ﰡ
(مَكِّيَّة)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله: طه (١) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (٢)يقرأ طَهَ - بفتح الطاء والهاء، وتقرأ طِهِ - بكسرهما - ويقرأ طهْ - بفتح
الطاء وإسكان الهاء، وطَهِ بفتح الطاء وكسر الهاء.
واختلف في تفسيرها
فقال أهلُ اللغَةِ هي من فواتح السُّورِ نحو حم والم، ويروى أن النبي - ﷺ - كان إذا صلى رفع رِجْلًا ووضع أخرى فأنزل اللَّه عزَّ وجلَّ: (طاها) أيْ طَأ الأرضَ بِقَدمَيْكَ جَميعاً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (٢)
أي لتُصَلِّيَ على إحْدَى رِجْلَيْك فتشتد عليك، وقيل طه لغة بالعجمية
معناها يا رجل، فأمَّا من فتح الطاء والهاء فلأن ما قبل الألف مفتوح، ومن
كسر الطاء والهاء، أمال إلى الكسر لأن الحرفَ مقصورٌ، والمقصور تغلب عليه الإمالة إلى الكسر ومن قرأ طَِهْ بإسكان الهاء ففيها وجهان أحدهما أن يكون أصله " طَا " بالهمزة فأبدلت منها الهاء كما قالوا في إياك هياك وكما قالوا في أرَقَت الماء هَرَقْتُ وجائز أن يكون من " وَطِي " عَلَى تَرْكِ الهمزةِ.
فيكونُ " طَ "
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (٤)
المعنى أنزلناه تنزيلًا، والعُلَى جمع العليا، يقال: سماء عُلْيَا وسمواتٌ
عُلًى، مثل الكبرى والكُبَر.
* * *
وقوله: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (٥)
الاختيار الرفعُ، ويجوز الخفض على البدل من " منْ " المعنى تنزيلاً
من خالق الأرض والسَّمَاوَات الرحمن، ثم أخبر بعد ذلك فقال: على العرش
استوى، وقالوا معنى (استوى) استولى - واللَّه أعلم. والذي يدل عليه استوى في اللغة على ما فعله من معنى الاستواء.
قوله: (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى
(٦)
الثرى في اللغة الندى، وما تحت الأرض ندى، وجاء في التفسير وما
تحت الثرى ما تحت الأرض.
* * *
وقوله: (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (٧)
فَالسِّر ما أكننْتَهُ في نفسك، و " أخفى " ما يكون من الغيب الذي لا يعلمه
إلا اللَّه.
* * *
وقوله: (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (٨)
يروى عن النبي - ﷺ - أنه قال:
" للَّهِ تسعة وتسعونَ اسْماً من أحْصَاهَا دخل الجنة ".
وتأويل من أحصاها دخل الجنة، من وحَّدَ اللَّهَ وذكر هذه الأسماء
الحسنى يريد بها توحيدَ اللَّه وإعْظَامَهُ دَخَل الجنةَ.
وقَدْ جاءَ أنه من قال
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (١٠)
القَبَسُ ما أخَذْتَه في رأس. عُودٍ من النَّارِ أو رَأسِ فِتيلةٍ.
(أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى) جاء في التفسير أنه - ﷺ - ضل الطريق وجاء أنه ضل عن الماءِ فرجا أن يجد عند النار من يهديه الطريق أو يَدُلَّه عَلَى الماء.
* * *
(فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (١١) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (١٢)
ويقرأ أَنَّي أنَا - بالفَتح والكسر، فمن قرأ " أَنِي " فالمعنى نودي بأني أنا
ربُّك، وموضع " أَنَّي " نصبٌ.
وَمَنْ قَرأ (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ) بالكسر فالمعنى نودي يا موسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ.
(فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى).
روي أنه أمِرَ بخَلْعِهمَا لأنهما كانتا من جِلْد حمارٍ مَيِّت، وروي أنه أمر
بخلعهما ليطأ بقدميه الوادي المقدس، وروي أنه قُدسَ مَرتَين.
وقوله: (طُوًى).
اسم الوادي، ويجوز فيه أربعة أوجه:
طُوَى - بضم أوله، بغير تنوين وتنوينٍ وبكسر أوله - بتنوين وبغير تنوين. فمن نوَّنَه فهو اسم الوادي، وهو مذكر سُمِّيَ بمذكرعلى فُعَل نحو حُطَم وصُرَد. ومن لم ينونه ترك صرفه من جهتين:
إحداهما أن يكون معدولًا عن " طَاءٍ " فيصير مثل عُمَر المعدول عن عامر.
والجهة الأخرى أن يكون اسماً للبقعة كما قال الله عزَّ وجلَّ:
ومَنْ لم ينوِّن جعله اسماً للبقعةِ.
* * *
وقوله - عزَّ وجلَّ - (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (١٣)
ويقرأ (وَأَنَّا اخْتَرْنَاكَ)، فمن قرأ: (وَأَنَّا اخْتَرْنَاكَ) فالمعنى يؤدي بـ (وَأَنَّا اخْتَرْنَاكَ) ويجوز (وَإِنَّا اخْتَرْنَاكَ) على وجهين:
على الاستئناف وعلى معنى الحكاية لأنَّه معنى يُؤدىَ قيل له إِنَّا اخْتَرْنَاكَ.
* * *
وقوله: (إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (١٤)
(وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي).
هذا على معنيين أحدهما أقم الصلاة لأن تَذْكُرَني لأن الصلَاةَ لا تكونُ
إلا بذكر اللَّه، والمعنى الثاني هو الذي عليه الناس ومعناه أقم الصلاة متى
ذَكَرْتَ أنَّ عليك صلاةً كنتَ في وقتها أو لم تكن، لأن اللَّه عزَّ وجلَّ لا يؤاخذُنا إن تسينا ما لم نَتعمَّدْ الأشياء التي تَشْغَلُ وتُلْهِي عن الصلاة، ولو ذَكَرَ ذَاكِر أنَّ عليه صلاةً في وقت طُلُوع الشمس أوعندَ مَغيبَها وَجَب أن يصفيَها.
وقرئت لِلذِكْرَى - معناه في وقت ذكرك.
* * *
وقوله: (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (١٥)
بضم الألِفِ، وجاء في التفسير: أكاد أخفيها من نفسي، فالله أعلم
بحقيقة هذا التفسير، وقرئت: أكاد أَخْفِيهَا - بفتح الألف - معناه أكاد أُظْهِرها (١)
قال امرؤ القيس:
قوله: ﴿أَكَادُ أُخْفِيهَا﴾ العامةُ على ضمِّ الهمزةِ مِنْ» أُخْفيها «. وفيها تأويلاتٌ، أحدُها: أن الهمزةَ في» أُخْفيها «للسَّلْبِ والإِزالةِ أي: أُزيل خفاءَها نحو: أعجمتُ الكتابَ أي: أزلْتُ عُجْمَتَه. ثم في ذلك معنيان، أحدهما: أنَّ الخفاءَ بمعنى السَّتْر، ومتى أزال سَتْرَها فقد أظهرَها. والمعنى: أنها لتحقُّق وقوعِها وقُرْبِها أكادُ أُظْهِرُها لولا ما تَقْتضيه الحكمةُ من التأخير. والثاني: أنَّ الخفاءَ هو الظهورُ كما سيأتي. والمعنى: أزيلُ ظهورَها، وإذا أزالَ ظهورَها فقد استترَتْ. والمعنى: أني لِشدَّةِ أبهامها أكاد أُخْفيها فلا أُظْهِرُها/ ألبتَّةََ، وإن كان لا بد من إظهارِها؛ ولذلك يوجدُ في بعض المصاحف كمصحف أُبَيّ: أكاد أُخْفيها مِنْ نفسي فكيف أُظْهِرُكُمْ عليها؟ وهو على عادةِ العرب في المبالغة في الإِخفاء قال:
٣٢٧٧ أيامَ تَصْحَبُني هندٌ وأُخْبِرُها... ما كِدْت أكتُمُه عني من الخبرِ
وكيف يُتَصَوَّرُ كِتْمانُه مِنْ نفسه؟
والتأويلُ الثاني: أنَّ» كاد «زائدةٌ. قاله ابنُ جُبَيْر. وأنشدَ غيرُه شاهداً عليه قولَ زيدِ الخيل:
٣٢٧٨ سريعٌ إلى الهَيْجاء شاكٍ سلاحُه... فما إنْ يكادُ قِرْنُه يتنفَّسُ
وقال آخر:
٣٢٧٩ وألاَّ ألومَ النفسَ فيما أصابني... وألا أكادَ بالذي نِلْتُ أَبْجَحُ
ولا حُجَّةَ في شيءٍ منه.
والتأويل الثالث: أنَّ الكَيْدُوْدَةَ بمعنى الإِرادة ونُسِبت للأخفش وجماعةٍ، ولا ينفعُ فيما قصدوه.
والتأويل الرابع: أنَّ خبرَها محذوفٌ تقديره: أكاد آتي به لقُرْبها. وأنشدوا قول ضابىء البرجمي:
٣٢٨٠ هَمَمْتُ ولم أفْعَلْ وكِدْتُ وليتني... تَرَكْتُ على عثمانَ تَبْكي حلائِلُهْ
أي: وكِدْتُ أفعلُ، فالوقفُ على» أكادُ «، والابتداء ب» أُخْفيها «، واستحسنه أبو جعفر.
وقرأ أبو الدرداء وابنُ جبير والحسنُ ومجاهدٌ وحميدٌ» أَخْفيها «بفتح الهمزة. والمعنى: أُظْهرها، بالتأويل المتقدم يقال: خَفَيْتُ الشيءَ: أظهَرْتُه، وأَخْفَيْتُه: سترته، هذا هو المشهور. وقد نُقِل عن أبي الخطاب أنَّ خَفَيْتُ وأَخْفَيْتُ بمعنىً. وحُكي عن أبي عبيد أنَّ» أَخْفى «من الأضدادِ يكون بمعنى أظهر وبمعنى سَتَر، وعلى هذا تَتَّحد القراءتان. ومِنْ مجيءِ خَفَيْتُ بمعنى أظهَرْت قولُ امرىء القيس:
٣٢٨١ خَفَاهُنَّ مِنْ أَنْفاقِهِنَّ كأنما... خفاهُنَّ وَدْقٌ مِنْ عَشِيٍّ مُجَلِّبِ
وقول الآخر:
٣٢٨٢ فإنْ تَدْفِنوا الداءَ لا نَخْفِهِ... وإنْ تُوْقِدُوْا الحربَ لا نَقْعُدِ.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
أي أن ندفنوا الداء لا نظهره.
وهذه القراءة الثانية أبين في المعنى، لأن معنى أكاد أظهرها، أي قَدْ
أخفيتها وَكِدتُ أظْهِرُهَا..
وقوله: (لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى).
معنى (بِما تسعى) بما تعمل، و (لِتُجْزَى) متعلق بقوله: (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ)
لتجزَى كل نَفْس بما تسعى.
ويجوز أن يكون على أقِمِ الصلاة لذكري لتجزى كل نفس بما تسعى.
* * *
وقوله: (فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (١٦)
معناه واللَّه أعلم فلا يصدنك عن التصديق بها من لا يؤمن بها، أي من
لا يؤمن بأنها تكون، وخطابُ النبي - ﷺ - هو خطابُ سائر أمتِه.
ومعنى لا يَصُدَّنَّكَ عنها: لا يَصُدَّنَّكُمْ، قال اللَّه عزَّ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ). فَنبَّه النبي - ﷺ - بالخطاب وخوطب هو وأمته بقوله (إِذَا طَلَّقْتُمُ).
وقوله: (فَتَرْدَى).
معناه فتهلك، يقال رَدِيَ يَرْدَى ردًى، إذا هلك، وكذلك تَرَدَّى إذَا هلَكَ
في قوله عزَّ وجلَّ: (وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (١١).
* * *
قوله: (وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (١٧)
تلك اسم مبهم يَجري مجرى التي، ويوصل كما توصل التي، المعنى
وهذا الكلام لفظه لفظ الاستفهام ومجراه في الكلام
مجرى ما يسأل عنه، ويجيب المخاطب بالِإقرار به لتثبت عليه الحجة بعدما
قد اعترف مستغنًى بإقراره عن أن يجحد بعد وقوع الحجة، ومثله من الكلام
أنْ تُرِيَ المخاطب ماءً فتقول له ما هذا فيقول ماء، ثم تحيله بشيء من الضِبْغ
فإن قال إنه لم يزل هكذا قلت له: ألست قد اعترفت بأنه ماء؟
* * *
وقوله: (قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (١٨)
وقرئ هي عَصَى بغير ألف، وأجْوَدُهُمَا عَصَايَ. وَعَصَى لغَةُ هُذَيل.
