ﰡ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (٢) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٣) إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (٤) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥).قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) قَالَ بَعْضُهُمْ: إن أبا بكر وعمر - رضي اللَّه عنهما - اختلفا في شيء بحضرة رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فارتفعت أصواتهما، فنزل قوله - تعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ...) إلى آخر ما ذكر من قوله: (لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ).
وذكر عن الحسن في قوله - تعالى -: (لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) أي: لا تذبحوا قبل ذبح النبي يوم النحر، وذلك أن ناسًا من المسلمين ذبحوا قبل صلاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يوم النحر.
وقال قتادة: ذكر لنا أن رجالا كانوا يقولون: لو أنزل كذا وكذا، أو صنع كذا وكذا، فنزلت هذه الآية، وأمرهم ألا يسبقوا نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بقول ولا عمل حتى يبين اللَّه - تعالى - بيانه، وأمثال ذلك قد قالوا، واللَّه أعلم.
وأصل ذلك عندنا من قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا...) الآية، أي: يَا أَيُّهَا الذين آمنوا اعلموا أن لله الخلق والأمر، لا تقدموا أمرًا، ولا قولا، ولا فعلا، ولا حكمًا ولا نهيًا سوى ما أمر اللَّه - تعالى - به ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وغير ما نهى عنه؛ بل اتبعوا أمره ونهيه، وراقبوه على ما آمنتم به وأقررتم بأن له الخلق والأمر، فاحفظوا أمره ونهيه، ولا تخالفوه ولا رسوله في شيء من الأمر والنهي، فهذا يدخل فيه كل شيء وكل أمر من القول، والفعل، والقضاء والحكم، والذبح، وغير ذلك؛ على ما ذكرنا من إيمانهم بأن له الخلق والأمر في الخلق؛ إذ مثل هذا الخطاب لو كان لواحد خاص لكان حكمه يلزم
وعلى ذلك ما روي عن مسروق أنه دخل على عائشة - رضي اللَّه عنها - فأمرت الجارية أن تسقيه، فقال: إني صائم -وهو اليوم الذي يشك فيه- فقالت له: قد نهي عن هذا، وتلت قوله - تعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) في صيام ولا غيره.
اعتبرت عائشة - رضي اللَّه عنها - عموم الآية في النهي عن التقدم بين يدي الله ورسوله ومخالفة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في كل قول أو فعل.
وكذلك روي عن أبي عبيدة معمر بن المثنى قال في قوله: (لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) أي: لا تعجلوا بالأمر والنهي دونه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي: اتقوا مخالفة أمر اللَّه ونهيه قولا وفعلا، واتقوا مخالفة رسوله فيما يأمركم بأمر اللَّه ونهيه، وفي كل ما دعاكم إليه (إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ) لأقوالكم (عَلِيمٌ) بأفعالكم وأعمالكم، ولا قوة إلا باللَّه.
ثم لم يفهموا مما ذكر في قوله: (بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) الجوارح ولا العدد في اليد كما فهموا من ذلك في الخلق، فما بالهم يفهمون ذلك من قوله: (خَلَقْتُ بِيَدَيَّ)، أي: خلقته على علم مني بما يكون منه من خلاف أو معصية، لم أخلقه عن جهل بما يكون منه، وهو ما ذكر في قوله - تعالى -: (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)، و (خَبِيرٌ)، أي: عن علم بأحوالهم وما يكون منهم أنشأهم لا عن جهل بذلك، فعلى ذلك هذا، كما فهموا من قوله: (لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ) أمر اللَّه ونهيه دون الجوارح والعدد، واللَّه الموفق.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ (٢)...) إلى قوله: (لِبَعْضٍ) قَالَ بَعْضُهُمْ: إن الآية نزلت في أبي بكر وعمر - رضي اللَّه عنهما - اختلفا في شيء بحضرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فارتفعت أصواتهما.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: إنها نزلت في قوم كانوا إذا سئل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن شيء قالوا فيه قبل قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.
ثم إن كان الخطاب بذلك للذين آمنوا فهو على وجهين:
أحدهما: أن ذلك منه ابتداء محنة امتحنهم بذلك وأمرهم به من غير أن كان منهم شيء من ذلك من التقدم بين يديه، ورفع الصوت، والجهر له بالقول، ولله - تعالى - أن يمتحن ويأمر وينهى من شاء بما شاء ابتداء؛ امتحانًا منه لهم، وهو ما ذكرنا من نهي الرسل - عليهم السلام - عن الشرك والمعاصي وإن كانوا معصومين عن ذلك؛ لأن العصمة لا تمنع النهي؛ لأن العصمة إنما تكون عصمة إذا كان هناك أمر ونهي؛ فعلى ذلك جائز أن يكون ما ذكر من النهي عن التقدم، والرفع بالصوت، والجهر بالقول، وإن لم يكن منهم شيء مما ذكر ابتداء محنة منه لهم، واللَّه أعلم.
ويحتمل أنه خاطب هَؤُلَاءِ الصحابة - رضي اللَّه عنهم - بذلك؛ ليتعظ بذلك من يشهد مجلسه من المنافقين وغيرهم من الكافرين؛ إذ كان يشهد مجلسه أهل النفاق وسائر الكفرة؛ لئلا يعاملوا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بمثل معاملة بعضهم بعضا، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ) ذكر هذا؛ ليكونوا أبدًا [متيقظين] بين يدي رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حذرين، معظمين له في كل وقت؛ لئلا يكون منهم في وقت من الأوقات ما يجري مجرى الاستخفاف به والتهاون على السهو والغفلة فيحبط ذلك أعمالهم؛ لأن هذا الصنيع برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يكفر صاحبه، ولا يكون معذورًا، وإن فعله على السهو والغفلة؛ لأن له قدرة الاحتراز، وأمكن التحذر، وإن كانوا معذورين فيما بينهم على غير التعمد والقصد، ولا مؤاخذة لهم برفع اللَّه - تعالى - المؤاخذة عنهم فيما بينهم، ولم يرفع في حق النبي - عليه أفضل الصلوات - مع أن الكل في حد جواز المؤاخذة، واللَّه أعلم.
وذكر الكرابيسي فقال: ومن حكمة الآية عند قوم حبوط الأعمال بالكبائر؛ على ما روي عن الحسن قال: أما يشعر هَؤُلَاءِ الناس أن عملا يحبط عملا، واللَّه يقول: (يَا أَيُّهَا
وقيل: المراد من الآية أن يتأذى بشؤم تلك المعصية إلى أن يهون عليه ارتكاب الكبيرة، يستحقرها حتى يخف عليه الكفر فيكفر؛ فتصير المعصية الأولى -وإن قلت- سببًا لحبوط ثواب أعماله، فإن أساس كل خطير حقير.
