مالك حق المستثنى بإلا من كلام تام موجب مفردا كان أو مكملا معنى بما بعده كقوله تعالى: إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ [الحجر: ٥٩، ٦٠] النصب، ولا يعرف أكثر المتأخرين من البصريين إلا النصب، وقد غفلوا عن وروده مرفوعا بالابتداء ثابت الخبر كقول أبي قتادة: أحرموا كلهم إلا أبو قتادة لم يحرم، ومحذوفة نحو ما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ [لقمان: ٣٤] إلا الله، وإِلَّا في ذلك بمعنى لكن أي لكن أبو قتادة لم يحرم ولكن الله يعلم انتهى، وما نحن فيه من قبيل هذا، وفي حاشيتي البدر الدماميني وتقي الدين الشمني أن الرضي قد أجاب بما يقتضي أن الاستثناء متصل ولا تناقض، وذلك أنه قال: ولما تقرر أن الاتباع هو الوجه مع الشرائط المذكورة وكان أكثر القراء على النصب في وَلا يَلْتَفِتْ إلخ تكلف الزمخشري لئلا تكون قراءة الأكثر محمولة على وجه غير مختار بما تكلف، واعترضه ابن الحاجب بلزوم التناقض لأن الاستثناء من- أسر بأهلك- يقتضي كونها غير مسري بها، ومن- لا يلتفت منكم أحد- يقتضي كونها مسري بها لأن الالتفات بالإسراء، والجواب أن الإسراء وإن كان مطلقا في الظاهر إلا أنه في المعنى مقيد بعدم الالتفات. فمآله أسر بأهلك إسراء لا التفات فيه إلا امرأتك فإنك تسري بها إسراء مع الالتفات فاستثن على هذا إن شئت- من- أسر- أو- لا يلتفت- ولا تناقض وهذا كما تقول: امش ولا تتبختر أي امش مشيا لا تتبختر فيه فكأنه قيل: ولا يلتفت منكم أحد في الإسراء، وكذا امش ولا تتبختر في المشي فحذف الجار والمجرور للعلم به انتهى.
وأورد عليه السيد السند في حواشيه أن الاستثناء إذا رجع إلى القيد كان المعنى فأسر بجميع أهلك إسراء لا التفات فيه إلا من امرأتك فيكون الإسراء بها داخلا في المأمور به وإذا رجع إلى المقيد لم يكن الإسراء بها داخلا في المأمور به فيكون المحذور باقيا بحاله ولا مخلص عنه إلا بأن يقال: إن تناول العام إياها ليس قطعيا لجواز أن يكون مخصوصا فلا يلزم من رجوع الاستثناء إلى قوله تعالى: وَلا يَلْتَفِتْ كونه عليه السلام مأمورا بالإسراء بها، وحينئذ يوجه الاستثناء بما ذكر من أنها تبعتهم أو أسري بها مع كونه غير مأمور بذلك إذ لا يلزم من عدم الأمر به النهي عنه فتأمل انتهى.
307
وبحث فيه الشهاب ولم يرتض احتمال التخصيص لما أنه لا دليل عليه ويفهم صنيعه ارتضاء كلام الرضي، ثم قال: ومراده بالتقييد أنه ذكر شيئان متعاطفان، فالظاهر أن المراد الجمع بينهما لا أن الجملة حالية فلا يرد عليه أن الحمل على التقييد مع كون الواو للنسق ممنوع، وكذا جعلها للحال مع لا الناهية، وأيضا القراءة بإسقاطها تدل على عدم اعتبار ذلك التقييد ولا يخلو عن شيء، هذا وقد ألفت في تحقيق هذا الاستثناء عدة رسائل: منها رسالة للحمصي وأخرى للعلامة الكافيجي ألفها لبعض سلاطين آل عثمان غمرهم الله سبحانه بصنوف الفضل والإحسان حين طلب منه لبحث وقع في مجلسه ذلك، وبالجملة القول بالانقطاع أقل تكلفا فيما يظهر، والقول بأنه حينئذ لا يبقى ارتباط لقوله سبحانه: إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ ناشىء من عدم الالتفات فلا ينبغي أن يلتفت إليه كما لا يخفى على من أحاط خبرا بما تقدم نقله فتأمل، وضمير إِنَّهُ للشأن، وما أَصابَهُمْ مبتدأ، ومُصِيبُها خبره، والجملة خبر- إن- الذي اسمه ضمير الشأن، وفي البحر إن مُصِيبُها مبتدأ، وما أَصابَهُمْ خبره، والجملة خبر إن، ويجوز على مذهب الكوفيين أن يكون مُصِيبُها خبر- إن- وما فاعل به لأنهم يجوزون أنه قائم أخواك، ومذهب البصريين أن ضمير الشأن لا يكون خبره إلا جملة مصرحا بجزأيها فلا يجوز هذا الأعراب عندهم، والأولى ما ذكر أولا، والجملة إما تعليل على طريقة الاستئناف أو خبر- لامرأتك- على قراءة الرفع، والمراد من ما العذاب، ومن أَصابَهُمْ يصيبهم والتعبيرية دونه للإيذان بتحقق الوقوع، وفي الإبهام. واسمية الجملة. والتأكيد ما لا يخفى.
إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أي موعد عذابهم وهلاكهم ذلك، وكأن هذا على ما قيل: تعليل للأمر بالإسراء والنهي عن الالتفات المشعر بالحث على الإسراع، وقوله سبحانه: أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ تأكيد للتعليل، فإن قرب الصبح داع إلى الإسراع للتباعد عن مواقع العذاب،
وروي أنه عليه السلام سأل الملائكة عليهم السلام عن وقت هلاكهم فقالوا: موعدهم الصبح، فقال: أريد أسرع من ذلك، فقالوا له: أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ.
ولعله إنما جعل ميقات هلاكهم الصبح لأنه وقت الدعة والراحة فيكون حلول العذاب حينئذ أفظع ولأنه أنسب بكون ذلك عبرة للناظرين.
وقرأ عيسى بن عمر الصُّبْحُ بضم الباء قيل: وهي لغة فلا يكون ذلك اتباعا فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا أي عذابنا أو الأمر به، فالأمر على الأول واحد الأمور، وعلى الثاني واحد الأوامر، قيل: ونسبة المجيء إليه بالمعنيين مجازية، والمراد لما حان وقوعه ولا حاجة إلى تقدير الوقت مع دلالة لما عليه.
وقيل: إنه يقدر على الثاني أي جاء وقت أمرنا لأن الأمر نفسه ورد قبله، ونحن في غنى عن ادعاء تكراره، ورجح تفسير الأمر بما هو واحد الأوامر- أعني ضد النهي- بأنه الأصل فيه لأنه مصدر أمره، وأما كونه بمعنى العذاب فيخرجه عن المصدرية الأصلية وعن معناه المشهور الشائع، ويجعل التعذيب مسببا عنه بقوله سبحانه: جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها فإنه جواب لما والتعذيب نفس إيقاع العذاب فلا يحسن جعله مسببا عن ذلك بل العكس أولى إلا أن يؤول المجيء بإرادته، وضمير عالِيَها وسافِلَها لمدائن قوم لوط المعلومة من السياق وهي المؤتفكات، وهي خمس مدائن: ميعة وصغره وعصره ودوما وسدوم.
وقيل: سبع أعظمها سدوم، وهي القرية التي كان فيها لوط عليه السلام، وكان فيها على ما
روي عن قتادة أربعة آلاف ألف إنسان أو ما شاء الله تعالى من ذلك،
وقيل: إن هذا العدد إنما كان في المدائن كلها، وقيل: إن ما كان في المدائن أكثر من ذلك بكثير، والله تعالى أعلم.
ونصب عالِيَها- وسافِلَها على أنهما مفعولان للجعل، والمراد قلبناها على تلك الهيئة وهو جعل
308
العالي سافلا، وإنما قلبت كذلك ولم يعكس تهويلا للأمر وتفظيعا للخطب لأن جعل عالِيَها الذي هو مقرهم ومسكنهم سافِلَها أشق من جعل- سافلها عاليها- وإن كان مستلزما له،
روي أن لوطا عليه السلام سرى بمن معه قبل الفجر وطوى الله تعالى له الأرض حتى وصل إلى إبراهيم عليه السلام، ثم إن جبريل عليه السلام اقتلع المدائن بيده، وفي رواية أدخل جناحه تحت المدائن فرفعها حتى سمع أهل السماء صياح الديكة ونباح الكلاب ثم قلبها،
وما أعظم حكمة الله تعالى في هذا القلب الذي هو أشبه شيء بما كانوا عليه من إتيان الإعجاز والإعراض عما تقتضيه الطباع السليمة ولا ينبغي أن يجعل الكلام كناية عن إنزال أمر عظيم فيها كما يقول القائل: اليوم قلبت الدنيا على فلان لما فيه من العدول عن الظاهر والانحراف عما نطقت به الآثار من غير داع سوى استبعاد مثل ذلك وما ذلك ببعيد، وإسناد الجعل إلى ضميره تعالى باعتبار أنه المسبب فهو إسناد مجازي باعتبار اللغة وإن كان سبحانه هو الفاعل الحقيقي. والنكتة في ذلك تعظيم الأمر وتهويله فإن ما يتولاه العظيم من الأمور فهو عظيم، ويقوي ذلك ضمير العظمة أيضا وعلى هذا الطرز قوله سبحانه: وَأَمْطَرْنا عَلَيْها أي على المدائن أو شذاذ أهلها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ وكان ذلك زيادة في تفظيع حالهم أو قطعا لشأفتهم واستئصالا لهم.
روي أن رجلا منهم كان بالحرم فبقي حجر معلق بالهواء حتى خرج منه فوقع عليه وأهلكه،
والسجيل الطين المتحجر لقوله تعالى في الآية الأخرى: حِجارَةً مِنْ طِينٍ [الذاريات: ٣٣] والقرآن يفسر بعضه بعضا، ويتعين إرجاع بعضه لبعض في قصة واحدة، وهو كما أخرج عبد بن حميد عن ابن عباس ومجاهد معرب- سنك كل-.
وقال أبو عبيدة: السجيل- كالسجين- الشديد من الحجارة، وقيل: هو من أسجله إذا أرسله أو أدر عطيته، والمعنى حجارة كائنة من مثل الشيء المرسل أو مثل العطية في الإدرار وهو على هذا خارج مخرج التهكم، وقيل: من- السجل- بتشديد اللام وهو الصك، ومعنى كونه من ذلك أنه مما كتب الله تعالى عليهم أن يعذبهم به، وقيل: أصله من سجين وهو اسم لجهنم أو لواد فيها، فأبدلت نونه لاما.
وقال أبو العالية وابن زيد: السجيل اسم لسماء الدنيا. قال أبو حيان: وهو ضعيف لوصفه بقوله سبحانه:
مَنْضُودٍ أي نضد وضع بعضه على بعض معدا لعذابهم، أو نضد في الإرسال يرسل بعضه إثر بعض كقطار الأمطار، ولا يخفى أن هذه المعاني كما تأبى ما قال أبو العالية وابن زيد تأبى بحسب الظاهر ما قيل: إن المراد به جهنم، وتكلف بعضهم فقال: يمكن وصف جهنم بذلك باعتبار المعنى الأول بناء على أنها دركات بعضها فوق بعض أو أن الأصل منضود فيه فاتسع، وقد يتكلف بنحو هذا لما قاله أبو العالية وابن زيد وجوز أن يكون مَنْضُودٍ صفة حجارة على تأويل الحجر وجره للجوار، وعليه فالأمر ظاهر إلا أنه من التكلف بمكان مُسَوَّمَةً أي عليها سيما يعلم بها أنها ليست من حجارة الأرض قاله ابن جريج، وقيل: معلمة ببياض وحمرة، وروي ذلك عن ابن عباس والحسن، وجاء في رواية أخرى عن ابن عباس أنه كان بعضها أسود فيه نقطة بيضاء وبعضها أبيض فيه نقطة سوداء.
وعن الربيع أنها كانت معلمة باسم من يرمي بها، وكان بعضها كما قيل: مثل رؤوس الإبل، وبعضها مثل مباركها، وبعضها مثل قبضة الرجل عِنْدَ رَبِّكَ أي في خزائنه التي لا يمكلها غيره سبحانه ولا يتصرف بها سواه عز وجل، والظرف قيل: منصوب- بمسومة- أو متعلق بمحذوف وقع صفة له، والمروي عن مقاتل أن المعنى أنها جاءت من عند ربك، وعن أبي بكر الهذلي أنها معدة عنده سبحانه.
وقال ابن الأنباري: المراد ألزم هذا التسويم للحجارة عنده تعالى إيذانا بقدرته وشدة عذابه فليفهم وَما هِيَ
309
أي الحجارة الموصوفة بما ذكر مِنَ الظَّالِمِينَ من كل ظالم بِبَعِيدٍ فإنهم بسبب ظلمهم مستحقون لها، وفيه وعيد لأهل الظلم كافة، وروي هذا عن الربيع.
وأخرج ابن جرير وغيره عن قتادة أن المراد من الظالمين ظالمو هذه الأمة. وجاء في خبر ذكره الثعلبي، وقال فيه العراقي: لم أقف له على إسناد
أنه صلّى الله عليه وسلم سأل جبريل عليه السلام عن ذلك فقال: يعني ظالمي أمتك ما من ظالم منهم إلا وهو بعرض حجر يسقط عليه من ساعة إلى ساعة،
وقيل: المراد بالظالمين قوم لوط عليه السلام، والمعنى لم تكن الحجارة لتخطئهم.
وعن ابن عباس أن المعنى وما عقوبتهم ممن يعمل عملهم ببعيد، وظاهره أن الضمير للعقوبة المفهومة من الكلام، والظَّالِمِينَ من يشبههم من الناس، ويمكن أن يقال: إن مراده بيان حاصل المعنى لا مرجع الضمير.
وذهب أبو حيان إلى أن الظاهر أن يكون ضمير هِيَ للقرى التي جعل عالِيَها سافِلَها والمراد من الظَّالِمِينَ ظالمو مكة، وقد كانت قريبة إليهم يمرون عليها في أسفارهم إلى الشام. وتذكير- البعيد- يحتمل أن يكون على تأويل الحجارة بالحجر المراد به الجنس، أو إجرائه على موصوف مذكر أي بشيء بعيد، أو بمكان بعيد فإنها وإن كانت في السماء وهي في غاية البعد من الأرض إلا أنها إذا هوت منها فهي أسرع شيء لحوقا بهم فكأنها بمكان قريب منهم، أو لأنه على زنة المصدر- كالزفير والصهيل- والمصادر يستوي في الوصف بها المذكر والمؤنث وَإِلى مَدْيَنَ أي أولاد مدين بن إبراهيم عليه السلام فحذف المضاف أو جعل اسما بالغلبة للقبيلة وكثيرا ما تسمى القبيلة باسم أبيهم- كمضر وتميم- ولعل هذا أولى، وجوز أن يراد بمدين المدينة التي بناها مدين فسميت به فيقدر حينئذ مضاف أي وإلى أهل مدين أَخاهُمْ نسيبهم شُعَيْباً قد مر ما قيل في نسبه عليه السلام، والجملة معطوفة على قوله سبحانه: وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً [هود: ٦١] أي وأرسلنا إلى مدين شعيبا.
قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أمر بالتوحيد على وجه أكيد ولما كان ملاك الأمر قدمه على النهي عما اعتادوه من البخس المنافي للعدل المخل بحكمة التعاوض، وإيصال الحقوق لأصحابها بقوله: وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ قيل: أي لا تنقصوا الناس من المكيال والميزان يعني مما يكال ويوزن على ذكر المحل وإرادة الحال، واستظهر أن المراد لا تنقصوا حجم المكيال عن المعهود وكذا الصنجات، وقد تقدم في [الأعراف: ٨٥] الْكَيْلَ
بدل الْمِكْيالَ فتذكر وتأمل إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ أي ملتبسين بثروة واسعة تغنيكم عن ذلك أو بنعمة من الله تعالى حقها أن تقابل بغير ما أنتم عليه بأن تتفضلوا على الناس شكرا عليها، فإن أجل شكر النعم الإحسان والتفضل على عباد الله تعالى، أو أراكم بخير وغنى فلا تزيلوه بما تأتونه من الشر، وعلى كل حال الجملة في موضع التعليل للنهي وعقب بعلة أخرى أعني قوله تعالى:
وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ إن لم تنتهوا عن ذلك عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ وجوز أن يكون تعليلا للأمر والنهي جميعا. وفسر المحيط بما لا يشذ منه أحد منهم، وفسره الزمخشري بالمهلك أخذا من قوله تعالى: وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ [الكهف: ٤٢] وأصله من إحاطة العدو، وادعى أن وصف اليوم بالإحاطة أبلغ من وصف العذاب لأن اليوم زمان يشتمل على الحوادث فإذا أحاط بعذابه فقد اجتمع للمعذب ما اشتمل عليه منه كما إذا أحاط بنعيمه يعني أن اليوم لما كان زمانا مشتملا على الحوادث الكائنة فيه عذابا أو غيره فإذا أحاط بالمعذب ملتبسا بعذابه لأنه حادثة فقد اجتمع للمعذب الأمر الذي يشتمل عليه اليوم وهو العذاب كما إذا أحاط ملتبسا بنعيمه.
والحاصل أن إحاطة اليوم تدل على إحاطة كل ما فيه من العذاب، وأما إحاطة العذاب على قوم فقد يكون بأن
310
يصيب كل فرد منهم فردا من أفراد العذاب، وأما فيما نحن فيه فيدل على إحاطة أنواع العذاب المشتمل عليها اليوم بكل فرد، ولا شك في أبلغية هذا- كذا في الكشف- وتمام الكلام فيه، وقال بعض المحققين في بيان الأبلغية: إن اليوم زمان لجميع الحوادث فيوم العذاب زمان جميع أنواع العذاب الواقعة فيه فإذا كان محيطا بالمعذب فقد اجتمع أنواع العذاب له، وهذا كقوله:
إن المروءة والسماحة والندى في قبة ضربت على ابن الحشرج
فإن وقوع العذاب في اليوم كوجود الأوصاف في القبة، وجعل اليوم محيطا بالمعذب كضرب القبة على الممدوح فكما أن هذا كناية عن ثبوت تلك الأوصاف له كذلك ذاك كناية عن ثبوت أنواع العذاب للمعذب، وأما وصف العذاب بالإحاطة ففيه استعارة إحاطته لاشتماله على المعذب فكما أن المحيط لا يفوته شيء من أجزاء المحاط لا يفوت العذاب شيء من أجزاء المعذب، وهذه الاستعارة تفيد أن العذاب لكل المعذب وتلك الكناية تفيد أن كل العذاب له، ولا يخفى ما بينهما من التفاوت في الأبلغية، وجوز أن يكون مُحِيطٍ نعتا- لعذاب- وجر للجوار، وقيل: هو نعت- ليوم- جار على غير من هو له، والتقدير- عذاب يوم محيط عذابه- وليس بشيء كما لا يخفى، وأيا ما كان فالمراد عذاب يوم القيامة أو عذاب الاستئصال في الدنيا، وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه فسر الخير برخص السعر. والعذاب بغلائه.
وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ أي أتموهما، وفائدة التصريح بذلك مع أن الانتهاء المطلوب من النهي السابق لا يتحقق بدون الإتمام فيكون مطلوبا تبعا، وهذا مسلم على المذاهب جعل النهي عن الشيء عين الأمر بالضد أو مستلزما له تضمنا أو التزاما لأن الخلاف في مقتضى اللفظ لا أن التحريم أو الوجوب ينفك عن مقابلة الضد غير واحدة النعي بما كانوا عليه من القبيح وهو النقص مبالغة في الكف، ثم الأمر بالضد مبالغة في الترغيب وإشعارا بأنه مطلوب أصالة وتبعا مع الإشعار بتبعية الكف عكسا، وتقييده بقوله سبحانه: بِالْقِسْطِ أي بالعدل من غير زيادة ولا نقصان، ثم إدماج أن المطلوب من الإتمام العدل، ولهذا قد يكون الفضل محرما كما في الربويات، وإلى هذا يشير كلام الزمخشري، وظاهره حمل المكيال والميزان على ما يكال ويوزن، وحملهما بعضهم في الموضعين على الآلتين المعروفتين، وفسر القسط بما ذكرنا ثم قال: إن الزيادة في الكيل والوزن وإن كانت تفضلا مندوبا إليه لكنها في الآلة محظورة كالنقص، فلعل الزائد للاستعمال عند الاكتيال والناقص للاستعمال عند الكيل.
وفائدة الأمر بتسوية الآلتين وتعديلهما بعد النهي عن نقصهما المبالغة في الحمل على الإيفاء والمنع والبخس، والتنبيه على أنه لا يكفيهم مجرد الكف عن النقص والبخس بل يجب عليهم إصلاح ما أفسدوه وجعلوه معيارا لظلمهم وقانونا لعدوانهم، وفيه حمل اللفظ على المتبادر منه، فإن الحمل على المعنى الآخر مجاز كما أشرنا إليه، وادعى الفاضل الحلبي أن هذا الأمر بعد النهي السابق ليس من باب التكرار في شيء، فقال: إن النهي قد كان عن نقص حجم المكيال وصنجات الميزان، والأمر بإيفاء المكيال والميزان حقهما بأن لا ينقص في الكيل والوزن، وهذا الأمر بعد مساواة المكيال والميزان للمعهود فلا تكرار كيف ولو كان تكريرا للتأكيد والمبالغة لم يكن موضع الواو لكمال الاتصال بين الجملتين انتهى.
وتعقب بأن حمل هذين اللفظين- وقد تكررا- في أحد الموضعين على أحد معنيين متغايرين خلاف الظاهر، وأن في التكرار من الفوائد ما جعله أقوى من التأسيس فلا ينبغي الهرب منه، وأما العطف فلأن اختلاف المقاصد في ذينك المتعاطفين جعلهما كالمتغايرين فحسن ذلك، وقد صرح به أهل المعاني في قوله سبحانه: يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ [البقرة: ٤٩، إبراهيم: ٦] انتهى.
311
وفي ورود ما تعقب به أو لا تأمل فتأمل، وقوله تعالى: وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ يحتمل أن يكون تعميما بعد تخصيص فإنه يشمل الجودة والرداءة وغير المكيل والموزون أيضا فهو تذييل وتتميم لما تقدم، وكذا قوله سبحانه:
وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ فإن العثي يعم تنقيص الحقوق وغيره لأنه عبارة عن مطلق الفساد، وفعله من باب رمى وسعى ورضي، وجاء واويا ويائيا، ويحتمل أن يكون نهيا عن بخس المكيل والموزون بعد النهي عن نقص المعيار والأمر بإيفائه أي لا تنقصوا الناس بسبب نقص المكيال والميزان وعدم اعتدالهما أشياءهم التي يشترونها بهما، والتصريح بهذا النهي بعد ما علم في ضمن النهي، والأمرين السابقين للاهتمام بشأنه والترغيب في إيفاء الحقوق بعد الترهيب والزجر عن نقصها، وإلى كل من الاحتمالين ذهب بعض، وهو مبني على ما علمت من الاختلاف السابق في تفسير ما سبق، وقيل: المراد بالبخس المكس كأخذ العشور على نحو ما يفعل اليوم، والعثي- السرفة وقطع لطريق والغارة، ومُفْسِدِينَ حال من ضمير تَعْثَوْا، وفائدة ذلك إخراج ما يقصد به الإصلاح كما فعل الخضر عليه السلام من قتل الغلام. وخرق السفينة فهو حال مؤسسة، وقيل: ليس الفائدة الإخراج المذكور فإن المعنى- لا تعثوا في الأرض بتنقيص الحقوق مثلا مفسدين مصالح دينكم وأمر آخرتكم- ومآل ذلك على ما قيل: إلى تعليل النهي كأنه قيل: لا تفسدوا في الأرض فإنه مفسد لدينكم وآخرتكم بَقِيَّتُ اللَّهِ قال ابن عباس: أي ما أبقاه سبحانه من الحلال بعد الإيفاء خَيْرٌ لَكُمْ مما تجمعون بالبخس، فإن ذلك هباء منثور بل هو شر محض وإن زعمتم أنه خير إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي بشرط أن تؤمنوا إذ مع الكفر لا خير في شيء أصلا، أو إن كنتم مصدقين بي في مقالتي لكم، وفي رواية أخرى عن الحبر أنه فسر البقية بالرزق.
وقال الربيع هي وصيته تعالى، وقال مقاتل: ثوابه في الآخرة، وقال الفراء: مراقبته عز وجل، وقال قتادة: ذخيرته، وقال الحسن: فرائضه سبحانه.
وزعم ابن عطية أن كل هذا لا يعطيه لفظ الآية وإنما معناه الإبقاء وهو مأخوذ مما روي عن ابن جريج أنه قال:
المعنى إبقاء الله تعالى النعيم عليكم خير لكم مما يحصل من النقص بالتطفيف، وأيا ما كان فجواب الشرط محذوف يدل عليه ما قبله على ما ذهب إليه جمهور البصريين وهو الصحيح، وقرأ إسماعيل بن جعفر عن أهل المدينة «بقية» بتخفيف الياء قال ابن عطية: وهي لغة، قال أبو حيان: إن حق وصف فعل اللازم أن يكون على وزن فاعل نحو شجيت المرأة فهي شجية فإذا شددت الياء كان على وزن فعيل للمبالغة، وقرأ الحسن- تقية الله- بالتاء والمراد تقواه سبحانه ومراقبته الصارفة عن المعاصي وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ أحفظكم من القبائح أو أحفظ عليكم أعمالكم وأجازيكم بها وإنما أنا ناصح مبلغ وقد أعذرت إذ أنذرت ولم آل جهدا، أو ما أنا بحافظ عليكم نعم الله تعالى لو لم تتركوا سوء صنيعكم.
قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا من الأصنام أجابوا بذلك أمره عليه السلام إياهم بعباده الله تعالى وحده المتضمن لنهيهم عن عبادة الأصنام وغرضهم منه إنكار الوحي الآمر لكنهم بالغوا في ذلك إلى حيث أنكروا أن يكون هناك آمر من العقل وزعموا أن ذلك من أحكام الوسوسة والجنون قاتلهم الله أنى يؤفكون، وعلى هذا بنوا استفهامهم وأخرجوا كلامهم وقالوا بطريق الاستهزاء: أَصَلاتُكَ التي هي من نتائج الوسوسة وأفاعيل المجانين تأمرك بأن نترك ما استمر على عبادته آباؤنا جيلا بعد جيل من الأوثان والتماثيل، وإنما جعلوه عليه السلام مأمورا مع أن الصادر عنه إنما هو الأمر بعبادة الله تعالى وغير ذلك من الشرائع لأنه عليه السلام لم يكن يأمرهم من تلقاء نفسه بل من جهة الوحي وأنه كان يعلمهم بأنه مأمور بتبليغه إليهم، وتخصيصهم إسناد الأمر إلى الصلاة من بين سائر
312
أحكام النبوة لأنه عليه السلام كان كثير الصلاة معروفا بذلك، بل أخرج ابن عساكر عن الأحنف أنه عليه السلام كان أكثر الأنبياء صلاة، وكانوا إذا رأوه يصلي يتغامزون ويتضاحكون فكانت هي من بين شعائر الدين ضحكة لهم، وقيل:
إن ذلك لأنه عليه السلام كان يصلي ويقول لهم: إن الصلاة تأمر بالمعروف وتنهى عن الفحشاء والمنكر، وروي هذا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وإلى الأول ذهب غير واحد، وهذا الإسناد حقيقي لا مجازي غاية ما في الباب أنهم قصدوا الحقيقة تهكما، واختيار المضارع ليدل على العموم بحسب الزمان، وقوله سبحانه: أَنْ نَتْرُكَ على تقدير بتكليف أن نترك- فحذف المضاف وهو تكليف، فدخل الجار على أَنْ ثم حذف وحذفه قبلها مطرد، وعرف التخاطب في مثله يقتضي ذلك، وقيل: إن الداعي إليه أن الشخص لا يكلف بفعل غيره لأنه غير مقدور له أصلا، وقيل: لا تقدير، والمعنى- أصلاتك تأمرك بما ليس في وسعك وعهدتك من أفاعيل غيرك- وغرضهم من ذلك التعريض بركاكة رأيه وحاشاه عليه السلام، والاستهزاء به من تلك الجهة، وتعقب بأنه يأباه دخول الهمزة على الصلاة دون الأمر، ويستدعي أن يصدر عنه عليه السلام في أثناء الدعوة ما يدل على ذلك أو يوهمه، وأنى ذلك؟ فتأمل، وقرأ أكثر السبعة- أصلواتك- بالجمع، وأمر الجمع بين القراءتين سهل، وقوله تعالى: أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا أجابوا به أمره عليه السلام بإيفاء الحقوق ونهيه عن البخس والنقص وهو عطف على ما وأو بمعنى الواو أي وأن نترك فعلنا ما نشاء في أموالنا من التطفيف وغيره، ولا يصح عطفه على أَنْ نَتْرُكَ لاستحالة المعنى إذ يصير حينئذ- تأمرك بفعلنا في أموالنا ما نشاء من التطفيف وغيره- وهم منهيون عن ذلك لا مأمورون به، وحمل ما على ما أشرنا إليه هو الظاهر، وقيل: كانوا يقرضون الدراهم والدنانير ويجرونها مع الصحيحة على جهة التدليس فنهوا عن ذلك فقالوا ما قالوا، وروي هذا عن محمد بن كعب، وأدخل بعضهم ذلك الفعل في العثي في الأرض فيكون النهي عنه نهيا عنه. ولا مانع من اندراجه في عموم ما، وقرأ الضحاك بن قيس وابن أبي عبلة وزيد بن علي- بالتاء- في الفعلين على الخطاب فالعطف على مفعول تَأْمُرُكَ أي- أصلاتك تأمرك أن تفعل في أموالنا ما تشاء أي من إيفاء المكيال والميزان- كما هو الظاهر، وقيل: من الزكاة، فقد كان عليه السلام يأمرهم بها كما روي عن سفيان الثوري، قيل: وفي الآية على هذا مع حمل الصلاة على ما يتبادر منها دليل على أنه كان في شريعته عليه السلام صلاة وزكاة، وأيد بما روي عن الحسن أنه قال: لم يبعث الله تعالى نبيا إلا فرض عليه الصلاة والزكاة، وأنت تعلم أن حمل ما نَشؤُا على الزكاة غير متعين بل هو خلاف ظاهر السوق، وحمل الصلاة على ذلك وإن كان ظاهرا إلا أنه روى ابن المنذر وغيره عن الأعمش تفسيرها بالقراءة، ونقل عن غيره تفسيرها بالدعاء الذي هو المعنى اللغوي لها.
وعن أبي مسلم تفسيرها بالدين لأنها من أجل أموره، وعلى تقدير أن يراد منها الصلاة بالمعنى الآخر لا تدل الآية على أكثر من أن يكون له عليه السلام صلاة، ولا تدل على أنها من الأمور المكلف بها أحد من أمته فيمكن أن يكون ذلك من خصوصياته عليه السلام، وما روي عن الحسن ليس نصا في الغرض كما لا يخفى، هذا وجوز أن يكون العطف على هذه القراءة على ما وتعقب بأنه يستدعي أن يحمل الترك على معنيين مختلفين ولا يترك على ما يتبادر منه.
وقرأ أبو عبد الرحمن وطلحة بالنون في الأول والتاء في الثاني، والعطف على مفعول تَأْمُرُكَ والمعنى ظاهر مما تقدم إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ وصفوه عليه السلام بهذين الوصفين الجليلين على طريقة الاستعارة التهكمية، فالمراد بهما ضد معناهما، وهذا هو المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وإليه ذهب قتادة والمبرد.