والأصل في يا الإضافة أن يكسر ما قبلها، تقول هذا حَجَرِي فتكسر الراء وهي في موضع ضم وكذلك رأيت حجرِي، فإذا جَاءتْ بَعْدَ الألف المقصورة لم تكسرها؛ لأن الألف لا تُحرَّكُ، وكذلك إذا جاءت بعد ألف التثنية في الرفع في قولك هما غلاماي، وبعد ياء النصب في قولك: رأيت غلامَيَّ، وبعد كل ياء قبلها - كسرة نحو هذا قاضِى ورأيت مُسْلِمِيَّ، فجعلت هُذَيْلٌ بدلًا من كسرةِ الألف تغييرها إلى الياء، وليس أحَدٌ من النحويين إلا وقد حكى هذه اللغة.
قال أبو ذؤيب.
سَبَقوا هَوَيَّ وأَعْنَقُوا لِهَواهُم... فتُخُرِّمُوا ولكُلِّ جَنْبٍ مَصْرَعُ
* * *
قوله: (وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي).
- جاء في التفسير أخْبِطُ بها الشجرَ، واشتقاقه من أني أحيلُ الشيءَ إلى
الهشاشة والإمكان.
- وقوله: (وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى).
جاء في التفسير حاجات أخَر، وكذلك هُوَ في اللغة، وواحد المآرب
جماعة فكأنَّها جماعات من الحاجات الأخرى، فلو جاءت أخَرُ كان صواباً.
* * *
قوله: (قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (٢١)
معنى (سِيرَتَهَا) طريقتها يعنى - هيئتها، تقول إذا كان القوم مشتبهين: هم
على سيرة واحدة وطريقة - وَاحِدةٍ، تريد أن هيئتهم واحدة وشبههم واحِد، وإن كان أصل السيرة والطريقة أكثر ما يقع بالفعل، تقول: فلان على طريقة فلانٍ وعلى سيرته أي أفعاله تشبه أفعال فلانٍ، والمعنى: سنعيدها عَصاً كما كانت.
و (سِيرَتَهَا) منصوب على إسقاط الخافض، وأفْضى الفعل إليها، المعنى - والله أعلم - سنعيدها إلى سيرتها الأولى، فلما حُذِفَتْ " إلى " أفْضى الفعل - وهو سنعيدها - فَنَصَب.
* * *
وقوله: (وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (٢٢)
جناح الإنسان عَضُدُه إلى أصل " إبطه.
وقوله: (تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى).
(آيةً) مَنْصوبة لأنها في موضع الحال، وهي اسم في موضع الحال.
المعنى - واللَّه أعلم - تخرج بيضاء مُبيِّنة آيَةً أُخْرَى.
ويجوز أن يكون (آيَةً أُخْرَى) منصوبةً على معنى آتيناك آية - أخرى أو سنؤتينك آيَةً أُخْرَى، لأنه لما قال: (تَخْرُج بَيْضَاءَ) كان في ذلك دَليل أنَّه يعطى آيةً أخرى، فلم يحتج إلى ذكر آتَينَاكَ لأن في الكلام دليلًا عليه.
ويجوز آية أخرى بالرفع على إضمار هذه آية أخْرَى.
* * *
وقوله: (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (٢٧) يَفْقَهُوا قَوْلِي (٢٨)
جاء في التفسير أنه كان في لسانه رُتَّة، لأن امْرأةَْ فِرْعَوْنَ جَعَلَتْ عَلَى
لِسَانه حجرةً لأنه كان أخذ وهو صبي بِلِحْيةِ فرعَوْنَ فهَمَّ به، وقال هذا عدو
هَمَّ به فِرْعَوْنَ فيه.
* * *
وقوله: (وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (٢٩) هَارُونَ أَخِي (٣٠)
يجوز أن يكون نصب هارون من جهتين:
إحداهما أن يكون (اجْعَلْ) لا يَتَعدى إلى مفعولين فيكون المعنى اجعل هارون أخي وزيري فتنصب " وَزِيرًا " على أنه مفعول ثانٍ.
ويجوز أن يكون هارون بدلاً من قوله " وَزِيرًا "
ويكون المعنى اجعل لي وَزِيرًا من أهلي ثم أبدل هارون من وَزِير.
والقول الأول أجودُ و (أخي) نعت لهارون.
* * *
وقوله: (اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (٣١) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (٣٢)
يقرأ على ضربين:
على مَعْنى اجعل أخي وزيراً، فإنك إن فعلت ذلك
أشْدُدْ به أزْري. " أشْدُدْ " على الإِخْبَارِ عن النفس وأظهرت التضعيف لأنه
جواب الأمر وأشْرِكُه في أمْرِي، فيقرأ على هذا: هارون أخي أشْددْ به أزري
وأشرِكُهُ في أمري بقَطْع ألِفِ أشْدُدْ وضم الألف من وأُشْرِكْهُ.
ومن قرأ هارون أخي اشدد به أزري وأشْرِكه فعلى الدعاء.
المعنى: اللهم أشدد به أزري وأشْرِكْهُ في أمري.
* * *
(وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (٣٧)
قد بين المرة على ما هي وهي قوله:
(إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (٣٨) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (٣٩)
لأنه نَجَّاهُ بهذَا من القتل، لأنَّ فرعونَ كَان يَذْبَحُ الأبناءَ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي).
قالوا معناه ولتُغْذَى.
ومعنى أزرِي، يقال آزَرْتُ فُلاناً على فلان إذَا أعنْتَه عَليْه وقوَّيتَه، ومِثلُه:
قوله تعالى: ﴿ولِتُصْنَع على عيني﴾ وقرأ أبو جعفر: «ولْتُصنعْ» بسكون اللام والعين والإِدغام.
قال قتادة: لتُغذى على محبتي وإِرادتي.
قال أبو عبيدة: على ما أُريد وأُحِبّ.
قال ابن الأنباري: هو من قول العرب: غُذي فلان على عيني، أي: على المَحَبَّة مِنّي.
وقال غيره: لتُرَبَّى وتغذى بمرأىً مني، يقال: صنع الرَّجل جاريته: إِذا ربَّاها؛ وصنع فرسه: إِذا داوم على علفه ومراعاته، والمعنى: ولِتُصْنَعَ على عيني، قدَّرنا مشي أختك. اهـ (زاد المسير. ٥/ ٢٨٤).
وقال السَّمين:
قوله: ﴿وَلِتُصْنَعَ﴾ قرأ العامَّةُ بكسر اللام وضم التاء وفتحِ النون على البناءِ للمفعول، ونصبِ الفعلِ بإضمار أَنْ بعد لام. وفيه وجهان، أحدهما: أن هذه العلةَ معطوفةٌ على علةٍ مقدرة قبلها. والتقديرُ: ليتلطَّفَ بك ولتُصْنَعَ، أو ليعطفَ عليك وتُرامَ ولتصنعَ. وتلك العلةٌ المقدرةُ متعلقةٌ بقوله: «وألقيتُ» أي: ألقيتُ عليكم المحبة ليَعْطفَ عليك ولتُصْنَعَ. ففي الحقيقة هو متعلقٌ بما قبله من إلقاءِ المحبة.
والثاني: أن هذه اللامَ تتعلقُ بمضمرٍ/ بعدها تقديرُه: ولتُصْنَعَ على عيني فعلتُ ذلك، أو كان كيت وكيت. ومعنى لتُصْنَعَ أي: لتربى ويُحْسَنَ إليك، وأنا مراعِيْكَ ومراقُبكَ كما يراعي الإِنسانُ الشيءَ بعينِه إذا اعتنى به. قاله الزمخشري.
وقرأ الحسن وأبو نهيك «ولِتَصْنَعَ» بفتح التاء. قال ثعلب: «معناه لتكون حركتُك وتصرُّفُك على عينٍ مني. وقال قريباً منه الزمخشري. وقال أبو البقاء:» أي لتفعلَ ما آمُرك بمرأى مني «.
وقرأ أبو جعفر وشَيْبَةُ» ولْتُصْنَعْ «بسكون اللام والعين وضم التاء وهو أمرٌ معناه: ليُرَبَّ وليُحْسَن إليك. وروي عن أبي جعفر في هذه القراءةِ كسرُ لامِ الأمر. قلت: ويحتمل مع كسرِ اللام أو سكونِها حالةً تسكينِ العين أن تكونَ لامَ كي، وإنم سُكِّنَتْ تشبيهاً بكَتْف وكَبْد، والفعل منصوب. والتسكينُ في العين لأجل الإِدغام لا يُقْرأ في الوصل إلاَّ بالإِدغام فقط. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
فتأويله أقوى بهِ واستُعين به على أمري.
فأما الوزير في اللغة فاشتقاقه من الوَزَرِ، والوَزَرُ الجَبلُ الذي يُعْتَصَم به
ليُنْجِيَ مِنَ الهكلَةِ، وكذلك وزير الخليفة معناه الذي يَعْتمد عليه في أمُورِه
وَيلْتَجِئ إلى رأيه وقوله: (كَلَّا لاَ وَزَرَ) معناه لا شيءَ يُعْتَصَمُ بِه من أمر
الله - عزَّ وجلَّ -.
* * *
وقوله: (إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (٤٠)
(وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا).
معناه اختبرناك اختباراً.
وقوله: (ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى).
قيل في التفسير: على مَوْعِدٍ، وقيل على قَدَرٍ من تَكلِيمي إياك.
(اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (٤٢)
معناه ولا تضعُفَا، يقال: وَنَى يني وَنْياً ووُنيًّا إذاضَعُفَ، وقولك قد توانى
فلان في هذا الأمر أي قد فتر فِيه وضَعُفَ.
وقوله: (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (٤٤)
لعل في اللغة ترجٍّ وطمع، تقول: لَعلي أصير إلَى خيرٍ، فمعناه أرجو
وأطمع أن أصير إلى خير، واللَّه - عزَّ وجلَّ - خاطب العبادَ بما يعقلون
والمعنى عند سيبويه فيه: اذْهَبَا عَلَى رَجَائكما وَطَمَعَكُمَا.
والعلم من الله عزَّ وجلَّ قد أتى من وراء ما يكون. وقد علم الله عزَّ وجلَّ أنه لا يتذكر ولا يخشى، إلا أن الحجة إنما تجب عليه بالإبانة، وإقامتها عليه، والبرهان.
يرجون ويطمعون أن يقبل مِنهم، ومعنى " لعل " متصور في أنفسهم، وعلى
تصور ذلك تقوم الحجة، وليس علم الله بما سيكون تجب به الحجة علم.
الآدميين، ولو كان كذلك لم يكن في الرسل فائدة.
فمعنى: (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى).
هو الذي عليه بُعثَ حميعُ - الرُّسُلِ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (٤٥)
معنى يَفْرطَ علينا يُبَادر بعقوبتنا، يقال: قد فرط منه أمر أي قَدْ بَدَرَ منه
أمر، وقد أفرط في الشيء إذا سَقَط فيه، وقد فرط في الشيء أي قَصَّرَ ومعناه كله التقدم في الشيْءِ، لأن الفرط في اللغة المتقدم.
ومنه قوله - ﷺ - " أنا فَرَطُكُمْ على الحوض ".
* * *
وقوله: (فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (٤٧)
(وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى).
ليس يعنى به التحية، وإنما معناه أن من اتبع الهدى سلم من عذاب
اللَّه وسخطه والدليل على أنه ليس بسلام أنه ليس ابتداء لقاء وخطاب.
ومعنى (فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ).
ولم يقل فَأتَيَاهُ فقَالاَ لَه إنا رَسُولا ربِّكَ، لأن الكلام قدْ دل على ذلك
فاستغنى عنه أن يقال فيه فأتَياهُ فَقَالاَ، لأن قوله: (قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (٤٩).
فيه دليل على أنهما أتَياهُ فَقَالَا لَهُ:
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى
(٥٠)
معناه خلق كل شيء على الهيئة التي بها ينْتَفِعُ، والتي هي أصلح
الخلق له، ثم هَدَاهُ لمعِيشتِه، وقد قيل ثم هداه لموضع مَا يكون منه الولد.
الأنثى ولم ير ذكراً قد أتى أنثى قبله فألْهَمه اللَّه - عزَّ وجلَّ - ذلك وهداه إلى المَأتي.
والقول الأول ينتظم هذا المعنى، لأنَّه إذا هَداه لمصْلَحَتِه فهذا دَاخِلٌ
في المصْلحةِ، واللَّه أعلم.
* * *
وقوله تَعَالَى: (قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (٥١)
قال له موسى عليه السلام:
(قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (٥٢)
معناه لا يُضِلها ولا ينساها، ولا يضله ربي ولا ينساه، يعنى به الكتاب.