ونحن نقول: إن المعصية لا تحبط الطاعة، ولكن هو استخفاف بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ونحو ذلك.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٣) دلت هذه الآية أن الآيتين اللتين تقدم ذكرهما من قوله - تعالى -: (لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ)، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ)، وقوله: (وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ) في أهل النفاق، فأما أصحابه الذين صحبوه وآمنوا به، وعرفوا أنه رسول، رب العالمين، فلا يحتمل أن يكون منهم ما ذكر من رفع الصوت عنده، وجهر القول له، والنداء له باسمه من بُعْدٍ، إنما ذلك به فعل من ذكرنا من أهل النفاق والشرك، فأما الذين آمنوا به وصدقوه وعرفوا أنه رسول فلا يحتمل منهم سوى التعظيم له، والتوقير، والتشريف؛ لما عرفوا أن نجاتهم وشرفهم وعزهم في الدنيا والآخرة بتعظيمه وتوقيره، فكيف يحتمل عنهم ذلك؟ بل كانوا لا يتجاسرون التكلم بين يديه فضلا من أن يرفعوا أصواتهم، ويقدموا بين يديه، أو النداء من بعد، والله الموفق.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى) هذا وصف المؤمنين، امتحن قلوبهم للتقوى فوجدها صافية خالصة لذلك، والامتحان - هاهنا - هو التصفية والإخلاص؛ يقال: امتحن الذهب: إذا أخلص وصفى الصافي منه والخالص من غيره.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) ظاهر.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (٤) هذا وصف من ذكرنا من أهل الشرك والنفاق.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: إن نفرا من الأعراب جاءوا، وقالوا: ننطلق إلى هذا الرجل - يعنون: محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - - فإن يكن رسولا فنحن أسعد الناس به، وإن يكن ملكًا نعيش في جناحه، فأتوا إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فجعلوا ينادونه من وراء الحجرات: يا مُحَمَّد؛ فنزلت هذه الآية.
وقال بعضهم : كان النبي صلى الله عليه وسلم سبى ذراري بني تميم ونسائهم، فأتوا يطلبون منه تخلية سبيل أولئك وإعتاقهم وردّهم إليهم، فنادوه من رواء الحُجرات، فأعتق بعضهم، وفدى بعضا، فنزلت الآية.
وقوله: (أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ). وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ... (٥) لأن ذلك أعظم لقدره، وأجل لمنزلته، وأعرف لحقه، وأحفظ لحرمته.
ثم قوله: (أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) يحتمل وجوهًا:
أكثرهم لا يعرفون قدره ومنزلته، وإن كان قليل منهم يعرفون ذلك، وهم المؤمنون.
والثاني: أكثرهم لا ينتفعون بما يعقلون.
والثالث: أكثرهم لا يعقلون أنه رسوله، وهم الأتباع والسفلة من الكفرة، وإنما يعرف القليل منهم، وهم الرؤساء المعاندون.
وفي هذه الآية وفي قوله - تعالى -: (أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ) دلالة أن قد يلحق المرء حكم الكفر ويحبط العمل إذا خرج مخرج الاستخفاف وإن لم يعلم به ولم يقصد، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (٦) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (٧) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٨) وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٩) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٠).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) جميع أهل التأويل أو عامتهم على أن الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط، بعثه رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إلى بني المصطلق، وإلى قوم سواهم؛ لجباية الصدقات، وكان بينه وبين أُولَئِكَ القوم عداوة في الجاهلية، فخرجوا يتلقونه، فخافهم، فرجع، فقال: إن القوم قد منعوا الصدقات، فبعث رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إليهم بعد ذلك خالد بن الوليد لجباية الصدقات، فوجدهم يصلون ويعملون الطاعات، واجتمعوا وجمعوا له الصدقات وجبوها وسلموها إليه، فرجع إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بها، فنزل قوله - تعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ
وفي الآية الأمر بالتثبت في نبأ الفاسق فيما يحدث من الأمور من بعد؛ فدل أن الآية نزلت لبيان الحكم في نبأ الفاسق ابتداء، واللَّه أعلم.
ولأنه يحتمل أن يكون ذلك الرجل منافقًا ولم يأمر اللَّه - تعالى - بالتثبت في خبر المنافق، ولم يشرع ذلك؛ لأن النفاق يكون في الضمير فلا يظهر ذلك؛ فأما الفسق فإنه يظهر فأمر لنا بالتثبت فيه؛ فدل أن الآية لم تنزل في ذلك الرجل؛ إذ لا يحتمل عن المنافق أن يزور على المسلمين مثل ما ذكر منه دل أن ما قاله أهل التأويل فيه وهم.
ثم في الآية دلالة قبول خبر الواحد إذا كان عدلا؛ لأنه لو لم يقبل خبره إذا كان عدلا لم يكن لذكر الفسق فائدة سوى الشتم، والشتم سفه؛ فلا يجوز أن يوصف اللَّه - تعالى - به فدل ذكر الفسق على أن هذا الحكم وهو رد الشهادة مختص باسم الفسق، وأن العدل لا يشاركه فيه حتى لا يكون ذكر الفسق سفهًا لما تعلق به بيان حكم شرعي يختص بالفاسق، ولا يعرف ذلك دون ذكره، فأما متى كان الحكم عامًّا في الفاسق والعدل عند الانفراد، فكان ذكر الفاسق مع شتمه لا يليق بالحكمة؛ فدل ما ذكرنا، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ) أي: تصيبوا قومًا بجهالة في الظاهر بسبب تهمة الفسق، فأمَّا في الحقيقة فإنه يجوز أن تصيب ذلك بخبر الواحد، لكن الأحكام وقبول الأخبار فيما بين الخلق لم توضع على الحقائق، وإنما وضعت على الظواهر، وكذلك قبول الشهادات، والحكم بها، وجميع الشرائع التي جعلت في الناس إنما هو على الظواهر من الأحوال والأمور، فأما على إصابة حقيقة ذلك فلا؛ إذ قد يجوز أن يحكم الحاكم ويقضي بقتل إنسان ويقطع يده بشهود عنده؛ لما ظهرت عنده عدالتهم، ولم يكن -في الحقيقة- كذلك، وعلى ذلك قول يعقوب - عليه السلام - لبنيه: (قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ)، لم يأمن عليهم بما
لكن إن كان ما ذكروا، فلم يكن في ذلك النبإ التثبُّت لأن الآية نزلت بعد نبإ الرجل، وفي الآية الأمر بالتثبّت في نبإ الفاسق في ما يحدث من الأمور من بعد.
فدل أن الآية نزلت لبيان الحكم في نبإ الفاسق، والله أعلم، ولأنه يحتمل أن يكون ذلك الرجل منافقا، ولم يأمر الله تعالى بالتثبّت في خبر المنافق، ولم يُشرّع ذلك، لأن النفاق يكون في الضمير، فلا يظهر ذلك.
فأما الفِسق فإنه يظهر، فأمرنا بالتثبّت فيه.
فدلّ أن الآية لم تنزل في ذلك الرجل ؛ إذ لا يُحتمل من المنافق أن يزوِّر على المسلمين مثل ما ذُكر منه. دلّ أن ما قاله أهل التأويل فيه وهم.
ثم في الآية دلالة قبول الخبر الواحد، إذ كان عدلا له، لأنه لو لم يقبل خبره، إذا كان عدلا، لم يكن لذِكر الفسق فائدة سوى الشّتم، والشّتم سَفَهٌ، فلا يجوز أن يوصف الله تعالى [ به ]٢.
فدلّ ذكر الفسق على أن هذا الحكم، وهو ردّ الشهادة، مختص باسم الفسق، وأن العدل لا يشاركه فيه حتى [ لا يكون ]٣ ذكر الفسق سفها لما تعلق به بيان حكم شرعي، يختص بالفاسق، ولا يُعرف ذلك دون ذكره.