وجوز أن يكونوا وصفوه بذلك بناء على الزعم، والجملة تعليل لما سبق من استبعاد ما ذكروه كأنهم قالوا: كيف
313
تكلفنا بما تكلفنا مع أنك أنت الحليم الرشيد بزعمك وقيل: يجوز أن يكون تعليلا باقيا على ظاهره بناء على أنه عليه السلام كان موصوفا عندهم بالحلم والرشد، وكان ذلك بزعمهم مانعا من صدور ما صدر منه عليه السلام، ورجح الأول بأنه الأنسب بما قبله لأنه تهكم أيضا، ورجح الأخير بأنه يكون الكلام عليه نظير ما مر في قصة صالح عليه السلام من قولهم له: قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا [هود: ٦٢] وتعقيبه بمثل ما عقب به ذلك حسبما تضمنه قوله سبحانه:
قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ حجة ظاهرة مِنْ رَبِّي ومالك أموري وَرَزَقَنِي مِنْهُ من لدنه سبحانه رِزْقاً حَسَناً هو النبوة والحكمة يدل على ذلك، والجواب عليه من باب إرخاء العنان. والكلام المنصف كأنه عليه السلام قال: صدقتم فيما قلتم إني لم أزل مرشدا لكم حليما فيما بينكم لكن ما جئت به ليس غير الإرشاد والنصيحة لكم، انظروا بعين الإنصاف وأنتم ألباء إن كنت على حجة واضحة ويقين من ربي وكنت نبيا على الحقيقة أيصح لي وأنا مرشدكم والناصح لكم أن لا آمركم بترك عبادة الأوثان والكف عن المعاصي والأنبياء لا يبعثون إلا لذلك؟ ثم إنه عليه السلام أكد معنى الإرشاد، وأدرج معنى الحلم فيما سيأتي من كلامه صلّى الله عليه وسلم كذا قرره العلامة الطيبي.
واختار شيخ الإسلام عدم كونه باقيا على الظاهر لما أن مقام الاستهزاء آب عنه، وذكر قدس سره أن المراد بالبينة والرزق الحسن النبوة والحكمة، وأن التعبير عنهما بذلك للتنبيه على أنهما مع كونهما بينة رزق حسن كيف لا وذلك مناط الحياة الأبدية له عليه السلام ولأمته؟ وأن هذا الكلام منه عليه السلام رد على مقالتهم الشنعاء المتضمنة زعم عدم استناد أمره ونهيه إلى سند، ثم قال: وجواب الشرط محذوف يدل عليه فحوى الكلام أي أتقولون والمعنى أنكم عددتم ما صدر عني من الأوامر والنواهي من قبيل ما لا يصح أن يتفوه به عاقل وجعلتموه من أحكام الوسوسة والجنون واستهزأتم بي وبأفعالي وقلتم ما قلتم، فأخبروني إن كنت من جهة ربي ومالك أموري ثابتا على النبوة والحكمة التي ليس وراءها غاية للكمال ولا مطمح لطامح ورزقني لذلك رزقا حسنا أتقولون في شأني وشأن أفعالي ما تقولون مما لا خير فيه ولا شر وراءه؟! وادّعى أن هذا هو الجواب الذي يستدعيه السياق ويساعده النظم الكريم.
وفسر القاضي- الرزق الحسن- بما آتاه الله تعالى من المال الحلال، ومعنى كون ذلك منه تعالى أنه من عنده سبحانه وبإعانته بلا كد في تحصيله، وقدر جواب الشرط فهل يسع لي مع هذا الإنعام الجامع للسعادة الروحانية والجسمانية أن أخون في وحيه وأخالفه في أمره ونهيه، وذكر أن هذا الكلام منه عليه السلام اعتذار عما أنكروا عليه من تغيير المألوف والنهي عن دين الآباء، وقدر بعضهم ما قدره العلامة الطيبي.
وزعم شيخ الإسلام أن ذينك التقديرين بمعزل عما يستدعيه السياق، وأنهما إنما يناسبان إن حمل كلامهم على الحقيقة وأريد بالصلاة الدين حسبما نقل عن أبي مسلم وعطاء، ويكون المراد بالرزق الحسن على ذلك ما آتاه الله تعالى من الحلال فقط كما روي عن الضحاك ويكون المعنى حينئذ أخبروني إن كنت نبيا من عند الله تعالى ورزقني مالا حلالا أستغني به عن العالمين أيصح أن أخالف أمره أو أوافقكم فيما تأتون وما تذرون انتهى.
وأقول: لا يخفى أن المناسب للمقام حمل الرزق الحسن على ما آتاه الله تعالى من الحلال الخالي عن التطفيف والبخس، وتقدير جواب الشرط نحو ما قدره القاضي ليس في الكلام ما يأبى عنه، ولا يتوقف على حمل الكلام على الحقيقة والصلاة على الدين بل يتأتى تقدير ذلك، ولو كان الكلام على سبيل التهكم والصلاة بالمعنى المتبادر بأن يقال: إنهم قاتلهم الله تعالى لما قالوا في ظلال الضلال وقالوا ما قالوا في حق نبيهم وما صدر منه من الأفعال لم يكن لهم مقصود إلا ترك الدعوة وتركهم وما يفعلون، ولم يتعرض عليه السلام صريحا لرد قولهم المتضمن لرميه- وحاشاه بالوسوسة والجنون والسفه والغواية- إيذانا بأن ذلك مما لا يستحق جوابا لظهور بطلانه وتعرض
314
لجوابهم عما قصدوه بكلامهم ذلك بما يكون فيه قطع أطماعهم من أول الأمر مع الإشارة إلى رد ما تضمنته مقالتهم الشنعاء فكأنه عليه السلام قال لهم: يا قوم إنكم اجترأتم على هذه المقالة الشنيعة وضمنتموها ما هو ظاهر البطلان لقصد أن أترككم وشأنكم من عبادة الأوثان ونقص المكيال والميزان فأخبروني إن كنت نبيا من عند الله تعالى ومستتنيا بما رزقني من المال الحلال عنكم وعن غيركم أيصح أن أخالف وحيه وأوافق هواكم لا يكون ذلك مني أصلا فإذن لا فائدة لكم في هذا الكلام الشنيع، وربما يقال: إن في هذا الجواب إشارة إلى وصفهم بنحو ما وصفوه به عليه السلام كأنه قال: إن طلبكم مني ترك الدعوة وموافقة الهوى مع أني مأمور بدعوتكم وغني عنكم مما لا يصدر عن عاقل ولا يرتكبه إلا سفيه غاو، وكأن التعرض لذكر الرزق مع الكون على بينة للإشارة إلى وجود المقتضي وارتفاع ما يظن مانعا، ولا يخفى ما في إخراج الجواب على هذا الوجه من الحسن فتأمل.
بقي أن الذي ذكره النحاة على ما قال أبو حيان في مثل هذا الكلام أعني أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ إلخ أن تقدر الجملة الاستفهامية على أنها في موضع المفعول الثاني- لأرأيتم- المتضمنة معنى أخبروني المتعدية إلى مفعولين والغالب في الثاني أن يكون جملة استفهامية، وجواب الشرط ما يدل عليه الجملة السابقة مع متعلقها، والتقدير- إن كنت على بينة من ربي فأخبروني هل يسع لي- إلخ فافهم ولا تغفل وَما أُرِيدُ بنهيي إياكم عما أنهاكم عنه عن البخس والتطفيف أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ أي أقصده بعد ما وليتم عنه فأستبد به دونكم كما هو شأن بعض الناس في المنع عن بعض الأمور يقال: خالفني فلان إلى كذا إذا قصده وأنت مول عنه، وخالفني عنه إذا ولى عنه وأنت قاصده.
قال في البحر: والظاهر على ما ذكروه أن أَنْ أُخالِفَكُمْ في موضع المفعول به- لأريد- أي وما أريد مخالفتكم، ويكون خالف بمعنى خلف نحو جاوز وجاز، ويكون المعنى وما أريد أن أكون خلفا منكم، وإِلى متعلقة بأخالف أو بمحذوف أي مائلا إلى ما أنهاكم عنه، وقيل: في الكلام فعل محذوف معطوف على المذكور أي وأميل إلى إلخ، ويجوز أن يبقى أخالف على ظاهره من المخالفة، ويكون إِنْ وما بعدها في موضع المفعول به- لأريد- ويقدر مائلا إلى كما تقدم، أو يكون إِنْ وما بعدها في موضع المفعول له، وإِلى ما متعلقا- بأريد- أي وما أقصد لأجل مخالفتكم إلى ما أنهاكم عنه، وقال الزجاج في معنى ذلك: أي ما أقصد بخلافكم إلى ارتكاب ما أنهاكم عنه إِنْ أُرِيدُ أي ما أريد بما أقول لكم إِلَّا الْإِصْلاحَ أي إلا أن أصلحكم بالنصيحة والموعظة مَا اسْتَطَعْتُ أي مدة استطاعتي ذلك وتمكني منه لا آلو فيه جهدا- فما- مصدرية ظرفية.
وجوز فيها أن تكون موصولة بدلا من الإصلاح أي المقدار الذي استطعته أو إِلَّا الْإِصْلاحَ إصلاح ما استطعت، وهي إما بدل بعض أو كل لأن المتبادر من الإصلاح ما يقدر عليه، وقيل: بدل اشتمال، وعليه وعلى الأول يقدر ضمير أي منه لأنه في مثل ذلك لا بد منه وجوز أيضا أن تكون مفعولا به للمصدر المذكور كقوله:
ضعيف النكاية أعداءه يخال الفرار يراخي الأجل
أي ما أريد إلا أن أصلح ما استطعت إصلاحه من فاسدكم، والأبلغ الأظهر ما قدمناه لأن في احتمال البدلية إضمارا وفوات المبالغة وفي الاحتمال الأخير إعمال المصدر المعرف في المفعول به، وفيه- مع أنه لا يجوز عند الكوفيين ويقل عند البصريين- فواتها، وزيادة إضمار مفعول «استطعت» وَما تَوْفِيقِي أي ما كوني موفقا لتحقيق ما أتوخاه من إصلاحكم إِلَّا بِاللَّهِ أي بتأييده سبحانه ومعونته.
واختار بعضهم أن يكون المراد- وما توفيقي لإصابة الحق والصواب في كل ما آتي وأذر إلا بهدايته تعالى
315
ومعونته- والظاهر أن المراد وما كل فرد من أفراد توفيقي لما صرحوا به من أن المصدر المضاف من صيغ العموم، ويؤول إلى هذا ما قيل: إن المعنى ما جنس توفيقي لأن انحصار الجنس يقتضي انحصار أفراده لكن على الأول بطريق المفهوم. وعلى الثاني بطريق المنطوق، وتقدير المضاف بعد الباء مما التزمه كثير، وفيه على ما قيل: دفع الاستكشال بأن فاعل التوفيق هو الله تعالى، وأهل العربية يستقبحون نسبة الفعل إلى الفاعل بالباء لأنها تدخل على الآلة فلا يحسن ضربي بزيد، وإنما يقال: من زيد، فالاستعمال الفصيح بناء على هذا- وما توفيقي إلا من عند الله ووجه الدفع بذلك التقدير ظاهر لأن الدخول ليس على الفاعل حينئذ.
وجوز أن يكون ذلك التقدير لما أن التوفيق وهو كون فعل العبد موافقا لما يحبه الله تعالى ويرضاه لا يكون إلا بدلالة الله تعالى عليه، ومجرد الدلالة لا يجدي بدون المعونة منه عز شأنه عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ في ذلك، أو في جميع أموري لا على غيره فإنه سبحانه القادر المتمكن من كل شيء، وغيره سبحانه عاجز في حد ذاته بل معدوم ساقط عن درجة الاعتبار كما أشار إليه الكتاب وعاينه أولو البصائر والألباب وَإِلَيْهِ أُنِيبُ أي أرجع فيما أنا بصدده، أو أقبل بشراشري في مجامع أموري لا إلى غيره، والجملة معطوفة على ما قبلها، وكأن إيثار صيغة الاستقبال فيها على الماضي الأنسب للتقرر والتحقق كما في التوكل لاستحضار الصورة والدلالة على الاستمرار، ولا يخفى ما في جوابه عليه السلام مما لا يكاد يوجد في كلام خطيب إلا أن يكون نبيا.
وفي أنوار التنزيل أن لأجوبته عليه السلام الثلاثة يعني يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إلخ وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إلخ وإِنْ أُرِيدُ إلخ على هذا النسق شأنا، وهو التنبيه على أن العاقل يجب أن يراعي في كل ما يأتيه ويذره ثلاثة حقوق أهمها وأعلاها حق الله تعالى، فإن الجواب الأول متضمن بيان حق الله تعالى من شكر نعمته والاجتهاد في خدمته.
وثانيها حق النفس، فإن الجواب الثاني متضمن بيان حق نفسه من كفها عما ينبغي أن ينتهي عنه غيره. وثالثها حق الناس فإن الجواب الثالث متضمن للإشارة إلى أن حق الغير عليه إصلاحه وإرشاده وإنما لم يعطف قوله: إِنْ أُرِيدُ إلخ على ما قبله لكونه مؤكدا ومقررا له لأنه لو أراد الاستئثار بما نهى عنه لم يكن مريدا للإصلاح، ولا ينافي هذا كونه متضمنا لجواب آخر، وكأن قوله: وَما تَوْفِيقِي إلخ إزاحة لما عسى أن يوهمه إسناد الاستطاعة إليه بإرادته من استبداده بذلك، ونظير ذلك إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: ٥] وفيه مع ما بعده إشارة إلى محض التوحيد، وقال غير واحد: إنه قد اشتمل كلامه عليه السلام على مراعاة لطف المراجعة ورفق الاستنزال والمحافظة على حسن المجاراة والمحاورة، وتمهيد معاقد الحق بطلب التوفيق من جانبه تعالى والاستعانة به عز شأنه في أموره وحسم أطماع الكفار وإظهار الفراغ عنهم وعدم المبالاة بمعاداتهم، وقيل: وفيه أيضا تهديدهم بالرجوع إلى الله تعالى للجزاء، وذلك من قوله: وَإِلَيْهِ أُنِيبُ لأن الرجوع إليه سبحانه يكنى به عن الجزاء وهو وإن كان هنا مخصوصا به لاقتضاء المقام له لكنه لا فرق فيه بينه وبين غيره، وفيه مع خفاء وجه الإشارة أن الإنابة إنما هي الرجوع الاختياري بالفعل إليه سبحانه لا الرجوع الاضطراري للجزاء وما يعمه، وقد يقال: إن في قوله: عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ إشارة أيضا إلى تهديدهم لأنه عز وجل الكافي المعين لمن توكل عليه لكن لا يتعين أن يكون ذلك تهديدا بالجزاء يوم القيامة وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ أي لا يكسبنكم شِقاقِي أي معاداتي، وأصلها أن أحد المتعاديين يكون في عدوة وشق والآخر في آخر، وروي هذا عن السدي وعن الحسن ضراري، وعن بعض فراقي، والكل متقارب، وهو فاعل- يجرمنكم- والكاف مفعوله الأول، وقوله سبحانه: أَنْ يُصِيبَكُمْ مفعوله الثاني، وقد جاء تعدي- جرم- إلى مفعولين كما جاء تعديها لواحد وهي مثل كسب في ذلك، ومن الأول قوله:
316
ولقد طعنت أبا عيينة طعنة «جرمت» فزارة بعدها أن يغضبوا
وإضافة- شقاق- إلى ياء المتكلم من إضافة المصدر إلى مفعوله أي لا يكسبنكم شقاقكم إياي أن يصيبكم مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ من الغرق أَوْ قَوْمَ هُودٍ من الريح أَوْ قَوْمَ صالِحٍ من الرجفة والصيحة ونهي الشقاق مجاز أو كناية عن نهيهم وهو أبلغ من توجيه النهي إليهم لأنه إذا نهى وهو لا يعقل علم نهي المشاقين بالطريق الأولى، وقرأ ابن وثاب والأعمش «يجرمنكم» بضم الياء، وحكي أيضا عن ابن كثير وهو حينئذ من أجرمته ذنبا إذا جعلته جارما له أي كاسبا، والهمزة للنقل من جرم المتعدي إلى مفعول واحد، ونظيره في النقل كذلك كسب المال فإنه يقال فيه أكسبه المال والقراءتان سواء في المعنى إلا أن المشهورة جارية على ما هو الأكثر استعمالا في كلام الفصحاء من العرب الموثوق بعربيتهم، وقرأ مجاهد والجحدري، وابن أبي إسحاق «مثل» بالفتح، وروي ذلك عن نافع، وخرجه جمع على أن «مثل» فاعل أيضا إلا أنه بني على الفتح لإضافته إلى غير متمكن، وقد جوز فيه وكذا في غير مع- ما وأن- المخففة والمشددة ذلك كالظروف المضافة للمبني، وعلى هذا جاء قوله:
لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت حمامة في غصون ذات أو قال
وبعض على أنه نعت لمصدر محذوف والفتحة إعراب أي إصابة مثل إصابة قوم نوح، وفاعل يُصِيبَكُمْ ضمير مستتر يعود على العذاب المفهوم من السياق وفيه تكلف وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ
زمانا كما روي عن قتادة أو مكانا كما روي عن غيره ومراده عليه السلام أنكم إن لم تعتبروا بمن قبل لقدم عهد أو بعد مكان فاعتبروا بهؤلاء فإنهم بمرأى ومسمع منكم وكأنه إنما غير أسلوب التحذير بهم واكتفى بذكر قربهم إيذانا بأن ذلك مغن عن ذكر ما أصابهم لشهرة كونه منظوما في سمط ما ذكر من دواهي الأمم المرقومة، وجوز أن يراد بالبعد البعد المعنوي أي ليسوا ببعيد منكم في الكفر والمساوي، فاحذروا أن يحل بكم ما حل بهم من العذاب، وقد أخذ هذا المعنى بعض المتأخرين فقال:
فإن لم تكونوا قوم لوط بعينهم فما قوم لوط منكم ببعيد
وإفراد «بعيد» وتذكيره مع كون المخبر عنه وهو قوم اسم جمع، ومؤنثا لفظا على ما نص عليه الزمخشري، واستدل له بتصغيره على قويمة وذلك يقتضي أن يقال: ببعيدة موافقة للفظ وببعداء موافقة للمعنى لأن المراد، وما إهلاكهم أو وما هم بشيء بعيد، أو وما هم في زمان بعيد أو مكان بعيد، وجوز أن يكون ذلك لأنه يستوي في بعيد المذكر والمؤنث لكونه على زنة المصادر كالنهيق والصهيل. وفي الكشف عن الجوهري أن القوم يذكر ويؤنث لأن أسماء الجموع التي لا واحد لها من لفظها إذا كانت للآدميين تذكر وتؤنث مثل رهط ونفر وقوم وإذا صغرت لم تدخل فيه الهاء، وقلت: قويم ورهيط ونفير، ويدخل الهاء فيما يكون لغير الآدميين مثل الإبل والغنم لأن التأنيث لازم وبينه وبين ما نقل عن الزمخشري بون بعيد، وعليه فلا حاجة إلى التأويل، هذا ثم إنه عليه السلام لما أنذرهم سوء عاقبة صنيعهم عقبه طمعا في اروعائهم عما هم فيه من الضلال بالحمل على الاستغفار والتوبة فقال: وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ مر تفسير مثله إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ عظيم الرحمة فيرحم من يطلب منه المغفرة وَدُودٌ أي كثير الود والمحبة فيحب من يتوب ويرجع إليه، والمشهور جعل الودود مجازا باعتبار الغاية أي مبالغ في فعل ما يفعل البليغ المودة بمن يوده من اللطف والإحسان.
وجوز أن يكون كناية عند من لم يشترط إمكان المعنى الأصلي، والداعي لارتكاب المجاز أو الكناية على ما قيل: إن المودة بمعنى الميل القلبي وهو مما لا يصح وصفه تعالى به، والسلفي يقول: المودة فينا الميل المذكور، وفيه
317
سبحانه وراء ذلك مما يليق بجلال ذاته جل جلاله، وقيل: معنى وَدُودٌ متحبب إلى عباده بالإحسان إليهم، وقيل:
محبوب المؤمنين، وتفسيره هنا بما تقدم أولى، والجملة في موضع التعليل للأمر السابق ولم يعتبر الأكثر ما أشرنا إليه من نحو التوزيع، فقال: عظيم الرحمة للتائبين مبالغ في اللطف والإحسان بهم، وهو مما لا بأس به قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ أي ما نفهم ذلك كأنهم جعلوا كلامه المشتمل على فنون الحكم والمواعظ وأنواع العلوم والمعارف إذ ضاقت عليهم الحيل وعيت بهم العلل ولم يجدوا إلى محاورته عليه السلام سبيلا من قبيل التخليط والهذيان الذي لا يفهم معناه ولا يدرك فحواه، وقيل: قالوا ذلك استهانة به عليه السلام كما يقول الرجل لمن لا يعبأ به:
لا أدري ما تقول، وليس فيه كثير مغايرة للأول، ويحتمل أن يكون ذلك لعدم توجههم إلى سماع كلامه عليه السلام لمزيد نفرتهم عنه أو لغباوتهم وقصور عقولهم، قيل: وقولهم كَثِيراً للفرار عن المكابرة ولا يصح أن يراد به الكل وإن ورد في اللغة لأن مما تقول يأبى ذلك كما أن كَثِيراً نفسه يأبى حمل كلامهم هذا على أنه كناية عن عدم القبول، وزعم بعضهم أنهم إنما لم يفقهوا كثيرا مما يقول لأنه عليه السلام كان ألثغ، وأظن أنه لم يفصح بذلك خبر صحيح على أن ظاهر ما جاء من وصفه عليه السلام بأنه خطيب الأنبياء يأبى ذلك. ولعل صيغة المضارع للإيذان بالاستمرار وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا أي فيما بيننا ضَعِيفاً لا قوة لك ولا قدرة على شيء من الضر والنفع والإيقاع والدفع.
وروي عن ابن عباس وابن جبير وسفيان الثوري وأبي صالح تفسير الضعيف بالأعمى وهي لغة أهل اليمن، وذلك كما يطلقون عليه ضريرا وهو من باب الكناية على ما نص عليه البعض، وإطلاق البصير عليه كما هو شائع من باب الاستعارة تمليحا، وضعف هذا التفسير بأن التقييد بقولهم: فينا بصير لغوا لأن من كان أعمى يكون أعمى فيهم وفي غيرهم وإرادة لازمه وهي الضعف بين من ينصره ويعاديه لا يخفى تكلفه، ومن هنا قال الإمام: جوز بعض أصحابنا العمى على الأنبياء عليهم السلام لكن لا يحسن الحمل عليه هنا، وأنت تعلم أن المصحح عند أهل السنة أن الأنبياء عليهم السلام ليس فيهم أعمى، وما حكاه الله تعالى عن يعقوب عليه السلام كان أمرا عارضا وذهب.
والأخبار المروية عمن ذكرنا في شعيب عليه السلام لم نقف على تصحيح لها سوى ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فإن الحاكم صحح بعض طرقه لكن تصحيح الحاكم كتضعيف ابن الجوزي غير معول عليه، وربما يقال فيه نحو ما قيل في يعقوب عليه السلام،
فقد أخرج الواحدي وابن عساكر عن شداد بن أوس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «بكى شعيب عليه السلام من حب الله تعالى حتى عمي فرد الله تعالى عليه بصره وأوحى إليه يا شعيب ما هذا البكاء أشوقا إلى الجنة أم خوفا من النار، فقال: لا ولكن اعتقدت حبك بقلبي فإذا نظرت إليك فلا أبالي ما الذي تصنع بي، فأوحى الله تعالى إليه يا شعيب إن يكن ذلك حقا فهنيئا لك لقائي يا شعيب لذلك أخدمتك موسى ابن عمران كليمي»،
وذهب بعض المعتزلة إلى أنه لا يجوز استنباء الأعمى لكونه صفة منفرة لعدم الاحتراز معه عن النجاسات ولأنه يخل بالقضاء والشهادة فإخلاله بمقام النبوة أولى، وأجيب بأنا لا نسلم عدم الاحتراز معه عن النجاسات فإن كثيرا ممن نشاهده من العميان أكثر احترازا عنها من غيره، وبأن القاضي والشاهد يحتاجان إلى التمييز بين المدعي والمدعى عليه، والنبي لا يحتاج لتمييز من يدعوه مع أنه معصوم فلا يخطىء كغيره كذا قيل، فلينظر وَلَوْلا رَهْطُكَ أي جماعتك قال الراغب: هم ما دون العشرة.
وقال الزمخشري: من الثلاثة إلى العشرة، وقيل: إلى السبعة، وقيل: بل يقال: إلى الأربعين، ولا يقع فيما قيل- كالعصبة. والنفر- إلا على الرجال، ومثله الراهط وجمعه أرهط وجمع الجمع أراهط، وأصله على ما نقل عن الرماني الشد، ومنه الرهيط لشدة الأكل، والراهطاء لحجر اليربوع لأنه يتوثق به ويخبىء فيه ولده، والظاهر أن مرادهم لولا
318
مراعاة جانب رهطك لَرَجَمْناكَ أي لقتلناك برمي الأحجار، وهو المروي عن ابن زيد، وقيل: ذلك كناية عن نكاية القتل كأنهم قالوا: لقتلناك بأصعب وجه، وقال الطبري: أرادوا لسببناك كما في قوله تعالى: لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا [مريم: ٤٦]، وقيل: لأبعدناك وأخرجناك من أرضنا، ولم يجوزوا أن يكون المراد لولا ممانعة رهطك ومدافعتهم لأن ممانعة الرهط وهم عدد نزر لألوف مؤلفة مما لا يكاد يتوهم ومعنى وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ ما أنت بمكرم محترم حتى نمتنع من رجمك وإنما نكف عنك للمحافظة على حرمة رهطك الذين ثبتوا على ديننا ولم يختاروك علينا، والجار الأول متعلق بِعَزِيزٍ وجاز لكون المعمول ظرفا والباء مزيدة، ولك أن تجعله متعلقا بمحذوف يفسره الظاهر وهو خبر أنت، وقد صرح السكاكي في المفتاح أنه قصد بتقديم هذا الضمير الذي هو فاعل معنوي وإن لم يكن الخبر فعلا بل صفة مشبهة وإيلائه النفي الحصر والاختصاص أي اختصاص النفي بمعنى أن عدم العزة مقصور عليك لا يتجاوزك إلى رهطك لا بمعنى نفي الاختصاص بمعنى لست منفردا بالعزة وهو ظاهر، قاله العلامة الثاني، وقال السيد السند: إنه قصد فيه نفي العزة عن شعيب عليه السلام وإثباتها لرهطه فيكون تخصيصا للعزة بهم ويلزمه تخصيص عدمها به إلا أن المتبادر كما يشهد به الذوق السليم هو القصد إلى الأول، واستدل السكاكي على كون ذلك للاختصاص بقوله عليه السلام في جواب هذا الكلام ما حكي بقوله عز شأنه: قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ أي من نبي الله على ما قال عليه الرحمة، ووجه الاستدلال كما قال العلامة وغيره: إنه لو لم يكن قصدهم اختصاصه بنفي العزة بل مجرد الإخبار بعدم عزته عليهم لم يستقم هذا الجواب ولم يكن مطابقا لمقالهم إذ لا دلالة لنفي العزة عنه على ثبوتها للغير، وإنما يدل على ذلك اختصاصه بنفي العزة.
واعترض صاحب الإيضاح بأن هذا من باب أنا عارف وهو لا يفيد الاختصاص وفاقا وإنما يفيده التقديم على الفعل مثل أنا عرفت، وكون المشتقات قريبة من الأفعال في التقوى لا يقتضي كونها كالأفعال في الاختصاص والتمسك بالجواب ضعيف لجواز أن يكون جوابا لقولهم: لَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ فإنه يدل على أن رهطه هم الأعزة حيث كان الامتناع عن رجمه بسببهم لا بسببه ومعلوم بحسب الحال والمقام أن ذلك لعزتهم لا لخوفهم، وتعقبه السيد السند بأن صاحب الكشاف صرح بالتخصيص في قوله تعالى: كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها [المؤمنون:
١٠٠] فكيف يقال: باب أنا عارف لا يفيد الاختصاص اتفاقا وإن جعله جوابا لما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ هو الظاهر بأن يجعل التنوين للتعظيم فيدل على ثبوت أصل العزة له عليه السلام ولا دلالة لقولهم: وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ على اشتراك العزة فلا يلائمه أرهطي أعز عليكم، ثم قال: فإن قيل: شرط التخصيص عند السكاكي أن يكون المقدم بحيث إذا أخر كان فاعلا معنويا ولا يتصور ذلك فيما نحن فيه قلنا: إن الصفة بعد النفي تستقل مع فاعلها كلاما فجاز أن يقال: ما عزيز أنت على أن يكون أنت تأكيدا للمستتر ثم يقدم ويدخل الباء على عزيز بعد تقديم أَنْتَ وجعله مبتدأ. وكذلك قوله سبحانه: وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا [هود: ٢٩] وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ [الزمر: ٤١، الشورى: ٦] مما يلي حرف النفي وكان الخبر صفة، وقد صرح صاحب الكشاف وغيره بإفادة التقديم الحصر في ذلك كله، وأما صورة الإثبات نحو أنا عارف فلا يجري فيها ذلك فلا يفيد عنده تخصيصا، وإن كان مفيدا إياه عند من لا يشترط ذلك.
وأجاب صاحب الكشف عما قاله صاحب الإيضاح بعد نقل خلاصته: بأن ما فيه الخبر وصفا كما يقارب ما فيه الخبر فعلا في إفادة التقوى على ما سلمه المعترض يقاربه في إفادة الحصر لذلك الدليل بعينه، وأن قولهم: وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ كفى به دليلا أن حق الكلام أن يفاد التخصيص لا أصل العز ففهمه من ذلك لا ينافي كونه جوابا
319
لهذا الكلام بل يؤكده، وقد صرح الزمخشري بإفادة نحو هذا التركيب الاحتمالين في أنها كلمة هو قائلها، وقال العلامة الطيبي: إن قوله تعالى: لَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وقوله سبحانه: وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ من باب الطرد والعكس عنادا منهم فلا بد من دلالتي المنطوق، والمفهوم في كل من اللفظين انتهى.
ويعلم من جميع ما ذكر ضعف اعتراض صاحب الإيضاح والعجب من العلامة حيث قال: إنه اعتراض قوي وأشار السكاكي بتقدير المضاف إلى دفع الإشكال بأن كلامهم إنما وقع في شعيب عليه السلام وفي رهطه وأنهم هم الأعزة دونه من غير دلالة على أنهم أعز من الله تعالى.
وأجيب أيضا بأن تهاونهم بنبي الله تعالى تهاون به سبحانه فحين عز عليهم رهطه دونه كان رهطه أعز عليهم من الله تعالى أو بأن المعنى أرهطي أعز عليكم من الله تعالى حتى كان امتناعكم عن رجمي بسبب انتسابي إليهم وأنهم رهطي لا بسبب انتسابي إلى الله تعالى وأني رسوله. ثم ما ذكره السيد قدس سره من جعل التنوين في- عزيز- للتعظيم وحينئذ يدل الكلام على ثبوت أصل العزة له عليه السلام فيلائمه أرهطي أعز؟ إلخ صحيح في نفسه إلا أن ذلك بعيد جدا من حال القوم، فإن الظاهر أنهم إنما قصدوا نفي العزة عنه عليه السلام مطلقا وإثباتها لرهطه لا نفي العزة العظيمة عنه وإثباتها لهم ليدل الكلام على اشتراكهما في أصل العزة وزيادتها فيهم، وذلك لأن العزة وإن لم تكن عظيمة تمنع من القتل بالحجارة الذي هو من أشر أنواع القتل، ولا أظن إنكار ذلك إلا مكابرة، وكأنه لهذا لم يعتبر مولانا أبو السعود عليه الرحمة جعل التنوين للتعظيم لتتأتى المشاركة فيظهر وجه إنكار الأعزية فاحتاج للكشف عن ذلك مع عدم المشاركة، فقال: وإنما أنكر عليه السلام عليهم أعزية رهطه منه تعالى مع أن ما أثبتوه إنما هو مطلق عزة رهطه لا أعزيتهم منه عز وجل مع الاشتراك في أصل العزة لتثنية التقريع وتكرير التوبيخ حيث أنكر عليهم أولا ترجيح جنبة الرهط على جنبة الله تعالى. وثانيا نفي العزة بالمرة، والمعنى أرهطي أعز عليكم من الله فإنه مما لا يكاد يصح، والحال أنكم لم تجعلوا له تعالى حظا من العزة أصلا وَاتَّخَذْتُمُوهُ بسبب عدم اعتدادكم بمن لا يرد ولا يصدر إلا بأمره وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا شيئا منبوذا وراء الظهر منسيا انتهى.
