تفسير سورة الأنبياء

الفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية
تفسير سورة سورة الأنبياء من كتاب الفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية المعروف بـالفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية .
لمؤلفه النخجواني . المتوفي سنة 920 هـ

حتى يتحقق كل من المكلفين بمقتضى ما اكتسب من الجزاء على مقتضى العدل الإلهي والقسط الحقيقي الذي هو صراطه الأقوم ثم لما كان كثير من المنهمكين في الغفلة والضلال منكرين عليها مكذبين لها انزل سبحانه هذه الصورة على حبيبه تبشيرا ووعدا للمؤمنين الموقنين وتهديدا ووعيدا للمنافقين المكذبين على الأنبياء المذكورين فيها فقال متيمنا بِسْمِ اللَّهِ الذي ظهر في النشأة الاولى والاخرى على العدل التقويم الرَّحْمنِ لعموم عباده بالدعوة الى دار السّلام وجنة النعيم الرَّحِيمِ لخواصهم بالفوز الى شرف اللقاء وانواع التعظيم والتكريم
[الآيات]
قد اقْتَرَبَ ودنا وقرب لِلنَّاسِ الناسين عهود ربهم التي عهدوا بها معه سبحانه في مبدأ فطرتهم الاصلية من حمل امانة العبودية المشتملة على انواع المعارف والحقائق وقبول أعباء الايمان والتوحيد ومشاق الأعمال ومتاعب التكاليف المقربة اليه حِسابُهُمْ اى قد قرب وقت حسابهم وانتقاد أفعالهم وأعمالهم الصالحة المقبولة عند ربهم وامتيازها من الفاسدة المردودة دونه سبحانه وَهُمْ بعد مغمورون مستغرقون فِي غَفْلَةٍ عن ربهم وعن حسابه إياهم بل أكثرهم مُعْرِضُونَ عنه بحيث لا يلتفتون نحوه أصلا بل ينكرون وجوده فكيف حسابه وعذابه لذلك
ما يَأْتِيهِمْ وينزل عليهم مِنْ ذِكْرٍ وعظة حتى ينبههم عن سنة الغفلة ويوقظهم عن رقدة النسيان صادر مِنْ رَبِّهِمْ بوحي مُحْدَثٍ مجدد حسب تجددات البواعث والدواعي الموجبة للانزال بمقتضى الأزمان والأعصار: إِلَّا اسْتَمَعُوهُ اى الذكر المحدث وَهُمْ حين استماعه من غاية عمههم وسكرتهم يَلْعَبُونَ به ويستهزؤن بمن انزل اليه حال كونهم
لاهِيَةً نفوسهم ذاهلة قُلُوبُهُمْ عن التأمل فيه والتفكر في معناه والتدرب في رموزه وإشاراته وَهم وان اغفلوا نفوسهم وقلوبهم عنه لفرط عتوهم واستكبارهم لكن قد تفطنوا بحقيته من كمال اعجازه ومتانته لكونهم من ارباب اللسن والفصاحة واصحاب الزكاء والفطنة لكنهم قد أَسَرُّوا النَّجْوَى وبالغوا في إخفاء ما تناجوا في نفوسهم من حقية القرآن واعجازه وبالجملة هم الَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم بارتكاب الكفر والمعاصي وانواع الفساد والضلال عنادا ومكابرة ومع ذلك قد قصدوا ايضا اختلال ضعفاء الأنام حيث قالوا لهم على وجه الإنكار تغريرا هَلْ هذا اى ما هذا الشخص الحقير الذي قد ادعى الرسالة والنبوة والوحى والإنزال إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وهو من بنى نوعكم لا مزية له عليكم والرسول المرسل من جانب السماء لا يكون الا ملكا أَتميلون ايها العقلاء المتحيرون نحوه وتزعمونه صادقا بواسطة خوارق صدرت عنه على سبيل السحر والشعبذة مدعيا انه معجز مع انه ليس كذلك فَتَأْتُونَ تقبلون وتحضرون السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ آلاته وأدواته وتعلمون عيانا انه سحر مفترى هل تصدقونه أم لا وهذا تسجيل وتنصيص منهم على كذب الرسول على زعمهم واغرار وتضليل منهم على ضعفاء الأنام وحث لهم على تكذيبه وانكار ما اتى به
قالَ يا أكمل الرسول في جوابهم والرد عليهم رَبِّي الذي رباني بأنواع الكرامات والمعجزات يَعْلَمُ الْقَوْلَ اى جنس الأقوال والأفعال والأحوال الكائنة فِي السَّماءِ في عالم الأرواح وَالْأَرْضِ في عالم الطبيعة والأشباح وَكيف لا يعلم مع انه لا يعزب عن علمه شيء إذ هُوَ السَّمِيعُ المقصور على السمع بحيث لا سميع سواه الْعَلِيمُ المستقل بالعلم لا عالم الا هو ثم اعرضوا وانصرفوا عن قولهم بسحرية القرآن لاشتماله على البلاغة والمتانة وانواع الخواص والمزايا الفاضلة الممدوحة عندهم الى ما هو الأدنى والأنزل منه
بَلْ قالُوا على سبيل الإضراب ما هو الا أَضْغاثُ أَحْلامٍ اى من تخليطات
القوة المتخيلة تمويهاتها التي رآها في المنام ثم سطرها وسماها كلاما نازلا من السماء موحى اليه من عند الله بَلِ افْتَراهُ واختلقه واخترعه من تلقاء نفسه ونسبه الى الوحى ترويجا له بلا رؤية في المنام بَلْ هُوَ شاعِرٌ فصيح بل قد تكلم بكلام كاذب مخيل نظمه على وجه يعجب الأسماع وبالجملة ما هو نبي وليس كلامه الذي قد اتى به معجزا ووحيا نازلا من الله كما ادعاه مثل كلام سائر الرسل والا فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ مقترحة او غيرها تلجئنا الى تصديقه والايمان به كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ اى مثل ما أرسل بها سائر الأنبياء الماضون كالعصا واليد البيضاء وإبراء الأكمه والأبرص واحياء الموتى وغير ذلك من الآيات الواقعة من الرسل الماضين ثم لما تقاولوا بما تقاولوا واهتم بل اغتم رسول الله صلى الله عليه وسلّم ان لا ينزل عليه
مثل ما انزل على أولئك الرسل نزلت ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ لرسلنا الذين جاءوا بالآيات المقترحة مِنْ قَرْيَةٍ اى أهلها من القرى التي أرسلوا إليهم لذلك أَهْلَكْناها واستأصلناها ولو تأتى أنت بمقترحاتهم جميعا لما آمنوا لك يا أكمل الرسل مثل ما لم يؤمنوا لهم أَتزعم أنت يا أكمل الرسل انهم لو أتيت لهم عموم ما اقترحوا فَهُمْ يُؤْمِنُونَ بك كلا وحاشا انهم من شدة شكيمتهم معك وغلظ حجبهم وشدة قسوتهم وشقاقهم بالنسبة إليك لا يؤمنون بك أصلا غاية ما في الأمر انه لو أتيت أنت إياهم بمقترحهم لم يقبلوا منك ايضا البتة ولم يؤمنوا لك فاستحقوا الهلاك والاستئصال حينئذ وقد مضى أمرنا ونفذ حكمنا على ان لا نستأصل قومك ولا نعذبهم في النشأة الاولى لذلك لم ينزل عليك جميع ما اقترحوا منك
وَأنكروا رسالتك يا أكمل الرسل معللين بانك بشر مثلهم والبشر لا يكون رسولا الى البشر قل لهم نيابة عنا ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ رسولا على امة من الأمم الماضية إِلَّا قد أرسلناهم رِجالًا منهم متناهيين كاملين في الرجولية والعقل بالغين نهاية الرشد والتكميل نُوحِي إِلَيْهِمْ مثل ما أوحينا إليك ليرشدوا الناس الى ديننا وتوحيدنا ويوقظوهم من منام الغفلة ويهدوهم الى الصلاح والفوز بالفلاح وان أنكروا هذا قل لهم فَسْئَلُوا ايها المنكرون أَهْلَ الذِّكْرِ اى العلم والخبرة من أحباركم وقسيسيكم من المشتغلين بحفظ التورية والإنجيل وسائر الكتب الإلهية إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ايها الجاهلون المكابرون
وَان أنكروا رسالتك معللين بانك تأكل وتشرب مثلهم والرسول لا بد ان لا يأكل ولا يشرب مثل سائر الناس قل لهم ايضا نيابة عنا ما جَعَلْناهُمْ ما صيرناهم اى الرسل الماضين جَسَداً اى اجراما وأجساما لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ بدل ما يتحلل من اجزائهم ولا يشربون الشراب المحلل لغذائهم إذ هم أجسام ممكنة محدثة مفتقرة الى التغذي قابلة للنمو والذبول مشرفة الى الفناء والانهدام مثل سائر أجسام الأنام وَما كانُوا خالِدِينَ دائمين مستمرين ابدا بلا ورود موت عليهم وبلا تحليل تراكيبهم بل هم هلكى في قبضة قدرتنا وجنب وجودنا وحياتنا مثل سائر الهالكين
ثُمَّ بعد ما كذبهم المكذبون المنكرون صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ واوفينا لهم الموعود الذي قد وعدناهم من إهلاك عدوهم وانجائهم من بينهم سالمين فَأَنْجَيْناهُمْ على الوجه الذي عهدنا معهم العهود وَمَنْ نَشاءُ من اتباعهم الذين قد سبقت رحمتنا عليهم في حضرة علمنا وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ المصرين على البغي والعناد المنهمكين في الجور والفساد.