ومعنى ضَلَلْتُ الشيءَ وضَلِلْتُ بكسر اللام وفتحِهَا أضِلُّه وَأضَلُّه، إذا جعلته في مكان لم تدر أين هو، وُيضِل من أضلَلْتُه، ومعنى أضْلَلْتُه أضَعْتُه.
قال أبو إسحاق من قرأ بالفتح فمعناه لا يَضَل أيْ لا يَضَل عن رَبِّي..
وإذا ضممت الياء فمعناه لا يوجد ربي ضَالًّا عنها.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (٥٤)
(إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى)
معناه لذوي العقول، واحد لنهى نُهْيَة.
يقال: فلان ذو نُهيةٍ ومعناه ذو عقل ينتهي به عن المقابح ويدخل به في المحاسِنِ.
وقال بعض أهل اللغة: ذو النهْيِةِ الذي يُنْتهَى إلى رأيه وعقله.
وهَذَا حسن أيضاً
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (٥٥)
يعنى به الأرض، لأن اللَّه - عزَّ وجلَّ - خلق آدم من تراب، وَجَرَى
الإضْمَارُ على قوله: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لكُمْ فِيهَا سُبُلًا).
وقوله: (تَارَةً أُخْرَى).
متعلق بقوله (مِنْهَا نُخْرِجُكُمْ)، لأن المعنى كمعنى الأول.
لأن معنى (وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ) بمنزلة منها خلقناكم، فكأنَّه قال - واللَّه أعلم -: ومنها نخلقكم تارة أخْرَى، لأن إخراجَهُم وهم تراب بمنزلة خلق آدم من تراب.
* * *
وقوله: (فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (٥٨)
(مَكَانًا سِوًى)
وتقرأ سُوًى بِالضمِ ومَعْنَاهُ مَنْصَفاً، أي مكاناً يكون النصفَ فيما بيننا
وبينك، وقد جاء في اللغةَ " سَواء " في هذا المعنى، تقول: هذا مكانٌ سَوَاء
أي مُتَوسط بين المكانين، ولكن لم يقرأ إلا بالْقَصْرِ سِوًى وسُوًى.
* * *
وقوله تعالى: (قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (٥٩)
وتقرأ (يومَ الزينة)، فالرفع على خبر الابتداء، والمعنى وقت موعدكم يوم
الزينة ومن قرأ (يومَ) فمنصوبٌ على الظرف، المعنى يقع يوم الزينة.
وقوله: (وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى).
موضع (أن) رفع، المعنى مَوعِدُكم حَشرُ الناسِ ضُحًى، وتأويله إذا رأيتم
الناس قد حُشِروا ضُحًى.
وقيل يوم الزينة يومُ عيدٍ كان لهم، وقيل إنه كان يوم عاشوراء.
ويجوز أن يكون في موضع خَفْض عطفاً على الزينة.
المعنى موعدكم يوم الزينة ويوم حشْرِ الناس.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (٦١)
(وَيْلَكُمْ) منصوبٌ على أن ألزمهم اللَّه ويلًا، ويجوز أن يكون منصوباًْ
عَلَى النداءِ كما قال تعالى: (يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ)
و (يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا).
ويقرأ (فَيُسْحِتَكُمْ) - بضم الياء وكسر الحاء، يقال سَحَتَهُ، وأسْحَتَهُ إذا
استَأصَلَهُ وأهْلكُه، قال الفرزدق:
وعَضّ زمانٍ يا ابنَ مَرْوانَ لم يَدَعْ... من المالِ إِلاَّ مُسْحَتاً أَو مُجَلَّفُ
معنى لم يدع لم يستقر - من الدعة من المال، وأكثر الرواية إِلاَّ مُسْحَتاً.
فهذا على أسْحَت فهو مُسْحَت.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (٦٢)
يعنى به السحرة، قالوا بينهم: إِنْ غَلَبَنَا موسى آمنا به، وكان الأمْر لَهُ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (٦٣)
(إن هَذَانِ لَسَاحِرَانِ) (١).
يَعْنُونَ موسى وهارون. وهذا الحرف من كتاب اللَّه عزَّ وجلَّ مُشْكِل على
أهل اللغة، وقد كثر اختلافهم في تفسيره، ونحن نذكر جميع ما قاله النحويون ونخبر بما نظن أنه الصواب واللَّه أعلم، وقبل شرح إعرابه نخبر بقراءة القُراءِ
أما قراءة أهل المدينة والأكْمَهِ في القراءة فبتشديد (إنَّ) والرفع في
(هذان) وكذلك قرأ أهْلُ العِراق حمزةُ وعاصم - في رواية أبي بكر بن عياش والمدنيونَ.
ورُويِ عَنْ عاصم: إِنْ هذان بتخفيف (إنْ)، ويُصَدِّق ما قرأه عاصم
في هذه القراءة ما يُرْوى عَنْ أُبَيٍّ فَإنهُ قرأ: ما هذان إِلَّا سَاحِرَانِ، ورُوِيَ أيضاً
عنه أنه قرأ: إنْ هَذَان إِلا سَاحِرانِ، ورويت عن الخليل أيضاً: إنْ هذانْ
لَسَاحِرَان - بالتخفيف -.
والإجماع أنه لم يكن أحد بالنحو أعلم من الخليل.
وقرأ أبو عمرو وعيسى بن عمَر: إنَّ هَذَيْن لَسَاحرانِ، بتشديد " إِنَّ " ونصب هذين.
قوله: ﴿إِنْ هذان﴾: اختلف القُرَّاءُ في هذه الآيةِ الكريمة: فقرأ ابن كثيرٍ وحدَه «إنْ هذانِّ» بتخفيف إنْ، والألفِ، وتشديدِ النون. وحفصٌ كذلك إلاَّ أنه خَفَّف نونَ «هذانٍ». وقرأ أبو عمرو «إنَّ» بالتشديد «هذين» بالياء وتخفيفِ النون. والباقون كذلك إلاَّ أنهم قَرَؤوا/ «هذان» بالألف.
فأَمَّا القراءةُ الأولى وهي قراءةُ ابنِ كثير وحفص فأوضحُ القراءاتِ معنىً ولفظاً وخَطَّاً؛ وذلك أنهما جعلا «إنْ» المخففةَ من الثقيلة فَأُهْمِلَتْ، ولَمَّا أُهْمِلَتْ كما هو الأفصحُ مِنْ وجهيها خِيْفَ التباسُها بالنافية فجيء باللامِ فارقةً في الخبر. ف «هذان» مبتدأٌ، و «لَساحران» خبرُه، ووافَقَتْ خَطَّ المصحفِ؛ فإن الرسم «هذن» بدونِ ألفٍ ولا ياءٍ وسيأتي بيانُ ذلك.
وأمَّا تشديدُ نونِ «هذان» فعلى ما تقدَّم في سورةِ النساءِ، وقد أَتْقَنتُ ذلك هناك.
وأمَّا الكوفيون فيزعمون أنَّ «إنْ» نافيةٌ بمعنى ما، واللامُ بمعنى إلاَّ، وهو خلافٌ مشهورٌ وقد وافقَ تخريجُهم هنا قراءةَ بعضِهم «ما هذانِ إلاَّ ساحران».
وأمَّا قراءةُ أبي عمروٍ فواضحةٌ من حيث الإِعرابُ والمعنى. أمَّا الإِعرابُ ف «هذَيْن» اسمُ «إنَّ» وعلامةُ نصبِه الياءُ. و «لَساحِران» خبرُها، ودخَلَتِ اللام توكيداً. وأمَّا مِنْ حيث المعنى: فإنَّهم أَثْبتوا لهما السحرَ بطريق تأكيديٍّ من طرفيه، ولكنهم استشكلُوها من حيث خَطُّ المصحفِ؛ وذلك أنَّ رَسْمَه «هذن» بدونِ ألفٍ ولا ياءٍ، فإثباتُه بالياءِ زيادةٌ على خطِّ المصحفِ. قال أبو إسحاق: «لا أُجيز قراءةَ أبي عمرو لأنَّها خلافُ المصحفِ». وقال أبو عبيد: «رأيتُهما في الإِمام مصحفِ عثمان» هذن «ليس فيها ألفٌ، وهكذا رأيتُ رفعَ الاثنين في ذلك المصحفِ بإسقاط الألفِ، وإذا كتبوا النصبَ والخفضَ كتبُوه بالياء، ولا يُسْقِطونها».
قلت: وهذا لا ينبغي أَنْ يُرَدَّ به على أبي عمرو، وكم جاء في الرسم أشياءُ خارجةٌ عن القياسِ، وقد نَصُّوا هم أنه لا يجوزُ القراءةُ بها فليكنْ هذا منها، أعني ممَّا خَرَجَ عن القياس. فإن قلتَ: ما نَقَلْتَه عن أبي عبيد مشتركُ الإِلزامِ بين أبي عمروٍ وغيرِه، فإنهم كما اعترضوا عليه بزيادةِ الياء يُعْترض عليهم بزيادةِ الألفِ: فإنَّ الألفَ ثابتةٌ في قراءتِهم، ساقطةٌ من خَطِّ المصحفِ. فالجواب ما تقدَّم مِنْ قولِ أبي عبيدٍ أنهم رآهم يُسْقِطون الألفَ مِنْ رفع الاثنين، فإذا كتُبوا النصبَ والخفضَ كتبُوه بالياء.
وذهب جماعةٌ منهم عائشةُ رضي الله عنها وأبو عمروٍ إلى أن هذا ممّا لَحَنَ فيه الكاتبُ وأُقيم بالصواب.
يَعْنُون أنه كان مِنْ حقه أن يكتبَه بالياءِ فلم يفعلْ، فلم يقرَأْه الناسُ إلاَّ بالياءِ على الصوابِ.
وأمَّا قراءةُ الباقين ففيها أوجه، أحدُها: أن «إنَّ» بمعنى نَعَمْ، و «هذان» مبتدأٌ، و «لَساحران» خبرُه، وكَثُرَ ورودُ «إنَّ» بمعنى نعم وأنشدوا:
٣٢٩٧ بَكَرَ العَواذِلُ في المَشِيْ... بِ يَلُمْنَني وأَلوْمُهُنَّهْ
ويَقلْن شَيْبٌ قد عَلا... كَ وقد كَبِرْتَ فقلتُ إنَّهْ
أي: فقلت: نَعَمْ. والهاءُ للسَّكْتِ. وقال رجلٌ لابن الزبير: لَعَن اللهُ ناقةً حَمَلَتْني إليكَ. فقال: «إنَّ وصاحبَها» أي: نعم. ولَعَنَ صاحبَها. وهذا رأيُ المبردِ وعلي بن سليمان في آخرين. وهو مردودٌ من وجهين، أحدهما: عدمُ ثبوتِ «إنَّ» بمعنى نعم، وما أوردُه مُؤَوَّلٌ: أمَّا البيتُ فإنّ الهاءَ اسمُها، والخبرَ محذوفٌ لفهمِ المعنى تقديرُه: إنه كذلك. وأمَّا قولُ ابنِ الزبير فذلك مِنْ حَذْفِ المعطوفِ عليه وإبقاءِ المعطوف وحَذْفِ خبر «إنَّ» للدلالةِ عليه، تقديره: إنَّها وصاحَبها ملعونان، وفيه تكلُّفٌ لا يَخْفَى والثاني: دخولُ اللامِ على خبرِ المبتدأ غيرِ المؤكَّد ب «إنَّ» المكسورةِ، لأَنَّ مثلَه لا يقعُ إلاَّ ضرورةً كقولِه:
٣٢٩٨ أمُّ الحُلَيْسِ لَعَجُوْزٌ شَهْرَبَهْ... تَرْضَى من اللحمِ بعظمِ الرَّقَبَهْ
وقد يُجاب عنه: بأنَّ «لَساحِران» يجوزُ أَنْ يكونَ خبرَ مبتدأ محذوفٍ دَخَلَتْ عليه هذه اللامُ تقديرُه: لهما ساحران. وقد فعل ذلك الزجاج كما ستأتي حكايتُه عنه.
الثاني: أنَّ اسمَها ضميرُ القصةِ وهو «ها» التي قبل «ذان» وليست ب «ها» التي للتنبيهِ الداخلةِ على أسماءِ الإِشارةِ، والتقدير: إنَّ القصةَ ذانِ لساحران. وقد رَدُّوا هذا من وجهين، أحدهما: من جهةِ الخَطِّ، وهو أنه لو كان كذلك لكان ينبغي أن تُكتبَ «إنها» فيصِلوا الضميرَ بالحرفِ قبلَه كقوله تعالى: ﴿فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار﴾ [الحج: ٤٦] فكَتْبُهم إياها مفصولةً من «إنَّ» متصلةً باسمِ الإِشارة يمنع كونَها ضميراً، وهو واضح. الثاني: أنَّه يؤدِّي إلى دخولِ لامِ الابتداءِ في الخبرِ غيرِ المنسوخِ. وقد يُجاب عنه بما تقدَّم.