وأنا أقول: قد ذكر الرضي أن المجرور بمن التفضيلية لا يخلو من مشاركة المفضل في المعنى إما تحقيقا كما في- زيد أحسن من عمرو- أو تقديرا
كقول علي كرم الله تعالى وجهه: لأن أصوم يوما من شعبان أحب إلي من أن أفطر يوما من رمضان
وذلك لأن إفطار يوم الشك الذي يمكن أن يكون من رمضان محبوب عند المخالف فقدره علي كرم الله تعالى وجهه محبوبا إلى نفسه أيضا، ثم فضل صوم شعبان عليه فكأنه قال: هب أنه محبوب عندي أيضا أليس صوم يوم من شعبان أحب منه انتهى، وما في الآية يمكن تخريجه على طرز الأخير فيكون إنكاره عليه السلام عليهم أعزية رهطه منه تعالى على تقدير أن يكون عز وجل عزيزا عندهم أيضا، ويعلم من ذلك إنكار ما هم عليه بطريق الأولى، وكأن هذا هو الداعي لاختيار هذا الأسلوب من الإنكار، ووقوعه في الجواب لا يأبى ذلك، وإن قيل بجواز خلو المجرور- بمن- من مشاركة المفضل وإرادة مجرد المبالغة من أفعل المقرون بها بناء على مجيء ذلك بقلة- كما قال الجلال السيوطي في همع الهوامع- نحو العسل أحلى من الخل والصيف أحر من الشتاء، واعتمد هنا على قرينة السباق والسياق فالأمر واضح، واستحسن كون قوله تعالى: وَاتَّخَذْتُمُوهُ إلخ اعتراضا وفائدته تأكيد تهاونهم بالله تعالى ببيان أنهم قوم عادتهم أن لا يعبؤوا بالله تعالى ويجعلوه كالشيء المنبوذ، وجوز بعض كونه عطفا على ما قبله على معنى أفضلتم رهطي على الله سبحانه وتهاونتم به تعالى ونسيتموه ولم تخشوا جزاءه عز وجل، وقال غير واحد:
إنه يحتمل أن يكون الغرض من قوله عليه السلام أَرَهْطِي إلخ الرد والتكذيب لقومه فإنهم لما ادعوا أنهم لا يكفون
320
عن رجمه عليه السلام لعزته بل لمراعاة جانب رهطه ردّ عليهم ذلك بأنكم ما قدرتم الله تعالى حق قدره ولم تراعوا جنابه القوي فكيف تراعون رهطي الأذلة، وأيا ما كان فضمير اتَّخَذْتُمُوهُ عائد إلى الله تعالى وهو الذي ذهب إليه جمهور المفسرين، وروي عن ابن عباس والحسن وغيرهما، والظهري- منسوب إلى الظهر، أصله المرمي وراء الظهر، والكسر من تغييرات النسب كما قالوا في النسبة إلى أمس: أمسي بالكسر وإلى الدهر دهري بالضم، ثم توسعوا فيه فاستعلموه للمنسي المتروك، وذكروا أنه يحتمل أن يكون في الكلام استعارة تصريحية وأن يكون استعارة تمثيلية.
وزعم بعضهم أن الضمير له تعالى، والظهري- العون وما يتقوى به، والجملة في موضع الحال، والمعنى أفضلتم الرهط على الله تعالى ولم تراعوا حقه سبحانه والحال أنكم تتخذونه سند ظهوركم وعماد آمالكم.
ونقل ابن عطية هذا المعنى عن جماعة، وقيل: الظهري المنسي، والضمير عائد على الشرع الذي جاء به شعيب عليه السلام وإن لم يذكر صريحا، وروي عن مجاهد أو على أمر الله، ونقل عن الزجاج، وقيل: الظهري بمعنى المعين، والضمير لله تعالى، وفي الكلام مضاف محذوف أي عصيانه والمعنى على ما قرره أبو حيان واتخذتم عصيانه تعالى عونا وعدة لدفعي، وقيل: لا حذف والضمير للعصيان وهو الذي يقتضيه كلام المبرد، ولا يخفى ما في هذه الأقوال من الخروج عن الظاهر من غير فائدة، ومما ينظم في سلكها تفسير العزيز بالملك زعما أنهم كانوا يسمون الملك عزيزا على أن من له أدنى ذوق لا يكاد يسلم صحة ذلك فتفطن، ونصب ظِهْرِيًّا على أنه مفعول ثان- لاتخذتموه- والهاء مفعوله الأول، ووَراءَكُمْ ظرف له أو حال من ظِهْرِيًّا.
إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ تهديد عظيم لأولئك الكفرة الفجرة أي أنه سبحانه قد أحاط علما بأعمالكم السيئة التي من جملتها رعايتكم جانب الرهط دون رعاية جنابه جل جلاله في فيجازيكم على ذلك، وكذا قوله: وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ أي غاية تمكنكم من أمركم وأقصى استطاعتكم وإمكانكم، وهو مصدر مكن يقال: مكن مكانة إذا تمكن أبلغ تمكن، والميم على هذا أصلية، وفي البحر يقال: المكان والمكانة مفعل ومفعلة من الكون والميم حينئذ زائدة، وفسر ابن زيد- المكانة- بالحال يقال: على مكانتك يا فلان إذا أمرته أن يثبت على حاله كأنك قلت:
اثبت على حالك التي أنت عليها لا تنحرف، وهو من استعارة العين للمعنى كما نص عليه غير واحد، وحاصل المعنى هاهنا اثبتوا على ما أنتم عليه من الكفر والمشاقة لي وسائر ما لا خير فيه.
وقرأ أبو بكر- مكاناتكم- على الجمع وهو باعتبار جمع المخاطبين كما أن الافراد باعتبار الجنس، والجار والمجرور كما قال بعضهم: يحتمل أن يكون متعلقا بما عنده على تضمين الفعل على معنى البناء ونحوه كما تقول:
عمل على الجد وعلى القوة ونحوهما، وأن يكون في موضع الحال أي اعملوا قارين وثابتين على مكانتكم.
إِنِّي عامِلٌ على مكانتي حسبما يؤيدني الله تعالى ويوفقني بأنواع التأييد والتوفيق، وكأنه حذف على مكانتي للاختصار ولما فيه من زيادة الوعيد، وقوله سبحانه: سَوْفَ تَعْلَمُونَ استئناف وقع جواب سؤال مقدر ناشىء من تهديده عليه السلام إياهم بقوله: اعْمَلُوا إلخ كأن سائلا منهم سأل فماذا يكون بعد ذلك؟ فقيل:
سَوْفَ تَعْلَمُونَ ولذا سقطت الفاء وذكرت في آية الأنعام للتصريح بأن الوعيد ناشىء ومتفرع على إصرارهم على ما هم عليه والتمكن فيه، وما هنا أبلغ في التهويل للإشعار بأن ذلك مما يسأل عنه ويعتنى به، والسؤال المقدر يدل على ما دلت عليه الفاء مع ما في ذلك من تكثير المعنى بتقليل اللفظ، وكأن الداعي إلى الإتيان بالأبلغ هنا دون ما تقدم أن القوم قاتلهم الله تعالى بالغوا في الاستهانة به عليه السلام وبلغوا الغاية في ذلك فناسب أن يبالغ لهم في التهديد ويبلغ فيه الغاية وإن كانوا في عدم الانتفاع كالأنعام، وما فيها نحو ذلك.
321
وقال بعض أجلة الفضلاء: إن اختيار إحدى الطريقين ثمة والأخرى هنا وإن كان مثله لا يسأل عنه لأنه دوري لأن أول الذكرين يقتضي التصريح فيناسب في الثاني خلافه انتهى، وهو دون ما قلناه، ومَنْ في قوله سبحانه:
مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ قيل: موصولة مفعول العلم وهو بمعنى العرفان، وجملة يَأْتِيهِ عَذابٌ صلة الموصول، وجملة يُخْزِيهِ صفة عَذابٌ ووصفه بالإخزاء تعريضا بما أوعدوه عليه السلام من الرجم فإنه مع كونه عذابا فيه خزي ظاهر، وقوله تعالى: وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ عطف على مَنْ يَأْتِيهِ ومَنْ أيضا موصولة، وجوز أن تكون مَنْ في الموضعين استفهامية، والعلم على بابه وهي معلقة له عن العمل.
واستظهر أبو حيان الموصولية، وليس هذا العطف من عطف القسيم على قسيمه كما في- سيعلم الصادق والكاذب- إذ ليس القصد إلى ذكر الفريقين، وإنما القصد إلى الرد على القوم في العزم على تعذيبه بقولهم:
لَرَجَمْناكَ والتصميم على تكذيبه بقولهم: أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ [هود: ٨٧] إلخ فكأنه قيل: سيظهر لكم من المعذب أنتم أم نحن ومن الكاذب في دعواه أنا أم أنتم وفيه إدراج حال الفريقين أيضا.
وفي الإرشاد أن فيه تعريضا بكذبهم في ادعائهم القوة والقدرة على رجمه عليه السلام، وفي نسبته إلى الضعف والهوان وفي ادعائهم الإبقاء عليه لرعاية جانب الرهط، وقال الزمخشري: إنه كان القياس، ومن هو صادق بدل هذا المعطوف لأنه قد ذكر عملهم على مكانتهم، وعمله على مكانته، ثم أتبعه ذكر عاقبة العاملين منه ومنهم فحينئذ ينصرف مَنْ يَأْتِيهِ إلخ إلى الجاحدين ومن هو صادق إلى النبي المبعوث ولكنهم لما كانوا يدعونه عليه السلام كاذبا قال: ومن هو كاذب بمعنى في زعمكم ودعواكم تجهيلا لهم يعني أنه عليه السلام جرى في الذكر على ما اعتادوه في تسميته كاذبا تجهيلا لهم، والمعنى ستعلمون حالكم وحال الصادق الذي سميتموه كاذبا لجهلكم، وليس المراد ستعلمون أنه كاذب في زعمكم فلا يرد ما توهم من أن كذبه في زعمهم واقع معلوم لهم الآن فلا معنى لتعليق علمه على المستقبل، وقال ابن المنير: الظاهر أن الكلامين جميعا لهم- فمن يأتيه- إلخ متضمن ذكر جزائهم، وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ متضمن ذكر جرمهم الذي يجازون به وهو الكذب، وهو من عطف الصفة على الصفة والموصوف واحد كما تقول لمن تهدده: ستعلم من يهان ومن يعاقب، وأنت تعني المخاطب في الكلامين فيكون في ذكر كذبهم تعريض لصدقه وهو أبلغ وأوقع من التصريح، ولذلك لم يذكر عاقبة شعيب عليه السلام استغناء بذكر عاقبتهم، وقد مر مثل ذلك أول السورة في قوله سبحانه: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ [الزمر: ٤٠] حيث اكتفى بذلك عن أن يقول: ومن هو على خلاف ذلك، ونظيره فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ [الأنعام: ١٣٥] حيث ذكر فيه إحدى العاقبتين لأن المراد بهذه العاقبة عاقبة الخير لأنها متى أطلقت لا يعني إلا ذلك نحو والعاقبة للمتقين، ولأن اللام في له يدل على أنها ليست عليه، واستغنى عن ذكر مقابلتها انتهى، وتعقبه الطيبي بما رده عليه الفاضل الجلبي وَارْتَقِبُوا أي انتظروا ما أقول لكم من حلول ما أعدكم به وظهور صدقه إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ أي منتظر ذلك، وقيل: المعنى انتظروا العذاب إني منتظر النصرة والرحمة، وروي ذلك عن ابن عباس، ورَقِيبٌ إما بمعنى مرتقب كالرفيع بمعنى المرتفع أو راقب كالصريم بمعنى الصارم، أو مراقب كعشير بمعنى معاشر، والأنسب على ما قيل بقوله: ارْتَقِبُوا: الأول وإن كان مجيء فعيل بمعنى اسم الفاعل المزيد غير كثير وفي زيادة مَعَكُمْ إظهار منه عليه السلام لكمال الوثوق بأمره وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا أي عذابنا كما ينبىء عنه قوله سبحانه: سَوْفَ تَعْلَمُونَ إلخ أو وقته فإن الارتقاب يؤذن بذلك نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وهو الإيمان الذي وفقناهم له أو بمرحمة كائنة منا لهم وإنما جيء بالفاء في قصتي ثمود ولوط حيث قيل:
322
فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا وبالواو هاهنا وفي قصة عاد حيث قيل: وَلَمَّا جاءَ إلخ لأنه قد سبق هناك سابقة الوعد بقوله سبحانه:
ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ [هود: ٦٥] وقوله تعالى: إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ [هود: ٨١] وهو يجري مجرى السبب المقتضي لدخول الفاء في معلوله، وأما هاهنا. وفي قصة عاد فلم يسبق مثل ذلك بل ذكر مجيء العذاب على أنه قصة بنفسه وما قبله قصة أخرى لكنهما متعلقان بقوم واحد فهما متشاركان من وجه مفترقان من آخر، وذلك مقام الواو كذا قيل.
وتعقب بأن في الكلام هاهنا ذكر الوعد أيضا، وهو قوله سبحانه: يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إلى قوله عز وجل: رَقِيبٌ غاية الأمر أنه لم يذكر بلفظ الوعد ومثله لا يكفي في الفرق، وقيل: إن ذكر الفاء في الموضعين لقرب عذاب قوم صالح ولوط للوعد المذكور فإن بين الأولين والعذاب ثلاثة أيام وبين الآخرين وبينه ما بين قول الملائكة إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ والصبح: وهي سويعات يسيرة. ولا كذلك عذاب قومي شعيب وهود عليهما السلام بل في قصة قوم شعيب عليه السلام ما يشعر بعدم تضييق زمان مجيء العذاب بناء على الشائع في استعمال سَوْفَ على أن من أنصف من نفسه لم يشك في الفرق بين الوعد في قصتي صالح ولوط عليهما السلام. والوعد في غيرهما، فإن الإشعار بالمجيء فيهما ظاهر فحسن تفريعه بالفاء ولا كذلك في غيرهما كذا قيل، وفيه ما لا يخفى، ولعل الاقتصار على التفرقة بالقرب وعدمه أقل غائلة مما قيل، وكذا مما يقال: من أن الإتيان بالفاء- لتقدم الوعد وتركها وإن كان هناك وعد للإشارة إلى سوء حال أولئك القومين ومزيد فظاعته حتى أن العذاب حل بهم لا لسبب سبق الوعد بل لمجرد ظلمهم وكأن وجه اعتبار ذلك فيهم دون قومي لوط وصالح عليهما السلام أنهم امتازوا عنهم برمي ذينك النبيين بالجنون ومشافهتهما بما لم يشافه به كل من قومي صالح ولوط نبيه فيما قص عنهما في هذه السورة الكريمة فإن في ذلك ما لا يكاد يخفى عليك فتدبر وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا عدل عن الضمير تسجيلا عليهم بالظلم وإشعارا بالعلية أي وأخذت أولئك الظالمين بسبب ظلمهم الذي فصل الصَّيْحَةُ قيل: صاح بهم جبريل عليه السلام فهلكوا وكانت صيحة على الحقيقة، وجوز البلخي أن يكون المراد بها نوعا من العذاب، والعرب تقول: صاح بهم الزمان إذا هلكوا، وقال امرؤ القيس:
فدع عنك نهبا «صيح» في حجراته ولكن حديث ما حديث الرواحل
والمعول عليه الأول، وقد سبق في [الأعراف: ٧٨، ٩١، ١٥٥] الرَّجْفَةُ أي الزلزلة بدلها، ولعلها كانت من مباديها فلا منافاة، وقيل: غير ذلك فتذكر فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ أي ميتين من جثم الطائر إذا ألصق بطنه بالأرض، ولذا خص الجثمان بشخص الإنسان قاعدا، ثم توسعوا فاستعملوا الجثوم بمعنى الإقامة، ثم استعير من هذا الجاثم للميت لأنه لا يبرح مكانه، ولما لم يجعل متعلق العلم في قوله سبحانه: سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ إلخ نفس مجيء العذاب بل من يجيئه ذلك جعل مجيئه بعد أمرا مسلم الوقوع غنيا عن الإخبار به حيث جعل شرطا، وجعل تنجية شعيب عليه السلام والمؤمنين وإهلاك الكفرة الظالمين جوابا له ومقصود الإفادة، وإنما قدم التنجية اهتماما بشأنها وإيذانا بسبق الرحمة على الغضب قاله شيخ الإسلام، وأصبح- إما ناقصة أو تامة أي صاروا جاثمين، أو دخلوا في الصباح حال كونهم جاثمين كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا أي لم يقيموا فِيها متصرفين في أطرافها متقلبين في أكنافها، والجملة إما خبر بعد خبر أو حال بعد حال.
أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ العدول عن الإضمار إلى الإظهار للمبالغة في تفظيع حالهم وليكون أنسب بمن شبه هلاكهم بهلاكهم، وإنما شبه هلاكهم بهلاكهم لأن عذاب كل كان بالصيحة غير أنه روى الكلبي عن
323
ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن صيحة ثمود كانت من تحتهم وصيحة مدين كانت من فوقهم.
وقرأ السلمي وأبو حيوة «بعدت» بضم العين، والجمهور بكسرها على أنه من بعد يبعد بكسر العين في الماضي وفتحها في المضارع بمعنى هلك، ومنه قوله:
يقولون:
«لا تبعد» وهم يدفونني وأين مكان البعد إلا مكانيا
وأما بعد يبعد بالضم فهو البعد ضد القرب قاله ابن قتيبة، قيل: أرادت العرب بهذا التغيير الفرق بين المعنيين، وقال ابن الأنباري: من العرب من يسوي بين الهلاك والبعد الذي هو ضد القرب، وفي القاموس البعد المعروف والموت، وفعلهما- ككرم وفرح- بعدا وبعدا بفتحتين، وقال المهدوي: إن بعد بالضم يستعمل في الخير والشر وبعد بالكسر في الشر خاصة، وكيفما كان الأمر فالمراد ببعدت على تلك القراءة أيضا هلكت غاية الأمر أنه في ذلك إما حقيقة أو مجاز، ومن هلك فقد بعد ونأى كما قال الشاعر:
من كان بينك في التراب وبينه شهران فهو في غاية «البعد»
وفي الآية ما يسمى الاستطراد، قيل: ولم يرد في القرآن من هذا النوع إلا ما في هذا الموضع وقد استعملته العرب في أشعارها، ومن ذلك قول حسان رضي الله تعالى عنه:
إن كنت كاذبة الذي حدثتني فنجوت منجى الحارث بن هشام
ترك الأحبة أن يقاتل دونهم ونجا برأس طمرة ولجام
هذا ومن باب الإشارة في الآيات: قوله سبحانه في قصة هود عليه السلام: ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ فيه إشارة إلى أن كل ذي نفس تحت قهره سبحانه وسلطانه أسير في يد تصرفه وملكته عاجز عن الفعل إلا بإذنه وأنه عز وجل لا يسلط أحدا على أحد إلا عن استحقاق ذنب أو رفع درجة وإعلاء منزلة لأنه تبارك وتعالى على طريق العدل الذي لا اعوجاج فيه، وذكر الشيخ الأكبر قدس سره في فصوصه: إن كل ما سوى الحق فهو دابة فإنه ذو روح وما ثم من يدب بنفسه وإنما يدب بغيره بحكم التبعية للذي هو على صراط مستقيم فكل ماش فهو على الصراط المستقيم وحينئذ فلا مغضوب عليه ولا ضال من هذا الوجه، نعم إن الناس على قسمين:
أهل الكشف وأهل الحجاب، فالأولون يمشون على طريق يعرفونها ويعرفون غايتها فهي في حقهم صراط مستقيم كما أنها في نفس الأمر كذلك، والآخرون يمشون على طريق يجهلونها ولا يعرفون غايتها وأنها تنتهي إلى الحق فهي في حقهم ليست صراطا مستقيما وإن كانت عند العارف ونفس الأمر صراطا مستقيما، واستنبط قدس سره من الآية أن مآل الخلق كلهم إلى الرحمة التي وسعت كل شيء، وهي الرحمة السابقة على الغضب، وادعى أن فيها بشارة للخلق أيّ بشارة.
وقال القيصري في تفسيرها: أي ما من شيء موجود إلا هو سبحانه آخذ بناصيته وإنما جعل دابة لأن الكل عند صاحب الشهود وأهل الوجود حي، فالمعنى ما من حي إلا والحق آخذ بناصيته ومتصرف فيه بحسب أسمائه يسلك به أي طريق شاء من طرقه وهو على صراط مستقيم وأشار بقوله سبحانه: آخِذٌ إلى هوية الحق الذي مع كل من الأسماء ومظاهرها، وإنما قال: إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ بإضافة الرب إلى نفسه، وتنكير الصراط تنبيها على أن كل رب على صراطه المستقيم الذي عين له من الحضرة الإلهية، والصراط المستقيم الجامع للطرق هو المخصوص بالاسم الإلهي ومظهره لذلك قال في الفاتحة المختصة بنبينا صلّى الله عليه وسلم: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة: ٦] بلام العهد أو الماهية التي منها تتفرع جزئياتها، فلا يقال: إذا كان كل أحد على الصراط المستقيم فما
324
فائدة الدعوة؟ لأنا نقول: الدعوة إلى الهادي من المضل. وإلى العدل من الجائر كما قال سبحانه: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً [مريم: ٨٥] انتهى بحروفه، وأعظم من هذا إشكالا التكليف مع القول بالوحدة وكذا التنعيم والتعذيب فإن الظاهر من التقرير لكلام المحققين من الصوفية أن المكلف عبارة عن موجود هو حصة من الوجود المطلق المفاض على حقائق الممكنات المتعين بتعينات مختلفة اقتضتها الاستعدادات الذاتية للحقائق التي هي المعدومات المتميزة في نفس الأمر المستعدة باستعدادات ذاتية غير مجعولة، فالمكلف مقيد من مقيدات الوجود المطلق المفاض، والمقيد لا يوجد بدون المطلق لأنه قيومه، والمطلق من حيث الإطلاق عين الحق، ولا شك أن قاعدة التكليف تقتضي أن يكون بينهما مغايرة ومباينة حقيقية ذاتية حتى يصح التكليف وما يترتب عليه من التعذيب والتنعيم.
وأجيب بأن حقيقة الممكن أمر معدوم متميز في نفسه بتميز ذاتي غير مجعول ووجوده خاص مقيد بخصوصية ما اقتضاها استعداده الذاتي لماهيته العدمية فهو مركب من الوجود والعدم وحقيقته مغايرة لوجوده تعقلا لتمايزهما ذهنا، ولا ينافي ذلك قول الأشعري: وجود كل شيء عين حقيقته لما بين في محله وحقيقة الحق تعالى لا تغاير وجوده ووجوده سبحانه هو الوجود المطلق بالإطلاق الحقيقي حسبما حققه محققو الصوفية، فالمغايرة الذاتية بين المكلف والمكلف في غاية الظهور لأن المكلف هو المعدوم اللابس لحصة من الوجود المتعين بمقتضى حقيقته، والمكلف سبحانه هو الحق عز وجل الذي هو عين الوجود المطلق الغير المقترن بماهية عدمية، وبعبارة أخرى: إن حقيقة الممكن أمر معدوم وحقيقة الواجب سبحانه الوجود المطلق حتى عن قيد الإطلاق وقد وقع في البين تجلي الهوية في العبد وذلك التجلي هو الجامع للقدرة وغيرها من الكمالات التي يتوقف عليها التكليف بمقتضى الحكمة ومحقق للمغايرة.
وحاصل ذلك أن حقيقة المزج بين تجلي الهوية والصورة الخلقية المتعينة بمقتضى الحقيقة العدمية هي التي أحدثت ما به يصح التكليف وما يترتب عليه، وكون الحق سبحانه قيوما للوجود المقيد غير قادح في ذلك بل القيومية هي المصححة له لما تبين من النصوص أنه لا تكليف إلا بالوسع ولا وسع للممكن إلا بقيوميته تعالى بنص ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ [الكهف: ٣٩] وما هو بالله فهو لله تعالى، والبحث في ذلك طويل، وبعض كلماتهم يتراءى منهم عدم المغايرة بين المكلف والمكلف من ذلك ما قيل:
لقد كنت دهرا قبل أن يكشف الغطا إخالك أني ذاكر لك شاكر
فلما أضاء الليل أصبحت شاهدا بأنك مذكور وذكر وذاكر
لكن ينبغي أن لا يبادر سامعها بالإنكار، ويرجع في المراد منها إلى العارفين بدقائق الأسرار، هذا وقد تقدم الكلام في ناقة صالح عليه السلام، وفيما قص الله تعالى هاهنا عن إبراهيم عليه السلام إشارة إلى بعض آداب الفتوة، فقد قالوا: إن من آدابها إذا نزل الضيف أن يبدأ بالكرامة في الإنزال ثم يثني بالكرامة بالطعام، وإنما أوجس عليه السلام في نفسه خيفة لأنه ظن الغضب، والخليل يخشى غضب خليله ومناه رضاه، ولله در من قال:
لعلك غضبان ولست بعالم سلام على الدارين إن كنت راضيا
وفي هذه القصة دليل على أنه قد ينسد باب الفراسة على الكاملين لحكم يريدها الله تعالى، ومن ذلك لم يعرف إبراهيم وكذا لوط عليهما السلام الملائكة عليهم السلام في أول الأمر، وكانت مجادلته عليه السلام من آثار مقام الإدلال على ما قيل، وقوله تعالى عن لوط عليه السلام: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ قيل:
يشير بالقوة إلى الهمة وهي عندهم القوة المؤثرة في النفوس لأن القوة منها جسمانية ومنها روحانية، وهذه المسماة بالهمة وهي أقوى تأثيرا لأنها قد تؤثر في أكثر العالم. أو كله بخلاف الجسمانية، وقصد عليه السلام بالركن الشديد
325
القبيلة لأنه يعلم أن أفعال الله تعالى لا تظهر في الخارج إلا على أيدي المظاهر فتوجه إلى الله سبحانه وطلب منه أن يجعل له أنصارا ينصرونه على أعداء الله تعالى، وردد الأمر بين ذلك وأن يجعل له همة مؤثرة من نفسه ليقاوم بها الأعداء، وقد علمت ما
روي عن النبي صلّى الله عليه وسلم من قوله: «يرحم الله تعالى أخي لوطا» الخبر.
وذكر الشيخ الأكبر قدس سره أنه عليه الصلاة والسلام نبه بذلك الخبر أن لوطا كان مع الله تعالى من أنه سبحانه رُكْنٍ شَدِيدٍ والإشارة في قصة شعيب عليه السلام إلى أنه ينبغي لمن كان في حيز أن لا يعصي الله تعالى، وللواعظ أن لا يخالف فعله قوله:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم
وأنه لا ينبغي أن يكون شيء عند العبد أعز عليه من الله تعالى إلى غير ذلك، والله تعالى الهادي إلى سبيل الرشاد.
326
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وهي الآيات التسع العصا واليد البيضاء والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والنقص من الثمرات والأنفس، والباء متعلقة بمحذوف وقع حالا من مفعول أَرْسَلْنا أو نعتا لمصدره المؤكد أي أرسلناه حال كونه ملتبسا بآياتنا أو أرسلناه إرسالا ملتبسا بها. وَسُلْطانٍ مُبِينٍ هو المعجزات الباهرة منها- وهو العصا- والإفراد بالذكر لإظهار شرفها لكونها أبهرها، والمراد بالآيات ما عداها، ويجوز أن يراد بهما واحد، والعطف باعتبار التغاير الوصفي أي أرسلناه بالجامع بين كونه آياتنا وكونه سلطانا له على نبوته واضحا في نفسه أو موضحا إياها من أبان لازما بمعنى تبين ومتعديا بمعنى بين، وجعل بعضهم الآيات والسلطان شيئا واحدا في نفس الأمر إلا أن في ذلك تجريدا نحو مررت بالرجل الكريم والنسمة المباركة كأنه جرد من الآيات الحجة وجعلها غيرها وعطفت عليها لذلك، وجوز أن يكون المراد بالآيات ما سمعت وبالسلطان ما بينه عليه السلام في تضاعيف دعوته حين قال له فرعون: فَمَنْ رَبُّكُما [طه: ٤٩] فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى [طه: ٥١] من الحقائق الرائقة والدقائق اللائقة أو هو الغلبة والاستيلاء كما في قوله سبحانه: وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً وجعله عبارة عن التوراة، أو إدراجها في جملة الآيات يرده كما قال أبو حيان قوله عز وجل: إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فإن نزولها إنما كان بعد مهلك فرعون وقومه قاطبة ليعمل بها بنو إسرائيل فيما يأتون ويذرون، وأما فرعون وقومه فإنما كانوا مأمورين بعبادة رب العالمين وترك العظيمة الشنعاء التي كان يدعيها الطاغية وتقبلها منه فئته الباغية وبإرسال بني إسرائيل من الأسر والقسر، ومن هذا يعلم ما في عد النقص من الثمرات والنقص من الأنفس آية واحدة من الآيات التسع، وعد إظلال الجبل منها لأن ذلك إنما كان لقبول التوراة حين أباه بنو إسرائيل فهو متأخر أيضا ضرورة. ومثل ذلك عد فلق البحر وإظلال الغمام بدلهما لأن هذا الإظلال أيضا متأخر عن مهلك فرعون وقومه.
وأجاب بعض الأفاضل عن الاعتراض على جعل التوراة من الآيات بأن التصحيح ممكن، أما أولا فبما صرحوا به من جواز إرجاع الضمير وتعلق الجار ونحوه بالمطلق الذي في ضمن المقيد فقوله سبحانه: إِلى فِرْعَوْنَ يجوز أن يتعلق بالإرسال المطلق لا المقيد بكونه بالتوراة، وأما ثانيا فبأن يقال: إن موسى عليه السلام كما أرسل إلى الفراعنة أرسل إلى بني إسرائيل أيضا فيجب أن يحمل ملأ فرعون على ما يشملهم فيجيء الكلام على التوزيع على معنى أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين وإلى ملئه بالتوراة فيكون لفا ونشرا غير مرتب، ويقال نحو هذا على تقدير عدّ إظلال الجبل أو الغمام من الآيات، وفي مجموعة سري الدين المصري أن هذا السؤال مما أورد الحافظ الطاشكندي على
327
مخدوم الملك فأجاب بأن قوله سبحانه: بِآياتِنا حال مقدرة أي مقدرين تلبسه أو نصرته بالآيات والسلطان إلى فرعون وملئه فلا يقدح فيه ظهور بعضها بعد هلاك فرعون كالتوراة وانفجار الماء وغير ذلك، وبأنه قيل: إن إعطاء التوراة مجموعا مرتبا مكتوبا في الألواح بعد غرق فرعون، وأوحى بها إلى موسى عليه السلام في حياة فرعون وكان يأمر بها قومه ويبلغها إلى فرعون وملئه، ويؤيده ما قيل: إن بعض الألواح كان منزلا قبل نزول التوراة بتمامها وكانت تلك الألواح من خشب والألواح التي كانت فيها التوراة بتمامها كانت من زمرد أو من ياقوت أحمر أو من صخرة صماء انتهى، ولا يخفى أن الذهاب إلى كون الحال مقدرة مما لا يكاد يقبله الذوق السليم، وما حكي من أن إعطاء التوراة مجموعا كان بعد والإيحاء بها كان قبل إلخ مما لا مستند له من الأخبار الصحيحة، وما ذكر أولا من حديث التعلق بالمطلق.
