" مدنية ". وهي اثنتان وعشرون آية. ومناسبتها لما قبلها : ما ختمت به، فإن من فضله وإحسانه : إغاثة الملهوف وتفريج كربه، روي أن خولة بنت ثعلبة بن مالك الخزرجية، كانت تحت أوس بن الصامت -أخي عبادة- فقامت تصلي، فرآها زوجها، وكانت حسنة الجسم، فلما سلمت راودها، فأبت، فغضب، فظاهر منها، ثم ندم على ما قاله، فقال : ما أظنك إلا حرمت عليّ، فشق عليها ذلك، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : إن أوسا تزوجني وأنا شابة مرغوب فيّ، فلما خلا سني، ونثرت له بطني- أي : كثر أولادي - جعلني عليه كأمه. وروي : أنها قالت : إن له صبية صغارا، إن ضممتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتم إلي جاعوا، فقال صلى الله عليه وسلم :" ما عندي في أمرك شيء " وروي أنه قال لها :" حرمت عليه "، فقالت : يا رسول الله ما ذكر طلاقا، وإنما هو أبو ولدي، وأحب الناس إليّ، فقال :" حرمت عليه " فقالت : أشكو إلى الله فاقتي ووجدي، وجعلت تراجع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلما قال لها :" حرمت عليه " هتفت، وشكت إلى الله. وروي أنها كانت ترفع رأسها إلى السماء وتقول : اللهم إني أشكو إليك، فأنزل على لسان نبيك فرجي، فأنزل الله :
بسم الله الرحمان الرحيم :
﴿ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ﴾.
ﰡ
ولمّا نزلت السورة بإثر الشكوى، قالت عائشة رضي الله عنها :" ما أسمع الله " تعجُّباً من سرعة نزولها.
﴿ وتشتكي إلى اللهِ ﴾ أي : تتضرع إليه، وتُظهر ما بها من الكرب، ﴿ واللهُ يسمع تحاورَكما ﴾ مراجعتكما الكلام، من : حاور إذا رجع. وصيغة المضارع للدلالة على استمرار السمع، حسب استمرار التحاور وتجدُّده، وفي نظمها في سلك الخطاب تشريفٌ لها. والجملة استئناف، جار مجرى التعليل لِمَا قبله، فإنّ إلحافَها في المسألة، ومبالغتها في التضرُّع إلى الله تعالى، ومدافعته صلى الله عليه وسلم إياها، منبئٌ عن التوقف وترقُّب الوحي، وعلمه تعالى بحالهما من دواعي الإجابة، أي : قد سمع قول المرأة وأجاب طلبتها ؛ لأنه يسمع تحاوركما. وقيل : هو حال، وهو بعيد. ﴿ إِنَّ الله سميع بصير ﴾ تعليل لِما قبله، أي : مُبالغ في العلم بالمسموعات والمبصرات، ومِن قضيته : أن يسمع تحاوركما، ويرى ما يقارنه من الهيئات، التي مِن جملتها : رفع رأسها إلى السماء، وإثارة التضرُّع، وإظهار الاسم الجليل في الموضعين لتربية المهابة، وتعليل الحكم بوصف الألوهية، وتأكيد الجملتين.
الإشارة : قد سمع الله قولَ الروح، التي تُجادل في شأن القلب ؛ لأنه مقرها ومسكنها، إن صلح صلحت، وإن فسد بحب الدنيا ومتابعة الهوى، فسدت، فهي تُجادل رسولَ الإلهام وتشتكي إلى الله من القلب الفاسد، والله يسمع تحاورهما وتضرعَها إن صدقت في طلب الحق، فيُجيب دعاءها، ويُقيض لها طبيباً يُعالجه، حتى ترجع لأصلها منه، إنّ الله سميعٌ بصير.
﴿ الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُمْ مِّن نِّسَاِهِمْ مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ﴾*﴿ وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَاِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاَّسا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾*﴿ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذَلِكَ لِتُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ وَالَّذِينَ يَظَّهَّرُونَ ﴾ وأصله : يتظهرون، فأدمغت التاء في الظاء، وقرأ عاصم : بضم الياء وتخفيف الظاء، مضارع ظاهر ؛ لأنّ كل واحد يباعد صاحبه، وقرأ ابن عامر والأخوان وأبو جعفر وخلف بفتح الياء وشد الظاء بالمد، مضارع " تظاهر "، والحاصل في فعل الظهار ثلاث لغات : ظاهر وتظاهر وتظهر، مأخوذة من الظهر ؛ لأنه يُشَبِّه امرأته بظهر أُمه، ولا مفهوم للظهر، بل كل جزء منها مثل الظهر. وفي قوله :﴿ منكم ﴾ توبيخ للعرب، لأنه كان من أيْمان الجاهلية خاصة، دون سائر الأمم، ﴿ مِن نسائهم ﴾ من زوجاتهم، ﴿ ما هن أمهاتِهم ﴾ : خبر الموصول، أي : ليسوا بأمهاتهم حقيقة، فهو كذب محض، ﴿ إِنْ أمهاتُهم ﴾ حقيقة ﴿ إِلاّ اللائي وَلَدنَهُمْ ﴾ مِن بطونهن، فلا تشبّه بهن في الحرمة إلاّ مَن ألحقها الشرع بهن من المرضعات وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فيدخلن بذلك في حكم الأمهات، وأما الزوجات فأبعد شيء من الأمومة. ﴿ وإنهم ليقولون ﴾ بلسانهم ﴿ منكرا ﴾ عظيما ﴿ من القول ﴾ شرعا وطبعا، ﴿ وزُوراً ﴾ كذباً باطلاً، منحرفاً عن الحق، ﴿ وإنّ الله لعفوٌّ غفور ﴾ لما سلف منهم.
والذين يُظاهرون من نسائهم، يُباعدون من أنفسهم، ثم يعودون إلى الترفُّق بها والاستمتاع بما أحلّ الله لها، فكفارته تحرير رقبةً مِن ملك الشهوة، فلا يتناول شيئاً من المباحات الطيبة، إلاّ بنية التقرُّب إلى الله والشكر، لا بنية مجرد الاستمتاع، ولا يتناول من الشهوات التي شرهت إليها النفس، وحرصت على تحصيلها قبل حصولها، شيئاً قط، فإن لم يقدر عليها على هذا النمط، فعليه صيام شهرين أو أكثر، مجاهدةً ورياضةً، حتى تقف على حد الضرورة، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً أو أكثر، بكل ما يدخل عليه من الحظوظ. وقال القشيري : وإن لم يقدر على تحرير رقبته على هذا الارتباط ؛ فيجب على الروح أن تصوم شهرين متتابعين، يعني يمسك نفسَه عن الالتفات إلى الكونين على الدوام والاستمرار، من غير تخلُّل التفات، وإن لم يتمكن مِن قطع هذا الالتفات، لبقية من بقايا أنانيته، فيجب عليه إطعام ستين مسكيناً من مساكين القوى الروحانية، المستهلك لسلطنة النفس وصفاتها، ليقيمهم على التخلُّق بالأخلاق الإلهية، والتحقق بالصفات الروحانية. هـ. ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله الإيمان الكامل، وتلك حدود الله لا يجوز تعدِّيها بالأهوية والبدع، وللكافرين لهذا الحكم عذاب البُعد ونار القطيعة، المؤلم للروح والقلب، بغم الحجاب وسوء الحساب.