ثم قال سبحانه لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ يا معشر قريش كِتاباً جامعا لما في الكتب السالفة مع انه قد ذكر فِيهِ ذِكْرُكُمْ وشرفكم ونجابة عرقكم وطينتكم وكمال دينكم ونبيكم وظهوره على الأديان كلها أَفَلا تَعْقِلُونَ وتستعملون عقولكم بما فيه
فتدركون مزية كتابكم ورسولكم على سائر الكتب والرسل وشرف دينكم على عموم الأديان وبالجملة لا تبالوا ايها المترفون والمسرفون بترفهكم وتنعمكم ولا تغتروا بامهالنا إياكم ولا تأمنوا عن مكرنا معكم وحول عذابنا ونكالنا عليكم
وَاعلموا انا كَمْ قَصَمْنا وكثيرا مِنْ اهل قَرْيَةٍ قد قهرنا عليهم وكسرنا ظهورهم وبعدناهم عن أماكنهم التي هم يترفهون فيها بطرين لأنها قد كانَتْ ظالِمَةً خارجة أهلها عن مقتضى الأوامر والنواهي المنزلة منا على رسلنا أمثالكم وَبعد ما أخرجناها وأهلكناها قد أَنْشَأْنا بَعْدَها وبدلنا أهلها قَوْماً آخَرِينَ منقادين لحكمنا مطيعين لأمرنا
فَلَمَّا أَحَسُّوا وأدركوا بَأْسَنا بعد تعلق ارادتنا بانتقامهم ورأوا مقدمات عذابنا وبطشنا إِذا هُمْ مع شدة شكيمتهم ووفور قوتهم وقدرتهم مِنْها اى من قراهم وأماكنهم يَرْكُضُونَ ويهربون سريعا ركض الخيل من الأسد
ثم قيل لهم حينئذ على سبيل التهكم والاستهزاء لا تَرْكُضُوا ولا تهربوا ولا تعدوا ايها المترفهون المتنعمون البطرون الى اين تمشون عن متنزهاتكم وَارْجِعُوا إِلى ما اى الى أوطانكم وقراكم التي قد أُتْرِفْتُمْ ومتعتم فِيهِ وَاسكنوا في مَساكِنِكُمْ التي قد تمكنتم فيها طول دهركم لم تتركونها وتخرجون عنها لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ عن سبب الخروج والجلاء منها ما تجاوبونه ايها الهاربون ثم لما ضاقت عليهم انواع العذاب ولحقت بهم وأدركتهم ولم ينفعهم الفرار والتحرز
قالُوا متأسفين متحسرين يا وَيْلَنا وهلاكنا تعال تعال إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ متجاوزين خارجين عن مقتضى العدل الإلهي لذلك قد لحقنا ما لحقنا
فَما زالَتْ تِلْكَ الكلمة المذكورة يعنى يا ويلنا انا كنا ظالمين دَعْواهُمْ دعاءهم ونداءهم جارية على ألسنتهم على وجه الخضوع والتذلل التام والانكسار المفرط إذ هم قد قصدوا بها النجاة والخلاص مع انهم قد اعترفوا بذنوبهم في ضمنها وندموا عن عموم ما فعلوا بتكرارها ومع هذا لم ينفعهم ذلك لمضى وقت التوبة والندامة وفوات زمان التدارك والتلافي وبالجملة قد أخذناهم حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ اى صارت أجسامهم مثل المحصود الخامد من النبات كأنها ما شمت رائحة من الحيوة في وقت من الأوقات
وَكيف لا نأخذهم بظلمهم ولا نجعلهم محصودين خامدين جامدين إذ ما خَلَقْنَا السَّماءَ المزينة بزينة الكواكب كل منها معد مقدر لأمور لا يعرف تعديدها واحصاءها غيرنا وَايضا قد خلقنا الْأَرْضَ المزينة بزينة المعادن والنبات والحيوان والأشجار والأنهار وانواع الفواكه والأثمار كل منها مشتمل على حكم ومصالح لا يفصلها الا حضرة علمنا المحيط وَما يحصل بَيْنَهُما من امتزاج آثارهما وافعالهما من الغرائب التي تدهش منها العقول وتكل في وصفها الالسنة وانحسرت الصدور لاعِبِينَ عابثين اى ما جعلناهما وما بينهما وما امتزج منهما عبثا باطلا بلا طائل وبلا سرائر اودعنا فيهما وبدائع اضمرنا في خلقهما وظهورهما إذ الحكيم المتقن لا يفعل فعلا الا وقد أودع فيه من الحكم والمصالح ما لا يعد ولا يحصى فكيف يليق بجنابنا وينبغي بشأننا اتصاف أفعالنا المتقنة وآثارنا المحكمة باللهو واللعب وتدبيراتنا بالعبث الخالي عن الحكمة والمصلحة
مع انا لَوْ أَرَدْنا اى فرضنا وقدرنا ما استحال علينا وبشأننا وهو أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً ولعبا باطلا خاليا عن الفائدة مخلا لكمال عزتنا وحكمتنا وعلو شأننا وعظمتنا لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا اى من قبلنا ومن جملة أفعالنا وآثارنا الصادرة عن قدرتنا الكاملة وارادتنا الخالصة كلا وحاشا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ وما كنا مرتكبين العبث الخالي عن الفائدة سيما مع كمال قدرتنا ووفور علمنا على انواع الحكم
والمصالح في كل
لعل بَلْ نحن نَقْذِفُ بل اللائق المستحسن بنا المناسب بعلو شاننا ان نمحو ونبطل بِالْحَقِّ الذي هو شمس وجودنا ولمعات آثار فضلنا وجودنا ونسلطه عَلَى الْباطِلِ الذي هو الظل النابغ الآفل والعدم العاطل الزائغ الزائل الذي هو عبارة عن اظلال العالم وعن اغيار العكوس والسوى فَيَدْمَغُهُ اى يمحق الحق الباطل ويزهقه ويسقط عنه اسم الوجود المستعار ويلحقه الى ما هو عليه من العدم بلا عبرة واعتبار ليظهر عند المعتبر العارف ما ان هذه الحيوة الدنيا الا لهو ولعب وان الآخرة هي دار القرار فاعتبروا يا اولى الأبصار وكيف لا يمحقه ولا يلحقه بالعدم فَإِذا هُوَ اى الباطل في نفسه وفي حد ذاته زاهِقٌ هالك زائغ زائل ما شم رائحة من الوجود قط وَبالجملة اللائق لَكُمُ الْوَيْلُ والهلك وأنتم مستحقون له ايها الواصفون الجاهلون بقدر الله وبقدر حقيته مِمَّا تَصِفُونَ ذاته به من الأمور التي لا تليق بجنابه من ارتكاب العبث واسناد اللهو واللعب بذاته تعالى واشراك هذه الاظلال الهالكة والتماثيل الباطلة معه في الوجود تعالى عن ذلك علوا كبيرا
وَكيف تشركون ايها المشركون معه اظلاله وعبيده إذ لَهُ تعالى لا لغيره من العكوس والاظلال إيجادا وابداعا ملكا وتصرفا عموم مَنْ فِي السَّماواتِ اى عالم الأرواح المجردة عن الأبدان وَكذا عموم من في الْأَرْضِ من الأرواح المتعلقة بها وَكذا عموم مَنْ عِنْدَهُ سبحانه من الأرواح التي لا نزول لها ولا عروج كل من هؤلاء المذكورين متذللون عنده خاضعون خاشعون لديه سبحانه بحيث لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وأطاعته ساعة وَلا يَسْتَحْسِرُونَ اى لا يفترون ولا يضعفون عن إقامتها وإتيانها طرفة
بل هم يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وينزهون الله في عموم الأوقات والحالات عما لا يليق بشأنه بحيث لا يَفْتُرُونَ ولا يظهرون الضعف والعناء بحال بل قد أقاموها وواظبوا عليها طائعين متذللين خاشعين خاضعين وكيف لا يعبدون الله ولا يسبحونه وهم موحدون مخلصون لا المشركون المعاندون الذين قد اتخذوا آلهة من السماء كعبدة الكواكب
أَمِ اتَّخَذُوا بل قد أخذوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هو افحش من ذلك كعبدة الأوثان والأصنام قد اتخذوها آلهة وعبدوا لها كعبادة الله وادعوا ضمنا ان آلهتهم التي قد نحتوها بأيديهم او صاغوها من حليهم هُمْ يُنْشِرُونَ اى يخرجون الموتى من قبورهم إذ هم قد سموها آلهة وعبدوها كعبادة الله والا له لا بد وان يقدر على عموم المقدورات والمرادات ومن جملتها البعث والنشر بل من أجلها فلا بد لهم ان ينشروا
فكيف يثبتون أولئك المشركون تعدد الآلهة مع انه لَوْ كانَ فِيهِما اى في السماء والأرض آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ اى غير الله الواحد القهار للاغيار مطلقا لَفَسَدَتا واختل نظامهما ولم تبقيا على الهيئات المخصوصة المشاهدة البتة إذ المفهوم من الا له هو المستقل بالتصرف في الآثار بالإرادة والاختيار فكل من الآلهة المتعددة لا بدان تكون متصفة بجميع أوصاف الألوهية بالاستقلال فلا يمكنهم الاتفاق على امر من الأمور فَسُبْحانَ اللَّهِ الواحد الأحد الفرد الصمد المستقل في الألوهية والربوبية بلا شريك له في الملك بل في الوجود والتحقق رَبِّ الْعَرْشِ اى عروش عموم المظاهر المستوي عليها بالاستيلاء التام إذ لا ظهور لها الا منه سبحانه عَمَّا يَصِفُونَ من اتخاذ الولد والشريك والصاحبة والنظير ولتوحده في الوجود واستقلاله في التصرف
لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ إذ لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه وَهُمْ اى الشركاء الباطلة يُسْئَلُونَ عما صدر عنهم فكيف تليق بهم الألوهية والشركة معه سبحانه تعالى شأنه عما يصفه الواصفون
وجل جلال قدسه عما نسب اليه الملحدون الجاحدون المكابرون المعاندون ومع علو شأنه عما يصفونه سبحانه ووضوح برهانه وظهور وحدة ذاته واستقلاله في ألوهيته وربوبيته قد ترددوا فيها وفي توحيده
أَمِ اتَّخَذُوا بل قد أخذوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً شركاء له سبحانه لا واحدا بل متعددا وعبدوها كعبادته سبحانه ظلما وزورا جهلا وعنادا قُلْ يا أكمل الرسل إلزاما لهم وتبكيتا هاتُوا ايها المشركون المثبتون لله الواحد الأحد الفرد الصمد شريكا بُرْهانَكُمْ على وجود آلهة سواه سبحانه عقلا او نقلا ان كنتم من ذوى الألباب ومن اهل العقل والرشد وبالجملة لا سبيل الى الدليل العقلي إذ برهان التمانع قد قطع عرق الشركة بالمرة ولا الى النقلى ايضا إذ جميع الكتب والصحف الإلهية متطابقة في توحيد الحق ونفى الشركة عنه سبحانه قطعا إذ هذا الكتاب الجامع لجميع ما في الكتب السالفة المنزل على ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ اى عظة وتذكير يذكر من معى من المؤمنين من أصحابي وَكذا هو ذِكْرُ مَنْ قَبْلِي من امم الأنبياء الماضين لو صدقوه وقبلوا ما فيه لموافقة ما فيه بعموم ما في كتبهم وصحفهم لكنهم لا يصدقون عنادا حتى يهديهم الى الحق بَلْ أَكْثَرُهُمْ جاهلون لا يَعْلَمُونَ ولا يعرفون الْحَقَّ الصريح الظاهر في الآفاق بلا سترة وحجاب بل فَهُمْ لغلظ حجبهم وكثافة غشاوتهم مُعْرِضُونَ عن الحق منكرون له وبالجملة من لم يجعل الله له نورا فماله من نور.