وثانيا من حمل «الملأ» على ما يشمل بني إسرائيل إلخ مما ينبغي أن ينزه ساحة التنزيل عنه، وكيف يحمل- الملأ- على ما يشمل بني إسرائيل مع الإضافة إليه وجعلهم من أهل النار، ولا أظنك في مرية من القول بعدم صحة ذلك وقيل: لو جعل إِلى فِرْعَوْنَ متعلقا بسلطان مبين لفظا أو معنى على تقدير وسلطان مرسل به إلى فرعون لم يبعد مع المناسبة بينه وبين السلطان، وفيه ما لا يخفى فتأمل.
وتخصيص- الملأ- بالذكر مع عموم رسالة موسى عليه السلام للقوم كافة لأصالتهم في الرأي وتدبير الأمور واتباع الغير لهم في الورود والصدور، ولم يصرح بكفر فرعون بالآيات وانهماكه فيما كان عليه من الضلال والإضلال بل اقتصر على ذكر شأن ملئه فقيل: فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ أي أمره بالكفر بما جاء به موسى عليه السلام من الحق للإيذان بوضوح حاله فكأن كفره وأمر ملئه بذلك أمر متحقق الوجود غير محتاج إلى الذكر صريحا، وإنما المحتاج إلى ذلك شأن ملئه المترددين بين هاد إلى الحق- وهو موسى عليه السلام- وداع إلى الضلال- وهو فرعون- فنعى عليهم سوء اختيارهم، وإيراد الفاء للإشعار بمفاجأتهم في الاتباع ومسارعة فرعون إلى الكفر والأمر به، فكأن ذلك لم يتراخ عن الإرسال والتبليغ.
وجوز أن يراد من الأمر الطريقة والشأن، قيل: ومعنى فَاتَّبَعُوا فاستمروا على الاتباع، والفاء مثل ما في قولك:
وعظته فلم يتعظ وزجرته فلم ينزجر، فإن الإتيان بالشيء بعد ورود ما يوجب الإقلاع عنه وإن كان استمرارا عليه لكنه بحسب العنوان فعل جديد وصنع حادث، ويجوز أن يكون المراد فاتصفوا بما اتصف به فرعون من الكفر بما جاء به موسى عليه السلام والتكذيب له ووافقوه في ذلك، وإيراد الفاء للإشعار بمفاجأتهم في الموافقة لفرعون في الكفر ومسارعته إليه فكأنه حين حصل الإرسال والتبليغ حصل كفر فرعون بما جاء به موسى عليه السلام ووقع على أثره الموافقة منهم، ولا تتوهمن أن هذه الموافقة كانت حاصلة لهم قبل لأنها تتوقف على اتصاف فرعون بالكفر بما جاء به موسى عليه السلام، وذلك إنما تجدد له بعد الإرسال والتبليغ فلا ضرورة إلى الحمل على الاستمرار، وجعل الفاء كما في قولك: زجرته فانزجر فتأمل.
وعدل عن أمره إلى أمر فرعون لدفع توهم رجوع الضمير إلى موسى عليه السلام من أول الأمر ولزيادة تقبيح حال المتبعين فإن فرعون علم في الفساد والإفساد والإضلال، فاتباعه لفرط الجهالة وعدم الاستبصار، وكذا الحال في قوله تعالى: وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ أي براشد أو بذي رشد، والرشد ضد الغي وإسناده إلى الأمر مجازي وكأن في العدول عن أمر فرعون غي وضلال إلى ما في النظم الكريم زيادة في تقبيح فعلهم وتحسيرا لهم على فوات ما فيه صلاح الدارين أعني الرشد.
ويجوز أن يجعل الرشد كناية عن المحمودية والإسناد حقيقي أي- وما أمر فرعون بصالح حميد العاقبة- وقوله
328
سبحانه: يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ على الأول استئناف وقع جوابا لمن سأل عن حال المتبوع والتابع مآلا، وعلى الثاني تفسير وإيضاح لعدم صلاح عاقبته أي كيف يرشد أمر من هذه عاقبته، وجملة وَما أَمْرُ إلخ جوز أن تكون حالا من فاعل- اتبعوا- وأن تكون حالا من مفعوله قيل: وهو مختار الزمخشري، والمراد بالقوم ما يشمل الملأ وغيرهم، ويَقْدُمُ كينصر من قدم- كنصر- بمعنى تقدم، ومنه قادمة الرحل، وهذا كما يقال: قدمه بمعنى تقدمه، ومنه مقدمة الجيش وأقدم بمعنى تقدم، ومنه مقدم العين فإنه بالكسر لا غير كما قاله المرزوقي، ومثله مؤخر العين كما في المزهر، والمراد من أوردهم يوردهم، والتعبير به دونه للإيذان بتحقق وقوعه لا محالة، والقول: بأنه باق على حقيقته- والمراد فأوردهم في الدنيا النار أي موجبها وهو الكفر- ليس بشيء، ونصب النار على أنه مفعول ثان- لأوردهم- وهي استعارة مكنية تهكمية للضد وهو الماء، وفي قرينتها احتمالات كما شاع في يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ [البقرة: ٢٧، الرعد: ٢٥] وعلى احتمال المجاز يكون الإيراد مستعارا استعارة تبعية لسوقهم إلى النار.
وجوز أن يقال: إنه شبه فرعون بالفارط وهو الذي يتقدم القوم للماء ففيه استعارة مكنية، وجعل اتباعه واردة وإثبات الورود لهم تخييل، وجوز أيضا جعل المجموع تمثيلا.
وجوز بعضهم كون يَقْدُمُ وأورد متنازعين في النار إلا أنه أعمل الثاني وحذف مفعول الأول وليس بذلك.
وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ أي بئس الورد الذي يردونه النار لأن الورد إنما يورد لتسكين العطش وتبريد الأكباد وفي النار تقطع الأكباد واشتعالها كذا قيل، فالورد على هذا بمعنى النصيب من الماء والْمَوْرُودُ صفته، والمخصوص بالذم محذوف وهو النار، وتعقب بأنه لا بد من تصادق فاعل بِئْسَ ومخصوصها ولا تصادق على هذا، وأيضا في جواز وصف فاعل- نعم. وبئس- خلاف، وابن السراج والفارسي على عدم الجواز.
وجوز ابن عطية كون الْمَوْرُودُ صفة والمخصوص النار إلا أنه جعل الكلام على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، فالتصادق حاصل في الحقيقة أي- بئس مكان الورود المورود النار- ومنهم من يجعل الْمَوْرُودُ هو المخصوص بالذم، والمراد به النار، ويقدر المضاف ليحصل التصادق أيضا أي- بئس مكان الورد النار- ومن يجعل الورد فاعل بِئْسَ ويفسره بالجمع الوارد. والْمَوْرُودُ صفة لهم والمخصوص بالذم ضميرهم المحذوف أي- بئس القوم المورود بهم هم- فيكون ذما للواردين لا لموضع الورود وَأُتْبِعُوا أي الملأ الذين اتبعوا أمر فرعون، وقيل: القوم مطلقا فِي هذِهِ أي في الدنيا لَعْنَةً عظيمة حيث يلعنهم من بعدهم من الأمم وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أيضا حيث يلعنهم أهل الموقف قاطبة فهي تابعة لهم حيثما ساروا ودائرة أينما داروا فكما اتبعوا أمر فرعون اتبعتهم اللعنة في الدارين جزاء وفاقا.
وقال الكلبي: اللعنة في الدنيا من المؤمنين أو بالغرق، ويوم القيامة من الملائكة أو بالنار. بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ أي بئس العون المعان كما نقل عن أبي عبيدة، والمخصوص بالذم محذوف أي رفدهم، ويكون الرِّفْدُ بمعنى العطية كما يكون بمعنى العون.
قال أبو حيان: يقال: رفد الرجل يرفده رفدا ورفدا إذا أعطاه وأعانه من رفد الحائط دعمه، وعن الأصمعي الرفد بالفتح القدح والرفد بالكسر ما فيه من الشراب، وقال الليث: أصل الرفد العطاء والمعونة، ومنه رفادة قريش وهي معاونتهم للحاج بشيء يخرجونه للفقراء، ويقال رفده رفدا ورفدا بكسر الراء وفتحها، ويقال: بالكسر الاسم وبالفتح المصدر، وفسره هنا بالعطاء غير واحد.
وزعم أن المقام لا يلائمه ليس بشيء نعم تفسيره بالعون جاء في صحيح البخاري، والمراد به على التفسيرين
329
اللعنة وتسميتها عونا على التفسير الأول من باب الاستعارة التهكمية، وأما كونها معانا فلأنها أرفدت في الآخرة بلعنة أخرى لتكونا هاديتين إلى صراط الجحيم، وكان القياس أن يسند المرفود إليهم لأن اللعنة في الدنيا تتبعهم وكذا في الآخرة لقوله سبحانه: وَأُتْبِعُوا إلخ، ولكن أسند إلى الرفد الذي هو اللعنة على الإسناد المجازي نحو جدّ جدّه وجنونك مجنون، وكذا يعتبر الاستعارة والمجاز المذكوران على التفسير الثاني كذا قيل.
وقال بعض المدققين: إن في قول الزمخشري في بيان الآية على المعنى الأول المنقول عن أبي عبيدة وذلك أن اللعنة في الدنيا رفد للعذاب ومدد له، وقد رفدت باللعنة في الآخرة ما يشعر بأنه ليس من الاستعارة التهكمية في شيء إذ لو كان رفدا للمعذبين لكان من ذلك القبيل، ثم قال: وجعله من باب جد جده أبعد وأبعد لأنه ذكر أنه رفد أعين برفد أما لو فسر بالتفسير الثاني ففيه الأول لا الثاني لأنه ليس مصدرا وإنما العطاء بمعنى ما يعطي فكثيرا ما يطلق عليه انتهى وفيه نظر لا يخفى، ثم إن القول بأن هناك لعنتين رفدت إحداهما بالأخرى هو المروي عن مجاهد وغيره فيوم معطوف على محل في الدنيا.
وذهب قوم إلى أن التقسيم هو أن لهم في الدنيا لعنة ويوم القيامة بئس ما يرفدون به فهي لعنة واحدة أولا وقبح إرفاد آخرا انتهى، وتعقبه في البحر بأن هذا لا يصح لأنه يدل على أن يَوْمَ معمول بِئْسَ وهي لا تتصرف فلا يتقدم معمولها عليها، ولو كان يَوْمَ متأخرا صح ذلك كما قال الشاعر:
ولنعم حشو الدرع أنت إذا دعيت نزال ولج في الذعر
وهو كلام وجيه، والآية ظاهرة في سوء حال فرعون يوم القيامة لأنه إذا كان حال الاتباع ما قص الله سبحانه فما ظنك بحال من أغواهم وألقاهم في هذا الضلال البعيد؟ وهذا يعكر على من ذهب إلى أنه قبض طاهرا مطهرا بل قال بعضهم: إنها نص في رد ذلك لأنه تعالى سلب عنه فيها الرشاد بعد موته والمؤمن الطاهر المطهر لا يسلب عنه الرشاد بعد الموت، ولعل من ذهب إلى ذلك يقول: باب التأويل واسع وباب الرحمة أوسع منه.
ذلِكَ إشارة إلى ما قص من أنباء الأمم وبعده باعتبار تقضيه أو باعتبار ما قيل في غير موضع، والخطاب لرسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو مبتدأ خبره مِنْ أَنْباءِ الْقُرى المهلكة بما جنته أيدي أهلها فأل فيها للعهد السابق تقديرا بذكر أربابها نَقُصُّهُ عَلَيْكَ خبر بعد خبر أي ذلك النبأ بعض أنباء القرى مقصوص عليك وجوز أن يكون مِنْ أَنْباءِ في موضع الحال وهذا هو الخبر، وجوز أيضا عكس ذلك مِنْها أي من تلك القرى قائِمٌ وَحَصِيدٌ أي ومنها حصيد، فالعطف من عطف الجملة على الجملة وهو الذي يقتضيه المعنى كما لا يخفى، وقد شبه ما بقي منها بالزرع القائم على ساقه وما عفا وبطل بالحصيد، فالمعنى منها باق ومنها عاف، وهو المروي عن قتادة، ونحوه ما روي عن الضحاك قائِمٌ لم يخسف وَحَصِيدٌ قد خسف، وقيل: وَحَصِيدٌ الزرع جاء في كلامهم بمعنى الفناء كما في قوله:
والناس في قسم المنية بينهم كالزرع منه قائم وحصيد
وصيغة فعيل بمعنى مفعول أي محصود كما قال الأخفش، وجمعه حصدى وحصاد مثل مرضى ومراض، وجملة مِنْها قائِمٌ إلخ مستأنفة استئنافا نحويا للتحريض على النظر في ذلك والاعتبار به، أو بيانيا كأنه سئل لما ذكرت ما حالها؟ فأجيب بذلك، وقال أبو البقاء: هي في موضع الحال من الهاء في نقصه، وجوز الطيبي كونها حالا من القرى، وادعى صاحب الكشف أن جعلها حالا من ضمير نقصه فاسد لفظا ومعنى، ومن القرى كذلك، وفي الحواشي الشهابية أراد بالفساد اللفظي في الأول خلو الجملة من الواو والضمير. وفي الثاني مجيء الحال من المضاف إليه في غير
330
الصور المعهودة، وبالفساد المعنوي أنه يقتضي أنه ليس من المقصوص بل هو حال خارجة عنها وليس بمراد، ولا يسوغ جعل ما بعده ابتداء المقصوص، وفيه فساد لفظي أيضا.
وزعم بعض أنه أراد بالفساد الأول في الأول ما ذكر. وفي الثاني وقوع الجملة الاسمية حالا بالضمير وحده وبالضمير تخصيص كونها مقصوصة بتلك الحالة فإن المقصوصية ثابتة لها وللنبأ وقت قيام بعضها أيضا، وقد أصاب بعضا وأخطأ بعضا، ووجه الجلبي الخلو عن الواو والضمير بأن المقصود من الضمير الربط وهو حاصل لارتباط ذلك بمتعلق ذي الحال وهي القرى، فالمعنى نقص عليك بعض أنباء القرى وهي على هذه الحالة تشاهدون فعل الله تعالى بها، وتعقب بأن الاكتفاء في الربط بما ذكر مع خفائه مذهب تفرد به الأخفش ولم يذكره في الحال وإنما ذكره في خبر المبتدأ، وقول أبي حيان: إن الحال أبلغ في التخويف وضرب المثل للحاضرين مع ما سمعت نفعا والحق أنه لا وجه لما ذكره أبو البقاء يعول عليه إلا الذهول وَما ظَلَمْناهُمْ قيل: الضمير للقرى مرادا بها أهلها وقد أريد منها أولا حقيقتها، ففي الكلام استخدام، وقيل: الضمير لأهل القرى لأن هناك مضافا مقدرا أي ذلك من أنباء أهل القرى والضمائر منها ما يعود إلى المضاف، ومنها ما يعود إلى المضاف إليه، ومتى وضح الأمر جاز مثل ذلك.
وقيل: القرى على ظاهرها وإسناد الأنباء إليها مجاز، وضمير مِنْها لها وضمير ظَلَمْناهُمْ للأهل المفهوم منها، وقيل: الْقُرى مجاز عن أهلها، والضميران راجعان إليها بذلك الاعتبار، أو يقدر المضاف والضميران له أيضا، وعلى هذا خرج ما حكي عن بعضهم من أن معنى مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ منها باق نسله، ومنها منقطع نسله، وأيا ما كان ففي الكلام إيذان بإهلاك الأهل فيكون المعنى هنا وما ظلمناهم بإهلاكنا إياهم وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ حيث اقترفوا بسوء استعدادهم ما يترتب عليه ذلك بمقتضى الحكمة فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ أي ما نفعتهم ولا دفعت بأس الله تعالى عنهم آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ أي يعبدونها مِنْ دُونِ اللَّهِ أوثر صيغة المضارع لحكاية الحال الماضية أو للدلالة على استمرار عبادتهم لها مِنْ شَيْءٍ أي شيئا من الإغناء أو شيئا من الأشياء- فما- نافية لا استفهامية- وإن جوّزه السمين- وتعلق عن بما عنده لما فيه من معنى الدفع، ومِنْ الأخيرة صلة ومجرورها مفعول مطلق أو مفعول به للدفع، وقوله سبحانه: لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ أي حين مجيء عذابه منصوب- بأغنت- وهذا- على ما في البحر- بناء على خلاف مذهب سيبويه لأن مذهبه أن لَمَّا حرف وجوب لوجوب.
وقرىء- آلهتهم اللاتي- و «يدعون» بالبناء للمفعول وهو وصف للآلهة كالتي في المشهورة، وفيه مطابقة للموصوف ليست في الَّتِي لكن قيل- كما في جمع الجوامع للجلال السيوطي- إن التي في جمع غير عالم أكثر من اللاتي، نعم إن الآلهة قد عوملت في الآية معاملة العقلاء لأن عبدتها نزلوها منزلة العقلاء في اعتقادهم فيها أنها تنفع وتضر، فقيل: وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ ومن هنا قيل: إن اللاتي في تلك القراءة واقع موقع الألي أو الذين، والتتبيب- على ما في البحر التخسير، يقال: تب خسر وتببه خسره.
وذكر الجوهري أن التب الخسران والهلاك والتتبيب الإهلاك وفي القاموس التب والتبب والتباب والتتبيب النقص والخسار.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عمر ومجاهد تفسير ذلك بالتخسير وكذا أخرج الطستي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إلا أنه استشهد عليه بقول بشر بن أبي خازم:
331
وحينئذ فالمعنى فما زادوهم غير تخسير أو خسارة لنفوسهم حيث استحقوا العذاب الأليم الدائم على عبادتهم لها نسأل الله تعالى العفو والعافية.
وَكَذلِكَ أي مثل ذلك الأخذ والإهلاك الذي مر بيانه، وهو على ما قال السمين: خبر مقدم، وقوله سبحانه:
أَخْذُ رَبِّكَ مبتدأ مؤخر، وقيل: بالعكس، والكاف يحتمل أن تكون اسمية وأن تكون حرفية وقد يجعل المشار إليه الأخذ المذكور بعد كما تحقق قبل، وفي قراءة عبد الله كذلك بغير واو.
إِذا أَخَذَ الْقُرى أي أهلها وإنما أسند إليها للإشعار بسريان أثره، وقرأ الجحدري وأبو رجاء وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ على أن أَخْذُ رَبِّكَ فعل وفاعل، والظرف لما مضى، وهو إخبار عما جرت به عادة الله تعالى في إهلاك من تقدم من الأمم وكذلك على هذا ساد مسد المصدر النوعي ولا مانع من تقدمه على الفعل والقرى متنازع للمصدر والفعل، وقوله سبحانه: وَهِيَ ظالِمَةٌ في موضع الحال من الْقُرى ولذا أنث الضمير وظالِمَةٌ إلا أن وصف القرى بالظلم مجاز وهو في الحقيقة صفة أهلها وجعله حالا من المضاف المقدر أولا وتأنيثه مكتسب من المضاف إليه تكلف، وفائدة هذه الحال الإشعار بأن أخذهم بسبب ظلمهم، وفي ذلك من إنذار الظالم ما لا يخفى، والمراد بالظلم إما الكفر أو ما هو أعم، وظاهر صنيع بعضهم أخذا من إطلاقه أنه شامل لظلم المرء نفسه. وغيره إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ وجيع شَدِيدٌ لا يرجى منه الخلاص وهذا مبالغة في التهديد والتحذير.
أخرج الشيخان في صحيحيهما والترمذي والنسائي وابن ماجة وآخرون عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إلى قوله تعالى: إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ»
إِنَّ فِي ذلِكَ أي أخذه سبحانه للأمم المهلكة أو فيما قص من أخبارهم لَآيَةً أي لعلامة، وفسرها بعضهم بالعبرة لما أنها تلزمها وهو حسن والتنوين للتعظيم أي لعبرة عظيمة لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ فإنه إذا رأى ما وقع في الدنيا بالمجرمين من العذاب الأليم اعتبر به حال العذاب الموعود فإنه عصا من عصية وقليل من كثير، وانزجر بذلك عن المعاصي التي يترتب عليها العذاب وأكب على التقوى والخشية من الله تعالى، وقد أقيم من خاف إلخ مقام من صدق بذلك لما بينهما من اللزوم ولأن الاعتبار إنما ينشأ من الخوف، وذكر هذا القيد لأن من أنكر الآخرة وأحال فناء هذا العالم أسند الحوادث إلى أسباب فلكية وأوضاع مخصوصة فلم يعتبر بذلك أصلا ولم ينزجر عن الضلالة قطعا، وقال: إن ما وقع إنما وقع لهاتيك الأسباب والأوضاع لا للمعاصي التي اقترفتها الأمم المهلكة.
وقيل: المراد أن فيما ذكر دليلا على عذاب المجرمين في الآخرة لأنهم إذا عذبوا في الدنيا لإجرامهم- وهي دار العمل- فلأن يعذبوا في الآخرة عليه- وهي دار الجزاء- أولى، وقيل: المراد أن فيه دليلا على البعث والجزاء، وذلك أن الأنبياء عليهم السلام قد أخبروا باستئصال من كذبهم وأشرك بالله ووقع ما أخبروا به وفق إخبارهم، وذلك أحد الشواهد على صدقهم فيكونون صادقين فيما يخبرون به من البعث والجزاء فلا بد أن يقع لا محالة، والتقييد بما ذكر هنا كالتقييد في قوله سبحانه: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: ٢] وهو كما ترى ذلِكَ إشارة إلى يوم القيامة المدلول عليه بذكر الآخرة يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ أي يجمع له الناس للمحاسبة والجزاء، فالناس نائب فاعل مجموع.
وأجاز ابن عطية أن يكون مبتدأ ومَجْمُوعٌ خبره، وفيه بعد إذ الظاهر حينئذ أن يكون مجموعا وعدل عن الفعل- وكان الظاهر- ليدل الكلام على ثبوت معنى الجمع وتحقق وقوعه لا محالة وأن الناس لا ينفكون عنه فهو أبلغ من قوله تعالى: يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ [التغابن: ٩] وإيضاحه أن في هذا دلالة على لزوم الوصف ولزوم
332
الإسناد، وفي ذلك على حدوث تعلق الجمع بالمخاطبين واختصاصه باليوم ولهذا استدركه بقوله: الجمع فأضاف اليوم إليه ليدل على لزومه له وإنما الحادث جمع الأولين والآخرين دفعة وَذلِكَ أي يوم القيامة مع ملاحظة عنوان جمع الناس له يَوْمٌ مَشْهُودٌ أي مشهود فيه فاتسع في الجار والمجرور ووصل الفعل إلى الضمير إجراء له مجرى المفعول به كما في قوله:
هم جدعوا الأنوف فأذهبوها وهم تركوا بني سعد تبابا
ويوما شهدناه سليما وعامرا قليل سوى طعن الدراك نوافله
أي يشهد فيه الخلائق الموقف لا يغيب عنه أحد وإنما لم يجعل نفس اليوم مشهودا بل جعله مشهودا فيه ولم يذكر المشهود تهويلا وتعظيما أن يجري على اللسان وذهابا إلى أن لا مجال لالتفات الذهن إلى غيره، وقد يقال:
المشهود هو الذي كثر شاهدوه، ومنه قولهم: لفلان مجلس مشهود وطعام محضور، ولأم قيس الضبية:
ومشهد قد كفيت الناطقين به في محفل من نواصي الناس مشهود
واعتبروا كثرة شاهديه نظرا إلى أنه الذي يستحق أن يطلق اسم المشهود على الإطلاق عليه، ولو جعل اليوم نفسه مشهودا من غير هذا الاعتبار لم يحصل الغرض من تعظيم اليوم وتمييزه فإن سائر الأيام كذلك لكن جاء الامتياز من ذلك لما أضيف إليه من الكثرة المهولة المميزة، وبما ذكر يعلم سقوط ما قيل: الشهود الحضور واجتماع الناس حضورهم فمشهود بعد مجموع مكرر وَما نُؤَخِّرُهُ أي ذلك اليوم الملحوظ بعنوان الجمع والشهود، ونقل الحوفي رجوع الضمير للجزاء، وقرأ الأعمش ويعقوب- يؤخره- بالياء.
إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ أي لانتهاء مدة قليلة، فالعد كناية عن القلة، وقد يجعل كناية عن التناهي، والأجل عبارة عن جميع المدة المعينة للشيء، وقد يطلق على نهايتها، ومنع إرادة ذلك هنا لأنه لا يوصف بالعد في كلامهم بوجه، وجوزها بعضهم بناء على أن الكناية لا يشترط فيها إمكان المعنى الأصلي، وتعقب بأنه عدول عن الظاهر، وتقدير المضاف أسهل منه واللام للتوقيت، وفي المجمع أنها تدل على الغرض وأن الحكمة اقتضت التأخير ولذا عدل عن إلى إليها وفي الآية رد على الدهرية، والفلاسفة الزاعمين أنه لا انقضاء لمدة الدنيا، وهو بحث مفروغ منه يَوْمَ يَأْتِ أي ذلك اليوم المؤخر بانقضاء أجله المضروب حسبما تقتضيه الحكمة وهو المروي عن ابن جريج، وقيل:
الضمير للجزاء أيضا، وقيل: لله تعالى، وفيه من تفخيم شأن اليوم ما لا يخفى، ويعضده قراءة- وما يؤخره- بالياء، ونسبة الإتيان ونحوه إليه سبحانه أتت في غير ما آية، واعترض الأول بأن التقدير عليه يوم إتيان ذلك اليوم ولا يصح لأن تعرف اليوم بالإتيان يأبى تعرف الإتيان به، ولأن إتيان اليوم لا ينفك عن يوم الإتيان فيكفي الإسناد وتلغو الإضافة، ونقل العلامة الطيبي نصا على عدم جوازه كما لا تقول: جئتك يوم بسرك، وأجيب أن كل زمان له شأن يعتبر تجدده كالعيد والنيروز والساعة مثلا، يجري مجرى الزماني وإن كان في نفسه زمانا فباعتبار تغاير الجهتين صحت الإضافة والإسناد كما يصح أن يقال: يوم تقوم الساعة ويوم يأتي العيد والعيد في يوم كذا، فالأول زمان وضميره أعني فاعل الفعل زماني، وإذا حسن مثل قوله:
فسقي الغضى والساكنيه وإن هم شبوه بين جوانحي وضلوعي
فهذا أحسن، وقرأ النحويان ونافع «يأتي» بإثبات الياء وصلا وحذفها وقفا، وابن كثير بإثباتها وصلا ووقفا وهي ثابتة في مصحف أبي، وقرأ باقي السبعة بحذفها وصلا ووقفا، وسقطت في مصحف عثمان رضي الله تعالى عنه، وإثباتها وصلا ووقفا هو الوجه، ووجه حذفها في الوقت التشبيه بالفواصل، ووصلا ووقفا التخفيف كما قالوا: لا أدر ولا أبال، وذكر الزمخشري أن الاجتزاء بالكسرة عن الياء كثير في لغة هذيل، ومن ذلك قوله:
333
كفاك كف ما تليق درهما جودا وأخرى تعط بالسيف الدما
وقرأ الأعمش- «يوم يأتون» - بواو الجمع، وكذا في مصحف عبد الله أي يوم يأتي الناس أو أهل الموقف لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ أي لا تتكلم بما ينفع وينجي من جواب أو شفاعة، وهذا الفعل على الأظهر هو الناصب للظرف السابق.
وجوز أن يكون منصوبا بالانتهاء المضاف إلى الأجل وأن يكون مفعولا به- لا ذكر- محذوفا، وهذه الجملة في موضع الحال من ضمير اليوم، وأجاز الحوفي وابن عطية كونها نعتا ليوم، وتعقب بأنه يقتضي أن إضافته لا تفيده تعريفا وهو ممنوع ولعل من يدعي ذلك يقول: إن الجمل بمنزلة النكرات حتى أطلقوا عليها ذلك فالإضافة إليها كالإضافة إليها إِلَّا بِإِذْنِهِ أي إلا بإذن الله تعالى شأنه وعز سلطانه في التكلم كقوله سبحانه: لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ [النبأ: ٣٨] وهذا في موقف من مواقف ذلك اليوم، وقوله تبارك وتعالى: هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ [المرسلات: ٣٥، ٣٦] في موقف آخر من مواقفه كما أن قوله تعالى: يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها [النحل: ١١١] في آخر منها، وروي هذا عن الحسن.
وقد ذكر غير واحد أن المأذون فيه الأجوبة الحقة والممنوع منه الأعذار بالباطلة، نعم قد يؤذن فيها أيضا لإظهار بطلانها كما في قول الكفرة: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: ٢٣] ونظائره، والقول بأن هذا ليس من قبيل الأعذار وإنما هو إسناد الذنب إلى كبرائهم وأنهم أضلوهم ليس بشيء كما لا يخفى، وفي الدرر والغرر للسيد المرتضى أن بين قوله سبحانه: يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ وقوله سبحانه: هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ وكذا قوله جل وعلا: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ [الصافات: ١٧] اختلافا بحسب الظاهر، وأجاب قوم من المفسرين عن ذلك بأن يوم القيامة يوم طويل ممتد فيجوز أن يمنعوا النطق في بعضه ويؤذن لهم في بعض آخر منه، ويضعف هذا الجواب أن الإشارة إلى يوم القيامة بطوله فكيف يجوز أن تكون الآيات فيه مختلفة، وعلى ما ذكروه يكون معنى هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ هذا يوم لا ينطقون في بعضه وهو خلاف الظاهر، والجواب السديد عن ذلك أن يقال: إنما أريد نفي النطق المسموع المقبول الذي ينتفعون به ويكون لهم في مثله إقامة حجة وخلاص لا نفي النطق مطلقا بحيث يعم ما ليس له هذه الحالة، ويجري هذا المجرى قولهم: خرس فلان عن حجته وحضرنا فلانا يناظر فلانا فلم نره قال شيئا وإن كان الذي وصف بالخرس والذي نفي عنه القول قد تكلم بكلام كثير إلا أنه من حيث لم يكن فيه حجة ولم يتضمن منفعة جاز إطلاق ما حكيناه عليه، ومثله قول الشاعر:
أعمى إذا ما جارتي خرجت حتى يواري جارتي الخدر
ويصم عما كان بينهما سمعي وما بي غيره وقر
وعلى هذا فلا اختلاف لأن التساؤل والتلاؤم مثلا لا حجة فيه، وأما قوله سبحانه: وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ فقد قيل فيه: إنهم غير مأمورين بالاعتذار فكيف يعتذرون، ويحمل الإذن على الأمر وإنما لم يؤمروا به لأن تلك الحالة لا تكليف فيها والعباد ملجؤون عند مشاهدة الأهوال إلى الاعتراف والإقرار، وأحسن من هذا أن يحمل يُؤْذَنُ لَهُمْ أنه لا يسمع لهم ولا يقبل عذرهم انتهى.
وأنت تعلم أن تضعيفه لما أجاب به القوم من امتداد يوم القيامة وجواز كون المنع من النطق في بعض منه والإذن في بعض آخر ليس بمرتضى عند ذي الفكر الرضي لظهور صحة وقوع الزمان الممتد ظرفا للنقيضين فيما إذا لم يقتض كل منهما أو أحدهما جميع ذلك الزمان، وقد شاع دفع التناقض بين الكلامين بمثل ما فعلوا ومرجعه إلى القول باختلاف الزمان كما أن مرجع ما روي عن الحسن إلى القول باختلاف المكان، واتحاد الزمان والمكان من شروط
334
تناقض القضيتين وليس هذا الذي فعلوه بأبعد مما فعله المرتضى على أن في كلامه بعد ما لا يخفى.