﴿ فتحريرُ رقبةٍ ﴾ أي : فتداركه، أو فعليه، أو فالواجب تحرير رقبة. واشترط مالك والشافعي أن تكون مؤمنة، حملاً للمُطْلَق على المقيد ؛ لأنه قيّدها في القتل بالإيمان. والفاء للسببية، ومِن فوائدها : الدلالة على تكرُّر وجوب التحرير بتكرُّر الظهار. ﴿ مِن قبل أن يتماسا ﴾ أي : المظاهِر والمظاهَر منها، ومذهب مالك والجمهور : أن المسّ هنا يُراد به الوطء، وما دونه من اللمس والقُبلة، فلا يجوز للمظاهِر أن يفعل شيئاً من ذلك حتى يُكفِّر، فإن فعل شيئاً من ذلك تاب ولا يعود. وقال الحسن والثوري : أراد الوطء خاصة، فأباحا ما دونه من قبل الكفارة. ﴿ ذلكم ﴾ الحُكم ﴿ تُوعظون به ﴾ لأنَّ الحُكم بالكفارة دليل على ارتكاب الجناية، فيجب أن تتعظوا بهذا الحُكم حتى لا تعودوا إلى الظهار، وتخافوا عقابَ الله عليه، ﴿ واللهُ بما تعملون خبيرٌ ﴾ مُطَّلِع على ما ظهر مِن أعمالكم، التي مِن جملتها الظهار.
والذين يُظاهرون من نسائهم، يُباعدون من أنفسهم، ثم يعودون إلى الترفُّق بها والاستمتاع بما أحلّ الله لها، فكفارته تحرير رقبةً مِن ملك الشهوة، فلا يتناول شيئاً من المباحات الطيبة، إلاّ بنية التقرُّب إلى الله والشكر، لا بنية مجرد الاستمتاع، ولا يتناول من الشهوات التي شرهت إليها النفس، وحرصت على تحصيلها قبل حصولها، شيئاً قط، فإن لم يقدر عليها على هذا النمط، فعليه صيام شهرين أو أكثر، مجاهدةً ورياضةً، حتى تقف على حد الضرورة، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً أو أكثر، بكل ما يدخل عليه من الحظوظ. وقال القشيري : وإن لم يقدر على تحرير رقبته على هذا الارتباط ؛ فيجب على الروح أن تصوم شهرين متتابعين، يعني يمسك نفسَه عن الالتفات إلى الكونين على الدوام والاستمرار، من غير تخلُّل التفات، وإن لم يتمكن مِن قطع هذا الالتفات، لبقية من بقايا أنانيته، فيجب عليه إطعام ستين مسكيناً من مساكين القوى الروحانية، المستهلك لسلطنة النفس وصفاتها، ليقيمهم على التخلُّق بالأخلاق الإلهية، والتحقق بالصفات الروحانية. هـ. ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله الإيمان الكامل، وتلك حدود الله لا يجوز تعدِّيها بالأهوية والبدع، وللكافرين لهذا الحكم عذاب البُعد ونار القطيعة، المؤلم للروح والقلب، بغم الحجاب وسوء الحساب.
وذكر الحق جلّ جلاله :﴿ من قبل أن يتماسا ﴾ في العتق والصوم ولم يذكره في الإطعام، فاختلف العلماءُ في ذلك، فَحَمل مالك الإطعامَ على ما قبله، ورأى أنه لا يكون إلاّ قبل المسيس، وجعل ذلك مِن المُطْلَق الذي يُحمل على المقَيد. وقال أبو حنيفة : يجوز للمظاهِر إذا كان من أهل الإطعام أن يطأ قبل الكفارة ؛ لأن الله لم ينص في الإطعام أنه قبل المسيس، وقال الشافعي : يجب تقديمه على المسيس، لكن لا يستأنف إن مسّ في حال الإطعام وجعل الإطعام. وجعل الحق جلّ جلاله كفارة الظهار مُرتّبة، فلا ينتقل عن الأول حتى يعجز عنه، ومثلها كفارة القتل والتمتُّع، وقد نظم بعضهم أنواع الكفارات، ما فيه الترتيب وما فيه التخيير، فقال :
خيِّرْ بصوم ثم صيد وأذى | وقل لكل خصلةٍ يا حبذا |
ورتّب الظهار والتمتعا | والقتل ثم في اليمين اجتمعا |
والذين يُظاهرون من نسائهم، يُباعدون من أنفسهم، ثم يعودون إلى الترفُّق بها والاستمتاع بما أحلّ الله لها، فكفارته تحرير رقبةً مِن ملك الشهوة، فلا يتناول شيئاً من المباحات الطيبة، إلاّ بنية التقرُّب إلى الله والشكر، لا بنية مجرد الاستمتاع، ولا يتناول من الشهوات التي شرهت إليها النفس، وحرصت على تحصيلها قبل حصولها، شيئاً قط، فإن لم يقدر عليها على هذا النمط، فعليه صيام شهرين أو أكثر، مجاهدةً ورياضةً، حتى تقف على حد الضرورة، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً أو أكثر، بكل ما يدخل عليه من الحظوظ. وقال القشيري : وإن لم يقدر على تحرير رقبته على هذا الارتباط ؛ فيجب على الروح أن تصوم شهرين متتابعين، يعني يمسك نفسَه عن الالتفات إلى الكونين على الدوام والاستمرار، من غير تخلُّل التفات، وإن لم يتمكن مِن قطع هذا الالتفات، لبقية من بقايا أنانيته، فيجب عليه إطعام ستين مسكيناً من مساكين القوى الروحانية، المستهلك لسلطنة النفس وصفاتها، ليقيمهم على التخلُّق بالأخلاق الإلهية، والتحقق بالصفات الروحانية. هـ. ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله الإيمان الكامل، وتلك حدود الله لا يجوز تعدِّيها بالأهوية والبدع، وللكافرين لهذا الحكم عذاب البُعد ونار القطيعة، المؤلم للروح والقلب، بغم الحجاب وسوء الحساب.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُواْ كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ ﴾*﴿ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾*﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُواْ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ إِنَّ الذين يُحادون اللّهَ ورسولَه ﴾ أي : يُعادونهما ويُشاقونهما ؛ فإنَّ كُلاَّ من المتعادين في عدوةٍ وشِقٍّ غير الآخر، وكذلك يكون كُلُّ واحدٍ منهما في حدّ غير حدّ الآخر، غير أنَّ لذكر المُحادَّة هنا لمّا ذكر حدود الله مِن حسن الموقع ما لا غاية وراءه. ثم أخبر عنهم فقال :﴿ كُبِتُوا ﴾ أي : أُخذوا وأُهلكوا، أو : لُعنوا ﴿ كما كُبِتَ الذين من قبلهم ﴾ من كُفار الأمم الماضية المعادين للرسل عليهم السلام. وقال القشيري : يُحادّون : يُخالفون أمر الله، ويتركون طاعة رسول الله، أذِلُّوا وأُخْزوا كما أُذِلَّ مَنْ قبلهم من الكفار والعصاة. نزلت في المستهزئين يوم الخندق، إذ الله أجرى سُنته بالانتقام من أهل الإجرام، ومَن ضيَّعَ لرسول الله سُنةً واحدة في دينه ببدعة انخرط في سلك هذا الخزي، ووقع في هذا الذُّل. ه. وقال ابن عطية : الآية نزلت في المنافقين واليهود، وكانوا يتربصون بالرسول والمؤمنين الدوائر، ويتمنون فيهم المكروه، ويتناجون بذلك. ه.