الثالث: أنَّ اسمَها ضميرُ الشأنِ محذوفٌ، والجملةُ من المبتدأ والخبرِ بعدَه في محلِّ رفعٍ خبراً ل «إنَّ»، التقديرُ: إنَّه، أي: الأمرُ والشأنُ. وقد ضُعِّفَ هذا بوجهين، أحدهما: حَذْفُ اسمِ «إن»، وهو غيرُ جائزٍ إلاَّ في شعرٍ، بشرطِ أَنْ لا تباشرَ «إنَّ» فعلاً كقولِه:
٣٢٩٩ إنَّ مَنْ يَدْخُلِ الكنيسةَ يوماً... يَلْقَ فيها جَآذراً وظِباءَ
والثاني: دخولُ اللام في الخبرِ.
وقد أجابَ الزجَّاج بأنها داخلةٌ على مبتدأ محذوفٍ تقديرُه: لهما ساحران. وهذا قد استحسنه شيخُه المبردُ، أعني جوابَه بذلك.
الرابع: أنَّ «هذان» اسمُها، و «لَساحران» خبرُها. وقد رُدَّ هذا بأنه كان ينبغي أَنْ يكونَ «هذين» بالياءِ كقراءةِ أبي عمرو.
وقد أُجيب عن ذلك: بأنه على لغةِ بني الحارثِ وبين الهُجَيْم وبني العَنْبر وزُبَيْد وعُذْرَة ومُراد وخَثْعَم. وحكى هذه اللغةَ الأئمةُ الكبارُ كأبي الخَطَّاب وأبي زيد الأنصاري والكسائي. قال أبو زيد: «سمعتُ من العربِ مَنْ يَقْلِبُ كلَّ ياءٍ ينفتح ما قبلها ألفاً»، يجعلون المثنى كالمقصورِ فيُثْبِتون ألفاً في جميع أحواله، ويُقَدِّرون إعرابَه بالحركاتِ، وأنشدوا قولَه:
٣٣٠٠ فأَطْرَق إطْراقَ الشُّجاعِ ولو يرى... مَسَاغاً لِناباه الشُّجاعُ لصَمَّما
أي: لنابَيْه. وقولَه:
٣٣٠١ إنَّ أباها وأبا أباها... قد بَلَغا في المجدِ غايتاها
أي: غايتيهما، إلى غير ذلك من الشواهد.
وقرأ ابن مسعود: «أنْ هذان ساحِران» بفتح «أَنْ» وإسقاط اللامِ: على أنها وما في حَيِّزها بدلٌ من «النجوى» كذا قاله الزمخشري، وتبعه الشيخ ولم ينكره. وفيه نظرٌ: لأنَّ الاعتراضَ بالجملة القولية بين البدلِ والمبدلِ منه لا يَصِحُّ. وأيضاً فإنَّ الجملةَ القوليةَ مفسرةٌ للنجوى في قراءةِ العامَّة، وكذا قاله الزمخشريُّ أولاً فكيف يَصحُّ أَنْ يُجْعَلَ «أنْ هذان ساحران» بدلاً من «النجوى»؟.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
فأمااحتجاج النحويين فاحتجاج أبي عمرو في مخالفته المصحف في
هذا أنهُ رُوِيَ أنه من غَلطِ الكاتب، وأن في الكتاب غَلَطاً سَتُقِيمُه العربُ
بألْسِنَتِها، يروى ذلك عَنْ عُثْمَانَ بنِ عفَانِ وَعَنْ عائشة - رحمهما اللَّه -.
وأما الاحتجاج في أنَّ هذان بتشديد أن ورفع هذانِ فحكى أبُو عُبَيْدَة عن
أبي الخطاب وهو رأس من رؤساء الرواة، أنها لغة لِكنَانَة، يجعلون ألف
الاثنين في الرفع والنَصْبِ والخفض على لفظ واحدٍ، يقولون أتاني الزيدان.
ورأيت الزيْدَانِ، ومررت بالزَيْدَانِ، وهؤلاء ينشدون:
فأَطْرَقَ إطْراقَ الشُّجاعِ ولو رَأَى... مَساغاً لِنابَاه الشُّجاعُ لَصَمَّما
وهؤلاء أيضاً يقولون: ضَرَبتُه بين أذُناه، ومن يشتري مني الخُفَّانِ
وكذلك روى أهل الكوفة أنها لغة لبني الحرث بن كعْبٍ.
قال النحويون القُدَمَاء: ههنا هاء مضمرة، المعنى إنهُ هذانِ لَسَاحِرَانِ،
وينشدون:
ويَقُلْنَ شَيْبٌ قدْ علَّا... كَ وقد كَبِرْتَ فقلتُ إنَّهْ
ويَحتحون بأن هذه اللامَ - أصْلُهَا - أن تقع في الابتداء، وأن وُقُوعَها في
الخبر جائز، وينشدون في ذلك:
خالي لأَنتَ ومَن جَريرٌ خالُه... يَنَلِ العَلاءَ ويُكْرِمِ الأَخْوالا
وأنشدوا أيضاً:
أُمُّ الحُلَيْسِ لَعَجُوزٌ شَهْرَبَهْ... تَرْضى من الشاةِ بِعَظْمِ الرَّقَبَهْ
قالوا: المعنى لأنت خالي، والمعنى لأم الحليس عجوز.
وقال الفراء فى هذا: إنهم زادوا فيها النون في التثنية وتركوا الألف على حالها في الرفع والنصب والجر كما فعلوا في الذي، فقالوا الَّذِينَ في الرفع والنصب والجر.
فهذا جميع ما احتج به النحويون.
والذي عندي - واللَّه أعلم - وكنت عرضته على عالِمَيْنَا - محمد بن يزيد
وعلى إسماعيل بن إسحاق بن حماد بن زيد القاضي فقبلاه وذكرا أنَّه أجود ما
سمعاه في هذا، وهو " أنَّ) قد وقعت موقع " نعم "، وأن اللام وقعت مَوْقِعَهَا، وأن المعنى هذان لَهما ساحِرَانِ.
هيئة واحدة، لأن حق الألف أنْ تَدُل على الاثنين، وكان حقها ألا تتغيَّر كما لم تتغير ألف رحى وعضى، ولكن كان نقلها إلى الياء في النصْبِ والخفض
أبين وأفْضَلُ للتمييز بين المرفوع والمنصوب والمجرور.
فأمَّا قراءةَ عيسى بن عمر وأبي ععرو بن العلاء فلا أجيزها لأنها خلاف المصحف، وكل ما وجدته إلى موافقة المصحف أقرب لم أجِزْ مخَالفَتَه، لأن اتباعه سنة.
وما عليه أكثر القراء، ولكني أسْتَحسِنُ (إنْ هذان لساحران) بتخفيف (إنْ) وفيه إمامان: عاصمٌ والخليلُ، وموافقة أُبيٍّ في المعْنَى وأن خالفه اللفظ، ويستحسن أيضاً (إنَّ هذان) بالتشديد، لأنه مذهب أكثر القراء، وبه يقرأ وهو قوي في العربية.
* * *
قوله تعالى: (وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى).
معناه في قول النحويين بجماعتكم الأشراف. والمثلى تأنيث الأمثل.
ومعنى الأمثل والمثلى معنى " ذوُ الفضل " الذي يستحق أن يقال فيه هذا
أمثل قَوْمِه.
وفي التفسير: (بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى) بأشْرَافكم، والعرب تقول للرجل
الفاضل هذا طَرِيقةُ قوْمِه، وَنَظِيرَة قومِه، ونَظُورَة قومه.
كل هذا للرجل الفاضِل.
وإنما تأويله هذا الذي ينبغي أن يجعلَهُ قومُه قدوةً ويسْلكوا طريقته.
والذي قال أيضاً: هذا نظورة قومه ونظيرة قومه، معناه هذا الذي ينبغي أن يَنْظُر إليه قومُه وأن يتبعوه.
والذي عندي - واللَّه أعلم - أن في الكلام محذوفاً يدل عليه ما بقي.
إنما المعنى يذهبا بأهل طَرِيقتكم المثلى، كما قال اللَّه عزَّ وجلَّ:
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسي).
. تأويله اخترتك لإقَامَةِ حُجتِي، وجَعَلْتكَ بَيْني وبين خَلْقِي حتى صرت
في الخطاب عني والتبليغ عني بالمنزلة التي أكون بها لو خاطبتهم واحتججت
عليهم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (٦٤)
وقرئتْ (فاجمعوا كيدكم)، فمن قرأ فأجمِعُوا بقطع الألف، فمعناه ليكن
عزمكم - كلكم على الكيد مُجْمَعاً عليه أي لا تَختلِفُوا فتخْتَلوا.
ومن قرأ (فاجمعوا) فمعناه جيئوا بكل كيد تقدرون عليه، ولا تبقوا مِنْهُ شيئاً.
وقوله: (ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا).
معناه ائتوا الموضع الذي تجتمعون فيه لِعيدِكم وصَلَاتِكِم، يقال: أتَيتَ
صَفًّا بمعنى أتيت المُصَلَّى، ويجوز أن يكون (ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا) ثم ائتوا مصطفين
مجتمعين ليكون أنظمَ لأموركم، وأشد لهيئتكم.
(وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى).
ومعنى (مَنْ اسْتَعْلَى) من علا بالغلبة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (٦٦)
ولم يَقُل ههنا " فَأَلْقَوْا " فإذا حبالهم، لأنه قد جاء في موضع آخر، (فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ).
ويجوز في عِصِيٍّ عُصِيٍّ، والكسر أكثر، والأصْلُ
ويروى في التفسير أنَّ السَّحرةَ كانوا يومئذٍ سبعين ألف ساحِرٍ معهم
سبعون ألف حَبْل وَسَبْعون ألف عصا (١)، فأوحى الله إلى موسى حين خُيِّلَ إليه من سِحرهم أنها تسعى أن يُلْقِيَ عَصَاة فإذا هي ثعبان مُبين فَاغِر فَاه فابتلع جَمِيعَ تلك الحبال، وقرئت (فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى).
وموضع أن على هذه القراءة رفع، المعنى يخيل إليه سَعْيُها، ويقرأ
" تُخَيَّلُ " بالتاء، وموضع أن عَلَى هذه القراءة يجوز أن يكون نصباً، ويجوز أن يكون رفعا، فأمَّا النصب فعلى معنى يخيل إليه أنها ذات سَعْي ويجوز أن
يكون مرفوعاً على البدل على معنى يخيل إليه سِعَايتُها، وأبدل أنها تسعى من
المضمر في يخيل لاشتماله على المعنى، ويكون إليه الخبر على هذا
التقدير.
ومثل ذلك ما حكاه سيبويه يقال: مالي بِهِمْ عِلْم أمْرُهُم، أي مالي علم
بِأمرِهم، ومثل ذلك من الشعر:
تَذَكَّرَتْ تَقْتَدَ بَرْدَ مائها
المعنى تَذَكَّرَتْ بَرْدَ مَاء تَقْتد (١).
قوله: ﴿فَإِذَا حِبَالُهُمْ﴾: هذه الفاءُ عاطفةٌ على جملةٍ محذوفةٍ دَلَّ عليها السياقُ. والتقدير: فَأَلْقَوْا فإذا. و «إذا» هذه التي للمفاجَأة. وفيها ثلاثة أقوال تقدَّمت. أحدُها: أنها باقيةٌ على ظرفيةِ الزمان. الثاني: أنها ظرفُ مكانٍ. الثالث: أنها حرفٌ.
قال الزمخشري: «والتحقيق فيها أنها الكائنةُ بمعنى الوقتِ الطالبةُ ناصباً لها، وجملةً تُضاف إليها خُصَّتْ في بعضِ المواضع بأن يكونَ الناصبُ لها فعلاً مخصوصاً، وهو فِعْلُ المفاجأةِ، والجملةٌ ابتدائيةٌ لا غير. فتقديرُ قولِه تعالى ﴿فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ﴾: ففاجأ موسى وقتَ تخييلِ سَعْيِ حبالِهم وعِصيِّهم، [وهذا تمثيل. والمعنى: على مفاجأته حبالُهم وعصيُهم مُخَيِّلَةً إليه السَّعْيَ» انتهى].