وقال بعض الفضلاء: لا منافاة بين هذه الآية والآيات التي تدل على التكلم يوم القيامة لأن المراد من يوم يأتي حين يأتي، والقضية المشتملة على ذلك وقتية حكم فيها بسلب المحمول عن جميع أفراد الموضوع في وقت معين وهذا لا ينافي ثبوت المحمول للموضوع في غير ذلك الوقت، وقال ابن عطية: لا بد من أحد أمرين: إما أن يقال: إن ما جاء في الآيات من التلاوم والتساؤل والتجادل ونحو ذلك مما هو صريح في التكلم كان عن إذن، وإما أن يحمل التكلم هنا على تكلم شفاعة أو إقامة حجة وكلا القولين كما ترى، والاستثناء قيل: من أعم الأسباب أي لا تكلم نفس بسبب من الأسباب إلا بسبب إذنه تعالى وهو متصل، وجوز أن يكون منقطعا ويقدر ما لا يتناول المستثنى أي لا تكلم نفس باقتدار من عندها إلا بإذنه تعالى، ولا يخفى أن هذا استثناء مفرغ، وقد طرق سمعك ما هو الأصح فيه، وقرىء كما في المصاحف لابن الأنباري- يوم يأتون لا تكلم دابة إلا بإذنه- فَمِنْهُمْ أي أهل الموقف المدلول عليه بقوله سبحانه: لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ أو الجميع الذي تضمنه نَفْسٌ إذ هو اسم جنس أريد به الجميع على ما نقله أبو حيان عن ابن عطية، أو الناس المذكور في قوله سبحانه: مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ ونقل ابن الأنباري أن الضمير لأمة محمد صلّى الله عليه وسلم وهو من الغرابة بمكان وكأنه قصد هذا القائل بذلك تمهيدا لتوجيه الاستثناء الآتي وهو ولله الحمد غني عن ذلك، والظاهر أن من للتبعيض والجار والمجرور خبر مقدم، وقوله سبحانه: شَقِيٌّ مبتدأ، وقوله تعالى: وَسَعِيدٌ بتقدير ومنهم سعيد، وحذف منهم لدلالة الأول عليه، والسعادة على ما قال الراغب: معاونة الأمور الإلهية للإنسان على نيل الخير ويضادها الشقاوة، وفسر في البحر الشقاوة بنكد العيش وسوئه، ثم قال: والسعادة ضدها، وفي القاموس ما يقرب من ذلك، فالشقي والسعيد هما المتصفان بما ذكر، وفسر غير واحد الأول بمن استحق النار بمقتضى الوعيد والثاني بمن استحق الجنة بموجب الوعد، وهذا هو المتعارف بين الشرعيين، وتقديم الشقي على السعيد لأن المقام مقام الإنذار والتحذير فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا أي سبقت لهم الشقاوة فَفِي النَّارِ أي مستقرون فيها لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ قال أهل اللغة من الكوفية والبصرية: الزفير بمنزلة ابتداء صوت الحمار والشهيق بمنزلة آخر نهيقه، قال رؤبة:
حشرج في الصدر صهيلا أو شهق حتى يقال ناهق وما نهق
وقال ابن فارس: الزفير إخراج النفس والشهيق رده، قال الشماخ في حمار وحش:
بعيد مدى التطريب أول صوته زفير ويتلوه شهيق محشرج
وقال الراغب: الزفير ترديد النفس حتى تنتفخ الضلوع منه من زفر فلان إذا حمل حملا بمشقة فتردد فيه نفسه، ومنه قيل: للإماء الحاملات الماء: زوافر والشهيق طول الزفير وهو رد النفس، والزفير مدة، وأصله من جبل شاهق أي متناه في الطول.
وعن السائب أن الزفير للحمير والشهيق للبغال وهو غريب، ويراد بهما الدلالة على كربهم وغمهم وتشبيه حالهم بحال من استولت على قلبه الحرارة وانحصر فيه روحه، أو تشبيه أصواتهم بأصوات الحمير ففي الكلام استعارة تمثيلية أو استعارة مصرحة، والمأثور عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: يريد ندامة ونفسا عاليا وبكاء لا ينقطع، وقرأ الحسن «شقوا» بضم الشين فاستعمل متعديا لأنه يقال: شقاه الله تعالى كما يقال أشقاه، وجملة لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ إلخ مستأنفة كأن سائلا قال: ما شأنهم فيها؟ فقيل لهم فيها كذا وكذا، وجوّز أن تكون منصوبة المحل على الحالية من النار أو من الضمير في الجار والمجرور كقوله عز وجل: خالِدِينَ فِيها خلا أنه إن أريد حدوث كونهم في النار فالحال مقدرة ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أي مدة دوامهما، وهذا عبارة عن التأبيد ونفي الانقطاع
335
على منهاج قول العرب: لا أفعل كذا ما لاح كوكب وما أضاء الفجر وما اختلف الليل والنهار وما بل بحر صوفة وما تغنت حمامة إلى غير ذلك من كلمات التأييد عندهم لا تعليق قرارهم فيها بدوام هذه السماوات والأرض، فأن النصوص القاطعة دالة على تأبيد قرارهم فيها وانقطاع دوامهما، وروي هذا عن ابن جرير، وجوز أن يحمل ذلك على التعليق والمراد بالسماوات والأرض سماوات الآخرة وأرضها، وهي دائمة للأبد، قال الزمخشري: والدليل على أن لها سماوات وأرضا قوله سبحانه: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ [إبراهيم: ٤٨] وقوله سبحانه: وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ [الزمر: ٧٤] ولأنه لا بد لأهل الآخرة مما يقلهم ويظلهم إما سماء يخلقها الله تعالى أو يظلهم العرش، وكل ما أظلك فهو سماء انتهى.
قال القاضي: وفيه نظر لأنه تشبيه بما لا يعرف أكثر الخلق وجوده ودوامه ومن عرفه فإنما عرفه بما يدل على دوام الثواب والعقاب فلا يجدي له التشبيه وأجاب عنه صاحب الكشف بأنه إذا أريد ما يظلهم وما يقلهم فهو ظاهر السقوط لأن هذا القدر معلوم الوجود لكل عاقل وأما الدوام فليس مستفادا من دليل دوام الثواب والعقاب بل مما يدل على دوام الجنة والنار سواء عرف أنهما دار الثواب والعقاب وأن أهلهما السعداء والأشقياء من الناس أولا على أنه ليس من تشبيه ما يعرف بما لا يعرف بل العكس انتهى، وتعقبه الجلبي بأن قوله: لكل عاقل غير صحيح فإنه لا يعترف بذلك إلا المؤمنون بالآخرة، وقوله: الدوام مستفاد مما يدل على دوام الجنة والنار لا يدفع ما ذكره القاضي لأنه يريد أن المشبه به ليس أعرف من المشبه لا عند المتدين لأنه يعرف كليهما من قبل الأنبياء عليهم السلام وليس فيه ما يوجب أعرفية دوام سماوات الآخرة وأرضها وليس مراده أن دوامهما مستفاد من خصوص الدليل الدال على الثواب والعقاب بعينه فإنه لا يهمه ليمنع ولا عند غير المتدين فإنه لا يعترف به ولا بها ولا يعرفه، وقوله: على أنه ليس من تشبيه إلخ مبني على أنه تشبيه تلك الدار بهذه الدار وليس بذلك، وإنما المراد التشبيه الضمني لدوامهم بدوامهما انتهى، وفيه بحث.
والحق أن صحة إرادة ذلك مما لا ينبغي أن ينتطح فيه كبشان، وفي الأخبار عن ابن عباس والحسن والسدي وغيرهم ما يقتضيه، ومن تأمل منصفا بعد تسليم أن هناك تشبيها يظهر له أن المشبه به أعرف من المشبه وأقرب إلى الذهن، واتحاد طريق العلم بهما لا يضر في ذلك شيئا بداهة أن ثبوت الحيز أعرف وأقرب إلى الذهن من ثبوت ما تحيز فيه وإن وردا من طرق السمع كما لا يخفى على أن اشتراط كون المشبه به أعرف وأقرب إلى الذهن من ثبوت ما تحيز فيه وإن وردا من طرق السمع كما لا يخفى على أن اشتراط كون المشبه به أعرف في كل تشبيه غير مسلم عند الناظر في المعاني، نعم المتبادر من السموات والأرض هذه الأجرام المعهودة عندنا، فالأولى أن تبقى على ظاهرها ويجعل الكلام خارجا مخرج ما اعتادته العرب في محاوراتهم عند إرادة التبعيد والتأبيد، وهو أكثر من أن يحصى، ولعل هذا أولى أيضا مما في تفسير ابن كثير من حمل السموات والأرض على الجنس الشامل لما في الدنيا والآخرة أي المظل والمقل في كل دار، وفي الدرر أنه يمكن أن يكون المراد أنهم خالدون بمقدار مدة بقاء السموات والأرض التي يعلم انقطاعها ثم يزيدهم سبحانه على ذلك ويخلدهم ويؤبد مقامهم، ولعله أراد مدة بقائهما منذ خلقهما الله تعالى إلى أن يبدلهما لا مدة بقائهما بعد دخولهم النار يوم القيامة لأنهما يبدلان قبل دخولهم، والآية على هذا من قبيل قوله سبحانه: لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً [النبأ: ٢٣] إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ قيل: هو استثناء من الضمير المستكن في خالِدِينَ وتكون ما واقعة على نوع من يعقل كما في قوله سبحانه: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ [النساء: ٣] أو واقعة على من يعقل على مذهب من يرى وقوعها عليه مطلقا.
والمراد بمن شاء فساق الموحدين فإنهم يخرجون منها كما نطقت به الأخبار، وذلك كاف في صحة الاستثناء لأن زوال الحكم عن الكل يكفيه زواله عن البعض وهم المراد بالاستثناء الثاني فإنهم مفارقون عن الجنة أيام عذابهم،
336
والتأبيد من مبدأ معين ينتقض باعتبار الابتداء كما ينتقض باعتبار الانتهاء، ألا ترى أنك إذا قلت مكثت يوم الخميس في البستان إلا ثلاث ساعات جاز أن يكون ذلك الزمان الواقع فيه عدم المكث من أوله ومن آخره، وهؤلاء وإن شقوا بعصيانهم فقد سعدوا بإيمانهم، ولا يقال: فعلى هذا لا يكون قوله سبحانه: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ تقسيما صحيحا لأن من شرطه أن تكون صفة كل قسم منفية عن قسيمه لأن ذلك الشرط حيث الانفصال حقيقي أو مانع من الجمع، وهاهنا المراد أن أهل الموقف لا يخرجون من القسمين وأن حالهم لا تخلو عن السعادة والشقاوة، وذلك لا يمنع اجتماع الأمرين في شخص واحد باعتبارين انتهى، وهو ما ذكره الإمام وآثره القاضي، واعترض بأنه لا دلالة في اللفظ على المبدأ المعين ولو سلم فالاستثناء يقتضي إخراجا عن حكم الخلود وهو لا محالة بعد الدخول، فكيف ينتقض بما سبق عليه؟ كيف وقد سبق قوله تعالى: في الجنة؟ ثم قيل: فإن قلت: زمان تفرقهم عن الموقف هو الابتداء وهو آخر يوم يأتي قلت: إن ادعى أن الابتداء من ابتداء ذلك الزمان جاز أن يسلم دلالة اللفظ عليه ولا ينفع لأن الكل في الدارين غير خالدين على هذا التقدير، وأما جعل ابتداء المدة من انتهائه فلا، وبأن تقابل الحكمين يدل على تقابل القسمين بمعنى منع الجمع مطلقا وأجيب- بعد غمض العين عما في ذلك من الخروج عن آداب المناظرة- بأن مبدأ زمان خلود أهل الجنة من زمان دخول أهل النار في النار، ويدل على ذلك اتحاد معيار الخلودين، وهو ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ فإنه يدل على زمان خلودهما ولا اتحاد مع الاختلاف في المبدأ، والاستثناء عن حكم الخلود من مبدأ معين يكون بالإخراج عن حكم الدخول الذي يتضمنه الخلود فيها لا محالة.
وخلاصة المعنى على هذا أن السعداء كلهم خالدون في الجنة من زمان دخول أهل النار في النار إلا العصاة منهم الذين أراد الله سبحانه دخولهم في النار مدة معينة علمها عنده جل وعلا، وما ذكر من حديث تقابل الحكمين إن أريد تقابلهما بمعنى منع الجمع فلا تقابل فيهما بهذا المعنى لاجتماعهما في العصاة، وإن أريد مطلقا فلا دلالة على تقابل القسمين بذلك المعنى انتهى.
ولا يخفى على المنصف ما في ذلك القول من التكلف ومخالفة الظاهر والانتصار له بما ذكر لا يجديه نفعا، وقيل: هو استثناء من الضمير المتقدم إلا أن الحكم الخلود في عذاب النار، وكذا يقال فيما بعد: إن الحكم فيه الخلود في نعيم الجنة وأهل النار ينقلون منها إلى الزمهرير وغيره من العذاب أحيانا وكذلك أهل الجنة ينعمون بما هو أعلى منها كالاتصال بجناب القدس والفوز برضوان الله تعالى الذي هو أكبر وما يتفضل به عليهم سوى ثواب الجنة مما لا يعرف كنهه إلا هو سبحانه وتعالى، وإلى هذا ذهب الزمخشري سالا سيف البغي والاعتزال، وقد رده العلامة الطيبي وأطال الكلام في ذلك.
وقال صاحب الكشف: إن ذلك في أهل النار ظاهر لأنهم ينقلون من حر النار إلى برد الزمهرير، والرد بأن النار عبارة عن دار العقاب غير وارد لأنا لا ننكر استعمال النار فيها تغليبا أما دعوى الغلبة حتى يهجر الأصل فكلا، ألا ترى إلى قوله تعالى: ناراً تَلَظَّى [الليل: ١٤] ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ [التحريم: ٦] ؟ وكم وكم، وأما رضوان الله تعالى عن أهل الجنة وهم فيها فيأبى الاستثناء كيف وقوله سبحانه: خالِدِينَ فِيها لا يدل بظاهره على أنهم منعمون بها فضلا عن انفرادها بتنعمهم إلا أن يخصص بجنة الثواب لا محض التفضل، وكفاه بطلانا التخصيص من غير دليل، واعترض بأن لك أن تقول: هجر الأصل في الآيتين اللتين ذكرتا علم من الوصف، وفي هذه الآية ذكرها في مقابلة الجنة يعضد أن المراد بها دار العقاب مطلقا.
وقيل: إن الاستثناء مفرغ من أعم الأوقات وما على أصلها لما لا يعقل وهو الزمان والحكم الكون في
337
النار، والمعنى أما الذين شقوا ففي النار في كل زمان بعد إتيان ذلك اليوم إلا زمانا شاء الله تعالى فيه عدم كونهم فيها وهو زمان موقف الحساب، واعترض بأن عصاة المؤمنين الداخلين النار إما سعداء فيلزم أن يخلدوا في الجنة فيما سوى الزمان المستثنى وليس كذلك. أو أشقياء فيلزم أن يخلدوا في النار وهو خلاف مذهب أهل السنة، وأيضا تأخره عن الحال- ولا مدخل لها في الاستثناء- لا يفصح، والإبهام بقوله سبحانه: إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ والتفخيم الذي يعطيه لا يبقى له رونق، وأجيب بأنه قد يقال: إن القائل بذلك يخص الأشقياء بالكفار والسعداء بالأتقياء ويكون العصاة مسكوتا عنهم هنا فلا يرد عليه شيء إن كان سنيا وإن كان معتزليا فقد وافق سنن طبعه، ويجاب عما بعد بالمنع، وقيل:
أمر الاستثناء ما علمت إلا أن المستثنى مدة لبثهم في الدنيا أو البرزخ ويقطع النظر عن يَوْمَ يَأْتِ والمعنى أنهم في النار جميع أزمان وجودهم إلا زمانا شاء الله تعالى لبثهم في الدنيا أو البرزخ، والمراد مع زمان الموقف إذ ليسوا في زمانه أيضا في النار إلا أن يراد بالنار العذاب فلا يحتاج للمعية لكن يرد أنهم معذبون في البرزخ أيضا إلا أن يقال: لا يعتد بذلك لأنه عذاب غير تام لعدم تمام حياتهم فيه، وأورد عليه ما أورد على ما قبله، وأجيب بأنه إنما يرد لو كان المستثنى في الاستثناء الثاني هو ذلك الزمان المستثنى في الاستثناء الأول وهو غير مسلم فليكن المستثنى منه زمان لبثهم في النار مع ذلك الزمان المستثنى في الآية الأولى فإن المستثنى ليس فيه ما يدل على تعيين زمان حتى لا يمكن الزيادة عليه وهو كما ترى.
وقيل: هو استثناء من قوله سبحانه: لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ ورد بأن المقابل لا يجري فيه هذا ويبقى الإشكال، وأجيب بأن المراد ذكر ما تحتمله الآية والاطراد ليس بلازم، وتعقب بأنه ليس المراد إلا بيان ضعف هذا الوجه وكفى بعدم الاطراد ضعفا، وقيل: إِلَّا بمعنى سوى كقولك: لك عليّ ألفان إلا الألف التي كانت يعني سواها، ونقل ذلك عن الزجاج والفراء والسجاوندي، والمعنى سوى ما شاء ربك من الزيادة التي لا آخر لها على مدة بقاء السموات والأرض، والاستثناء في ذلك منقطع، ويحتمل أن يريدوا أن إِلَّا بمعنى غير صفة لما قبلها والمعنى يخلدون فيها مقدار مدة السموات والأرض سوى ما شاء الله تعالى مما لا يتناهى، وضعف هذا القيل بأنه يلزم حمل السموات والأرض على هذين الجسمين المعروفين من غير نظر إلى معنى التأبيد وهو فاسد، وقيل: إِلَّا بمعنى الواو أي وما شاء ربك زائدا على ذلك، واستشهد على مجيئها بمعنى الواو بقوله:
وكل أخ مفارقه أخوه... لعمر أبيك «إلا» الفرقدان
وفيه أن هذا قول مردود عند النحاة، وقال العلامة الطيبي: الحق الذي لا محيد عنه أن يحمل ما على من لإرادة الوصفية وهي المرحومية، وخالِدِينَ حال مقدرة من ضمير الاستقرار أي في النار، والمعنى وأما الذين شقوا ففي النار مقدرين الخلود إلا المرحوم الذي شاء الله تعالى أن لا يستقر مخلدا فيفيد أن لا يستقر فيها مطلقا أو يستقر غير مخلد، وأحوال العصاة على هذا النهج كما علم من النصوص، وفي ذلك إيذان بأن إخراجهم بمحض رحمة الله تعالى فينطبق عليه قوله سبحانه: إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ وتعقب بأنه لا يجري في المقابل إلا بتأويل الإمام وقد مر ما فيه، أو بجعله من أصل الحكم ويقتضي أن لا يدخلوا أصلا، وإذا أول بمقدرين فلو جعل استثناء من مقدرين لم يتجه، ومن قوله تعالى: فَفِي النَّارِ فلا يكون لهم دخول أصلا، ودلالة «ما» لإبهامها إما على التفخيم أو التحقير ولا يطابق المقام، وقيل: وقيل، والأوجه أن يقال: إن الاستثناء في الموضعين مبني على الفرض والتقدير فمعنى إلا ما شاء أي لو فرض أن الله تعالى شاء إخراجهم من النار أو الجنة في زمان لكان مستثنى من مدة خلودهم لكن ذلك لا يقع لدلالة القواطع على عدم وقوعه، وهذا كما قال الطيبي من أسلوب حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ [الأعراف:
338
٤٠] ولا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى [الدخان: ٥٦] وذكر أنه وقف على نص من قبل الزجاج يوافق ذلك.
وفي المعالم عن الفراء أيضا ما يوافقه حيث نقل عنه أنه قال: هذا استثناء استثناء سبحانه ولا يفعله كقولك: والله لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك وعزيمتك أن تضربه، وحذو القذة بالقذة ما نقله قبل عن بعضهم أن المعنى لو شاء لأخرجهم لكنه لا يشاء لأنه سبحانه حكم لهم بالخلود.
وفي البحر عن ابن عطية نقلا عن بعض ما هو بمعناه أيضا حيث قال: وأما قوله تعالى: إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ فقيل فيه: إنه على طريق الاستثناء الذي ندب الشرع إلى استعماله في كل كلام فهو على نحو قوله جل وعلا:
لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [الفتح: ٢٧] استثناء في واجب، وهذا الاستثناء في حكم الشرط كأنه قيل: إن شاء ربك فليس يحتاج أن يوصف بمتصل ولا منقطع، وممن ذهب إلى ذلك أيضا الفاضل ميرزا جان الشيرازي في تعليقاته على تفسير القاضي ونص على أنه من قبيل التعليق بالمحال حتى يثبت محالية المعلق ويكون كدعوى الشيء مع بينة، وهو أحد الأوجه التي ذكرها السيد المرتضى في درره، وتفسير الاستثناء الأول بالشرط أخرجه ابن مردويه عن جابر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كما ذكر ذلك الجلال السيوطي في الدر المنثور، ولعل النكتة في هذا الاستثناء على ما قيل: إرشاد العباد إلى تفويض الأمور إليه جل شأنه وإعلامهم بأنها منوطة بمشيئته جل وعلا يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا حق لأحد عليه ولا يجب عليه شيء كما قال تبارك وتعالى: إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ.
وذكر بعض الأفاضل أن فائدته دفع توهم كون الخلود أمرا واجبا عليه تعالى لا يمكن له سبحانه نقضه كما ذهب إليه المعتزلة حيث أخبر به جل وعلا مؤكدا، والمراد- بالذين شقوا- على هذا الوجه الكفار فقط فإنهم الأحقاء بهذا الاسم على الحقيقة- وبالذين سعدوا- المؤمنون كافة مطيعهم وعاصيهم فيكون التقسيم في قوله سبحانه:
فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ للانفصال الحقيقي ولا ينافيه قوله تعالى: فَفِي الْجَنَّةِ لأنه يصدق بالدخول في الجملة.
وفي الكشف بعد نقل أن الاستثناء من باب حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فإن قلت: فقد حصل مغزى الزمخشري من خلود الفساق، قلت: لا كذلك لأنهم داخلون في السعداء، والآية تقتضي خلود السعيد وذلك بعد دخوله فيها لا محالة، ولا تنفي كينونته في النار قبل دخوله في الجنة فإن اللفظ لا يقتضي أن يدخلوا- أعني السعداء- كلهم في الجنة معا كيف والقاطع يدل على دخولهم أولا فأولا على حسب مراتبهم انتهى فتأمل، فإن الآية من المعضلات.
وإنما لم يضمر في إِنَّ رَبَّكَ إلخ كما هو الظاهر لتربية المهابة وزيادة التقرير، واللام في لِما قيل:
للتقوية أي فعال ما يريده سبحانه لا يتعاصى عليه شيء بوجه من الوجوه.
وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ الكلام فيه ما علمت خلا أنه لم يذكر هاهنا أن لهم بهجة وسرورا كما ذكر في أهل النار لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ لأن المقام مقام التحذير والإنذار، وسُعِدُوا بالبناء للمفعول قراءة حمزة والكسائي وحفص ونسبت إلى ابن مسعود وطلحة بن مصرف وابن وثاب والأعمش، وقرأ جمهور السبعة «سعدوا» بالبناء للفاعل، واختار ذلك على ابن سليمان، وكان يقول:
عجبا من الكسائي كيف قرأ «سعدوا» مع علمه بالعربية، وهذا عجيب منه فإنه ما قرأ إلا ما صح عنده ولم يقرأ بالرأي ولم يتفرد بذلك، وروي عنه أنه احتج لذلك بقولهم: مسعود، وتعقب بأنه لا حجة فيه لاحتمال أنه كان مسعود فيه، وذكر أن الفراء حكى أن هذيلا تقول: سعده الله تعالى بمعنى أسعده، وقال الجوهري: سعد بالكسر فهو سعيد مثل
339
قولهم: سلم فهو سليم، وسعد فهو مسعود، وقال أبو نصر عبد الرحيم القشيري: ورد سعده الله تعالى فهو مسعود.
وأسعده الله تعالى فهو مسعد، وما ألطف الإشارة في- شقوا وسعدوا- على قراءة البناء للفاعل في الأول والبناء للمفعول في الثاني، فمن وجد ذلك فليحمد الله تعالى. ومن لم يجد فلا يلومنّ إلا نفسه عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ أي غير مقطوع عنهم ولا مخترم، ومصدره الجذ، وقد جاء جذذت. وجددت بالذال المعجمة والدال كما قال ابن قتيبة، وبالمعجمة أكثر، ونصب عَطاءً على المصدرية من معنى الجملة لأن قوله سبحانه: فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها يقتضي إعطاء وإنعاما فكأنهم قيل: يعطيهم إعطاء وهو إما اسم مصدر هو الإعطاء. أو مصدر بحذف الزوائد كقوله تعالى: أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح: ١٧]، وقيل: هو نصب على الحالية من المفعول المقدر للمشيئة. أو تمييز، فإن نسبة مشيئة الخروج إلى الله تعالى تحتمل أن تكون على جهة عطاء مجذوذ، وعلى جهة عطاء غير مجذوذ فهو رافع للإبهام عن النسبة، ولعل النصب على المصدرية أولى وكأنه جيء بذلك اعتناء ومبالغة في التأبيد ودفعا لما يتوهم من ظاهر الاستثناء من الانقطاع، وقيل: إن ذلك لبيان أن ثواب أهل الجنة- وهو إما نفس الدخول أو ما هو كاللازم البين له- لا ينقطع فيعلم منه أن الاستثناء ليس للدلالة على الانقطاع كما في العقاب بل للدلالة على ترادف نعم ورضوان من الله تعالى أو لبيان النقص من جانب المبدأ ولهذا فرق في النظم بين التأبيد من حيث تمم الأول بقوله سبحانه: إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ للدلالة على أنه ينعم بعض من يعذبه ويبقى غيره كما يشاء ويختار والثاني بقوله تعالى: عَطاءً إلخ بيانا لأن إحسانه لا ينقطع، ومن الناس من تمسك بصدر الآية أنه لا يبقى في النار أحد ولم يقل بذلك في الجنة، وتقوى مطلبه ذاك بما أخرجه ابن المنذر عن الحسن قال: قال عمر: لو لبث أهل النار في النار كقدر رمل عالج لكان لهم يوم يخرجون فيه، وبما أخرج إسحاق بن راهويه عن أبي هريرة قال: سيأتي على جهنم يوم لا يبقى فيها أحد، وقرأ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا الآية، وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن إبراهيم قال: ما في القرآن آية أرجى لأهل النار من هذه الآية خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ قال: وقال ابن مسعود: ليأتين عليها زمان تصفق فيه أبوابها، وأخرج ابن جرير عن الشعبي قال: جهنم أسرع الدارين عمرانا وأسرعهما خرابا إلى غير ذلك من الآثار.
وقد نص ابن الجوزي على وضع بعضها كخبر عن عبد الله بن عمرو بن العاص يأتي على جهنم يوم ما فيها من ابن آدم أحد تصفق أبوابها كأنها أبواب الموحدين، وأول البعض بعضها ومر شيء من الكلام في ذلك، وأنت تعلم أن خلود الكفار مما أجمع عليه المسلمون ولا عبرة بالمخالف، والقواطع أكثر من أن تحصى، ولا يقاوم واحدا منها كثير من هذه الأخبار، ولا دليل في الآية على ما يقوله المخالف لما علمته من الوجوه فيها ولا حاجة إلى دعوى النسخ فيها كما روي عن السدي بل لا يكاد يصح القول بالنسخ في مثل ذلك، هذا وقد ذكر أن في الآية صيغة الجمع مع التفريق والتقسيم أما الجمع ففي قوله تعالى: يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فإن النفس كما تقرر عامة لكونها نكرة في سياق النفي، وأما التفريق ففي قوله تعالى: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ وأما التقسيم ففي قوله سبحانه: فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا إلخ ونظيرها في ذلك قول الشريف القيرواني:
لمختلفي الحاجات جمع ببابه فهذا له فن وهذا له فن
فللخامل العليا وللمعدم الغنى وللمذنب العتبى وللخائف الأمن
ومن هنا يعلم حال الفاءين فاء فَمِنْهُمْ وفاء فَأَمَّا إلخ، قيل: وفي العدول عن فأما الشقي ففي النار خالدا فيها إلخ. وأما السعيد- أو المسعود- ففي الجنة خالدا فيها إلخ إلى ما في النظم الجليل إشارة إلى سبق هذه الشقاوة
340
والسعادة وأن ذلك أمر قد فرغ منه كما يدل عليه ما
أخرجه أحمد والترمذي والنسائي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: خرج علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم وفي يده كتابان فقال: «أتدرون ما هذان الكتابان؟ قلنا: لا يا رسول الله أما تخبرنا؟ فقال للذي في يده اليمنى: هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل الجنة وآبائهم وقبائلهم ثم أجملهم على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدا، ثم قال للذي في شماله: هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل النار وآبائهم وقبائلهم ثم أجملهم على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدا، فقال أصحابه: ففيم العمل يا رسول الله إن كان أمر قد فرغ منه؟ فقال: سدّدوا وقاربوا فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة وإن عمل أي عمل، وإن صاحب النار يختم له بعمل أهل النار وإن عمل أي عمل، ثم قال صلّى الله عليه وسلم بيده فنبذهما وقال: فرغ ربكم من العباد فريق في الجنة وفريق في السعير»
وجاء في حديث «الشقي من شقي في بطن أمه والسعيد من سعد في بطن أمه»
وحمل ذلك بعضهم على ظهور الأمر للملك الموكل بالنطفة وإلا فالأمر قبل ذلك، وبعضهم فسر الأم بالثبوت العلمي الذي يظهر المعلوم منه إلى هذا الوجود الخارجي وهو ضرب من التأويل كما لا يخفى، ولا يأبى هذه الإشارة عند التأمل ما
أخرجه الترمذي وحسنه وأبو يعلى وابن مردويه وغيرهم عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: «لما نزلت فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ قلت: يا رسول الله فعلام نعمل على شيء قد فرغ منه، أو على شيء لم يفرغ منه؟ قال: بل على شيء قد فرغ منه وجرت به الأقلام يا عمر ولكن كل ميسر لما خلق له»،
وقيل: كان الظاهر هنا التعبير بالمضارع إلا أنه عبر بالماضي إشارة إلى تحقق الوقوع وأتى بالموصول جمعا إيذانا بأن المراد- بشقي وسعيد- فريق شقي، وفريق سعيد، ولم يقل أشقياء وسعداء لأن الإفراد أوفق بما قبل، وقيل: الإفراد أولا للإشارة إلى أن كل فريق من حيث اتصافه بالشقاوة أو السعادة كشيء واحد، وجمع ثانيا لما أن دخول كل فريق في الجنة والنار ليس جملة واحدة بل جمعا جمعا وزمرة زمرة وله شواهد من الكتاب والسنة فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ أي في شك، والفاء لترتيب النهي على ما قص من القصص وبين في تضاعيفها من العواقب الدنيوية والأخروية أي فلا تك في شك بعد أن بين لك ما بين مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ أي من عبادة هؤلاء المشركين في أنها ضلال مؤد إلى مثل ما حل بمن قبلهم ممن قصصت عليك سوء عاقبة عبادتهم- فمن- ابتدائية، وجوز أن تكون بمعنى في، و «ما» مصدرية، وجوز أن تكون موصولة وفي الكلام مضاف محذوف أي من حال ما يعبدونه من أنه لا يضر ولا ينفع إذ لا معنى للمرية في أنفسهم ما يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ استئناف بياني وقع تعليلا في المعنى للنهي عن المرية، والاستثناء إما من مصدر مقدر أو مفعول محذوف أي هم وآباؤهم سواء في الشرك ما يعبدون عبادة إلا كعبادة آبائهم. أو ما يعبدون شيئا إلا مثل الذي عبدوه من الأوثان وقد بلغك ما لحق آباؤهم بسبب ذلك فيلحقهم مثله لأن التماثل في الأسباب يقتضي التماثل في المسببات، ومعنى كَما يَعْبُدُ كما كان عبد فحذف لدلالة قَبْلُ عليه، وكأن اختيار هذا للإشارة إلى أن ذلك كان عادة مستمرة لهم وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ يعني هؤلاء الكفرة نَصِيبَهُمْ حظهم من العذاب كما وفينا آباءهم حظوظهم. أو من الرزق فيكون عذرا لتأخر العذاب عنهم مع قيام ما يوجبه، وفي هذا من الإشارة إلى مزيد فضل الله تعالى وكرمه ما لا يخفى حيث لم يقطع رزقهم مع ما هم عليه من عبادة غيره، وفي التعبير- بالنصيب- على الأول تهكم لأنه ما يطلب ويراد والعذاب بمعزل عن ذلك، وتفسيره بما ذكر مروي عن ابن زيد، وبالرزق- عن أبي العالية، وعن ابن عباس أن المراد به ما قدر من خير أو شر، وقرأ ابن محيصن «لموفوهم» مخففا من أوفى غَيْرَ مَنْقُوصٍ حال مؤكدة من النصيب كقوله تعالى: ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ [التوبة: ٢٥] وفائدته دفع توهم التجوز، وإلى هذا ذهب العلامة الطيبي، وقال: إنه الحق.