﴿ وقد أنزلنا آياتٍ بيناتٍ ﴾ : حال من ضمير " كُبتوا " أي : كُبتوا بمحادتهم، والحال أنَّا قد أنزلنا آيات واضحات فيمن حاد الله ورسولَه، ممن قبلهم من الأمم وفيما فعلنا بهم، أو : آيات على صدق الرسول وصحة ما جاء به، ﴿ وللكافرين ﴾ بهذه الآيات، أو : بكل ما يجب الإيمان به، فيدخل فيه تلك الآيات دخولاً أوليّاً، ﴿ عذابٌ مهين ﴾ يذهب بعزِّهم وكِبْرهم.
قال الورتجبي : قوله تعالى :﴿ إلا هو معهم ﴾ المعية بالعلم عموم، وبالقرب خصوص، والقرب بالعلم عموم، وبظهور التجلِّي خصوص، وذلك دنو ﴿ دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى ﴾، فإذا ارتفع الأين والبين والمكان والجهات، واتصل أنوارُ كشوف الذات والصفات بالعارف، فذلك حقيقة المعية، إذ هو سبحانه مُنزّه عن الانفصال والاتصال بالحدث. ولو ترى أهل النجوى، الذين مجالستهم لله وفي الله، لترَى من وجوههم أنوار المعية، أين أنت من العلم الظاهر، الذي يدل على الرسوم. ألم تعلم أنَّ علمه تعالى أزلي، وبالعلم يتجلّى للمعلومات، فالصفات شاملة على الأفعال، ظاهرة من مشاهد المعلومات، فإذا كانت الذرات لا تخلو من قرب الصفات، كيف تخلو عن قرب الذات الأرواحُ العالية المقدّسة العاشقة المستغرقة في بحر وُجوده، لا تظن في حقي أني جاهل بأنّ القديم لا يكون محل للحوادث، فإنه حديث المُحدَثين، أعبرْ من هذا البحر حتى لا تجد الحدثان ولا الإنسان في مشاهدة الرحمان. هـ.
قلت : وحاصل كلامه : أنَّ المعيّة بالعلم تستلزم المعية بالذات، إذا الصفة لا تفارق الموصوف، وإنَّ بحر الذات اللطيف محيط بالكثيف منه من غير انفصال، وأما كون القديم لا يكون محل الحوادث فصحيح، لكن الحوادث عندنا فانية متلاشية، إذ ما ثَمَّ إلا تلوينات الخمرة الأزلية، وقد قال الجنيد :" إذا قرن الحادث بالقديم تلاشى الحادث وبقي القديم "، فاعبُرْ عن عالَم الحس إلى بحر المعاني، حتى لا تجد إلاَّ القديم الأزلي، فافهم وسلِّم.
إن لم ترَ الهلالَ فسَلِّم | لأناس رأوه بالأبصار. |
خ٧.
﴿ ثم يُنبِّئُهم ﴾ يُخبرهم ﴿ بما عَمِلوا ﴾ تفضيحاً وإظهاراً لِما يوجب عذابهم. ﴿ إِنّ الله بكل شيء عليم ﴾ لأنَّ نسبة ذاته المقتضية للعلم إلى الكل سواء، فلا يخلو منه زمان ولا مكان.
قال الورتجبي : قوله تعالى :﴿ إلا هو معهم ﴾ المعية بالعلم عموم، وبالقرب خصوص، والقرب بالعلم عموم، وبظهور التجلِّي خصوص، وذلك دنو ﴿ دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى ﴾، فإذا ارتفع الأين والبين والمكان والجهات، واتصل أنوارُ كشوف الذات والصفات بالعارف، فذلك حقيقة المعية، إذ هو سبحانه مُنزّه عن الانفصال والاتصال بالحدث. ولو ترى أهل النجوى، الذين مجالستهم لله وفي الله، لترَى من وجوههم أنوار المعية، أين أنت من العلم الظاهر، الذي يدل على الرسوم. ألم تعلم أنَّ علمه تعالى أزلي، وبالعلم يتجلّى للمعلومات، فالصفات شاملة على الأفعال، ظاهرة من مشاهد المعلومات، فإذا كانت الذرات لا تخلو من قرب الصفات، كيف تخلو عن قرب الذات الأرواحُ العالية المقدّسة العاشقة المستغرقة في بحر وُجوده، لا تظن في حقي أني جاهل بأنّ القديم لا يكون محل للحوادث، فإنه حديث المُحدَثين، أعبرْ من هذا البحر حتى لا تجد الحدثان ولا الإنسان في مشاهدة الرحمان. هـ.
قلت : وحاصل كلامه : أنَّ المعيّة بالعلم تستلزم المعية بالذات، إذا الصفة لا تفارق الموصوف، وإنَّ بحر الذات اللطيف محيط بالكثيف منه من غير انفصال، وأما كون القديم لا يكون محل الحوادث فصحيح، لكن الحوادث عندنا فانية متلاشية، إذ ما ثَمَّ إلا تلوينات الخمرة الأزلية، وقد قال الجنيد :" إذا قرن الحادث بالقديم تلاشى الحادث وبقي القديم "، فاعبُرْ عن عالَم الحس إلى بحر المعاني، حتى لا تجد إلاَّ القديم الأزلي، فافهم وسلِّم.