فأما متى كن الحكم عامّا في الفاسق والعدل عند الانفراد، فكان ذكر الفاسق مع شتمه، وأنه لا يليق بالحكمة، فدلّ [ على ]٤ ما ذكرنا، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ أن تصيبوا قوما بجهالة ﴾ في الظاهر بسبب تُهمة الفِسق. فأما في الحقيقة فإنه يجوز أن نصيب ذلك بخبر الواحد، لكن الأحكام وقبول الأخبار في ما بين الخلق لم توضع على الحقائق، وإنما وُضعت على الظواهر، وكذلك قبول الشهادات والحُكم بها. وجميع الشرائع التي جُعلت في الناس إنما هو على الظواهر من الأحوال والأمور٥. فأما على إصابة حقيقة ذلك فلا ؛ إذ قد يجوز أن يحكم الحاكم، ويقضي بقتل إنسان، وتُقطَع يده بشهود عنده. لم ظهرت عنده عدالته، ولم تكن في الحقيقة كذلك.
وعلى ذلك قول يعقوب عليه السلام لبنيه، ﴿ هل آمنُكم عليه إلا كما أمنتُكم على أخيه من قبل ﴾ [ يوسف : ٦٤ ] لم يأمن عليه بما ظهر له منهم زلّة وجناية حين طلبوا منه إرساله ولده يوسف عليه السلام في الرّعي، بل قال هنالك :﴿ إني ليحزُنُني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب ﴾ [ يوسف : ١٣ ] إنما اعتلّ عليهم، واحتج بأكل الذئب، ولم يتّهمهم فيه بما لم يكن ظهر له منهم زلّةٌ وجناية. فلما ظهر ذلك منهم اتهمهم وأخبر أنه لا يأمن عليه بما ظهر له من زلّتهم، فدل أن التُّهمة سبب الرّدّ وأنه يجب التثبُّت لدفع الجهالة من حيث الظاهر٦ للحقيقة، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ فتُصبحوا على ما فعلتم نادمين ﴾ أي نادمين بما فعلوا على خلاف ما كان في الظاهر ؛ ويندموا لما تركوا التثبّت في الخبر.
٢ ساقطة من الأصل وم..
٣ ساقطة ن الأصل وم..
٤ ساقطة من الأصل وم..
٥ من م، في الأصل: الأموال..
٦ أدرج بعدها في الأصل وم: لا..
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) أي: نادمين بما فعلوا على خلاف ما كان في الظاهر، ويندمون لما تركوا التثبت في الخبر.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ... (٧) أي: لأثمتم.
من الناس من احتج بهذه الآية على أن الإجماع ليس بحجة، وقالوا: لو كان لإجماعهم حجة، لكان لا يأثمون لو أطاعهم في كثير من الأمر؛ لأن الحق والصواب مما لا يوجب الإثم لصاحبه فيمن تبعه في ذلك الصواب، ولكن إن كان لا يوجب الثواب دل أنه ليس بحجة يجب اتباعه.
ولكن هذا فاسد؛ لأن الحجج والبراهين لم تكن انتهت يومئذ غايتها، ولا أتت على نهايتها، فالإجماع الذي هو إجماع حجة عندنا ويجب اتباعه والانقياد له هو إجماع من استوعب الحجج والبراهين، وأتى على عامتها، أو على الجميع، وكان الوقت وقت نزول الوحي، وإنما تستقر الأحكام بوفاة رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لما ينقطع الوحي؛ فيستدل على استيعاب الحجج ونزول جميع ما يحتاج الناس إليه من حيث الإيداع في النصوص، فمتى اجتمعوا على ذلك يكون حجة، ولأنه لا إجماع يتحقق دون رأي رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وإذا وجد رأيه استغنى عن رأي الغير؛ لما كان ينطق عن الوحي، فإذا لم يكن وقت رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - زمان انعقاد الإجماع حجة فبطل استدلالهم بالآية.
ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ) أرسل إليكم ليزيل عنكم إشكالكم وشبهاتكم، فلا عذر لكم في الكفر واعتراض الشبه لكم بما تقدرون أن تسألوه ما أشكل عليكم واشتبه، فيخبركم بذلك فيزيل الشبه عنكم.
والثاني: يحتمل: (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ) يطلع اللَّه - تعالى - إياه على ما تضمرون في أنفسكم، وما تولدون من الأخبار التي لا أصل لها ولا أثر ما لو أظهر ذلك لافتضحهم، وهو صلة ما ذكر من قوله: (إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا)، واللَّه أعلم.
ويحتمل: أي: فيكم رسول اللَّه تسألونه ما أشكل عليكم، فيخبركم بالحق والأمر على
ويحتمل أن يكون قوله: (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ) فإليه الرأي والتدبير في الأمور، ومن رأيه وتدبيره يجب أن يصدر، لا عن رأي أنفسكم وتدبيركم، وعلى ذلك يخرج قوله: (وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ)، على الوجوه التي ذكرنا، واللَّه أعلم.
ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ) أي: لو يطيعكم فيما تدعو إليه أنفسكم من التمويهات والشبهات وهواها.
أو يقول: لو يطيعكم في الصدور عن آرائكم وتدبيركم في الأمور لعنتم، ثم قال: (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ) هذا في الظاهر كناية غير موصولة بقوله: (لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ)؛ لأنه لا يليق ذلك إلا على الإضمار، كأنه يقول: لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم، وإن اللَّه قد أرسله إليكم رسولا، وحبب إليكم الإيمان به وزينه في قلوبكم حتى صار هو في قلوبكم أحب من أنفسكم ومن كل شيء، فالواجب عليكم أن تصرفوا الأمر إلى رأيه وتدبيره، وأن تصدروا عن رأيه، ولا تعتمدوا على رأي أنفسكم وتدبيركم، واللَّه أعلم.
ويحتمل: أي: لا تدعوه إلى أن يطيعكم فيما تهوى به أنفسكم، واشتهت بعدما حبب الإيمان إليكم وزينه في قلوبكم، وكره إليكم الكفر وما ذكر، واللَّه أعلم بحقيقة جهة وصل هذا بالأول.
ثم يحتمل وجهين أيضًا:
أحدهما: لو يطيعكم الرسول في كثير من الأمر لعنتم، ولكن اللَّه - تعالى - ألزمكم طاعته في كل أمر، فأطيعوه ولا تطلبوا منه طاعته إياكم في الأمور، ولكن أطيعوه أنتم في الأمور كلها، وقد حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم، وكره إليكم الكفر والفسوق -وهو الخروج عن أمره- والعصيان.
والثاني: يشبه أن يكون موصولا بقوله - تعالى -: (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى)، و (حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ)، ثم قال اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) كأنه يقول: أُولَئِكَ الذين امتحن اللَّه قلوبهم للتقوى، وحبب إليهم الإيمان، وزينه في قلوبهم، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان (أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ)، أخبر وشهد لهم بالرشاد، وأخبر أن ذلك فضل منه إليهم ونعمة، لا شيء كان منهم استوجبوا
ثم قالت المعتزلة في قوله - تعالى -: (حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ) وما ذكر، يقولون: لم يحبب الإيمان إلى هَؤُلَاءِ إلا وقد حبب مثله إلى جميع الكفار، وكذلك لم يكره الكفر إلى هَؤُلَاءِ إلا وقد كره مثله إلى جميع الناس، لكن المراد تخصيص هَؤُلَاءِ بما ذكر من التحبيب إليهم الإيمان، وتكريه الكفر هو اختصاصهم بما وعد من الثواب والجزاء الجزيل على الإيمان والمواعيد الشديدة، فحببه وزينه في قلوبهم بما وعد لهم من الثواب، وكره الكفر والعصيان إليهم بما أوعد على ذلك من العذاب العظيم.
لكن هذا فاسد؛ لأنه ليس مؤمن به صار حب الإيمان في قلبه لما ذكروا من الثواب والجزاء، ولا كافر أسلم حين أسلم يخطر ثواب الإيمان في قلبه حتى يكون إسلامه لذلك؛ بل كان في قلبه بغض الإيمان قبل الإسلام، فإذا أسلم وجد حبه في قلبه، وكراهة الكفر؛ ليعلم أن ذلك يكون بلطف من اللَّه - تعالى - كان عنده، فإذا أعطاه صار ما ذكر، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا... (٩).
قَالَ بَعْضُهُمْ: كان بين رجلين مدارة -أي: منازعة- في شيء، فغضب قوم كل رجل حتى كان بينهم خفق بالنعال والأيدي، فنزلت الآية.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: كان بين الأوس والخزرج قتال بالعِصِي؛ فنزلت عنده الآية بالأمر بالصلح بينهم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: قتالهم بالعِصِي، والتناجي، ونحوهما.
وقال الحسن: إن قومًا من المسلمين كان بينهم تنازع حتى اضطربوا بالنعال والأيدي، فأنزل اللَّه - تعالى - هذه الآية في ذلك.
وقال قتادة: كان بين رجلين حق فتدارا فيه، فقال أحدهما: [لأخذته عنوة]-لكثرة عشيرته- وقال الآخر: بيني وبينك رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فتنازعا حتى كان بينهما ضرب بالنعال والأيدي.
وجائز أن تكون الآية فيما كان بين عليَّ بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وبين
ويحتمل أنه كان فيما كان بين علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ومعاوية يوم الجمل ويوم صفين؛ ذكر عن جعفر بن مُحَمَّد عن أبيه أن عليًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سمع رجلا يقول يوم الجمل: هم كفروا، فقال: لا تقل ذلك، ولكن هَؤُلَاءِ قوم بغوا علينا، وزعموا أنا بغينا عليهم، فقاتلناهم على ذلك.
لكن في الآية الأمر بالصلح إذا كان بينهم -أعني: المؤمنين- اقتتال بأي شيء كان بقوله - تعالى -: (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا) وكذلك أمر في غير آي بالصلح والإصلاح، قال: يقال: وأصلحوا ذات بينكم، أي: بين المؤمنين.
وهذه الآية حجة على المعتزلة والخوارج، فإنه أبقى اسم الإيمان بعد ما كان منهم الاقتتال والبغي، والقتال والبغي مع أهل الإسلام من الكبائر دل أن الكبيرة لا تخرج عن الإيمان، ولا توجب الكفر، واللَّه الموفق.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ) أي: فإن ظلمت إحدى الطائفتين وطلبت غير الحق (فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي) أي: تظلم وتجور (حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ) حتى ترجع إلى أمر اللَّه، وإلى الحق، أمر بمعونة الطائفة التي لم تبغ والانتصار لها من الباغية، وهو ما ذكر في آية أخرى: (وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ)، وعد - عَزَّ وَجَلَّ - النصر لهم، فيحتمل أن يكون ذلك النصر الموعود في الدنيا، ويحتمل في الآخرة.
وفي الآية الأمر بقتال أهل البغي من غير قيد بين السيف وغيره بقوله: (فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ) لكن متى أمكن دفع البغي وكسر منعتهم بغير السلاح فهو الحق، وهو الواجب، لكن إذا لم ينقلعوا عن البغي إلا بالقتال مع السيف فلا بأس به، فإن عليًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قاتل الفئة الباغية بالسيف ومعه كبراء الصحابة - رضي الله عنهم - وأهل بدر، وكان هو محقًّا في قتاله إياهم دل أنه لا بأس بقتالهم بالسيف.
وبعضهم قالوا: إن قتال البغاة لا يجوز بالسيف، وقالوا: إن سبب نزول الآية في القتال بالعِصِي والنعال، ولكن لا حجة لهم فيها؛ لأن القتال بين الفئتين وإن كان بالنعال والعصي
وقال بعضهم : كان بين الأوس والخزرج قتال بالعُصيّ، فنزلت هذه الآية بالأمر بالصلح بينهم.
وقال بعضهم : قتالهم بالعُصيّ [ والنعال ونحوها ]١.
وقال الحسن : إن قوما من المسلمين كان بينهم تنازع حتى اضطربوا بالنعال والأيدي، فأنزل الله تعالى هذه الآية في ذلك.
وقال قتادة : كان بين رجلين حق، فتدارأا فيه، فقال أحدهما : لآخذنّه عُنوة لكثرة عشيرته، وقال الآخر : بيني وبينك رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنازعا حتى كان بينهما ضرب بالنعال والأيدي.
وجائز أن تكون الآية في ما كان بين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وبين الحرورية وأهل نهروان ؛ ذُكر أن عليا رضي الله عنه لما قاتلهم قال الناس : هم مشركون ؟ فقال عليه السلام : من الشرك قد حُسِدوا، فقال : فمنافقون هم ؟ قال علي رضي الله عنه : إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا، قالوا : فما هم ؟ قال : هم أناس بغوا علينا، فقاتلونا، فقاتلناهم.
ويحتمل أنه كان في ما كان بين عليّ رضي الله عنه وبين معاوية يوم الجمل ويوم صفّين.
ذُكر عن جعفر بن محمد عن أبيه أن عليًّا رضي الله عنه سمع رجلا يقول يوم الجَمَل : هم كفروا، فقال : لا تقل ذلك، ولكن هؤلاء قوم بغوا علينا، وزعموا أنا بغينا عليهم، فقاتلناهم على ذلك.
لكن في الآية الأمر بالصُّلح إذا كان بينهم ؛ أعني المؤمنين، اقتتال بأي شيء كان بقوله تعالى :﴿ فأصلحوا بينهما ﴾. وكذلك أمر في غير آية٢ بالصُّلح والإصلاح بقوله٣ :﴿ وأصلحوا ذات بينكم ﴾ [ الأنفال : ١ ] أي٤ بين المؤمنين.
وهذه الآية حجة على المعتزلة والخوارج، فإنه أبقى اسم الإيمان بعد ما كان منهم الاقتتال والبغيُ، والقتال والبغي مع أهل الإسلام من الكبائر، دلّ أن الكبيرة لا تُخرِج عن الإيمان، ولا توجب الكفر، والله الموفق.
وقوله تعالى :﴿ فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله ﴾ أي فإن ظلمت إحدى الطائفتين، وطلبت غير الحق ﴿ فقاتلوا التي تبغي ﴾ أي تظلم، وتجور ﴿ حتى تفيء إلى أمر الله ﴾ حتى ترجع إلى أمر الله وإلى الحق.
أمر بمعونة الطائف التي لم تبغ والانتصار لها من الباغية، وهو ما ذكر في آية أخرى ﴿ ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بُغي عليه لينصرنّه الله ﴾ [ الحج : ٦٠ ] وعد عز وجل النصر لهم. فيحتمل أن يكون ذلك النّصر الموعود في الدنيا، ويحتمل في الآخرة.
وفي الآية الأمر بقتال أهل البغي من غير قيدٍ بالسيف وغيره بقوله :﴿ فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي ﴾. لكن متى أمكن رفع البغي وكسر مَنَعتهم بغير سلاح فهو الحق، وهو الواجب. لكن إذا لم ينقلعوا عن البغي إلا بالقتال مع السيف فلا بأس به.
فإن عليًّا رضي الله عنه قاتل الفئة الباغية بالسيف، ومعه كُبراء الصحابة رضي الله عنهم وأهل بدر، وكان هو محقا في قتاله إياهم، دل أنه لا بأس بقتالهم بالسيف.
وبعضهم قالوا : إن قتال البُغاة لا يجوز بالسيف، وقالوا : إن سبب نزول الآية في القتال بالعُصيّ والنعال، ولكن لا حجة لهم فيها، لأن القتال بين الفئتين، وإن كان بالنعال والعُصي، ولكن لم يصيروا بُغاة في تلك الحال، وهو القتال الذي أمر الله تعالى أن يصلح بينهم. وإنما يصيروا بُغاة بأن لم يُجيبوا إلى الصلح، ولم يقبل أحد من الطائفتين الصلح. وحينئذ أمر بالقتال معهم مطلقا من غير قيد، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا ﴾ ذكر أنها، وإن فاءت، ورجعت إلى ما أمر الله به، لا يتركونهما كذلك بغير صُلح، ولكن أصلحوا بينهما وألّفوا حتى يتآلفوا لأن أهل الإسلام نُدبوا إلى التآلف بينهم والجمع، وشرط فيه الصلح بالعدل.
فهو، والله أعلم، يقول : إنكم وإن رأيتم صلاحكم في الصلح فلا يحملنّكم ذلك على الصلح الذي ليس فيه عدل، ولكن أصلحوا بينهم بالعدل، وتجاوزا الحد. وأكّد ذلك قوله :﴿ وأقسطوا ﴾ أي أعدلوا في الصلح ﴿ إن الله يحب المقسطين ﴾ أي العادلين.
٢ في الأصل وم: آي..
٣ في الأصل وم: قال يقال..
٤ أدرج قبلها في الأصل وم: كان..
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا) ذكر أنها وإن فاءت ورجعت إلى ما أمر اللَّه - تعالى - به لا يتركوهما كذلك بغير صلح، ولكن أصلحوا بينهما وألفوا حتى يتآلفوا؛ لأن أهل الإسلام ندبوا إلى التآلف بينهم والجمع، وشرط فيه الصلح بالعدل، فهو - واللَّه أعلم - يقول: إنكم وإن رأيتم صلاحهم في الصلح فلا يحملنكم ذلك على الصلح الذي ليس فيه عدل، ولكن أصلحوا بينهم بالعدل، ولا تجاوزوا الحدّ، وأكد ذلك قوله: (وَأَقْسِطُوا) أي: اعدلوا في الصلح (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) أي: العادلين.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٠) أمر اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - بإصلاح ذات البين بين المؤمنين بقوله: (وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ)، وأمر بالإصلاح بين الطائفتين من المؤمنين إذا اقتتلوا وتنازعوا بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا) وأمر بالإصلاح بين الآحاد والأفراد بقوله: (فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ)؛ لأن الإيمان يوجب التآلف، وبالتآلف ندبوا، وإليه دعوا، وبه منَّ اللَّه - تعالى - علينا؛ حيث قال: (مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ)، وقال في آية أخرى: (وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا)، أمر بالتأليف والاجتماع، ونهاهم عن التفرق والاختلاف، وأمر المؤمنين جملة أن يصلحوا ذات بينهم إذا وقع بينهم تنازع واختلاف واقتتال على ما ذكر، واللَّه أعلم.
ثم من الناس من استدل بقوله - تعالى -: (فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) على أن اسم الطائفة يقع على الواحد فصاعدًا، فقال: إنه ذكر في أول الآية: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا)، وقال في آخره: (فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) فدل أن اسم الطائفة يقع على الواحد فصاعدًا، فقال: فيستدل بهذا على أن في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ)، يراد به الواحد؛ فيدل على لزوم خبر الواحد العدل.
لكن عندنا ما ذكر أنه أمر بإصلاح ذات البين بين جملتهم، وأمر بالصلاح بين فريقين، وأمر بذلك بين الآحاد والأفراد، وليس في قوله: (فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) دلالة أنه أراد به
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي: اتقوا مخالفة أمر اللَّه لكي تقع بكم الرحمة، أو لكي يلزمكم الرحمة.
* * *
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (١١) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (١٢) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (١٣).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ) ظاهر الآية نهي للجماعة عن سخرية جماعة؛ لأن السخرية إنما تقع وتكون في الأغلب بين قوم وقوم، وقلما تقع بين الأفراد والآحاد؛ فعلى ذلك جرى النهي، ولكن يكون ذلك النهي للجماعة والأفراد والآحاد جميعًا، واللَّه أعلم.
ثم يحتمل السخرية المذكورة في الآية وجهين:
أحدهما: في الأفعال، يقول: لا يسخر قوم من قوم في الأفعال عسى أن يكونوا خيرًا منهم في النية في تلك الأفعال أو خيرًا منهم؛ أي: أفعالهم أخلص عند اللَّه من أفعال أُولَئِكَ، وأقرب إلى القبول.
والثاني: سخرية في الخلقة، وذلك راجع إلى منشئها، لا إليهم، وهم قد رضوا بالخلقة التي أنشئوا عليها، وعسى أن يكونوا هم على تلك الخلقة عندهم خيرًا منهم.
ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ) يحتمل وجهين:
أحدهما: عسى أن يصيروا من بعدهم خيرًا من تلك الأحوال والأفعال التي هم عليها اليوم.
والثاني: عسى أن يكونوا هم عند اللَّه خيرًا منهم في الحال؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) أخبر أن الأكرم منهم عند اللَّه - تعالى - هو أتقاهم، لا ما افتخروا بما هو أسباب الفخار عندهم، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ) ذكر سخرية نساء من
ويحتمل أنه خص هَؤُلَاءِ بهَؤُلَاءِ كما خص القصاص في قوله: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ...) الآية، ثم جمع بين الأحرار والعبيد، والذكور والإناث بالمعنى الذي جمعهم فيه، وهو ما ذكر: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ)، أبان عن المعنى الذي به وجب القصاص فيما بينهم، فاشتركوا جميعًا في ذلك: الأحرار والعبيد، والذكور والإناث، فعلى ذلك ذكر المعنى الذي به نهاهم عن السخرية، وهو ما ذكر (عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ) فذلك المعنى يجمع سخرية الرجال من النساء، وسخرية النساء من الرجال، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) واللمز: هو الطعن.
ثم منهم من يقول: هو الطعن باللسان.
ومنهم من يقول: بالشدق والشفة.
ومنهم من يقول: بالعين؛ وحاصله هو الطعن فيه.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: اللمز: هو العيب؛ أي: لا تعيبوا.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: هو شبه العيب.
ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَنْفُسَكُمْ) يحتمل وجهين:
أحدهما: (وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) أي: تذكروا مساوئ أنفسكم عند الناس.
وفيه الأمر بالستر عليهم وعلى أنفسهم، وألا يهتكوا سترهم، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ) أي: لا تدعوا بالألقاب، والنبز: اللقب؛ يقال: نبزت فلانًا: أي: لقبته، وفي الحديث: " قوم نبزهم الرافضة " أي: لقبهم، ولو قال: (وَلَا تَنَابَزُوا) لكان كافيًا، لكن كأنه قال: ولا تظهروا ألقابهم فيسوءهم ما أظهرتم من اللقب، واللَّه أعلم.
ثم قال بعض أهل التأويل: إنما نهوا عن ذلك؛ لأنهم يسمونهم بعد إسلامهم بالأفعال التي كانوا يفعلون في حال جاهليتهم من الكفر والفسوق، ويلقبونهم بذلك،
وجائز أن يلقبوا بذلك وبغيره من الألقاب، فنهوا عن أن يسموهم بغير أسمائهم التي كانت لهم، وأن يعرفوا بأسمائهم التي لهم، ونهوا عن التعريف بالألقاب وتغيير الأنساب والأسماء التي لهم إذا كان التعريف بذلك يسوءهم ويغيظهم، واللَّه أعلم.
ثم قال اللَّه - تعالى -: (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) أي: واضعون الشيء في غير موضعه، واللَّه أعلم.
ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ) يحتمل وجهين:
أحدهما: ما ذكرنا؛ أي: بئس النسبة إلى الفسق التي كانت والتسمية بها بعد الإيمان إلى الاسم والفعل الذي كان له ومنه قبل الإيمان؛ كأنه قال: لا تسموهم بتلك الأسماء بعد الإيمان، واللَّه أعلم.
والثاني: (بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ) أي: بئس ما اختار من اسم الفسق بعدما كان اختار اسم الإيمان وفعله، فهذا يرجع إلى اختيار الفسق بعد الإيمان، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (١٢).
هاهنا أسماء ثلاثة يجب أن يتعرف ما محلها؟ وما قدرها؟ وكيف أسبابها؟ أحدها: الظن، والثاني: الشك، والثالث: العلم واليقين.
أما الظن فكأنه هو الذي له ظاهر الأسباب التي لها خوف الزوال والانتقال.
والشك هو الذي فقد ظاهر أسبابه، أو له استواء الأسباب، ومقابلة بعضها بعضًا، فهو المتردد بين الحالين، لا يقر قلبه على شيء.
واليقين هو الذي له الأسباب الظاهرة التي ليس لها خوف الزوال والانتقال، والله أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ) كأنه نهى أن يحقق أو يعمل في صاحبه بسوء على ظاهر الأسباب التي هي على شرف الزوال وطرف الانتقال يجوز أن تكون غير متحققة في الأصل أو زائلة، واللَّه أعلم.
ثم في الآية دليل على أنه ليس كل ظن يجتنب عنه، ولا كل الظن يكون إثما؛ لأنه استثنى منه بعضه بقوله: (بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) فجائز أن يكون ما استثنى من الظن، ولا يأمر بالاجتناب عنه هو ما يغلب عليه الأسباب، وغالب الأسباب ربما تعمل عمل العلم واليقين بحق المكره على شيء يرخص له أو يباح العمل إذا رأى من ظاهر حال المكره أنه فاعل به
ويحتمل أن يرجع ما استثنى من الظن القليل الذي لا إثم فيه إلى الظن الحسن؛ إذ يجوز أن يظن بالإنسان الظن الحسن؛ ولا إثم فيه، إنما الأمر بالاجتناب إلى الظن بالسوء على غير تحقق أسباب أو غير تحقيق عين ذلك، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَجَسَّسُوا) التجسس: هو تكلف طلب المساوئ في الناس من غير أن يظهر منهم من أسبابها شيء، فنهى عن تكلف طلب ذلك أو من الإظهار وأمر بالستر، وبمثل ذلك روي في الأخبار عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.
وروي عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قيل له: هل لك في فلان يعطر لحيته خمرًا، فقال عبد اللَّه بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إن يظهر لنا شيء نأخذه، وإلا فإن اللَّه - تعالى - قد نهانا عن التجسس، واللَّه أعلم.
وفرق بعضهم بين التجسس والتحسس، فقَالَ بَعْضُهُمْ: بالجيم في الشرور والمساوئ، وبالحاء في الخير وفيما يباح طلبه، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا) الغيبة ترجع إلى وجهين:
أحدهما: أن يذكر ما فيه من مساوئ الأفعال التي سترها عن أعين الناس مما يكره إظهار ذلك عنه.
والثاني: يذكر ما فيه من قبح الأحوال والأخلاق التي لا يكاد يذكر ذلك منه أو يظهر، وعلى ذلك روي في الخبر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه نهى أن يذكر الرجل أخاه بما فيه مما يكره، فقيل: إنما كنا نذكره بالشيء الذي فيه، لا بما ليس فيه، قال: " ذلك البهتان ".
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ) أي: لا يحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه بعد موته، فكأنه يقول: فإذا لم يحب هذا وكرهه؛ بل يستقذره كل استقذار فالغيبة هي تناول من أخيك وهو حي، فهو في القبح يبلغ التناول منه بعد موته، فإن كان لا أحد يتناول من لحم أخيه بعد موته، لا في حال اختياره، ولا في حال اضطراره، فلا تغتابوا ولا تذكروا منه ما فيه؛ فإنه في القبح ذلك.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى... (١٣) تأويل الآية على وجهين:
والثاني: يحتمل: إنا خلقنا كل واحد منكم من الملوك والأتباع، والحر والعبد، والذكر والأنثى من ماء الذكر والأنثى، فليس لأحد على أحد من تلك الجهة التي يفتخرون بها الافتخار والفضيلة؛ إذ كانوا جميعًا من نطفة مذرة منتنة تستقذرها الطباع.
ذكر هذا؛ ليتركوا التفاخر والتطاول بالأنساب والقبائل، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا)، ثم اختلفوا في تأويل قوله: (شُعُوبًا وَقَبَائِلَ):
قَالَ بَعْضُهُمْ: الشعوب أكبر من القبائل، فالشعوب هم الأصول، والقبائل: الأفخاذ منهم، فالشعوب للعرب، والأمم والقرون للعجم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: الشعوب للعجم، والقبائل للعرب.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: الشعوب: الضروب، وهي القبائل، والواحد: شعب، والشعب الاجتماع؛ يقال: شعبت الإناء: إذا انكسر فجمعته وأصلحته، ويسمى من يصلح الإناء: شَعَّابًا، والشعب: التفريق - أيضًا - والشعوب: المنية، ونحو ذلك.
ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِتَعَارَفُوا) أي: جعل فيكم هذه القبائل؛ ليعرف بعضكم بعضًا بالنسبة إلى القبائل والأفخاذ؛ فيقال: فلان التميمي والهاشمي؛ إذ كل أحد لا يعرف بأبيه وجده.
ثم قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) بين اللَّه - تعالى - بما به تكون الفضيلة والكرامة، وهو التقوى، لا فيما يرون ويفتخرون بذلك، وهو النسبة إلى الآباء والقبائل؛ بل ذلك لما ذكر من التعارف؛ وهذا لأن التقوى فعله، وهو إتيان الطاعات والاجتناب عن المعاصي، وذلك مما يأتيه تعظيمًا لأمر اللَّه - تعالى - ونهيه.
وجائز أن تنال الفضيلة والكرامة بفضل اللَّه وكرمه بناء على فعله، فأمَّا ما لا فعل له في التولد من آباء كرام فأنى يستحق الفضل بذلك لو كان افتخارًا بما يكون للآباء بمباشرتهم
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) على الوعيد.
* * *
قوله تعالى: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (١٥) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٦) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (١٧) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (١٨).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا) هذه الآية وإن خرجت على مخرج العموم، ولكن أراد بها الخاص، وهو بعض الأعراب؛ إذ في الإجراء على العموم يؤدي إلى الكذب في خبر اللَّه - تعالى - عن ذلك؛ إذ لا كل الأعراب قالوا ذلك، ولا كل الأعراب يجب أن يقال لهم: لم تؤمنوا، ولكن يقال لهم: قولوا: أسلمنا، فهو يرجع إلى خاص من الأعراب، فكأنه يرجع إلى أهل النفاق منهم، فإنهم أخبروا أنهم آمنوا، ولما آمنوا فلما أطلع اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - رسوله أنهم لم يؤمنوا، ولكنهم استسلموا وخضعوا للمؤمنين ظاهرًا؛ خوفًا من معرة السيف، وطمعًا فيما عند المسلمين من الخير، فنهاهم أن يقولوا: آمنا، إذا لم يكن في قلوبهم ذلك، وأمرهم أن يقولوا: أسلمنا، ومعناه ما ذكرنا؛ أي: خضعنا واستسلمنا، ليرتفع عنهم السيف.
ولا يصح الاستدلال بالآية على أن الإسلام والإيمان غيران، فإنه غاير بينهما؛ حيث نهاهم أن يقولوا: آمنا وأمرهم أن يقولوا: أسلمنا، ولو كانا واحدًا لم يصح هذا؛ لأنا نقول: لم يرد بهذا الإسلام هو الإسلام الذي هو الإيمان، ولكن أراد به الاستسلام والانقياد الظاهر، وهو كما يسمى: إسلامًا يسمى: إيمانًا - أيضًا - من حيث الظاهر، فأما حقيقة الإيمان والإسلام ترجع إلى واحد؛ لأن الإيمان هو أن يصدق كل شيء في شهادته على الربوبية والوحدانية لله - تعالى - والإسلام هو أن يجعل كل شيء لله سالمًا، لا شركة لأحد فيه، فمتى اعتقد أن كل شيء في العالم لله - تعالى - وهو الخالق له، وكل مصنوع شاهد ودليل على صانعه فقد صدقه في شهادته على صانعه، واللَّه الموفق.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ) الإيمان ليس هو محسوسًا مركبًا يدخل في القلب أو لا، ولكن معناه: نفى فعل القلب، وهو التصديق؛ كأنه قال: ولم تؤمن قلوبهم؛ على ما ذكر في آية أخرى (قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ).
فيقال لهم: (أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ)، (قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ).
وفي هذه الآية آية عظيمة على رسالته؛ حيث قال له: (قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا) وقد قال لهم - عليه الصلاة والسلام - ذلك، ولم يتهيأ لهم إنكار ذلك القول، فعرفوا أنه باللَّه عرف ذلك، ولم يظهروا ما في ضميرهم خوفًا من السيف ليعرف النبي - ﷺ - واللَّه الموفق.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا) جائز أن تكون الآية صلة ما ذكر في سورة الفتح للمنافقين بعد تخلفهم عن أمر الحديبية مع المؤمنين؛ حيث قال: (سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ)، وما ذكر من أمرهم في غير آي من القرآن، يقول: (وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا) يقول: إن تطيعوا الله ورسوله فيما يدعوكم الرسول إلى الخروج إلى الجهاد والقتال بعد تخلفكم عن الحديبية لا ينقصكم من أعمالكم التي كانت لكم شيئًا، واللَّه أعلم.
ويحتمل وإن تطيعوا اللَّه ورسوله بعد وفاة رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لم يلتكم من أعمالكم شيئًا، أي: لم ينقصكم من أعمالكم التي عملتموها من قبل، ولم تضلوا أعمالكم التي عملتم من بعد، وإن عصيتموه وتخلفتم عنه في حياته؛ لأنه قال: (فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا)، قد كان نهاهم عن الخروج معه للغزو أبدًا، فيقول: إن تطيعوا بعد وفاته وتجاهدوا في سبيل اللَّه لم يلتكم من أعمالكم شيئًا؛ بل يقبل ذلك منكم، واللَّه أعلم.
ويحتمل أن يكون في المنافقين، فيكون فيها وعد المغفرة للمنافقين إذا تابوا وأطاعوا اللَّه ورسوله، كما وعد المغفرة لجميع الكفرة إذا تابوا عن الكفر بقوله: (إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ)، فعلى ذلك هذا، وهو كقوله تعالى: (لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ)، واللَّه أعلم.
قَالَ بَعْضُهُمْ: هذا في جميع المؤمنين: إن من أطاع اللَّه ورسوله لا ينقصكم من أعمالكم شيئًا؛ أي: لا يضيع أعمالكم؛ بل يثيبكم؛ كقوله - تعالى -: (يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ)، أي: من عمل لله لا يضيع، ومن عمل لغيره قد يضيع، فلا يظفر
ويحتمل أن تكون الآية في المؤمنين الذين أسلموا؛ يقول: إذا أسلمتم فلم ينقصكم من ثواب أعمالكم ما سبق منكم من الكفر، وهو كقوله - تعالى -: (إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ)، واللَّه أعلم.
وقوله: (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ظاهر.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (١٥) كأن هذا ذكر مقابل ما تقدم من قول المنافقين؛ حيث قال: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا)، فقال لهم: قل: لم تؤمنوا أنتم، إنما المؤمنون هَؤُلَاءِ، ثم نعتهم فقال: (الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) أخبر أن هَؤُلَاءِ هم الصادقون في إيمانهم، وأنتم يا أهل النفاق بحيث أضمرتم الخلاف له ولم تجاهدوا معه فلستم بصادقين في إيمانكم، فجعل الجهاد دليل ظهور الصدق في الإيمان، لا أنه من شرائط الإيمان الذي لا يجوز الإيمان الذي دونه.
ويحتمل: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ)؛ أي: صدقوا اللَّه ورسوله سرًا وعلانية على الحقيقة، لا الذين أظهروا ولم تكن قلوبهم مصدقة لذلك كالمنافقين؛ ألا ترى أنه قال: (ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا) أي: لم يشكوا في حادث الوقت؛ بل جاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل اللَّه؛ إظهارًا لتحقيق الإيمان وصدقه، وليسوا كالمنافقين الذين ارتابوا وشكوا في إيمانهم، وتخلفوا عن الجهاد مع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، واللَّه أعلم.
ثم قال اللَّه - تعالى -: (قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٦) كأنه صلة قوله - تعالى -: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا) حيث قالوا ذلك بألسنتهم، وليس ذلك في قلوبهم، فأخبر أنه يعلم ما في قلوبهم من الإيمان والشك والخلاف، كأنهم حين قال لهم الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: لم تؤمنوا، فلجوّا في ذلك وقالوا: بل آمنا؛ ظنوا أنه إنما قال ذلك من دأب نفسه، فقال عند ذلك قل: (أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ) يخبر أن الذي أنبأني وأخبرني بذلك هو الذي يعلم غيب ما في السماوات وما في الأرض، وهو بكل شيء مما في القلوب من الصدق وغيره عليم، فكيف تعلمون اللَّه بأنكم مؤمنون، وهو يعلم إنكم لكاذبون.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (١٧) الذي حملهم وبعثهم على الامتنان عليه بالإيمان الذي أتوا به أنهم قوم لا يؤمنون بالآخرة؛ فيظنون أنهم إذا أظهروا الموافقة لم يلحقهم بسببه مؤنة الخروج إلى القتال.
يُخبر أن الذي أنبأني، وأخبرني بذلك، هو الذي يعلم غيب ما في السماوات وما في الأرض، وهو بكل شيء مما في القلوب من الصدق وغيره عليم. فكيف تُعلِمون الله بأنكم مؤمنون، وهو يعلم إنكم لكاذبون ؟
٢ في الأصل وم: حيث..
هذا الذي ذكرنا ونحوه بعثهم، وحملهم على الامتنان عليه، ولو كانوا يؤمنون بالآخرة لعرفوا أن إيمانهم لأنفسهم ؛ إذ به نجاتهم، وإليهم يقع نفعه، ليس في الإيمان لله تعالى نفع، ولا في تركه ضرر. تعالى عن الضرر والنفع، فيكون الامتنان لله تعالى عليهم كما قال :﴿ بل الله يمنّ عليكم أن هداكم للإيمان إن كنت صادقين ﴾.
ثم قوله عز وجل :﴿ بل الله يمنّ عليكم أن هداكم للإيمان ﴾ نقض قول المعتزلة : إنه يجب على الله تعالى أن يهديهم لقولهم بالأصلح ؛ فإنه قال :﴿ بل الله يمنّ عليكم أن هداكم للإيمان ﴾ ولو كانت هدايتهم واجبة عليه لا يكون له عليهم منّته لأنه مؤدّ ما عليه من الحق. ومن أدّى حقا عليه لآخر لا يكون له الامتنان على صاحب الحق.
وكذلك في قوله تعالى :﴿ فضلا من الله ونعمة ﴾ [ الحجرات : ٨ ] لو كانت الهداية عليه لا يكون في قوله مفضِّلا ولا منعما، بل يكون له عليهم الامتنان، ومنهم الإفضال والإنعام لما عظّموه، وبجّلوه بشيء كان عليه فعل ذلك حقا واجبا لهم، فدلّ على فساد مذهبهم.
وفيه دلالة أن الهداية ليست هي البيان فحسب لوجهين :
أحدهما : لأن هداية البيان مما قد كان في حق الكافر والمسلم جميعا، فلا معنى لتخصيص المسلمين بهذه المنّة، ومثلها موجود في حق غيرهم.
والثاني : أن البَين قد عمّ الكافر والمؤمن، وقد أخبر الله تعالى بأن له المِنّة عليهم إن كانوا صادقين في إيمانهم. فلو كانت الهداية، هي البيان /٥٢٤-ب/ لا غير، لكان لا يُشترط فيه صدقهم لأن منّة البيان تعمّ الصادقين وغير الصادقين.
دلّ أن المراد من الهداية الإسلام حتى تتحقق له المنة على الخصوص في حق المسلمين، والله الموفّق.
ثم الهداية المذكورة ههنا تحتمل وجهين :
أحدهما : خلق فعل الاهتداء منهم.
والثاني : التوفيق والعصمة ؛ كأنه يقول :﴿ بل الله يمنّ عليكم أن ﴾ خلق منكم الاهتداء، أو وفّقكم للإيمان وعصمكم عن ضدّه.
وكذلك يخرّج قوله تعالى :﴿ ولكن الله حبّب إليكم الإيمان وزيّنه في قلوكم ﴾ [ الحجرات : ٧ ] على هذين الوجهين : وفّقكم له، وعصمكم عن ضده، أو خلق حبّه في قلوبكم، وزيّنه، والله أعلم.
هذا الذي ذكرنا ونحوه بعثهم وحملهم على الامتنان عليه، ولو كانوا يؤمنون بالآخرة، لعرفوا أن إيمانهم لأنفسهم؛ إذ به نجاتهم، وإليهم يقع نفعه، ليس في الإيمان لله - تعالى - نفع، ولا في تركه ضرر، تعالى عن الضرر والنفع، فيكون الامتنان لله - تعالى - عليهم كما قال: (بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ).
ثم في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ) نقض قول المعتزلة: إنه يجب على اللَّه - تعالى - أن يهديهم؛ لقولهم بالأصلح، فإنه قال: (بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ) ولو كانت هدايتهم واجبة عليه لا يكون له عليهم منة؛ لأنه مؤد ما عليه لهم من الحق، ومن أدى حقًّا عليه لآخر لا يكون له الامتنان على صاحب الحق، وكذلك في قوله - تعالى -: (فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً) لو كانت الهداية واجبة عليه لا يكون في فعله متفضلا ولا منعمًا، بل يكون لهم عليه الامتنان، ومنهم الإفضال والإنعام؛ لما عظموه وبجلوه بشيء كان عليه فعل ذلك حقًّا واجبًا لهم؛ فدل على فساد مذهبهم.
وفيه دلالة أن الهداية ليست هي البيان فحسب؛ لوجهين:
أحدهما: لأن هداية البيان مما قد كان في حق الكافر والمسلم جميعًا، فلا معنى لتخصيص المسلمين بهذه المنة ومثلها موجود في حق غيرهم.
والثاني: أن البيان قد عم الكافر والمؤمن، وقد أخبر اللَّه - تعالى - بأن له المنة عليهم إن كانوا صادقين في إيمانهم، فلو كانت الهداية هي البيان لا غير، لكان لا يشترط فيه شرط صدقهم؛ لأن منة البيان تعم الصادقين وغير الصادقين دل أن المراد من الهداية: الإسلام، حتى تتحقق له المنة على الخصوص في حق المسلمين، واللَّه الموفق.
ثم الهداية المذكورة - هاهنا - تحتمل وجهين:
أحدهما: خلق فعل الاهتداء منهم.
والثاني: التوفيق والعصمة؛ كأنه يقول: بل اللَّه يمن عليكم أن خلق منكم الاهتداء أو وفقكم للإيمان، وعصمكم عن ضده، وكذلك يخرج قوله - تعالى -: (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ) على هذين الوجهين: وفقكم له وعصمكم عن ضده، أو خلق حبه في قلوبكم وزينه، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (١٨) هذا يخرج على الوعيد؛ أي: هو بصير بما أسروا وأعلنوا، ليكونوا أبدًا على يقظة وحذر، ولا قوة إلا باللَّه، وصلى اللَّه على سيدنا مُحَمَّد وآله.
* * *