341
وفي الكشاف أنه جيء بهذه الحال عن النصيب الموفى لأنه يجوز أن يوفى وهو ناقص ويوفى وهو كامل ألا تراك تقول: وفيته شطر حقه وثلث حقه وحقه كاملا وناقصا انتهى، وتعقبه أبو حيان بأن هذه مغلطة لأنه إذا قيل: وفيته شطر حقه فالتوفية إنما وقعت في الشطر وكذا ثلث حقه، والمعنى أعطيته الشطر أو الثلث كاملا لم أنقصه منه شيئا، وأما قولك: وفيته حقه كاملا فالحال فيه مؤكدة لأن التوفية تقتضي الإكمال، وأما قولك: وفيته حقه ناقصا فغير صحيح للمنافاة انتهى.
وقال ابن المنير: إنه وهم لأن التوفية تقتضي عدم نقصان الموفى كاملا كان أو بعضا فقولك: وفيته نصف حقه يستلزم عدم نقصان النصف الموفى، فالسؤال عن وجه انتصاب هذه الحال قائم بعد، والأوجه أن يقال: استعملت التوفية بمعنى الإعطاء كما استعمل التوفي بمعنى الأخذ، ومن قال: أعطيت فلانا حقه كان جديرا أن يؤكده بقوله: غَيْرَ مَنْقُوصٍ انتهى. وفي الكشف أقول في تعليق التوفية بالنصف مع أن الكل حقه ما يدل على مطلوبه إذ لا فرق بين قولك: نصف حقه وحقه منصفا، فجاز وفيته نصيبه منصفا ونصيبه ناقصا، ويحسن فائدة التأكيد ويظهر أن الواهم من هو فتأمل وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ أي التوراة فَاخْتُلِفَ فِيهِ أي في شأن الكتاب وكونه من عند الله تعالى فآمن به قوم وكفر به آخرون فلا تبال باختلاف قومك فيما آتيناك من القرآن، وقولهم: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ [هود: ١٢] وزعمهم «إنك افتريته».
وجوز رجوع الضمير إلى موسى وهو خلاف الظاهر، وإن كان الاختلاف فيه عليه السلام هل هو نبي أم لا؟
مستلزما للاختلاف في كتابه هل هو من الله تعالى أم لا، وقيل: إن- في- على هذا الاحتمال بمعنى على أي فاختلف قومه عليه وتعنتوا كما فعل قومك معك وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ وهي كلمة القضاء بتأخير العذاب إلى الأجل المعلوم على حسب الحكمة الداعية إلى ذلك لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ أي لأوقع القضاء بين المختلفين من قومك بإنزال العذاب الذي يستحقه المبطلون ليتميزوا به عن المحقين، وفي البحر إن الظاهر عود الضمير على قوم موسى، قيل: وليس بذاك.
وقال ابن عطية: عوده على القومين أحسن عندي، وتعقب بأن قوله سبحانه: وَإِنَّ كُلًّا إلخ ظاهر في التعميم بعد التخصيص وفيه نظر، والأولى عندي الأول وَإِنَّهُمْ أي وإن كفار قومك أريد بالضمير بعض من رجع إليهم ضمير بينهم للأمن من الإلباس لَفِي شَكٍّ عظيم مِنْهُ أي من القرآن وإن لم يجر له ذكر فإن ذكر إيتاء كتاب موسى ووقوع الاختلاف فيه لا سيما بصدد التسلية يناديه نداء غير خفي.
وقيل: الضمير للوعيد المفهوم من الكلام مُرِيبٍ أي موقع في الريبة، وجوز أن يكون من أراب إذا صار ذا ريبة وَإِنَّ كُلًّا التنوين عوض عن المضاف إليه كما هو المعروف في تنوين كل عند قوم من النحاة، وقيل: إنه تنوين تمكين لكنه لا يمنع تقدير المضاف إليه أيضا أي وإن كل المختلفين المؤمنين والكافرين.
وقال مقاتل: يعني به كفار هذه الأمة لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ أي أجزية أعمالهم، ولام لَيُوَفِّيَنَّهُمْ واقعة في جواب القسم أي والله ليوفينهم، ولَمَّا بالتشديد وهو مع تشديد أن قراءة ابن عامر وحمزة وحفص وأبي جعفر، وتخريج الآية على هذه القراءة مشكل حتى قال المبرد: إنها لحن وهو من الجسارة بمكان لتواتر القراءة وليته قال كما قال الكسائي: ما أدري ما وجه هذه القراءة، واختلفوا في تخريجها فقال أبو عبيدة: إن أصل لَمَّا هذه لما منونا، وقد قرىء كذلك ثم بني على فعلى وهو مأخوذ من لمته إذا جمعته، ولا يقال: إنها «لما» المنونة وقف عليها بالألف، وأجرى الوصل مجرى الموقف لأن ذلك على ما قال أبو حيان: إنما يكون في الشعر واستبعد هذا التخريج بأنه
342
لا يعرف بناء فعلي من لمّ، وبأنه يلزم لمن أمال فعلى أن يميلها ولم يملها أحد بالإجماع وبأنه كان القياس أن تكتب بالياء ولم تكتب بها، وسيعلم إعراب الآية على هذا مما سيأتي إن شاء الله تعالى.
وقيل: لَمَّا المخففة وشددت في الوقف ثم أجرى الوصل مجرى الوقف وحينئذ فالإعراب ما ستعرفه أيضا إن شاء الله تعالى وهو بعيد جدا، وقيل: إنها بمعنى إلا، وإلا تقع زائدة كما في قوله:
حلفت يمينا غير ذي مثنوية يمين امرئ إلا بها غير آثم
فلا يبعد أن لَمَّا التي بمعناها زائدة وهو وجه ضعيف مبني على وجه ضعيف في إلا، وعن المازني أن أن المشددة هنا نافية، ولَمَّا بمعنى إلا غير زائدة وهو باطل لأنه لم يعهد تثقيل أن النافية، ولنصب- كل- والنافية لا تنصب، وقال الحوفي: إِنَّ على ظاهرها، ولَمَّا بمعنى إلا كما في قولك: نشدتك بالله إلا فعلت، وضعفه أبو علي بأن لَمَّا هذه لا تفارق القسم قبلها وليس كما ذكر فقد تفارق وإنما يضعف ذلك بل يبطله كما قال أبو حيان: إن الموضع ليس موضع دخول إلا ألا ترى أنك لو قلت: إن زيدا إلا ضربت لم يكن تركيبا عربيا وقيل: إن لَمَّا هذه أصلها لمن ما فهي مركبة من اللام ومن الموصولة أو الموصوفة وما الزائدة فقلبت النون ميما للإدغام فاجتمعت ثلاث ميمات فحذفت الوسطى منها ثم أدغم المثلان، وإلى هذا ذهب المهدوي، وقال الفراء وتبعه جماعة منهم نصر الشيرازي: إن أصلها لمن ما بمن الجارة وما الموصولة أو الموصوفة وهي على الاحتمالين واقعة على من يعقل فعمل بذلك نحو ما عمل على الوجه الذي قبله، وقد جاء هذا الأصل في قوله:
وأنا لمن ما تضرب الكبش ضربة على رأسه تلقي اللسان من الفم
واللام على هذين الوجهين قيل: موطئة للقسم، ونقل عن الفارسي- وهو مخالف لما اشتهر عن النحاة- من أن الموطئة هي الداخلة على شرط مقدم على جواب قسم تقدم لفظا أو تقديرا لتؤذن بأن الجواب له نحو والله لئن أكرمتني لأكرمتك وليس ما دخلت عليه جواب القسم بل ما يأتي بعدها وكان مذهبه كمذهب الأخفش أنه لا يجب دخولها على الشرط، وإنما هي ما دلت على أن ما بعدها صالح لأن يكون جوابا للقسم مطلقا، وقيل: إنها اللام الداخلة في خبر إن، ومن موصولا أو موصوفا على الوجه الأول من الوجهين هو الخبر والقسم وجوابه صلة أو صفة، والمعنى وإن كلا للذين أو الخلق والله ليوفينهم ربّك، ومن ومجرورها على الوجه الثاني في موضع الخبر لأن، والجملة القسمية وجوابها صلة أو صفة أيضا لكن لما، والمعنى وإن كلا لمن الذين أو لمن خلق والله ليوفينهم ربك، قال في البحر: وهذان الوجهان ضعيفان جدا ولم يعهد حذف نون من وكذا حذف نون من الجارة إلا في الشعر إذا لقيت لام التعريف أو شبهها غير المدغمة نحو قولهم: ملمال يريدون من المال، وفي تفسير القاضي وغيره أن الأصل لمن ما بمن الجارة قلبت النون ميما فاجتمعت ثلاث ميمات فحذفت أولاهن، وفيه أيضا ما فيه، ففي المغني أن حذف هذه الميم استثقالا لم يثبت انتهى، وقال الدماميني: كيف يستقيم تعليل الحذف بالاستثقال وقد اجتمعت في قوله تعالى:
عَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ [هود: ٤٨] ثماني ميمات انتهى، وأنشد الفراء على ما ذهب إليه قول الشاعر:
وإني لما أصدر الأمر وجهه إذا هو أعيا بالسبيل مصادره
وزعم بعضهم أن لما بمعنى حين وفي الكلام حذف أي لما عملوا ما عملوا أو نحو ذلك والحذف في الكلام كثير نحو قوله:
إذا قلت:
سيروا إن ليلى لعلها جرى دون ليلى مائل القرن أعضب
أراد لعلها تلقاني أو تصلني أو نحو ذلك وهو كما ترى، وقال أبو حيان بعد أن ذكر أن هذه التخريجات مما
343
تنزه ساحة التنزيل عن مثلها: كنت قد ظهر لي وجه جار على قواعد العربية عار من التكلف وهو أن لَمَّا هذه هي الجازمة حذف فعلها المجزوم لدلالة المعنى عليه كما حذفوه في قولهم: قاربت المدينة ولما يريدون ولما أدخلها، والتقدير هنا وإن كلّا لما ينقص من جزاء عمله ويدل عليه ليوفينهم ربك أعمالهم، وكنت أعتقد أني ما سبقت إلى ذلك حتى تحققت أن ابن الحاجب وفق لذلك فرأيت في كتاب التحرير نقلا عنه أنه قال: لَمَّا هذه هي الجازمة حذف فعلها للدلالة عليه، وقد ثبت الحذف في قولهم: خرجت ولما، وسافرت ولما ونحوه، وهو سائغ فصيح فيكون التقدير لما يتركوا أو لما يهملوا ويدل عليه تفصيل المجموعين ومجازاتهم، ثم قال: وما أعرف وجها أشبه من هذا وإن كانت النفوس تستبعده من جهة أن مثله لم يقع في القرآن انتهى، ولا يخفى عليك أن الأولى أن يقدر لما يوفوا أعمالهم أي إلى الآن لم يوفوها وسيوفونها، وإلى ذلك ذهب ابن هشام لما يلزم على التقديرات السابقة على ما هو المشهور في معنى لما أنهم سينقصون من جزاء أعمالهم وأنهم سيتركون ويهملون، وذلك بمعزل عن أن يراد وهو ظاهر، وهذا وجه النظر الذي عناه ابن هشام في قوله معترضا على ابن الحاجب: وفي هذا التقدير نظر.
وقال الجلبي: وجهه أن الدال على المحذوف سابق عليه بكثير مع أن ذلك المحذوف ليس من لفظ هذا الذي قيل: إنه دال عليه وليس بذاك، ثم المرجح عند كثير من المفسرين ما ذهب إليه الفراء، وقرأ نافع وابن كثير أن ولما بالتخفيف وخرجت هذه القراءة على أن أن عاملة وإن خففت اعتبارا للأصل في العمل وهو شبه الفعل ولا يضر زوال الشبه اللفظي، وإلى ذلك ذهب البصريون، وذكر أبو حيان أن مذهبهم جواز إعمالها إذا خففت لكن على قلة إلا مع المضمر فلا يجوز إلا إن ورد في شعر، ونقل عن سيبويه منهم أنه قال: أخبرني الثقة أنه سمع بعض العرب يقول: إن عمرا لمنطلق.
وزعم بعض من النحويين أن المكسورة إذا خففت لا تعمل، وتأول الآية بجعل كُلًّا منصوبا بفعل مقدر أي إن أرى كلّا مثلا وليس بشيء، وجعل هذا في البحر مذهب الكوفيين، وفي الارتشاف أن الكوفيين لا يجوزون تخفيف المكسورة لا مهملة ولا معملة، وذكر بعضهم مثله وأن ما يعدّها البصريون مخففة يعدها الكوفيون نافية، واستثنى منهم الكسائي فإنه وافق البصريين ومذهبهم في ذلك هو الحق، وكُلًّا اسمها واللام هي الداخلة على خبر إن وما موصولة خبر إن، والجملة القسمية وجوابها صلة، وإلى هذا ذهب الفراء، واختار الطبري في اللام مذهبه، وفي ما كونها نكرة موصوفة، والجملة صفتها أي وإن كلا لخلق أو لفريق موفى عمله، واختار أبو علي في اللام ما اختاراه وجعل الجملة القسمية خبرا وما مزيدة بين اللامين وقد عهدت زيادتها في غير ما موضع، وقرأ أبو بكر عن عاصم بتخفيف إن وتشديد لما، وقرأ الكسائي، وأبو عمرو بعكس ذلك وتخريج القراءتين لا يخفى على من أحاط خبرا في تخريج القراءتين قبل، وقرأ أبي، والحسن بخلاف عنه، وأبان بن تغلب، وأن بالتخفيف كل بالرفع لما بالتشديد، وخرجت على أن إن نافية وكل مبتدأ والجملة القسمية وجوابها خبره، ولَمَّا بمعنى إلّا أي ما كل إلّا أقسم والله ليوفينهم، وأنكر أبو عبيدة مجيء لَمَّا بمعنى إلّا في كلام العرب، وقال الفراء: إن جعلها هنا بمعنى إلّا وجه لا نعرفه، وقد قالت العرب مع اليمين بالله: لما قمت عنا وإلّا قمت عنا، وأما في غير ذلك فلم نسمع مجيئها بمعنى إلّا لا في نثر ولا في شعر ويلزم القائل أن يجوز قام الناس لما زيدا على معنى إلّا زيدا ولا التفات إلى إنكارهما، والقراءة المتواترة في وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ [يس: ٣٢] وإِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ [الطارق: ٤] تثبت ما أنكراه.
وقد نص الخليل، وسيبويه، والكسائي على مجيء ذلك، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، وكون العرب
344
خصصت مجيئها كذلك ببعض التراكيب لا يضر شيئا فكم من شيء خص بتركيب دون ما أشبهه.
وقرأ الزهري، وسليمان بن أرقم وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا بتشديد الميم والتنوين ولم يتعرضوا في النقل عنهما لتشديد أن ولا لتخفيفها، وهي في هذه القراءة مصدر من قولهم: لممت الشيء إذا جمعته كما مرّ ونصبها على الحالية من ضمير المفعول في لَيُوَفِّيَنَّهُمْ عند أبي البقاء وضعفه.
وقال أبو علي: إنها صفة لكل ويقدر مضافا إلى نكرة ليصح وصفه بالنكرة، وكان المصدر حينئذ بمعنى اسم المفعول، وذكر الزمخشري في معنى الآية على هذه القراءة أنه وإن كلّا ملمومين بمعنى مجموعين كأنه قيل: وإن كلّا جميعا كقوله تعالى: فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ [الحجر: ٣٠، ص: ٧٣] وجعل ذلك الطيبي منه ميلا إلى القول بالتأكيد.
وقال ابن جني: إنها منصوبة- بليوفينهم- على حد قولهم: قياما لا أقومن، والتقدير توفية جامعة لأعمالهم لَيُوَفِّيَنَّهُمْ وخبر إِنَّ في ذلك جملة القسم وجوابه، وروى أبو حاتم أن في مصحف أبي وإن من كل إلّا ليوفينهم وخرج على أن إن نافية ومن زائدة.
وقرأ الأعمش نحو ذلك إلّا أنه أسقط من وهو حرف ابن مسعود رضي الله تعالى عنه والوجه ظاهر، قيل: وقد تضمنت هذه الجملة عدة مؤكدات من أن واللام وما إذا كانت زائدة والقسم ونون التأكيد وذلك للمبالغة في وعد الطائعين ووعيد العاصين إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ أي أنه سبحانه بما يعمله كل فرد من المختلفين من الخير والشر عليم على أتم وجه بحيث لا يخفى عليه شيء من جلائله ودقائقه، والجملة قيل: توكيد للوعد والوعيد فإنه سبحانه لما كان عالما بجميع المعلومات كان عالما بمقادير الطاعات والمعاصي وما يقتضيه كل فرد منها من الجزاء بمقتضى الحكمة وحينئذ تأتي توفية كل ذي حق حقه إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
وقرأ ابن هرمز «تعملون» على الالتفات من الغيبة إلى الخطاب فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ لما بين أمر المختلفين في التوحيد والنبوة، وأطنب سبحانه في شرح الوعد والوعيد أمر رسوله صلّى الله عليه وسلّم بالاستقامة مثل الاستقامة التي أمر بها وهذا يقتضي أمره صلّى الله عليه وسلّم بوحي آخر ولو غير متلو كما قاله غير واحد، والظاهر أن هذا أمر بالدوام على الاستقامة وهي لزوم المنهج المستقيم وهو المتوسط بين الإفراط والتفريط وهي كلمة جامعة لكل ما يتعلق بالعلم والعمل وسائر الأخلاق فتشمل العقائد والأعمال المشتركة بينه صلّى الله عليه وسلّم وبين سائر المؤمنين والأمور الخاصة به عليه الصلاة والسلام من تبليغ الأحكام والقيام بوظائف النبوة وتحمل أعباء الرسالة وغير ذلك، وقد قالوا: إن التوسط بين الإفراط والتفريط بحيث لا يكون ميل إلى أحد الجانبين قيد عرض شعرة مما لا يحصل إلّا بالافتقار إلى الله تعالى ونفي الحول والقوة بالكلية، ومثلوا الأمر المتوسط بين ذينك الطرفين بخط يكون بين الشمس والظل ليس بشمس ولا ظل بل هو أمر فاصل بينهما ولعمري إن ذلك لدقيق، ولهذا قالوا: لا يطيق الاستقامة إلّا من أيد بالمشاهدات القوية والأنوار السنية ثم عصم بالتشبث بالحق وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا [الإسراء: ٧٤] وجعل بعض العارفين الصراط الذي هو أدق من الشعرة وأحد من السيف إشارة إلى هذا المنهج المتوسط، ومما يدل على شدة هذا الأمر ما
أخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن الحسن أنه قال: لما نزلت هذه الآية قال صلى الله تعالى عليه وسلم: «شمروا شمروا» وما رئي بعدها ضاحكا.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: ما نزلت على رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم آية أشد من هذه الآية ولا أشق، واستدل بعض المفسرين على عسر الاستقامة بما شاع من
قوله صلّى الله تعالى عليه وسلم: «شيبتني
345
هود»،
وأنت تعلم أن الأخبار متضافرة بضم سور أخرى إليها وإن اختلفت في تعيين المضموم كما مرّ أول السورة، وحينئذ لا يخفى ما في الاستدلال من الخفاء، ومن هنا قال صاحب الكشف: التخصيص بهود لهذه الآية غير لائح إذ ليس في الأخوات ذكر الاستقامة.
وذكر في قوت القلوب أنه لما كان القريب الحبيب صلى الله تعالى عليه وسلم شيبه ذكر البعد وأهله ثم قال:
ولعل الأظهر أنه عليه الصلاة والسلام شيبه ذكر أهوال القيامة، وكأنه- بأبي هو وأمي- شاهد منه يوما يجعل الوالدان شيبا انتهى.
وبعضهم استدل للتخصيص برؤيا أبي علي الشتري السابقة وفيه بعد تسليم صحة الرواية إن رؤيا النبي صلّى الله عليه وسلّم وإن كانت حقا حيث إن الشيطان لا يتمثل به عليه الصلاة والسلام إلّا أنه من أين يجزم بضبط الرائي وتحقيقه ما رأى على أن مما يوهن أمر هذه الرؤيا ويقوي ظن عدم ثبوتها ما
أخرجه ابن عساكر عن جعفر بن محمد عن أبيه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «شيبتني هود وأخواتها وما فعل بالأمم قبلي»
وذكر الشهاب ما يقوي اعتراض صاحب الكشف من أنه ليس في الطرق المروية في هذا الباب الاقتصار على هود بل ذكر معها أخواتها وليس فيها الأمر المذكور مع أنه وقع في غيرها من آل حميم، ثم ذكر أنه لاح له ما يدفع الاشكال وذلك أن مبنى هذه السورة الكريمة على إرشاده تعالى شأنه نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم إلى كيفية الدعوة من مفتتحها إلى مختتمها وإلى ما يعتري من تصدى لهذه المرتبة السنية من الشدائد واحتماله لما يترتب عليه من الفوائد لا على التسلية إذ لا يطابق المقام حسبما تقدم لك عن صاحب الكشف، ولما كانت هذه السورة جامعة لإرشاده من أول أمره إلى آخره وهذه الآية فذلكة لها فحينما نزلت هذه السورة هاله ما فيها من الشدائد وخاف من عدم القيام بأعبائها حتى إذا لقي الله تعالى في يوم الجزاء ربما مسه نصب من السؤال عنها فذكر القيامة في تلك السور يخوفه هولها لاحتمال تفريطه فيما أرشده الله تعالى له في هذه، وهذا لا ينافي عصمته عليه الصلاة والسلام وقربه لكونه الأعلم بالله تعالى والأخوف منه، فالخوف منها يذكره بما تضمنته هذه السورة فكأنها هي المشيبة له صلّى الله عليه وسلّم من بينها ولذا بدأ بها في جميع الروايات، ولما كانت تلك الآية فذلكة لها كانت هي المشيبة في الحقيقة فلا منافاة بين نسبة التشييب لتلك السور ولا لهذه السورة وحدها كما فعله من فعله ولا لتلك الآية كما وقع في تلك الرؤيا انتهى، وسيأتي إن شاء الله تعالى وجه آخر لنسبة التشييب لهذه السورة فليتأمل، وذهب بعض المحققين إلى كون الكاف في كَما بمعنى على كما في قولهم: كن كما أنت عليه أي على ما أنت عليه، ومن هنا قال ابن عطية وجماعة: المعنى استقم على القرآن، وقال مقاتل: امض على التوحيد،
وقال جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه: استقم على الأخبار عن الله تعالى بصحة العزم،
والأظهر إبقاء ما على العموم أي استقم على جميع ما أمرت به، والكلام في حذف مثل هذا الضمير أمر شائع، وقد مرّ التنبيه عليه، ومال بعضهم إلى كون الكاف للتشبيه حسبما هو الظاهر منها إلّا أنه قال: إنها في حكم مثل في قولهم: مثلك لا يبخل فكأنه قيل: استقم الاستقامة التي أمرت بها فرارا من تشبيه الشيء بنفسه ولا يخفى أنه ليس بلازم، ومن الغريب ما نقل عن أبي حيان أنه قال في تذكرته: فإن قلت: كيف جاء هذا التشبيه للاستقامة بالأمر؟ قلت: هو على حذف مضاف تقديره مثل مطلوب الأمر أي مدلوله، فإن قلت: الاستقامة المأمور بها هي مطلوب الأمر فكيف يكون مثلا لها؟ قلت: مطلوب الأمر كلي والمأمور جزئي فحصلت المغايرة وصح التشبيه كقولك: صل ركعتين كما أمرت، وأبعد بعضهم فجعل الكاف بمعنى على واستفعل للطلب كاستغفر الله تعالى أي اطلب الغفران منه، وقال: المعنى اطلب الإقامة على الدين.
وَمَنْ تابَ مَعَكَ أي تاب من الشرك وآمن معك فالمعية باعتبار اللازم من غير نظر إلى ما تقدمه وغيره، وقد
346
يقال: يكفي الاشتراك في التوبة والمعية فيها مع قطع النظر عن المثوب عنه،
وقد كان صلى الله تعالى عليه وسلم يستغفر الله تعالى في اليوم أكثر من سبعين مرة،
واستظهر ذلك الجلبي، ومَنْ على ما اختاره أبو حيان، وجماعة عطف على الضمير المستكن في فَاسْتَقِمْ وأغنى الفصل بالجار والمجرور عن تأكيده بضمير منفصل لحصول الغرض به، وفي الكلام تغليب لحكم الخطاب على الغيبة في لفظ الأمر، واختار كثير أنه فاعل لفعل محذوف أي وليستقم من إلخ لأن الأمر لا يرفع الظاهر، وحينئذ فالجملة معطوفة على الجملة الأولى، ومن ذهب إلى الأول رجحه بعدم احتياجه إلى التقدير ودفع المحذور بأنه يغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع.
وجوز أبو البقاء كونه منصوبا على أنه مفعول معه، والمعنى استقم مصاحبا لمن تاب، قيل: وهو في المعنى أتم وإن كان في اللفظ نوع نبوة عنه.
وقيل: إنه مبتدأ والخبر محذوف أي فليستقم، وجوز كون الخبر مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا أي لا تنحرفوا عما حدّ لكم بإفراط أو تفريط فإن كلا طرفي قصد الأمور ذميم، وسمي ذلك طغيانا وهو مجاوزة الحدّ تغليظا أو تغليبا لحال سائر المؤمنين على حاله صلى الله تعالى عليه وسلم، وعن ابن عباس أن المعنى لا تطغوا في القرآن فتحلوا وتحرموا ما لم تؤمروا به.
وقال ابن زيد: لا تعصوا ربكم، وقال مقاتل: لا تخلطوا التوحيد بالشرك، ولعل الأول أولى.
إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فيجازيكم على ذلك وهو تعليل للأمر والنهي السابقين كأنه قيل: استقيموا ولا تطغوا لأن الله تعالى ناظر لأعمالكم فيجازيكم عليها، وقيل: إنه تتميم للأمر بالاستقامة، والأول أحسن وأتم فائدة، وقرأ الحسن، والأعمش- يعملون- بياء الغيبة، وروي ذلك عن عيسى الثقفي أيضا، وفي الآية- على ما قال غير واحد- دليل على وجوب اتباع المنصوص عليه من غير انحراف بمجرد التشهي وإعمال العقل الصرف فإن ذلك طغيان وضلال، وأما العمل بمقتضى الاجتهاد التابع لعلل النصوص فذلك من باب الاستقامة كما أمر على موجب النصوص الآمرة بالاجتهاد، وقال الإمام: وعندي لا يجوز تخصيص النص بالقياس لأنه لما دلّ عموم النص على حكم وجب الحكم بمقتضاه لقوله تعالى: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ والعمل بالقياس انحراف عنه، ولذا لما ورد القرآن بالأمر بالوضوء وجيء بالأعضاء مرتبة في اللفظ وجب الترتيب فيها، ولما ورد الأمر في الزكاة بأداء الإبل من الإبل، والبقر من البقر وجب اعتبارها، وكذا القول في كل ما ورد أمر الله تعالى به كل ذلك للأمر بالاستقامة كما أمر انتهى.
وأنت تعلم أن إيجاب الترتيب في الوضوء لذلك ليس بشيء ويلزمه أن يوجب الترتيب في الأوامر المتعاطفة بالواو مثل أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ [البقرة: ٤٣ وغيرها] وكذا في نحو وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة:
٤٥] بعين ما ذكر في الوضوء وهو كما ترى، وكأنه عفا الله تعالى عنه يجزم بأن الحنفية الذين لا يوجبون الترتيب في أعمال الوضوء طاغون خارجون عما حدّ الله تعالى لا احتمال للقول بأنهم مستقيمون وهو من الظلم بمكان وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا أي لا تميلوا إليهم أدنى ميل، والمراد بهم المشركون كما روى ذلك ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وفسر الميل بميل القلب إليهم بالمحبة، وقد يفسر بما هو أعم من ذلك كما يفسر الَّذِينَ ظَلَمُوا بمن وجد منه ما يسمى ظلما مطلقا، قيل: ولإرادة ذلك لم يقل إلى الظالمين ويشمل النهي حينئذ مداهنتهم وترك التغيير عليهم مع القدرة والتزيي بزيهم وتعظيم ذكرهم ومجالستهم من غير داع شرعي، وكذا القيام لهم ونحو ذلك، ومدار النهي على الظلم والجمع باعتبار جمعية المخاطبين، وقيل: إن ذلك للمبالغة في النهي
347
من حيث إن كونهم جماعة مظنة الرخصة في مداهنتهم مثلا، وتعقب بأنه إنما يتم أن لو كان المراد النهي عن الركون إليهم من حيث إنهم جماعة وليس فليس فَتَمَسَّكُمُ أي فتصيبكم بسبب ذلك كما تؤذن به الفاء الواقعة في جواب النهي النَّارُ وهي نار جهنم، وإلى التفسير الثاني- وما أصعبه على الناس اليوم بل في غالب الأعاصير من تفسير- ذهب أكثر المفسرين، قالوا: وإذا كان حال الميل في الجملة إلى من وجد منه ظلم ما في الإفضاء إلى مساس الناس النار فما ظنك بمن يميل إلى الراسخين في الظلم كل الميل. ويتهالك على مصاحبتهم ومنادمتهم، ويتعب قلبه وقالبه في إدخال السرور عليهم، ويستنهض الرجل والخيل في جلب المنافع إليهم، ويبتهج بالتزيي بزيهم والمشاركة لهم في غيهم. ويمد عينيه إلى ما متعوا به من زهرة الدنيا الفانية، ويغبطهم بما أوتوا من القطوف الدانية غافلا عن حقيقة ذلك ذاهلا عن منتهى ما هنالك! وينبغي أن يعد مثل ذلك من الذين ظلموا لا من الراكنين إليهم بناء على ما روي أن رجلا قال لسفيان: إني أخيط للظلمة فهل أعدّ من أعوانهم، فقال له: لا أنت منهم والذي يبيعك الإبرة من أعوانهم، وما أحسن ما كتبه بعض الناصحين للزهري حين خالط السلاطين، وهو- عافانا الله تعالى وإياك- أبا بكر من الفتن فقد أصبحت بحال ينبغي لمن عرفك أن يدعو لك الله تعالى ويرحمك أصبحت شيخا كبيرا وقد أثقلتك نعم الله تعالى بما فهمك من كتابه وعلمك من سنة نبيك صلى الله تعالى عليه وسلم وليس كذلك أخذ الله تعالى الميثاق على العلماء، قال سبحانه: لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ [آل عمران: ١٨٧] واعلم أن أيسر ما ارتكبت وأخف ما احتملت أنك آنست وحشة الظالم وسهلت سبيل الغي بدنوك ممن لم يؤد حقا ولم يترك باطلا حين أدناك اتخذوك قطبا تدور عليك رحى باطلهم وجسرا يعبرون عليك إلى بلائهم وسلما يصعدون فيك إلى ضلالهم يدخلون الشك بك على العلماء ويقتادون بك قلوب الجهلاء فما أيسر ما عمروا لك في جنب ما خربوا عليك وما أكثر ما أخذوا منك فيما أفسدوا عليك من دينك فما يؤمنك أن تكون ممن قال الله تعالى فيهم: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا [مريم: ٥٩] فإنك تعامل من لا يجهل ويحفظ عليك من لا يغفل فداو دينك فقد دخله سقم وهيىء زادك فقد حضر السفر البعيد، وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء والسلام.