إن لم ترَ الهلالَ فسَلِّم | لأناس رأوه بالأبصار. |
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ ألم تَرَ إِلى الذين نُهوا عن النجوى ثم يعودون لما نُهوا عنه ﴾ نزلت في اليهود والمنافقين، كانوا يتناجون فيما بينهم، ويتغامزون بأعينهم إذا رأوا المؤمنين، يريدون أن يغيظوهم، فنهاهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فعادوا لمثل فعلهم، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والهمزة للتعجيب مِن حالهم، وصيغة المضارع للدلالة على تكرير عودهم وتجدُّده، واستحضار صورته العجيبة. وفي السِّيَر : أنه أمر بإخراجهم من المسجد، فأُخرجوا مجرورين، كما في الاكتفاء. ﴿ ويتناجون بالإِثم والعُدوان ﴾ أي : بما هو إثم في نفسه وعدوان للمؤمنين، ﴿ ومعصيتِ الرسول ﴾ أي : وتواصٍ بمعصية الرسول. وذكره صلى الله عليه وسلم بعنوان الرسالة بين الخطابين المتوجهيْن إليه عليه السّلام لزيادة تشنُّعهم واستعظام معصيتهم، ﴿ وإِذا جاؤوك حَيَّوكَ ﴾ أي : سلَّموا عليك ﴿ بما لم يُحَيِّك به اللهُ ﴾ بما لا يُسلم عليك الله تعالى، فكانوا يقولون في تحيتهم : السام عليك يا محمد. والسام : الموت، والله تعالى يقول في سلامه على رسوله :﴿ وَسَلاَمٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى ﴾ [ النمل : ٢٩ ] ﴿ وَسَلاَمٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ ﴾ [ الصفات : ١٨١ ]. ﴿ ويقولون في أنفسِهم ﴾ أي : فيما بينهم، أو في ضمائرهم، ﴿ لولا يُعذبُنا اللّهُ بما نقول ﴾ هلاّ يُعذبنا الله بذلك، فلو كان نبيّاً لعاقبنا بالهلاك، قال تعالى :﴿ حَسْبُهم ﴾ عذاباً ﴿ جهنمُ يصلونها ﴾ يدخلونها فيحترقون فيها، ﴿ فبئس المصيرُ ﴾ المرجع جهنم.
الإشارة : ألم ترَ إلى الذين نُهوا عن الوقوع في أهل الخصوصية، والتناجي بما يسوؤهم ثم يعودون لما نُهوا عنه، ويتناجون بالإثم والعدوان، وما فيه فساد البين وتشتيت القلوب، ومعصية الرسول بمخالفة سنته، وإذا جاؤوك أيها العارف، الخليفة للرسول، حيَّوك بما لم يُحيك به الله، أي : خاطبوك بما لم يأمر الله أن تُخاطَب به من التعظيم، ويقولون في أنفسهم، لولا يُعذبنا الله بما نفعل من تصغيرهم، حسبهم نار القطيعة والبُعد، مُخلّدون فيها، فبئس المصير.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ يا أيها الذين آمنوا إِذا تناجيتم ﴾ في أنديتكم وفي خلواتكم ﴿ فلا تتناجَوا بالإِثم والعدوانِ ومعصيتِ الرسول ﴾ كفعل هؤلاء المنافقين، ﴿ وتناجَوا بالبِرِّ والتقوى ﴾ أي : بما تضمن خير المؤمنين، والاتقاء عن معصية الرسول صلى الله عليه وسلم، أو : بأداء الفرائض وترك المعاصي، ﴿ واتقوا اللهّ الذي إِليه تحشرون ﴾ فيُجازيكم بما تتناجون به من خير أو شر.
﴿ إِنما النجوى ﴾ المعهودة التي هي التناجي بالإثم والعدوان، ﴿ من الشيطان ﴾ لا من غيره، فإنه المزيِّن لها والحامل عليها ﴿ لِيَحْزُنَ ﴾ بها ﴿ الذين آمنوا ﴾ بتوهيمه أنها في نكبةٍ أصابتهم، أو أصابت إخوانهم، أو في الاشتغال بثلْمهم وتنقيصهم. ولهذا نهى الشارع أن يتناجى اثنان دون الثالث، لئلا يتوهم أنهم يتكلمون فيه. قال تعالى :﴿ وليس بضارّهم ﴾ أي : وليس الشيطان أو الحزن بضارهم ﴿ شيئاً ﴾ من الأشياء، أو شيئاً من الضرر ﴿ إِلاّ بإِذن الله ﴾ بمشيئته، ﴿ وعلى الله فليتوكل المؤمنون ﴾ فلا تُبالوا بنجواهم، فإنَّ الله تعالى يعصمهم من شره وضرره، فليكلوا أمرَهم إلى الله، ويتعوّذوا من شر الشيطان، فإنَّ كيده ضعيف.
قال القشيري : إنما قَبُحَ التناجي منهم، وعَظُمَ خطره ؛ لأنه تضمَّن فسادَ ذات البيْن، وخيرُ الأمور ما عاد بإصلاح ذات البيْن، وبعكسه يكون الأمر بالضد، يعني : فيعظم خطر التناجي بالبر والتقوى، وبما يقرب إلى الله. ثم قال : إذا كانت المشاهدة غالبةً، والقلوب حاضرةً، والتوكل صحيحاً، والنظرُ في موضعه صائباً، فلا تأثير لهذه الحالات، أي : لحزن الشيطان وتوهيمه وإضراره، وإنما هذا للضعفاء. ه.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ يا أيها الذينَ آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجلس ﴾ [ المجادلة : ١١ ]١ أي : توسَعوا فيه، وقيل :" في المجلس " متعلق بقيل، أي : إذا قيل لكم في المجلس تفسّحوا فافسحوا، والمراد : مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانوا يتضامُّون فيه تنافساً فيه صلى الله عليه وسلم وحرصاً على استماع كلامه. وقرأ عاصم " مجالس " أي : في مجالس الرسول التي تجلسونها. وقيل : المراد : مجالس القتال، وهي مراكز الغزاة، كقوله تعالى :﴿ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ ﴾ [ آل عمران : ١٢١ ] قيل : كان الرجل يأتي الصف، فيقول : تفَسَّحوا، فيأبَوا، لحرصهم، والأول أنسب بذكر النجوى أولاً وثانياً، فإن امتثلتم وتفسحتم ﴿ يَفْسَحِ اللهُ لكم ﴾ في كل ما تريدون التفسُّح فيه، من الرزق، والدار، والصدر، والقبر، والجنة، والعلم، والمعرفة. ﴿ وإِذا قيل انشُزُوا ﴾ أي : ارتفعوا من مجلسه، وانهضوا للصلاة، أو الجهاد، أو غيرهما من أعمال البر، أو : انشزوا للتوسعة في المجلس على المقبِلين، ﴿ فانشُزُوا ﴾ أي : فانهضوا ولا تُبطِئوا، وقيل : كانوا يُطيلون الجلوس معه صلى الله عليه وسلم وربما جلس قوم حتى يؤمروا بالقيام، فأُمروا بالقيام وعدم التثقيل. وفي مضارع " نشز " لغتان الضم والكسر، والأمر تابع له.
