تفسير سورة الرعد

أحكام القرآن للجصاص
تفسير سورة سورة الرعد من كتاب أحكام القرآن المعروف بـأحكام القرآن للجصاص .
لمؤلفه الجصَّاص . المتوفي سنة 370 هـ

سُورَةِ الرَّعْدِ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

قَوْله تعالى وفي الأرض قطع متجاورات قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ الْأَرْضُ السَّبَخَةُ والأرض العذبة ونخيل صنوان قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ النَّخَلَاتُ أَصْلُهَا وَاحِدٌ قَوْله تَعَالَى يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأكل فِيهِ أَوْضَحُ دَلَالَةٍ عَلَى بُطْلَانِ مَذْهَبِ أَصْحَابِ الطَّبَائِعِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حُدُوثُ مَا يَحْدُثُ مِنْ الثِّمَارِ بِطَبْعِ الْأَرْضِ وَالْهَوَاءِ وَالْمَاءِ لَوَجَبَ أَنْ يَتَّفِقَ مَا يَحْدُثُ مِنْ ذَلِكَ لِاتِّفَاقِ مَا يُوجِبُ حُدُوثَهُ إذْ كَانَتْ الطَّبِيعَةُ الْوَاحِدَةُ تُوجِبُ عِنْدَهُمْ اتِّفَاقَ مَا يَحْدُثُ مِنْهَا وَلَا يَجُوزُ أَنْ تُوجِبَ فِعْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ فَلَوْ كَانَ حُدُوثُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ الْأَلْوَانِ وَالطُّعُومِ وَالْأَرَايِيحِ وَالْأَشْكَالِ مِنْ إيجَابِ الطَّبِيعَةِ لَاسْتَحَالَ اخْتِلَافُهَا وَتَضَادُّهَا مَعَ اتِّفَاقِ الْمُوجِبِ لَهَا فَثَبَتَ أَنَّ الْمُحْدِثَ لَهَا قَادِرٌ مُخْتَارٌ حَكِيمٌ قَدْ أَحْدَثَهَا عَلَى اخْتِلَافِهَا عَلَى عِلْمٍ مِنْهُ بِهَا وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى
قَوْله تَعَالَى إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ ولكل قوم هاد رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدٍ وَمُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ الْهَادِي هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا وَقَتَادَةَ الْهَادِي نَبِيُّ كُلِّ أُمَّةٍ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا الْهَادِي الدَّاعِي إلَى الْحَقِّ وَعَنْ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَأَبِي الضُّحَى وَعِكْرِمَةَ الْهَادِي مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّ تَقْدِيرَهُ إنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَهَادٍ لِكُلِّ قَوْمٍ وَالْمُنْذِرُ هُوَ الْهَادِي وَالْهَادِي أَيْضًا هُوَ الْمُنْذِرُ
قَوْله تَعَالَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وما تزداد قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ وَمَا تَنْقُصُ مِنْ الْأَشْهُرِ التِّسْعَةِ وَمَا تَزْدَادُ فَإِنَّ الْوَلَدَ يُولَدُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَيَعِيشُ وَيُولَدُ لِسَنَتَيْنِ فَيَعِيشُ وَقَالَ الْحَسَنُ وَمَا تَنْقُصُ بِالسَّقْطِ وَمَا تَزْدَادُ بِالتَّمَامِ وَقَالَ الْفَرَّاءُ الْغَيْضُ النُّقْصَانُ أَلَا تَرَاهُمْ يَقُولُونَ غَاضَتْ الْمِيَاهُ إذَا نَقَصَتْ وَقَالَ عِكْرِمَةُ إذَا غَاضَتْ وَقَالَ مَا غَاضَتْ الرَّحِمُ بِالدَّمِ يَوْمًا إلَّا زَادَ فِي الْحَمْلِ وَقَالَ مُجَاهِدٌ الْغَيْضُ وما رَأَتْ الْحَامِلُ مِنْ الدَّمِ فِي حَمْلِهَا وَهُوَ نُقْصَانٌ مِنْ الْوَلَدِ وَالزِّيَادَةُ مَا زَادَ عَلَى تِسْعَةِ أَشْهُرٍ وَهُوَ تَمَامُ النُّقْصَانِ وَهُوَ الزِّيَادَةُ وَزَعَمَ إسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ التَّفْسِيرَ إنْ كَانَ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ فَهُوَ حُجَّةٌ مِنْهُ فِي أَنَّ الْحَامِلَ تَحِيضُ قال لأن كل دم يخرج مِنْ الرَّحِمِ فَلَيْسَ يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ حَيْضًا أَوْ نِفَاسًا وَأَمَّا دَمُ الِاسْتِحَاضَةِ فَهُوَ من عرق وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ الدَّمَ الْخَارِجَ مِنْ الرَّحِمِ قَدْ يَكُونُ حَيْضًا وَنِفَاسًا وَقَدْ يَكُونُ غَيْرَهُمَا
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم في