وعن الأوزاعي ما من شيء أبغض إلى الله تعالى من عالم يزور عاملا، وعن محمد بن سلمة: الذباب على العذرة أحسن من قارئ على باب هؤلاء، وفي الخبر من دعا لظالم بالبقاء فقد أحب أن يعصي الله تعالى في أرضه، ولعمري إن الآية أبلغ شيء في التحذير عن الظلمة والظلم، ولذا قال الحسن: جمع الدين في لاءين يعني- لا تطغوا، ولا تركنوا- ويحكى أن الموفق أبا أحمد طلحة العباسي صلّى خلف الإمام فقرأ هذه الآية فغشي عليه فلما أفاق قيل له، فقال:
هذا فيمن ركن إلى من ظلم فكيف الظالم.
هذا وخطاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ومن معه من المؤمنين بهذين النهيين بعد الأمر بالاستقامة للتثبيت عليها، وقد تجعل تأكيدا لذلك إذا كان المراد به الدوام والثبات، وعن أبي عمرو أنه قرأ «تركنوا» بكسر التاء على لغة تميم.
وقرأ قتادة، وطلحة، والأشهب، ورويت عن أبي عمرو «تركنوا» بضم الكاف مضارع ركن بفتحها وهي على ما في البحر لغة قيس، وتميم.
وقال الكسائي: إنها لغة أهل نجد وشذ- تركن- بالفتح مضارع ركن كذلك، وقرأ ابن أبي عبلة «ولا تركنوا» مبنيا للمفعول من أركنه إذا أماله، وقراءة الجمهور «تركنوا» بفتح الكاف، والماضي- ركن- بكسرها وهي لغة قريش، وهي الفصحى- على ما قال الأزهري- وقرأ ابن وثاب، وعلقمة، والأعمش، وابن مصرف، وحمزة فيما يروى عنه
348
«فتمسكم» بكسر التاء على لغة تميم أيضا وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ من أنصار يمنعون العذاب عنكم، والمراد نفي أن يكون لكل نصير، والمقام قرينة على ذلك، والجملة في موضع الحال من ضمير فَتَمَسَّكُمُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ من جهته تعالى إذ قد سبق في حكمه تعالى أن يعذبكم بركونكم إليهم ولا يبقى عليكم، وثُمَّ قيل: لاستبعاد نصره سبحانه إياهم وقد أوعدهم العذاب على ذلك، وأوجبه لهم وتعقب بأن أثر الحرف إنما هو في مدخوله ومدخول ثُمَّ عدم النصرة وليس بمستبعد، وإنما المستبعد نصر الله تعالى لهم، فالظاهر أنها للتراخي في الرتبة لأن عدم نصر الله أشد وأفظع من عدم نصرة غيره، وأجيب بما لا يخلو عن تكلف، وأيا ما كان فالمقام مقام الواو إلّا أنه عدل عنها لما ذكر.
وجوز القاضي أن تكون منزلة منزلة الفاء بمعنى الاستبعاد فإنه سبحانه لما بين أنه معذبهم وأن أحدا لا يقدر على نصرهم أنتج ذلك أنهم لا ينصرون أصلا، ووجه ذلك بأنه كان الظاهر أن يؤتى بالفاء التفريعية المقارنة للنتائج إذ المعنى أن الله تعالى أوجب عليكم عقابه ولا مانع لكم منه فإذن أنتم لا تنصرون فعدل عنه إلى العطف- بثم- الاستبعادية إلى الوجه الذي ذكره، واستبعاد الوقوع يقتضي النفي، والعدم الحاصل الآن فهو مناسب لمعنى تسبب النفي، ودفع بذلك ما قيل عليه: إن الداخل على النتائج هي الفاء السببية لا الاستبعادية ولا يخفى قوة الاعتراض، وفرق بين وجهي الاستبعاد السابق والتنزيل المذكور بأن المنفي على الأول نصرة الله تعالى لهم، وعلى الثاني مطلق النصرة وَأَقِمِ الصَّلاةَ أي المكتوبة، ومعنى إقامتها أداؤها على تمامها.
وقيل: المداومة عليها، وقيل: فعلها في أول وقتها طَرَفَيِ النَّهارِ أي أوله وآخره وانتصابه على الظرفية- لأقم- ويضعف كونه ظرفا للصلاة ووجه انتصابه على ذلك إضافته إلى الظرف وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ أي ساعات منه قريبة من النهار فإنه من أزلفه إذا قربه.
وقال الليث: هي طائفة من أول الليل، وكذا قال ثعلب، وقال أبو عبيدة، والأخفش، وابن قتيبة: هي مطلق ساعاته وآناؤه وكل ساعة زلفة، وأنشدوا للعجاج:
ناج طواه الأين مما وجفا طي الليالي زلفا فزلفا
سماوة الهلال حتى احقوقفا وهو عطف على طَرَفَيِ النَّهارِ، ومِنَ اللَّيْلِ في موضع الصفة له، والمراد بصلاة الطرفين قيل: صلاة الصبح والعصر، وروي ذلك عن الحسن، وقتادة، والضحاك، واستظهر ذلك أبو حيان بناء على أن طرف الشيء يقتضي أن يكون من الشيء، والتزم أن أول النهار من الفجر، وقد يطلق طرف الشيء على الملاصق لأوله وآخره مجازا فيمكن اعتبار النهار من طلوع الشمس مع صحة ما ذكروه في صلاة الطرف الأول بجعل التثنية هنا مثلها في قولهم: القلم أحد اللسانين إلّا أنه قيل بشذوذ ذلك.
وروي عن ابن عباس- واختاره الطبري- أن المراد صلاة الصبح والمغرب فإن كان النهار من أول الفجر إلى غروب الشمس فالمغرب طرف مجازا وهو حقيقة طرف الليل، وإن كان من طلوع الشمس إلى غروبها فالصبح كالمغرب طرف مجازي، وقال مجاهد، ومحمد بن كعب القرظي: الطرف الأول الصبح، والثاني الظهر، والعصر، واختار ذلك ابن عطية، وأنت تعلم أن في جعل الظهر من الطرف الثاني خفاء وإنما الظهر نصف النهار والنصف لا يسمى ظرفا إلّا بمجاز بعيد، والمراد بصلاة الزلف عند الأكثر صلاة المغرب والعشاء.
وروى الحسن في ذلك خبرا مرفوعا، وعن ابن عباس أنه فسر صلاة الزلف بصلاة العتمة وهي ثلث الليل الأول
349
بعد غيبوبة الشفق وقد تطلق على وقت صلاة العشاء الآخرة، وأغرب من قال: صلاة الطرفين صلاة الظهر والعصر، وصلاة الزلف صلاة المغرب، والعشاء، والصبح، وقيل: معنى زُلَفاً قربا، وحقه على هذا- كما في الكشاف- أن يعطف على الصلاة أي أقم الصلاة طرفي النهار وأقم زلفا من الليل أي صلوات تتقرب بها إلى الله عزّ وجلّ انتهى، قيل:
والمراد بها على هذا صلاة العشاء والتهجد وقد كان واجبا عليه عليه الصلاة والسلام، أو العشاء، والوتر على ما ذهب إليه أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه، أو المجموع كما يقتضيه ظاهر الجمع، وقد تفسر بصلاة المغرب والعشاء- واختاره البعض- وقد جاء إطلاق الجمع على الاثنين فلا حاجة إلى التزام أن ذلك باعتبار أن كل ركعة قربة فتحقق قرب فوق الثلاث فيما ذكر.
وقرأ طلحة، وابن أبي إسحاق، وأبو جعفر «زلفا» بضم اللام إما على أنه جمع زلفة أيضا ولكن ضمت عينه اتباعا لفائه. أو على أنه اسم مفرد كعنق، أو جمع زليف بمعنى زلفة كرغيف ورغف، وقرأ مجاهد، وابن محيصن بإسكان اللام كبسر بالضم والسكون في بسرة، وهو على هذا- على ما في البحر- اسم جنس، وفي رواية عنهما أنهما قرآ- زلفى- كحبلى وهو بمعنى زلفة فإن تاء التأنيث وألفه قد يتعاقبان نحو قربى وقربة، وجوز أن تكون هذه الألف بدلا من التنوين إجراء للوصل مجرى الوقف إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ أي يكفرنها ويذهبن المؤاخذة عليها وإلّا فنفس السيئات أعراض وجدت فانعدمت، وقيل: يمحينها من صحائف الأعمال، ويشهد له بعض الآثار، وقيل: يمنعن من اقترافها كقوله تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت: ٤٥] وهو مع بعده في نفسه مخالف للمأثور عن الصحابة، والتابعين رضي الله تعالى عنهم فلا ينبغي أن يعول عليه.
والظاهر أن المراد من الحسنات ما يعم الصلوات المفروضة وغيرها من الطاعات المفروضة وغيرها، وقيل:
المراد الفرائض فقط
لرواية «الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان الى رمضان مكفرات ما بينهن»
وفيه أنه
قد صح من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: «إذا أمّن الإمام فأمّنوا فإن الملائكة تؤمن فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه» وفي رواية تفرد بها يحيى بن نصير- وهو من الثقات- بزيادة «وما تأخر»
وصح أن صيام يوم عرفة تكفر السنة الماضية والمستقبلة،
وأخرج أبو داود في السنن بإسناد حسن عن سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من أكل طعاما ثم قال الحمد لله الذي أطعمني هذا الطعام ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن لبس ثوبا وقال: الحمد لله الذي كساني هذا ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر»
إلى غير ذلك من الأخبار الواردة في تكفير أفعال ليست بمفروضة ذنوبا كثيرة، وقيل: المراد بها الصلوات المفروضة لما
في بعض طرق خبر سبب النزول من أن أبا اليسر من الأنصار قبل امرأة ثم ندم فأتى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأخبره بما فعل فقال عليه الصلاة والسلام: «أنتظر أمر ربي فلما صلى صلاة قال صلى الله تعالى عليه وسلم: نعم اذهب بها فإنها كفارة لما عملت»
وروي هذا القول عن ابن عباس، وابن مسعود، وابن المسيب، والظاهر أن ذلك منهم اقتصار على بعض مهم من أفراد ذلك العام، وسبب النزول لا يأبى العموم كما لا يخفى، وفي رواية عن مجاهد أنها قول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلّا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم، وفيه ما فيه، والمراد بالسيئات عند الأكثرين الصغائر لأن الكبائر لا يكفرها على ما قالوا: إلّا التوبة، واستدلوا لذلك بما
رواه مسلم من رواية العلاء «الصلوات الخمس كفارة لما بينها ما اجتنبت الكبائر»
واستشكل بأن الصغائر مكفرة باجتناب الكبائر بنص إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ [النساء: ٣١] فما الذي تكفره الصلوات الخمس؟ وأجاب البلقيني بأن ذلك غير وارد لأن المراد بالآية أن تجتنبوا في جميع العمر ومعناه الموافاة على هذه الحالة من وقت الإيمان أو التكليف إلى الموت، والذي
في
350
الحديث «إن الصلوات تكفر ما بينها»
أي في يومها إذا اجتنبت الكبائر في ذلك اليوم فلا تعارض، وتعقبه السمهودي بقوله: ولك أن تقول: لا يتحقق اجتناب الكبائر في جميع العمر إلّا مع الإتيان بالصلوات الخمس فيه كل يوم فالتكفير حاصل بما تضمنه الحديث فما فائدة الاجتناب المذكور في الآية ثم قال: ولك أن تجيب بأن ذلك من باب فعل شيئين كل منهما مكفر، وقد قال بعض العلماء: إنه إذا اجتمعت مكفرات فحكمها أنها إذا ترتبت فالمكفر السابق وإن وقعت معا فالمكفر واحد منها يشاؤه الله تعالى، وأما البقية فثوابها باق له وذلك الثواب على كل منها يكون بحيث يعدل تكفير الصغائر لو وجدت، وكذا إذا فعل واحدا من الأمور المكفرة ولم يكن قد ارتكب ذنبا.
وفي شرح مسلم للنووي نحو ذلك غير أنه ذكر أنه لو صادف فعل المكفر كبيرة أو كبائر ولم يصادف صغيرة رجونا أن يخفف من الكبائر، ويرد على قوله: إن المراد إِنْ تَجْتَنِبُوا في جميع العمر منع ظاهر، والظاهر أن المراد من ذلك أن ثواب اجتناب الكبائر في كل وقت يكفر الصغائر الواقعة فيه، وفي تفسير القاضي ما يؤيده، وكذا ما ذكره الإمام حجة الإسلام في الكلام على التوبة من أن حكم الكبيرة أن الصلوات الخمس لا تكفرها وأن اجتناب الكبائر يكفر الصغائر بموجب قوله سبحانه: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما إلخ، ولكن اجتناب الكبيرة إنما يكفر الصغيرة إذا اجتنبها مع القدرة والإرادة كمن يتمكن من امرأة ومن مواقعتها فكيف نفسه عن الوقوع ويقتصر على النظر واللمس فإن مجاهدته نفسه في الكف عن الوقاع أشد تأثيرا في تنوير قلبه من إقدامه على النظر في إظلامه فهذا معنى تكفيره فإن كان عنينا ولم يكن امتناعه إلّا بالضرورة للعجز أو كان قادرا ولكن امتنع لخوف من آخر فهذا لا يصلح للتكفير أصلا فكل من لا يشتهي الخمر بطبعه ولو أبيح له ما شربه فاجتنابه لا يكفر عنه الصغائر التي هي من مقدماته كسماع الملاهي والأوتار وهذا ظاهر يدل عليه أن الحسنات يذهبن السيئات، ولا شك أن اجتناب الكبائر إذا قارن القصد حسنة وإنما قيدنا بذلك وإن كان الخروج عن عهدة النهي لا يتوقف عليه لأنه لا يثاب على الاجتناب بدون ذلك، فالأولى في الجواب عن الإشكال أن يقال:
«ما اجتنبت الكبائر»
في الخبر ليس قيدا لأصل التكفير بل لشمول التكفير سائر الذنوب التي بين الصلوات الخمس فهو بمثابة استثناء الكبائر من الذنوب، وكأنه قيل: الصلوات الخمس كفارة لجميع الذنوب التي بينها وتكفيرها للجميع في المدة التي اجتنبت فيها الكبائر أو مقيد باجتناب الكبائر وإلّا فليست الصلوات كفارة لجميع الذنوب بل للصغائر فقط، وهذا وإن كان خلاف الظاهر من عود القيد لأصل التكفير لكن قرينة الآية دعت للعدول عنه إلى ذلك جمعا بين الأدلة، ولا بدّ في هذا من اعتبار ما قالوا في اجتماع الأمور المكفرة للصغائر، وذكر الحافظ ابن حجر بعد نقله لكلام البلقيني ما لفظه: وعلى تقدير ورود السؤال فالتخلص عنه سهل وذلك لأنه لا يتم اجتناب الكبائر إلّا بفعل الصلوات الخمس فمن لم يفعلها لم يعد مجتنبا للكبائر لأن تركها من الكبائر فيتوقف التكفير على فعلها انتهى ولا يخلو عن بحث، وممن صرح بأن ما اجتنبت إلخ بمعنى الاستثناء نقلا عن بعضهم المحب الطبري، فقد قال في أحكامه: اختلف العلماء في أمر تكفير الصغائر بالعبادات هل هو مشروط باجتناب الكبائر؟ على قولين: أحدهما نعم وهو ظاهر
قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «ما اجتنبت الكبائر»
فإن ظاهره الشرطية كما يقتضيه
«إذا اجتنبت»
الآتي في بعض الروايات، فإذا اجتنبت الكبائر كانت مكفرة لها وإلّا فلا، وإليه ذهب الجمهور على ما ذكره ابن عطية، وقال بعضهم: لا يشترط، والشرط في الحديث بمعنى الاستثناء والتقدير مكفرات لما بينها إلّا الكبائر وهو الأظهر.
هذا وقد ذكر الزركشي أنهم اختلفوا في أن التكفير هل يشترط فيه التوبة أم لا؟ فذهب إلى الاشتراط طائفة وإلى عدمه أخرى، وفي البحر أن الاشتراط نص حذاق الأصوليين، ولعل الخلاف مبني على الخلاف في اشتراط الاجتناب وعدمه فمن جعل اجتناب الكبائر شرطا في تكفير الصغائر لم يشترط التوبة وجعل هذه خصوصية لمجتنب الكبائر ولم
351
يشترطه إلّا من اشترطها، ويدل عليه خبر أبي اليسر فإن الروايات متضافرة على أنه جاء نادما والندم توبة، وأن إخباره صلى الله تعالى عليه وسلم له بأن صلاة العصر كفرت عنه ما فعل إنما وقع بعد ندمه لكن ظاهر إطلاق الحديث يقتضي أن التكفير كان بنفس الصلاة فإن التوبة بمجردها تجب ما قبلها فلو اشترطناها مع العبادات لم تكن العبادات مكفرة، وقد ثبت أنها مكفرات فيسقط اعتبار التوبة معها انتهى ملخصا مع زيادة، ولا يخفى أن هذا يحتاج إلى التزام القول بأن ندم أبي اليسر لم يكن توبة صحيحة وإلّا لكان التكفير به لأنه السابق، وبعض التزم القول بكونه توبة صحيحة إلّا أنه توبة لم تقبل ولم تكفر الذنب، وأنت تعلم أن في عدم تكفير التوبة الذنب مقالا، والمنقول عن السبكي أنه قال: إن قبول التوبة عن الكفر مقطوع به تفضلا، وفي القطع بقبول توبة العاصي قولان لأهل السنة، والمختار عند إمام الحرمين أن تكفير التوبة للذنب مظنون، وادعى النووي أنه الأصح، وفي شرح البرهان: الصحيح عندنا القطع بالتكفير، وقال الحليمي: لا يجب على الله تعالى قبول التوبة لكنه لما أخبر عن نفسه أنه يقبل التوبة عن عباده ولم يجز أن يخلف وعده علمنا أنه سبحانه وتعالى لا يرد التوبة الصحيحة فضلا منه تعالى، ومثل هذا الخلاف في التكفير باجتناب الكبائر ونحوه هل هو قطعي أو ظني، وفي كلام العلامة نجم الدين النسفي، وصدر الشريعة، وغيرهما أن العقاب على الصغائر جائز الوقوع سواء اجتنبت مرتكبها الكبائر أم لا لدخولها تحت قوله تعالى: فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ [آل عمران: ١٢٩، المائدة: ١٨] ولقوله تعالى: لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها [الكهف: ٤٩] والإحصاء إنما يكون للسؤال والمجازاة إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث، وخالفت المعتزلة في ذلك فلم يجيزوا وقوع التعذيب إذا اجتنبت الكبائر واستدلوا بآية إِنْ تَجْتَنِبُوا إلخ، ويجاب بأن المراد بالكبائر الكفر والجمع لتعدد أنواعه أو تعدد من اتصف به، ومعنى الآية إن تجتنبوا الكفر نجعلكم صالحين لتكفير سيئاتكم، ولا يخفى ما في استدلالهم من الوهن، وجوابهم عن استدلال المعتزلة لعمري أوهن منه.
وذهب صاحب الذخائر إلى أن من الحسنات ما يكفر الصغائر والكبائر إذ قد صح في عدة أخبار من فعل كذا غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وفي بعضها خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، ومتى حملت الحسنات في الآية على الاستغراق فالمناسب حمل السيئات عليه أيضا، والتخصيص خلاف الظاهر وفضل الله تعالى واسع، وإلى هذا مال ابن المنذر، وحكاه ابن عبد البر عن بعض المعاصرين له وعني به فيما قيل: أبا محمد المحدث لكن ردّ عليه، فقال بعضهم. يقول: إن الكبائر والصغائر تكفرها الطهارة والصلاة لظاهر الأحاديث وهو جهل بين وموافقة للمرجئة في قولهم، ولو كان كما زعم لم يكن للأمر بالتوبة معنى، وقد أجمع المسلمون على أنها فرض،
وقد صح أيضا من حديث أبي هريرة «الصلوات كفارات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر»
انتهى.
وفيه أن دعوى أن ذلك جهل لا يخلو عن الإفراط إذ الفرق بين القول بعموم التكفير ومذهب المرجئة في غاية الوضوح، ولو صح أن ذلك ذهاب إلى قولهم للزمه مثله بالنسبة إلى التوبة فإنه يسلم أنها تكفر الصغائر والكبائر وهي من جملة أعمال العبد فكما جاز أن يجعل الله سبحانه هذا العمل سببا لتكفير الجميع يجوز أن يجعل غيره من الأعمال كذلك، وقوله: ولو كان كما زعم إلخ مردود لأنه لا يلزم من تكفير الذنوب الحاصلة عدم الأمر بالتوبة وكونها فرضا إذ تركها من الذنوب المتجددة التي لا يشملها التكفير السابق بفعل الوضوء مثلا ألا ترى أن التوبة من الصغائر واجبة على ما نقل عن الأشعري، وحكى إمام الحرمين وتلميذه الأنصاري الإجماع عليه ومع ذلك فجميع الصغائر مكفرة بنص الشارع وإن لم يتب على ما سمعت من الخلاف، وتحقيق ذلك أن التوبة واجبة في نفسها على الفور ومن أخرها تكرر عصيانه بتكرر الأزمنة كما صرح به الشيخ عز الدين بن عبد السلام، ولا يلزم من تكفير الله تعالى ذنوب عبده سقوط
352
التكليف بالتوبة التي كلف بها تكليفا مستمرا، وقريب من هذا ارتفاع الإثم عن النائم إذا أخرج الصلاة عن وقتها مع الأمر بقضائها، وما روي من حديث أبي هريرة إنما ورد في أمر خاص فلا يتعداه إذ الأصل بقاء ما عداه على عمومه وهذا مما لا مجال للقياس فيه حتى يخص بالقياس على ذلك فلا يليق نسبة ذلك القائل إلى الجهل، والرجاء بالله تعالى شأنه قوي كذا قيل، وفي المقام بعد أبحاث تركنا ذكرها خوف الإملال فإن أردتها فعليك بالنظر في الكتب المفصلة في علم الحديث.
ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ أي عظة للمتعظين، وخصهم بالذكر لأنهم المنتفعون بها، والإشارة إلى ما تقدم من الوصية بالاستقامة والنهي عن الطغيان والركون إلى الذين ظلموا وإقامة الصلوات في تلك الأوقات بتأويل المذكور.
وإلى هذا ذهب الزمخشري واستظهر أبو حيان كون ذلك إشارة إلى إقامة الصلاة وأمر التذكير سهل، وقيل: هي إشارة إلى الإخبار بأن الحسنات يذهبن السيئات، وقال الطبري: إشارة إلى الأوامر والنواهي في هذه السورة، وقيل: إلى القرآن، وبعض من جعل الإشارة إلى الإقامة فسر الذكرى بالتوبة وَاصْبِرْ أي على مشاق امتثال ما كلفت به، في الكشاف أن هذا كرور منه تعالى إلى التذكير بالصبر بعد ما جاء بما هو خاتمة للتذكير لفضل خصوصية ومزية وتنبيه على مكان الصبر ومحله كأنه قال: وعليك بما هو أهم مما ذكرت به وأحق بالتوصية وهو الصبر على امتثال ما أمرت به والانتهاء عما نهيت عنه فلا يتم شيء منه إلّا به انتهى.
ووجه كونه كريرا إلى ما ذكر بأن الأمر بالاستقامة أمر بالثبات قولا وفعلا وعقدا وهو الصبر على طاعة الله تعالى ويتضمن الصبر عن معصيته ضرورة على أن ما ذكره سبحانه كله لا يتم إلّا بالصبر ففي ضمن الأمر به أمر بالصبر، واعترض اعتبار الانتهاء عما نهى عنه من متعلقات الصبر إذ لا مشقة في ذلك، واعتذر عن ذلك بأنه يمكن أن يراد بما نهى عنه من الطغيان والركون ما لا يمكن عادة خلو البشر عنه من أدنى ميل بحكم الطبيعة من الاستقامة المأمور بها ومن يسير ميل بحكم البشرية إلى من وجد منه ظلم فإن في الاحتراز عن أمثاله من المشقة ما لا يخفى، وتعقب بأن ما هو من توابع الطبيعة لا يكون من متعلقات النهي، ولهذا ذكروا أن حب المسلم لولده الكافر مثلا لا إثم فيه، فالأولى أن يقال: إن وجود المشقة في امتثال مجموع ما كلف به يكفي في الغرض، وقيل: المراد من الصبر المأمور به المداومة على الصلاة كأنه قيل: أقم الصلاة أي أدّها تامة ودوام عليها نظير قوله تعالى: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها [طه: ١٣٢] فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ أي يوفيهم ثواب أعمالهم من غير بخس أصلا، وعبر عن ذلك بنفي الإضاعة بيانا لكمال نزاهته تعالى عن حرمانهم شيئا من ثوابهم، وعدل عن الضمير ليكون كالبرهان على المقصود مع إفادة فائدة عامة لكل من يتصف بذلك وهو تعليل للأمر بالصبر، وفيه إيماء إلى أن الصبر على ما ذكر من باب الإحسان، وعن مقاتل أنه فسر الإحسان هنا بالإخلاص.
وعن ابن عباس أنه قال: المحسنون المصلون وكأنه نظر إلى سياق الكلام، هذا ومن البلاغة القرآنية أن الأوامر بأفعال الخير أفردت للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم وإن كانت عامة في المعنى، والمناهي جمعت للأمة، وما أعظم شأن الرسول عليه الصلاة والسلام عند ربه جلّ وعلا فَلَوْلا كانَ تحضيض فيه معنى التفجع مجازا أي فهلا كان مِنَ الْقُرُونِ أي الأقوام المقترنة في زمان واحد مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ أي ذوو خصلة باقية من الرأي والعقل أو ذوو فضل على أن يكون- البقية- اسما للفضل والهاء للنقل، وأطلق عليه ذلك على سبيل الاستعارة من البقية التي يصطفيها المرء لنفسه ويدخرها مما ينفعه، ومن هنا يقال: فلان من بقية القوم أي من خيارهم، وبذلك فسر بيت الحماسة:
353
إن تذنبوا ثم يأتيني بقيتكم فما علي بذنب عندكم فوت
ومنه قولهم: في الزوايا خبايا وفي الرجال بقايا، وجوز أن تكون البقية بمعنى البقوى كالتقية بمعنى التقوى أي فهلا كان منهم ذوو إبقاء لأنفسهم وصيانة لها عما يوجب سخط الله تعالى وعقابه، والظاهر أنها على هذا مصدر، وقيل: اسم مصدر، ويؤيد المصدرية أنه قرىء «بقية» بزنة المرة وهو مصدر بقاه يبقيه كرماه يرميه بمعنى انتظره وراقبه.
وفي الحديث عن معاذ بن جبل قال: «بقينا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وقد تأخر عن صلاة العشاء حتى ظن الظان أنه ليس بخارج» الخبر
أراد معاذ انتظرناه، وأما الذي من البقاء ضد الفناء ففعله بقي يبقى كرضي يرضى، والمعنى على هذه القراءة فهلا كان منهم ذوو مراقبة لخشية الله تعالى وانتقامه، وقرىء «بقية» بتخفيف الياء اسم فاعل من بقي نحو شجيت فهي شجية».
وقرأ أبو جعفر وشيبة «بقية» بضم الباء وسكون القاف يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ الواقع فيما بينهم حسبما ذكر في قصصهم، وفسر الفساد في البحر بالكفر وما اقترن به من المعاصي إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ استثناء منقطع أي ولكن قليلا منهم أنجيناهم لكونهم كانوا ينهون، وقيل أي: ولكن قليلا ممن أنجينا من القرون نهوا عن الفساد وسائرهم تاركون للنهي، ومِنَ الأولى بيانية لا تبعيضية لأن النجاة إنما هي للناهين وحدهم بدليل قوله سبحانه: أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا [الأعراف: ١٦٥] وإلى ذلك ذهب الزمخشري، ومنع اتصال الاستثناء على ما عليه ظاهر الكلام لاستلزامه فساد المعنى لأنه يكون تحضيضا- لأولي البقية- على النهي عن الفساد إلّا للقليل من الناجين منهم، ثم قال: وإن قلت: في تحضيضهم على النهي عن الفساد معنى نفيه عنهم فكأنه قيل: ما كان من القرون أولو بقية إلّا قليلا كان استثناء متصلا ومعنى صحيحا وكان انتصابه على أصل الاستثناء وإن كان الأفصح أن يرفع على البدل، والحاصل أن في الكلام اعتبارين: التحضيض والنفي، فإن اعتبر التحضيض لا يكون الاستثناء متصلا لأن المتصل يسلب ما للمستثنى منه عن المستثنى أو يثبت له ما ليس له، والتحضيض معناه لم ما نهوا، ولا يجوز أن يقال: إلّا قليلا فإنهم لا يقال لهم: لم ما نهوا لفساد المعنى لأن القليل ناهون وإن اعتبر النفي كان متصلا لأنه يفيد أن القليل الناجين ناهون، وأورد على ذلك القطب أن صحة السلب أو الإثبات بحسب اللفظ لازم في الخبر وأما في الطلب فيكون بحسب المعنى فإنك إذا قلت: اضرب القوم إلّا زيدا فليس المعنى على أنه ليس اضرب بل على أن القوم مأمور بضربهم إلّا زيدا فإنه غير مأمور به فكذا هنا يجوز أن يقال: أُولُوا بَقِيَّةٍ محضوضون على النهي إِلَّا قَلِيلًا فإنهم ليسوا محضوضين عليه لأنهم نهوا فالاستثناء متصل قطعا كما ذهب إليه بعض السلف، وقد يدفع ما أورده بأن مقتضى الاستثناء أنهم غير محضوضين، وذلك إما لكونهم نهوا أو لكونهم لا يحضون عليه لعدم توقعه منهم، فإما أن يكون قد جعل احتمال الفساد إفسادا أو ادّعى أنه هو المفهوم من السياق، ثم إن المدقق صاحب الكشف قال: إن ظاهر تقرير كلام الزمخشري يشعر بأن يَنْهَوْنَ خبر كانَ جعل مِنَ الْقُرُونِ خبرا آخر أو حالا قدمت لأن تحضيض- أولي البقية- على النهي على ذلك التقدير حتى لو جعل صفة، ومِنَ الْقُرُونِ خبرا كان المعنى تنديم أهل القرون على أن لم يكن فيهم أولو بقية ناهون وإذا جعل خبرا لا يكون معنى الاستثناء ما كان من القرون أولو بقية إلّا قليلا بل كان ما كان منهم أولو بقية ناهين إلّا قليلا فإنهم نهوا وهو فاسد، والانقطاع على ما آثره الزمخشري أيضا يفسد لما يلزم منه أن يكون أولو بقية غير ناهين لأن في التحضيض والتنديم دلالة على نفيه عنهم، فالوجه أن يؤوّل بأن المقصود من ذكر الاسم الخبر وهو كالتمهيد له كأنه قيل: فلولا كان من القرون من قبلكم ناهون إلّا قليلا، وفي كلامه إشارة إلى أنه لا يختلف نفي الناهي، وأولو البقية، وإنما عدل إلى المنزل مبالغة لأن أصحاب
354
فضلهم وبقاياهم إذا حضضوا على النهي وندموا على الترك فهم أولى بالتحضيض والتنديم، وفيه مع ذلك الدلالة على خلوهم عن الاسم لخلوهم عن الخبر لأن ذا البقية لا يكون إلّا ناهيا فإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم وهو من باب ولا ترى الضب بها ينجحر وقولك: ما كان شجعانهم يحمون عن الحقائق في معرض الذم تريد أن لا شجاع ولا حماية لكن بالغت في الذم حتى خيلت أنه لو كان لهم شجاع كان كالعدم فهذا هو الوجه الكريم والمطابق لبلاغة القرآن العظيم انتهى، وهو تحقيق دقيق أنيق.