ثم قال سبحانه كلاما جمليا مثبتا للتوحيد خاليا عن سمة التقليد مطلقا وَما أَرْسَلْنا من مقام جودنا وفضلنا مِنْ قَبْلِكَ يا أكمل الرسل مِنْ رَسُولٍ من الرسل الماضين إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أولا أَنَّهُ لا إِلهَ يعبد بالحق ويستحق للعبادة والإطاعة إِلَّا أَنَا المتعزز برداء العظمة والكبرياء المتفرد بكمال الجلال ودوام البقاء فَاعْبُدُونِ ايها الاظلال الهالكة والعكوس المستهلكة الباطلة وتذللوا نحوي خاضعين خاشعين إذ لا مرجع لكم غيرى وان ادعوا الشركة
وَقالُوا مستدلين عليها نحن نجد في التورية والإنجيل انه قد اتَّخَذَ الرَّحْمنُ الملائكة وعزيرا وعيسى وَلَداً والولد شريك لأبيه في فعله إذ هو سره وثمرته سُبْحانَهُ وتعالى عن أمثال هذه الهذيانات الباطلة بَلْ هم عِبادٌ مُكْرَمُونَ عنده محبوبون لديه
لذلك لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ اى لا يبادرون الى القول قبل قوله سبحانه ولا يبدلون ولا يغيرون قوله وحكمه كما هو دأب العبيد مع المولى وَكيف يسبقونه بالقول قبل قوله سبحانه وحكمه هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ جميع ما عملوا من خير وشر والمأمور المجبور لا يكون شريكا للآمر الجابر القادر القاهر وكيف لا يعملون بامره سبحانه
إذ هو يَعْلَمُ بعلمه الحضوري ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وما هو حاضر عندهم معلوم لديه من أحوالهم وأفعالهم وَكذا ما خَلْفَهُمْ وما هو غائب عنهم ومجهول لهم وَان خرجوا عن مقتضى امر سبحانه لا يَشْفَعُونَ ولا يقبل شفاعتهم إذ لا يشفع لهم عند الله بعد ما خرجوا عن مقتضى حكمه إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى سبحانه ورضى بشفاعة من يشفع لهم واذن وَكيف يشفع عنده سبحانه بغير اذنه ورضاه إذ هُمْ اى الشفعاء مِنْ كمال خَشْيَتِهِ سبحانه ومن غاية سطوته وهيبته وقهره مُشْفِقُونَ خائفون مرعوبون وجلون
وَمتى كان حال الشفعاء وخشيتهم على هذا المنوال مَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مستحق للعبادة مستقل في الألوهية مِنْ دُونِهِ سبحانه فَذلِكَ اى بمجرى قولهم هذا وان كان غير مطابق لاعتقادهم نَجْزِيهِ ونصليه جَهَنَّمَ البعد والحرمان ونيران الخيبة والخسران كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ الخارجين عن
مقتضى توحيدنا المسيئين الأدب معنا
أَينكرون وحدتنا ويثبتون لنا شريكا من مصنوعاتنا وينسبون بنا ولدا ظلما وزورا وَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا بنا بأمثال هذه الخرافات الباطلة ولم يعلموا كمال قدرتنا أَنَّ السَّماواتِ اى عالم الأسماء والصفات وَالْأَرْضَ اى عالم الطبيعة والعكوس والاظلال قد كانَتا رَتْقاً اى كان كل منهما مرتقا متضمما بلا تعدد وتكثر اما الأسماء والصفات فمندمجة مندرجة في الذات بلا هبوط وتنزل وظهور اثر واما الطبيعة العدمية قد كانت ساكنة في زاوية العدم بلا امتداد ظل الوجود عليها فَفَتَقْناهُما بالتجليات الحبية المنتشئة من الأسماء الذاتية والصفات الكمالية الفعلية المقتضية للظهور والانجلاء لحكم ومصالح قد استأثرنا بها وبالقبول والتأثر من اشعة التجليات وَان أردتم ان تنكشف لكم كيفية انتشاء الأشياء الكثيرة من الذات الواحدة المتصفة بالصفات والأسماء المتماثلة والمتقابلة فانظروا كيف جَعَلْنا مِنَ الْماءِ الواحد بالذات المشتمل على الأوصاف الكثيرة المندمجة فيه المنتشئة عنه بحسب الآثار والعكوس والاظلال الصادرة منه كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ إذ قد خلقنا وصيرنا كل شيء له احساس وتغذية وتنمية وازدياد وانتقاص من الماء خصه سبحانه بالذكر من بين العناصر إذ هو أقوى اسباب التبدلات والتشكلات واقبل الى قبول التصرفات والامتزاجات أَفَلا يُؤْمِنُونَ ويصدقون بهذا مع انه من اجلى البديهيات واظهر المحسوسات. ثم أخذ سبحانه في تعداد نعمه على خلص عباده امتنانا عليهم وتنبيها لهم كي يتفطنوا منها بوحدة ذاته وكمال قدرته وبسطته
فقال وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ التي هي الكرة الحقيقية المائلة بالطبع الى التدور والانقلاب رَواسِيَ شاخت مخافة أَنْ تَمِيدَ تتحرك وتضطرب وتضر بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها اى في تلك الرواسي فِجاجاً شقوقا واودية لتكون سُبُلًا ومسالك متسعة وطرقا واسعة عناية منا إياهم لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ من تلك الطرق الى ما يرومون من الأماكن البعيدة والبلدان النائية فيتجرون ويتبعون منها مطالبهم ومصالحهم
وَايضا قد جَعَلْنَا السَّماءَ المرفوع فوقهم سَقْفاً مَحْفُوظاً لهم فيها اوقات مزارعهم ومتاجرهم وسائر مصالحهم في البر والبحر إذ هي من أقوى اسباب معاشهم وَهُمْ عَنْ آياتِها الدالة على وحدة مبدعها وكمال قدرة مخترعها وموجدها مُعْرِضُونَ منصرفون منكرون لا يتفكرون فيها كي تصلوا الى زلال توحيدنا والى كمال قدرتنا وارادتنا
وَكيف لا يتفكرون في خلق السموات ولا يتدبرون في الآيات الدالة على وحدة صانعها وبالجملة كيف ينكرون أولئك المنكرون المسرفون وجود موجدها مع انه سبحانه هُوَ الَّذِي خَلَقَ وقدر لهم اللَّيْلَ سببا ووقتا لاستراحتهم ورقودهم وَالنَّهارَ لمعاشهم واكتسابهم وَجعل الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ سببين لإنضاج ما يتقوتون ويتفكهون وكُلٌّ من الشمس والقمر وسائر السيارات فِي فَلَكٍ من الأفلاك السبعة يَسْبَحُونَ يدورون ويسيرون بسرعة تامة دائما بلا قرار ولا سكون كل ذلك انما هي لتدبير مصالحهم وإصلاح معايشهم وهم لا يعلمون ولا يشكرون.
ثم قال سبحانه وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ يعنى ان النصارى قد ادعوا خلود عيسى وبقاءه بلا طريان موت عليه دائما كما كان الآن وكذا ادعوا خلود جميع من لحق بالملائكة من البشر رد الله عليهم على ابلغ وجه وآكده حيث قال ما جعلنا وقدرنا لبشر من نوعك يا أكمل الرسل الخلد والبقاء السرمدي لا من الذين مضونا قبلك ولا من الذين يأتون بعدك إذ الكل بشر محدث مركب وكل مركب لا بد ان ينهدم امتزاجه وينحل اجزاؤه ومزاجه ولو كان فرد من افراد البشر
المحدث قديما لكنت يا أكمل الرسل البتة أَتزعم وتردد يا أكمل الرسل فَإِنْ مِتَّ وعدمت عن الدنيا فَهُمُ الذين ادعى الجاهلون بقاءهم هم الْخالِدُونَ المقصورون على الخلود فيها بلا لحوق عدم عليهم كلا وحاشا لا يكون الأمر كذلك
بل كُلُّ نَفْسٍ ذات أجزاء وتركيب خيرة كانت او شريرة طويلة مدة عمرها او قصيرة باقية في اهل الأرض او ملحقة بالملإ الأعلى ذائِقَةُ كأس الْمَوْتِ مدركة مرارته محتملة اهوال السكرات وافزاعها وبالجملة لا ينجو من الموت احد وان علت رتبته وارتفعت مكانته بل كلكم هلكى في وقت ظهوركم ووجودكم المستعار وَانما نَبْلُوكُمْ ونختبركم في وجودكم هذا وفي نشأتكم هذه بِالشَّرِّ الغير المرضى عندنا وَالْخَيْرِ المرضى ليكون ابتلاؤنا إياكم فِتْنَةً لكم واختبارا منا إياكم لحكم ومصالح لنا فيها وَبعد ما اختبرناكم وابتليناكم في النشأة الاولى إِلَيْنا لا الى غيرنا إذ لا غير في الوجود تُرْجَعُونَ في النشأة الاخرى رجوع الظل الى ذي الظل والعكوس الى ذي الصور فنجازيكم فيها ونعامل بكم بمقتضى اختبارنا وابتلائنا إياكم في النشأة الاولى. ثم قال سبحانه امتنانا لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم
وَاذكر يا أكمل الرسل وقت إِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا حين اشتغالك بتلاوة القرآن او بتذكير الأصحاب وعظة اولى الباب المشمرين نحو الحق أذيال هممهم المستفيدين المسترشدين منك قصارى مقاصدهم التي هي التوحيد الإلهي إِنْ يَتَّخِذُونَكَ وما يأخذونك حين التفاتهم نحوك إِلَّا هُزُواً اى محل استهزاء وسخرية قائلا حينئذ بعضهم لبعض مستحقرين لشأنك أَهذَا الرجل الحقير الفقير الملحق بالأراذل والضعفاء الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ بالسوء وينكر على شفعائكم ويسئ الأدب معهم مع غاية حقارته وضعفه ورثاثة حاله وَبالجملة هُمْ مع شدة عمههم وسكرتهم ونهاية غيهم وغفلتهم بِذِكْرِ الرَّحْمنِ المنزه عن شوب الشك وريب التردد هُمْ كافِرُونَ منكرون وجوده وتحققه مع كمال ظهوره واستحقاقه بالالوهية والربوبية بالأصالة بخلاف معبوداتهم الباطلة الزائغة إذ هم مقهورون تحت قدرته تعالى مجبورون جنب ارادته واختياره لا قدرة لهم من أنفسهم أصلا فهم بالاستهزاء أحق وبالاستهانة والسخرية اولى وأليق ثم لما استعجل المنهمكون في بحر الضلال والإنكار التائهون في تيه العتو والاستكبار نزول العذاب وقيام الساعة وكذا جميع الوعيدات الواردة فيها على سبيل الاستهزاء والتهكم رد الله عليهم انكارهم واستعجالهم بأبلغ وجه وآكده
فقال خُلِقَ الْإِنْسانُ اى هذا النوع من الحيوان مِنْ عَجَلٍ يعنى من غاية استعجاله بالخير والشر كأنه متخذ مصنوع منه قل لهم يا أكمل الرسل نيابة عنا الى متى تستعجلون ايها المسرفون المغرورون سَأُرِيكُمْ عن قريب في هذه النشأة آياتِي اى بعضا من نقماتى التي هي من مقدمات عذاب الآخرة قيل هي وقعة بدر والمستعجلون هم القريش وسيأتى الساعة وعذابها بعد فَلا تَسْتَعْجِلُونِ ايها الضالون المسرفون المفسدون
وَبعد ما سمعوا من الرسول وأصحابه ما سمعوا يَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ الموعود والوقت المعهود وعينوا لنا وقت حلول العذاب وقيام الساعة إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعواكم هذه.