﴿ يَرْفَعِ اللّهُ الذين آمنوا منكم ﴾ بامتثال أوامره وأَمْرِ رسوله، بالنصر وحسن الذكر في الدنيا، والإيواء إلى غرف الجنان في الآخرة. ﴿ و ﴾ يرفع ﴿ الذين أُوتوا العلمَ ﴾ خصوصاً ﴿ درجاتٍ ﴾ عالية، بما جمعوا من أثريْ العلم والعمل، فإنّ العلم مع علو رتبته يزيد مع العمل رفعةً لا يُدرك شأوها، بخلاف العلم العاري عن العمل، وإن كان له شرف في الجملة، ولذلك يُقتدى بالعالِم في أفعاله فقط. وفي هذه الدرجات قولان، أحدهما : في الدنيا، في الرتبة والشرف والتعظيم، والآخر : في الآخرة، وهو أرجح. وعن ابن عباس رضي الله عنهما :" يرفع العالم فوق المؤمن سبعمائة درجة، بين كل درجة كما بين السماء والأرض "، ومثل هذا لا يُقال بالرأي. وتقدير الآية : يرفع الله الذين آمنوا منكم درجةً، والذين أُوتوا العلم درجات، وقيل :" درجات " يرجع لهما معاً، وتفضيل أهل العلم يؤخذ من خارج.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه، أنه كان إذا قرأها قال :" يا أيها الناس افهموا هذه الآية، ولترغبكم في العلم ". وعن النبي صلى الله عليه وسلم :" فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب " ٢، وعنه صلى الله عليه وسلم :" عبادة العالم يوماً واحداً تعدل عبادة العابد أربعين سنة " ٣ يعني الجاهل، وعنه صلى الله عليه وسلم :" يشفعُ يومَ القيامة ثلاثةٌ : الأنبياء، ثم العلماء، ثم الشهداء " ٤، فأَعْظِم بمرتبةٍ هي واسطة بين النبوة والشهادة، بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويشمل الحديث العلماء بالله وبأحكام الله، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : خُيّر سليمان عليه السلام بين العلم والمال والمُلك، فاختار العلم، فأعطى المالَ والمُلكَ معه.
وقال صلى الله عليه وسلم :" أوحى اللّهُ إلى إبراهيم عليه السلام : يا إبراهيم إني عليم، أُحب كل عليم " ٥ وعن بعض الحكماء : ليت شعري أيّ شيءٍ أدرك مَن فاته العلم ؟ وأيّ شيءٍ فات مَن أدرك العلم ؟ والعلوم أنواع، وشرفها باعتبار المعلوم، فأفضل العلوم : العلم بالذات العلية، على نعت الكشف والعيان، ثم العلم بالصفات والأسماء، ثم العلم بالأحكام، ثم العلم بالآلات الموصلة إليه.
﴿ واللهُ بما تعملون خبير ﴾ تهديد لمَن لم يمتثل الأمر. والله تعالى أعلم.
الإشارة : ما قيل في مجلس العِلم يُقال في مجلس الوعظ، بل هو عينه ؛ لأنه العلم النافع، فإذا قَدِمَ واحدٌ من الفقراء أو غيرهم لمجلس الشيخ، فوجد فُرجة جلس فيها، وإلاّ جلس خلف الحلقة، ولو مع النعال، فلا يُزاحم ولا يُقم أحداً ليجلس، إلاّ أن يأمره الشيخ بالتقدُّم لمنفعة فيه في إعانة الشيخ، فليتقدّم برفق ولطافة وأدب. وإذا قيل لأهل المجلس : تفسَّحوا فليتفسَّحوا، يفسح الله لهم في العلم والعرفان، والأخلاق والوجدان، والمقامات، وسائر ما يطلب التوسُّع فيه. وإذا قيل : انشُزُوا لصلاة أو خدمة أو ملاقاة، فانشُزُوا، يرفع الله الذين آمنوا منكم، وليس فيهم أهلية لصريح المعرفة درجةً عن العامة، حيث صَحِبُوا العارفين للتبرُّك والحُرمة. ويرفع الذين أُتوا العلم بالذات، على سبيل الكشف والعيان، درجات، سبعمائة درجة، على العالم صاحب الدليل والبرهان، فيرفع العالِم فوق الجاهل سبعمائة درجة، ويرفع العارف فوق العالِم سبعمائة. فالناس أربع طبقات : الطبعة العليا الأولياء والعارفون بالله، ثم العلماء، ثم الصالحون، ثم عامة المؤمنين. والمراد بالأولياء مَن منَّ اللّهُ عليه بملاقاة شيخ التربية، حتى دخل مقام الفناء والبقاء، زاح عنه حجاب الكائنات، وأفضى إلى شهود المكوِّن، فهؤلاء هم المقرَّبون الصدِّيقون، والمراد بالعلماء العاملون المخلِصون.