قال الشيخ: «قوله» إنَّها زمانية «مرجوحٌ، وهو مذهب الرِّياشي. وقوله» الطالبةُ ناصباً «صحيحٌ. وقوله:» وجملةٌ تضاف إليها «ليس صحيحاً عند بعض أصحابنا لأنها: إمَّا أَنْ تكونَ هي خبراً لمبتدأ، وإمَّا أَنْ تكونَ معمولةً لخبر المبتدأ. وإذا كان كذلك استحال أَنْ تُضافَ إلى الجملةِ؛ لأنها: إمَّا أَنْ تكونَ بعضَ الجملةِ، أو معمولةً لبعضِها فلا يمكن الإِضافةُ. وقوله:» خُصَّتْ في بعض المواضع إلى آخره «قد بَيَّنَّا الناصبَ لها. وقولُه:» والجملةُ بعدها ابتدائيةٌ لا غير «هذا الحَصْرُ ليس بصحيحٍ بل قد جَوَّز الأخفشُ، ونصَّ على أن الجملةَ الفعليةَ المقترنةَ ب» قد «تقع بعدَها نحو» خرجْتُ فإذا زيدٌ قد ضربه عمروٌ «برفعِ» زيد «ونصبِه على الاشتغال. وقوله:» والمعنى: على مفاجأته حبالُهم وعِصِيُّهم مخيِّلةً إليه السَّعْيَ «فهذا عكسُ ما قُدِّر بل المعنى: على مفاجأةِ حبالِهم وعصيِّهم إياه. فإذا قتل:» خَرَجْتُ فِإذا السَّبُعُ «فالمعنى: أنه فاجأني السَّبُعُ وهجم ظهورُه» انتهى ما رَدَّ به.
قوله وما رَدَّ به عليه غيرُ لازمٍ له، لأنه يَرُدُّ عليه بقولِ بعض النحاةِ، وهو لا يلتزم ذلك القولَ حتى يَرُدَّ عليه لا سيما إذا كان المشهورُ غيرَه، ومقصودُه تفسيرُ المعنى.
وقال أبو البقاء: الفاءُ جوابُ ما حُذِف، تقديرُه «فَأَلْقَوْا فإذا»، ف «إذا» في هذا ظرفُ مكانٍ، العاملُ فيه «أَلْقَوْ». وفي هذا نظر؛ لأنَّ «أَلْقَوْا» هذا المقدَّرَ لا يَطْلُبُ جواباً حتى يقول: الفاءُ جوابُه، بل كان ينبغي أَنْ يقولَ: الفاءُ عاطفةٌ هذه الجملةَ الفجائية على جملةٍ أخرى مقدرةٍ. وقولُه «ظرف مكانٍ»، هذا مذهبُ المبردِ، وظاهرُ قولِ سيبويه أيضاً، وإن كان المشهورَ بقاؤها على الزمان. وقوله: «إن العامل فيها» فأَلْقَوا «لا يجوز لأنَّ الفاءَ تمنع من ذلك.
هذا كلامُ الشيخ ثم قال بعده:» ولأنَّ «إذا» هذه إنما هي معمولةٌ لخبرِ المبتدأ الذي هو «حبالُهم وعِصٍيُّهم» إن لم يجَعلْها هي في موضع الخبر؛ لأنه يجوزُ أن/ يكونَ الخبرُ «يُخَيَّل»، ويجوز أَنْ تكونَ «إذا» و «يُخَيَّل» في موضعِ الحال.
وهذا نظير: «خرجْتُ فإذا الأسدُ رابضٌ ورابضاً» فإذا رَفَعْتَ «رابضاً» كانت «إذا» معمولةً له، والتقدير: فالبحضرة الأسدُ رابضٌ، أو في المكان. وإذا نَصَبْتَ كانت «إذا» خبراً. ولذلك يُكْتفى بها وبالمرفوع بعدها كلاماً، نحو: «خَرَجْتُ فإذا الأسدُ».
قوله: ﴿يُخَيَّلُ إِلَيْهِ﴾ قرأ العامَّة «يُخَيَّل» بضمِّ الياء الأولى وفتحِ الثانية مبنياً للمفعول. و «أنَّها تَسْعى» مرفوعٌ بالفعلِ قبلَه لقيامِه مقامَ الفاعلِ تقديرُه: يُخَيَّل إليه سَعْيُها. وجوَّز أبو البقاء فيه وجهين آخرين: أحدهما: أَنْ يكونَ القائمُ مَقامَ الفاعلِ ضميرَ الحبالِ والعِصِيِّ، وإنما ذُكِّرَ ولم يَقُلْ ِ «تُخَيَّل» بالتاء مِنْ فوقُ؛ لأنَّ تأنيثَ الحبالِ غيرُ حقيقي. الثاني: أنَّ القائمَ مقامَ الفاعلِ ضميرٌ يعودُ على المُلْقى، ولذلك ذُكِّرَ. وعلى الوجهين ففي قولِه «أنها تسعى» وجهان، أحدُهما: أنَّه بدلُ اشتمالٍ من ذلك الضمير المستترِ في «يُخَيَّل». والثاني: أنه مصدرٌ في موضع نصبٍ على الحالِ من الضميرِ المستتر أيضاً. والمعنى: يُخَيَّل إليه هي أنها ذاتُ سَعْيٍ. ولا حاجةَ إلى هذا، وأيضاً فقد نَصُّوا على أنَّ المصدرَ المؤول لا يقع موقعَ الحالِ. لو قلت: «جاء زيدٌ أَنْ يركضَ» تريد ركضاً، بمعنى ذا ركض، لم يَجُزْ.
وقرأ ابن ذكوان «تُخَيَّلُ» بالتاء من فوق. وفيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنَّ الفعلَ مُسْنَدٌ لضميرِ الحبالِ والعِصِيِّ أي: تُخَيَّلُ الحبالُ والعِصِيُّ، و «أنَّها تَسْعَى» بدلُ اشتمال من ذلك الضميرِ. الثاني: كذلك إلاَّ أنَّ «أنَّها تَسْعى» حالٌ أي: ذات سعي كما تقدَّم تقريرُه قبل ذلك. الثالث: أن الفعلَ مسندٌ لقولِه «أنَّها تَسْعى» كقراءةِ العامَّةِ في أحدِ الأوجهِ، وإنما أَنَّثَ الفعلَ لاكتسابِ المرفوعِ التأنيثَ بالإِضافة؛ إذا التقديرُ: تُخَيَّلُ إليه سعيُها فهو كقوله:
٣٣٠٢..................................... شَرِقَتْ صدرُ القناةِ من الدمِ
[وقوله تعالى:] ﴿فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا﴾ [الأنعام: ١٦٠].
وقرأ أبو السَّمَّال «تَخَيَّلُ» بفتح التاءِ والياء مبنياً للفاعلِ، والأصلُ: تَتَخَيَّلُ فَحَذَفَ إحدى التاءَيْن نحو: ﴿تَنَزَّلُ الملائكة﴾ [القدر: ٤]، و «أنَّها تسعى» بدلُ اشتمالٍ أيضاً من ذلك الضمير. وجَوَّز ابنُ عطيةَ أيضاً أنه مفعولٌ مِنْ أجله. ونقل ابنُ جُبارة الهُذَليُّ قراءة أبي السمَّال «تُخَيِّل» بضمِّ التاء مِنْ فوقُ وكسر الياء، فالفعلُ مسندٌ لضميرِ الحِبال، و «أنها تسعى» مفعولٌ أي: تُخَيِّلُ الحبالُ سَعْيَها. ونَسَبَ ابنُ عطيةَ هذه القراءةَ للحسنِ وعيسى الثقفيِّ.
وقرأ أبو حيوةَ «نُخَيِّل» بنونِ العظمة، و «أنها تسعى» مفعولٌ به أيضاً على هذه القراءةِ.
وقرأ الحسنُ والثقفيُّ «عُصِيُّهم» بضم العين حيث وقع، وهو الأصلُ. وإنما كُسِرَت العينُ إتباعاً للصادِ وكُسِرت الصادُ إتباعاً للياء. والأصلُ عُصُوْوٌ بواوين فَأُعِلَّ كما ترى بقَلْب الواوين ياءَيْن استثقالاً لهما، فكُسِرَت الصادُ لتصِحَّ، وكُسِرَتِ العينُ إتباعاً. ونقل صاحبُ «اللوامح» أنَّ قراءةَ الحسنِ «عُصْيهُم» بضم العين وسكون الصاد وتخفيف الياء مع الرفع، وهو أيضاً جمع كالعامَّة، إلاَّ أنه على فُعْلٍ كحُمْرٍ، والأولُ على فُعُوْل كفُلُوس.
والجملةُ من «يُخَيَّل» يُحتمل أَنْ تكونَ في محلِّ رفع خبراً ل «هي» على أن «إذا الفجائية» فَضْلَةٌ، وأن تكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِ، على أنَّ «إذا» الفجائية هي الخبر. والضميرُ في «إليه» الظاهرُ عَوْدُه على موسى. وقيل: يعود على فرعون، ويَدُلُّ للأولِ قولُه تعالى: ﴿فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً موسى﴾. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ)
ويقرأ (كَيْدُ سِحْرٍ)، ويجوز إنما صنعوا كيدُ سَاحِرٍ، ويجوز ُكَيْدَ ساحِرٍ
بنصب الدال. فمن قرأ " أنما: نصب " أنَّمَا " على معنى تلقَفْ مَا صَنَعُوا لِأنَّ ما صنعوا كيد ساحِر، ولا أعلم أحداً قرأها هنا " أنَّمَا "، والقراءة بالكسر، وَهُوَ أبْلَغُ في المَعْنَى.
فأمَّا رفع كيد فعلى معنى أن الذي صَنَعُوه كَيدُ سَاحِرٍ على خبر إنَّ
وَ " مَا " اسم، ومن قرأ كيدَ ساحِرٍ جعل " ما " تمنع " إِنَّ " العَمَل، وتسَوِّغُ للفِعْلِ أن يكون بعدها، وينتصبُ " كيْد ساحر " بـ صَنعوا، كما تقول: إنما ضَرَبْتُ زيداً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى).
قالوا معناه حيث كان، وقيل معناه حيث كان الساحر يجبُ أن يُقَتَلَ.
وكذلك مذهب أهل الفقه في السحرة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (٦٧)
وأصلها خِوْفَة، ولكن الواو قلبت ياء لانكسار ما قبلها.
(وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا).
و" تَلْقَفُ " القراءة بالجزم جواب الأمر، ويجوز الرفع على معنى الحال.
كأنه قال ألقها مُتَلَقِّفَةً، على حال مَتَوقِّعَةٍ، ولم يقرأ بها، ولا ينبغي أن يقرأ بما
لم تتقدم به قراءة (١).
وقوله تعالى: (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (٧٠)
(سُجَّدًا) منصوب على الحال، وهي أيضاً حال مقدرة، لأنهم خروا
وليسوا ساجدين، إنما خروا مقدرين السجود.
قوله: ﴿تَلْقَفْ﴾: قرأ العَامَّةُ بفتح اللام وتشديد القافِ وجزمِ الفاءِ على جواب الأمر. وقد تقدم أنَّ حَفْصاً يقرأ «تَلْقَفْ» بسكون اللامِ وتخفيفِ القاف. وقرأ ابن ذكوان هنا «تَلْقَفُ» بالرفع: إمَّا على الحالِ، وإمَّا على الاستئناف. وأَنَّثَ الفعلَ في «تَلْقَف» حَمْلاً على معنى «ما» لأنَّ معناها العصا، ولو ذُكِّر ذهاباً إلى لفظِها لجاز، ولم يُقرأ به.
[وقال أبو البقاء: «يجوز أَنْ يكونَ فاعلُ» تَلْقَف «ضميرَ موسى» فعلى هذا يجوز أَنْ يكونَ «تلقفُ» في قراءة الرفع حالاً من «موسى». وفيه بُعْدٌ].
قوله: ﴿كَيْدُ سَاحِرٍ﴾ العامَّةُ على رَفْع «كَيْدُ» على أنه خبرُ «إنَّ» و «ما» موصولةٌ. و «صَنَعُوا» صلَتُها، والعائدُ محذوفٌ، والموصولُ هو الاسمُ، والتقدير: إنَّ الذي صنعوه كيدُ ساحرٍ. ويجوز أَنْ تكونَ «ما» مصدريةً فلا حاجةَ إلى العائد، والإِعرابُ بحالِه. والتقدير: إنَّ صُنْعَهم كيدُ ساحرٍ.
وقرأ مجاهد وحميد وزيد بن على «كَيْدَ» بالنصب على أنه مفعولٌ به، و «ما» مزيدة مُهَيِّئَةٌ.
وقرأ الأخَوان «كيدُ سِحْر» على أنَّ المعنى: كيدُ ذوي سِحْرٍ، أو جُعِلوا نفسَ السحر مبالغةً، أو تبيينٌ للكيد؛ لأنه يكون سِحْراً وغيرَ سحرٍ، كما تُمَيَّزُ سائرُ الأعدادِ بما يُفَسِّرها نحو «مئة درهمٍ، وألف دينار». ومثلُه: علمُ فقه، وعلمُ نحو. وقال أبو البقاء: «كيدُ ساحر» إضافةُ المصدر إلى الفاعلِ و «كيدُ سِحْر» إضافةُ الجنسِ إلى النوع «.
والباقون» ساحر «. وأفرد/ ساحراً، وإنْ كان المرادُ به جماعةً. قال الزمخشري:» لأن القَصْدَ في هذا الكلامِ إلى معنى الجنسية، لا إلى معنى العددِ، فلو جمِع لخُيِّل أنَّ المقصودَ هو العددُ «. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ)
معناه على جذوع النَخِل، ولكنه جاز أن تقع " في " هَهُنَا لأنه في الجذع
على جهة الطول، والجذع مُشْتَمِل عليه فقد صار فيه.
قال الشاعر:
وهم صَلَبُوا العَبْدِيَّ في جِذْعِ نَخْلَةٍ... فلا عَطَسَتْ شَيْبانُ إِلا بأَجْدَعا
قوله: (وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى).
" أيُّ " رفعت لأنها وضعت موضع الاستفهام، ولا يعمل ما قبل " أيُّ " فيهَا
لأن ما قبلها خبر وهي استفهام، فلو عمل فيها لجاز أن يعمل فيما بعد الألف
في قولك: قد عَلِمْتُ أزَيد في الدار أم عمرو.
* * *
وقوله: (قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (٧٢)
موضع الذي خفض، المعنى لن نؤثرك على اللَّه، ويجوز أن يكون
" الّذي " خَفْضاً على القسم، ويكون المعنى لن نؤثرك على ما جاءنا من
البَيِّناتِ وَاللَّهِ، أي نحلف باللَّه.
قوله: (فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ).
أي: اصنع ما أنت صانع، قال أبو ذؤيب:
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّمَا تَقْضِي هَذه الحَياةَ الدُّنْيَا).
القراءةُ بالنصب - الحيَاةَ الدُّنيا - ويجوز إنما تقضي هذه الحياة الدنيا
بالرفع، تأويله أن الذي تقضيه متاع الحياة الدنيا، ولا أعلم أحداً قرأها
بالرفع.
وقوله: (إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (٧٣)
(وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ)
موضع " ما " نصب، المعنى لتغفر لنا خطايانا وإكراهك إيانا على السحر.
ويروى أن فرعون أكرههم على تعلم السحر.
ومعنى: (وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأبْقَى).
أي الله خير لنا منك وأبقى عذاباً لأنهم قالوا هذا لَهُ جَوابَ قوله:
(وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (٧٧)
(فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا).
ويجوز يابِساً وَيَبْساً، بتسكين الباء، فمن قال يابساً جعله نعتاً للطريق.
ومن قال يبَساً فإنه نعته بالمصدر المعنى طريقاً ذا يَبَسٍ، يقال يبس الشيء
وَييْبِسُ يَبَساً، ويُبْساً وَيبْساً، ثلاث لغات في المصدر.
وقوله: (لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى).
ويجوز: لا تَخَفْ دَرَكاً وَلَا تَخْشى، فمن قرأ (لا تخاف) فالمعنى لست
أن يدركك فرعونُ ولا تخشىْ الغرقَ.
* * *
(فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (٧٨)
ويقرأ فاتبَعَهُمْ فرعَونُ بجنوده، فمن قرأ (فَأَتْبَعَهُمْ) ففيه دليل أنه أتبَعَهُم
ومعه الجنود، ومن قرأ (فاتَّبَعَهُمْ) فرعون بجنوده فمعناه ألْحَقَ جُنُودَهُ بِهِم. وجائز أن يكون معهم على ذا اللفظ وجائز ألا يكون إلَّا أنه قد كان معهم.
(فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ).
اليم: البحر، والمعنى فغشيهم من اليم ما غَرقَهُمْ.
* * *
وقوله: (كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (٨١)
ويقرأ (فيحُلَّ عليكم غضبي، وَمَن يَحْلُلْ عليه غضبي.
فمن قرأ (فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ) فمعناه فيجب عليكم، ومن قرأ (فيحُلَّ عليكم) فمعناه فينزل عليكم.
والقراءة: ومن يَحْلِلْ بكسر اللام أكثر.
(فَقَد هَوَى)
أي هَلكَ وصار إلى الهاوِيةِ، وهي قَعْرُ نار جَهنَّمَ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى
(٨٢)
أي تاب من ذنبه، وآمن بربِّه وعمل بطاعتِه، ثم اهْتَدى، أي ثم أقام
على إيمانه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى
(٨٤)
(أُولَاءِ) مبني على الكسر، (عَلَى أَثَرِي) من صلة (أُولَاءِ)، ويجوز أن يكون
ورويت أولَايَ على أثري ولا وجه لها، لأن الياء لا تكون بعد الألف آخرةَ إلا للإضافة نحو هداي، ولا أعلم أحداً من القراء المشهورين قرأ بها وذكرها
الفراء، ولا وجه لها.
* * *
قوله: (قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (٨٥)
أي ألقينَاهُمْ في فتنة ومِحْنَةٍ، واختَبرْنَاهُمْ.
(وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ).
قال بعض أهل التفسير: السَّامِرِيُّ عِلْجٌ مِن أهْلِ كِرْمَانَ، والأكثر في
التفسير أنَّه كان عظيماً من عظماء بني إسرائيل من قبيلة تعرف بالسَّامِرَةِ. وهم إلى هذه الغاية في الشام يعرفون بالسامريين.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (٨٦)
(غَضْبَانَ أَسِفًا).
أسِف: شَدِيد الحُزْنِ مع غَضَبِه.
وقوله: (أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ).
القراءة فيها بالكسر في حاء يَحِل، على معنَى أنه يجب عليكم، فالضم
يجوز فيها على معنى أن ينزل عليكم غضب من ربكم.
* * *
(قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (٨٧)
يجوز الضم والكسر والفتح في الميم. بمُلْكِنَا، وبِمَلْكِنَا، وبِمِلْكِنَا.
فأصل الملك السلطان والقدرة، والمِلْك ما حَوَتْهُ اليَدُ، والمَلْك المصدَرُ.
تقول: ملكت الشيء أملِكه مَلْكاً.
وقيل في بعض التفسير: ما أخلَفْنَا مَوْعِدَك بأنْ مَلَكْنَا الصوابَ.
وجائز أن يكون ما أخلفنا موعدك بسلطانٍ كان لنا ولا
قدرة، ثم أخبَروا سبب تأخرهم عنه فقالوا:
(وَلَكِنَّا [حَمَلْنَا] أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ).
أخذوها من آل فرعون حينَ قذفهم البحرُ فألْقَاهُمْ عَلَى سَاحِلهِ، فأخذوا الذهب والفضة، وسميت أوزاراً لأن معناهأ الأثام، وجائز أن يكون سُمِّيَتْ أوزَاراً يعنون بها أثْقَالًا، لأن الوِزْرَ في اللغة الحِمْلُ، وسُمِّيَ الإثمُ وِزْراً لأن صاحبه قد حُمِّلَ بها ثقلاً، قال اللَّه تعالى: (وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (٢) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (٣).
فقالوا: حملنا حُلِيًّا فقذفناها في النار، وكذلك فعل السامِريُّ، أي ألقى حلْيًّا
كان معه (١).
(فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ
(٨٨)
واختلف في تفسير خوارِه، فقيل إنه كان يَخُورُ كما يَخورُ الثورُ من
الحيوان، فإذا خار سجدوا له، وإذا عاد الخوارُ رَفَعُوا من السجود، وقال
بعضهم: إنما خَارَ خَوْرَةً واحدةً، وَدَلِيله: (أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا).
وقال مجاهد: خُوارُه حَفِيفُ الريح إذَا دَخَلَتْ جَوْفَهُ.
وُيرْوى أن هارون عليه السلام مَر بالسَّامِرِيِّ وهو يصنع العجل
فقال له: ما تصنع؟
قال أصنع ما لا ينفع ولا يَضُر، وقال: أدْعُ، فقال هارون اللَّهُمَّ أعْطِه ما يَسألُ كما يُحِبُّ.
فسأل اللَّه عزَّ وجلَّ أن يجعل للعِجْل خُواراً، والذي قاله مجاهِد من أن خُوارَهُ
حفيفُ الريح فيه، أسرع إلى القبول لأنه شيء ممكن.
والتفسير الآخر وهو أنه خوار ممكن في محنة اللَّه عزَّ وجلَّ - أن امْتَحَنَ القَوْمَ بذلك، وليس في خُوارِ صُفْرٍ ما يوجب عبادته لأنهم قد رأوه معمولاً مصنوعاً، فعبادتهم إياه لو خارَ وتكلَّم كما يتكلَّم الآدمي لم تجب به عبادته.
فقالوا: (هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ).
قيل إن السَّامِرِيَّ نسيَ ما كان عليه من الإيمان، لأنه نافق لما عبر
قوله: ﴿بِمَلْكِنَا﴾: قرأ الأخَوان بضم الميم. ونافع وعاصم بفتحها، والباقون بكسرها: فقيل: لغاتٌ بمعنى واحدٍ كالنَّقْض والنِّقْضِ. ومعناها: القُدْرَةُ والتسلُّطُ. وفرَّق الفارسيُّ وغيرُه بينها فقال: «المضمومُ معناه: لم يكنْ [لنا] مُلْكٌ فَنُخْلِفَ موعدَك بسُلْطَانِه، وإنما فَعَلْناه بنظرٍ واجتهادٍ، فالمعنى على: أَنْ ليس لهم مُلْكٌ.
كقول ذي الرمة:
٣٣١٣ لا تُشْتكى سَقْطَةٌ منها وقد رَقَصَتْ... بها المفاوِزُ حتى ظهرُها حَدِبُ
أي: لا يقع منها سَقْطَةٌ فتشتكى». وفتحُ الميمِ مصدرٌ مِنْ مَلَكَ أمرَه. والمعنى: ما فعلناه بأنَّا مَلَكْنا الصوابَ، بل غَلَبَتْنا أنفسُنا. وكسرُ الميمِ كَثُر فيما تَحُوْزه اليدُ وتحويه، ولكنه يُسْتعمل في الأمورِ التي يُبْرِمُها الإِنسانُ ومعناها كمعنى التي قبلها. والمصدرُ في هذين الوجهين مضافٌ لفاعلِه، والمفعولُ محذوفٌ أي: بملكِنا الصوابَ.
قوله: ﴿حُمِّلْنَآ﴾ قرأ نافعٌ وابنُ كثير وابنُ عامر وحفصٌ بضم الحاء وكسر الميم مشددة. وأبو جعفرٍ كذلك إلاَّ أنه خَفَّف الميم، والباقون بفتحِهما خفيفةَ الميمِ. فالقراءةُ الأولى والثانية نَسَبوا فيهما الفعلَ إلى غيرِهم، وفي الثالثةِ نَسَبُوه إلى أنفسهم.
و ﴿أَوْزَاراً﴾ مفعولٌ ثانٍ على غيرِ القراءة الثالثة. و ﴿مِّن زِينَةِ﴾ يجوز أَنْ يكونَ متعلقاً ب «حُمِّلْنا»، وأن يكونَ متعلِّقاً بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل «أَوْزار».
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
موسى عليه السلام أراد هذا العجل فنسِيَ وترك الطريق الذي يصل إليه.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (٨٩)
كما قال: (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا).
ويجوز أنْ لا يَرْجعَ بنصب بأن، والاختيارُ مع رأيت وعلمتَ وَظَنَنْتُ أن لا يفعلُ، في معنَى قد علمت أنه لايفعَلُ.
* * *
وقوله - جلَّ وعزَّ -: (قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (٩٤)
(يا ابنَ أمَّ) بفتح الميم، وإن شئت (يا ابن أمِّ) - بكسر الميم - وفتحت أم
والموضع موضع جر لأن (ابن) و (أم) جُعلا اسماً واحداً فبنى ابن وأم على
الفتح، ومن قال (يا ابن أمِّ) أضافه إلى نفسه.
وفيها وجه ثالث " يا ابْنَ أُمِّي لَا تَأخُذْ "
ولكنه لا يقرأ بها. ليست ثابتة الياء في المصحف.
ومثل هذا من الشعر:
يا ابنَ أُمّي ويا شُقَيِّقَ نَفْسِي... أَنتَ خَلَّيْتَني لأمْرٍ شَدِيد
ولم يجئ هذا إلا في ابن أم، وابن عم، وذلك أنه يقال لمن ليس بأخ
لأمٍّ. ولا بأخ ألبتَّةَ: يا ابن أم، وكذلك يقال للأجنبي: يا ابن عم، فلما أزيل عن بابه بني على الفتح، وإن كان قد يقول القائل لأخيه من أمه أيضاً يا ابن أمَّ، فإنما أدخل أخاه في جملة من يقول له يا ابن أمَّ.
وقد قيل في هارون إنَّه لم يَكُنْ أخَا موسى لأمِّه - واللَّه أعلم -.
معنى ما خطبك ما أمرك الذي تخاطب به.
* * *
(قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (٩٦)
يقال: قَدْ بَصُر الرجلَ يَبْصُرُ إذا كان عليما بالشيء، وأبْصَرَ يُبْصِرُ إذا نظر.
والتأويل علمتُ بما لم يعلموا به، وكان رأى فرس جبريل عليه السلام فقبض
فبضة من تراب حافر الفرَسِ، يقال: قبضت قبضةً، وقَبَصْتُ قَبْصَةً - بالصاد غير معجمةٍ - فالقبضة بجملة الكف، والقبصة بأطراف الأصَابع. ويقرأ بالصاد والضاد، وفيه وجه آخر لم يقرأ به فيما علمت، يجوز فقبصتُ قَبْصَةً وقُبْصَةً، ولكن لا يجوز القراءة بها - إن كان لم يقرأ بها - فالقبضة قبض الشيء مرةً واحدةً، والقُبْصَةُ مقْدَارُ مَا يقبصُ، ونظير هذا قوله عزَّ وجلَّ: (إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ)، و (غَرْفَةً بِيَدِه) (١).
(فَنَبَذْتُهَا).
ألْقَيْتُها في العِجْل لتَخُورَ.
(وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي).
أي زيَّنَتْ لي نَفْسِي، ومثله: (الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ).
* * *
(قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (٩٧)
وأنَّ لك، ويجوز لا مَسَاس، ِ وأنَّ لك - بفتح الميم وكَسْرِ السين الآخرةِ
على وزن دَرَاكِ وتَراكِ، والتأويل أن موسى عليه السلام حرَّم مُخَالَطةِ
السامِرِيِّ، فالمعنى إنك في الدنيا لا تخالط جزاءً لفعلك.
قوله: ﴿بَصُرْتُ﴾: يقال: بَصُرَ بالشيءِ أي عَلِمه، وأبصرَه. أي: نظر إليه. كذا قاله الزجاج. وقال غيره: «بَصْرَ به وأبصره بمعنى علم».
والعامَّةُ على ضم الصاد في الماضي ومضارعِه. وقرأ الأعمش وأبو السَّمَّال «بَصِرْتُ» بالكسر، يَبْصَروا بالفتح وهي لغة. وعمرُو بن عبيد بالبناء للمفعول في الفعلين أي: أُعْلِمْتُ بما لم يُعْلَموا به.
وقرأ الأخَوان «تَبْصُروا» خطاباً لموسى وقومه أو تعظيماً له كقوله: ﴿إِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء﴾ [الطلاق: ١] و [قوله]:
٣٣١٤....... حَرَّمْتُ النساءَ سواكُمُ..........................
والباقون بالغَيْبة عن قومه.
والعامَّةُ على فتحِ القافِ من «قَبْضَة» وهي المرَّةُ من قَبَضَ. قال الزمخشري: «وأمَّا القَبْضَةُ فالمَرَّةُ من القَبْض، وإطلاقُها على المقبوضِ مِنْ تسمية المفعولِ بالمصدر» قلت: والنحاة يقولون: إن المصدرَ الواقعَ كذلك لا يُؤَنَّثُ بالتاء تقول: هذه حُلَّةٌ نَسْجُ اليمن «ولا تقول: نَسْجَةُ اليمن. ويعترضون بهذه الآية، ثم يُجيبون بأنَّ الممنوعَ إما هو التاءُ الدالةُ على التحديدِ لا على مجرد التأنيث. وهذه التاءُ دالَّةٌ على مجردِ التأنيث، وكذلك قوله: ﴿والأرض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ﴾ [الزمر: ٦٧].
وقرأ الحسن» قُبْضَة «بضم القاف وهي كالغُرْفَة والمُضْغة في معنى المَغْروف والمقبوض. ورُوي عنه» قُبْصَة «بالصاد المهملة. والقَبْضُ بالمعجمة بجميع الكفِّ، وبالمهملة بأطرافِ الأصابع. وله نظائر كالخَضْمِ وهو الأكلُ بجميع الفمِ، والقَضْمِ بمقدَّمِه. والقَصْمُ: قطعٌ بانفصالٍ، والفَصْمُ بالفاء باتصالٍ. وقد تقدم شيءٌ من ذلك في البقرة. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ).
و (لن تُخْلِفُهُ)، فمن قرأ (لن تُخْلِفُهُ) فالمعنى يكافئك الله على ما فعلت
في القيامة واللَّه لا يخلف الميعادَ، ومن قرأ (لَنْ تُخْلَفَهُ)
فالمعنى إنك تبعث وتوافي يوم القيامَةِ، لا تقدر على غير ذلك، ولن تُخْلِفَه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا).
وظِلْتَ بفتح الظاء وكسرها، فمن فتح فالأصل فيها ظَلِلْت، ولكن اللامَ
ْحُذِفَتْ لثقل التضعيف والكسر، وبقيت الظاء على فتحها.
ومن قرأ ظِلْتَ - بالكسْرِ - حَوَّلَ كَسْرةَ اللام على الظاء، وقد يجوز في غير المكسور نحو أحَسْتُ تُرِيدُ أحْسَسْتُ، وقد حُكِيَتْ هَمْتُ بذلِكَ، تريد هَمَمْتُ ومعنى عاكف مُقيم، وعاكف منصوب خبر ظلت، ليس بِمنْصُوبٍ عَلى الحال.
وقوله: (لَنُحَرِّقَنَّهُ).
ويقرأ (لَنُحْرِقَنَّهُ). أي لَنَحْرِقَنه بالنارِ، فإذا شَدَّدَ فالمعنى نُحَرقُه مرة بعد مرةٍ.
وقرئت لَنحرُقَنَّهُ، وتأويله لَنَبْرُدَنَّه بالمِبْرَدِ، يقال حَرَقْتُ أحْرُق وأحْرِقُ إذا بردت الشيء.
ولم يقرأ لنحرِقَنَّهُ، ولو قرئتْ كانَتْ جائزة (١).
قوله: ﴿لاَ مِسَاسَ﴾: قرأ العامَّةُ بكسرِ الميمِ وفتحِ السين. وهو مصدرٌ ل فاعَل كالقِتال مِنْ قاتَل، فهو يقتضي المشاركةَ. وفي التفسير: لا تَمَسُّني ولا أَمَسُّك، وإنَّ مَنْ مَسَّه أصابَتْه الحمى.
وقرأ الحسن وأبو حيوة وابن أبي عبلة وقعنب بفتح الميم وكسر السين. قلت: هكذا عَبَّر الشيخُ وتَبعَ فيه أبا البقاء. ومتى أَخَذْنا بظاهِر هذه العبارة لَزِم أن يُقرأ «مَسِيس» بقلب الألفِ ياءً لانكسارِ ما قبلها ولكن لم يُرْوَ ذلك، فينبغي أَنْ يكونوا أرادوا بالكسرِ الإِمالةَ. ويَدُلُّ على ما قُلْتُه ما قاله الزمخشريُّ: «وقُرِىء لا مَساسِ بوزن فَجار. ونحوُه قولهم في الظباء:» إن وَرَدَتِ الماءَ فلا عَباب وإن فَقَدَتْه فلا أَباب «وهي أعلامٌ للمَسَّة والعَبَّة والأَبَّة وهي المرَّة من الأَبِّ وهو الطلَبُ». فهذا تصريحٌ منه ببقاء الألفِ على حالِها.
ويدلُّ أيضاً قولُ صاحبِ «اللوامح»: «هو على صورة نَزَالِ ونَظارِ من أسماء الأفعال بمعنى انْزِلْ وانْظُرْ» فهذا أيضاً تصريحٌ بإقرار الألِف على حالها. ثم قال صاحب «اللوامح»: «فهذه الأسماء التي بهذه الصيغةِ معارفُ، ولا تدخُلُ عليها» لا «النافيةُ التي تَنْصِبُ النكراتِ، نحو» لا مالَ لك «لكنه فيه نَفْيُ الفعلِ فتقديرُه: لا يكون منك مساسٌ، ومعناه النهيُ أي: لا تَمَسَّني».
وقال ابنُ عطية: «لا مَساسِ هو معدولٌ عن المصدرِ كفَجارِ ونحوِه. وشبَّهه أبو عبيدة وغيرُه بَنزالِ ودَراكِ ونحوه، والشَّبَهُ صحيحٌ من حيث هُنَّ معدولاتٌ. وفارقه في أنَّ هذه عُدِلَتْ عن الأمر، ومَساس وفَجار عُدلت عن المصدر. ومِن هذا قولُ الشاعر:
٣٣١٥ تميمٌ كرَهْطِ السَّامِرِيِّ وقَوْلِه... ألا لا يريدُ السَّامِرِيُّ مَساسِ
فكلامُ الزمخشريِّ وابنِ عطيةَ يعطي أنَّ» مَساس «على هذه القراءةِ معدولٌ عن المصدرِ كفجَار عن الفَجَرة، وكلامُ صاحبِ اللوامحِ يقتضي أنها معدولةٌ عن فعل أمرٍ، إلا أَنْ يكونَ مرادُه أنها مَعْدُوْلَةٌ، كما أنَّ اسمَ الفعلِ معدولٌ، كما تَقَدَّم توجيهُ ابنِ عطية لكلام أبي عبيدة.
قوله: ﴿لَّن تُخْلَفَهُ﴾ قرأ ابنُ كثيرٍ وأبو عمرٍو بكسرِ اللامِ على البناء للفاعل. والباقون بفتحِها على البناءِ للمفعولِ. وقرأ أبو نهيك فيما حكاه عنه ابن خالويه بفتح التاء من فوقُ، وضمِّ اللام، وحكى عنه صاحب» اللوامح «كذلك، إلاَّ أن بالياء مِنْ تحتُ. وابنُ مسعودٍ والحسن بضمِّ نونِ العظمة وكسرِ اللام.
فأمَّا القراءةُ الأولى فمعناها: لن تجدَه مُخلَّفاً كقولك: أَحْمَدْتُه وأَجْبَنْتُه/ أي: وَجَدْتُه مَحْمُوداً وجَباناً. وقيل: المعنى: سيصلُ إليك، ولن تستطيعَ الرَّوَغانَ ولا الحَيْدَة عنه. قال الزمخشري:» وهذا مِنْ أَخْلَفْتُ الوعدَ إذا وجدتَه مُخْلَفاً. قال الأعشى:
٣٣١٦ أثوى وقَصَّر لَيْلَةً لِيُزَوَّدا... فمضى وأَخْلَفَ مِنْ قُتَيْلَةَ مَوْعِدا
ومعنى الثانيةِ: لن يُخْلِفَ اللهُ موعدَه الذي وَعَدك. وأمَّا قراءتا أبي نهيك فهما مِنْ خَلَفَه يَخْلُفُه إذا جاء بعدَه أي: الموعدَ الذي لك لا يَدْفع قولَك الذي تقولُه. وهي قراءةٌ مُشْكِلَةٌ. قال أبو حاتم: «لا نعرف لقراءةِ أبي نهيك مذهباً» وأمَّا قراءةُ ابنِ مسعود فأسند الفعلَ فيها إلى الله تعالى. والمفعولُ الأولُ محذوفٌ أي: لن يُخْلِفَكه.
قوله: ﴿ظَلْتَ﴾ العامَّةُ على فتح الظاء، وبعدها لامٌ ساكنة. وابنُ مسعودٍ وقتادةُ والأعمشُ بخلافٍ عنه وأبو حيوة وابن أبي عبلة ويحيى بن يعمر [على] كسرِ الظاء. ورُوي عن ابن يعمر ضمُّها أيضاً. وأُبَيٌّ والأعمش في الرواية الأخرى «ظَلِلْتَ» بلامَيْنِ أولاهما مكسورةٌ «.
فأمَّا قراءةُ العامَّة ففيها: حَذْفُ أحدِ المِثْلين، وإبقاءُ الظاءِ على حالِها مِنْ حركتها، وإنما حُذف تخفيفاً. وعدَّه سيبويه في الشاذ. يعني شذوذَ قياسٍ لا شذوذَ استعمالٍ، وعَدَّ معه ألفاظاً أُخَرَ نحو: مَسْتُ وأَحَسْتُ كقولِه:
٣٣١٧............................ أَحَسْنَ به فهنَّ إليه شُوْسُ
وعَدَّ ابنُ الأنباري» هَمْتُ «في» هَمَمْتُ «ولا يكونُ هذا الحذفُ إلاَّ إذا سُكِّنَتْ لامُ الفعلِ. وذكر بعضُ المتأخرين أن هذا الحذفَ منقاسٌ في كلِّ مضاعفِ العينِ واللامِ سَكَنَتْ لامُه، وذلك في لغة سُلَيْم.
والذي أقولُه: إنه متى التقى التضعيفُ المذكورُ والكسرُ نحو: ظَلِلْتُ ومَسِسْتُ انقاس الحذفِ. وهل يَجْري الضمُّ مجرى الكسرِ في ذلك؟ فالظاهرُ أنه يجري. بل بطريق الأَوْلى؛ لأن الضمَّ أثقلُ من الكسر نحو: غُضْنَ يا نسوةُ أي: أغْضُضْنَ أبصارَكُنَّ، ذكره جمال الدين ابن مالك. وأمَّا الفتحُ فالحذفُ فيه ضعيفٌ نحو:» قَرْن يا نسوةُ في المنزل «ومنه في أحدِ توجيهَيْ قراءةِ ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ﴾ [الأحزاب: ٣٣] كا سيأتي إنْ شاء الله تعالى.
وأمَّا الكسرُ فوجهُه أنه نَقَل كسرةَ اللامِ إلى الفاءِ بعد سَلْبِها حركتَها لتدُلَّ عليها. وأمَّا الضمُّ فيحتمل أن يكونَ جاء فيه لغةٌ على فَعَل يفعُل بفتحِ العينِ في الماضي وضمِّها في المضارع، ثم نُقِلَتْ، كما تقدّم ذلك في الكسر. وأمَّا ظَلِلْت بلامين فهذه هي الأصلُ، وهي مَنْبَهَةٌ على غيرِها. و» عاكفاً «خبرُ» ظلَّ «.
قوله: ﴿لَّنُحَرِّقَنَّهُ﴾ جوابُ قسمٍ محذوفٍ أي: واللهِ لَنُحَرِّقَنَّهُ. والعامَّة على ضمِّ النونِ وكسرِ الراءِ مشددةً مِنْ حَرَّقه يُحرِّقُه بالشديد. وفيها تأويلان. أظهرُهما: أنها مِنْ حَرَّقه بالنار. والثاني: أنه مِنْ حَرَق نابُ البعير، إذا وقع عَضُّ ببعضِ أنيابِه على بعضٍ. والصوتُ المسموعُ منه يُقال له الصَّريفُ. والمعنى: لنَبْرُدَنَّه بالمِبْرد بَرْداً نمحقُه به كما يفعل البعيرُ بأنيابِه بعضها على بعض.
وقرأ الحسن وقتادة وأبو جعفر» لَنُحْرِقَنَّه «بضم النون وسكونِ الحاءِ وكسرِ الراء، مِنْ أحرق رباعياً. وقرأ ابن عباس وحميد وعيسى وأبو جعفر» لَنَحْرُقَنَّه «كذلك إلاَّ أنه ضمَّ الراء. فيجوز أن يكونَ أَحْرق وحرَّق بمعنى كأَنْزَل ونَزَّل. وأمَّا القراءةُ الأخيرة فبمعنى لنَبْرُدَنَّه بالمبرد. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
اليم: البَحْر، والنسف التذرِيَةُ.
* * *
وقوله: (خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (١٠١)
المعنى ساء الوِزْرُ لهم يوم القيامَةِ، و (حِمْلًا) منصوب على التمييز.
* * *
(يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (١٠٢)
قد جرى تفسيره فيما مَضى.
وأكثر ما يذهب إليه أهل اللغة أن الصور جمع صورة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا).
قيل عطاشا وقيل عُمْياً، يخرجون من قبورهم بُصرَاءَ كما خلقوا أول مَرةٍ
ويعمَوْنَ في المَحْشرِ، وإنما قيل زُرْقاً لأن السَواد يزرق إذا ذهبت نواظرُهُمْ.
ومن قال عطاشا فجيِّدٌ أيْضاً، لأنهم من شدةِ العَطشِ يتغير سواد أعْيُنهم حتى
يزرق.
* * *
وقوله - عزَّ وجلَّ -: (يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (١٠٣)
أصل الخفوت في اللغة السكون، والتخَافت ههنا السِّرارُ، فالمعنى أنهم
يَتَسَارُّونَ بَيْنَهُمْ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (١٠٤)
(أمْثَلُهُمْ طَرِيقةً).
أي أعلمهمْ عند نفسه بما يقول
(إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا)، معناه ما لبثتم إلا يوماً
* * *
وقوله: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (١٠٥)
النسف التذْرِيةُ
تصير الجبال كالهباء المنثور، تذرَّى تَذْرِيَةً.
القاع من الأرض المكان الذي يعلوه الماء، ويُقَالُ المكانُ الطيِب
والصَّفْصَفُ، المستوي من الأرض.
* * *
(لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (١٠٧)
العِوَج في العَصَا والجَبَلِ ألا يكون مستوياً، والأمْتُ أن يغلظ مكان
ويدقَّ مَكانٌ.
* * *
قوله: (يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (١٠٨)
المعنى لا عِوَجَ لَهم عن دعَائِه، لا يقدرون أنْ لاَ يتَبِعُوا
وقوله - عزَّ وجلَّ -:. (فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا).
الهَمْسُ في اللغة الشيءُ الخَفِيُّ، والهَمْسُ - ههنا - في التفسير صوت
وطء الأقدام.
* * *
وقوله: (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (١١١)
مَعنى عَنَتْ في اللغة خَضَعَتْ، يقال عنا يعنو إذا خضع، ومنه قيلَ
أُخِذَتِ البِلاَدُ عنْوة، إذَا أخِذَتْ غَلَبة، وأُخِذَتْ بخضوع من أهلها.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (١١٠).
ما بين أيديهم من أمر القيامة، وجميع ما يكون، وما خلفهم ما قد وقع
من أعمالِهِمْ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (١١٢)
الهضْمُ: النَّقْصُ، يقال فلان يهضمني حَقي أي ينْقُصُنِي، كذلك هذا
شيء يهْضِمُ الطعام، أي ينقص ثِقْلَتَه.
(فنَسِيَ) ههنا معناه فترك، لأن النَّاسِيَ لا يُؤاخَذ بِنِسْيَانِهِ، وجاء في
الحديث " لو وزِنَ حلم بني آدم مذْ كان آدم إلى أنْ تقُومَ السَّاعة ما وَفَى حِلْم جميع من وَلَدَهُ وَحَزْمهمْ بحلم آدَمَ وَحَزْمِه - ﷺ -.
* * *
وقال عزَّ وجلَّ: (وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا).
* * *
وقوله - سبحانه -: (وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (١١٩)
يجوز (وَإِنَّكَ) بالكسر، (وَأَنَّكَ) بالفتح، فإذَا كسرت فعلى الاستئْنَافِ وعطف جملة كلام على جملة، وإذا فتحت فعلى معنى إن لك " أنْ لا " تظمأ فيها، فَتَنْسقُ بأنَكَ عَلَى (أَلَّا تَجُوعَ).
ويكون أنك عَلَى هَذا القَوْل في موضع نصب.
ويجوز أن يكون في موضع رفع، والعطف على اسْمِ إِن وأنَّ، لأن
معنى إن زيداً قائم زيد قائم فالمعنى ذلك إنك لا تظمأ فيها.
ومعنى (لَا تَظْمَأُ) لَا تَعْطَشُ، يقال ظمئ الرجل يظمأ ظمأً فهو ظمآن بمعنى عطشان.
ومعنى (لا تَضْحَى) ولا تصيبكَ الشمسُ، ولا تبرُز يقال ضحى الرجل يَضْحَى
إذا بَرزَ إلى الشمس.
قال الشَاعِر:
رَأَتْ رَجُلاً أَمَّا إِذا الشمس عارضَتْ... فيَضْحى وأَمَّا بالعَشيِّ فَيَخْصَرُ
ومعنى - يخصر يُصِيبُه الخَصَرُ وهو شدة البرْد، وبلوغه الأطراف.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (١٢٤)
الضَّنْكُ: أصْله في اللغةِ الضيق والشدةَ، ومعناه - واللَّه أعلم - أن هذه
المعيشة الضنك فِي نَارِجَهَنَّم.
وأكثر ما جاء في التفسير أنَّه عذابُ القبر.
مثل ونحشر المجرمين يومئذ زرقاً، وقيل أعْمَى عن حجتِه، وتأويله أنه
لا حجة له يهتدي إليها، لا أن له حجةً، وأنه يعمى عنها.
ما للناس على اللَّه حجة بعد الرسلِ، وللًه الحجة البَالِغةُ وقد بَشَّرَ وأنْذَرَ، وَوَعَدَ وأوْعَدَ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا).
أي لعل الوعيد يُحْدِث لهم تَذَكُرَ العَذَابِ، فيزجرهم عن المعاصي
وقيل: (أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا) أي: شَرَفاً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ).
أي من قبل أن يبَيَّنَ لَكَ بَيَانُه، ويقرأ من قبل أنْ نَقْضِي إليك وحْيَهُ
بالنون، ويجوز مِنْ قَبْل أنْ يَقْضِيَ إليك وَحْيَهُ، أي من قبل أن يقضيَ اللَّه إليكَ وَحْيَهُ، ولم تُقْرأ " تَقْضِي " وقرئت يُقْضَى ونَقْضِي - بالياء والنون.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (١٢٦)
أي كذلك تترك في النار كما تركت آيَاتِنَا.
* * *
وقوله: (أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (١٢٨)
قُرِئَتْ بالنُونِْ والياء، فمن قرأ بالنُّونِ فمعناه أفلم نبين لهم بياناً يهتدون
به، ومن قرأ أفلم يَهْدِ - بالياء - فالمعنى أفلم يُبَيَّنْ لَهُم الأمْرُ بإهلاك من قبلهم من القرون.
و" كم " في موضع نصب بـ (أهلكنا).
وكانت قريش تَتَجِر وترى مساكن عادٍ وثمودَ وبها علامات الِإهلاك، فذلك قوله: (يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ)
ويجوز (في مَسْكَنِهِمْ) أي في مَوضِع سُكْنَاهُمْ ولم يقرأ بها.
ويقرأ: (يُمَشَّوْنَ في مَسَاكِنهم) بالتشديد.
أي لذوي العقول والمَعْرِفةِ، يقال: فلان ذو نُهْيةٍ إذا كان له عَقْل ينتهي
به عن المقابح.
* * *
وقوله: (وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (١٢٩)
أي لكان القتلُ الذي نالهم لَازِماً أبداً، ولكان العذاب لازماً لهم.
(وَأَجَلٌ مُسَمًّى).
معطوف على (كَلِمَةٌ) المعنى لولا كلمة سَبَقَتْ وأجل مسمى لكان
لزاماً، يُعنَى بالأجل المسمى أن الله وعَدَهُمُ العذابَ يومَ القيامَةِ.
وذلك قوله: (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (٤٦).
* * *
وقوله: (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (١٣٠)
(وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا).
وذلك وقتُ الغداة والعَشِى.
(وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ).
الآناء الساعات، وواحد الآناء إنْيٌ - وقد بيَّنَّاه فيما مَضَى.
(فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ).
وأطراف النهار الظهرُ والعَصْرِ.
(لَعَلَّكَ تَرْضَى)، ويقرأ تُرْضَى.
* * *
وقوله تعالى: (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (١٣١)
أي رِجالاً مِنْهُم.
(زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا).
وَ (زَهَرَة) جميعاً - بفتح الهاء وتسكينها - و (زَهْرَةَ) منصوب بمعنى مَتعْنَا لأن
معناه جعلنا لهم الحياة الدنيا زهرة.
أي لنجعل ذلك فتنة لهم
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (١٣٣)
معناه هلَّا يأتينا بآية أمن رَبِّه، وقد أتتهم البينات والآيات ولكنَهُم
طلبوا أن يقترحوا هم ما يؤيدون من الآيات.
* * *
وقوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (١٣٤)
(مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى).
يجوز فيها يُذَل وُيخْزَى.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (١٣٥)
(فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ)
" مَن " في موضع رفع، ولا يجوز أن يعمل فيها (فَسَتَعْلَمُونَ)، لأن معناه
معنى التسوية، المعنى فستعلمون أصحاب الصراط السوي نَحْنُ أم هُمْ، فلم
يعْمَلْ (فَسَتَعْلَمُونَ) لأن لفظ الكلام لفظه لفظ الاستفهام.
ومعنى (أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ) أصْحَابُ الطريق المستقيم، ويَجُوزُ من أصحاب الصراط السُّوَي ومن اهتدى.
(وَمَنِ اهْتَدَى).
أي فسيعلمون من أصحاب الطَريقة السوءَى ومن المهتدي.