ثم قال سبحانه تفظيعا لهم وتهويلا عليهم لَوْ يَعْلَمُ ويطلع الَّذِينَ كَفَرُوا كيفية ما استعجلوا من العذاب وكميته حِينَ لا يَكُفُّونَ اى حين قد نزل عليهم حتما ولا يمكنهم حينئذ ان يدفعوا لا عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ لأنهم محاطون بها مغمورون فيها بحيث لا يسع لهم دفعها لا بأنفسهم وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ من الغير إذ كل نفس يومئذ رهينة بما
كسبت وبالجملة لو علموا هولها وفظاعتها لما استعجلوا لكنهم لا يعلمون لذلك استعجلوا اغترارا واستكبارا
بَلْ تَأْتِيهِمْ العذاب والساعة حين تأتيهم بَغْتَةً فجاءة ودفعة فَتَبْهَتُهُمْ اى تحيرهم وتدهشهم وقت ظهورها فصاروا حينئذ حيارى سكارى مدهوشين فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها إذ لا رد لقضاء الله ولا معقب لحكمه سيما بعد نزوله وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ ويمهلون حينئذ ان استمهلوا
وَبالجملة لا تبال بهم يا أكمل الرسل ولا تحزن على استهزائهم وسخريتهم إذ لَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ كثيرين قد مضوا مِنْ قَبْلِكَ قد استهزئت بهم أممهم مثل ما استهزئت بك قريش فَحاقَ وأحاط بالآخرة بِالَّذِينَ اى بالمستهزئين الذين سَخِرُوا مِنْهُمْ اى من الرسل وبال ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ويستسخرون وأضعاف ما لحق لأولئك المستهزئين الهالكين الماضين ستلحق لهؤلاء المعاندين المكابرين فلا تحزن عليهم ولاتك في ضيق مما يستهزؤن وان أنكروا إتمام العذاب وانزاله عليه
م قُلْ لهم يا أكمل الرسل نيابة عنا مَنْ يَكْلَؤُكُمْ ويحفظكم بِاللَّيْلِ وقت فراغكم ومنامكم وَالنَّهارِ وقت شغلكم وترددكم مَنْ نزول عذاب الرَّحْمنِ القادر على انواع القهر والانتقام بمقتضى جلاله لو لم يرحم عليكم حسب لطفه وجماله لكن يرحم عليكم فلم يعذبكم رجاء ان تنبهوا وتواظبوا على شكر نعمه وأداء حقوق كرمه بَلْ هُمْ من شدة غفلتهم وسكرتهم عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ الذي يحفظهم عن انواع المكروهات والمؤذيات مُعْرِضُونَ بحيث لا يتوجهون نحوه ولا ملازمون عبادته ولا يداومون شكره أيزعمون أولئك المصرون المسرفون ان يدفعوا عذابنا النازل عليهم بقوة نفوسهم
أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ اى تمنع عنهم العذاب مع انهم مِنْ دُونِنا بل شركاء لنا في الألوهية والربوبية كما زعموا او يشفعوا لهم عندنا كلا وحاشا ان يسع لآلهتهم هذا إذ لا يَسْتَطِيعُونَ أولئك التماثيل الهلكى نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ ولا يقدرون لدفع ما لحقهم ونزل عليهم من المكروهات عنهم فكيف عن غيرهم وَلا هُمْ اى آلهتهم مِنَّا يُصْحَبُونَ ويقربون إلينا حتى يشفعوا لهم او يدفعوا عذابنا عنهم بواسطة قربتهم وصحبتهم معنا وان تخيلوا ان امهالنا إياهم وآباءهم متنعمين مترفهين طول اعمارهم امارة على عدم أخذنا إياهم وعدم انتقامنا عنهم فما هو الا خيال باطل ووهم زائل زائغ مما قد سولت لهم أنفسهم بتغرير إبليس عليهم وتزويره
بَلْ نحن قد مَتَّعْنا هؤُلاءِ المسرفين المعاندين وَآباءَهُمْ الضالين المستكبرين حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ فارتكبوا بأنواع المعاصي والآثام مدة حياتهم فظنوا انهم مصونون عن الأخذ والانتقام ونزول العذاب أَيتوهمون من امهالنا إياهم هذا الموهوم فَلا يَرَوْنَ أَنَّا من مقام قهرنا وانتقامنا إياهم نَأْتِي الْأَرْضَ اى نبعث ونجلب جنود المسلمين على ارض الكفرة بحيث نَنْقُصُها ونخربها مبتدئين مِنْ أَطْرافِها الى ان وصل الى أدانيها وأقاصيها أَيزعمون ويتوهمون بعد ما أخذنا في تخريب أطراف بلادهم وتنقيصها فَهُمُ الْغالِبُونَ علينا وعلى جنودنا وجنود انبيائنا ورسلنا وما هو إلا زعم فاسد وتوهم باطل زائغ زائل فان ادعوا انا وآباؤنا دائما في كنف حفظ الله وجوار صونه مدة أعمارنا فمن اين تخوفنا وتنذرنا أنت من إنزال الله العذاب علينا بغتة مع انه لم يعهد لا لنا ولا لآبائنا منه تعالى أمثال هذا
قُلْ يا أكمل الرسل في جوابهم إِنَّما أُنْذِرُكُمْ وما أخوفكم انا من تلقاء نفسي بل بِالْوَحْيِ المنزل على من عند الله المشتمل على انذاركم وتخويفكم ثم قال سبحانه توبيخا عليهم وتقريعا وَكيف يرشدكم ويهديكم الرسول المرسل
إليكم المؤيد بالآيات والمعجزات وينذركم بالوعيدات الهائلة ايها المقصورون على الصم الحقيقي والاعراض الفطري الجبلي إذ لا يَسْمَعُ المرشد الهادي ولا يسع في وسعه وان بالغ في الإرشاد والهداية الصُّمُّ الدُّعاءَ والذكر المتضمن لانواع الهداية والإرشاد ولا يسع له اسماعهم إِذا ما يُنْذَرُونَ الا وقت قابليتهم والتفاتهم الى الإنذار والتخويف وأنتم ايها الحمقى من شدة صممكم وقسوتكم خارجون عن قابلية الإنذار والإرشاد والوعد والوعيد
وَالله يا أكمل الرسل لَئِنْ مَسَّتْهُمْ وظهرت عليهم نَفْحَةٌ واحدة ورائحة قليلة مِنْ عَذابِ رَبِّكَ نازلة على سبيل المقدمة والأنموذج لَيَقُولُنَّ صارخين صائحين متضرعين معترفين بذنوبهم قائلين يا وَيْلَنا وهلكنا تعال إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ خارجين عن حدود الله مستوجبين للمقت والهلاك أدركنا فقد حان حينك وقرب أوانك
وَبمجرد اعترافهم بظلمهم لا نأخذهم ولا نعذبهم حينئذ بل نَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ العدل السوى المستقيم بحيث لا عوج والانحراف لها الى جانب أصلا المعدة لِيَوْمِ الْقِيامَةِ لنوزن بها فيها اعمال العباد صالحها وفاسدها ثم نجازيهم على مقتضى ما ظهر منها فَلا تُظْلَمُ ولا تنقص نَفْسٌ شَيْئاً من جزائها ولا تزاد عليها ايضا سواء كان خيرا او شرا ثوابا او اعقابا بمقتضى عدلنا القويم وصراطنا المستقيم وَإِنْ كانَ العمل او الظلم وزنه مِثْقالَ حَبَّةٍ كائنة مِنْ خَرْدَلٍ قد أَتَيْنا بِها مع انها لا اعتداد لها عرفا وجازينا صاحبها عليها تتميما لعدلنا القويم وتوفية لحقوق عبادنا وَكَفى بِنا حاسِبِينَ اى حسابنا لحفظ حقوق عبادنا إذ لا يعزب عن حيطة حضرة علمنا المحيط شيء منها وان قل وخفى.
ثم قال سبحانه على سبيل العظة والتذكير وَلَقَدْ آتَيْنا من مقام فضلنا وجودنا مُوسى الكليم وَأخاه هارُونَ الْفُرْقانَ اى التورية الفارق بين الحق والباطل وَلكمال فرقه وفصله صار ضِياءً يستضئ به عموم المؤمنين الموحدين من المليين التائهين في ظلمات الغفلات والجهالات وانواع الضلالات وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ منهم المتذكرين الوقوف بين يدي الله يوم العرض الأكبر
وهم الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ اى بضمائرهم وسرائرهم كما يخشون منه سبحانه بظواهرهم وعلنهم وَمع ذلك الخوف المستوعب لجوانحهم وجوارحهم هُمْ مِنَ السَّاعَةِ الموعود إتيانها المحقق وقوعها وقيامها حقا حتما محققا مُشْفِقُونَ خائفون مرعوبون كأنها واقعة آتية عليهم اليوم
وَهذا القرآن الفرقان الجامع ايضا ذِكْرٌ وتذكير لعموم المؤمنين الموحدين من امة محمد عليه السّلام مُبارَكٌ كثير الخير والبركة للموقنين المخلصين منهم الواصلين الى مرتبة الفناء في الله قد أَنْزَلْناهُ من كمال فضلنا ولطفنا الى محمد خاتم الرسالة ومتمم مكارم الأخلاق ومكمل دائرة النبوة عليه من الصلوات والتحيات ما هو الاولى والأحرى أَفَأَنْتُمْ لَهُ ولكاتبه مُنْكِرُونَ ايها المسرفون المستكبرون
وَلَقَدْ آتَيْنا أعطينا ايضا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ اى كمال عقله ورشده الى حيث أيقظنا من سنة الغفلة فأخذ لطلب المعارف والحقائق وسلوك طريق التوحيد والتوجه نحو الحق مِنْ قَبْلُ اى قبل موسى وهارون وَقد كُنَّا بِهِ وبكمال استعداده وقابليته لحمل أعباء الرسالة والنبوة وانكشافه بسرائر التوحيد عالِمِينَ بحضرة علمنا المحيط مثبتين في لوح قضائنا المحفوظ
اذكر يا أكمل الرسل وقت إِذْ قالَ جدك ابراهيم الخليل الجليل لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ حين جذبه الحق نحو جنابه وهداه الى بابه مستفهما على سبيل الإنكار والتقريع
ما هذِهِ التَّماثِيلُ الباطلة والهياكل الزائغة الزائلة الَّتِي أَنْتُمْ مع كونكم من زمرة العقلاء المجبولين لمصلحة التوحيد والعرفان لَها عاكِفُونَ عابدون متذللون مع انها ما هي الا جمادات لا شعور لها ولا حركة فكيف المعرفة واليقين وعبادة الفاضل للمفضول المرذول في غاية السقوط عند ذوى النهى واولى الباب
ثم لما تفرسوا منه الرشد التام ووجدوا قوله معقولا محكما قالُوا في جوابه ما نعرف نحن استحقاق هؤلاء التماثيل للعبادة والألوهية ولانكشف سرائرها غير انا قد وَجَدْنا آباءَنا وأسلافنا لَها عابِدِينَ فنعبدها كما عبدوها مع انهم قد كانوا من ذوى الفطنة والرشد فنعتقد نحن انهم قد انكشفوا باسرارها وبالجملة ما لنا شغلة باستكشافها سوى ان نعبد بما عبد أولئك الاسلاف الراشدون المهديون
قالَ ابراهيم بعد ما انكشف بالحق الصريح وظهر عنده ضلالهم وضلال آبائهم لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ ايها الحمقى المنهمكون في بحر الغفلة والغرور وَآباؤُكُمْ ايضا اى تابعكم ومتبوعكم وأصلكم وفرعكم متوغلين فِي ضَلالٍ مُبِينٍ وغفلة عظيمة من الهداية وسلوك طريق الحق ثم لما سمعوا منه ما سمعوا من التضليل والتجهيل
قالُوا له أَجِئْتَنا ايها المدعى بِالْحَقِّ اى بالجد الصريح والنص الواضح المبين أَمْ أَنْتَ في تضليلك وتجهيلك إيانا مِنَ اللَّاعِبِينَ بنا المستهزئين بنا
قالَ ابراهيم لا لعب ولا سخرية في امور الدين سيما في معرفة الألوهية والربوبية وبالجملة ما هذه التماثيل العاطلة أربابكم الذين قد اوجدوكم واظهروكم من كتم العدم بَلْ رَبُّكُمْ وموجدكم هو رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اى موجد العلويات والسفليات ومربيهما واحد احد صمد فرد وتر لا تعدد له ولا اثنينية فيه متصرف بالاستقلال في ملكه وملكوته إذ هو الَّذِي فَطَرَهُنَّ وابدعهن باختياره وانفراده بلا سبق مادة ومدة وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ اى على الأمور التي قد بينت لكم واوضحتها عندكم مِنَ الشَّاهِدِينَ اى من ارباب الشهادة المتحققين بمرتبة الكشف واليقين الحقي لا من اصحاب التقليد والتخمين
وَبعد ما جرى بينه وبينهم ما جرى سفهوه واستهزؤا به ونسبوه الى الخبط والجنون وانصرفوا عنه وعن قوله متعجبين فذهبوا الى مجامعهم ومعابدهم ومعايدهم التي قد كانوا يجتمعون فيها يوم العيد لعبادة الأصنام قال ابراهيم عليه السّلام في نفسه مقسما مؤكدا مبالغا تَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ اى لاحتالن انا وامكرن لان اكسر أَصْنامَكُمْ ومعبوداتكم ايها الجاهلون لتفتضحوا أنتم وهؤلاء الأباطيل الزائغة بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا وتنصرفوا مُدْبِرِينَ عن مجمعكم ومعبدكم
ثم لما ذهبوا الى معيدهم دخل ابراهيم كنيستهم ومعبدهم التي فيها أصنامهم وأوثانهم فَجَعَلَهُمْ وصير أصنامهم كلها جُذاذاً قطعا منكسرة وأجزاء متلاشية إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ اى لم يكسر الصنم الكبير من الأصنام فقط ليكون سببا لإلزامهم وافحامهم لدى الحاجة لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ اى الصنم الكبير يَرْجِعُونَ يراجعون له ويستفسرون منه عن كسر الأصنام إذ هم قد اعتقدوه أعظم الآلهة والا له لا بد ان يجيب لهم جميع حوائجهم وحاجاتهم
ثم لما رجعوا من معيدهم ودخلوا الى معبدهم وكنيستهم للعبادة والتقرب نحو الآلهة وجدوها مجذوذة منكسرة متفرقة الاجزاء قالُوا من فرط حزنهم واسفهم مستبعدين مستحسرين مَنْ فَعَلَ هذا الفعل الفظيع والأمر الشنيع الفجيع بِآلِهَتِنا ومعبوداتنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ الخارجين من شعائر ديننا الجاحدين لآلهتنا
قالُوا اى السامعون منهم للسائلين قد سَمِعْنا فَتًى نكروه تحقيرا له واهانة عليه قد كان يَذْكُرُهُمْ اى الآلهة بالسوء دائما ويصيب عليهم وينكرهم
يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ
ثم لما انتشر الخبر واجتمعوا في المعبد مزدحمين متشاورين في انتقامه واستقر رأيهم بعد ما تمادى مشورتهم الى ان قالُوا متفقين فَأْتُوا بِهِ اى بإبراهيم عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ ورؤس الملأ والاشهاد لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ يحضرون ويجتمعون يعنى جميع العبدة لقتله وإهلاكه لينال كل منهم نصيبه من نصر الالهة
ثم لما حضر نمرود واجتمع معه اشراف مملكته وازدحم العوام والخواص واحضروه لينتقموا عنه قالُوا له أولا على سبيل التعيير والتقريع أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا الفعل الشنيع والأمر الفظيع الفجيع بِآلِهَتِنا ومعبوداتنا يا إِبْراهِيمُ المرذول المجهول
قالَ في جوابهم بمقتضى اعتقادهم وزعمهم انا عبد مألوه مربوب وهم آلهة معبودون كيف أقدر أن افعل بهم هذا بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا أشار الى الصنم الكبير الغير المنكسر قد فعل هذا معهم هكذا لئلا يشاركوا معه في المعبودية والألوهية وان شككتم انه هل فعل هذا أم انا فَسْئَلُوهُمْ اى الآلهة إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ يعنى ان اعتقدتم نطقهم وتكليمهم مع انهم آلهة ومن لوازم الألوهية التكلم والتنطق بل أنتم تعتقدون ان هؤلاء خلقوا عموم اهل التكلم واللسان فهم اولى وأحق بجواب سؤالكم هذا
ثم لما سمعوا منه ما سمعوا فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ متأملين اى رجع كل منهم الى وجدانه ونفسه متفكرا متدبرا في قوله وكلامه فَقالُوا اى كل منهم في سره ونجواه إِنَّكُمْ ايها الجاهلون الغافلون عن قدر الألوهية والربوبية أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ المقصورون على الخروج عن مقتضى العقل الفطري والرشد الجبلي ما هذا الا تماثيل مصنوعة لكم منحوتة بأيديكم من اين يوجدكم ويحقكم بل أنتم موجدو هؤلاء ومخترعوهم
ثُمَّ لما تفرسوا بخطئهم وتفطنوا بحقية ابراهيم وصدقه في مقاله قد أزعجتهم الغيرة البشرية والحمية الجاهلية الى المراء والمجادلة معه لذلك نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ يعنى بعد ما عملوا أعلى الأمر وأسفله وفرقوا بين الحق والباطل فرقا ظاهرا أرادوا ان ينقلبوا الأمر وعكسوه عنادا ومكابرة حيث قالوا لَقَدْ عَلِمْتَ ايها المجادل المفتون ما هؤُلاءِ الآلهة يَنْطِقُونَ إذ هم جمادات لاحس لهم ولا شعور كيف يتيسر لهم التكلم والتنطق وبعد ما اعترفوا بجمادية آلهتهم وعدم قابليتهم للنطق والتكلم
قالَ ابراهيم موبخا عليهم ومقرعا أَما تستحيون وما تخجلون ايها الضالون المكابرون فَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ الواحد الأحد المتوحد بالالوهية والربوبية المستقل بعموم التصرفات الواقعة في عالم الغيب والشهادة ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ اى أصناما وأوثانا لا يرجى منهم النفع ولا الضر
ثم قال على سبيل الضجرة والاستكراه عن أمرهم والتأسف على ضيعة عقلهم المفاض لهم من ربهم لمصلحة المعرفة والايمان أُفٍّ لَكُمْ اى قبحا لكم ايها المطرودون المردودون عن زمرة العقلاء وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ المستقل للنفع والضرر وجلب انواع الخيرات ودفع اصناف المضار أَفَلا تَعْقِلُونَ ايها المتخذون لله شركاء ولا تستعملون عقولكم الموهوبة لكم لكسب المعارف والحقائق لتتفطنوا الى سرائر التوحيد الخالي عن شوب التخمين وشين التقليد ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور ثم لما سمعوا منه التعيير والتشنيع الشنيع قد ثارت نار حميتهم واشتد غيظ غيرتهم
حيث قالُوا بعد ما شاوروا كثيرا في كيفية إهلاكه وانتقامه حَرِّقُوهُ إذ لا عذاب اهول وأفزع منه وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ بتحريق هذا الظالم ولما كان تعذيبهم إياه لأجل آلهتهم لذلك اختاروا تعذيبه بالنار لان التعذيب بالنار مخصوص بالإله. كما قال صلّى الله عليه وسلّم لا يعذب بالنار غير خالقها وفعلوا معه كذلك إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ
ناصرين آلهتكم بأخذ انتقامهم عنه
ثم لما حفروا البئر وبنوا الحظيرة وجمعوا الحطب واوقدوا النار علقوا المنجنيق ووضعوه فيها ورموه إليها قُلْنا حينئذ مخاطبين للنار منادين لها لحفظ خليلنا يا نارُ المجبولة المطبوعة بالإحراق والإهلاك كُونِي بَرْداً واتركي طبع الحرق والحرارة وَلا تضرى لخليلنا بالبرودة المفرطة ايضا بل صيرى سَلاماً معتدلة ذات سلام وسلامة عَلى إِبْراهِيمَ ولا تضرى له
وَبعد ما علموا وشاهدوا ان النار لا يضره بل قد صارت له بردا وسلاما روحا وريحانا أفحموا والزموا وكيف لا يفحمون وقد أَرادُوا بِهِ كَيْداً ومكرا لينتقموا عنه ويبطلوا دعواه التوحيد فعاد عليهم الإلزام والوبال والابطال فغلبوا هنالك فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ فيما قصدوا له وانقلبوا من مجمعهم خاسرين خائبين خسرانا مبينا وخيبة عظيمة
وَبعد ما فعلوا مع خليلنا ابراهيم ما فعلوا قد نَجَّيْناهُ من مقام جودنا ولطفنا إياه وَصاحبناه مع ابن أخيه لُوطاً وبعثناهما عناية منا إياهما إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها حيث صيرناها كثير الخير والبركة وذات الأمن واليمن والامان والايمان لِلْعالَمِينَ اى لعموم من ينزل ويئول إليها من اهل الدين والدنيا الا وهي الشأم التي هي منازل الأنبياء والأولياء ومقر السعداء والصلحاء ومهبط الوحى الإلهي لذلك ما بعث بنى الا فيها او في حواليها وما دفن الا فيها او في أطرافها وجوانبها قيل نزل ابراهيم عليه السّلام بعد ما جلا من وطنه بفلسطين من الشأم ولوط بالسدوم وبينهما مسيرة يوم وليلة
وَبعد ما قد مكناه في الأرض المقدسة وَهَبْنا لَهُ من رحمتنا تفريحا لقبه من كربة الغربة وتشريحا لصدره من حزنها وكآبتها وتقرير العينية ولديه إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً
ليزيل حزنه وكربة غربته بهما قد وهبنا له اسحق اجابة لدعائه بقوله رب هب لي من الصالحين وانما أعطيناه يعقوب نافلة منا إياه وزيادة فضل وعطية تكريما له وامتنانا عليه وَبالجملة كُلًّا منه ومن ولديه قد جَعَلْنا صالِحِينَ للنبوة والرسالة وقبول سرائر التوحيد واسرار الألوهية والربوبية بقلوبهم
وَلصلاحهم واستعدادهم لقبول عموم الخيرات قد جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً وقدوة هادين مهديين يَهْدُونَ الناس بِأَمْرِنا ووحينا الى دوال توحيدنا وَبعد ما جعلناهم قدوة هادين أَوْحَيْنا وألهمنا تتميما لهدايتهم وإرشادهم إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ والإتيان باعمال الصالحات وعموم الطاعات والعبادات لتكون وسيلة مقربة لهم الى وحدة ذاتنا وَاوحيناهم خاصة إِقامَ الصَّلاةِ المتضمنة لتوجهم نحو الحق لجميع القوى والحركات والأركان والجوارح وعموم الآلات وَإِيتاءَ الزَّكاةِ المصفية لقلوبهم عما سوى الحق وَهم بمقتضى أمرنا ووحينا إياهم قد كانُوا لَنا خاصة بلا رؤيتهم الوسائل والأسباب العادية في البين عابِدِينَ متذللين متواضعين مخلصين بظواهرهم وبواطنهم وبعموم أفعالهم وحركاتهم
وَلُوطاً آتَيْناهُ من كمال فضلنا وجودنا معه حُكْماً قطعا للخصومات وفصلا للخطوب والمهمات وَعِلْماً لدنيا متعلقا بسرائر الأمور ورموزها وإشاراتها الدالة على وحدة الصانع الحكيم وَعلى سرسريان هويته الذاتية على صفائح عموم ما ظهر وبطن ومن كمال فضلنا إياه قد نَجَّيْناهُ مِنَ فتنة الْقَرْيَةِ الَّتِي قد كانَتْ أهلها تَعْمَلُ الْخَبائِثَ والفعال الشنيعة والخصال الخسيسة الخبيثة المذمومة عقلا وشرعا عرفا وعادة المسقطة للمروءة بالمرة الا وهي التعري بين اظهر الناس واللواط والضراط على الملأ وبالجملة إِنَّهُمْ من غاية قسوتهم وغفلتهم كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ مغمورين بين انواع الفسوق منغمسين بأصناف المعاصي والآثام
وَبعد ما انتقمنا عنهم
وأهلكناهم باشد العذاب قد أَدْخَلْناهُ ومن معه ممن سبقت لهم منا الحسنى فِي حوزة رَحْمَتِنا وكنف حفظنا وجوارنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ لعبادتنا المقبولين في حضرتنا
وَقد نجينا ايضا من كمال لطفنا وجودنا نُوحاً وقت إِذْ نادى ودعا متوجها إلينا متضرعا نحونا مِنْ قَبْلُ حين كذبه قومه واستهزؤا معه وضربوه ضربا مؤلما بقوله رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا فَاسْتَجَبْنا لَهُ دعاءه وانجحنا مطلوبه فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ الذي هو الطوفان
وَحين اضطروا وأشرفوا على الهلاك ناجانا فزعا فجيعا بقوله يا رب انى مغلوب فانتصر لذلك قد نَصَرْناهُ وجعلناه منتصرا ولقبناه نجيا ناجيا مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا الدالة على عظمة ذاتنا وكمالات أسمائنا وصفاتنا وذلك انه حين دعاهم الى الايمان والتوحيد وهداهم الى صراط مستقيم وهم قد امتنعوا عن القبول وبالجملة إِنَّهُمْ من شدة شكيمتهم وغلظ غيظهم مع اهل الحق قد كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ كأنهم مغمورون فيه متخذون منه فَأَغْرَقْناهُمْ لذلك أَجْمَعِينَ تطهيرا للأرض من فسادهم وقلعا لعرق غيهم وعنادهم عنها
وَاذكر يا أكمل الرسل في كتابك قصة داوُدَ وَابنه سُلَيْمانَ وقت إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ وزرع القوم إِذْ قد نَفَشَتْ ودخلت فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ الآخر ليلا فأكلته فتنازعا ورفعا الأمر إليهما واستحكما منهما فحكم داود بالغنم على صاحب الزرع بناء على ان صاحب الغنم لا بد له ان يضبط غنمه لئلا يخسر وَقد كُنَّا لِحُكْمِهِمْ اى لحكم داود إياهم اى لأصحاب الزرع بالغنم شاهِدِينَ مطلعين اطلاع شهود وحضور وبعد ما حكم ما حكم وكان ابنه سليمان عليه السّلام حاضرا عنده سامعا حكمه
فَفَهَّمْناها اى قد ألهمنا الحكومة الحقة والفتوى المحكمة في هذه القضية سُلَيْمانَ وهو يومئذ ابن احدى عشر سنة فقال الأرفق ان يدفع الغنم الى اصحاب الحرث لينتفعوا من ألبانها وأصوافها والحرث الى اصحاب الغنم ليقوموا بسقيها وحفظها ورعايتها حتى يعود الى الذي كان ثم يترادان ويتدافعان فقال داود سليمان القضاء ما قضيت فرجع عن حكمه وحكم بحكم ابنه وَان كنا كُلًّا منهما قد آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً اى رشدا صوريا ومعنويا حسب قابليتهما واستعدادهما وَكيف لا قد سَخَّرْنا مَعَ داوُدَ تفضلا منا إياه وتكريما الْجِبالَ الى حيث يُسَبِّحْنَ معه ويقدس الله عما لا يليق بجنابه حين اشتغل داود بتسبيح الله وتقديسه ازديادا لثوابه ورفعا لدرجته وَايضا قد سخرنا له الطَّيْرَ اى الطيور كلها يتفق معه حين اشتغاله بتسبيح الله وتنزيهه وَبالجملة قد كُنَّا به وبأمثاله فاعِلِينَ لخلص عبادنا من الأنبياء والأولياء وكذا لعموم من توجه إلينا من عبادنا فلا تتعجبوا منا أمثال هذا ولا تستبعدوا عن قدرتنا إبداعها واختراعها
وَايضا قد عَلَّمْناهُ من مقام جودنا إياه صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ اى الدروع وما يلبس لدفع الضرر حين الحرب والقتال وقد كانت الدروع حينئذ صفائح فحلقها داود وسردها بالهام الله إياه وتعليمه انما علمناه حلقها وسردها لِتُحْصِنَكُمْ وتحفظكم مِنْ بَأْسِكُمْ من جراحات السهام والسنان إذ هو ادفع من الصفائح وأخف منها فَهَلْ أَنْتُمْ ايها المنعمون المتنعمون شاكِرُونَ لوفور نعمنا إياكم
وَكذا قد سخرنا من كمال فضلنا ولطفنا لِسُلَيْمانَ الرِّيحَ مع كونها عاصِفَةً سريعة السير والحركة آبية عن التسخير قد سخرناها له بحيث تَجْرِي بِأَمْرِهِ وحكمه سريعة إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا وكثرنا الخير فِيها لساكنيها وكذا لجميع من يأوى إليها الا وهي
ارض الشأم فكان يسير مع جنوده متمكنين على بساط قد كان فرسخا في فرسخ منسوج من الإبريسم قد عملت الجن له حيث شاء ثم يعود من يومه الى منزله وَلا تستبعدوا منا أمثال هذا إذ قد كُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ تعلقت ارادتنا بإيجاده عالِمِينَ بأسباب وجوده وظهوره فنوجده على الوجه الذي نريده ونجريه بمقتضى حكمتنا وقدرتنا
وَقد سخرنا لسليمان ايضا مِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ البحار ويخرجون منها نفائس اللئالئ والجواهر تتميما لعظمته وتوفيرا لخزانته وَيَعْمَلُونَ له ايضا عَمَلًا دُونَ ذلِكَ
الغوص من بناء الابنية الرفيعة والقصور المنيعة واختراع الصنائع الغريبة والهياكل البديعة والتشكيلات العجيبة المبتدعة وَكُنَّا لَهُمْ من قبل سليمان حافِظِينَ مشغلين مشرفين إياهم لا يمكنهم ان يفسدوا في أعمالهم وأشغالهم ويزيغوها بمقتضى اهويتهم وطباعهم
وَاذكر يا أكمل الرسل في كتابك هذا أخاك أَيُّوبَ الذي ابتلاه الله بأنواع المحن والبلايا فصبر عليها وازداد ألمه واشتد الأمر عليه فاضطر الى التضرع والتفزع وبث الشكوى الى الله وقت إِذْ نادى رَبَّهُ مشتكيا اليه مناجيا له متضرعا إياه قائلا أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ يا ربي وتنحت عنى أقاربي وذوو أرحامي وجميع رحمائي وَأَنْتَ تبقى على رحيما مشفقا لأنك أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فأدركني بلطفك إذ لا طاقة لي ولا صبر بعد اليوم وقد بلغ الجهد غايته
فَاسْتَجَبْنا لَهُ دعاءه فَكَشَفْنا عنه ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ مؤلم مزعج وَبعد ما قد شفيناه وأزلنا عنه مرضه وعموما ما يؤذيه قد آتَيْناهُ أَهْلَهُ وأحيينا الذين هلكوا بسقوط البيت عليهم من أولاده وأعطينا له بدل أمواله التي قد تلفت بالحوادث والنوائب وَقد زدنا عليه تفضلا وامتنانا مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا إياه وزيادة العام واحسان منا عليه وَليكون ما فعلنا به وأعطينا إياه ذِكْرى تذكرة وحنا لِلْعابِدِينَ الذين صبروا على مشاق التكاليف ومتاعب الطاعات والعبادات ليفوزوا بأفضل المثوبات وأكرم الكرامات
وَاذكر يا أكمل الرسل في كتابك الجامع جدك إِسْماعِيلَ ذا الصبر والرضاء بعموم ما جرى عليه من القضاء وَاذكر ايضا إِدْرِيسَ صاحب دراسة الحكمة المتقنة وانواع المعارف والحقائق وَاذكر ذَا الْكِفْلِ المتكفل بعبادة الله في عموم أوقاته وحالاته بحيث لا يشغله شاغل مطلقا عن توجهه ورجوعه نحو الحق قيل هو الياس وقيل يوشع بن نون وقيل نبي آخر مسمى به لأنه كان يتكفل صيام ايام حياته وبالجملة قد كان كُلٌّ من هؤلاء السعداء المقبولين المذكورين مِنَ الصَّابِرِينَ بقضاء الله ونزول بلائه كما انهم كانوا شاكرين لآلائه ونعمائه
وَلذلك قد أَدْخَلْناهُمْ فِي سعة رَحْمَتِنا امتنانا عليهم إِنَّهُمْ في أنفسهم مِنَ الصَّالِحِينَ لنبوتنا وخلافتنا المصلحين أعمالهم وأقوالهم وعقائدهم وأحوالهم ومن الواصلين الى درجات القرب واليقين
وَاذكر يا أكمل الرسل أخاك ذَا النُّونِ صاحب الحوت وهو يونس بن متى عليه السّلام وقت إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً على قومه مراغما لهم حين وعظهم فلم يتعظوا فشق عليه الأمر فغضب عليهم فلم يكظم غيظه فدعا بنزول العذاب عليهم وبعد ما ظهر اماراته خرج من بينهم تفريجا لغضبه وتوسيعا لصدره فَظَنَّ بخروجه من بينهم أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ وعلى تضييقه وتغميمه ولا يمكننا حبسه في مكان آخر فهرب من بينهم ولقى البحر فركب على السفينة فسكنت الريح فقال البحارون ان فيها عبدا آبقا فاقترعوا فخرجت القرعة باسمه فالقى نفسه في البحر فالتقمه الحوت على الفور فَنادى وناجى صريخا صريعا ضريعا فجيعا مغمورا فِي الظُّلُماتِ التي قد تراكمت عليه إذ هو في بطن
الحوت والحوت في الماء وكان الليل مظلما أَنْ اى انه لا إِلهَ يعبد بالحق ويستحق للعبادة استحقاقا ذاتيا ووصفيا إِلَّا أَنْتَ يا من خضعت لك الرقاب وانتكست دون سرادقات جلالك أعناق ذوى النهى والألباب سُبْحانَكَ ربي انزهك عن جميع ما لا يليق بشأنك ولا ينبغي بجنابك إِنِّي بواسطة خروجي من بين قومي بغير اذنك ووحيك الى مع انك قد أرسلتني إليهم وبعثتني أنت بفضلك بين أظهرهم نبيا ذا دعوة وهداية قد كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ الخارجين عن مقتضى حكمك وأمرك لذلك ضيقت الأمر على يا ربي وحبستني في محبس مضيق وسجن عميق ولا مخلص لي عن هذا المضيق سوى عفوك وكرمك يا ربي وبعد ما تاب إلينا قادما ورجع نحونا مخلصا متضرعا واستخلص منا مضطربا مضطرا
فَاسْتَجَبْنا لَهُ وأجبنا دعاءه فاخرجناه من بطن الحوت وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ العظيم والكرب الكبير وَكَذلِكَ نُنْجِي عموم الْمُؤْمِنِينَ المخلصين الذين قد أخلصوا في انابتهم ورجوعهم نحونا من عموم كروبهم واحزانهم
وَاذكر ايضا يا أكمل الرسل أخاك زَكَرِيَّا الذي قد بلغ من الكبر والهرم الى حيث قد ايس عن من استخلفه من نطفته وقنط عن من يقوم مقامه من نسله فشكى الى الله وقت إِذْ نادى رَبَّهُ متمنيا متحسرا مفاجعا آيسا رَبِّ يا من رباني بأنواع اللطف والكرم الى ان كبرت وأشرفت اركان جسمي الى الانهدام وأجزاء جسدي الى الانحلال والانخرام لا تَذَرْنِي فَرْداً مقطوع الفرع منسى الذكر بلا ولد يخلفني ويرث عنى ويحيى اسمى من بعدي وَان جرى حكمك على هذا ومضى قضاؤك على ذا هكذا فلا أبالي به إذ أَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ وأكرم المستخلفين وبعد ما تضرع وتمنى ما تمنى وتضرع
فَاسْتَجَبْنا لَهُ عناية منا إياه وفضلا وَوَهَبْنا لَهُ من كمال جودنا يَحْيى المحيي لاسمه وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ بل نفسه بعد ما افسدهما الدهر وأخرجهما من قابلية الولادة والإيلاد وصيرنا زوجته شابة ولودا بعد ما قد كانت عجوزا عقيما إظهارا لكمال قدرتنا ووفور حولنا وقوتنا وانما فعلنا بالأنبياء المذكورين بما فعلنا بهم من كمال اللطف والكرم ومحض الفضل والإحسان إِنَّهُمْ من كمال توجههم وتحننهم نحونا قد كانُوا في عموم أوقاتهم وحالاتهم يُسارِعُونَ ويبادرون فِي الْخَيْراتِ ويسابقون الى الطاعات المقبولة عندنا وَمع ذلك يَدْعُونَنا في مناجاتهم بنا وفي خلواتهم معنا رَغَباً وَرَهَباً راغبين إلينا راجين منا عفونا وغفراننا راهبين عنا خائفين من صولة سطوة قهرنا وغضبنا وَبالجملة هم في عموم أحوالهم قد كانُوا لَنا خاشِعِينَ متذللين مخبتين ولذا نالوا ما نالوا بسبب خصائلهم هذه من جزيل العطاء والفوز بشرف اللقاء والبقاء بعد الفناء
وَاذكر في كتابك يا أكمل الرسل أختك العفيفة مريم عليها السّلام الَّتِي قد أَحْصَنَتْ وحفظت فَرْجَها من الحلال والحرام وصبرت على مشقة العزوبة بلا ميل منها ولا داعية الى الشهوة تقربا الى الله مع تحمل انواع المتاعب والمشاق في طريق توحيده وبعد ما قد بالغت في الحصن والمحافظة وبلغت في العفة غايتها فَنَفَخْنا فِيها أمرنا حامل روحنا يعنى جبرائيل عليه السّلام بان ينفخ في جيبها مِنْ رُوحِنا فنفخ فسرى الى جوفها فحبلت بعيسى عليه السّلام وَبعد ما وضعت حملها قد جَعَلْناها اى مريم وَابْنَها عيسى آيَةً عجيبة غريبة دالة على كمال قدرتنا وحكمتنا خارقة للعادة وهي إيجاد الولد بلا أب وايلاد المرأة بلا لمس فحل فصار هذا كرامة وإرهاصا لمريم ومعجزة لعيسى عليهما السّلام وعبرة لِلْعالَمِينَ من حسن حالهما ورفعة رتبتهما وعلو شأنهما
قال سبحانه مخاطبا
لجماهير الأنبياء والرسل وأممهم إِنَّ هذِهِ الملة التي هي ملة الإسلام وطريق التوحيد والعرفان أُمَّتُكُمْ اى قدوتكم وقبلتكم وقصارى أمركم والحكمة في جبلتكم وخلقكم ما كانت الا أُمَّةً واحِدَةً بحيث لا تعدد فيها أصلا وَأَنَا رَبُّكُمْ الواحد الأحد الفرد الصمد فَاعْبُدُونِ ايها الاظلال المنعكسة من أسمائي وأوصافي وتوجهوا نحوي بغاية التذلل والخضوع ونهاية الانكسار والخشوع
وَبعد ما قد كانوا اى العكوس والاظلال في اصل فطرتهم امة واحدة منتشئة من شئون الوجود وتطوراته الغير المحدودة بلا اختلاف فيهم أصلا تَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ اى امر دينهم قطعا قطعا وتحزبوا أحزابا وفرقا متفاوتة حسب تفاوت استعداداتهم المترتبة على الأسماء الذاتية المتقابلة والشئون المتفاوتة والتجليات المتخالفة الإلهية فوقع النزاع بَيْنَهُمْ فاختلفوا اختلافا كثيرا على سبيل المراء والمجادلة وبالجملة لا تبال بهم وباختلافهم وتحزبهم إذ كُلٌّ منهم إِلَيْنا راجِعُونَ رجوع الأمواج الى البحر والاظلال الى الأضواء وبعد ما اختلفوا وتعددوا
فَمَنْ يَعْمَلْ منهم مِنَ الصَّالِحاتِ المرضية لنا المقبولة عندنا وَهُوَ مُؤْمِنٌ موقن بتوحيدنا مصدق لرسلنا وكتبنا فَلا كُفْرانَ ولا تضييع منا لِسَعْيِهِ الذي قد سعى في طريقنا طلبا لمرضاتنا بل وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ حافظون حارسون عموم ما صدر عنه من الخيرات الموجبة للمثوبات ورفع الدرجات فنعطيه ما استحق له من الثواب بلا فوت شيء منها
وَاعلموا ان حفظنا وحراستنا حَرامٌ ممنوع منا محرم من عندنا عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها اى أهلها قهرا منا وغضبا إياهم بسبب أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ ولا يتوجهون إلينا ولا يؤمنون بتوحيدنا ولا يصدقون بكتبنا ورسلنا بل يكذبون الكل وينكرون له وهكذا يتمادى حرمتنا ومنعنا إياهم الى ان قد ظهرت اشراط الساعة ولاحت إماراتها
حَتَّى إِذا فُتِحَتْ وفتقت يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ اى سدهما الذي قد سد بينهما وبين سائر الناس وَهُمْ بعد فتح السد ورفع المانع من شدة عداوتهم مع الناس وحرصهم على تخريب البلاد مِنْ كُلِّ حَدَبٍ وتلال وجبال يَنْسِلُونَ ويسرعون الى الناس كالذباب الجوع
وَبعد ما اقْتَرَبَ ودنا الْوَعْدُ الْحَقُّ والموعود المحقق الذي هو فتح السد وخروجهما من جملة أشراطه وعلاماته وقامت القيمة فَإِذا هِيَ اى الحالة والقصة حينئذ انها شاخِصَةٌ حائرة مدهوشة مضطربة أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا في النشأة الاولى بالله وكذبوا هذا اليوم الموعود لهم فيقولون يومئذ متمنين متحسرين خائبين يا وَيْلَنا وهلاكنا تعال فالآن وقت حلولك قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ عظيمة مِنْ مجيء هذا اليوم في نشأتنا الاولى بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ خارجين عن مقتضى الحكم الإلهي منكرين لهذا اليوم سيما بعد اخبار الرسل وإنزال الكتب ثم خاطب سبحانه الكافرين الذين قد أشركوا بالله مع انه سبحانه لم ينزل عليهم سلطانا خطابا عاما شاملا للعابدين ومعبوداتهم
فقال إِنَّكُمْ ايها المشركون الجاهلون بقدر الله وعلو شأنه وَعموم ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ من الاظلال والتماثيل التي قد اتخذتموهم آلهة وادعيتم استحقاقهم للعبادة والإطاعة أنتم وآلهتكم كلكم جميعا حَصَبُ جَهَنَّمَ وحطبها ووقودها أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ ورود الانعام في الأودية والاغوار بزجر تام وعنف مفرط
لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً كما زعمتم واعتقدتم ايها الحمقى العمى الظالمون ما وَرَدُوها لا أنتم إذ آلهتكم ينقذونكم منها البتة ولا هم أنفسهم لأنهم آلهة والإله لا يدخل النار لكن تردون أنتم وهم جميعا عابدا ومعبودا تابعا ومتبوعا فظهر انهم ما كانوا آلهة بل عبادا أمثالكم
وَكُلٌّ منكم ومنهم بشؤم ما اقترفتم فِيها خالِدُونَ مخلدون معذبون دائما
لَهُمْ فِيها اى لأهل النار في النار زَفِيرٌ تنفيس شديد وأنين طويل وَهُمْ فِيها من شدة الأهوال والافزاع لا يَسْمَعُونَ اى لا يسمع كل منهم أنين الآخر وحنينه من شدة فزعه وهوله. ثم لما نزل هذه الآية اعترض ابن الزبعرى بان عزيرا وعيسى والملائكة من المعبودين فهم ايضا في النار مع انهم من الأنبياء والملك وهم محفوظون منها على زعمكم نزل بعده
إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ عناية مِنَّا الخصلة الْحُسْنى والمنزلة السنيا والدرجة العليا والجنة المأوى أُولئِكَ السعداء المخصوصون بمزيد لطفنا وجودنا عَنْها اى عن النار مُبْعَدُونَ لسبق رحمتنا إياهم وعفونا عنهم
بحيث لا يَسْمَعُونَ من غاية البعد منها حَسِيسَها اى صوتها الخفى كدوي النحل مع ان أهلها يصرخون فيها ويفزعون في غاية الشدة ولا يصل إليهم لغاية بعدهم عنها وَهُمْ كيف يسمعون حسيس النار مع انهم مترفون متنعمون في الجنة فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ من اللذات الروحانية والمشتهيات النفسانية عناية من الله إياهم خالِدُونَ دائمون مستمرون فيها بلا طريان ضد وعروض منافر وكيف يسمعون ويحزنون أولئك الآمنون من حسيس النار مع انهم من فرط فرحهم وسرورهم
بحيث لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وهو وقت النفخة الاخيرة في الصور مع انها في نهاية الهول وغاية الفظاعة وإذا لم يشوشهم تلك الهائلة الفظيعة العامة فكيف الحسيس وَبعد دخولهم في الجنة الموعودة لهم تَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ مسلمين مرحبين مهنئين إياهم قائلين لهم هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي قد كُنْتُمْ تُوعَدُونَ به في نشأتكم الاولى ايها المؤمنون الآمنون الفائزون فأنتم فيها قد كنتم تؤمنون بها فالآن قد نلتم بما آمنتم وفزتم بما أرسلتم
اذكر يا أكمل الرسل يَوْمَ نَطْوِي ونلف السَّماءَ المبسوطة المنشورة كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ اى طيا مثل طي الصحيفة الحافظة الحارسة للمكتوب فيها يعنى نلفها لفا بعد ما قد نشرناها نشرا بحيث لا يبقى لها اسم ولا رسم إذ طي الكتاب كناية عن نسيان الشيء واعدامه وعدم تذكره بالمرة وبالجملة كَما بَدَأْنا وأبدعنا العالم أَوَّلَ خَلْقٍ وإيجاد من العدم بلا سبق مادة ومدة نُعِيدُهُ عليه كذلك بحيث صار كان لم يكن موجودا أصلا وقد كان اعدامه كذلك وَعْداً صادرا منا لازما عَلَيْنا إنجازه إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ ذلك الموعود المعهود من لدنا البتة انجازا وإيفاء
وَكيف لا نفنيه ولا نعدمه مع انا لَقَدْ كَتَبْنا وأثبتنا فِي الزَّبُورِ اى في عموم الزبر والكتب المنزلة من لدنا مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ اى بعد الحضور والثبوت في حضرة علمنا المحيط ولوح قضائنا المبرم أَنَّ الْأَرْضَ اى ارض الجنة المعدة لأهل المحبة والولاء ومستقر ارباب العناية والبقاء. اعلم ان لكل نفس من النفوس البشرية ارض معدة في فضاء الجنة انما وصلوا إليها بالإيمان والأعمال الصالحة المقربة لهم في الحق فمتى لم يتصفوا بالإيمان والمعارف والتوحيد لم يصلوا إليها وإذا لم يصلوا إليها بسبب كفرهم وظلمهم يَرِثُها من الكفار أماكنهم المعدة لهم فيها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ المقبولون عندنا المتصفون بشعائر التوحيد والايمان العارفون بمعالم الدين ومسالك العرفان المرضيون الراضون بعموم ما جرى عليهم من قضائنا مزيدا على حصصهم التي قد كانت لهم فيها
إِنَّ فِي هذا اى ما ذكر في القرآن من المواعظ والتذكيرات والرموز والإشارات لَبَلاغاً وتبليغا بليغا الى أقصى مراتب التوحيد لِقَوْمٍ عابِدِينَ عارفين بمسالك اليقين واماراته
وَلما كان هذا الكتاب هاديا لعموم البرايا الى أعلى مدارج التوحيد لذلك ما أَرْسَلْناكَ يا أكمل الرسل
المستخلف عنا المتخلق باخلاقنا المظهر للتوحيد الذاتي إِلَّا رَحْمَةً اى ذا رحمة شاملة وعطف عام لِلْعالَمِينَ اى لعموم من في العالم الى انقراض الدنيا إذ لا بعث بعدك ولا دين بعد دينك بل أنت مكمل دائرة النبوة والرسالة ومتمم مكارم الأخلاق ودينك ناسخ لعموم الأديان فلا بد لجميع اهل الملل والنحل ان يتدينوا بدينك كي يصلوا الى ما قد جبلهم الحق لأجله الا وهو التوحيد والمعرفة وبعد ما قد صرت خاتم النبوة والرسالة وصار دينك ناسخا لعموم الأديان
قُلْ لقاطبة الأنام على سبيل الدعوة العامة والتبليغ التام إِنَّما يُوحى إِلَيَّ من ربي بعد ما جعلني مبعوثا الى عموم عباده أَنَّما إِلهُكُمْ ايها الواصلون الى مرتبة التكليف إِلهٌ واحِدٌ احد صمد فرد وتر لا يقبل التعدد مطلقا ولا يعرضه نقصان أصلا ولا يشغله شأن عن شأن بل كل يوم وآن هو في شأن من شئون الكمال لا كشأن سابق ولا لاحق فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ منقادون له مسلمون وحدته مخلصون في أطاعته وانقياده ايها العابدون
فَإِنْ تَوَلَّوْا واعرضوا عن التوحيد بعد تبليغك إياهم قصارى أمرهم في دينهم فَقُلْ لهم يا أكمل الرسل قد آذَنْتُكُمْ وأعلمتكم باذن الله وهديتكم حسب وحيه سبحانه عَلى سَواءٍ اى على طريق سوى وصراط مستقيم موصل الى توحيد الحق ومعرفته وان انحرفتم عن جادة التوحيد وانصرفتم بما اقترفتم عن مسالكه فقد استوجبتم المقت والعذاب البتة وَإِنْ أَدْرِي وما اعلمه انا وما أدرك أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ نزول ما تُوعَدُونَ من العذاب والنكال وبعد ما تحقق نزوله وتقرر وقوعه باخبار الله والهامه على لا تغتروا بامهاله إياكم ولا تظنوه عن غفلته عنكم تعالى عن ذلك كيف يعرض له سبحانه الغفلة والذهول
إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ منكم اى الذين يجهرون ويعلنون به مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ايضا منكم ما تَكْتُمُونَ وتخفون في نفوسكم من خواطركم واسراركم
وَإِنْ أَدْرِي وما اعلم ايضا لَعَلَّهُ اى لعل امهاله سبحانه إياكم وتأخيره العذاب عنكم فِتْنَةٌ منه سبحانه واختبار لَكُمْ هل تتفطنون الى توحيده أم لا سيما بعد ورود اصناف المنبهات وانواع الروادع والزواجر البليغة عما ينافيه ويخالفه وَما ادرى ايضا لعل امهاله إياكم مَتاعٌ وتمتيع لكم إِلى حِينٍ لتزدادوا فيه إثما كبيرا ومعصية كثيرة تستجلبوا بها أعظم العقوبات وتستحقوا بسببها أشد العذاب والنكبات.
ثم لما تمادى النزاع بين اهل مكة والرسول صلّى الله عليه وسلّم وتكثرت الوقائع والحادثات امر سبحانه حبيبه صلّى الله عليه وسلّم بالاستعانة منه والتفويض اليه بقوله قالَ يا أكمل الرسل بعد ما قد أصروا على إنكارك ملتجأ إلينا مناجيا معنا دعاء عليهم رَبِّ يا من رباني بكرامة الرسالة والتبليغ والإرشاد والتشريع احْكُمْ بِالْحَقِّ الصريح الصحيح المقرر الواقع عندك بيني وبين هؤلاء المعاندين معى وأنت تعلم انهم لا ينزجرون الا بنزول العذاب الموعود عليهم انزل بمقتضى قهرك وجلالك عليهم ما ينزجرون به من العذاب وَبالجملة رَبُّنَا وان كان هو الرَّحْمنُ الذي قد وسعت رحمته كل شيء حتى الكافر الشقي النافى له سبحانه لكنه هو الْمُسْتَعانُ والمعين المنان والناصر الديان لأهل المعرفة والايمان القادر المقتدر عَلى ازالة ما تَصِفُونَ الله به ايها المعاندون المفرطون مما لا يليق بشأنه ولا ينبغي بجنابه وبالجملة أولئك المشركون هم الهالكون في تيه الجحود والعدوان المنهمكون في بحر الضلال والكفران
544
خاتمة سورة الأنبياء عليهم السّلام
عليك ايها الطالب القاصد لاقتصاد الأحوال واعتدال الأفعال والأقوال ان تستعين بالله في كل ما صدر عنك وجرى عليك وتسنده الى الله سبحانه بلا رؤية الوسائل في البين وتتخذه وكيلا وتفوض عموم أمورك في جميع شئونك واطوارك اليه سبحانه إذ هي له اصالة وان صدر عنك صورة إذ لا وجود لك في ذلك فكيف ما يترتب عليه من الأفعال والآثار وبالجملة فلك ان تميت نفسك عن عموم ما عداك وبعثك اليه امارة نفسك وشيطان وهمك وخيالك إذ هي مضلتك ومغويتك تبعدك عما يعينك وتغريك الى ما لا يعنيك وترديك فلك ان تميز بين تسويلات الهوى وأماني النفس الملهية عن المولى وبين آيات الهدى وعلامات التقى الموصلة الى الدرجات العلى والفوز بشرف اللقاء وان شئت ان تخلص نفسك من جنود الهوى وعساكر الغفلات من الأوهام والخيالات فاعتزل عن اظهر الناس وابعد عن ملأهم واحذر عن مخالطتهم ومصاحبتهم واتخذ لنفسك خلوة تنجيك عن عموم ما يغويك ويؤذيك إذ المرء ما يذوق حلاوة الوحدة ولذة التوحيد الا في الوحدة والعزلة والفرار عن الخلطة سيما في هذا الزمان الذي قد غلب فيه النفاق وكثر الخلاف والشقاق. ربنا هب لنا من لدنك جذبة تنجينا من لذات الدنيا ومشتهياتها وانسابك يخلصنا عن موانسة غيرك انك على عموم ما تشاء قدير وإنجاح آمال المؤملين جدير
[سورة الحج]
فاتحة سورة الحج
لا يخفى على الموحدين المشمرين أذيال هممهم للتوجه الى كعبة الذات والوقوف عند عرفات الأسماء والصفات والطواف حول البيت الحرام المشتمل على جميع الأركان والمقامات الجامعة لجميع الابعاد والجهات ان الحج الحقيقي والطواف المعنوي الأصلي انما هو بالانخلاع عن لوازم الصور الجسمانية وكذا عن مقتضيات الهياكل الهيولانية بالموت الإرادي والفناء الاختياري المنبعث عن الشوق المفرط نحو الحق المنزه عن تراكم الإضافات المؤدية الى التعدد والكثرات ولهذا قد وضع سبحانه للسالكين القاصدين نحو قبلة الذات مقصدا مخصوصا وعين لهم وجهة معينة وأمرهم بالتوجه إليها والوقوف عندها والطواف حولها من كل فج عميق ومرمى سحيق الا وهي اودية الإمكان وبوادي التعينات واغوار اللذات والشهوات الوهمية البهيمية متزودين زاد التقوى راكبين على مطايا التوفيق متقربين الى الله بذبح كبائش انانياتهم وأنفسهم متكفئين محرمين لابسين. لباس الموت الاضطراري منسلخين عن لوازم الحيوة المستعارة الصورية المبطلين عموم القوى والآلات عن مقتضياتها محرمين على نفوسهم جميع المشتهيات النفسانية الناشئة من الشهوية والغضبية بحيث لا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ثم أمرهم بوقوف عرفات المعرفة لهم سرائر الأسماء والصفات ليتأتى لهم الطواف حول كعبة الذات إذ لا سبيل إليها الا من طرق الأسماء والصفات التي هي العرفات والمعرفات حقيقة ثم لما كان الطواف الحقيقي والحج المعنوي مسبوقا برفع جميع التعينات ونفى مطلق الإضافات والكثرات ولا يتم هذا على الوجه الأتم الأكمل الا في النشأة الاخرى والطامة الكبرى حذرهم سبحانه عنها أولا ليتهيأوا لها ويتزودوا بزاد يناسبها فقال مناديا لهم على سبيل التذكير متيمنا باسمه العلى الكبير بِسْمِ اللَّهِ المدبر لأمور عباده بأحسن التدبير الرَّحْمنِ عليهم بحفظهم
545
Icon