قال في " لطائف المنن " : وحيثما وقع العِلم في كتاب الله عزّ وجل، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنما المراد به النافع، المخمِد للهوى، القامع للنفس، الذي تكتنفه الخشية، وتكون معه الإنابة، قال الله تعالى :﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء ﴾ [ فاطر : ٢٨ ]، فلم يجعل عِلم مَن لم يخشَ من العلماء علماً، فشاهد العلم الذي هو مطلوب الله : الخشية، وشاهد الخشية : موافقة الأمر، وأمّا عِلم مَن يكون معه الرغبة في الدنيا، والتملُّق لأربابها، وصرف الهمة لاكتسابها، والجمع والإدخار، والمباهاة والاستكثار، وطول الأمل ونسيان الآخرة، فما أبعد مَن هذا وصفه من أن يكون من ورثة الأنبياء عليهم السلام، وهل ينتقل الشيء الموروث إلى الوارث إلاّ بالصفة التي كان بها عند الموروث، ومثَلُ من هذه الأوصاف وصفُه كمَثَل الشمعة تُضيء على غيرها وهي تحرق نفسها، جعل الله عِلمَ مَن هذا وصفه حجة عليه، وسبباً في تكثير العقوبة لديه، ولا يغرنك أن يكون به انتفاع للبادي والحاضر، فقد قال صلى الله عليه وسلم :" إنَّ الله يؤيدُ هذا الدين بالرجل الفاجر " ٦، ومثَلُ مَن تعلّم العلم لاكتساب الدنيا، وتحصيل الرفعة بها، كمثل مَن رفع العذرة بملعقة من ياقوت، فما أشرف الوسيلة، وما أخس المتوسل إليه ! ومثَلُ مَن قطع الأوقات في طلب العلم، فمكث أربعين سنة يتعلّم العلم ولا يعمل به، كمثل مَن قعد هذه المدة يتطهّر ويُجدد الطهارة، ولم يُصلِّ صلاةً واحدة، إذ مقصود العلم العمل، كما أنَّ المقصود بالطهارة وجود الصلاة، ولقد سأل رجلٌ الحسنَ البصري عن مسألة، فأفتاه فيها، فقال الرجل للحسن : قد خالفك الفقهاءُ، فزجره الحسن، وقال : ويحك، وهل رأيت فقيهاً، إنما الفقيه مَن فقه عن الله أمْرَه ونهيه. وسمعتُ شيخنا أبا العباس رضي الله عنه يقول : الفقيه مَن انفقأ الحجاب عن عينيْ قلبه، فشاهد ملكوت ربه. انتهى كلامه.
فالعلماء المخلِصون الذين عرفوا الله من طريق البرهان، تلي درجتهم درجةَ الأولياء الذين هم أهل الشهود والعيان، ثم الصالحون الأبرار، ثم عامة المؤمنين، ومَن قال خلاف هذا فهو جاهل بمرتبة الولاية، قال صلى الله عليه وسلم :" عامة أهل الجنة البُله " ٧. وعِلِّيُون لذوي الألباب، وذووا الألباب هم أهل البصائر، الذين فتح الله بصيرتَهم، وتطهّرت سريرتهم بالمجاهدة والرياضة، حتى شاهدوا الحق وعرفوه، وقال تعالى :﴿ فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُو الأَلْبَابِ ﴾ [ الزمر : ١٧، ١٨ ]، وراجع ما تقدّم في تفسيرها، وكل مَن كان محجوباً عن الله، يستدل بغيره عليه، فهو من البُله، إلاّ أنّ صاحب الاستدلال أربع من المقلِّد، أي : سَلِمَ من الوسواس، وإلاّ فالمقلِّد أحسن منه.
ولمّا تكلم في الإحياء على درجات التوحيد، قال :" والدرجة العليا في ذلك للأنبياء، ثم للأولياء العارفين، ثم للعلماء الراسخين، ثم الصالحين "، فقدَّم الأولياء على العلماء. وقال الأستاذ القشيري في أول رسالته : فقد جعل الله هذه الطائفة صفوة أوليائه، وفضَّلهم على الكافة من عباده بعد رسله وأنبيائه. ه. سُئل ابن رشد - رحمه الله - عن قول الغزالي والقشيري بتفضيل الأولياء على العلماء، فقال : أمّا تفضيل العارفين بالله على العارفين بأحكام الله ؛ فقول الأستاذ أبي حامد متفق عليه، ولا يشك عاقل أنّ العارفين بما يجب لله من أوصاف الجلال ونعوت الكمال أفضل من العارفين بالأحكام، بل العارفون بالله أفضل من أهل الأصول والفروع ؛ لأنّ العلم يشرف بشرف المعلوم. ثم أطال الكلام في الاستدلال على ذلك، فانظر. ذكره في المعيار.
وقال بعضهم في تفضيل العارف على العالِم : إنّ العارف فوق ما يقول، والعالِم دون ما يقول، يعني : أن العارف إذا تكلم في مقام من مقامات اليقين، كان قَدَمُه فوق ما وصف، لأنه يسلكه دوماً ثم يصفه، والعالم إنما يصفه بالنعت، وأيضاً : العالِم يدلك على العمل، والعارف يُخرجك عن شهود العمل، العالِم يحملك حِمل التكليف، والعارف يروحك بشهود التعريف، العالِم يَدُلك على علم الرسوم، والعارف يُعرّفك بذات الحي القيوم، العالِمَ يَدُلك على الأسباب، والعارف يدلك على مُسبِّب الأسباب، العالِم يَدُلك على شهود الوسائط، والعارف يَدُلك على محرك الوسائط، العالِم يُحذّرك من الوقوف مع الأغيار، والعارف يُحذّرك من الوقوف مع الأنوار، ويزج بك في حضرة الأسرار، العالِم يُحذّرك من الشرك الجلي، والعارف يُخلِّصك من الشرك الخفي، إلى غير دلك من الفروقات بين العارف والعالم. ومن اصطلاحات الصوفية : أنَّ العالِم بالأحكام يسمى عالماً، والعالِم بالذات عياناً وكشفاً يسمى عارفاً، كما في القوت. وبالله التوفيق.
٢ أخرجه أبو داود في العلم حديث ٣٦٤١، والترمذي في العلم حديث ٢٦٨٢، وابن ماجه في المقدمة حديث ٢٢٣، وأحمد في المسند ٥/١٩٦..
٣ الحديث لم أجده بهذا اللفظ..
٤ أخرجه ابن ماجه في الزهد حديث ٤٣١٣..
٥ أخرجه ابن حجر في الكاف الشاف في تخريج أحاديث الكشاف ١٦٥..
٦ أخرجه البخاري في الجهاد حديث ٣٠٦٢، ومسلم في الإيمان حديث ١٧٨..
٧ روي الحديث بلفظ: "أكثر أهل الجنة البله"، أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد ٨/٧٩، والذهبي في ميزان الاعتدال ١٣٦١، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٧/١٥٧، والعجلوني في كشف الخفاء ١/٢٨٦، والمتقي الهندي في كنز العمال ٣٩٢٨٣، وابن عدي في الكامل في الضعفاء ٣/١١٦٠..
﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾*﴿ أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ يا أيها الذين آمنوا إِذا ناجيتم الرسولَ ﴾ أي : إذا أردتم مناجاته في بعض شؤونكم المهمة، ﴿ فقدِّموا بين يدي نجواكم ﴾ أي : قبل نجواكم﴿ صدقة ﴾، وهي استعارة ممن له يدان، كقول عمر رضي الله عنه :" من أفضل ما أوتيت العرب الشِعر، يقدّمه الرجل أمام حاجته، فيستمطر به الكريم، ويستنزل به اللئيم " يريد : قبل حاجته. وفي هذا الأمر تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم، وانتفاع الفقراء، والزجر عن الإفراط في مناجاته وسؤاله عليه الصلاة والسلام، والتمييز بين المخلِص والمنافق، وبين مُحب الآخرة ومُحب الدنيا، وهل الأمر للندب، أو للوجوب لكنه نسخ بقوله :﴿ أأشفقتم. . ﴾ الخ ؟، وعن عليّ رضي الله عنه :" إنَّ في كتاب الله آية ما عمل بها أحدٌ غيري، كان لي دينار فصرّفته فكنت إذا ناجيته صلى الله عليه وسلم تصدّقت به " ١، وقال أيضاً :" أنا كنت سبب الرخصة والتخفيف عن المسلمين "، قال رضي الله عنه : فَهِم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أنّ هذه العبادة قد شقّت على الناس، فقال :" يا عليّ كم ترى حدّ هذه الصدقة ؟ أتراه ديناراً ؟ " قلت : لا، قال :" فنصف دينار " ؟ قلت : لا، قال :" فكم " ؟ قلت : حبة من شعير، قال :" إنك لزهيد " فأنزل الله الرخصة " ٢. قال الفخر : قوله صلى الله عليه وسلم لعليّ :" إنك لزهيد " معناه : إنك قليل المال، فقدّرتَ على حسب حالك. وفي رواية :" شعيرة من ذهب "، فقال :" إنك لزهيد "، أي : مُصغر مقلِّل للدنيا. قاله في القوت.
﴿ ذلك ﴾ التقديم للصدقة ﴿ خير لكم ﴾ في دينكم ﴿ وأطهرُ ﴾ لنفوسكم من رذيلة البُخل، ولأنَّ الصدقة طُهرة، ﴿ فإِن لم تجدوا ﴾ ما تتصدقون به ﴿ فإِنَّ الله غفور رحيم ﴾ في ترخيص المناجاة من غير صدقة. قيل : كان ذلك عشر ليال، ثم نُسِخَ، وقيل : ما كان إلاَّ ساعة من نهار. وعن عليّ - كرّم الله وجهه - أنه قال : سألتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن عشر مسائل، فأجابني عنها، ثم نزل نسخ الصدقة، قلت : يا رسول الله ؛ ما الوفاء ؟ قال :" التوحيد وشهادة أن لا إله إلاّ الله " قلت : وما الفساد ؟ قال :" الكفر والشرك بالله " قلت : وما الحق ؟ قال :" الإسلام، والقرآن والولاية إذا انتهت إليك " قلت : وما الحيلة ؟ قال :" ترك الحيلة "، قلت : وما عَلَيَّ ؟ قال :" طاعة الله وطاعة رسوله "، قلت : وكيف أدعو الله تعالى ؟ قال :" بالصدق واليقين "، قلت : وماذا أسأل الله ؟ قال :" العافية " ، قلت : وما أصنع لنجاة نفسي ؟ قال :" كلْ حلالاً، وقل صدقاً " ، قلت : وما السرور ؟ قال :" الجنة " ، قلت : وما الراحة ؟ قال :" لقاء الله " فلما فرغت منها نزل نسخ الصدقة.
٢ أخرجه الترمذي في تفسير سورة ٥٨، حديث ٣٣٠٠..
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِين تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم ﴾ وهم اليهود، لقوله :﴿ مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ ﴾ [ المائدة : ٦٠ ]. والغضب في حقه تعالى : إرادة الانتقام. كان المنافقون يتولّون اليهود، وينقلون إليهم أسرار المؤمنين، ففضحهم الله. ثم قال تعالى :﴿ ما هم منكم ﴾ يا معشر المسلمين ﴿ ولا منهم ﴾ أي : من اليهود، بل كانوا ﴿ مُّذبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وإِلَى هَؤُلاءِ ﴾ [ النساء : ١٤٣ ]. ﴿ ويحلفون على الكذب ﴾ أي : يقولون : والله إنّ لمسلمون لا منافقون، ﴿ وهم يعلمون ﴾ أنهم كاذبون منافقون.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ إِنّ الذين يُحادون اللهَ ورسولَه ﴾ أي : يخالفونهما، ويجعلون بينهم وبينهما حدّاً، وهم حزب الشيطان المتقدم، ﴿ أولئك في ﴾ جملة ﴿ الأذَلِّينَ ﴾ لا ترى أحداً أذلّ منهم من الأولين والآخرين ؛ لأنّ ذِلة أحد المتخاصمين على قدر عزة الآخر، وحيث كانت عزة الله غير متناهية كانت ذلة مَن يُحاده كذلك.
﴿ لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُواْ آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾.
قلت :﴿ تجد ﴾ إما متعدٍّ إلى اثنين، و " يوادون " الثاني، أو إلى واحد، بمعنى : تصادف. و " يوادون " : حال من " قوم "، لتخصيصه بالصفة، أو صفة ثانية.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ لا تجدُ ﴾ أيها الرسول، أو : كل مَن يسمع ﴿ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ ﴾ أي : خالفه ﴿ ورسولَه ﴾ أي : عاده، أي : لا تجد قوماً مؤمنين يُوالون المشركين، أي : لا ينبغي أن يكون ذلك، وحقه أن يمتنع ولا يوجد بحال، مبالغة في الزجر عن موالاة أعداء الله، والاحتراز عن مخالطتهم ومعاشرتهم، وزاد ذلك الأمر تأكيداً وتشديداً بقوله :﴿ ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إِخوانَهم أو عشيرتَهم ﴾ أي : لو كان مَن حادّ الله ورسلَه مِن أقرب الناس إليه، فإنَّ قضية الإيمان بالله تعالى أن يهجر كُلَّ مَن حادَ عنه بالمرة، وهذه حال أهل الصدق في الإيمان، ولذلك كان الصحابة رضي الله عنهم يُقاتلون آباءهم وأبناءهم وإخوانهم، فقد قَتَلَ أبو عبيدة بنُ الجراح أباه، وأتى برأسه للنبي صلى الله عليه وسلم، طاعةً لله ورسوله، وقال سعدُ بن أبي وقاص :" كنتُ جاهداً على قتل أخي عُتبة، يوم بدر ". وفيهم نزلت الآية. والجمع باعتبار معنى " مَن " كما أنّ الإفراد فيما قبله باعتبار لفظها. ﴿ أولئك ﴾ الموصوفون بما ذكر، وما فيه من معنى البُعد لرفع درجتهم في الفضل، وهو مبتدأ خبره :﴿ كَتَبَ في قلوبهم الإِيمان ﴾ أي : أثبته فيها، وفيه دلالة على خروج الأعمال مِن مفهوم الإيمان، فإنَّ جزء الثابت في القلب ثابت فيه، ولا شيء من أعمال الجوارح يثبتُ فيه. ﴿ وأيَّدهم ﴾ أي : قوَّاهم ﴿ برُوحٍ منه ﴾ أي : من عنده تعالى، وهو نور اليقين، أو : القرآن، أو : النصر على العدو، ويجوز أن يكون الضمير للإيمان، أي : بروح من الإيمان، على أنه في نفسه روح لحياة القلوب به.