397
دَمِ الِاسْتِحَاضَةِ إنَّهُ دَمُ عِرْقٍ
غَيْرُ مَانِعٍ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ مَا يَخْرُجُ مِنْ الرَّحِمِ من الدم قد يكون دم الاستحاضة
لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إنَّمَا هو دم عِرْقٌ انْقَطَعَ أَوْ دَاءٌ عَرَضَ
فَأَخْبَرَ أَنَّ دَمَ الِاسْتِحَاضَةِ قَدْ يَكُونُ مِنْ دَاءٍ عَرَضَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ عِرْقٍ وَأَيْضًا فَمَا الَّذِي يُحِيلُ أَنْ يَكُونَ دَمُ الْعِرْقِ خَارِجًا مِنْ الرَّحِمِ بِأَنْ يَنْقَطِعَ الْعِرْقُ فَيَسِيلُ الدَّمُ إلَيْهَا ثُمَّ يَخْرُجُ فَلَا يَكُونُ حَيْضًا وَلَا نِفَاسًا ثُمَّ
قَالَ فَلَا يُقَالُ إنَّ الْحَامِلَ لَا تَحِيضُ إلَّا بِخَبَرٍ عَنْ اللَّهِ أَوْ عَنْ رَسُولِهِ لِأَنَّهُ حِكَايَةٌ عَنْ غَيْبٍ
وَنَسِيَ أَنَّ قَضِيَّتَهُ تُوجِبُ أَنْ
لَا يُقَالَ إنَّهَا تَحِيضُ إلَّا بِخَبَرٍ عَنْ اللَّهِ وَعَنْ الرَّسُولِ لِأَنَّهُ حِكَايَةٌ عَنْ غَيْبٍ
عَلَى حَسَبِ مَوْضُوعِهِ وَقَاعِدَتِهِ بَلْ قَدْ يَسُوغُ لِمَنْ نَفَى الْحَيْضَ عَنْ الْحَامِلِ مَا لَا يَسُوغُ لِمَنْ أَثْبَتَهُ لِأَنَّا قَدْ عَلِمْنَا أَنَّهَا كَانَتْ غَيْرَ حَائِضٍ فَإِذَا رَأَتْ الدَّمَ وَاخْتَلَفُوا أَنَّهُ حَيْضٌ أَوْ غَيْرُ حَيْضٍ وَفِي إثْبَاتِ الْحَيْضِ إثْبَاتُ أَحْكَامٍ فَغَيْرُ جَائِزٍ إثْبَاتُهُ حَيْضًا إلَّا بِتَوْقِيفٍ وَوَاجِبٌ أَنْ تَكُونَ بَاقِيَةً عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنْ عَدَمِ الْحَيْضِ حَتَّى يَثْبُتَ الْحَيْضُ بِتَوْقِيفٍ أَوْ اتِّفَاقٍ إذْ كَانَ فِي إثْبَاتِ الدَّمِ حَيْضًا إثْبَاتُ حُكْمٍ لَا سَبِيلَ إلَى عِلْمِهِ إلَّا مِنْ طَرِيقِ التَّوْقِيفِ وَأَيْضًا فَإِنَّ قَوْلَنَا حيض هو حكم الدم خَارِجٍ مِنْ الرَّحِمِ وَقَدْ يُوجَدُ الدَّمُ خَارِجًا مِنْ الرَّحِمِ عَلَى هَيْئَةٍ وَاحِدَةٍ فَيُحْكَمُ لِمَا رَأَتْهُ فِي أَيَّامِهَا بِحُكْمِ الْحَيْضِ وَلِمَا رَأَتْهُ فِي غَيْرِ أَيَّامِهَا بِحُكْمِ الِاسْتِحَاضَةِ وَكَذَلِكَ النِّفَاسُ فَإِذَا كَانَ الْحَيْضُ لَيْسَ بِأَكْثَرَ مِنْ إثْبَاتِ أحكام الدم يُوجَدُ فِي أَوْقَاتٍ وَلَمْ يَكُنْ الْحَيْضُ عِبَارَةً عَنْ الدَّمِ فَحَسَبُ دُونَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ الْحُكْمِ وَإِثْبَاتِ الْحُكْمِ بِخُرُوجِ دَمٍ لَا يُعْلَمُ إلَّا مِنْ طَرِيقِ التَّوْقِيفِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْعَلَ هَذَا الْحُكْمُ ثَابِتًا لِدَمِ الْحَامِلِ إذْ لَمْ يَرِدْ بِهِ تَوْقِيفٌ وَلَا حَصَلَ عَلَيْهِ اتِّفَاقٌ ثُمَّ قَالَ إسْمَاعِيلُ عَطْفًا عَلَى
قَوْلِهِ لَا يُقَالُ إنَّ الْحَامِلَ لَا تَحِيضُ إلَّا بِخَبَرٍ عَنْ اللَّهِ أَوْ عَنْ رَسُولِهِ لِأَنَّهُ حِكَايَةٌ عَنْ غَيْبٍ
وَلَا يَلْزَمُ ذَلِكَ مَنْ قَالَ إنَّهَا تَحِيضُ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قد قال ويسئلونك عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ في المحيض فَلَمَّا قِيلَ النِّسَاءَ لَزِمَ فِي ذَلِكَ الْعُمُومُ لِأَنَّ الدَّمَ إذَا خَرَجَ مِنْ فَرْجِهَا فَالْحَيْضُ أَوْلَى بِهِ حَتَّى يُعْلَمَ غَيْرُهُ قَالَ أَبُو بكر قوله ويسئلونك عن المحيض لَيْسَ فِيهِ بَيَانُ صِفَةِ الْحَيْضِ بِمَعْنَى يَتَمَيَّزُ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ وقَوْله تَعَالَى قُلْ هُوَ أذى إنَّمَا هُوَ إخْبَارٌ عَمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْمَحِيضِ مِنْ تَرْكِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَاجْتِنَابِ الرَّجُلِ جِمَاعَهَا وَإِخْبَارٌ عَنْ نَجَاسَةِ دَمِ الْحَيْضِ وَلُزُومِ اجْتِنَابِهِ وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى وُجُودِهِ فِي حَالِ الْحَمْلِ وَعَدَمِهِ وَقَوْلُهُ لَمَّا قِيلَ النِّسَاءَ لَزِمَ فِي ذَلِكَ الْعُمُومُ لَا مَعْنَى لَهُ لِأَنَّهُ قَالَ فاعتزلوا النساء في المحيض
398
Icon