وادعى بعضهم أن الظاهر أن كانَ تامة، وأُولُوا بَقِيَّةٍ فاعلها، وجملة يَنْهَوْنَ صفته، ومِنَ الْقُرُونِ حال متقدمة عليه، ومِنَ تبعيضية، ومِنْ قَبْلِكُمْ حال من الْقُرُونِ، ويجوز أن يكون صفة لها أي الكائنة بناء على رأي من جوز حذف الموصول مع بعض صلته، واعترض بأنه يلزم منه كون التحضيض على وجود أولئك فيهم وكذا يلزم كون المنفي ذلك وليس بذاك بل المدار على النهي تحضيضا ونفيا، والتزام توجه الأمرين إليه لكون الصفة قيدا في الكلام والاستعمال الشائع توجه نحو ما ذكر إلى القيد كما قيل زيادة نغمة في الطنبور من غير طرب، ومثله يعد من النصب وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وهم تاركو النهي عن الفساد.
ما أُتْرِفُوا فِيهِ ما أنعموا فيه من الثروة والعيش الهنيء والشهوات الدنيوية، وأصل الترف التوسع في النعمة.
وعن الفراء معنى أترف عود الترفة وهي النعمة، وقيل: أُتْرِفُوا أي طغوا من أترفته النعم إذا أطغته- ففي- إما سببية أو ظرفية مجازية، وتعقب بأن هذا المعنى خلاف المشهور وإن صح هنا ومعنى اتباع ذلك الاهتمام به وترك غيره أي اهتموا بذلك وَكانُوا مُجْرِمِينَ أي مرتكبي جرائم غير ذلك، أو كافرين متصفين بما هو أعظم الإجرام، ولكل من التفسيرين ذهب بعض، وحمل بعضهم الَّذِينَ ظَلَمُوا على ما يعم تاركي النهي عن الفساد والمباشرين له، ثم قال: وأنت خبير بأنه يلزم من التحضيض بالأولين عدم دخول مباشري الفساد في الظلم والإجرام عبارة، ولعل الأمر في ذلك هين فلا تغفل، والجملة عند أبي حيان مستأنفة للإخبار عن حال هؤلاء الَّذِينَ ظَلَمُوا وبيان أنهم مع كونهم تاركي النهي عن الفساد كانوا ذوي جرائم غير ذلك.
وجوز بعض المحققين أن تكون عطفا على مقدر دلّ عليه الكلام أي لم ينهوا وَاتَّبَعَ إلخ.
وقيل: التقدير إلّا قليلا ممن أنجينا منهم نهوا عن الفساد وَاتَّبَعَ الَّذِينَ إلخ، وأن تكون استئنافا يترتب على قوله سبحانه: إِلَّا قَلِيلًا أي إلّا قليلا ممن أنجينا منهم نهوا عن الفساد وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا من مباشري الفساد وتاركي النهي عنه، وجعل الإظهار على هذا مقتضى الظاهر، وعلى الأول لإدراج المباشرين مع التاركين في الحكم والتسجيل عليهم بالظلم وللإشعار بعلية ذلك لما حاق بهم من العذاب.
وفي الكشاف ما يقضي ظاهره بأن العطف على نهوا الواقع خبر لكن فيلزم أن يكون المعطوف خبرا أيضا مع خلوه عن الرابط، وأجيب تارة بأنه في تأويل سائرهم أو مقابلوهم وأخرى بأن نهوا جملة مستأنفة استؤنفت بعد اعتبار الخبر فعطف عليها، وفي ذلك ما فيه، وقوله تعالى: وَكانُوا مُجْرِمِينَ عطف على اتَّبَعَ الَّذِينَ إلخ مع المغايرة بينهما، وجوز أن يكون العطف تفسيريا على معنى وَكانُوا مُجْرِمِينَ بذلك الاتباع، وفيه بعد، وأن يكون على أُتْرِفُوا على معنى اتبعوا الأتراف وكونهم مجرمين لأن تابع الشهوات مغمور بالآثام، أو أريد بالإجرام إغفالهم للشكر، وتعقبه صاحب التقريب بقوله: وفيه نظر لأن ما في ما أُتْرِفُوا موصولة لا مصدرية لعود الضمير من فِيهِ إليه، فكيف يقدر كانُوا مصدرا إلّا أن يقال: يرجع الضمير إلى الظلم بدلالة ظَلَمُوا فتكون ما مصدرية وأن تكون الجملة اعتراضا بناء على أنه قد يكون في آخر الكلام عند أهل المعاني.
355
وقرأ أبو جعفر والعلاء بن سيابة وأبو عمرو وفي رواية الجعفي «وأتبع» بضم الهمزة المقطوعة وسكون التاء وكسر الباء على البناء للمفعول من الاتباع، وقيل: ولا بد حينئذ من تقدير مضاف أي اتبعوا جزاء ما أترفوا وما إما مصدرية أو موصولة والواو للحال، وجعلها بعضهم للعطف على لم ينهو المقدر، والمعنى على الأول إِلَّا قَلِيلًا نجيناهم وقد هلك سائرهم، وأما قوله سبحانه: وَكانُوا مُجْرِمِينَ فقد قالوا: إنه لا يحسن جعله قيدا للإنجاء إلا من حيث إنه يجري مجرى العلة لإهلاك السائرين فيكون اعتراضا، أو حالا من الَّذِينَ ظَلَمُوا والحال الأول من مفعول أَنْجَيْنا المقدر، وجوز أن يفسر بذلك القراءة المشهورة، وتقدم الإنجاء للناهين يناسب أن يبين هلاك الذين لم ينهوا، والواو للحال أيضا في القول الشائع كأنه قيل: أَنْجَيْنا القليل وقد اتبع الذين ظلموا جزاءهم فهلكوا، وإذا فسرت المشهورة بذلك فقيل: فاعل- اتبع ما أترفوا- أو الكلام على القلب فتدبر وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى أي ما صح وما استقام بل استحال في الحكمة أن يهلك القرى التي أهلكها وبلغتك أنباؤها أو ما يعمها وغيرها من القرى الظالم أهلها، واللام في مثل ذلك زائدة لتأكيد النفي عند الكوفية، وعند البصرية متعلقة بمحذوف توجه إليه النفي، وقوله سبحانه: بِظُلْمٍ أي ملتبسا به قيل: هو حال من الفاعل أي ظالما لها والتنكير للتفخيم والإيذان بأن إهلاك المصلحين ظلم عظيم، والمراد تنزيه الله تعالى عن ذلك على أبلغ وجه وإلّا فلا ظلم منه تعالى فيما يفعله بعباده كائنا ما كان لما علم من قاعدة أهل السنة، وقوله جلّ وعلا: وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ حال من المفعول والعامل فيه عامله، ولكن لا باعتبار تقييده بالحال السابقة لدلالته على تقييد نفي الإهلاك ظلما بحال كون أهلها مصلحين، وفيه من الفساد على ما قيل ما فيه بل مطلقا عن ذلك، وهذا ما اختاره ابن عطية، ونقل الطبري أن المراد بالظلم الشرك والباء للسببية أي لا يهلك القرى بسبب إشراك أهلها وهم مصلحون في أعمالهم يتعاطون الحق فيما بينهم بل لا بد في إهلاكهم من أن يضموا إلى شركهم فسادا وتباغيا وذلك لفرط رحمته ومسامحته في حقوقه سبحانه، ومن ذلك قدم الفقهاء- عند تزاحم الحقوق- حقوق العباد في الجملة ما لم يمنع منه مانع.
قال ابن عطية: وهذا ضعيف، وكأنه ذهب قائله إلى ما قيل: الملك يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظلم والجور، ولعل وجه ضعفه ما ذكره بعض المحققين من أن مقام النهي عن المنكرات التي أقبحها الإشراك بالله تعالى لا يلائمه فإن الشرك داخل في الفساد في الأرض دخولا أوليا ولذلك كان ينهى كل من الرسل عليهم السلام أمته عنه ثم عن سائر المعاصي، فالوجه كما قال: حمل الظلم على مطلق الفساد الشامل لسائر القبائح والآثام وحمل الإصلاح على إصلاحه، والإقلاع عنه بكون البعض متصديا للنهي، والبعض الآخر متوجها إلى الاتعاظ غير مصر على ما هو عليه من الشرك وغيره من أنواع الفساد انتهى، لكن
أخرج الطبراني، وابن مردويه وأبو الشيخ والديلمي عن جرير قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يسأل عن تفسير هذه الآية وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ فقال عليه الصلاة والسلام: وأهلها ينصف بعضهم بعضا» وأخرجه ابن أبي حاتم. والخرائطي في مساوئ الأخلاق عن جرير موقوفا،
وهو ظاهر في المعنى الذي نقله الطبري، ولعله لم يثبت عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وإلّا فالأمر مشكل، وجعل التصدي للنهي من بعض والاتعاظ من بعض آخر من إنصاف البعض البعض كما ترى فافهم وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً مجتمعين على الدين الحق بحيث لا يقع من أحد منهم كفر لكنه لم يشأ سبحانه ذلك فلم يكونوا مجتمعين على الدين الحق، ونظير ذلك قوله سبحانه: وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها [السجدة:
١٣] وروي هذا عن ابن عباس وقتادة وروي عن الضحاك أن المراد لو شاء لجمعهم على هدى أو ضلالة وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ بعضهم على الحق وبعضهم على الباطل.
أخرج ذلك ابن أبي حاتم عن ابن عباس، ولعل المراد الاختلاف في الحق والباطل من العقائد التي هي أصول
356
الدين بقرينة المقام، وقيل: المراد ما يشمل الاختلاف في العقائد والفروع وغيرهما من أمور الدين لعدم ما يدل على الخصوص في النظم فالاستثناء في قوله سبحانه: إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ
متصل على الأول وهو الذي اختاره أبو حيان وجماعة وعلى الثاني منقطع حيث لم يخرج من رحمة الله تعالى من المختلفين كأئمة أهل الحق فإنهم أيضا مختلفون فيما سوى أصول الدين من الفروع، وإلى هذا ذهب الحوفي ومن تبعه.
وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ أي الناس، والإشارة- كما روي عن الحسن، وعطاء- إلى المصدر المفهوم من مُخْتَلِفِينَ ونظيره إذا نهي السفيه جرى إليه كأنه قيل: وللاختلاف خلق الناس على معنى لثمرة الاختلاف من كون فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى: ٧] خلقهم، واللام لام العاقبة والصيرورة لأن حكمة خلقهم ليس هذا لقوله سبحانه: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: ٥٦] ولأنه لو خلقهم له لم يعذبهم على ارتكاب الباطل كذا قال غير واحد، وروي عن الإمام مالك ما يقتضيه، وعندي أنه لا ضير في الحمل على الظاهر ولا منافاة بين هذه الآية والآية التي ذكروها لما ستعلمه إن شاء تعالى من تفسيرها في الذاريات، وما يروى فيها من الآثار وأن الخلق من توابع الإرادة التابعة للعلم التابع للمعلوم في نفسه والتعذيب أو الإثابة ليس إلّا لأمر أفيض على المعذب والمثاب بحسب الاستعداد الأصلي، وربما يرجع هذا بالآخرة إلى أن التعذيب والإثابة من توابع ذلك الاستعداد الذي عليه المعذب أو المثاب في نفسه، ومن هنا قالوا: إن المعصية والطاعة أمارتان على الشقاوة والسعادة لا مقتضيتان لهما، وبذلك يندفع قولهم: ولأنه لو خلقهم له لم يعذبهم، ولما قرّرناه شواهد كثيرة من الكتاب والسنة لا تخفى على المستعدين لإدراك الحقائق، وقيل ضمير: خَلَقَهُمْ لمن باعتبار معناه، والإشارة للرحمة المفهومة من رَحِمَ، والتذكير لتأويلها بأن والفعل أو لكونها بمعنى الخير، وروي ذلك عن مجاهد وقتادة وروي عن ابن عباس أن الضمير للناس والإشارة للرحمة والاختلاف أي لاختلاف الجميع ورحمة بعضهم خَلَقَهُمْ، وجاءت الإشارة لاثنين كما في قوله تعالى: عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ [البقرة: ٦٨] واللام على هذا قيل: بمعنى مجازي عام للمعنى الظاهر والصيرورة وعلى ما قبله معناها، وأظهر الأقوال في الإشارة والضمير ما قدمناه، والقولان الآخران دونه، وأما القول بأن الإشارة لما بعد، وفي الكلام تقديم وتأخير أي- وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم إلخ أي لملء جهنم خلقهم- فبعيد جدا من تراكيب كلام العرب ومن هذا الطرز ما قيل: إن ذلك إشارة إلى شهود ذلك اليوم المشهود وكذا ما قيل: إنه إشارة إلى قوله تعالى: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ [هود: ١٠٥] أو إلى الشقاوة والسعادة المفهومتين من ذلك، أو إلى أن يكون فريق في الجنة وفريق في السعير، أو إلى النهي المفهوم من قوله سبحانه: يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ، أو إلى الجنة والنار أو إلى العبادة إلى غير ذلك من الأقوال التي يتعجب منها.
وذهب بعض المحققين في معنى الآية إلى أن المراد من الوحدة الوحدة في الدين الحق، ومن الاختلاف الاختلاف فيه على معنى المخالفة له كما في قوله تعالى: وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ [البقرة: ٢١٣] والمراد- بمن رحم- الذين هداهم الله تعالى ولم يخالفوا الحق، والإشارة للاختلاف بمعنى المخالفة، وضمير خَلَقَهُمْ للذين بقوا بعد الثنيا وهم المختلفون المخالفون، واللام للعاقبة كأنه قيل: ولو شاء ربك لجعل الناس على الحق ودين الإسلام لكنه لم يشأ فلم يجعل، ولا يزالون مخالفين للحق إلّا قوما هداهم سبحانه بفضله فلم يخالفوا الحق، ولما ذكر من الاختلاف خلق المختلفين المخالفين ولا يخفى ما فيه من ارتكاب خلاف الظاهر وإن أخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن مجاهد ما يقتضي بعضه.
ومن الغريب ما روي عن الحسن أن المراد من الاختلاف الاختلاف في الأرزاق والأحوال وتسخير بعضهم بعضا، وقال ابن بحر: المراد أن بعضهم يخلف بعضا فيكون الآتي خلفا للماضي، ومنه ما اختلف الجديدان أي ما
357
خلف أحدهما صاحبه، وإلى هذا ذهب أبو مسلم إلّا أنه قال: يخلف بعضهم بعضا في الكفر تقليدا، وفي ذلك ما فيه، وأيا ما كان فالظاهر من الناس العموم وليتأمل هذه الآية مع قوله تعالى: وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً [هود: ١٩] وليراجع تفسير ذلك.
وقال الفاضل الجلبي: ليس في هذه الآية ما يدل على عموم الناس حتى تخالف وَما كانَ النَّاسُ إلخ، وفيه نظر، والجار والمجرور أعني لذلك متعلق- بخلق- بعده، والظاهر أن الحصر المستفاد من التقديم إذا قلنا: إن التقديم له إضافي والمضاف هو إليه مختلف حسب اختلاف الأقوال في تعيين المشار إليه، وهو على الأول الاتفاق وعلى ما عداه يظهر أيضا بأدنى التفات، هذا واستدل بالآية على أن الأمر غير الإرادة وأنه تعالى لم يرد الإيمان من كل وإن ما أراده سبحانه يجب وقوعه.
وذكر بعض العارفين أن منشأ تشييب سورة هود له الله صلى تعالى عليه وسلم اشتمالها على أمره عليه الصلاة والسلام بالاستقامة على الدعوة مع إخباره أنه سبحانه إنما خلق الناس للاختلاف وأنه لا يشاء اجتماعهم على الدين الحق وهو كما ترى وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ أي نفذ قضاؤه وحق أمره، وقد تفسر الكلمة بالوعيد مجازا، وقد يراد منها الكلام الملقى على الملائكة عليهم السلام والأول أولى، والجملة متضمنة معنى القسم، ولذا جيء باللام في قوله سبحانه: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ والجنة والجن بمعنى واحد، وفي تفسير ابن عطية أن الهاء في الجنة للمبالغة وإن كان الجن يقع على الواحد، فالجنة جمعه انتهى، فيكون من الجموع التي يفرق بينها وبين مفردها بالهاء ككمء وكمأة على ما ذكرناه في تعليقاتنا على الألفية، وفي الآية سؤال مشهور وهو أنها تقتضي بظاهرها دخول جميع الفريقين في جهنم والمعلوم من الآيات والأخبار خلافه، وأجاب عن ذلك القاضي بما حاصله أن المراد- بالجنة والناس- إما عصاتهما على أن التعريف للعهد والقرينة عقلية لما علم من الشرع أن العذاب مخصوص بهم وأن الوعيد ليس إلّا لهم، وفي معنى ذلك ما قيل: المراد- بالجنة والناس- أتباع إبليس لقوله سبحانه في [الأعراف: ١٨] و [ص:
٨٥] لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ فاللازم دخول جميع تابعيه في جهنم ولا محذور فيه، والقرآن يفسر بعضه بعضا، ولا حاجة الى تقدير عصاة مضافا الى الفريقين كما قيل فأجمعين لاستغراق الأفراد المرادة حسبما علمت وأما ما يتبادر منهما ويراد من التأكيد بيان أن ملء جهنم من الصنفين لا من أحدهما فقط وهذا لا يقتضي شمول أفراد كلا الفريقين ويكون الداخلوها منهما مسكوتا عنه موكولا إلى شيء آخر، واعترض الأخير بأنه مبني على وقوع أَجْمَعِينَ تأكيدا للمثنى وهو خلاف ما صرحوا به، وفيه أن ذلك إذا كان لمثنى حقيقي لا إذا كان كل فرد منه جمعا فإنه حينئذ تأكيد للجمع في الحقيقة فلا ورود لما ذكر.
نعم يرد على الشق الأول أن التأكيد يقتضي دخول جميع العصاة في النار والمعلوم من النصوص خلافه اللهم إلّا أن يقال: المراد العصاة الذين قدر الله تعالى أن يدخلوها، وأجاب بعضهم بأن ذلك لا يقتضي دخول الكل بل قدر ما يملأ جهنم كما إذا قيل: ملأت الكيس من الدراهم لا يقتضي دخول جميع الدراهم في الكيس، ورده الجلال الدواني بأنه نظير أن يقال: ملأت الكيس من جميع الدراهم وهو بظاهره يقتضي دخول جميع الدراهم فيه، والسؤال عليه كما في الآية باق بحاله، ثم قال: والحق في الجواب أن يقال: المراد بلفظ أَجْمَعِينَ تعميم الأصناف، وذلك لا يقتضي دخول جميع الأفراد كما إذا قلت: ملأت الجراب من جميع أصناف الطعام لا يقتضي ذلك إلّا أن يكون فيه شيء من كل صنف من الأصناف لا أن يكون فيه جميع أفراد الطعام، وكقولك: امتلأ المجلس من جميع أصناف الناس فإنه لا يقتضي أن يكون في المجلس جميع أفراد الناس بل أن يكون فيه من كل صنف فرد وهو ظاهر، وعلى هذا يظهر فائدة لفظ أَجْمَعِينَ إذ فيه رد على اليهود وغيرهم ممن زعم أنهم لا يدخلون النار انتهى، وتعقبه ابن الصدر بقوله: فيه
358
بحث لأنهم صرحوا بأن فائدة التأكيد بكل وأجمعين- دفع توهم عدم الشمول والإحاطة بجميع الأفراد، وما ذكره من المثالين فإنما نشأ شمول الأصناف فيه من إضافة لفظ الجميع إلى الأصناف كيف ولو قيل: ملأت الجراب من جميع الطعام بإسقاط لفظ الأصناف كان الكلام فيه كالكلام فيما نحن فيه، وأيضا ما ذكره من أن في ذلك ردا على اليهود إلخ غير صحيح لأن اليهود قالوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً [البقرة: ٨٠] فكيف يزعمون أنهم لا يدخلونها أصلا فتدبر ذاك والله سبحانه يتولى هداك.
وأجاب بعضهم بمنزع صوفي وهو أن المراد من الجنة والنار الذين بقوا في مرتبة الجنية والإنسية حيث انغمسوا في ظلمات الطبيعة وانتكبوا في مقر الأجرام العنصرية ولم يرفعوا إلى العالم الأعلى واطمأنوا بالحياة الدنيا ورضوا بها وانسلخوا عن عالم المجردات وهم المشركون الذين قيل في حقهم: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ [التوبة: ٢٨] إلخ فإنهم لا يستأهلون دار الله تعالى وقربه، ثم قال: ولهذا ترى الله تعالى شأنه يذم الإنسان ويدعو عليه في غير ما موضع وَكُلًّا أي وكل نبأ فالتنوين للتعويض عن المضاف إليه المحذوف، ونصب- كل- على أنه مفعول به لقوله سبحانه: نَقُصُّ عَلَيْكَ أي نخبرك به، وقوله تعالى: مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ صفة لذلك المحذوف لا- لكلا- لأنها لا توصف في الفصيح كما في إيضاح المفصل، ومِنْ تبعيضية، وقيل: بيانية، وقوله عزّ وجلّ: ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ قيل: عطف بيان- لكلا- بناء على عدم اشتراط توافق البيان والمبين تعريفا وتنكيرا، المعنى هو ما نثبت إلخ.
وجوز أن يكون بدلا منه بدل كل أو بعض، وفائدة ذلك التنبيه على أن المقصود من الاقتصاص زيادة يقينه صلى الله تعالى عليه وسلم وطمأنينة قلبه وثبات نفسه على أداء الرسالة واحتمال أذى الكفار، وجوز أيضا أن يكون مفعول نَقُصُّ وَكُلًّا حينئذ منصوب إما على المصدرية أي كل نوع من أنواع الاقتصاص نَقُصُّ عَلَيْكَ الذي نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ من أنباء الرسل، وإما على الحالية من ما أو من الضمير المجرور في بِهِ على مذهب من يرى جواز تقديم حال المجرور بالحرف عليه، وهو حينئذ نكرة بمعنى جميعا أي نقص عليك من أنباء الرسل الأشياء التي نثبت بها فؤادك جميعا.
واستظهر أبو حيان كون كُلًّا مفعولا به لنقص، ومِنْ أَنْباءِ في موضع الصفة له وهو مضاف في التقدير إلى نكرة، وما صلة كما هي في قوله تعالى: قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ [الأعراف: ٣] ولا يخفي ما فيه.
وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ أي الأمر الثابت المطابق للواقع، والإشارة بهذه إلى السورة كما جاء ذلك من عدة طرق عن ابن عباس وأبي موسى الأشعري وقتادة وابن جبير.
وقيل: الإشارة إليها مع نظائرها وليس بذاك ككونها إشارة إلى دار الدنيا، وإن جاء في رواية عن الحسن، وقيل:
إلى الأنباء المقتصة وهو مما لا بأس به وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ عطف على الْحَقُّ أي جاءك الجامع المتصف حقا في نفسه وكونه موعظة وذكرى للمؤمنين، ولعل تحلية الوصف الأول باللام دون الأخيرين لما قيل: من أن الأول حال للشيء في نفسه والأخيران وصفان له بالقياس إلى غيره.
وقال الشهاب: الظاهر أن يقال إنما عرف الأول لأن المراد منه ما يختص بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم من إرشاده الى الدعوة وتسليته بما هو معروف معهود عنده، وأما الموعظة والتذكير فأمر عام لم ينظر فيه لخصوصية، ففرق بين الوصفين للفرق بين الموصوفين، وفي التخصيص بهذه السورة ما يشهد له لأن مبناها على إرشاده صلى الله تعالى عليه وسلم على ما سمعت عن صاحب الكشف، وتقديم الظرف على الفاعل ليتمكن المؤخر عنه وروده أفضل تمكن ولأن في المؤخر نوع طول يخل تقديمه بتجاوب النظم الكريم.
359
وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ أي جهتكم وحالكم التي أنتم عليها إِنَّا عامِلُونَ على جهتنا وحالنا التي نحن عليها وَانْتَظِرُوا بنا الدوائر إِنَّا مُنْتَظِرُونَ أن ينزل بكم نحو ما نزل بأمثالكم من الكفرة، وصيغة الأمر في الموضعين للتهديد والوعيد، والآيتان محكمتان.
وقيل: المراد الموادعة فهما منسوختان وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي أنه سبحانه يعلم كل ما غاب في السماوات والأرض ولا يعلم ذلك أحد سواه جلّ وعلا وَإِلَيْهِ لا إلى غيره عزّ شأنه يُرْجَعُ الْأَمْرُ أي الشأن كُلُّهُ فيرجع لا محالة أمرك وأمرهم إليه، وقرأ أكثر السبعة «يرجع» بالبناء للفاعل من رجع رجوعا فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ فإنه سبحانه كافيك، والفاء لترتيب الأمر بالعبادة والتوكل على كون مرجع الأمور كلها إليه، وقيل: على ذلك، وكونه تعالى عالما بكل غيب أيضا، وفي تأخير الأمر بالتوكل عن الأمر بالعبادة تنبيه على أن التوكل لا ينفع دونها وذلك لأن تقدمه في الذكر يشعر بتقدمه في الرتبة أو الوقوع.
وقيل: التقديم والتأخير لأن المراد من العبادة امتثال سائر الأوامر من الإرشاد والتبليغ وغير ذلك ومن التوكل التوكل فيه كأنه قيل: امتثل ما أمرت به وداوم على الدعوة والتبليغ وتوكل عليه في ذلك ولا تبال بالذين لا يؤمنون ولا يضق صدرك منهم وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ بتاء الخطاب على تغليب المخاطب، وبذلك قرأ نافع، وأبو عامر وحفص وقتادة والأعرج وشيبة وأبو جعفر والجحدري أي وما ربك بغافل عما تعمل أنت وما يعملون هم فيجازي كلا منك ومنهم بموجب الاستحقاق، وقرأ الباقون من السبعة بالياء على الغيبة وذلك ظاهر، هذا وفي زوائد الزهد لعبد الله ابن أحمد بن حنبل وفضائل القرآن لابن الضريس عن كعب أن فاتحة التوراة فاتحة الأنعام وخاتمتها حاتمة هود وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إلى آخر السورة، والله تعالى أعلم.
ومن باب الإشارة في الآيات يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ كامل الشقاوة ومنهم سعيد كامل السعادة فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ أي نار الحرمان عن المراد وآلام ما اكتسبوه من الآثام وهو عذاب النفس خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ فيخرجون من ذلك إلى ما هو أشد منه من نيران القلب وذلك بالسخط والإذلال ونيران الروح وذلك بالحجب واللعن والقهر إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ لا حجر عليه سبحانه وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ أي جنة حصول المرادات واللذات وهي جنة النفس خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ فيخرجون من ذلك إلى ما هو أعلى وأعلى من جنات القلب في مقام تجليات الصفات وجنات الروح في مقام الشهود وهناك ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وقد يحمل التنوين على النوعية ويؤول الاستثناء بخروج الشقي من النار بالترقي من مقامه إلى الجنة بزكاء نفسه عما حال بينه وبينها فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ أي في القيام بحقوق الحق والخلق وذلك بالمحافظة على حقوقه تعالى والتعظيم لأمره والتسديد لخلقه مع شهود الكثرة في الوحدة والوحدة في الكثرة من غير إخلال ما بشرط من شرائط التعظيم وَمَنْ تابَ عن إنيته وذنب وجوده معك من المؤمنين الموحدين إلى مقام البقاء بعد الفناء، وقيل: إن الاستقامة المأمور بها صلى الله تعالى عليه وسلم فوق الاستقامة المأمور بها من معه عليه الصلاة والسلام والعطف لا يقتضي أكثر من المشاركة في مطلق الفعل كما يرشد إليه قوله تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ على قول، ومن هنا قال الجنيد قدس سره: الاستقامة مع الخوف والرجاء حال العابدين والاستقامة مع الهيبة والرجاء حال المقربين، والاستقامة مع الغيبة عن رؤية الاستقامة حال العارفين وَلا تَطْغَوْا ولا تخرجوا عما حدّ لكم من الشريعة فإن الخروج عنها زندقة وَلا تَرْكَنُوا أي لا تميلوا أدنى ميل إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا
وهي النفوس المظلمة المائلة إلى الشرور في أصل الخلقة كما قيل:
360
الظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفة فلعلة لم يظلم
وروي ذلك عن علي بن موسى الرضا عن أبيه عن جعفر رضي الله تعالى عنهم،
وقيل: المعنى لا تقتدوا بالمرائين والجاهلين وقرناء السوء، وقيل: لا تصحبوا الأشرار ولا تجالسوا أهل البدع وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ أمر بإقامة الصلاة المفروضة على ما علمت،
وقد ذكروا أن الصلاة معراج المؤمن،
وفي الأخبار ما يدل على علو شأنها والأمر غني عن البيان إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ قال الواسطي: أنوار الطاعات تذهب بظلم المعاصي.
وقال يحيى بن معاذ: إن الله سبحانه لم يرض للمؤمن بالذنب حتى ستر ولم يرض بالستر حتى غفر ولم يرض بالغفران حتى بدل فقال سبحانه: إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ وقال تعالى: فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ ذلك الذي ذكر من إقامة الصلاة في الأوقات المشار إليها وإذهاب الحسنات السيئات ذكرى للذاكرين تذكير لمن يذكر حاله عند الحضور مع الله تعالى في الصفاء والجمعية والأنس والذوق وَاصْبِرْ بالله سبحانه في الاستقامة ومع الله تعالى بالحضور في الصلاة وعدم الركون إلى الغير فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ الذين يشاهدونه في حال القيام بالحقوق فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ فيه حض على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ قيل: القرى فيه إشارة إلى القلوب وَأَهْلُها إشارة إلى القوى وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً متساوية في الاستعداد متفقة على دين التوحيد وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ في الوجهة والاستعداد إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ بهدايته إلى التوحيد وتوفيقه للكمال فإنهم متفقون في المذهب والمقصد متوافقون في السيرة والطريقة قبلتهم الحق ودينهم التوحيد والمحبة وإن اختلفت عباراتهم كما قيل:
عباراتنا شتى وحسنك واحد وكل إلى ذاك الجمال يشير
وَلِذلِكَ الاختلاف خَلَقَهُمْ وذلك ليكونوا مظاهر جماله وجلاله ولطفه وقهره، وقيل: ليتم نظام العالم ويحصل قوام الحياة الدنيا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ أي أحكمت وأبرمت لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لأن جهنم رتبة من مراتب الوجود لا يجوز في الحكمة تعطيلها وإبقاؤها في كتم العدم مع إمكانها وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ لما اشتملت عليه من مقاساتهم الشدائد من أممهم مع ثباتهم وصبرهم وإهلاك أعدائهم وَجاءَكَ فِي هذِهِ السورة الْحَقُّ الذي لا ينبغي المحيد عنه وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ وتخصيص هذه السورة بالذكر لما أشرنا إليه، وقيل: للتشريف، وإلّا فالقرآن كله كذلك، والكل يغرف من بحره على ما يوافق مشربه، ومن هنا قيل: العموم متعلقون بظاهره، والخصوص هائمون بباطنه، وخصوص الخصوص مستغرقون في تجلي الحق سبحانه فيه وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ على اختلاف معانيها وَالْأَرْضِ كذلك وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ أي كل شأن من الشؤون فإن الكل منه فَاعْبُدْهُ أسقط عنك حظوظ نفسك وقف مع الأمر بشرط الأدب وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ لا تهتم بما قد كفيته واهتم بما ندبت إليه وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ فيجازي كلا حسبما تقتضيه الحكمة والله تعالى ولي التوفيق وبيده أزمة التحقيق لا رب غيره ولا يرجى إلّا خيره.
انتهى ما وفقنا له من تفسير سورة هود بمنّ من بيده الكرم والجود، ونسأله سبحانه أن ييسر لنا إتمام ما قصدناه، ويوفقنا لفهم معاني كلامه على ما يحبه ويرضاه، والحمد لله حق حمده، والصلاة والسلام على من لا نبي من بعده، وعلى آله وصحبه وجنده وحزبه، ما غردت الأقلام في رياض التحرير، ووردت الأفهام من حياض التفسير.
361
Icon