وعن الثوريِّ : أنهم كانوا يَرَوْنَ أنها نزلت فيمن يصحب السلطان، أي : ويُداهنه ولا ينصحه. وقال سهل : مَن صحّح إيمانه، وأخلص توحيده، لا يأنس بمبتدِع، ولا يُجالسه، ويظهر له من نفسه العداوة، ومَن داهن مبتدِعاً سلبه الله حلاوةَ السنن، ومَن أجابه لطلب عزِّ الدنيا، أو عَرضها، أذلَه الله بذلك العزّ، وأفقره بذلك الغنى، ومَن ضحك إلى مبتدع نزع الله نورَ الإيمان من قلبه، ومَن لم يصدّق فليجرب. ه من النسفي.
ثم بيّن ما يتحفهم به في الآخرة، بعد بيان ما أكرمهم به في الدنيا، بقوله :﴿ ويُدخلهم جناتٍ تجري مِن تحتها الأنهارُ خالدينَ فيها ﴾ أبد الآبدين، ﴿ رضي اللهُ عنهم ﴾ لتوحيدهم الخالص وطاعتهم، ﴿ ورَضُوا عنه ﴾ لثوابه الجسيم في الآخرة، وبما قضى بهم في الدنيا، وهو بيان لابتهاجهم بما أوتوه عاجلاً وآجلاً. ﴿ أولئك حزبُ الله ﴾ أنصار حقّه، ورعاة خلقه، وهو بيان لاختصاصهم به - عزّ وجل - وفي مقابلة اختصاص حزب الشيطان به. وقوله تعالى :﴿ ألا إِنَّ حزبَ الله هم المفلحون ﴾ بيان لاختصاصهم بالفوز بسعادة النشأتين، أي : هم الباقون في النعيم المقيم، الفائزون بكل محبوب، الآمنون من كل مرهوب.
الإشارة : لا تجد قوماً يريدون تحقيق الإيمان وخلوص العرفان يُوادون أهلَ الغفلة والعصيان، ولو كانوا من أقرب الناس إليهم، فالأخ الحقيقي والصاحب الخالص هو الذي يوافقك في النسبة، ويرافقك على الطاعة، ويُغيِّبك عن مواطن الغفلة، وأمَّا مَن يجرك إلى الغفلة فلا نسبة بينك وبينه، ولو كان أباً أو أمّاً أو أخاً شقيقاً. وقد تقدّم الكلام على المسألة في قوله تعالى :﴿ الأَخِلاءُ يَوْمَئِذ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ ﴾[ الزخرف : ٦٧ ]. قال القشيري : مَن جَنَحَ إلى منحرفٍ في دينه، أو داهَنَ مبتدعاً في عقده، نَزَعَ اللهُ نورَ التوحيد من قلبه، فهو في حياته جانٍ على عقيدته، سيذوق قريباً وَبَال أمره، وإنَّ الأولياء كتب الله الإيمانَ في قلوبهم وأثبته. ويقال : جعل قلوبهم مُطرّزةً باسمه، وأعْزِزْ بحُلة أسرار قومٍ، طِرازُهم اسم " الله " عزّ وجل ! !. ه.
وقال الورتجبي :﴿ لا تجد قوماً يؤمنون بالله. . . ﴾ الخ، أي : آثروا اللّهَ على مَن دونه، وذلك بأنّ الله غرس أشجار التوحيد والمعرفة في قلوبهم، وتجلّى لأرواحهم بنفسه، فصار معنى حقيقة التجلّي منقوشاً في نفس أرواحهم وعقولهم. ه.
وقوله تعالى :﴿ وأيَّدهم بروح منه ﴾ قال في الحاشية الفاسية : هو مقام الشهود والتجلّي العياني، وهو حقيقة السر عند القوم، وهو علم يمتد ظله في الأرواح المواجَهة على حسب قابليتها واستعدادها، كما خصصتها المشيئة الإلهية، وهو التعليم الإلهامي للأولياء، والتنزُّل الوحيي للأنبياء عليهم السلام. وعن ذلك الأمداد عُبر بالنفخ والإلقاء، وباعتبار حياة الروح به وقوتها سُمي رُوحاً، وإضافته إلى الله تعالى لأنه مقتبس من نور أوصافه. ومثالٌ انفعالي عن علمه، وآثارٌ عن قدرته وكلامه. وبالجملة فالعلم الحقيقي الذاتي لله، وكذا سائر صفاته، والعلم العرضي المثالي الانفعالي لمَن خصّ سبحانه من عباده، ولا يحيطون بشيء من علمه إلاّ بما شاء، ﴿ وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً ﴾ وكما أن الصُور المنطبعة في المرآة الصيقلة آثار ناشئة منها، وحادثة من مواجهة الصور الحسية، كذلك العلوم الممتدة في الأرواح المواجَهة، ظلال وآثار عارضة، منفعلة حادثة من حضرة الوجود الحقيقي، والعلم الذاتي، وهذا واضح لا شك فيه. الله الموفق. وقال الورتجبي : وأيّدهم بتجلّي ذاته لأرواحهم، وما وفقهم في الصفات، بل أغرقهم في بحر الذات. ه.
وقوله تعالى :﴿ أولئك حزبُ الله ﴾ قال سهل : الحزب : الشيعة، وهم الأبدال : وأرفع منهم الصدِّيقون. وقال بعضهم : حزب الله، إذا نطقوا بهروا، وإن سكتوا ظهروا، وإن غابوا حضروا، إن ناموا سهروا. ه. وقال ابن عطاء : إنّ لله عباداً اتصالُهم به دائم، وأعينهم به قريرة أبداً، لا حياة لهم إلاّ به ؛ لاتصال قلوبهم به، والنظر إليه بصفاء اليقين، فحياتهم بحياته موصولة، لا موت لهم أبداً، ولا صبر لهم عنه، لأنه قد سبى أرواحهم به، فعلّقها عنده، فثمَّ مأواها، قد غشي قلوبهم من النور ما أضاءت به، فأشرقت، ونما زيادتها على الجوارح، وصاروا في حِرز حماية، أولئك حزب الله. وقال أبو عثمان : حزب الله مَن يغضب في الله، ولا يأخذه فيه لومة لائم. جعلنا الله ممن تحقّق بجميع هذه الأوصاف بمنّه وكرمه. آمين. وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم.