تفسير سورة الأنعام

العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير
تفسير سورة سورة الأنعام من كتاب العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير .
لمؤلفه الشنقيطي - العذب النمير . المتوفي سنة 1393 هـ

تفسير سورة الأنعام
يقول الله جل وعلا :﴿ قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ﴾ [ الأنعام : آية ٣٣ ].
قوله في هذه الآية الكريمة :﴿ قد نعلم إنه ليحزنك ﴾ قرأه عامة القراء، ما عدا نافعا :﴿ قد نعلم إنه ليحزنك ﴾ مضارع حزنه الأمر – بالثلاثي – يحزنه، وقرأه نافع وحده :﴿ قد نعلم إنه ليحزنك ﴾ من أحزنه الأمر – بصيغة الرباعي – يحزنه ( بضم الياء ).
وقوله في هذه الآية الكريمة :﴿ فإنهم لا يكذبونك ﴾ قرأه عامة القراء ما عدا نافعا والكسائي :﴿ فإنهم لا يكذبونك ﴾ بصيغة ( التفعيل ). وقرأه نافع والكسائي من بين القراء ﴿ فإنهم لا يكذبونك ﴾ بصيغة ( الإفعال ) لا بصيغة ( التفعيل ).
وسبب نزول هذه الآية الكريمة كما ثبت عن علي ( رضي الله عنه ) أن الكفار – كفار مكة – كأبي جهل ونظرائه قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : نحن لا نكذبك، ونعلم أنك صادق أمين، ولكن هذا الذي جئت به هو الذي نكذبه، فأنزل الله :﴿ فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ﴾.
و( قد ) في قوله :﴿ قد نعلم ﴾ هي للتحقيق، أي : لتحقيق علم الله جل وعلا.
وما جاء على ألسنة علماء العربية من أن ( قد ) إذا دخلت على المضارع أنها تكون للتقليل، وأنها تارة تكون ك " ربما " واستدلوا بأنها تكون تارة للتكثير بقول الشاعر :
قد أترك القرن مصفرا أنامله كأن أثوابه مجت بفرصاد
وقول الآخر :
أخي ثقة لا تتلف الخمر ماله ولكنه قد يتلف المال نائله
قالوا : " قد يتلف المال " أي يكثر من نائله إتلاف المال، وكذلك يكثر في هذا المفتخر بقتل الأقران : قتل الأقران. كل هذا خلاف التحقيق في هذه الآية ؛ لأن ( قد ) فيها للتحقيق، يبين الله لخلقه محققا لهم أن عمله محيط بما ذكر أنه يعلمه، وهو كثير في القرآن، كقوله :﴿ قد يعلم الله المعوقين منكم ﴾ [ الأحزاب : آية ١٨ ] ﴿ قد نرى تقلب وجهك في السماء ﴾ [ البقرة : آية ١٤٤ ] ﴿ ولقد نعلم أنك يضيق صدرك ﴾ [ الحجر : آية ٩٧ ] كل هذه الآيات ( قد ) فيها قبل الفعل المضارع للتحقيق كما هنا.
﴿ قد نعلم إنه ﴾ الضمير في قوله : " إنه " هو ضمير الشأن، ﴿ قد نعلم إنه ﴾ أي الأمر والشأن، والله ﴿ ليحزنك الذي يقولون ﴾.
وهذا الذي يقولونه، الذي يحزنه، أشارت له آيات أخر، كما بين تعالى أن هذا الذي يقولونه له يحزنه، وأنه يضيق به صدره كما قال :﴿ ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون ﴾ [ الحجر : آية ٩٧ ] وبين في سورة هود أن هذا الذي يضيق صدره مما يقولون له إنه من نوع التكذيب والنعت كما قال :﴿ فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز ﴾ [ هود : آية ١٢ ] يعني : ضائق صدرك ؛ لأجل أن يقولوا تكذيبا وتعنتا :﴿ لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك ﴾ يصدقه.
وقال بعض العلماء : هذا الذي يحزنه من كلامهم قولهم له : " أنت شاعر، ساحر، كاهن، هذا الذي جئت به أساطير الأولين، لا نقبل دينك "، هذا التكذيب ونسبته إلى أنه ساحر، مجنون، كاهن، هذا الذي يؤذيه ويضيق به صدره، ويحزنه. وقد بين له الله ( جل وعلا ) في آخر سورة الحجر علاج هذا الداء من هذا الذي يقولون له فيحزنه، وبين له أنه إذا أحزنه ذلك القول الذي يقولون أنه يبادر إلى الصلاة ؛ فإن الصلاة يعينه الله بها ويذهب عنه ذلك الحزن، كما قال :﴿ واستعينوا بالصبر والصلاة ﴾ [ البقرة : آية ٤٥ ].
وقال له في آخر سورة الحجر :﴿ ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون ﴾ [ الحجر : آية ٩٧ ] فرتب على ضيق صدره بما يقولون – بالفاء – قوله :﴿ فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين ﴾ [ الحجر : آية ٩٨ ].
عرفنا أن هذا التسبيح، والصلاة، والإنابة إلى الله هو دواء ذلك الحزن والأذى الذي يناله منهم ؛ ولذا كان صلى الله عليه وسلم – كما في حديث نعيم بن عمار كان – إذا حزبه أمر بادر إلى الصلاة، صلوات الله وسلامه عليه، كما دل على ذلك قوله :﴿ ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون فسبح ﴾ [ الحجر : الآيتان ٩٧، ٩٨ ] أي فدواء ذلك هو ما أمرك ربك به بقوله :﴿ فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين ﴾ وقال هنا :﴿ قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون ﴾ هذا الذي يقولونه لك نحن نعلم أنه يحزنك، أي : يورثك الحزن لما يلقونك به من التكذيب، ونسبتهم إياك من السحر، والشعر، والكهانة، والجنون، هذا يؤذيه صلى الله عليه وسلم، فيضيق به صدره، ومن أشد ما يؤذيه : امتناعهم من الإيمان ؛ لأنه صلوات الله وسلامه عليه مجبول على الشفقة، وقد وصفه الله بالرأفة والرحمة بالمؤمنين في قوله :﴿ لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم ﴾ [ التوبة : آية ١٢٨ ] فمعنى ﴿ عزيز عليه ما عنتم ﴾ أي يعز عليه ويعظم، ويكبر عليه كل ما يصيبكم منه العنت، وهو المشقة والأذى ﴿ عزيز عليه ما عنتم ﴾ إلى أن قال :﴿ بالمؤمنين رءوف رحيم ﴾ كان إذا امتنعوا من الإيمان أسف، وحزن حزنا شديدا، كما قال له الله :﴿ لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين ﴾ [ الشعراء : آية ٣ ] أي : لأجل أن لا يكونوا مؤمنين. و ( الباخع ) معناه : المهلك، أي : فلعلك مهلك نفسك أسفا لأجل أنهم لم يؤمنوا ﴿ فلعلك باخع نفسك على ءاثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا ﴾ [ الكهف : الآية ٦ ] أي حزنا شديدا عليهم ﴿ فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ﴾ [ فاطر : آية ٨ ] ونحو ذلك من الآيات ؛ ولذا قال له الله :﴿ قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون ﴾ ﴿ الذي ﴾ موصول، وجملة الموصول ﴿ يقولون ﴾ والضمير العائد إلى الصلة محذوف ؛ لأنه منصوب بفعل، وتقديره :( قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولونه ) فالهاء المحذوفة التي في محل المفعول هي الرابط بين الصلة والموصول.
ثم إن الله قال لنبيه :﴿ فإنهم لا يكذبونك ﴾. ﴿ فإنهم لا يكذبونك ﴾ قال بعض العلماء : معنى القراءتين واحد، والعرب تعدي الثلاثي بالتضعيف كما تعديه بالهمزة ؛ كما يقال : " كثرت الشيء " و " أكثرته ". وجماهير العلماء على أن بينهما في المعنى فرقا، أن معنى ( كذب ) ليس معنى ( أكذب )، والمقرر في علوم القراءات : أن القراءتين حكمهما حكم الآيتين المختلفتين، فكل منهما تفيد ما تضمنته من الأحكام والمعاني. أما على قراءة الجمهور :﴿ فإنهم لا يكذبونك ﴾ فالتحقيق أن المعنى : أن الكفار لا يكذبونك.
واعلم أنه معروف في القرآن وفي لغة العرب أن الفعل يسند إلى المجموع والمراد بعض المجموع لا جميعهم، ومما يوضح هذا المعنى غاية الإيضاح من القرآن قراءة حمزة والكسائي :﴿ فإن قاتلوكم فاقتلوهم ﴾ [ البقرة : آية ١٩١ ] بصيغة ( القتل ) في الفعلين ؛ لأنه لا يعقل أن الذي قتل بالفعل يؤمر بقتل قاتله، ولكن المعنى : فإن قتلوا بعضكم فليقتلهم البعض الذي لم يقتل. وهذا أسلوب معروف في القرآن وفي غيره. وإذا عرفت هذا فاعلم أن بعض الكفار علموا صدق النبي صلى الله عليه وسلم في الباطن، وقلوبهم موقنة أنه صادق، كما قال أبو جهل – لعنه الله – لما قال له الأخنس بن شريق قال له : أنا وأنت في خلوة، ليس معنا أحد من قريش، فأخبرني عن صحة ما يقوله محمد ( صلوات الله وسلامه عليه ). فقال له أبو جهل : والله إني لأعلم أنه صادق، وأنه نبي، ووالله ما كذب محمد قط ولا يكذب، ولكن كنا نحن وبنو هاشم فرسي رهان، طعموا فأطعمنا، وفعلوا ففعلنا، واليوم يقولون : منا نبي ! فمن لنا بهذه ؟ والله لا نعترف بنبوته أبدا ! ! ولا شك أن هنالك قوما من الجهلة يسمعون كلام الرؤساء فيظنون أنه كاذب، ويعتقدون كذبه. إذا عرفتم هذا فقوله :﴿ فإنهم لا يكذبونك ﴾ راجع إلى الذين علموا صدقه. وكثير من عقلائهم عالم في قرارة نفسه أن النبي صلى الله عليه وسلم نبي، وأنه رسول، وهم يجحدون ذلك ظلما. وعليه فالمعنى :﴿ لا يكذبونك ﴾ في الحقيقة، فيما بينهم وبين أنفسهم، ولكن الظالمين يجحدون آيات الله التي أنزلت عليه، فلم يعترفوا أنها من الله، كما قال له أبو جهل : أنت عندنا صادق، ولا نكذبك، ولكن نكذب هذا الذي جئت به.
أما على قراءة :﴿ فإنهم لا يكذبونك ﴾ ف ( أكذب ) بصيغة ( الإفعال ) تفترق مع ( كذب ) بمعنيين، أحدهما : أن الفرق بين ( كذب ) و ( أكذب ) : أنك إذا كذبت إنسانا، معناه قلت له : كذبت، ونسبته إلى افتراء الكذب. وإذا قيل : أكذب إنسان إنسانا، معناه : أن كلامه يعتقد أنه كذب، ولا ينسب ذلك الإنسان إلى الكذب، بل يقول : لعله أخطأ، أو نسي، أو سها وهو لا يقصد الكذب أو تخيل له غير الحق. فمعنى " أكذب " على هذا : أنه لا يتعمد الكذب، وأنه لا ينسب إلى الاختلاف والافتراء، ولكن القول الذي جاء به غير مطابق للحق.
الوجه الثاني في قراءة ﴿ يكذبونك ﴾ : وهو الذي عليه الأكثر : أنه تقرر في فن التصريف أن من معاني " أفعل " إذا قلت : أفعلت الرجل، إذا وجدته كذا، تقول : أحمدته إذا وجدته حميدا، وأبخلته إذا وجدته في نفس الأمر بخيلا، وأكذبته إذا وجدته في نفس الأمر كاذبا، وعلى هذه القراءة : إن ظنت نفوسهم أنك كاذب، وكذبوك، وقالوا : إنك كاذب، ساحر، كاهن، فإنهم لا يصادفونك في نفس الأمر كاذبا، فأنت على حق فيما بينك وبين الله، فهون عليك، ولا تقل عليك افتراءهم.
هذان الوجهان من التفسير في قراءة ﴿ يكذبونك ﴾ وقد قدمنا معنى ﴿ يكذبونك ﴾.
﴿ ولكن الظالمين ﴾ قد قدمنا معنى الظلم.
﴿ بئايات الله ﴾ أي الشرعية الدينية ﴿ يجحدون ﴾ أي يجحدونها وينكرون أنها حق.
﴿ ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبئي المرسلين ﴾ [ الأنعام : الآية ٣٤ ].
هذه الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وتهوين عليه ؛ لأنك إذا وجدت إنسانا وقع في مصيبة وبلية وقلت له : هذه المصيبة التي نزلت بك قد نزلت بإخوان لك كرام أفاضل، وصبروا عليها، وكان لهم في عاقبة الأمر الظفر والنجاح، والعاقبة المحمودة ؛ فإن هذا يهون ويسهل المصيبة على ذلك المبتلي. وقد نص الله في أخريات سورة هود على أنه يقص على النبي أخبار الرسل ؛ ليهون عليه ويثبت قلبه، وذلك في قوله :﴿ وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك ﴾ [ هود : آية ١٢٠ ] يقول له :﴿ ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك ﴾ [ فصلت : آية ٤٣ ] هذا الذي لقيك به قومك لقي الرسل من قبل قومهم بمثله وأشد، فاصبر كما صبروا، فستكون لك العاقبة الحميدة كما كانت لهم. وفي هذا أعظم بشارة وأكرم تسلية له صلى الله عليه وسلم. واللام في ( لقد ) موطئة قسم محذوف. والله لقد كذبت رسل من قبلك، هؤلاء الرسل الذين كذبوا من قبلك منهم من جاء مفصلا في هذا القرآن العظيم، كقول قوم نوح لنوح :﴿ ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا ﴾ [ هود : آية ٢٧ ] وقولهم له :﴿ يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين ﴾ [ هود : آية ٣٢ ]، وقد سخروا منه كما قال :﴿ إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم ﴾ [ هود : آية ٣٨ ]، والمفسرون يقولون : سخريتهم منه التي ذكرها الله أنه لما أراد أن يصنع السفينة [ وتعلم ] النجارة صاروا يضحكون، ويقولون : بعد أن كنت نبيا صرت [ نجارا، وهكذا عاد قالوا لهود، وثمود ] قالوا لصالح ! ! قالوا لنبي الله هود :﴿ يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي ءالهتنا عن قولك ﴾ [ هود : آية ٥٣ ]، وقالوا لصالح :﴿ يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا ﴾ [ هود : آية ٦٢ ] يعني : وأما إذا ادعيت النبوة، ودعوت إلى عبادة الله فلا رجاء لنا فيك. وهذا جاء مفصلا عن الرسل في القرآن العظيم، كتكذيبهم لنوح، وهود، وصالح، ولوط، وشعيب، وتكذيب فرعون وقومه لموسى وهارون، وما جرى مجرى ذلك، وهنالك رسل لم تقص عليه أخبارهم، كما نص الله عليه في سورة النساء، وفي سورة المؤمن :﴿ منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك ﴾ [ غافر : آية ٧٨ ].
وإنما قال :﴿ كذبت رسل ﴾ بتاء التأنيث لما تقرر في علم العربية : إن ثلاثة من الجموع – أعني الجمع المكسر مذكرا كان أو مؤنثا، والجمع السالم المؤنث، كلها تجري مجرى الواحدة المؤنثة مجازية التأنيث ؛ ولذلك أنث الفعل هنا وقيل فيه :﴿ كذبت ﴾ وأنثت الإشارة إليه لهذا كما قال :﴿ تلك الرسل ﴾ [ البقرة : آية ١٥٣ ] ونحو ذلك ﴿ ولقد كذبت رسل من قبلك ﴾ حذف الفاعل هنا وأناب المفعول به منابه ؛ لأنه يوضحه. أي كذبهم قومهم فصبروا على ذلك التكذيب والأذى.
﴿ فصبروا على ما كذبوا ﴾ ( ما ) هنا مصدرية. فصبروا على التكذيب.
وقوله :﴿ وأوذوا ﴾ فيما يعطف عليه وجهان : أظهرهما أنه معطوف على :﴿ فصبروا على ما كذبوا ﴾ أي : فصبروا على التكذيب، وعلى الإيذاء الذي ينالهم من قومهم، حتى جاءهم نصرنا.
وعلى هذا فقوله :﴿ وأوذوا ﴾ معطوف على قوله :﴿ كذبوا ﴾ فصبروا على ما كذبوا، وصبروا على ما أوذوا. و ( ما ) مصدرية، أي : صبروا على التكذيب والإيذاء حتى جاءهم نصرنا، وهنالك قوم قالوا : الإيذاء لم يتقدم له ذكر حتى يكون الصبر عليه مذكورا ؛ ولذا قالوا :﴿ وأوذوا ﴾ عطف على قوله :﴿ كذبت رسل من قبلك ﴾ يعني : لقد كذب الرسل وأوذوا، فصبروا على ذلك.
وقوله :﴿ ولا مبدل لكلمات الله ﴾ يعني : أن الله من كلماته ( جل وعلا ) نصره لرسله، وأن العاقبة الحميدة كائنة لهم، كما قال :﴿ ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون ﴾ [ الصافات : الآيات ١٧١ ١٧٣ ] ﴿ كتب الله لأغلبن أنا ورسلي ﴾ [ المجادلة : آية ٢١ ] وقوله جل وعلا :﴿ إنا لننصر رسلنا والذين ءامنوا في الحياة الدنيا ﴾ [ غافر : آية ٥١ ] مثل هذه الكلمات من الوعد الصادق بنصر الرسل، وأن العاقبة لهم، كما قال عن مجموع الرسل :﴿ فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الأرض من بعدهم ﴾ [ إبراهيم : الآيتان ١٣، ١٤ ] هذه الكلمات – وغيرها من سائر كلمات الله التي لا نهاية لها كما قال :﴿ قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ﴾ [ الكهف : آية ١٠٩ ] – لا مبدل لها. والمعنى قال الله :﴿ ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون ﴾ [ الصافات : الآيات ١٧١ ١٧٣ ] فليس يمكن لأحد أن يبدل هذا الخبر ويجعل إيجابه سالبا، فيجعل الرسل مقهورين غير منصورين، لا أبدأ، وقس على ذلك. وهذا معنى قوله :﴿ ولا مبدل لكلمات الله ﴾ ومعنى التبديل هو إذهاب هذا والإتيان ببدل غيرها.
﴿ لكلمات الله ﴾ وعده رسله بالنصر والعاقبة المحمودة، فتبديل هذا أن ينزع النصر عنهم، ويجعل مكانه غلبتهم وإذلالهم. لا أحد يستطيع هذا التبديل لكلمات الله.
ثم قال :﴿ ولقد جاءك من نبئي المرسلين ﴾ فاعل ( جاء ) هنا محذوف دل عليه المقام. و ( من ) في قوله :﴿ من نبئي المرسلين ﴾ تبعيضية، أي : ولقد جاءك بعض أنباء المرسلين ؛ لأن الله يقول :﴿ منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك ﴾ [ غافر : آية ٧٨ ] وفي هذا البعض الذي جاءك من أنبائهم تسلية لك، وتثبيت لك، كما قال :﴿ وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك ﴾ [ هود : آية ١٢٠ ] ﴿ ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك ﴾ [ فصلت : آية ٤٣ ] ﴿ فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ﴾ [ الأحقاف : آية ٣٥ ].
﴿ وإن كان كبر عليك إعراضهم ﴾ كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دعا قومه إلى الإسلام، وعرض عليهم هذا القرآن العظيم بما فيه من الآيات البينات التي لا تترك في الحق لبسا، قابلوه بالرد القبيح والإعراض، أي : التوالي والصدود عن دين الله ( جل وعلا ) وآذوه صلى الله عليه وسلم، فبين في هذه الآية أن من أسوإ ما يسوؤه، وأحزن ما يحزنه، ويضيق به صدره إعراضهم وتوليهم عن الحق ؛ لما جبل عليه من الشفقة والرحمة ؛ ولذا نهاه الله مرارا عن شدة أسفه وحزنه عليهم قال له :﴿ فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ﴾ [ فاطر : آية ٨ ] لأجل أن لم يؤمنوا فهون عليك، وقال له :﴿ لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين ﴾ [ الشعراء : آية ٣ ] ومعنى :﴿ باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين ﴾ مهلك نفسك بالأسف والحزن ؛ لأجل عدم إيمانهم.
و ( الباخع ) في لغة العرب : المهلك، ومنه قول غيلان ذي الرمة :
ألا أيهذا الباخع الوجد نفسه لشيء نحته عن يده المقادر
" الباخع الوجد نفسه " أي : المهلك الوجد نفسه.
﴿ فلعلك باخع نفسك ﴾ أي : مهلكها.
﴿ ألا يكونوا مؤمنين ﴾ لأجل عدم إيمانهم، فهون عليك، وقال له :﴿ فلعلك باخع نفسك على ءاثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا ﴾ [ الكهف : الآية ٦ ] وهو شدة الحزن، أي : لشدة الحزن عليهم أن لم يؤمنوا، وقال له :﴿ فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ﴾ [ فاطر : آية ٨ ] من شدة التأسف على عدم إيمانهم، فهون عليك. والله يعني بهذا : يعني أنت رسول مهمتك الرسالة، وقد بلغت، ونصحت، وأديت كما ينبغي، فهداهم ليس عليك، وحسابهم ليس عليك، فربهم أعلم بهم، هو الذي يشقي ويهدي، وهو الذي إليه مرجعهم وحسابهم، فهون عليك، فقد قمت بما عليك :﴿ فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب ﴾ ؛ ولذا شدد عليه هنا في هذه الآية، قال له :﴿ وإن كان كبر عليك إعراضهم ﴾ أي شق وعظم عليك ﴿ إعراضهم ﴾ أي : صدودهم وتوليهم عما جئت به، وقد أمرتك مرارا أن تترك عنك هذا الحزن، وتعلم أن ما عليك قد أديته، بلغت ونصحت، وأن هداهم ليس بيدك ﴿ ليس عليك هداهم ﴾ ﴿ ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا ﴾ [ المائدة : آية ٤١ ] ﴿ وإن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل ﴾ [ النحل : آية ٣٧ ] قال له هنا :﴿ وإن كان كبر عليك إعراضهم ﴾ أي : شق وعظم عليك وأحزنك ﴿ إعراضهم ﴾ أي : صدودهم عما جئت به. و ( الإعراض ) مصدر أعرض يعرض إعراضا، إذا صد وتولى عن الشيء. فكأن الله يقول له : إن عظم وشق عليك وأحزنك صدودهم وتوليهم، وقد نهيتك مرارا عن هذا الحزن، فإن كانت لك طاقة أو قدرة فأت بها، وإن عجزت عن ذلك فاعلم أن ذلك بيد الله، فكل الأمر إليه، وهون عليك ؛ ولذا قال :﴿ فإن استطعت ﴾ الاستطاعة على الشيء : القدرة عليه.
﴿ أن تبتغي ﴾ تطلب.
﴿ نفقا في الأرض ﴾ النفق السرب في بطن الأرض، الذي يكون له وجه من جهة أخرى ينفذ منه الإنسان، أن تبتغي سربا في الأرض [ فتغوص ] به في بطن الأرض ؛ لتخرج آية تقهرهم بها، ﴿ أو سلما ﴾ أو مصعدا تصعد به إلى السماء، حتى تحصل من الأسفل أو من الأعلى آية تقهرهم بها ؛ إن قدرت على هذا فافعل. فجواب ﴿ فإن استطعت ﴾ محذوف، وتقديره : فافعل. إن قدرت على ذلك فافعل، وإن كنت عاجزا عن ذلك – كما هو الحق – فهون عليك، واعلم أن أمرهم إلى الله، ومصيرهم إلى الله، فهون عليك.
وقوله في صدر هذه الآية الكريمة :﴿ وإن كان كبر ﴾ المعروف في فن العربية : أن مادة ( الكاف والباء والراء ) تستعمل في القرآن العظيم، وفي لغة العرب استعمالين، ويتغير شكلها بحسب الاستعمالين، إن كانت ( كبر ) معناه : أنه عظم وكبر، فهي مضمومة الباء في مضارعها وماضيها، تقول : " كبر عليه الأمر "، إذا عظم وشق. ومنه قوله هنا :﴿ وإن كان كبر عليك إعراضهم ﴾، وقوله :﴿ كبرت كلمة تخرج من أفواههم ﴾ [ الكهف : آية ٥ ] ﴿ كبر مقتا عند الله ﴾ [ الصف : آية ٣ ] ومضارع هذه أيضا :( يكبر ) بضم الباء على القياس، كما في قوله :﴿ قل كونوا حجارة أو حديدا أو خلقا مما يكبر في صدوركم ﴾ [ الإسراء : آية ٥١ ] فهذه كبر يكبر. أما معناها الآخر، وهو ( الكبر في السن )، بأن تقول : " كبر هذا الغلام في سنه "، فهي مكسورة الباء في الماضي، تقول :( كبر )، بكسر الباء. ولا تقول :( كبر )، وتقول في مضارعها :( يكبر ) بفتح الباء، ولا تقول :( يكبر )، على القياس، ومنه بهذا المعنى قوله تعالى :﴿ ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا ﴾ [ النساء : آية ٦ ] لأنه هنا مضارع ( كبر ) بكسر الباء، ( يكبر ) بفتحها على القياس، ومنه بهذا المعنى الأخير قول مجنون بني عامر :
تعشقت ليلى وهي ذات ذوائب ولم يبد للعينين من ثديها حجم
صغيرين نرعى البهم يا ليت أننا إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهم
هذان معنى ( كبر ) و ( كبر ) ؛ لأنهما معنيان مختلفان يتغير المعنى بهما.
وهذا معنى قوله :﴿ وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض ﴾ النفق : السرب في داخل الأرض، وهو معروف في كلام العرب، ومنه قول الشاعر :
ولا لكما منجى من الأرض فابغيا بها نفقا أو في السماوات سلما
ويجمع النفق على أنفاق، ومنه قول امرىء القيس :
خفاهن من أنفاقهن كأنما خفاهن ودق من عشي مجلب
يعني أخرجهن من جحورهن ؛ لأن جحور الحشرات تسمى أنفاقا، واحدها نفق. والسلم : هو المصعد إلى الشيء، معروف في كلام العرب. والسلم إلى السماء : المصعد الذي يصعد فيه
إلى السماء. ومنه قول زهير في معلقته :
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ولو رام أسباب السماء بسلم
وكل مصعد يصعد فيه الإنسان تسميه العرب سلما، ولو كان معنويا، فالشيء الذي يرتقى به إلى الأمر – ولو معنويا غير محسوس – تقول له العرب : سلم، ومنه قول الحطيئة :
الشعر صعب وطويل سلمه إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمه
زلت به إلى الحضيض قدمه
وقوله جل وعلا :﴿ فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم ﴾ هذا الفعل المضارع منصوب ؛ لأنه معطوف على فعل منصوب، والمضارع المعطوف على منصوب ينصب. والأول المنصوب قوله :﴿ فإن استطعت أن تبتغي ﴾ فقوله :﴿ تبتغي ﴾ منصوب ب ( أن ). وقوله :﴿ فتأتيهم ﴾ معطوف عليه، ﴿ فتأتيهم بآية ﴾ قاهرة تقهرهم بها فافعل إن قدرت، وإن لم تقدر على ذلك فهون عليك، واعلم أن أمرهم بيد الله، هداهم بيده وحسابهم عليه، فهون عليك.
ثم إن الله تعالى قال :﴿ ولو شاء الله لجمعهم على الهدى ﴾ هذا الهدى الذي يؤسفك أن لم يهتدوا هو بيد الله، لو شاء ربك ﴿ لجمعهم على الهدى ﴾ لفعل. والقاعدة المقررة في علم العربية : أن فعل المشيئة إذا قرن بشرط أنه يحذف مفعوله دائما ؛ لأن جزاء الشرط يكفي عنه. والمفعول محذوف تقديره :( ولو شاء الله جمعهم على الهدى لجمعهم على الهدى ) فغالبا إذا علق فعل المشيئة بالشرط حذف مفعوله لدلالة جواب الشرط عليه، ولم نجده موجودا في القرآن، ولا في كلام العرب، إلا إذا كان المفعول مصدرا منسبكا من ( أن ) وصلتها، كقوله :﴿ لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه ﴾ [ الأنبياء : آية ١٧ ] ﴿ لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى ﴾ [ الزمر : آية ٤ ] لأن الأسلوب الشائع في القرآن هو حذف هذا المفعول، أن يقول :( لو أراد الله لاصطفى ولدا، لو أراد لاتخذ لهوا )، ولكنه هنا أثبت المفعول، وهو مصدر منسبك من ( أن ) وصلتها. ونظيره في إثبات المفعول – وهو مصدر منسبك من ( أن ) وصلتها – قول الشاعر :
ولو شئت أن أبكي دما لبكيته عليك ولكن ساحة الصبر أوسع
وقوله :﴿ ولو شاء الله ﴾ ( جل وعلا ) ﴿ لجمعهم ﴾ جميعا ﴿ على الهدى ﴾، والهدى هنا بمعناه الخاص ؛ لأنا قدمنا في هذه الدروس – في الكلام على سورة الفاتحة – أن الهدى يطلق في القرآن إطلاقين : يطلق إطلاقا عاما، ويطلق إطلاقا خاصا، أما الهدى بمعناه العام : فهو إبانة الطريق، وإيضاحها، وتوضيح الخير من الشر. ومنه بهذا المعنى في القرآن :﴿ وأما ثمود فهديناهم ﴾ [ فصلت : آية ١٧ ] أي : أوضحنا لهم طريق الخير والشر بينة على لسان نبينا صالح. وليس هذا الهدى ( هدى توفيق )، وإنما هو ( هدى بيان ) فقط بدليل قوله :﴿ فاستحبوا العمى على الهدى فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون ﴾ [ فصلت : آية ١٧ ] فتبين أن قوله :﴿ فهديناهم ﴾ ليس ( هدى توفيق )، وإنما هو ( هدى بيان ) وإيضاح للحق من الباطل، ومنه بهذا المعنى قوله تعالى في الإنسان :﴿ إنا هديناه السبيل ﴾ [ الإنسان : آية ٣ ] لأن معنى قوله :﴿ هديناه السبيل ﴾ أي بينا له طريق الخير والشر، وأوضحنا له ما يتقى وما يفعل، بدليل قوله بعده :﴿ إما شاكرا وإما كفورا ﴾ [ الإنسان : آية ٣ ] لأنه لو كان ( هدى توفيق ) لما فصله بقوله :﴿ وإما كفورا ﴾ ومن إطلاق الهدى بمعناه الخاص قوله في النبيين الذين ذكرهم في الأنعام :﴿ أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ﴾ [ الأنعام : آية ٩٠ ] وهو بمعناه الخاص : التوفيق إلى ما يرضي الله.
وإذا علمتم أن للهدى إطلاقين : إطلاقا عاما، وإطلاقا خاصا، وأن إطلاقه العام معناه الهدى بمعنى البيان، والإرشاد، وبيان الحق وإيضاحه، وأن معناه الخاص هو تفضل الله بالتوفيق على عبده، وأن يهديه إلى طريق الخير، كما قال :﴿ فمن يرد الله أن يهديه ﴾ [ الأنعام : آية ١٢٥ ] أي : بهذا الهدى الخاص ﴿ يشرح صدره للإسلام ﴾.
بهذا التفصيل تزول عنكم إشكالات في كتاب الله ؛ لأن الله مثلا قال لنبيه :﴿ إنك لا تهدي من أحببت ﴾ [ القصص : آية ٥٦ ] وقال له في آية أخرى :﴿ وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم ﴾ [ الشورى : آية ٥٢ ] فيقع فيه لطالب العلم أن يقول : كيف قال له :﴿ إنك لا تهدي من أحببت ﴾ [ القصص : آية ٥٦ ] وقال له :﴿ وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم ﴾ [ الشورى : آية ٥٢ ] ؟
والجواب عن الآيتين : هو ما بينا الآن أن للهدى إطلاقا عاما، وإطلاقا خاصا، فالهدى المثبت له في قوله :﴿ وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم ﴾ [ الشورى : آية ٥٢ ] هو الهدى العام، وهو بيان الطريق وإيضاحها. وقد بين صلى الله عليه وسلم الطريق حتى تركها محجة بيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك.
أما الهدى المنفي عنه في قوله :﴿ إنك لا تهدي من أحببت ﴾ [ القصص : آية ٥٦ ] فهو التفضل بالتوفيق ؛ لأن التوفيق بيد الله وحده ﴿ ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ﴾ الآية [ المائدة : آية ٤١ ]. وقوله :﴿ إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل ﴾ [ النحل : آية ٣٧ ] وفي القراءة الأخرى :﴿ فإن الله لا يهدى من يضل ﴾ أي : من يضله الله لا يهدى، لا هادي له أبدا. إذا عرفتم هذا فقوله :﴿ ولو شاء الله لجمعهم على الهدى ﴾ [ الأنعام : آية ٣٥ ] يعني به الهدى الخاص والتوفيق، أما الهدى العام فقد بين لهم النبي صلى الله عليه وسلم، وهداهم، وأرشدهم إلى طريق الخير.
ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم :﴿ فلا تكونن من الجاهلين ﴾ [ الأنعام : آية ٣٥ ] والجاهلون : جمع الجاهل، فهو اسم فاعل الجهل، وكلام العلماء في ( الجهل ) وفي تفسيره معروف، أشهر تفسيراته : أن الجهل عدمي، وأن المراد به عدم العلم بما من شأنه أن يعلم.
وهذه الآية وأمثالها في القرآن يخاطب الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم ليشرع على لسانه لخلقه ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم مشرع، يخاطبه الله خطاب السيد لعبده ؛ ليشرع على لسانه لخلقه.
ثم إن الله
﴿ إنما يستجيب الذين يسمعون ﴾ [ الأنعام : آية ٣٦ ] أي : لا يجيبك إلى ما تطلب وتدعو من الهدى، إلا الذين يسمعون، أي : جعل الله لهم سماع حق وتفهم يسمعون به عن الله، أما الذين [ أعمى ] الله أبصارهم، وختم على آذانهم فلا يجيبونك أبدا، فلا تحزن عليهم، فليس فيهم حيلة ؛ لأن ربهم قضى عليهم بالشقاء الأزلي ؛ ولذا قال هنا :﴿ إنما يستجيب ﴾ أي : يستجيب لك، ويجيبك فيما تدعوه إليه من الإسلام ﴿ الذين يسمعون ﴾ سماع تفهم بأن وفقهم الله، وأعطاهم سماع تفهم يفهمون به ويقبلون، أما الذين لم يعطهم الله سماع تفهم فهم صم وإن كانوا يسمعون، كما فال تعالى في المنافقين :﴿ صم بكم عمي ﴾ [ البقرة : آية ١٨ ] صرح بأنهم ( صم ) وأنهم ( بكم ) وأنهم ( عمي )، ومع ذا يقول فيهم :﴿ فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد ﴾ [ الأحزاب : آية ١٩ ] كيف يسلق بألسنة حداد من هو أبكم ؟ وقال :﴿ وإن يقولوا تسمع لقولهم ﴾ [ المنافقون : آية ٤ ] أي : لفصاحتهم وحلاوة ألسنتهم. ومعنى هذا : أن الله أصمهم عن سماع الحق، وعن الدين، وعما ينفعهم عند ربهم، وإن كانوا يسمعون غيره، وكذلك جعل ألسنتهم بكما عن النطق بالقول فيما يرضي الله، وبما ينفعهم عنده، وإن نطقوا بغيره.
ومن أساليب اللغة العربية التي نزل بها القرآن : أن الشيء إذا كان قليل الجدوى أطلق عليه : لا شيء. فأسماعهم لما لم يفهموا بها عن الله، وأبصارهم لما لم يبصروا بها ما يرضي الله، وقلوبهم لما لم يعقلوا بها بما يرضي الله، صارت كلها كأنها عدم ؛ ولذا أطلق عليهم اسم الصمم ؛ لأن سمعهم لم ينفعهم، كما قال تعالى :﴿ وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بئايات الله ﴾ [ الأحقاف : آية ٢٦ ] فمعلوم في لغة العرب أن السماع الذي لا جدوى له تطلق العرب عليه : لا شيء، وتسمي صاحبه أصم. وهو معنى معروف في كلام العرب، ومنه قول قعنب بن أم صاحب :
صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا
فسماهم ( صما ) وهو يقول :( إذا سمعوا خيرا ) فأطلق عليهم الصمم مع أنه صرح بأنهم يسمعون. وهذا معروف في كلام العرب، ومنه قول الآخر :
قل ما بدا لك من زور ومن كذب حلمي أصم وأذني غير صماء
يعني : حلمي لا يبالي بما تقول، وإن كانت أذني تسمعه ؛ ولذا قال هنا :﴿ إنما يستجيب الذين يسمعون ﴾ لأنهم أحياء يسمعون عن الله سماع تفهم.
ثم قال :﴿ والموتى يبعثهم الله ﴾ الموتى جمع ( الميت ) ومثل ( ميت ) يجمع على ( موتى )، وقد يطرد الجمع على ( فعلى ) في كل ( فعيل ) إذا كان يرثى له. وكذلك ( فيعل ) و ( فعل ) ك( ميت وموتى ) و ( وزمن وزمنى )، هذا على الأكثر، أما في ( فعيل ) بمعنى ( مفعول ) إذا كان يرثى لصاحبه فتطرد فيه :( فعلى ).
وأطبق العلماء على أن المراد بالموتى هنا : الكفار. لا يكاد يختلف في هذا اثنان من علماء التفسير. كأنه يقول : إنما يستجيب الأحياء الذين يسمعون، كما قال له :﴿ لتنذر من كان حيا ﴾ [ يس : الآية ٧٠ ] وفي القراءة الأخرى :﴿ لينذر من كان حيا ﴾ أي : الذي له حياة، أما الميت : الذي أمات الله قلبه.
وكثيرا ما يطلق القرآن اسم ( الميت ) على ( الكفر )، كقوله تعالى :﴿ أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشى به في الناس كمن مثله في الظلمات ﴾ [ الأنعام : آية ١٢٢ ] وكقوله :﴿ وما يستوي الأحياء ولا الأموات ﴾ [ فاطر : آية ٢٢ ] يعني بالأحياء : المؤمنين، وبالأموات : الكفرة ؛ لأن الكافر – والعياذ بالله – كأنه ميت ؛ لأن حركات حياته لم تكن في شيء ينفعه عند ربه – جل وعلا – في حياته الأخرى، فصار ميت القلب كأنه ميت بالكلية ؛ ولذا قال :﴿ والموتى ﴾، أي : الكفار الذين ختم الله على قلوبهم، وأمات قلوبهم، لا حيلة في إيمانهم، فلا تحزن عليهم، ولكن هون عليك، فحسابهم إلى الله، وهداهم عليه، الله هو الذي أضلهم في الدنيا، ويوم القيامة يبعثهم، ثم إليه يرجعون، فيجازيهم على أعمالهم. فهداهم بيده، وشقاؤهم بيده، وحسابهم إليه. وأنت إنما أنت نذير، وقد بلغت ونصحت، وأديت الأمانة، فقمت بما عليك، وهون عليك. ولذا قال :﴿ إنما يستجيب الذين يسمعون ﴾ [ الأنعام : آية ٣٦ ].
والعرب تطلق ( استجاب ) بمعنى :( أجاب ). والمعنى :﴿ يستجيب الذين يسمعون ﴾ أي : يجيبونك إلى ما تدعوهم إليه. ولا شك عند العلماء في إطلاق ( استجاب ) بمعنى ( أجاب ). ومن الدليل عليه أن العرب الفصحاء نطقوا بما يدل على ذلك، ومنه قول كعب بن سعد الغنوي :
وداع دعا يا من يجيب إلى الندى فلم يستجبه عند ذاك مجيب
فجاء ب ( المجيب ) اسم فاعل ( لم يستجبه )، فعرفنا أنه أراد ب ( لم يستجبه ) : لم يجبه مجيب. ﴿ إنما يستجيب ﴾ الذي يجيبك إلى ما تدعوا إليه، ويؤمن بك الإيمان الذي تطلب ﴿ الذين يسمعون ﴾ الأحياء الذين لهم سمع يفهمون به عنك ﴿ والموتى ﴾ أي : الكفار الذين ختم الله على قلوبهم وأسماعهم، فإنك لا يمكن أن تسمعهم ؛ لأنهم موتى، كما قال :﴿ إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين ﴾ [ النحل : آية ٨٠ ] ولذا قال :﴿ يبعثهم الله ﴾ أي : من قبورهم يوم القيامة إلى الجزاء.
﴿ ثم إليه يرجعون ﴾ قد تقرر في فن المعاني في مبحث القصر، وفي فن الأصول في مبحث دليل الخطاب – أعني مفهوم المخالفة – أن من الصيغ الدالة على الحصر : تقديم المعمول. وقد قدم المعمول هنا، وهو الجار والمجرور إيذانا بالحصر. ثم يرجعون إليه وحده ؛ لأنه ليس هناك عدة ملوك يرجع بعض الناس إلى واحد ليحاسبه، وبعض إلى واحد ليحاسبه. بل هو الملك الواحد القهار، الذي إليه مرجع الجميع ؛ ولذا قدم المعمول فقال :﴿ ثم إليه يرجعون ﴾.
﴿ وقالوا ﴾ يعني الكفار – كفار مكة – هم الذين قالوا هذا القول.
وقوله :﴿ لولا ﴾ اعلم أولا : أن ( لولا ) جاءت في القرآن العظيم لثلاثة معان معروفة في القرآن العظيم، وفي كلام العرب :
الأول : من هذه المعاني الثلاثة :( لولا ) المعروفة بأنها تأتي لامتناع لوجود، وهي التي تدل على امتناع شيء لوجود شيء، كقوله :﴿ لولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم في ما أفضتم فيه عذاب عظيم ﴾ انتفى مسيس العذاب العظيم لوجود فضل الله ورحمته.
هذه التي يقال فيها إنها تدل على امتناع لوجود، وخبر مبتدئها محذوف دائما في الأغلب.
الثانية : هي ( لولا ) التي بمعنى التحضيض، وهذه تنقسم قسمين. ومنها كانت ( لولا ) مشتركة بين ثلاثة معان. لولا التحضيضية إنما تدل على التحضيض، والتحضيض معناه الطلب بحث وحض، ومنه هذه التي عندنا. ( لولا ) أي : نطلب منك بحض وحث أن تنزل عليك آية مثل آية موسى التي جاءت، صارت عصاه ثعبانا مبينا، وكآية صالح التي خرجت له ناقة عشراء جوفاء، وبراء، من صخرة، وما جرى مجرى ذلك، وكآية عيسى الذي يبرىء الأكمه، والأبرص، ويحيي الموتى بإذن الله، وما جرى مجرى ذلك، وهذا طلب منهم وتحضيض، وهو طلب بحث وحض، إلا أنه طلب عناد وتعنت.
الثالث من معاني ( لولا )، لم نتكلم عليه الآن، وهو أن ( لولا ) التحضيضية – ومعنى التحضيضية : أنها دالة على تحضيض، والتحضيض : هو طلب الفعل بحث وحض – لها حالتان : تارة يكون فعلها المطلوب بها ممكن الفعل لم تضع فرصته، فهذه هي التحضيضية، كالتي عندنا. وتارة يكون فعلها المطلوب فيها بأداة الطلب التي هي حرف التحضيض – أعني ( لولا ) – فات ولم يمكن تداركه ؛ لأن فرصته ضاعت ولم يمكن تداركه. فإن التحضيضية في هذه الحالة ينقلب معنى تحضيضها إلى توبيخ وتنديم على التفريط فيما مضى، كقوله :﴿ فلولا كانت قرية ءامنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما ءامنوا ﴾ [ يونس : آية ٩٨ ] فتلك القرى الماضية هلكت ومضت، إلا أن توبيخ الله لها، وتنديمه لها بعد أن ماتت ليعتبر به غيرها، وكما قال :﴿ ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا ﴾ [ النور : آية ١٦ ] لأن الفرصة فاتت عليهم ؛ لأنهم تكلموا بما لا يليق، فصارت ( لولا ) التحضيضية في شأنهم يراد بها التوبيخ والتنديم على التفريط فيما مضى.
وقوله :﴿ لولا ﴾ أي : هلا ﴿ أنزل عليه آية ﴾.
وقوله :﴿ من ربه ﴾ يعنون : يكون مبدأ إنزالها وابتداؤه من ربه، ينزل عليه أية لا لبس في الحق معها، كعصا موسى، وناقة صالح، وما جرى مجرى ذلك. فالله أمر نبيه أن يقول، قل لهم يا نبي الله :﴿ إن الله قادر على أن ينزل ءاية ﴾.
ثم قال :﴿ ولكن أكثرهم لا يعلمون ﴾ فقوله :﴿ ولكن أكثرهم لا يعلمون ﴾ يدل على أن طلبهم للآية بأداة التحضيض التي هي ﴿ لولا أنزل عليه ءاية ﴾ أنه نشأ عن جهل لا عن علم، ولو كانوا عالمين لما تعنتوا، ولما اقترحوا هذا الاقتراح، وذلك من أوجه :
منها أن الله ( جل وعلا ) أجرى العادة بأن القوم إذا اقترحوا آية، وأنزلها الله لهم، وكفروا بعد ذلك أن الله يهلكهم هلاك الاستئصال، كما يأتي في قوله :﴿ وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وءاتينا ثمود الناقة مبصرة ﴾ [ الإسراء : آية ٥٩ ] أي : وهي الآية التي اقترحوها فكفروا بها، فكان ذلك سبب هلاك مستأصل، وتدمير عام أهلكهم الله به، وجعلهم أثرا بعد عين. فقد يقترحون آية، ويأتيهم الله بها، فيكفرون بها فيمحقهم كما محق ثمود، كما أشار له بقوله :﴿ وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون ﴾ [ الإسراء : آية ٥٩ ] اقترحوها عنادا وتعنتا، فلما أتوا بها كفروا بها، فكانت سببا لهلاك مستأصل. وقد ذكروا في بعض المواضع من القرآن أن الكفار قالوا للنبي : " سل ربك يجعل لنا الصفا ذهبا ". وتعنتوا بأمور كثيرة، وأنه جاءه التخيير من ربه إن شاء فعل لهم ما اقترحوا، وإن كفروا أهلكهم، وإن شاء تركهم، وهدى من يهدي منهم ومن أصلابهم ؛ ولذا قال :﴿ قل إن الله قادر على أن ينزل آية ﴾ واعلموا أن الله تبارك وتعالى أنزل على عبده آيات ومعجزات عظيمة، لا لبس في الحق معها، فلو كان طلبهم للآية طلب مسترشد يريد الهدى غير متعنت لأعطاهم الآية، ولكن الله أعطاهم من الآيات ما لا يبقى في الحق معه لبس، فتركوه وسألوا ذلك عنادا.
وأعظم الآيات وأكبر المعجزات هو هذا القرآن العظيم الذي تحداهم الله به، وكان عجز الخلق عن معارضته أكبر آية عظمى ؛ ولذا أنكر الله على من لم يكتف بمعجزة القرآن وطلب آية غيرها حيث قال منكرا عليه :﴿ أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم ﴾ [ العنكبوت : آية ٥١ ] فقوله :﴿ أولم يكفهم ﴾ صيغة إنكار، ينكر الله به على من لم يكتف بهذا القرآن ؛ لأنه آية أعظم آية.
ومما امتازت به عن الآيات : أن آيات الرسل ومعجزاتهم تنقضي، وتكون أخبارا لا وجود لها في العيان، وآيته صلى الله عليه وسلم الكبرى وهي هذا القرآن العظيم باقية تتردد في آذان الناس إلى يوم القيامة ؛ ولذلك أشار النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح [ إلى ] حصر معجزاته في هذا القرآن، وإن كانت معجزاته كثيرة لا تحصر لكثرتها، حيث قال في الحديث الصحيح : " ما من نبي من الأنبياء إلا أوتي ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي، فأرجوا أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة " ولذا قال هنا لما اقترحوا هذه الآية، اقترحوها عنادا لا استرشادا وطلبا للهدى، مع أنهم جاءهم من الآيات ما يكفي، والناس عاينوا من معجزاته صلى الله عليه وسلم أشياء تبهر العقول، كشق القمر. وتسبيح الحصى في يده، وكحنين الجدع في هذا المسجد لما تحول عنه إلى المنبر، سمعوه يحن حنين العشار، ولم يسكت حتى جاءه صلى الله عليه وسلم يسكته كما تسكت الأم ولدها. ومعجزاته صلوات الله وسلامه عليه كثيرة جدا، ولكن أعظمها القرآن ؛ ولذا حصرها فيه بقوله : " وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي، فأرجوا أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة ". ولذا أنكر الله على من لم يكتف بهذا القرآن العظيم حيث قال :﴿ أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم ﴾ [ العنكبوت : آية ٥١ ] وقال :﴿ وما كان هذا القرءان أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه ﴾ [ يونس : آية ٣٧ ] ولأجل تعنتهم وعدم علمهم بأن الآيات إذا أتي بها من اقترحها ثم كفر جاءه العذاب المستأصل، كان طلبهم للآية طلب جهلة متعنتين لا يتأملون في العواقب ؛ ولذا قال الله :﴿ ولكن أكثرهم لا يعلمون ﴾ ومن أكثرهم الذين لا يعلمون هم الذين تعنتوا واقترحوا وطلبوا هذه الآيات ؛ لأن عندهم تعنتات كثيرة، كما ذكره الله عنهم في آيات كثيرة من كتابه، كقوله في أخريات سورة بني إسرائيل :﴿ وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا ﴾ [ الإسراء : آية ٩٠ ] وفي القراءة الأخرى :﴿ حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا أو تسقط السماء كما زعمت ﴾ [ الإسراء : الآيات ٩٠ ٩٢ ] يعنون قوله :﴿ إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء ﴾ [ سبأ : آية ٩ ] ﴿ أو تأتي بالله والملائكة قبيلا أو يكون لك بيت من زخرف ﴾ يعنون بالزخرف الذهب ﴿ أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه ﴾ [ الإسراء : الآيتان ٩٢، ٩٣ ] هذه تعنتاتهم، ومن هذه التعنتات : اقتراحهم للآيات، فأخبرهم أن ربه قادر على أن ينزلها، ولكن إنزالها لا خير لهم فيه، أولا هو تعنت لا يراد به الحق، ولو أنزلها لكفروا فأهلكهم كما أهلك من كفر قبلهم، كما أشار له بقوله :﴿ وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون ﴾ [ الإسراء : آية ٥٩ ] وقد أتاهم من المعجزات بما فيه الكفاية، ولا يبقى في الحق معه لبس. أما التعنتات فلا داعي للإجابة فيها ؛ ولذا قال :﴿ قل إن الله قادر على أن ينزل ءاية ولكن أكثرهم لا يعلمون ﴾ [ الأنعام : آية ٣٧ ].
قوله :﴿ وما من دابة ﴾ أصله : وما دابة في الأرض. وإنما زيدت قبله ( من ) في قوله :﴿ وما من دابة في الأرض ﴾ لتنقلها زيادة ( من ) من الظهور في العموم، إلى التنصيص الصريح في العموم. فقد تقرر في الأصول : أن النكرة في سياق النفي من صيغ العموم. إلا أنها تكون ظاهرة في العموم، فإذا زيدت قبل النكرة لفظة ( من ) نقلتها من الظهور في العموم إلى التنصيص الصريح في العموم. فلو قيل : " وما دابة في الأرض " كانت الصيغة ظاهرة في العموم. ولما أكد شمول النفي ب ( من ) وقال :﴿ وما من دابة ﴾ نقلتها زيادة ( من ) من الظهور في العموم إلى التنصيص الصريح في العموم. والمراد بالعموم : شمول النفي لكل دابة. أنه ما دابة في الأرض، ولا طائر يطير إلا أمم أمثالكم.
واعلم أن زيادة ( من ) قبل النكرة في سياق النفي لتنقلها من الظهور في العموم، إلى التنصيص الصريح في العموم، تطرد في القرآن وفي اللغة العربية في ثلاثة مواضع :
الأول : أن تزاد قبل المبتدأ، كما هنا ؛ لأن الأصل : وما دابة. و ( دابة ) مبتدأ سوغ الابتداء فيه بالنكرة اعتمادها على النفي قبله.
الثاني : زيادة ( من ) قبل النكرة في سياق النفي إذا كانت النكرة فاعلا. نحو :﴿ ما أتاهم من نذير ﴾ [ القصص : آية ٤٦ ] أصله :( ما أتاهم نذير ) فاعل زيدت قبله ( من ).
الثالث : أن تزاد قبل المفعول، نحو :﴿ وما أرسلنا من قبلك من رسول ﴾ [ الأنبياء : آية ٢٥ ] الأصل : ما أرسلنا من قبلك رسولا.
فزيدت ( من ) فتحصل أن ( من ) إذا زيدت قبل النكرة في سياق النفي نقلتها من الظهور في العموم إلى التنصيص الصريح في العموم. وأنها تزاد قبل النكرة باطراد في ثلاثة مواضع : قبل المبتدأ، وقبل الفاعل، وقبل المفعول.
وقوله :﴿ في الأرض ﴾ قال بعض العلماء : إنما خص دواب الأرض دون دواب السماء – مع أن في السماء دوابا أيضا، كما قال :﴿ ومن آياته خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من دابة وهو على جمعهم إذا يشاء قدير ﴾ [ الشورى : آية ٢٩ ] – لتهوين أمرهم ؛ لأنه أراد أن يبين – لما قال الكفار :﴿ لولا أنزل عليه آية ﴾ – أنه لا يهمل شيئا، وهو قائم بمصالح دواب الأرض التي هي من أحقر الأشياء، فكيف يهمل مصالح الآدميين ! ! ولو كان لكم في الآية المقترحة فائدة لأتاكم بها.
وقال بعض العلماء : عبر لهم بما عرفوا في الأرض، وترك غيره ؛ لأنهم لم يعرفوه، فأريد مخاطبتهم بما علموا.
وقوله :﴿ وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه ﴾ قال بعض العلماء : إذا كان الطير نازلا يمشي في الأرض فقد يصدق عليه اسم ( الدابة ) لدبيبه في الأرض، وإذا طار في جو السماء قابضا وصافا لم يصدق عليه في ذلك الوصف اسم الدبيب، وإنما يصدق عليه أنه يطير بجناحيه لا يدب برجله.
وقوله :﴿ يطير بجناحيه ﴾ في هذه الآية سؤال معروف، وهو أن يقول طالب العلم : ما الفائدة وما الحكمة في قوله :﴿ بجناحيه ﴾ ومعلوم أن الطائر لا يطير إلا بجناحيه ؟
الجواب عن هذا السؤال عند العلماء من أوجه منها : أن القرآن نزل بلغة العرب ومن عادة العرب هذا النوع من التوكيد، نحو :( قال لي هذا بفيه )، و ( مشى إلي برجله )، ومنه في القرآن :﴿ يكتبون الكتاب بأيديهم ﴾ [ البقرة : آية ٧٩ ] ومعلوم أنهم لا يكتبونه إلا بأيديهم، وكقوله :﴿ يقولون بأفواههم ﴾ [ آل عمران : آية ١٦٧ ] ﴿ يقولون بألسنتهم ﴾ [ الفتح : آية ١١ ] ومعلوم أن القول بالفم واللسان وما جرى مجرى ذلك.
القول الثاني : أن مادة ( الطاء والياء والراء ) – مادة ( الطيران ) – قد تطلقها العرب على الإسراع بالرجلين، لا بالجناحين. وقد تقول لعبدك : " طر يا غلام في حاجتي ". تعني : أسرع، وفي الحديث في مدح المجاهد : " إذ سمع هيعة طار إليها "، أي : أسرع إليها. وفي شعر الحماسي، بيته المعروف :
................................ *** طاروا إليه زرافات ووحدانا
وهو معنى معروف في كلام العرب، ومنه قول قعنب بن أم صاحب :
صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به *** وإن ذكرت بسوء عندهم أدنوا
إن يسمعوا سبة طاروا بها فرحا *** مني وما سمعوا من صالح دفنوا
ولما كان يكثر في لغة العرب [ إطلاق ] الطيران على الإسراع بالرجلين، قد يكون لقوله :﴿ بجناحيه ﴾ فائدة ؛ لتخرج من الإسراع بغير الجناحين كما ذكرنا. وكان بعض العلماء يقول : قد يكون بعض ما يطير يطير بأكثر من جناحين، كما قال في الملائكة :﴿ جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع ﴾ [ فاطر : آية ١ ] قالوا : هنالك من الملائكة ما يطير بأربعة أجنحة ؛ ولذا احترز عن ذلك بقوله :﴿ بجناحيه ﴾.
وأظهر الأقوال هو ما صدرنا به : أن هذا الأسلوب معروف في كلام العرب، كقوله : " قاله لي بفيه "، و " مشى إليه برجله "، و " كتبت له بيدي "، و " طار الطائر بجناحيه "، ومنه :﴿ يكتبون الكتاب بأيديهم ﴾ [ البقرة : آية ٧٩ ] ﴿ يقولون بأفواههم ﴾ [ آل عمران : آية ١٦٧ ] وما جرى مجرى ذلك و ﴿ ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ﴾ في قوله :﴿ إلا أمم ﴾ سؤال، وهو أن يقال : أفرد الله هنا الدابة، قال :﴿ وما من دابة ﴾ بلفظ ( دابة ) واحدة ﴿ ولا طائر ﴾ بلفظ ( طائر ) واحد. فكيف يجمعهم على أمم ويقول :﴿ إلا أمم أمثالكم ﴾ ؟
والجواب : في هذا واضح ؛ لأن قوله :﴿ ما من دابة ﴾ وقوله :﴿ ولا طائر ﴾ كلاهما نكرة في سياق النفي، تعم كل دابة، كائنة ما كانت، وكل طائر يطير بجناحيه كائنا ما كان، فالمعنى عام ؛ ولذا قال في مثل هذا :﴿ وعل كل ضامر ﴾ [ الحج : آية ٢٧ ] أفرد اسم الضامر وقال :﴿ يأتين ﴾ بصيغة الجمع ؛ لأن ﴿ كل ضامر ﴾ بمعنى : ضوامر كثيرة، وكذلك ﴿ ما من دابة ﴾ بمعنى : دواب كثيرة ﴿ ولا طائر ﴾ يعم طيرا كثيرا ؛ ولذا قال :﴿ إلا أمم أمثالكم ﴾ اختلف العلماء في مثلية هذه الأمم للآدميين على أقوال متعددة، بعضها حق. وحاصل هذا أن الله صرح بأن الدواب بأنواعها : بأنواع الوحوش، وأنواع السباع، وأنواع الطيور، كل نوع من هذه الأنواع أمة من الأمم التي خلق الله، أمثال الآدميين ؛ لمشابهات بينها وبين الآدميين ؛ لأن كلا من الجميع مخلوق يحتاج إلى خالق يخلقه، مرزوق يحتاج إلى خالق يرزقه ويدبر شؤونه. والكل مضبوط في كتاب : أوصاف الجميع، وآداب الجميع، وصفات الجميع، ومقاديرهم، وألوانهم، إلى غير ذلك. ومما يكون من تلك المماثلة : أن الجميع يحشرون إلى الله، كما قال هنا :﴿ ثم إلى ربهم يحشرون ﴾ ونص على ذلك في التكوير في قوله :﴿ وإذا الوحوش حشرت ﴾ [ التكوير : آية ٥ ] فلما كانوا أمما وأجناسا يعرف بعضهم بعضا، وتسافد ذكورها إناثها فيتناسلون، وهذا أب، وهذا أم، والكل مرزوق، يرزقه رازق، يدبر شؤونه، وقدر أرزاقه، وقدر آجاله، القدر الذي يرزقهم الله محدد، والقدر الذي يعيشون في الدنيا محدد، وأوصافهم، وألوانهم، وغير ذلك، وكل هذا في كتاب، والآدميون كذلك يحتاجون إلى رازق يرزقهم، ويدبر شؤونهم، يضبط آجالهم، وأعمالهم، وأرزاقهم. من هذه الحيثية صارت هذه أمما أمثالنا.
وقد كان لسفيان بن عيينة ( رحمه الله ) في هذه الآية تفسير مشهور ارتضاه بعض العلماء، ولا يظهر عندنا كل الظهور، كان ابن عيينة ( رحمه الله ) يقول في هذه الآية الكريمة : إن الله تبارك وتعالى جعل في الآدميين شبها من أنواع البهائم، فجعل في بعضهم جراءة الأسد، وجعل في بعضهم سرعة عدو الذيب، وجعل في بعضهم فخر الطاووس وزهوه، وجعل في بعضهم شره الخنزير، وهكذا، وأن بينهما مشابهات من هذا النوع.
وأكثر العلماء على أنهم إنما كانوا أمما أمثالنا ؛ لأن كلنا مخلوق، مسكين، مرزوق، يدبر شؤونه خالق رازق، وأن ذلك الخالق الرازق قدر الأوقات الذي يوجدنا فيها، والأوقات التي يميتنا فيها، والأرزاق التي يرزقنا فيها، وقدر لكل منا قدر حياته، ورزقه، وأجله، وقدر صفته التي يكون عليها، ومقداره الذي يكون عليه، ونحو ذلك.
وبهذه الآية يتفكر المسلم ويعتبر، ويعلم أنه بالنسبة إلى ضعفه وافتقاره ؛ وعظمة الله ( جل وعلا ) وجلاله، أنه كالحيوانات والبهائم.
وكان بعض العلماء يقول :﴿ إلا أمم أمثالكم ﴾ كما أنكم تعرفون الله، وتسبحون الله، وتوحدونه، فهم أمم أمثالكم كذلك. ويدل لهذا أن الله ( جل وعلا ) قال :﴿ وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم ﴾ [ الإسراء : آية ٤٤ ] وقال جل وعلا :﴿ ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه ﴾ [ النور : آية ٤١ ].
ومما يقدح في هذا القول أن هذا النوع تستوي فيه الجمادات مع البهائم ؛ [ لأنه ] دل الكتاب والسنة على أن الجمادات تشارك البهائم في هذا، والله في آية الأنعام هذه خص الحيوانات حيث قال :﴿ وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه ﴾ أما ذلك الإدراك، وتسبيح الله، فالجمادات تشارك فيه البهائم، ويشملها عموم قوله :﴿ وإن من شيء إلا يسبح بحمده ﴾ [ الإسراء : آية ٤٤ ] وقد سبح الحصى بيد النبي صلى الله عليه وسلم. وقد ثبت في صحيح البخاري في قصة الجذع – وهي متواترة أن الجذع الذي كان يخطب عليه النبي صلى الله عليه وسلم لما تحول عنه إلى المنبر فقد النبي صلى الله عليه وسلم فحن حنين العشار، والمسجد غاص بالناس، والصحابة يسمعون حنينه، حتى جاءه النبي صلى الله عليه وسلم يسكته كما تسكت الأم ولدها. وقد ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إني لأعرف حجرا كان يسلم علي بمكة ". وقد قال الله ( جل وعلا ) في كتابه :﴿ فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها ﴾ – أي : من الحجارة – ﴿ لما يهبط من خشية الله ﴾ [ البقرة : آية ٧٤ ] لما يصعق من أعلى الجبل إلى أسفله نازلا خوفا من رب العالمين ( جل وعلا )، كما قال تعالى :﴿ لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله ﴾ [ الحشر : آية ٢١ ] وقد قال جل وعلا :﴿ إنا سخرنا الجبال معه يسبحن ﴾ [ ص : آية ١٨ ] فصرح بتسبيح الجبال، وقد قال جل وعلا :﴿ إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها ﴾ [ الأحزاب : آية ٧٢ ] والإشفاق : الخوف. معناه : أن هذه الجمادات، من السماوات والأرض والجبال، عندها إدراك يعلمه الله، ونحن لا نعلمه، حيث أبت من التزام التكليف وأشفقت، وهذه حقائق دل عليها الكتاب والسنة. والملحدون الذين يقولون : " هذه أمثلة، وتخييل، وتصوير بما ليس بواقع ". كل ذلك من صرف كتاب الله عن ظاهره المتبادر منه بغير دليل، وذلك لا يجوز ؛ إذ لا مانع عقلا أن يخلق الله للجمادات إدراكات يعلمها هو ونحن لا نعلمها، كما قال تعالى :﴿ وإن من شيء إلا يسبح بحمده ﴾ [ الإسراء : آية ٤٤ ] وكذلك يخلق للبهائم إدراكات، وقد نص القرآن على كثير من ذلك، نص على قضية النملة وخطبتها العظيمة التي قال فيها :﴿ قالت نملة يأيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون ﴾ [ النمل : آية ١٨ ] وذكر قصة الهدهد ومحاجته لسليمان، ونسبته الإحاطة لنفسه ونفيها عن سليمان ﴿ أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبإ يقين ﴾ [ النمل : آية ٢٢ ] وبين أنه يفهم أن يذهب بالكتاب إلى بلقيس وجماعتها ﴿ اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا ﴾ [ النمل : آية ٢٨ ].
وقوله ( جل و
﴿ والذين كذبوا بئاياتنا صم وبكم في الظلمات ﴾ المعنى أن الذين كذبوا بآيات الله – كالذين جحدوا هذا الوحي المنزل ( القرآن العظيم )، وزعموا أنه شعر، أو سحر، أو كهانة، أو أساطير الأولين، ونحو ذلك – قال الله فيهم : إنهم صم بكم.
الصم : جمع الأصم. وقد تقرر في فن التصريف : أن صيغة ( أفعل ) إذا كانت صفة مشبهة، وكذلك أنثاها ( فعلاء ) ينقاس جمع كل منهما تفسيرا على ( فعل )، كالأصم والصم، والأعمى والعمي، والأبكم والبكم، والأحمر والحمر، إلى غير ذلك.
ومعنى صم : أنهم صم عن سماع الحق وإن كانوا يسمعون غيره. كما بينا أنه قال عن المنافقين :﴿ صم بكم ﴾ [ البقرة : آية ١٨ ] فحكم عليها بالبكم مع أنه يقول فيهم :﴿ فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد ﴾ [ الأحزاب : آية ١٩ ] ومن أين للبكم أن تكون لهم الألسنة الحداد ؟ وقال في المنافقين :﴿ وإن يقولوا تسمع لقولهم ﴾ [ المنافقون : آية ٤ ] أي لفصاحتهم وحلاوة ألسنتهم، مع أنه يحكم بأنهم بكم.
وهذا ( الصمم ) وهذا ( البكم ) المراد به : أنهم صم عن سماع ما يقربهم إلى الله ويدخلهم الجنة، وإن سمعوا غيره، بكم عن النطق بالحق وإن تكلموا بغيره.
والعادة المعروفة في العربية : أنهم يطلقون على قليل الجدوى اسم ( لا شيء ). وأنهم يطلقون على السماع الذي لا فائدة فيه، اسم :( الصمم ). ومنه قول قعنب ابن أم صاحب :
صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا
ومعنى ( أذنوا ) : أنصتوا بآذان صاغية. فهو يقول :( صم إذا سمعوا ) يصرح بأنهم صم في الوقت الذي يصرح بأنهم يسمعون، كما في الآيات ؛ لأن السماع الذي لا فائدة فيه يطلق عليه اسم ( الصمم ) وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الكهان، قال في الكهان : " ليسوا بشيء ". نفى عنهم اسم ( الشيء ) لخساستهم وقلة فائدتهم، وهذا معروف في كلام العرب.
والذي عليه الجمهور : أن هذا الصمم والعمى في الدنيا، كما قال الله :﴿ فأصمهم وأعمى أبصارهم ﴾ [ محمد : آية ٢٣ ] وقال :﴿ ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ﴾ [ البقرة : آية ٧ ] وقال :﴿ أفرأيت من اتخذ إلاهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة ﴾ [ الجاثية : آية ٤٥ ].
وقد قدمنا أن هذا الصمم والعمى إنما هو من ذلك الختم الذي يضع الله على قلوبهم، الذي عبر عنه تارة ب ( الختم ) في قوله :﴿ ختم الله على قلوبهم ﴾ [ البقرة : آية ٧ ] وتارة ب ( الطبع ) :﴿ بل طبع الله عليها بكفرهم ﴾ [ النساء : آية ١٥٥ ] ﴿ كذلك نطبع على قلوب المعتدين ﴾ [ يونس : آية ٧٤ ] وعنها تارة ب ( الران ) :﴿ بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ﴾ [ المطففين : آية ١٤ ] ومرة ب ( الأكنة ) :﴿ إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي ءاذانهم وقرا ﴾ [ الكهف : آية ٥٧ ].
قد بينا في الدروس الماضية وجه الجواب منه عن حجة الجبرية ؛ لأنهم يقولون : " إذا كان الله جعل على قلبه الختم، وعلى عيونه [ الغشاوة ]، وجعل عليه الطبع والأكنة، ومنعه من الفهم والسماع إذن هو مجبور " ! ! وقد أجبنا عن هذا : أن الآيات القرآنية دلت بكثرة : أن ذلك الختم والطبع إنما يجعله الله عليهم بعد أن بادروا إلى الكفر، وتمردوا على الله، وكذبوا رسله، وعاندوا، ولجوا في الباطل، فعند هذا يطمس الله بصائرهم جزاء وفاقا، كما قال :﴿ فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم ﴾ [ الصف : آية ٥ ] بأن ختم عليها وطبع، ومنعها من الخير، وقال :﴿ بل طبع الله عليها بكفرهم ﴾ [ النساء : آية ١٥٥ ] أي : بسبب كفرهم، فالباء سببية، بينت أن سبب ذلك الطبع هو كفر سابق. وقال تعالى :﴿ ونقلب أفئدتهم وأبصارهم ﴾ [ الأنعام : آية ١١٠ ] أي : نقلبها كي لا تسمع الحق أو تبصره ﴿ كما لم يؤمنوا به أول مرة ﴾ لما سارعوا وبادروا إلى الكفر طمسنا على قلوبهم، كما بينه في قوله :﴿ بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ﴾ [ المطففين : آية ١٤ ] فبين أن ذلك ( الران ) الذي غطى القلوب ومنعها من الفهم سببه ما كانوا يكسبونه من الشر، والكفر، والمعاصي – والعياذ بالله – ولذا قال تعالى هنا :﴿ صم وبكم في الظلمات ﴾ قوله :﴿ في الظلمات ﴾ كأنه يقول :( عمي )، ( صم بكم عمي )، إلا أنه عبر عن عماهم بكونهم ﴿ في الظلمات ﴾ ؛ لأن الذي هو في الظلمات لا يبصر شيئا، و ﴿ الظلمات ﴾ : جمع ظلمة.
وقد بينا في هذه الدروس مرارا : أن من أصعب المسائل شبهة الجبر والقدر، هي من أصعب المسائل، وأن القرآن أشار إليها في آيات ؛ لأن كثيرا من الجهلة والملحدين يقولون : " إن كان الله هو الذي يشاء أفعال العبد، وهو الخالق لكل شيء – ومنه أفعال العبد – وأفعال العبد بمشيئته، فكيف يعاقب العبد المسكين على شيء شاءه الله، وخلقه الله ؟ فالعبد إذن لا يؤاخذ بشيء " ! ! فلأجل هذه الشبهة، ضلت القدرية – والعياذ بالله – فقالوا : إن العبد يستقل بأعماله نفسه. زاعمين أن قدرة العبد مستقلة بأعماله بلا تأثير لقدرة الله فيها، ففروا من شيء ووقعوا فيما هو أعظم منه – والعياذ بالله.
وقد قدمنا في الدروس الماضية : أنه لو تناظر جبري وسني فقال الجبري مثلا : هذه الذنوب والمعاصي التي صدرت من البعيد أن الله كتبها عليه، وقدرها عليه في الأزل، وطويت الصحف، وجفت الصحف، وكان ما كان، ولا مبدل لما سبق في علم الله.
يقول البعيد : لو أردت التخلص مما سبق به العلم الأزلي لا يمكنني ذلك بحال. فيقول البعيد : أنا إذا مجبور، فكيف نعاقب ؟ وهذا فعل الله وتقديره في أزله قبل أن أولد، وما سبق في العلم فهو حتم واقع لا محالة ! !
والصحابة سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه المسألة، وقالوا : " أهو أمر مؤتنف، أو كان ما كان فيما مضى ؟ " أخبرهم أنه كان ما كان. فقالوا له : إذا لم لا نترك ونتكل على الكتاب السابق، ونترك العمل حيث فرغ من كل شيء، ومضى ما مضى ؟ فبين لهم بنكتة من جوامع الكلم، قال : " كل ميسر لما خلق له ". فهي كلمة مجملة تدل على معاني هذا بالتفصيل، فالمؤمن – مثلا – إذا ناظر الجبري يقول له : اعلم يا جبري أن جميع الأسباب الذي اهتدى بها المهتدون، وأعطاها الله لهم : أعطاك مثلها : العيون التي أبصروا بها آيات الله وغرائبه وعجائبه فآمنوا : أعطاك عينين صحيحتين مثلها، والقلوب التي فهموا بها عن الله : أعطاك عقلا صحيحا مثلها، والرسول النذير الذي أنذر الكل وخوفه وبين له : أعطاك مثله، فجميع ما أعطاهم أعطاك إياه، إلا أن الفرق بينك وبينهم في شيء واحد هو : أن الله تفضل عليهم بالتوفيق إلى ما بين لهم وأمرهم به، وأنت لم يتفضل عليك، وتفضله بالتوفيق ملكه المحض، من تفضل عليه ففضل، ومن منعه من التوفيق فعدل، كما قال جل وعلا :﴿ قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين ﴾ [ الأنعام : آية ١٤٩ ] ملكه للتوفيق بمشيئته : حجته البالغة على خلقه، من أعطاه ففضل، ومن منعه فعدل.
وقد بينا في الدروس الماضية مناظرة عبد الجبار مع أبي إسحاق الإسفراييني في هذه المسألة ؛ لأن أبا إسحاق فهم مضمون هذه الآية، وحاج به هذا المبتدع المفتري. فجاء عبد الجبار يتقرب بمذهبهم الخسيس أن السرقة والزنى لا تكون بمشيئة الله ؛ لأن السرقة والزنى من القبائح والرذائل، وأن الله – في زعمهم – أنزه وأكرم وأجل من أن تكون هذه الخسائس والقبائح بمشيئته، فجاء عبد الجبار يتقرب إلى الله ويعبده بهذا المذهب الباطل، فقال : سبحان من تنزه عن الفحشاء ! ! يعني : أن فحش السرقة والزنى ليس بمشيئة الله.
فقال أبو إسحاق : كلمة حق أريد بها باطل ! ! ثم قال : سبحان من لا يقع في ملكه إلا ما يشاء.
فقال عبد الجبار : أتراه يشاؤه ويعاقبني عليه ؟
فقال أبو إسحاق : أتراك تفعله جبرا عليه ؟ أأنت الرب وهو العبد ؟
فقال عبد الجبار : أرأيت إن دعاني إلى الهدى، وقضى علي بالردى، دعاني وسد الباب دوني، أتراه أحسن إلي أم أساء ؟
فقال أبو إسحاق : أرى أن الذي منعك إن كان حقا واجبا لك عليه فقد ظلمك وقد أساء، إن كان ملكه المحض فإن أعطاك ففضل، وإن منعك فعدل. وبهت عبد الجبار، وقال الحاضرون : والله ما لهذا جواب ! !
وقد بينا في ما مضى القصة التي ذكروها عن عمرو بن عبيد – مع أنه من عظمائهم الأجلاء عندهم – أنه جاءه ذلك البدوي، وقال له إن حمارته أو دابته سرقت، وأنه [ يطلب منه أن ] يدعو الله له أن يردها عليه. فقام يدعو ويتقرب بهذا المذهب الباطل : اللهم إن دابته سرقت ولم ترد سرقتها ؛ لأنك أكرم وأنزه وأجل من أن تريد هذه الرذيلة القبيحة – يعني السرقة *** ! ! فالبدوي قال له : ناشدتك الله يا هذا إلا ما كففت عني من دعائك الخبيث، إن كانت سرقت ولم يرد سرقتها فقد يريد ردها ولا ترد، ولا ثقة لي بر ب يفعل في ملكه أشياء ليست في مشيئته، فهذا ليس برب، ولا ثقة لي به، فاكفف عني من دعائك الخبيث ! !
فحقيقة هذا الأمر أن الله ( جل وعلا ) غني عن الخلائق، / ولكنه خلق الخلق، وجبل بعضهم في الأزل على القبح والسوء، وجبل بعضهم في الأزل على الطيب والطهارة، ويسر كلا لما خلقه له، والحكمة في ذلك : أن يكون فيهم مطيعون يظهر فيهم مظاهر بعض أسماء الله وصفاته، يظهر فيهم من مظهر اسمه : الرحيم، الكريم، الغفور الجواد، إلى غير ذلك من صفات الجود، والرحمة، والمغفرة، والكرم، كما أنه شاء أن يخذل قوما آخرين، فتكون أعمالهم غير طيبة ؛ ليظهر فيهم أيضا بعض مظاهر أسمائه وصفاته من شدة البطش وقوة الانتقام، وعظمة النكال والعقاب، إلى غير ذلك. والله ( جل وعلا ) إذا خلقهم وأوجدهم يصرف قدرهم وإرادتهم بقدرته وإرادته إلى ما سبق به العلم الأزلي، فيأتون طائعين ﴿ وما تشاءون إلا أن يشاء الله ﴾ [ الدهر : آية ٣٠ ].
وقوله جل وعلا :﴿ صم وبكم في الظلمات ﴾ [ الأنعام : آية ٣٩ ] جمهور العلماء على أن المراد بصممهم وعماهم وكونهم في الظلمات : أنه في دار الدنيا، والمراد به عمى أبصارهم عن الحق، وصمم أسماعهم عن الحق، وعمى عيونهم عن الحق ؛ لأنها في الظلمات – والعياذ بالله – لا تبصر شيئا، كما في قوله :﴿ صم بكم عمى فهم لا يرجعون ﴾ [ البقرة : آية ١٨ ] ﴿ وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بئايات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون ﴾ [ الأحقاف : آية ٢٦ ] خلافا لبعض العلماء القائل : الذين كفروا في دار الدنيا ﴿ صم وبكم في الظلمات ﴾ في الآخرة ؛ لأجل تكذيبهم في الدنيا، واستدل بأن الله قال :﴿ ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا ﴾ [ الإسراء : آية ٩٧ ] وذكر بأنهم في الظلمات، بدليل قوله :﴿ انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا ﴾ [ الحديد : آية ١٣ ].
والقول الأول هو الذي عليه الجمهور.
ثم قال :﴿ من يشإ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم ﴾ [ الأنعام : آية ٣٩ ].
قد بينا فيما مضى أن فعل المشيئة إذا قرن بأداة شرط حذف مفعوله باتفاق ؛ لأن جزاء الشرط يكفي عنه. وتقرير المعنى :( من يشأ الله إضلاله يضلله، ومن يشأ جعله على صراط مستقيم يجعله على صراط مستقيم ).
وهذه الآية الكريمة تدل على رد مذهب القدرية ردا واضحا لا شك فيه ؛ لأنه بين أن الضلال بمشيئته، والهدى بمشيئته، فلا يقع في الكون تحريكة ولا تسكينة إلا بمشيئته جل و
﴿ قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون ﴾ [ الأنعام : الآيتان ٤٠، ٤١ ].
هذه الآية الكريمة عاب الله فيها الكفار بسخافة العقول، وأنهم إذا نزلت بهم شدة من عظائم الشدد أخلصوا في ذلك الوقت الدعاء إلى الله، وتركوا دعاء غير الله ؛ لعلمهم بأنه لا ينفع ولا يضر، فإذا نجاهم الله من تلك الكربة، وأمنوا : رجعوا إلى ما كانوا عليه من الشرك بالله. وهذه سخافة عقول ؛ لأنهم في وقت الشدائد يخلصون إلى الله، ثم إذا كان في غير ذلك الوقت رجعوا إلى ما كانوا عليه من الكفر ! ! وهذا ذم من الله للكفار، ذمهم به في آيات كثيرة من الكتابة ؛ ذلك أن الإنسان إذا نزلت به عظيمة من عظائم الشدة – في الدنيا – والأهوال، فإن الالتجاء في ذلك الوقت إلى من ينقذه. هذا من خصوص خالق الكون ( جل وعلا )، هذا أمر من خصائص الله، ليس فيه شرك لأحد. فالله ( جل وعلا ) إذا نزلت بالناس الشدد، والبلايا، والفظائع العظام فملجؤهم الذي يلجؤون إليه هو خالقهم ( جل وعلا ). وسيدهم في ذلك وقائدهم فيه : هو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، كان إذا نزل به المكروه والشدائد أخلص الالتجاء في ذلك الوقت لمن له ذلك الحق الخالص، كما قال تعالى :﴿ إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم ﴾ [ الأنفال : آية ٩ ].
وهذا المستغيث هو محمد صلى الله عليه وسلم يلتجىء إلى الله عند الشدة ليشرع ذلك [ لأمته ]، ويبين لهم أن هذا حق ربهم الخالص له وحده.
وقد أوضح الله هذا المعنى بالسورة الكريمة – سورة النمل – حيث قال :﴿ قل الحمد لله وسلم على عباده الذين اصطفى ءالله خير أما تشركون ﴾ [ النمل : آية ٥٩ ] وفي القراءة الأخرى :﴿ أما يشركون ﴾ الجواب : الله خير من كل شيء. ثم قال ﴿ أمن جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا أءلاه مع الله بل أكثرهم لا يعلمون ﴾ [ النمل : آية ٦١ ] ذكر في هذه الآيات خلقه البحر، والجبال، وما فعل من عظائم ربوبيته ( جل وعلا )، وهذه خصائصه وحقوقه الخاصة. ثم قال في الأثناء :﴿ أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أءلاه مع الله ﴾ [ النمل : آية ٦٢ ] ثم قال :﴿ أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر ومن يرسل الريح نشرا بين يدي رحمته ﴾ [ النمل : آية ٦٣ ] وفي القراءة الأخرى :﴿ بشرا بين يدي رحمته ﴾ ثم قال :﴿ أمن يبدؤا الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء ﴾ [ النمل : آية ٦٤ ] هذه حقوق الله الخالصة له، فنحن معاشر المؤمنين نخلصها لله، إرضاء لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، واقتداء برسوله ؛ ولئلا نتعدى حدود الله، ونصرف حقوقه لغيره، والكفار يعلمون هذا، ويعلمون أن هذه حقوق الله الخالصة له، فإذا كان وقت الجد، ورأوا الشدائد، كأن يهيج عليهم البحر بأمواجه وأهواله فيظنوا الموت، عند هذا يخلصون العبادة والدعاء لله وحده، فإذا أنجاهم الله رجعوا إلى ما كانوا عليه، كما عابهم فيه في آية الأنعام هذه – التي نحن بصددها – وأمثالها في القرآن كثيرة، كقوله في سورة بني إسرائيل :﴿ وإذا مسكم الضر في البحر ﴾ يعني : بمسيس الضر : إن هاجت عليهم الأمواج، وعصفت الريح، وكادت السفينة تغرق بما فيها ﴿ وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون ﴾ أي : غاب عنكم كل ما كنتم تدعونه واضمحل ﴿ ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر ﴾ وأنقذكم من ذلك الكرب في البحر ﴿ أعرضتم ﴾ أي : ورجعتم إلى كفركم، ثم قال :﴿ أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا ثم لا تجدوا لكم وكيلا أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى فيرسل عليكم قاصفا من الريح فيغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا ﴾ [ الإسراء : الآيات ٦٧ *** ٦٩ ] وقال جل وعلا :﴿ وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين ﴾ في هذا الوقت ﴿ لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق ﴾ [ يونس : الآيتان ٢٢، ٢٣ ] ﴿ وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين ﴾ [ لقمان : آية ٣٢ ] ﴿ فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين ﴾ [ العنكبوت : آية ٦٥ ] وأمثال هذا في القرآن كثيرة جدا.
وكان سبب إسلام عكرمة بن أبي جهل – رضي الله عن عكرمة وأرضاه *** : كان شديد العداوة للنبي هو وأبوه، فلما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة في عام ثمان من الهجرة هرب عكرمة، وركب سفينة من البحر الأحمر رائحا إلى الحبشة، فلما لججت بهم السفينة في البحر هاجت عليهم الريح، وأيقنوا بالهلاك، وطغت عليهم الأمواج، فإذا جميع من في السفينة يتنادون، وينادي بعضهم بعضا : احذروا في هذا الوقت أن تدعوا غير الله ؛ لأنه لا يخلصكم من هذا إلا الله وحده. فلما سمعهم يقولون قال : والله إن كان لا ينجي من كربات البحر إلا هو، فلا ينجي من كربات البر إلا هو، ثم قال : اللهم لك علي العهد إن أنجيتني من هذه لأضعن يدي في يد محمد صلى الله عليه وسلم فلأجدنه رؤوفا رحيما، فأنجاهم الله، فرجع وأسلم، وصار من خيار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فنحن معشر المؤمنين، إذا نزلت بنا البلايا، كأن يهيج علينا البحر في سفينة، أو تقع أمور لا يقدر على دفعها إلا الله، فاقتداء بنبينا، وعملا بكتابنا، وتوحيدا لربنا، نعطي الله حقه الخالص، ولا نفعل كما يفعل الكفار ؛ لأن الله عاب الكفار ؛ لأنهم وقت الشدائد يخلصون العبادة لمن خلقهم، وفي وقت الرخاء يرجعون لشركهم ؛ ولذا قال جل وعلا :﴿ قل أرأيتكم ﴾ [ الأنعام : آية ٤٠ ] هذه الكلمة المشهور فيها عند علماء العربية وعلماء التفسير : أنها كلمة أطلقتها العرب بهذه ( التاء ) مفتوحة، سواء كان المخاطب ذكرا أو أنثى، أو جماعة أو اثنين، إلا أن ( الكاف ) بعدها حرف خطاب يتلون بتلون المخاطبين، ككاف الخطاب في الإشارة في ( ذلكم )، و ( ذلك ) و ( ذلكن )، ومعناها عند الجمهور : أخبرني. والتحقيق : أن الكاف فيها لا محل له من الإعراب ؛ لأنه حرف خطاب ؛ وأنها كلمة وضعتها العرب بمعنى : أخبرني.
﴿ أرأيتكم ﴾ أخبروني، أخبروني أيها الكفار الذين تعدلون بالله غيره، وتصرفون حقوقه لغيره، وتدعون معه غيره، أخبروني إن جاءتكم بلية من البلايا ﴿ إن أتاكم عذاب الله ﴾ بأن هاج عليكم البحر ورأيتم الموت عيانا ﴿ أو أتتكم الساعة ﴾ من بلاء عظيم وداهية عظمى، ﴿ أغير الله تدعون ﴾ ؟ ؟ أتدعون في ذلك الوقت غير الله من هذه الأصنام التي تعبدون دونه ؟ والمعنى : كلا لا تدعون في ذلك الوقت إلا إياه وحده، كما صرح به قوله :﴿ بل إياه تدعون ﴾ [ الأنعام : آية ٤١ ]
﴿ أغير الله تدعون ﴾ ؟ ؟ أتدعون في ذلك الوقت غير الله من هذه الأصنام التي تعبدون دونه ؟ والمعنى : كلا لا تدعون في ذلك الوقت إلا إياه وحده، كما صرح به قوله :﴿ بل إياه تدعون ﴾ [ الأنعام : آية ٤١ ]
وقدم المفعول للحصر، أي : لا تدعون وقت الشدائد إلا إياه وحده ؛ لأنكم تعلمون أنه هو الذي بيده إزالتها، وأن غيره لا يقدر على رفع الكربات عنكم، ثم قال :﴿ فيكشف ما تدعون إليه ﴾ استشكل بعض العلماء ( إلى ) بعد ( تدعون ) وقد قال بعض المحققين : إن [ ( دعا ) قد تضمن مادة ( لجأ ) كما قد تتعدى ب ] ( إلى ) كما في قوله :﴿ وإذا دعوا إلى الله ﴾ وكما قال الشاعر :
وإن دعوت إلى جلى ومكرمة يوما سراة كرام الناس فادعينا
الشاهد : أن ( دعا ) تعدى ب ( إلى ).
﴿ فيكشف ما تدعون إليه ﴾ هذا الذي تدعون الله إليه، أي : إلى أن يكشفه عنكم، ويزيله عنكم، قد يكشفه إن شاء، وإن شاء لم يكشفه، فهذه قيدت بالمشيئة.
قال بعض العلماء : هذه قيدت بالمشيئة، وآية البقرة أطلقت، لم تقيد، وهي قوله :﴿ وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان ﴾ [ البقرة : آية ١٨٦ ] ولم يقل : إن شئت، وهنا قيد بالمشيئة.
قال بعض العلماء : يحمل المطلق على المقيد، ويقيد بالمشيئة.
وأظهر القولين : ما قاله بعض العلماء : أن آية البقرة مطلقة، وأن دعاء المؤمن لا يرد إلا إذا كان بإثم أو قطيعة، وما جرى مجرى ذلك، وهذه التي قيدت بالمشيئة : في دعاء الكفار، أما دعاء المؤمنين فلم يقيد بالمشيئة.
وعلى كل حال لا شيء إلا بمشيئة الله، إلا أن وعد الله صادق، وقد وعد المؤمنين بالإجابة، ولم يقيده بشيء، وإنما جاء بقيد المشيئة في دعاء الكفار.
ثم قال :﴿ وتنسون ما تشركون ﴾ فيه للعلماء وجهان : أن معنى ﴿ وتنسون ﴾ تتركونه عمدا، تنسون الشركاء، أي : تتركون دعاءها وقت الشدة عمدا ؛ لعلمكم بأن الكربات والشدائد لا يكشفها إلا الله ( جل وعلا )، فتتركونها عمدا.
والنسيان يطلق على ترك الشيء عمدا، كما قال :﴿ فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا ﴾ [ الأعراف : آية ٥١ ] معناه : نتركهم عمدا كما تركوا العمل للقاء يوم القيامة عمدا. وهذا معروف في كلام العرب، أنها تطلق النسيان على ترك الفعل عمدا، وتطلقه على تركه نسيانا.
الوجه الثاني : أنه من شدة الهول نسوا غير الله ( جل وعلا )، ولم يخطر في أذهانهم إلا الله ؛ لأنهم عارفون أنه لا يكشف الكربات إلا هو ؛ ولذا قال :﴿ وتنسون ما تشركون ﴾.
يقول الله جل وعلا :﴿ ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشياطين ما كانوا يعملون فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين ﴾ [ الأنعام : الآيات ٤٢ *** ٤٥ ].
٤٢ *** يقول الله ( جل وعلا ) لنبيه : لست أول نبي كذبه قومه، فقد أرسلنا قبلك رسلا كراما، وجاؤوا بالبينات والمعجزات الواضحات، فكذبهم أممهم كما كذبتك أمتك. وكل هذا من تسلية النبي صلى الله عليه وسلم.
واللام في ( لقد ) توطئة لقسم محذوف ( والله لقد أرسلنا ) وصيغة الجمع في ﴿ أرسلنا ﴾ للتعظيم.
وفي هذه الآية الكريمة حذفان، كلاهما دل المقام عليه :
الحذف الأول : حذف المفعول به، وتقديره :( ولقد أرسلنا رسلا إلى أمم من قبلك ) فحذف المفعول لدلالة المقام عليه، وحذف الفضلة إذ دل المقام عليها سائغ مطرد.
الحذف الثاني الذي دل المقام عليه : وهو حذف ( الفاء ) وما عطفت.
وحذف ( الفاء ) وما عطفت إن دل المقام عليه : فهو مطرد في لغة العرب، كثير في القرآن، أشار له ابن مالك في الخلاصة بقوله :
والفاء قد تحذف مع ما عطفت ***............................
وتقديره هنا :﴿ ولقد أرسلنا ﴾ أي :( أرسلنا رسلا ) ﴿ إلى أمم من قبلك ﴾ فكذبت تلك الأمم ﴿ فأخذناهم بالبأساء والضراء ﴾ ابتلاء لما كذبوا. هذان الحذفان.
والأمم هنا : جمع أمة. والمعروف عند علماء العربية : أن لفظ ( الأمة ) أطلق في القرآن العظيم أربعة إطلاقات مشهورة، ولو قيل إن هنالك إطلاقا خامسا لكان غير بعيد.
أما إطلاقات لفظ ( الأمة ) في اللغة العربية وفي القرآن فمن أشهرها١ :
إطلاق ( الأمة ) على الطائفة المتفقة في الدين. أي : في نحلة كائنة ما كانت. وهذا أكثر إطلاقاتها ﴿ وإن من أمة إلا خلا فيها نذير ﴾ [ فاطر : آية ٢٤ ] ﴿ ولكل أمة رسول ﴾ [ يونس : آية ٤٧ ] ﴿ ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار ﴾ [ الأعراف : آية ٣٨ ].
الإطلاق الثاني : إطلاق ( الأمة ) على الرجل العظيم المقتدى به، وقد أطلق الله ( الأمة ) بهذا المعنى على نبيه إبراهيم في قوله :﴿ إن إبراهيم كان أمة ﴾ [ النحل : آية ١٢٠ ].
الإطلاق الثالث : إطلاق الأمة على البرهة والقطعة من الزمن، ومنه بهذا المعنى :﴿ وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة ﴾ [ يوسف : آية ٤٥ ] أي : تذكر بعد برهة من الزمان، ومن هذا الإطلاق قوله تعالى في أول سورة هود :﴿ ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة ﴾ [ هود : آية ٨ ] أي : إلى برهة معينة في علمنا من الزمن.
الإطلاق الرابع : إطلاق الأمة على الشريعة، والدين، والملة.
العرب تقول : " هذه أمتنا ". أي : ديننا، وشريعتنا، وملتنا. ومنه بهذا المعنى :﴿ وإن هذه أمتكم أمة واحدة ﴾ [ المؤمنون : آية ٥٢ ] أي : شريعتكم، وطريقتكم، ودينكم.
ومنه بهذا المعنى :﴿ وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا ءاباءنا على أمة ﴾ [ الزخرف : آية ٢٣ ] أي : على شرع، وملة، ودين. ومنه بهذا المعنى قول نابغة ذبيان :
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة *** وهل يأثمن ذو أمة وهو طائع ؟
يعني : أن صاحب الدين والشرع لا يأثم ويخالف دينه وشرعه وهو طائع.
والإطلاق الخامس : الذي قلنا إنه لو زاده إنسان لكان غير بعيد *** هو ما جاء في الآية الماضية بالأمس من إطلاق ( الأمة ) على الجنس من الحيوانات والطيور، كما قال تعالى :﴿ ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ﴾ [ الأنعام : آية ٣٨ ] فقد أطلق تعالى على كل نوع من أجناس الدواب والطيور اسم ( الأمة ).
وقوله هنا :﴿ ولقد أرسلنا إلى أمم ﴾ [ الأنعام : آية ٤٢ ] هذه الأمم هي أمم بني آدم، كما جاء مفصلا في بعض الآيات : أرسل نوحا إلى قومه، وبين لنا ما قابلوه به، وكذلك فصل لنا سير جماعة منهم، كقضية نوح مع قومه، وهود مع قومه، وصالح، ولوط، وشعيب، وموسى وهارون مع فرعون، ونحو ذلك مما بينه القرآن.
﴿ ولقد أرسلنا ﴾ أي : أرسلنا رسلا ﴿ إلى أمم من قبلك ﴾ أي : من الناس الذين مضوا من قبلك، في الزمن الماضي، يعني : فكذبوا رسلهم ؛ لأن الله ما أرسل رسولا إلى قوم إلا كذبوه وأهلكهم الله، ولم يستثن من هذا أمة إلا أمة يونس، كما سيأتي في قوله :﴿ فلولا كانت قرية ءامنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما ءامنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين ﴾ [ يونس : آية ٩٨ ] أما غيرهم من الأمم فكل أمة تكذب رسولها فيهلكها الله، كما قال تعالى في سورة قد أفلح المؤمنون :﴿ ثم أرسلنا رسلنا تترا كل ما جاء أمة رسولها كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضا وجعلناهم أحاديث فبعدا لقوم لا يؤمنون ﴾ [ المؤمنون : آية ٤٤ ].
وقال هنا :﴿ ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء ﴾ [ الأنعام : آية ٤٢ ] أصل ( الأخذ ) في لغة العرب : هو التناول بقوة وشدة.
فكل ما تناولته بقوة وشدة فقد أخذته. وأخذ الله عظيم، وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري ( رضي اله عنه )، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته " ثم تلا قوله تعالى :﴿ وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد ﴾ [ هود : آية ١٠٢ ] و ﴿ البأساء والضراء ﴾ في هذه الآية :﴿ فأخذناهم بالبأساء والضراء ﴾ كلاهما مصدر أنث بألف التأنيث الممدودة تأنيثا لفظيا، وأكثر العلماء على أن ( البأساء ) : هي ما كان من جهة الفقر، والفاقة، والجوع، وضياع الأموال. وأن ( الضراء ) : هي ما كان من قبيل أمراض الجسوم وآلامها، وما يقع فيها. والمعنى : أنا ابتليناهم بالضر في أموالهم وفي أبدانهم فأفقرناهم، وأعدمنا أموالهم، حتى صاروا في جوع، وفي فقر، وفي فاقة، اختبرناهم بهذا لينيبوا إلى الله، ويبتهلوا إليه، فلم ينفع فيهم هذا الاختبار بالشر، فلما لم ينجح فيهم هذا الاختبار بالشر ابتليناهم بالخير، وبدلنا عنهم السيئة بالحسنة، فجعلنا لهم مكان المرض صحة وعافية، ومكان الفقر غنى، ومكان الجوع شبعا، فلم ينفع فيهم هذا أيضا. والله ( جل وعلا ) يبتلي خلقه بالشر والخير ﴿ ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون ﴾ [ الأنبياء : آية ٣٥ ] ﴿ وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون ﴾ [ الأعراف : آية ١٦٨ ].
وهذه الآية الكريمة – من سورة الأنعام – بينت أن الله إذا أرسل رسولا إلى قوم ابتلاهم أولا بالشدائد، فسلط عليهم الفقر، والجوع، والفاقة، فإذا لم ينفع فيهم هذا أزال عنهم ذلك، وأغناهم، وصححهم، وأغدق عليهم نعم الدنيا، حتى يهلكهم وهم في غفلة، في أشد وقت غفلة وبطرا – والعياذ بالله – وقد صرح تعالى في سورة الأعراف أن هذا النوع من الابتلاء – المبدوء بالابتلاء بالشر ثم الابتلاء بالخير – عام في جميع الأمم التي أرسلت إليها الرسل، وهنا – في الأنعام – لم يأت بصيغة عامة، وإنما قال :﴿ ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك ﴾ [ الأنعام : آية ٤٢ ] وقوله :﴿ أمم ﴾ جمع منكر. والتحقيق : أن الجموع المنكرة إذا كانت في سياق الإثبات ليست من صيغ العموم، [ ومن ] زعم من علماء الأصول : " أن الجمع المنكر من صيغ العموم " فهو قول مردود، كما هو معروف في الأصول، أما في الأعراف فقد بين أن هذه السنة من سنن الله، أنها عاملة حيث قال :﴿ وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة ﴾ [ الأعراف : الآيتان ٩٤، ٩٥ ] يعني : بدلنا مكان الجوع شبعا، ومكان الفقر غنى، ومكان المرض صحة وعافية ؛ ﴿ حتى عفوا وقالوا قد مس ءاباءنا الضراء والسراء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون ﴾ هذه سنة الله في خلقه، ذكرها هنا في الأنعام، وبين الشمول والعموم في الأعراف.
ومعنى الآية الكريمة :﴿ فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون ﴾ ( التضرع ) : التذلل والخضوع لله، وكثيرا ما يظهر أثر ذلك في الدعاء بأن يبتهل ذلك الذليل الخائف من الله يبتهل متضرعا يناجي ربه ( جل وعلا ). و ( الضارع ) : هو الذليل الخائف، و ( الضراعة ) : الذل والخوف، وهو معنى معروف في كلام العرب، مشهور في كلامهم، ومنه قول الشاعر :
ليبك يزيد ضارع لخصومة ***..............................
أي :( ذليل ) يبكيه ذليل ؛ لأنه ملجأ له.
وفي هذه الآية سؤال معروف، وهو أن يقول طالب العلم : المعروف في لغة العرب، أن حرف ( لعل ) أنه للترجي والتوقع، والله عالم محيط علمه بعواقب الأمور، فكيف يصرح بلفظ هو يدل على الترجي والتوقع، وكيف يصح في كلام الله الترجي والتوقع، وهو القادر على كل شيء، المحيط علمه بعواقب الأمور ؟ هذا وجه السؤال.
وللعلماء عن هذا جوابان :
أحدهما : أن ( لعل ) هنا للتعليل. والمعنى : أخذناهم بالبأساء والضراء لأجل أن يتضرعوا. ولا شك أن ( لعل ) أنها من حروف التعليل. وقد سمع في لغة العرب من كلام العرب الفصحاء التعليل ب ( لعل ). ومن إتيان " لعل " للتعليل في كلام العرب قول الشاعر :
فقلتم لنا كفوا الحروب لعلنا *** نكف ووثقتم لنا كل موثق
فلما كففنا الحرب كانت عهودكم *** كشبه سراب بالملا متألق
فقوله : " كفوا الحروب لعلنا نكف " يعني : كفوا الحروب لأجل أن نكف عنكم.
ومن هنا قال بعض العلماء : كل ( لعل ) في القرآن فهي للتعليل، إلا التي في سورة الشعراء ﴿ وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون ﴾ [ الشعراء : آية ١٢٩ ] قالوا بمعنى : كأنكم تخلدون.
الوجه الثاني : أن ( لعل ) على بابها من أنها للترجي والتوقع، إلا أن معنى الترجي والتوقع فيها هو بحسب ما يظهر للناس، أما الله ( جل وعلا ) فهو عالم بما كان وما يكون. ومما يؤيد هذا : أن الله عالم في أزله بأن فرعون شقي يموت كافرا – والعياذ بالله – وهو يقول لموسى وهارون :﴿ فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى ﴾ [ طه : آية ٤٤ ] على ترجيكما وتوقعكما بحسب ما يظهر لكما. أما عاقبة الأمر وما يؤول إليه فهي عند الله جل وعلا.
وهذا معنى قوله :﴿ فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون ﴾ [ الأنعام : آية ٤٢ ] لأجل أن يتضرعوا. أي : لترجي تضرعهم بحسب ما يظهر للناس الجاهلين بعواقب الأمور.
١ انظر: تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة ص (٤٤٥)، نزهة الأعين النواظر ص (١٤٢)، إصلاح الوجوه والنظائر ص (٤٢)..
ثم قال :﴿ فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ﴾ [ الأنعام : آية ٤٣ ] قد قدمنا بالأمس أن لفظة ( لولا ) أصلها تأتي في اللغة العربية وفي القرآن مشتركة بين معنيين، إلا أن أحد المعنيين ينقسم إلى قسمين، فتكون أقسام ( لولا ) ثلاثة في القرآن وفي كلام العرب. ( لولا ) في القرآن إذن ترد على ثلاثة أقسام، بثلاثة معان معروفة :
الأول : هي ( لولا ) المعروفة عند العلماء بأنها حرف امتناع لوجود، والمعنى : أنها تدل على امتناع شيء لوجود شيء نحو :﴿ ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا ﴾ [ النور : آية ٢١ ] يعني : أنه هنا انتفى عدم الزكاة والطهارة لوجود فضل الله. وهذا معروف مشهور.
الثاني : هو ( لولا ) التحضيضية. ومعنى ( لولا ) التحضيضية : أن ( لولا ) حرف يدل على طلب الفعل بحث وحض ؛ ولذا سميت حرف تحضيض. وهذه هي التي تنقسم قسمين ؛ لأن لها حالتين : تارة يكون الفعل المطلوب فيها بحرف التخصيص – الذي هو ( لولا ) – تارة يكون ممكنا تداركه ممكنا فعله، وتارة يكون ذلك الفعل لم يبق فعله ممكنا ؛ لأن فرصته ضاعت ومضت، ولم يمكن تداركه. وإذا كان فعله ممكنا فهب المعروفة بالتحضيضية نحو :﴿ من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني ﴾ [ المنافقون : آية ١٠ ] ( لولا ) هنا معناه : أطلب منك يا رب بطلب شديد محضض عليه، بحث وحض أن تؤخرني ﴿ إلى أجل قريب فأصدق... ﴾ الآية.
النوع الثاني : ومنه الآية بين أيدينا – هي أن يكون الفعل المطلوب بأداة الطلب التي هي حرف التحضيض – أعني ( لولا ) التحضيضية – يكون الفعل فات تداركه ولم يبق ممكنا أبدا. فهي في هذا المعنى ينقلب تحضيضها إلى التوبيخ والتنديم، تارة يوبخ بها موجود، كقوله للذين تكلموا في عائشة وصفوان :﴿ ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم ﴾ [ النور : آية ١٦ ] هذا العمل المطلوب ب ( لولا ) ضاعت فرصته عليهم ؛ لأنهم قد تكلموا بما لا يليق، فهي في هذا المعنى ينقلب تحضيضها إلى التوبيخ والتنديم. فكأنه يوبخهم ويندمهم على ما فرط منهم. وتارة يكون الموبخ بها قد مات ولم يكن موجودا، كقوله في هذه الآية الكريمة :﴿ فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ﴾ [ الأنعام : آية ٤٣ ] لأن وقت نزول الآية هؤلاء الأمم قد ماتوا وانقضوا في أزمان متناهية، قد مضوا في الزمان الماضي، فلا يمكن حصول الفعل منهم، وليسوا موجودين حتى يسمعوا التوبيخ. ولكن المقصود من توبيخ هذا الذي غاب ومات ليعتبر به غيره، فيعلم بأن قصص القرآن إنما قصت علينا لنعتبر بها ﴿ لقد كان في قصصهم عبرة لأولى الألباب ﴾ [ يوسف : آية ١١١ ] ولذا كان من الحسن أن يوبخ أولئك لنعتبر بتوبيخهم فنجتنب ذلك الأمر الذي استحقوا التوبيخ من أجله، هذا معناه ؛ ومن هذا المعنى ﴿ فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ﴾ [ هود : آية ١٦ ] لأن القرون مضت، فهو توبيخ لغائبين، وتنديم لهم ؛ ليعتبر به المخاطبون ؛ ولذا قال :﴿ فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ﴾ [ الأنعام : آية ٤٣ ] كان المطلوب منهم وقت وجودهم – بحث وشدة – أن يتضرعوا، واختبرهم الله بالبأساء أن يتضرعوا.
ويفهم من الآية أن المسلم إذا ابتلاه ربه بمصائب الدنيا، من أمراض، أو مصائب في الأموال، أو جوع، أو نحو ذلك : أن عليه أن يتضرع إلى ربه ( جل وعلا ) ليزيل عنه ذلك ؛ لأنه وبخ هؤلاء وذمهم على عدم التضرع إليه عند نزول الشدائد بهم، وهذا معنى قوله :﴿ فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ﴾ ثم قال : ولكنهم لم يتضرعوا ﴿ ولكن قست قلوبهم ﴾ لأن القلوب القاسية تشتد كما تشتد الحجارة، فكما أن الحجر الصلب القوي إذا أردت أن تدخل في جوفه ماء لا يدخل، فكذلك قلب الكافر لصلابته وقسوته إذا أردت أن تدخل فيه الموعظة والفهم عن الله لا يدخل ؛ لشدة قسوة القلب – والعياذ بالله ***.
وقوله :﴿ ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون ﴾ اعلم أن الشيطان في لغة العرب يطلق على كل عات متمرد كائنا ما كان. فكل عات متمرد فهو ( شيطان ) في لغة العرب التي نزل بها القرآن، سواء كان من الإنس، أو من الجن، أو من غيرهما. إلا أن ( الشيطان ) كان بالحقيقة العرفية يسبق إلى إبليس وذرية إبليس. أما في الوضع اللغوي فكل متمرد عات تسميه العرب ( شيطانا )، سواء كان من الإنس، أو من الجن، أو من غيرهما، ومن إطلاق ( الشيطان ) على المتمرد العاتي من بني آدم قوله تعالى :﴿ وإذا خلوا إلى شياطينهم ﴾ [ البقرة : آية ١٤ ] أي : عتاتهم المتمردين من رؤساء الكفرة، وقوله تعالى :﴿ شياطين الإنس والجن يوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ﴾ [ الأنعام : آية ١١٢ ] وقد جاء حديث عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم : أن من الإنس شياطين. وكل عات متمرد من الإنس فهو ( شيطان )، كما دل عليه :﴿ وإذا خلوا إلى شياطينهم ﴾ ﴿ شياطين الإنس والجن ﴾ ومنه بهذا المعنى قول جرير – وهو عربي قح – قال :
أيام يدعونني الشيطان من غزل *** وكن يهوينني إذ كنت شيطانا
ومن إطلاق ( الشيطان ) على غير الإنس والجن حديث : " الكلب الأسود شيطان ". وما جرى مجرى ذلك. هذا إطلاق ( الشيطان ) في لغة العرب، وهو حقيقة عرفية في إبليس وذريته ؛ لأن ذرية إبليس شياطين، يفعلون كما يفعل، كما يأتي في قوله :﴿ أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا ﴾ [ الكهف : آية ٥٠ ].
واعلم أن المادة التي اشتق منها ( الشيطان ) اختلف فيها علماء العربية على قولين، أشار لكل واحد منهما الشيخ عمروا – أعني سيبويه – في كتابه. وباختلاف القولين يختلف وزن ( الشيطان ) بالميزان الصرفي، فجماعة من العلماء – وهو أصح القولين – قالوا : إن مادة ( الشيطان ) أصلها من ( شطن )، ففاء المادة شين، وعينها طاء، ولامها نون، ( شطن ). ومعنى هذه المادة في لغة العرب معناها : البعد، فكل شيء شطن فهو بعيد جدا. وهو معروف في كلام العرب، ومنه قول الشاعر :
نأت بسعاد عنك نوى شطون *** فبانت والفؤاد بها حزين
" نوى شطون " أي : بعيدة. ومما يدل على أن ( الشيطان ) أصله من ( شطن ) قول أمية بن أبي الصلت الثقفي – وهو عربي قح – يمدح سليمان بن داود ( عليهما الصلاة والسلام وعلى نبينا )، قال في مدحه :
أي شاطن عصاه عكاه *** ثم يلقى في السجن والأكبال
عبر عن ( الشياطين ) بالشاطن، والشاطن : اسم فاعل ( شطن ) بلا خلاف، وهذا مما يؤيد أن مادة ( الشيطان ) من ( شطن ) بمعنى بعد. ومناسبتها للتسمية هي بعده عن رحمة الله – والعياذ بالله ( جل وعلا ) – وعلى هذا القول أن ( الشيطان ) من مادة ( شطن ) فوزنه بالميزان الصرفي ( فيعال ).
القول الثاني : أن ( الشيطان ) أصله من مادة ( شاط يشيط ) إذا هلك، والعرب تقول :( شاط يشيط ) إذا هلك، وعليه فإنما سمي شيطانا لهلاكه – والعياذ بالله – لأنه هالك مخلد يوم القيامة في عذاب الله. والعرب تقول :( شاط يشيط ). إذا هلك، وهو معنى معروف في كلام العرب، ومنه قول الأعشى ميمون بن قيس :
قد نخضب العير من مكنون فائله *** وقد يشيط على أرماحنا البطل
يعني بقوله :( يشيط ) أي : يموت ويهلك. وعلى هذا فوزن ( الشيطان ) بالميزان الصرفي :( فعلان ) فعلى أنه من ( شاط ) فوزنه :( فعلان )، وعلى أنه من ( شطن ) فوزنه :( فيعال )، هذا وزنه بالميزان الصرفي، واختلاف العلماء في اشتقاقه ومعناه.
والمراد بالشيطان هنا : جنس الشيطان، وهو إبليس وذريته، والعياذ بالله من تضليلهم.
﴿ وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون ﴾ الشيطان يزين للكفرة والعصاة أعمالهم الخبيثة، وذلك التزيين إنما هو بالوسوسة، يوسوس لهم، وينفث في قلوبهم ما يزين لهم به المعاصي والكفر – والعياذ بالله – وهذا معنى قوله :﴿ وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون ﴾.
﴿ فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون ﴾ [ الأنعام : آية ٤٤ ].
﴿ فلما نسوا ما ذكروا به ﴾ النسيان هنا معناه : الترك عمدا.
وقد بينا أن مادة ( النسيان ) تطلق في القرآن وفي اللغة العربية إطلاقين :
يطلق ( النسيان ) على ترك الفعل عمدا نحو قوله :﴿ نسوا الله فأنساهم أنفسهم ﴾ [ الحشر : آية ١٩ ] وكقوله :﴿ إنا نسيناكم ﴾ [ السجدة : آية ١٤ ] والله لا ينسى أبدا النسيان الذي هو زوال العلم ؛ لأن الله يقول :﴿ لا يضل ربي ولا ينسى ﴾ [ طه : آية ٥٢ ] ويقول :﴿ وما كان ربك نسيا ﴾ [ مريم : آية ٦٤ ] فهذا الاصطلاح تقول العرب : " أمرت زيدا فنسي أمري ". يعنون تركه عمدا.
الثاني : هو ( النسيان ) بمعنى زوال العلم. كالنسيان الاصطلاحي المعروف. ومنه قوله :﴿ أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان ﴾ [ الكهف : آية ٦٣ ] وقوله :﴿ وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى ﴾ [ الأنعام : آية ٦٨ ] ﴿ استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله ﴾ [ المجادلة : آية ١٩ ] هذا ( النسيان ) بمعنى زوال العلم، والمراد في الآية : النسيان بمعنى الترك عمدا، وهو قوله :﴿ فلما نسوا ﴾ [ الأنعام : آية ٤٤ ] أي : تركوا عمدا ﴿ ما ذكروا به ﴾ ما ذكرهم الله به من البأساء والضراء، فلم يتضرعوا في حالة الضر، ولم يشركوا في حالة النعيم ؛ لأن الله بين أن الكافر عند حالة النعماء أنه فخور أشر بطر، وعند حالة الضراء يؤوس قنوط، لا يدعو الله، ولا يضرع إليه، كما قال :﴿ ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليئوس كفور ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور ﴾ [ هود : الآيتان ٩ *** ١٠ ] هو فخور فرح أشر بطر وقت العافية، يؤوس قنوط وقت الشدة. وهذا قد استثنى الله منه عباده المؤمنين، حيث قال في سورة هود، لما ذكر هذه الصفات الذميمة عن الإنسان، استثنى منها المؤمنين الطيبين، قال :﴿ إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير ﴾ [ هود : آية ١١ ] وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أن المؤمن الطيب مخالف لهذه الصفات الخبيثة حيث قال صلى اله عليه وسلم : " عجبا للمؤمن لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرا له، إن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وليس هذا إلا المؤمن ". المؤمن عندما يأتيه البأساء والضراء يضرع إلى رب العالمين صابرا محتسبا فيثيبه الله، ويعظم له الأجور، وإذا كان وقت السراء، وأنعم الله عليه، كان شاكرا نعم الله، مراعيا بذلك حقوق الله ( جل وعلا )، ويكون ذلك خيرا له. وهذا أيضا خير له، كما في الحديث الصحيح.
ومعنى قوله :﴿ فلما نسوا ﴾ أي : تركوا وأعرضوا عما ذكروا به من البأساء والضراء، حولنا لهم البؤس إلى نعمة ﴿ فتحنا عليهم أبواب كل شيء ﴾ قرأ هذا الحرف عامة السبعة ما عدا الشامي – أعني ابن عامر *** :﴿ فتحنا ﴾ بتخفيف التاء. وقرأه ابن عامر من السبعة ﴿ فتحنا ﴾ بتشديد التاء.
وقوله :﴿ عليهم أبواب كل شيء ﴾ في هذه الآية الكريمة سؤال معروف، وهو أن يقول طالب العلم : كيف قال الله :﴿ فتحنا عليهم أبواب كل شيء ﴾ وهو أصدق من يقول، مع أن كثيرا من الأشياء لم تفتح عليهم أبوابه، لم تفتح عليهم أبواب الهدى، ولا أبواب التوفيق، ولا أبواب طاعة الله، ولا أبواب خيرات الجنة. ويصدق عليها اسم ( الشيء ) ؟
وللعلماء عن هذا جوابان :
أحدهما : ما قاله بعض العلماء أن المعنى : فتحنا عليهم أبواب كل شيء مما كنا أغلقناه عليهم أيام الابتلاء بالشر. يعني فتحنا لهم أبواب الصحة وقد كانت مغلقة أيام المرض، وفتحنا لهم أبواب الغنى بعد أن كانت مغلقة أيام الامتحان بالشر وهكذا.
الوجه الثاني : أن هذا من العام المخصوص، وجرت العادة في القرآن بأن يذكر الله ( كل شيء ) وهو يراد به أنه عام مخصوص. كقوله في بلقيس :﴿ وأوتيت من كل شيء ﴾ [ النمل : آية ٢٣ ] مع أن بعض الأشياء لم تؤته بلقيس. وكقوله في مكة المكرمة حرسها الله :﴿ حرما ءامنا يجبى إليه ثمرات كل شيء ﴾ [ القصص : آية ٥٧ ] مع أن بعض الثمار لا يجبى إليها. فهذا من العام المخصوص، وهو أسلوب عربي معروف، وتذكر العرب مثل هذا تقصد به الأغلبية. وهذا معنى قوله :﴿ فتحنا عليهم أبواب كل شيء ﴾.
﴿ حتى إذا فرحوا بما أوتوا ﴾ [ الأنعام : آية ٤٤ ] يعني ولم يزل ذلك الفتح ممتدا إلى غاية، هي كونهم فرحوا بما أوتوا. ﴿ حتى إذا فرحوا بما أوتوا ﴾ أي : ما أعطوا من الصحة بدل المرض، ومن الغنى بدل الفقر، ومن الري والشبع بدل الجوع، فرحوا بهذا فرح أشر وبطر، لأنه ما كل فرح مذموم ؛ لأن الفرح المذموم : هو الفرح بالدنيا المحضة، والأشر والبطر، لا من حيث أنها تقرب إلى الله ولا ترضيه. هذا الفرح المذموم المصحوب بالأشر والبطر، وعندما فعلوه أهلكهم الله. وهذا هو الذي ذم الله به الإنسان بقوله :﴿ إنه لفرح فخور ﴾ [ هود : آية ١٠ ] أما الفرح بالخير، والفرح بالدين ومعرفة القرآن فهذا أمر مطلوب من كل مسلم، كما نص الله على ذلك آمرا به بالسورة الكريمة – سورة يونس – حيث قال :﴿ قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون ﴾ [ يونس : آية ٥٨ ] ولام الأمر في قوله :﴿ فليفرحوا ﴾ تدل على أن ذلك النوع من الفرح مأمور به من الله. والأمر إن تجرد من القرائن اقتضى الوجوب، كما هو معروف في فن الأصول.
وقوله هنا :﴿ فرحوا بما أوتوا ﴾ أي : بما أعطوا من الصحة، والعافية، والغنى، والأموال، والدعة، والراحة، فرح بطر وأشر، حتى إذا حصل فيهم ذلك :﴿ أخذناهم بغتة ﴾ قدمنا أن ( الأخذ ) إذا أسند إلى الله هو الأخذ بقوة وشدة. كما قال :﴿ إن أخذه أليم شديد ﴾ [ هود : آية ١٠٢ ].
وقوله :﴿ بغتة ﴾ مصدر منكر بمعنى الحال. ومعنى البغتة : الفجأة. وذلك أشد ما يؤخذ به الإنسان ؛ لأنه إذا علم بالعذاب قبل نزوله يكون متجلدا مستعدا. أما إذا بغته قبل استعداد له فهذا أشد وأنكى ؛ ولأجل هذا بعينه أخبر الله المؤمنين بالبلايا التي ترد عليهم قبل أن تقع ؛ ليكونوا مستعدين لها، ولئلا تفاجئهم. حيث قال لهم :﴿ ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات ﴾ [ البقرة : آية ١٥٥ ] أخبرهم بأن الابتلاء سيأتيهم ؛ لئلا يباغتهم، ويكونوا مستعدين له قبل نزوله، ولذا قال :﴿ أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون ﴾ ( الفاء ) فاء السببية، و ( إذا ) هي الفجائية، و ( المبلسون ) : جمع المبلس، والمبلس : اسم فاعل الإبلاس. و ( الإبلاس ) في لغة العرب يطلق على معان متقاربة، هو في الحقيقة يرادف الوجوم، والوجوم هو : أن يكون الإنسان ساكتا منقطعا لا يقدر أن يتكلم ؛ لشدة اليأس من الخلاص من البلايا والدواهي التي وقع فيها. ومعنى ﴿ مبلسون ﴾ : آيسون قانطون مما وقعوا فيه من عذاب الله – والعياذ بالله – إياسا وقنوطا يمنعهم من أن يتكلموا. فمعناه : ساكتون لا يحيرون جوابا من شدة اليأس والقنوط مما نزل بهم – والعياذ بالله – وكل من دهاه أمر فتحير غير قادر أن يتكلم لشدة الأمر الذي دهاه تقول له العرب :( أبلس ). وهو معنى معروف في كلام العرب، ومنه قول رؤبة بن العجاج في رجزه :
يا صاح هل تعرف رسما مكرسا *** قال : نعم أعرفه وأبلسا
أي : تحير مندهشا لا يقدر أن يتكلم. وهذا معنى قوله :﴿ فإذا هم مبلسون ﴾.
قال بعض العلماء : اشتقاق ( إبليس ) من ( الإبلاس )، وهو اليأس الشديد، والقنوط من الخير، حتى يبقى صاحبه ساكتا لا يحير جوابا.
ثم قال جل وعلا :﴿ فقطع دابر القوم الذين ظلموا ﴾ [ الأنعام : آية ٤٥ ] ( الدابر ) : اسم فاعل دبر القوم يدبرهم، العرب تقول : " دبره يدبره " إذا كان يمشي خلفه ؛ لأنه يمشي عند دبره. كما تقول العرب : " قفاه ". إذا كان يمشي عند قفاه ﴿ وقفينا من بعده بالرسل ﴾ [ البقرة : آية ٨٧ ] وأولاد الناس كأنها دابر لهم يدبرهم ويتبعهم، كلما انقضى قرن دبره قرن. أي : كان ذلك القرن تابعا له، كأنه يمشي عند دبره كما يمشي التابع عند دبر المتبوع، فالدابر يقال للخلف، وآخر القوم، كأولادهم. ومعنى ( قطع دابرهم ) : استؤصلوا ولم يبق منهم تابع ؛ لإهلاك الأولاد مع الآباء، حتى ينقرضوا كلا – والعياذ بالله جل وعلا – وهذا معنى معروف في كلام العرب، ومنه قول أمية بن أبي الصلت الثقفي :
فأهلكوا بعذاب حص دابرهم فما استطاعوا له صرفا ولا انتصروا
( حص دابرهم ) : يعني قطع دابرهم، وأهلك البقية، فلم يبق منهم تابع ؛ لأن الولد كأنه دابر للوالد، أي : تابع له يقفوه من بعده ويحيي ذكره بعد موته. ومعنى :( قطع الدابر ) أنه هلك الأولاد والآباء، وانقضى الجميع، فلم يبق منهم تابع. وهذا معنى قوله :﴿ فقطع دابر القوم الذين ظلموا ﴾.
و ( الظلم ) هنا معناه : الشرك. كقوله :﴿ إن الشرك لظلم عظيم ﴾ [ لقمان : آية ١٣ ] ﴿ والكافرون هم الظالمون ﴾ [ البقرة : آية ٢٥٤ ] ﴿ ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين ﴾ [ يونس : آية ١٠٦ ].
ثم قال :﴿ والحمد لله رب العالمين ﴾ [ الأنعام : آية ٤٥ ] أثنى الله ( جل وعلا ) على نفسه الكريمة بهذا الثناء العظيم ؛ ليعلم خلقه أن يحمدوا الله ( جل وعلا ) ويثنوا عليه عند إهلاكه الظلمة الذين ليس فيهم خير، وليس فيهم إلا الشر للبلاد والعباد، فإراحة المسلمين من الظلمة الذين ليس فيهم إلا الضرر، من غير أن يكون هنالك نفع، نعمة من نعم الله، علم الله خلقه أن يحمدوه عليها.
و ( الحمد ) في لغة العرب : هو الثناء باللسان على المحمود بجميل صفاته، سواء كان من باب الإحسان، أو من باب الاستحقاق. وهو معنى معروف في كلام العرب.
و ( الشكر ) في لغة العرب : فعل ينبىء على تعظيم المنعم بسبب كونه منعما. إلا أن الشكر اصطلاحا هو الحمد لغة، والحمد لغة هو الشكر اصطلاحا.
والمعنى : كل ثناء جميل ثابت لخالق/ السماوات والأرض. فمعنى :﴿ رب العالمين ﴾ أنه سيد الخلائق ومدبر شؤونهم الذي لا يستغنون عنه طرفة عين، وكل من يدبر الأمور ويسوسها تقول العرب له ( ربا )، و ( الربابة ) : سياسة الأمور وتدبيرها، تقول العرب : " فلان رب هذا الحي ". يعنون أنه هو المدبر شؤونه. وهو معنى معروف في كلام العرب، ومنه قول علقمة بن عبدة التميمي :
وكنت امرأ أفضت إليك ربابتي وقلبك ربتني فضعت ربوب
معنى :( ربتني ربوب ) أي : ساستني ساسة، وملكتني ملوك قبلك.
وهذا معنى معروف في كلام العرب، تقول العرب : " ربه يربه "، إذا ساسه ودبر شأنه. وقد عرفتم في السيرة أن صفوان ابن أمية بن خلف طلب من النبي صلى الله عليه وسلم مهلة ينظر في نفسه، واستعار النبي صلى الله عليه وسلم منه بعض السلاح والدروع، وحضر مع النبي صلى الله عليه وسلم غزوة حنين، وكان معه رجل آخر، فلما وقع بالمسلمين ما وقع، حيث صلوا الصبح في غلس الصبح، تبقى بقية من الظلام، وانحدروا في وادي حنين، ووجدوا مالك ابن عوف النصري ألبد لهم هوازن في مضيق من مضايق وادي حنين، وشدوا عليهم شدة رجل واحد، وهم في غفلة، حتى كانت الرماح والسهام كأنها مطر تزعزعه الريح، ووقع بالمسلمين ما وقع حيث قال الله :﴿ ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين ﴾ [ التوبة : آية ٢٥ ] فعند هذا قال ذلك الرجل الذي مع صفوان : الآن بطل سحر محمد صلى الله عليه وسلم. وظنوا أن الهزيمة ستستمر، وأن هوازن يغلبونه ويملكون. فقال له صفوان بن أمية – وهو عدو في ذلك الوقت للنبي صلى الله عليه وسلم – قال لذلك الرجل : اسكت فض فوك، لئن يربني رجل من قريش أحب إلي من أن يربني رجل من هوازن. قوله : " يربني " يعني : يسودني فيسوسني ويدبر شؤوني. هذا أصله معنى ( الرب ). والرب الحقيقي الذي يدبر خلائق الكون هو خالق السماوات والأرض ( جل وعلا )، لا تقع في الدنيا تحريكة ولا تسكينة إلا بمشيئته وتدبيره.
و ﴿ العالمين ﴾ : يطلق على أهل السماوات وأهل الأرض وما بينهما، فالعالم اسم لما سوى الله، وقد دلت آية من سورة الشعراء أن ( العالمين ) شامل لأهل السماوات والأرض وما بينهما، حيث قال الله :﴿ قال فرعون وما رب العالمين قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين ﴾ [ الشعراء : الآيتان ٢٣ *** ٢٤ ] وهذا معنى قوله :﴿ والحمد لله رب العالمين ﴾.
﴿ قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم ﴾ ﴿ أرأيتم ﴾ : معناه أخبروني. وقد قدمنا أن العرب تطلق ( أرأيت ) بمعنى : أخبروني، وتستعملها استعمالين، إذا جعلت معها الكاف، كقوله : " أرأيتك " أو : " أرايتكم " لزمت التاء الفتح، وكانت الكاف تتغير بحسب تغير المخاطب، وإذا حذفوا منها الكاف، كانت التاء تتغير بحسب تغير المخاطب، وهي معناها : أخبرني.
والمحققون من علماء العربية : أنها مع تحويل معناها إلى ( أخبرني ) أنها تطلب مفعولين، وهي ومفعولاها بمعنى : أخبرني عن كذا. وعليه فقوله هنا :﴿ قل أرأيتكم ﴾ أخبروني. المفعول الأول : أرأيتم سمعكم وأبصاركم إن أخذها الله من هو الذي يأتيكم بها ؟ فالمفعول الأول في قوله : أرأيتم سمعكم وأبصاركم إن أخذها الله، من هو الذي يأتيكم [ بها ] ؟ والمفعول الثاني : الجملة.
أولا : هذه الآية تهديد للخلائق، وهو أن الله ( جل وعلا ) أعطاهم هذه العيون التي يبصرون بها، وهذه الآذان التي يسمعون بها، وهذه القلوب المشتملة على العقول التي يفهمون بها، وهذا أعطاه لهم لأجل أن يعتبروا هذه النعم فيشكروا لمن من بها فيطيعوه، كما قال :﴿ والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون ﴾ [ النحل : آية ٧٨ ] أي : لأجل أن تشكروا له هذه النعم فتطيعوه، كأنه يقول لهم هنا : هذه النعم الجلائل التي أنعمت بها عليكم من هذا البصر الذي تبصرون به، والسمع الذي تسمعون به، والقلب الذي تفهمون به، منحتكم إياها لتشكروني ﴿ هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون ﴾ [ المؤمنون : آية ٧٨ ] لما كفرتم نعمي أخبروني إن أخذت نعمي، وسلبتها منكم، فتركتكم عميا بعد الإبصار، وتركتكم صما بعد السماع، وتركتكم لا عقول لكم بعد الإدراك، فصرتم لا بصر عندكم تبصرون به، ولا سمع تسمعون به، ولا عقل تفهمون به، من هو الذي يقدر أن يرد عليكم هذه المنافع، ويجعلكم تسمعون وتبصرون وتفهمون ؟ ! المعنى : لا أحد يقدر أبدا على ذلك إلا الله وحده. يعني : لما كان إنعام الله عليكم بهذه المثابة، وقدرته على سلب إنعامه عنكم بهذه المثابة، ما كان ينبغي لكم أن تتمردوا، وتكفروا، وتصرفوا نعمه ( جل وعلا ) فيما يسخطه. وهذا في الحقيقة أمر يعرق منه الجبين، ويخجل منه من له عقل، أن الله مع عظمته، وجلاله، وكماله يمن على الواحد منا مع ضعف المسكين وحقارته، ويمن عليه بهذه النعم، ويفتح له هاتين العينين في هذا الوجه، على هذا الأسلوب الجميل الغريب، ويعطيه هذا السماع، ويعطيه هذا العقل، ثم يصرف هذه النعم فيما يسخط خالقه ( جل وعلا )، فهذا أمر فظيع، يعرق منه جبين العاقل، ويستحي منه من له عقل.
وهذا معنى قوله :﴿ قل أرأيتكم ﴾ أرأيتم – أخبروني – أيها الناس ﴿ إن أخذ الله سمعكم ﴾ في أخذه السمع وجهان :
أحدهما : أنه يأخذ الأذن بحاستها، ولا يترك لها أثرا، ويأخذ العين حتى يترك الوجه مطموسا، كما قال :﴿ من قبل أن يطمس وجوها فنردها على أدبارها ﴾ [ النساء : آية ٤٧ ].
الوجه الثاني : أن المعنى أنه يأخذ حاسة الإبصار، والسمع، والعقل، وإن كانت الجوارح باقية ؛ لأن صورة العين إذا نزع منها الإبصار لا فائدة فيها، وجرم الأذن إذا نزغ منه السماع لا فائدة فيه. هذان الوجهان معروفان.
وقوله :﴿ من إلاه غير الله ﴾ ﴿ من ﴾ مبتدأ، و ﴿ إلاه ﴾ خبره، و ﴿ غير الله ﴾ نعت للإله. والفعل في قوله :﴿ يأتيكم به ﴾ في محل النعت أيضا. من إله غير الله يرده عليكم ؟
في هذه الآية الكريمة سؤالان عربيان معروفان :
أحدهما : أن الله هنا أفرد السمع، وجمع الأبصار والقلوب، حيث قال :﴿ إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم ﴾ فجمع الأبصار، وجمع القلوب، وأفرد السمع ولم يجمعه، وهكذا في سائر القرآن، يجمع ما ذكر مع السمع، ويفرد السمع، ولا يجمعه في القرآن ؟
السؤال الثاني : أن الله ذكر أشياء متعددة في قوله :﴿ إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم ﴾ ثم رد عليها ضمير اسمه الواحد في قوله :﴿ من إلاه غير الله يأتيكم به ﴾ بضمير مذكر مفرد ؟
هذان السؤالان العربيان في هذه الآية الكريمة. والجواب عنهما معروف من لغة العرب.
أما الجواب عن الأول – وهو إفراد السمع في سائر القرآن – فلعلماء العربية فيه وجهان معروفان :
أحدهما : أن أصل ( السمع ) مصدر، وأنه مصدر : سمعه، يسمعه، سمعا، والعرب إذا نعتت بالمصدر ألزمته الإفراد والتذكير، كما قال ابن مالك في الخلاصة :
ونعتوا بمصدر كثيرا *** فالتزموا الإفراد والتذكير
وقالوا لأجل هذا : لم يجمع السمع في القرآن أبدا.
الوجه الثاني : هو ما تقرر في علوم العربية : أن كل مفرد هو اسم جنس فمن أساليب اللغة العربية أن يطلق مفرده مرادا به الجمع، نظرا إلى أن أصله اسم شامل للجنس. وهذا كثير في القرآن، وفي كلام العرب في حالاته الثلاث، أعني بقولي : " في حالاته الثلاث " أن يكون منكرا، وأن يكون معرفا بالألف واللام، وأن يكون مضافا.
فمن أمثلته في القرآن واللفظ منكر :﴿ إن المتقين في جنات ونهر ﴾ [ القمر : آية ٥٤ ] يعني : وأنهار، بدليل قوله :﴿ فيها أنهار من ماء غير ءاسن ﴾ الآية. [ محمد : آية ١٥ ] وكقوله :﴿ واجعلنا للمتقين إماما ﴾ [ الفرقان : آية ٧٤ ] يعني : أئمة، وكقوله :﴿ ثم نخرجكم طفلا ﴾ [ الحج : آية ٥ ] يعني : أطفالا، وكقوله :﴿ مستكبرين به سامرا ﴾ [ المؤمنون : آية ٦٧ ] يعني : سامرين تهجرون، وكقوله جل وعلا :﴿ وإن كنتم جنبا فاطهروا ﴾ [ المائدة : آية ٦ ] ويعني : إن كنتم جنبين أو أجنابا. وقوله :﴿ وحسن أولئك رفيقا ﴾ [ النساء : آية ٦٩ ] أي : رفقاء ﴿ فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا ﴾ [ النساء : آية ٤ ] أي : أنفسا. ﴿ والملائكة بعد ذلك ظهير ﴾ [ التحريم : آية ٤ ] مظاهرون. وهو كثير جدا.
ومن أمثلته في القرآن واللفظ معرف قوله جل وعلا :﴿ وتؤمنون بالكتاب كله ﴾ [ آل عمران : آية ١١٩ ] يعني : بالكتب كلها، بدليل قوله :﴿ وكتبه ورسله ﴾ [ البقرة : آية ٢٨٥ ] ﴿ وقل ءامنت بما أنزل الله من كتب ﴾ [ الشورى : آية ١٥ ] وقوله :﴿ وجاء ربك والملك ﴾ [ الفجر : آية ٢٢ ] يعني : الملائكة، بدليل قوله :﴿ صفا صفا ﴾ لأن الملك الواحد لا يكون صفا صفا، وكما يدل عليه قوله في البقرة :﴿ هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة ﴾ [ البقرة : آية ٢١٠ ] وكقوله :﴿ سيهزم الجمع ويولون الدبر ﴾ [ القمر : آية ٤٥ ] يعني : الأدبار، بدليل قوله :﴿ فلا تولوهم الأدبار ﴾ [ الأنفال : آية ١٥ ] وكقوله :﴿ أولئك يجزون الغرفة ﴾ [ الفرقان : آية ٥٧ ] يعني : الغرف، بدليل قوله :﴿ لهم غرف من فوقها غرف مبنية ﴾ [ الزمر : آية ٢٠ ] ﴿ هم العدو ﴾ يعني : الأعداء. وهو كثير جدا.
ومن أمثلته واللفظ مضاف قوله :﴿ فليحذر الذين يخالفون عن أمره ﴾ [ النور : آية ٦٣ ] أي : أوامره، وقوله :﴿ وإن تعدوا نعمت الله ﴾ [ إبراهيم : آية ٣٤ ] أي : نعم الله، وقوله :﴿ أو ما ملكتم مفاتحه أو صديقكم ﴾ [ النور : آية ٦١ ] أي : أصدقائكم. وهو كثير في القرآن.
والشيخ سيبويه في كتابهيقول : " إن اسم الجنس إذا كان مفردا : يوجد قصد الجمع به بقلة "، ونحن نقول : بتتبع القرآن واللغة العربية فهو بكثرة، عكس ما قاله الشيخ عمرو سيبويه – رحمه الله – وهو كثير في كلام العرب، ومن أمثلته في كلام العرب : ما أنشده سيبويه في كتابه من قول علقمة بن عبدة التميمي :
بها جيف الحسرى فأما عظامها *** فبيض، وأما جلدها فصليب
يعني : وأما جلوده فصليبة. وأنشد له أيضا سيبويه قول الآخر :
كلوا في بعض بطنكم تعفوا *** فإن زمانكم زمن خميص
أنشد له هذين البيتين فقط، وهو في كلام العرب كثير، ومنه قول عقيل بن علفة المري :
وكان بنو فزارة شر عم *** وكنت لهم كشر بني الأخينا
يعني بقوله : " شر عم " شر أعمام. ومنه قول العباس بن مرداس السلمي :
فقلنا أسلموا إنا أخوكم *** وقد سلمت من الإحن الصدور
يعني : إنا إخوانكم. ومنه قول جرير :
إذا آباؤنا وأبوك عدوا *** أبان المقرفات من العراب
يعني : وأباؤك. ومنه قول قعنب بن أم صاحب :
ما بال قوم صديق ثم ليس لهم *** عقل وليس لهم دين إذا ائتمنوا
قال : " ما بال قوم صديق " يعني : أصدقاء. ومن هذا المعنى – بنفسه – قول جرير قال :
نصبن الهوى ثم ارتمين قلوبنا *** بأعين أعداء وهن صديق
يعني : وهن صديقات. ومن هذا المعنى قول الآخر
يا عاذلتي لا تزدن ملامة *** إن العواذل ليس لي بأمير
وهو كثير جدا. والقصد التمثيل، وعلى هذا خرج بعضهم [ إفراد ] ( السمع ) ؛ لأنه اسم جنس أطلق وأريد به الجمع، كما بينا نظائره في القرآن، وفي لغة العرب.
الجواب الثاني : عن رجوع ضمير مذكر مفرد إلى أشياء متعاطفة حيث قال :﴿ إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إلاه غير الله يأتيكم به ﴾ يجاب عنه بجوابين :
أحدهما : أن قوله :( به ) أي : بما ذكر، أي : بذلك الشيء المأخوذ، وهذا معروف في كلام العرب، ولما قال رؤبة بن العجاج في رجزيته القافية المشهورة، قال فيها :
فيها خطوط من سواد وبلق *** كأنه في الجلد توليع البهق
فقال له واحد : لم قلت : كأنه بالإفراد ؟ إذا كنت تعني ( الخطوط ) لا بد أن تقول : " كأنها "، وإذا كنت تعني ( السواد والبلق ) لا بد أن تقول : " كأنهما "، فمن أين قلت " كأنه " بالإفراد ؟
قال له :( كأنه ) أي : ما ذكر.
الوجه الثاني : هو ما عرف في القرآن، وفي لغة العرب، أنه قد تأتي المتعاطفات سواء كانت متعاطفات ب ( واو )، أو متعاطفات ب ( أو )، أو متعاطفات ب ( فاء )، ويرجع الضمير على واحد منها، وتكون الأخر مفهومة من ذلك ؛ لأنه لما رجع على واحد فهم أن الباقي مثله، وهذا كثير في القرآن وفي كلام العرب. فمن أمثلته في القرآن في العطف ب ( أو ) :﴿ وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه ﴾ [ البقرة : آية ٢٧٠ ] وقال جل وعلا :﴿ ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به ﴾ [ النساء : آية ١١٢ ] بالإفراد، وقال ( جل وعلا ) في مثل هذا :﴿ وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها ﴾ [ الجمعة : آية ١١ ] فرده إلى التجارة دون اللهو. وفهم منه أن اللهو كذلك انفضوا إليه أيضا. مع أنه ربما رجع لهما معا، كقوله :﴿ إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما ﴾ [ النساء : آية ١٣٥ ] وهو في العطف ب ( الواو ) – كما هنا – كثيرا جدا، ومنه قوله :﴿ والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها ﴾ [ التوبة : آية ٣٥ ] وقوله :﴿ واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها ﴾ [ البقرة : آية ٤٥ ] وقوله جل وعلا :﴿ والله ورسوله أحق أن يرضوه ﴾ [ التوبة : آية ٦٢ ] وقوله جل وعلا :﴿ أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه ﴾ [ الأنفال : آية ٢٠ ] وهو كثير في القرآن، ومن أمثلته في كلام العرب قول نابغة ذبيان :
وقد أراني ونعما لاهيين بها *** والدهر والعيش لم يهمم بإمرار
ولم يقل : " يهمما ".
وقول الآخر :
إن شرخ الشباب والشعر الأس *** ود ما لم يعاص كان جنونا
ولم يقل :( ما لم يعاصيا ). هذا كثير في كلام العرب.
ومن أمثلته في المتعاطفات بالفاء : قول امرىء القيس في معلقته :
فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها ***.............................
فرد الضمير على أحدهما، وهذا كثير في كلام العرب.
وأظهر الوجهين : الأول، أن المعنى ﴿ من إلاه غير الله يأتيكم به ﴾ أي : بما ذكر مما أخذه الله من
﴿ قل ﴾ لهم يا نبي الله :﴿ أرأيتكم ﴾ أخبروني ﴿ إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة ﴾ كان الحسن البصري يقول :﴿ بغتة أو جهرة ﴾ أي : ليلا أو نهارا، وهذا التفسير ليس كما ينبغي، بل التحقيق أن معنى بغتة : أي : أتاكم العذاب في حال كونه باغتا. أي : مفاجئا من أن تعلمونه بأسباب، ولا علم لكم به.
وقوله :﴿ جهرة ﴾ أن يأتيكم العذاب بعد أن تعاينوا أسبابه، وتروا أوائله، حتى يقع بكم ﴿ جهرة ﴾ عيانا وأنتم تنظرون إليه.
هذا التحقيق في الفرق بين البغتة والجهرة هنا. إن أتاكم عذاب الله مفاجئا من غير أن يتقدم لكم به علم، أو جهرة بأن عاينتم مبادئه، ورأيتم أول نزوله، حتى وقع جهارا وأنتم تنظرون. ﴿ هل يهلك إلا القوم الظالمون ﴾ هذا الاستفهام بمعنى النفي ؛ ولذا جاء مقابلا ب ( إلا ) التي تقابل النفي.
والمعنى : ما يهلك إلا القوم الظالمون الكافرون.
وفي الآية سؤال معروف : جاء في الأحاديث الصحيحة أن العذاب إذا نزل بقوم كفار شمل من فيهم من المسلمين، وهذه الآية بينت أنه لا يهلك إلا القوم الظالمون ؟
أجيب عن هذا : بأن العذاب لو شمل وأهلك من هو معهم، أن هذا الهلاك تمحيص له، وأنه يبعث يوم القيامة في نعمة من الله ورحمة وأجور.
وقال بعض العلماء : لا يتعين هذا كما دلت عليه قصص الرسل ؛ لأن الغالب أن الكلام في الأمم والرسل، والقرآن قد قص علينا أن كل أمة علم الله أن الهلاك سيأتيها أمر نبيها ومن معه فخرجوا منها ونجوا، كما ذكر أنه نجى هودا بقوله :﴿ نجينا هودا والذين ءامنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ ﴾ [ هود : آية ٥٨ ] ﴿ ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا ﴾ [ هود : آية ٩٤ ] ﴿ نجينا صالحا ﴾ [ هود : آية ٦٦ ] إلى غير ذلك مما جاء مفصلا في الآيات، وهذا يبين معنى قوله :﴿ هل يهلك إلا القوم الظالمون ﴾ [ الأنعام : آية ٤٧ ].
يقول الله جل وعلا :﴿ وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين فمن ءامن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون ﴾ [ الأنعام : الآيتان ٤٨ *** ٤٩ ].
كان كفار مكة يكثرون الاقتراحات على النبي صلى الله عليه وسلم ومما يقترحون عليه أن يقولوا له : سل ربك أن ينزل علينا كثيرا من الأرزاق من خزائن رزقه، وأن يعلمنا بالغيب لنتقي ما يضر ونجتلب ما ينفع. ومما اقترحوا إنزال الآيات كما في قوله في هذه الآية السابقة ﴿ وقالوا لولا أنزل عليه ءايات من ربه ﴾ وقد بين الله بعض اقتراحاتهم في سور من كتابه، كقوله في سورة بني إسرائيل :﴿ وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه ﴾، قال الله له : قل لهم :﴿ قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا ﴾ [ الإسراء : الآيات ٩٠ *** ٩٣ ] وبين في آية الأنعام هذه أن الله ما أرسل المرسلين لتكون بيدهم خزائن السماوات والأرض، أو يكونوا ملائكة، أو يقترح عليهم من شاء كل ما شاء من التعنتات، لا ليس الأمر كذلك ﴿ وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين ﴾ لا لأن تكون بأيديهم الخزائن، ولا ليكونوا ملائكة، ولا ليقترح عليهم كل متعنت ما شاء أن يقترح عليهم، لا.
﴿ وما نرسل المرسلين ﴾ صيغة الجمع في قوله :﴿ نرسل ﴾ للتعظيم، والمرسلون جمع ( المرسل )، والمراد بهم هنا : المرسلون من بني آدم، مع أن المرسلين يكونون من الآدميين ومن غيرهم كالملائكة، كما يأتي في قوله :﴿ الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس ﴾ [ الحج : آية ٧٥ ].
وقوله :﴿ إلا مبشرين ومنذرين ﴾ حالٍ، وقوله :﴿ ومنذرين ﴾ حال معطوفة على حال. والمعنى : ما نرسلهم إلا في حال كونهم مبشرين ومنذرين، وقد حذف هنا معمول البشارة ومعمول الإنذار، وتقديره : إلا مبشرين من أطاعهم بالجنة وما عند الله من الخير، ومنذرين من عصاهم بالنار وما عند الله من النكال. فحذف المفعول والمتعلق لدلالة الكلام عليهما.
وقد قدمنا غير ما مرة : أن ( المبشر ) اسم فاعل ( التبشير ). والتبشير والبشارة : هو الإخبار بما يسر، قال بعض العلماء : سمي الإخبار بما يسر ( بشارة ) : لأن الإنسان إذا سمع خبرا يسره أثر ذلك في دمه فجرى دمه جريانا من البشارة فظهر أثر ذلك على بشرته، ومنها – قالوا – سموها ( بشارة ).
والبشارة أغلب ما تطلق على الإخبار بما يسر خاصة، وجاء في القرآن العظيم إطلاقاتها على الإخبار بما يسوء كقوله :﴿ فبشرهم بعذاب أليم ﴾ [ آل عمران : آية ٢١ ].
والعلماء الذين يقولون بالمجاز في القرآن، معلوم أنهم يسمون مثل قوله :﴿ فبشرهم بعذاب أليم ﴾ يجعلون هذا من نوع ( الاستعارة العنادية )، و ( الاستعارة العنادية ) عندهم يقسمونها إلى : تهكمية، وتمليحية، كما هو معلوم في فن البيان.
ومن منع المجاز في القرآن من العلماء – وهو الذي نرى أنه الأصوب – يقول : هذا أسلوب من أساليب اللغة العربية، فالعرب يستعملون البشارة غالبا فيما يسر، وربما استعملوها فيما يسوء، إذا دلت على ذلك قرائن تفهمه، والكل أسلوب من أساليب اللغة العربية. ومعلوم عن العرب أنهم يطلقون البشارة نادرا على الخبر بما يسوء، ومن إطلاق البشارة على الخبر السيء قول الشاعر :
وبشرتني يا سعد أن أحبتي *** جفوني وقالوا الود موعده الحشر
فجفاء الأحبة أمر يسوء، والبشارة به بشارة بسوء، ومنه قول الآخر :
يبشرني الغراب ببين أهلي *** فقلت له : ثكلتك من بشير
هذا أسلوب عربي معروف، وعلماء البيان يسمونه نوعا من أنواع المجاز، ونوعا من أنواع الاستعارة، يسمونه ( الاستعارة العنادية )، كما بينا أقسامها عندهم.
والقصر في قوله :﴿ وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ﴾ وهو الذي يسميه البلاغيون : قصرا إضافيا ؛ لأنه يرسلهم بأعمال أخر طيبة من تعليم الأداب، والمكارم، وغير ذلك مما هو زائد على البشارة والإنذار.
والبشارة : الإخبار بما يسر، والإنذار : الإعلام المقترن بتهديد خاصة. والإنذار أخص من مطلق الإعلام ؛ لأن الإنذار لا يطلق إلا على إعلام مقترن بتهديد. فكل إنذار إعلام، وليس كل إعلام إنذار، وهذا معنى قوله :﴿ وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ﴾ من أطاعنا بالجنة، ﴿ ومنذرين ﴾ من عصانا بالنار، ثم بين من هم المبشرون، وما صفاتهم، ومن هم المنذرون وما صفاتهم، فقال مبينا صفات المبشرين على ما يسمونه :( اللف والنشر المرتب )، فمن آمن وعمل صالحا فلهم البشارة العظمى ؛ بأنهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، مع ما ينالون من النعيم.
وقوله :﴿ فمن ءامن ﴾ أصل الإيمان في لغة العرب : التصديق. وهو في اصطلاح الشرع : التصديق التام، أعني : التصديق من الجهات الثلاث، وهو تصديق القلب بالاعتقاد، واللسان بالإقرار، والجوارح بالعمل. فالإيمان : قول وعمل، كما عليه مذهب أهل السنة والجماعة، والآيات والأحاديث الدالة عليه لا تكاد تحصى. في الحديث : " من صام رمضان إيمانا " فسمى الصوم : إيمانا. " من قام ليلة القدر إيمانا " فسمى الصلاة : إيمانا ﴿ وما كان الله ليضيع إيمانكم ﴾ [ البقرة : آية ١٤٣ ] أي : صلاتكم إلى بيت المقدس قبل أن تنسخ. وفي الحديث الصحيح : " الإيمان بضع وستون " وفي بعض رواياته : " وسبعون بضعا، أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق " وفي هذا الحديث الصحيح أن هذا الفعل – الذي هو إماطة الأذى عن الطريق – يسمى : إيمانا كما هو معروف.
والعادة المقررة عند العلماء : أن الإيمان إذا جاء مطلقا ولم يعطف عليه العمل الصالح فهو يشمل الإيمان من الجهات الثلاث : يشمل إيمان القلب بالاعتقاد، وإيمان اللسان بالإقرار، وإيمان الجوارح بالعمل. وإذا عطف عليه العمل الصالح، كقوله :﴿ إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات ﴾ [ يونس : آية ٩ ] وقوله هنا :﴿ فمن ءامن وأصلح ﴾ [ الأنعام : آية ٤٨ ] انصرف الإيمان إلى ركنه الأكبر، وهو الاعتقاد القلبي، وصار الإصلاح بعده يراد به الأعمال، كما قال تعالى هنا :﴿ فمن ءامن وأصلح ﴾ آمن قلبه، وأذعن، واعتقد ما يجب اعتقاده إثباتا ونفيا، وأصلح – مع ذلك الإيمان القلبي عمله – بجوارحه ﴿ فمن ءامن وأصلح ﴾ آمن قلبه، وأصلح عمل جوارحه، بأن امتثل الأوامر، واجتنب النواهي، هذا القسم من الناس هم المبشرون الذين فيهم ﴿ وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ﴾ وقال الله فيهم :﴿ فلا خوف عليهم ﴾ يعني يوم القيامة :﴿ ولا هم يحزنون ﴾.
و ( الخوف ) في لغة العرب : هو الغم من أمر مستقبل خاصة.
و ( الحزن ) في لغة العرب : هو الغم من أمر قد فات ومضى. تقول : " فلان أصيب بالأمس، فهو اليوم حزين "، وتقول : " فلان خائف "، أي : يغتم من أمر مستقبل. هذا أصله معنى ( الخوف )، ومعنى ( الحزن ) – أعاذنا الله والمسلمين منها – وربما وضع أحدهما موضع الآخر، وربما أطلقت العرب ( الخوف ) على غير ( الحزن )، ومن إطلاقات العرب الخوف : إطلاقها الخوف على العلم، تقول العرب : " إني أخاف أن يقع كذا " بمعنى : أعلم أن يقع كذا، وقد بينا هذا المعنى في سورة البقرة في الكلام على قوله :﴿ إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به ﴾ [ البقرة : آية ٣٢ ] قال بعض العلماء معنى :﴿ فإن خفتم ألا يقيما ﴾ أي : فإن علمتم ألا يقيما حدود الله. ومن إطلاق ( الخوف ) لا بمعنى ( الحزن )، بل بمعنى اليقيني : قول أبي محجن الثقفي في بيتيه المشهورين :
إذا مت فادفني إلى جنب كرمة *** تروي عظامي في الممات عروقها
ولا تدفنني بالفلاة فإنني *** أخاف إذا ما مت ألا أذوقها
لأنه هو عالم بأنه إذا مات لا يشرب الخمر في قبره أبدا، فقوله : " أخاف " أطلق الخوف في شيء هو عالم به علما يقينا ؛ ولذا قال هنا :﴿ فلا خوف عليهم ﴾ يعني : لا يغتمون من أمر مستقبل ؛ لأن مستقبلهم كله طيب، ليس يترقب فيه شيء فيه أذية، وإنما فيه الفرح والسرور، ولا يحزنون على شيء فائت ؛ لأنهم لم يفتهم شيء إلا وعندهم أضعاف أضعافه من أنواع النعيم، فلا يفوتهم مطلب يحزنون عليه، ولا يخافون من ضرر ولا غم مستقبل يخافون منه.
وفي هذه الآية الكريمة سؤال نحوي، وهو أن يقول طالب العلم :﴿ لا خوف عليهم ﴾ أهملت ( لا ) هنا ولم تعمل، فلم لا يقول : " لا خوف عليهم "، كما قال :﴿ فلا رفث ولا فسوق ﴾ [ البقرة : آية ١٩٧ ] ؟
والجواب عن هذا : أن ( لا ) لا تعمل إلا في النكرات، سواء قلنا إنها التي لنفي الجنس، أو قلنا إنها العاملة عمل ( ليس )، والجملة الأخيرة :﴿ ولا هم يحزنون ﴾ المبتدأ فيها ضمير، والضمائر معارف، فلا يجوز أن تعمل فيها ( لا ) بكل حال، فلما منع عملها في الجملة الثانية لمكان الضمير وهو معرف، وامتنع عملها فيها، ألغي عملها في الأولى لتنسجم الجملتان وتتفقا في الإهمال دون الإعمال.
هذا هو القسم الثاني الذي فيه الإنذار ﴿ والذين كذبوا بئاياتنا ﴾ أي : جحدوا آيات هذا القرآن العظيم، وزعموا أنه أساطير الأولين، أو أنه سحر، أو شعر، أو من كهانة الكهان. الذين كفروا هذا الكفر، وهم أظلم الناس، كما تقدم في قوله :﴿ ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بئاياته ﴾ [ الأنعام : آية ٢١ ].
﴿ أولئك ﴾ هؤلاء الذين هذه صفتهم ﴿ يمسهم العذاب ﴾ والمسيس معناه : وقوع الشيء على الشيء مباشرة من غير أن يحول بينهما حائل. وعبر بالمسيس ليبين أن حر ذلك العذاب وألمه يباشرهم مباشرة عظيمة شديدة من غير حائل، كما يأتي في قوله :﴿ تطلع على الأفئدة ﴾ [ الهمزة : آية ٧ ] لأنها تباشر الأجسام، وتغوص فيها حتى تحرق سويداء القلب، وداخل جسم الإنسان ؛ ولذا قال :﴿ يمسهم العذاب ﴾ [ الأنعام : آية ٤٩ ] أي : عذاب الله، وعذاب الله ( جل وعلا ) لا يماثله عذاب ﴿ فيومئذ لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد ﴾ [ الفجر : الآيتان ٢٥ *** ٢٦ ].
وقوله :﴿ بما كانوا يفسقون ﴾ ( الباء ) سببية، و ( ما ) مصدرية. والمعنى : يمسهم العذاب بسبب كونهم فاسقين في دار الدنيا.
و ( الفسق ) في لغة العرب : الخروج. وهو في اصطلاح الشرع : الخروج عن طاعة الله. والعرب كل ما خرج إنسان عن شيء سمته ( فاسقا ). ومنه قول رؤبة بن العجاج :
يهوين في نجد وغورا غائرا *** فواسقا عن قصدها جوائر
لأنه يذكر مراكب ضلت طريقها التي كانت تمشي عليها، فقال : " فواسقا عن قصدها " أي : خوارج عن الطريق التي كانت تقصدها. هذا أصل ( الفسق ) في لغة العرب.
وهو في اصطلاح الشرع : الخروج عن طاعة الله. والخروج عن طاعة الله جنس تحته نوعان :
أحدهما : الخروج الذي هو أكبر أنواع الخروج وأعظمها، وهو : الخروج عن طاعة الله بالكفر الصراح. هذا أكبر أنواع الفسق. وكثيرا ما يطلق في القرآن اسم ( الفسق ) على هذا ؛ لأنه صرح بأنهم كذبوا بآيات الله، وهذا أعظم الكفر، ثم سمى هذا الكفر فسقا بقوله :﴿ بما كانوا يفسقون ﴾ لأنه أعظم أنواع الخروج عن طاعة الله. ومنه بهذا المعنى قوله :﴿ وأما الذين فسقوا فمأواهم النار كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون ﴾ [ السجدة : آية ٢٠ ] هذا الفسق بمعنى الخروج الأكبر، أي : الخروج عن طاعة الله بالكفر والعياذ بالله.
النوع الثاني من أنواع الفسق : هو خروج دون خروج، وفسق دون فسق، بأن يخرج الإنسان عن طاعة الله إلى المعصية، خروجا لا ينقله من اسم الإسلام إلى الكفر، كارتكاب الكبيرة. ومنه بهذا قوله في القاذفين :﴿ والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون ﴾ [ النور : آية ٤ ] فهذا القذف خروج عن طاعة الله، ولم يبلغ بصاحبه الكفر، بدليل قوله :﴿ إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم ﴾ [ النور : آية ١١ ] ولم ينقلهم عن اسم المسلمين بسبب قذفهم. ولا يقال : إن عبد الله بن أبي منهم، ، وإنه منافق كافر ؛ لأن دين الإسلام يحكم له بشهادة أن لا إله إلا الله في الظاهر، فكان يحضر جمعات المسلمين وجماعاتهم باسم الإسلام، فالله ( جل وعلا ) يقبل من المنافقين كلمة ( لا إله إلا الله ) ظاهرا، كما أرادوا أن يخدعوه فهو يخدعهم حيث يقبلها منهم ظاهرا في الدنيا، وهو يعد لهم في الآخرة الدرك الأسفل من النار، كما في قوله :﴿ إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم ﴾ [ النساء : آية ١٤٢ ].
ومن هذا النوع من الفسق الذي لم يخرج عن دين الإسلام : قوله في قصة الوليد بن عقبة بن أبي معيط لما كذب على بني المصطلق :﴿ يأيها الذين ءامنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا ﴾ الآية [ الحجرات : آية ٦ ].
وهذا معنى قوله :﴿ والذين كذبوا بئاياتنا يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون ﴾ [ الأنعام : آية ٤٩ ] ومسيس العذاب هذا : هو الذي أنذرتهم به الرسل في دار الدنيا إن لم يقلعوا عن ذلك التكذيب والكفر، كما في قوله هنا :﴿ وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين ﴾ [ الأنعام : آية ٤٨ ].
﴿ قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون ﴾ [ الأنعام : آية ٥٠ ].
أول الرسل الذين أرسلوا إلى أهل الأرض بعد أن وقع فيهم الكفر والشرك بالله : هو نبي الله نوح، كما قدمنا في قوله :﴿ إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده ﴾ [ النساء : آية ١٦٣ ].
فدل على أنه أول ذلك النوع الذي يرسل إلى الناس بعد أن كفروا، وآخرهم : محمد صلى الله عليه وسلم. فالله قال لأولهم في سورة هود :﴿ ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا ﴾ [ هود : آية ٣١ ] ومثل هذه القصة بعينها كانت فيما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم حيث قال :﴿ قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ﴾ [ الأنعام : آية ٥٠ ] قل لهم يا نبي الله : لا أدعي لكم دعوى بعيدة ولا كاذبة، ولا أخرج لكم عن طوري وحقيقتي، لا أقول لكم : إن عندي خزائن الله.
والخزائن : جمع الخزانة، وهي المحل الذي تخزن فيه الأرزاق ونحوها، فخزائن الملوك مثلا : المحل الذي يجعلون فيه العدة من الطعام والسلاح وما جرى مجرى ذلك. وكل شيء عند الله في خزانة ؛ لأن الله جميع الأشياء كلها في خزائنه ( جل وعلا )، كما سيأتي في قوله :﴿ وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم ﴾ [ الحجر : آية ٢١ ] لا أقول لكم : إن بيدي الأرزاق والآيات، وما اقترحتم من كل شيء، وخزائن الأمور ليست بيدي، وإنما هي بيد الله، وإنما أنا عبد أرسلت إليكم [ لأبشر ] من أطاعني بالجنة، [ وأنذر ] من عصاني بالنار، وأبلغكم رسالات ربي، وأوضح لكم طريق الخير والشر، وأقيم لكم المعجزات الواضحات التي لا تترك لمنصف في صدق شيئا ؛ ولذا قال :﴿ قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ﴾ الجمهور من العلماء على أن هذا معطوف على ما قبله، وأنه من جملة ما أمر أن يقوله. وتقدير المعنى : قل لهم أيضا : لا أعلم الغيب. كما قال الله له :﴿ قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم لاستكثرت من الخير وما مسني السوء ﴾ [ الأعراف : آية ١٨٨ ] ﴿ ولا أقول لكم إني ملك ﴾ بل أقول لكم : إني رجل ابن رجل وابن امرأة، أذهب إلى السوق، وأشتري منه حاجتي. لأنهم قالوا :﴿ مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ﴾ [ الفرقان : آية ٧ ] كيف يرسل الله من يأكل ويشرب، ويروح إلى السوق ؟ والله يقول :﴿ وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا أنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق ﴾ [ الفرقان : آية ٢٠ ] ﴿ وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين ﴾ [ الأنبياء : آية ٨ ] هذه سنة الله في رسله.
وقوله :﴿ ولا أقول لكم إني ملك ﴾ كان المعتزلة يستدلون بظاهر هذه الآية على أن الملائكة أفضل من الآدميين ؛ لأن هذه كأنها مناصب عالية. لا أقول لكم إني في رتبة إلهية، بحيث تكون عندي خزائن السماوات والأرض، وأعلم الغيب، ولا أدعي لكم الرتبة الأخرى الكبيرة، التي هي رتبة الملك.
وأكثر العلماء على أن خيار الرسل من الآدميين أفضل من الملائكة.
وهذا النوع من الخلاف والبحث مما فيه : " من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه " ؛ لأننا لم نؤمر به، ولم نكلف به، والخوض فيه لا حاجة لنا فيه، ولا لنا من ورائه نفع.
وقد قدمنا مرارا : أن أكثر العلماء على أن أصل المادة اللغوية التي منها ( الملك ) أنها :( ألك ) ففاء الفعل همزة، وعينها لام، ولا مها كاف، ( ألك ) وأصل هذه المادة، مادة ( الهمزة واللام والكاف )، معناها : الرسالة. والألوكة : الرسالة، والمألكة : الرسالة.
وغلام أرسلته أمه *** بألوك فبدلنا ما سأل
والعرب تقول :( ألكني إليها ) :( حمل إليها مألكتي ) أي : رسالتي فبلغها عني، ومنه قول أبي ذؤيب الهذلي :
ألكني إليها وخير الرسو *** ل، أعلمهم بنواحي الخبر
وعلى هذا فأصل الملك :( مالك ) على وزن ( مفعل ) من ( الألوكة ) وهي : الرسالة. فدخله القلب الصرفي المعروف، وهو جعل العين مكان الفاء، والفاء مكان العين، فجعلت الهمزة التي كانت موضع الفاء في موضع العين، فصار :( ملأك )، ووزن ( الملأك ) بالميزان الصرفي :( مفعل ) لأن العين جاءت في موضع الفاء، والفاء في موضع العين. وربما نطقت العرب به على هذا القلب بلفظ ( ملأك )، كقول الشاعر :
ولست لإنسي ولكن ملأكا *** تحدر من جو السماء يصوب
فخففت همزة الملأك، وألقيت حركتها على اللام، فقيل :( ملك ). كما تسقط في قوله :( سلهم ). أصلها :( اسألهم ). وما يدل على أن أصله :( مألك )، وأن الهمزة أصلها فيه ؛ لأنه يجمع على ( ملائكة ) فتأتي الهمزة التي خففت من الأصل. هذا أصله عند جمهور العلماء، ومن يقول : إن أصله من ( الملك ) قول ضعيف.
وعلى هذا الذي قررنا، فوزن ( الملك ) حاليا :( معل ) لأن الفاء المزحلقة إلى مكان العين ساقطة منقولة حركتها. فوزنه ( معل ) بإسقاط الفاء، قالوا : وإنما سمي الملك ملكا من ( المألكة ) وهي الرسالة ؛ لأن الملائكة عباد الله المكرمون، الذين يحملون مآلك الله، أي : رسالاته، كما يأتي في قوله :﴿ فالمدبرات أمرا ﴾ [ النازعات : آية ٥ ] فمنهم من يرسل لتكثير الريح، ومنهم من يرسل لتكثير المطر، ومنهم من يرسل لقبض الأرواح، ومنهم من يرسل لحفظ الأعمال، ومنهم من يرسل لحفظ الآدميين لئلا تتخطفهم الشياطين، كما يأتي، في أحد التفسيرات في قوله :﴿ له معقبات من بين يديه ومن خلفه ﴾ الآية [ الرعد : آية ١١ ].
وقوله جل وعلا :﴿ إن أتبع إلا ما يوحى إلي ﴾ ( إن ) هنا هي النافية. والمعنى : ما أتبع إلا ما أوحاه ربي إلي، لا أزيد عليه ولا أخرج عن طوري، فأنا رسول كريم، أوحى الله إلي أن أنذركم وأبشركم، وأنا اتبع ما يوحى إلي، فمن أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني دخل النار.
وبهذه الآية وأمثالها في القرآن يتمسك الظاهرية بأن القياس لا يجوز في الشرع. قالوا : لأن النبي قال : ما أتبع إلا ما يوحى إلي. فحصر الاتباع في الموحى إليه، والله يقول :﴿ لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ﴾ [ الأحزاب : آية ٢١ ] فعلينا أن لا نتبع إلا خصوص الوحي، ولا نخرج عنه إلى رأي. وأمثال هذا من الآيات التي يستدل بها الظاهرية كثيرة جدا.
ونحن نقول : إن الجواب : أنا لا نخرج عما يوحى، إلا أن ما يوحى منه ما هو منصوص به ظاهر، ومنه ما هو مفهوم من حكم المنصوص به، ولا خروج في هذا عن حكم الوحي ؛ لإجماع العقلاء على أن نظير الحق حق، ونظير الباطل باطل، فالشرع قد يذكر الشيء ويسكت عن نظيره المماثل له في علة الحكم فيفهم العقلاء أنه مثله، وهذا الجمود الذي يدعيه ابن حزم متمسكا بعشرات أو مئات الآيات من هذا النوع، يقول : كل ما نص عليه الله فحكمه ظاهر، وما لم يأت في نص الله من كتاب الله، ولا سنة نبيه، فهو مسكوت عنه، وهو عفو، ولا لنا أن نبحث عنه، ولا نسأل عنه ؛ لأن الله سكت عنه غير نسيان، بل سكت عنه رحمة بنا، فليس لنا أن نبحث عنه.
هذا الذي يقوله ابن حزم، ويستدل عليه بعشرات الآيات، نحن نقول بموجبه. ومعنى :( نقول بموجبه ) أننا نقدح فيه بالقادح المعروف في علم الأصول ب ( القول بالموجب )، وهو أن نقول : أنت صادق فيما قلت، ولكن هذا لا حجة لك فيه، ولا يقطع نزاعنا معك. والمعنى : نحن نصدقك بأن الله أباح أشياء، وحرم أشياء، وسكت عن أشياء رحمة بنا لا نسيانا، والتي سكت عنها ليس لنا البحث عنها، وهي عفو، ولكن هذا الذي تقول أنت : إن الله سكت عنه نحن نقول : أنت في هذا لست بمصيب، بل الله لم يسكت عنه، بل بين حكمه بذلك الشيء الذي نص عليه، وأمثال هذا كثيرة في كتاب الله وفي سنة نبيه، فنحن معاشر عامة المسلمين نعلم أن الله ( جل وعلا ) لما قال في الوالدين :﴿ فلا تقل لهما أف ﴾ ابن حزم يقول : ضرب الوالدين مسكوت عنه، ولم تدل هذه الآية على منعه ! ! ونحن نقول : هذا غير صحيح، بل آية :﴿ فلا تقل لهما أف ﴾ [ الإسراء : آية ٢٣ ] ليست ساكتة عن ضرب الوالدين ؛ لأن النهي عن التأفيف يفهم منه قطعا من دلالة هذه الآية أنه أحرم وأحرم وأحرم ؛ لأنه أشد إيذاء، كذلك حديث أبي بكرة الثابت في الصحيحين، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان ". صرح النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح أن القاضي في وقت الغضب لا يجوز له أن ينظر في قضايا الناس ؛ لأن الغضب أمر مشوش للفكر، لا يتمكن معه القاضي من استيفاء النظر في الحقوق، فلو حكم في ذلك الوقت، فهو مظنة لضياع حقوق الناس، وسكت النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح عما لو كان القاضي مشوش الفكر تشويشا أعظم من الغضب، كأن كان في حزن أو سرور مفرطين، أو كان في جوع أو عطش مفرطين، أو كان في حقن أو حقب مفرطين ؛ فإنه ينال من شدة العطش، ومن شدة الجوع، ومن شدة الحزن، ومن شدة السرور، ومن شدة الحقن ( وهو – بالنون *** : مدافعة البول. والحقب – بالباء *** : مدافعة الغائط، إذا كان في هيجان شديد للخروج ). هذه الأشياء تشوش فكر الإنسان حتى لا يبقى له نظر تشويشا أشد من الغضب.
فيقول ابن حزم : هذه مسكوت عنها، فالحكم في وقتها عفو ! !
ونحن نقول : لا والله، ليست مسكوتا عنها ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما نبه على أن القاضي في وقت الغضب لا يجوز له أن يحكم، عرفنا أن هذا الحديث في معنى : أن كل مشوش للفكر يمنع من استيفاء النظر، ويؤدي إلى ضياع حقوق الناس، أن الحكم في وقته ممنوع، كذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن البول في الماء الراكد، وسكت عما لو بال في قارورة وصبها في الماء من القارورة. فمقتضى ما يقوله ابن حزم : أنه لو قطر فيه قطرات قليلة من ذكره مباشرة : هذا منطوق به، ولو صب فيه مئات الأطنان من الأواني : أن هذا مباح ومسكوت عنه ! ! وهذا هوس لا يقوله عاقل ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما نهى عنه لأن البول يقذره، وصبه فيه من الإناء لا فرق بينه وبين بوله فيه مباشرة.
مثلا النبي صلى الله عليه وسلم نهى الإنسان أن يضحي بالشاة العوراء، وسكت عن الشاة العمياء، فلا نقول : إن الشاة العمياء عفو، ومن شاء أن يضحي بها ؛ لأنا نقول : إن النص المانع من التضحية بالعوراء يعرف منه حكم العمياء.
وهذا – لو تبعنا – أمثاله كثيرة في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
واستدل بعض العلماء – من علماء الأصول – بآية الأنعام هذه على أحد قولين ؛ في مسألة اختلف فيها العلماء ؛ لأنه معلوم في علم الأصول أن العلماء مختلفون : هل النبي صلى الله عليه وسلم يمكن أن يجتهد في شيء، أو لا يجتهد في شيء ؟.
فالذين قالوا : الاجتهاد ممنوع عليه، استدلوا بهذه الآية من سورة الأنعام، وآية النجم، وما جرى مجراهما. قالوا : لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال :﴿ إن أتبع إلا ما يوحى ﴾ [ الأنعام : آية ٥٠ ] فحصر ما يتبع في الوحي، وهذا يمنع الاجتهاد، وأنه لا سبيل إلى الاجتهاد.
وآية النجم التي أشرنا إليها هي قوله :﴿ وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ﴾ [ النجم : الآيتان ٣ *** ٤ ].
فأجابوا عن هذا قالوا : وقعت وقائع تدل على الاجتهاد في الجملة، كما دلت عليه آيات من كتاب الله، كقوله في سورة الأنفال : قال له الله ( جل وعلا ) لما اجته
﴿ وأنذر به الذين يخافون ﴾ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وأصح الأقوال في مرجع الضمير : أنه راجع للقرآن المعبر عنه بقوله :﴿ إن أتبع إلا ما يوحى إلي ﴾ ﴿ وأنذر به ﴾ أنذر بما يوحى إليك – الذي لا تتبع إلا إياه – أنذر به الذين يخافون.
وفي الآية هنا سؤال، وهو : لم قصر الإنذار على الذين يخافون أن يحشروا في حال كونهم متجردين من الأولياء والشفعاء من دون الله، مع أن القرآن إنذار للأسود والأحمر ﴿ تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين ﴾ عن بكرة أبيهم ﴿ نذيرا ﴾ [ الفرقان : آية ١ ] وكقوله :﴿ أن انذر الناس ﴾ [ يونس : آية ٢ ] لم خص هنا الذين يخافون ؟.
أجاب بعض العلماء عن هذا السؤال : بأن من أساليب القرآن العظيم، واللغة العربية، أن يقصر الفعل على الذين ينتفعون به ؛ لأن غير المنتفع به هو في شأنه كلا شيء. ونظير الآية من القرآن :﴿ فذكر بالقرآن من يخاف وعيد ﴾ [ ق : آية ٤٥ ] مع أنه تذكير للأسود والأحمر ﴿ إنما تنذر من اتبع الذكر ﴾ [ يس : آية ١١ ] وهو منذر للأسود والأحمر ﴿ إنما تنذر الذين يخشون ﴾ [ فاطر : آية ١٨ ] وهو منذر للأسود والأحمر. أي : بأنهم هم المنتفعون.
ومعنى :﴿ وأنذر به ﴾ أعلمهم بما عند الله في الأوامر والنواهي، مقترنا ذلك الإعلام بالتهديد والتخويف من خالق السماوات والأرض إن لم يمتثلوا أمره ويجتنبوا نهيه.
وقوله :﴿ يخافون ﴾ هو معنى الخوف على بابه. ﴿ يخافون أن يحشروا إلى ربهم ﴾ مادة ( خاف ) تتعدى بنفسها، وتتعدى بالحرف. وهي هنا متعدية بنفسها، والمصدر المنسبك من ( أن ) وصلتها في قوله :﴿ أن يحشروا ﴾ في محل نصب معمول به للخوف. والمعنى : يخافون الحشر إلى ربهم. والحشر معناه : جمع الناس.
وقوله :﴿ ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع ﴾ هذه الجملة الفعلية المصدرة بهذا الفعل الناقص هي في محل الحال. وهذه الحال هي التي ينصب عليها الخوف. أي : يخافون حشر الناس في حال كونهم ليس لهم من دون الله ولي ولا شفيع.
ومعنى :﴿ ولي ولا شفيع ﴾ الوالي في لغة العرب : هو كل من ينعقد بينك وبينه سبب يجعلك تواليه ويواليك ؛ ولذا كان كل قريب للرجل من عصبته يسمى ( وليا )، وكل صديق حميم يسمى ( وليا ) ؛ ولهذا كان الله ولي المؤمنين، والمؤمنون المتقون أولياء الله ؛ لأن الإيمان سبب منعقد بين العبد وربه، يكون بسببه الله يوالي العبد بالإحسان والرحمة والجزاء، والعبد يوالي الله بالطاعات ونحو ذلك. والمعنى :﴿ ليس لهم من دونه ﴾ يحشرون في حال كونهم وقت ذلك الحشر ليس لهم ﴿ ولي ﴾ أحد بينهم وبينه سبب يجعله يواليهم فيكون وليا لهم يمنعهم مما أراد الله أن يفعل بهم إذا عصوه.
وقوله :﴿ من ولي ولا شفيع ﴾ ( الشفيع ) في لغة العرب : فعيل بمعنى فاعل. أصله :( شافع ). وأصل ( الشفاعة ) مشتقة من ( الشفع )، و ( الشفع ) ضد الوتر، وإنما قيل للشفيع :( شفيع ) لأن صاحب الحاجة كان فردا في حاجته فلما جاء إلى من يشفع له شفعة فصار اثنين في حاجته، ومنها قيل له :( شفيع ) ؛ لأنه من ( الشفع ).
والشفاعة في الاصطلاح : هي التوسط للغير في جلب [ نفع ] أو دفع ضر، وهو على قسمين : شفاعة في الدنيا وشفاعة في الآخرة، أما شفاعة الدنيا فهي قد تكون عند الملوك، وعند غيرهم من العظماء، وهي نوعان : إذا كان الإنسان يشفع لينقذ مظلوما، أو يحقق حقا، أو يبطل باطلا، أو يوصل إنسانا إلى حقه الممنوع منه فهذه الشفاعة طيبة، صاحبها مأجور عليها، وهي التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : " اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء ". وتارة تكون الشفاعة هي التوسط في أمر خبيث لا يجوز، كأن يتوسط رجل لرجل في امرأة لتمكنه من نفسها، أو يتوسط له عند سلطان لينزع حق رجل آخر، وما جرى مجرى ذلك من الشفاعة، أو يشفع ليسقط حدا من حدود الله. وهذه الشفاعة خبيثة، قبيحة، صاحبها يؤزر عليها، وهي من عظائم الذنوب، وقد أشار الله إلى هذا التفصيل في سورة النساء في قوله :﴿ من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها ﴾ [ النساء : آية ٨٥ ].
أما الشفاعة في الآخرة فكلها لله جل وعلا ﴿ قل لله الشفاعة جميعا ﴾ [ الزمر : آية ٤٤ ] لا شافع ذلك اليوم إلا بإذن الله.
والشفاعة يوم القيامة قسمان : شفاعة باطلة مردودة، وهي التي كان يفهمها الكفار، وهي من أنواع الكفر بالله، وهي : ادعاء الكفار أن الأصنام تشفع لهم بلا إذن من الله ( جل وعلا )، إذ من المعلوم أن الأوثان لا تشفع بإذن الله كما قال :﴿ ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله ﴾ [ يونس : آية ١٨ ] وهذا النوع من الشفاعة سماه الله في سورة يونس :( شركا ) حيث قال :﴿ ويقولن هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون ﴾ وهذا النوع إنما سماه الله ( شركا ) – وله المثل الأعلى – لأن فيه نوعان من القدح في عظمة الربوبية. وضرب العلماء لهذا مثلا قالوا : ولله المثل الأعلى – ترى أكبر جبار طاغ في الدنيا يتقطع غيظا على مجرم، ونيته أنه يقطع ذلك المجرم ويقع في قبضته، ونيته أن ينكله أعظم نكال، فيأتي واحد من عظماء دولته – رجل له عظمة وجاه، وله شعبية عظيمة – ويتجرأ على ذلك الملك رغم أنفه، ويقول له : بارك الله فيك شفعني في هذا المجرم ! ! فينظر ذلك الملك، يقول : إذا رددت شفاعة هذا العظيم قد يكون ضدا علي، وحربا علي، فقد يأتيني بغائلة ! ! فيخاف المسكين، ويضطر إلى أن يشفعه رغم أنفه. فخالق السماوات والأرض لا يقدر أحد أن يدل عليه بعظمة ولا جاه، ولا يخاف من أحد أن يدبر عليه شيئا ؛ ولذا يقول مخاطبا لخلقه :﴿ من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ﴾ [ البقرة : آية ٢٥٥ ] الجواب : لا أحد يمكن أن يتجاسر على ذلك أبدا ؛ لأن هذا ملك الملوك الذي لا يخاف من أحد، ولا يمكن أحدا أن يدبر شيئا ضده ؛ ولذا قال :﴿ ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له ﴾ [ سبأ : آية ٢٣ ].
فالحاصل أن الشفاعة يوم القيامة قسمان : قسم مقبول، وقسم مردود، ولقبوله شرطان إذا حصلا كانت الشفاعة شرعية واقعة، وإذا فقدا أو واحد منهما فالشفاعة ممنوعة شرعا. أما هذان الأصلان :
فأحدهما : أن يكون المشفوع له مسلما ؛ لأن الله ( جل وعلا ) لا يقبل شفاعة لكافر ألبتة، كما قال :﴿ فما تنفعهم شفاعة الشافعين ﴾ [ المدثر : آية ٤٨ ] ﴿ ولا يشفعون إلا لمن ارتضى ﴾ [ الأنبياء : آية ٢٨ ] مع أنه يقول :﴿ ولا يرضى لعباده الكفر ﴾ [ الزمر : آية ٧ ].
الثاني : أن يأذن خالق السماوات والأرض ( جل وعلا )، فإذا أذن الله في الشفاعة، وكان المشفوع له مؤمنا. بهذين الشرطين تكون شفاعة مقبولة واقعة في الشرع، دل عليها كتاب الله وسنة نبيه.
ومما يوضح هذا المعنى : أن سيد الخلائق على الإطلاق – نبينا محمد صلوات الله وسلامه عليه – عنده وعد صادق من الله في دار الدنيا، كما يأتيكم في تفسير قوله :﴿ عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ﴾ [ الإسراء : آية ٧٩ ] عنده وعد من الله بالشفاعة الكبرى، وهو عالم أن الله لا يخلف وعده، فإذا وقع الناس في مأزق يوم القيامة، وجاؤوا إلى آدم، وقال كلامه المعروف، ثم جاؤوا إلى نوح، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى، حتى إذا بلغوا النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم : " أنا لها ". لأنه عالم بالوعد الصادق من خالق السماوات والأرض، ومع علمه بالوعد، وعظم جاهه، ومكانته عند الله، لم يتجرأ أن يشفع من غير إذن ؛ بل خر ساجدا، فألهمه الله ( جل وعلا ) من المحامد ما لم يلهمه لأحد قبله ولا بعده، ولم يزل ساجدا حتى قيل له : ارفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفع. هذا مصداق لقوله :﴿ من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ﴾ [ البقرة : آية ٥٥ ] الجواب : لا أحد، فالشفاعة للكفار ممنوعة بتاتا. وقد دلت السنة الصحيحة على أن الشفاعة للكفار خرج منها فرد واحد لا نظير له، وهو ما ثبت في الصحيحين : أن شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم نفعت أبا طالب، مع أنه مات كافرا. إلا أن هذا النفع لهذا الكافر الذي هو وحيد لم يكن له نظير، إنما كان في نقل من موضع من النار إلى موضع آخر أخف منها ؛ ولذا ثبت في الصحيحين : " لعله تنفعه شفاعتي فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه، له نعلان يغلي منهما دماغه ". والعياذ بالله جل وعلا.
فهذه شفاعة خاصة نفع الله بها كافرا نفعا مخصوصا، وهو نقله من محل من النار إلى محل أخف منه من النار والعياذ بالله جل وعلا.
وهذا معنى قوله :﴿ ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع ﴾ الشفيع المنفي هنا : هو الشفيع الذي يشفع لكافر، أو يشفع بغير إذن الله ( جل وعلا ). أما الذي يشفع بإذن الله للمؤمن فهذا ثابت كتابا وسنة.
وأنواع الشفاعة كثيرة، وليست مخصوصة بالأنبياء، بل يشفع الصالحون، والمؤمنون وغيرهم ممن أراد الله أن يشفعه فيمن شاء من خلقه.
قوله :﴿ لعلهم يتقون ﴾ في ( لعل ) هنا وجهان بيناهما بالأمس :
أحدهما : أنها للتعليل، وعليه فالمعلل هو الإنذار المذكور في قوله :﴿ وأنذر به ﴾ أي : أنذر الذين يخافون، أنذرهم لأجل أن يتقوا. أي : لأجل أن يؤثر فيهم ذلك الإنذار ويخوفهم فيتقون الله جل وعلا.
وأصل الاتقاء في لغة العرب : هو اتخاذ الوقاية التي تقيك من المكروه. وهذا معنى معروف في كلام العرب، ومنه قول نابغة ذبيان :
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه فتناولته واتقتنا باليد
أي : جعلت يدها وقاية بيننا وبينها، حيث جعلتها ؛ دون وجهها لئلا نراه. هذا أصل ( الاتقاء )، تقول العرب : " اتقيت السيوف بمجني "، و " اتقيت الرمضاء بنعلي ".
هذا أصل ( الاتقاء )، وهو في اصطلاح الشرع : اتخاذ العبد وقاية تقيه من عذاب الله وسخطه.
وهذه الوقاية مركبة من شيئين هما : امتثال أمر الله، واجتناب نهي الله.
ومعلوم أن مادة ( الاتقاء ) أصلها من ( وقى ) ففاء المادة واو، وعينها قاف، ولامها ياء، فهي مما يسميه الصرفيون :( اللفيف المفروق ). فأصل الاتقاء من الوقاية :( و. ق. ى ). إلا أنها دخلها ( تاء ) الافتعال، كما تقول في ( قرب ) : اقترب، وفي ( كسب ) : اكتسب، وفي ( قطع ) : اقتطع، وفي ( وقى ) : اوتقى. والقاعدة المقررة في التصريف : أن كل فعل واوي الفاء إذ دخله ( تاء ) الافتعال أبدلت الفاء التي هي الواو تاء، وأدغمت في التاء، فقيل فيه :( اتقى ). فهذا التشديد مركب من حرفين : الأول منهما أصله واو في محل فاء الكلمة. والثاني : تاء الافتعال الزائدة. هذا أصل المادة. ومعنى ﴿ يتقون ﴾ : يجعلون وقاية بينهم وبين عذاب الله وسخطه، هذه الوقاية هي امتثال أمره بإخلاص على الوجه الذي شرع، واجتناب نهيه ( جل وعلا ). وهذا معنى قوله :﴿ لعلهم يتقون ﴾.
﴿ ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي ﴾ قرأ هذا الحرف عامة القراء ما عدا ابن عامر :﴿ بالغداة والعشي ﴾ وقرأه ابن عامر وحده :﴿ بالغدوة والعشي ﴾ يضم الغين والواو المفتوحة. وهما قراءتان صحيحتان، ولغتان فصيحتان.
وسبب نزول هذه الآية الكريمة : أن عظماء الكفار – بعض الروايات : كفار قريش، وفي بعضها : عظماء غيرهم من العرب، كالأقرع بن حابس من سادات تميم وعيينة بن حصن من سادات الفزاريين. وأشهر الروايات وأولاها بالصواب : أن الكفار الذين قالوا هكذا كفار مكة ؛ لأن الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن إنما جاؤوا للنبي صلى الله عليه وسلم في المدينة بعد الهجرة، وهذا مما يؤيد الروايات الواردة بأنهم عظماء الكفار من أهل مكة – كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيجدون معه ضعفاء المسلمين الفقراء، كخباب، وعمار، وصهيب، وبلال، وما جرى مجرى ذلك. وفي بعض الروايات الثابتة أن من الذين قالوا فيه ذلك من الفقراء : سعد بن أبي وقاص وجماعة معه. قالوا للنبي : نحن كبار رؤساء العرب، وإن اتبعناك اتبعك الناس، ونحن لا نرضى أن نجالس هؤلاء الأعبد، ويؤذينا نتن جبابهم – لأنهم كانوا يلبسون جبابا من الصوف ليس لهم غيرها، فيكون فيها ريح العرق – اطرد عنا هؤلاء النتنى لنجلس معك ونكلمك. وفي بعض الروايات أنهم قالوا له : إن جئناك فأقمهم عنا حتى نقول لك ما نشاء، وإن خرجنا فإن شئت فاقعد معهم. وفي بعض الروايات : أنه صلى الله عليه وسلم هم بأن يجعل للعظماء الرؤساء مجلسا ليس فيه أولئك. وذكروا أنه دعا عليا ( رضي الله عنه )، وأخذ الصحيفة ليكتب فيها علي ؛ لأنهم قالوا له : اكتب لنا ذلك. فجاءه جبريل وأنزل الله عليه :﴿ ولا تطرد الذين يدعون ربهم ﴾ ثم لما نزلت ألقى الصحيفة وامتنع من طردهم، وكان يجلس معهم، فإذا أراد القيام قام عنهم قبل أن يقوموا فأنزل الله عليه :﴿ واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ﴾ [ الكهف : آية ٢٨ ] فكانوا إذا جاء وقت قيامه يقومون ليفسحوا له في القيام ؛ لأنهم يعرفون أنهم إن لم يقوموا لا يمكنه أن يقوم. هذا سبب نزول الآية.
والمعنى :﴿ ولا تطرد الذين يدعون ربهم ﴾ [ الأنعام : آية ٥٢ ] يعني : لأجل أن الكفار الفجرة يحبون ذلك ويرغبون فيه، كما قال له :﴿ ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا ﴾ [ الكهف : آية ٢٨ ].
﴿ ولا تطرد الذين يدعون ربهم ﴾ يدعونه معناه : يعبدونه ويتضرعون إليه. وذهبت جماعة من العلماء إلى أن المراد بالدعاء هنا : الصلاة ؛ لأنها أعظم العبادات، وهي فيها دعاء. يقول المصلي فيه :﴿ اهدنا الصراط المستقيم ﴾ [ الفاتحة : آية ٦ ] ثم يقول : آمين. ففيها أعظم دعاء، وقد ثبت في مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه : أن المسلم إذا قال :﴿ اهدنا الصراط المستقيم ﴾ قال الله : " هذه لعبدي ولعبدي ما سأل ". كما بيناه مرارا.
وعلى هذا فقوله :﴿ بالغداة والعشي ﴾ يعني ب ( الغداة ) : صلاة الصبح، وب ( العشي ) : صلاة العصر.
وقال بعض العلماء : الآية أعم من الصلاة. وهو الظاهر ؛ لأنهم يدعون الله ويعبدونه بأنواع العبادات من صلاة وغيرها، أول النهار وآخره.
وفي تخصيص الغداة والعشي للعلماء أوجه :
أحدهما : أن العرب إذا أرادت الدوام أطلقت الليل والنهار، والغداة والعشي. يعنون أنهم دائمون على ذلك.
القول الثاني : أن أول النهار وآخره من أفضل الأوقات التي تنتهز فيها فرصة العبادات. ***
وقوله :﴿ يريدون وجهه ﴾ إذا جاء في القرآن العظيم ﴿ يريدون وجهه ﴾ معناه : أن ذلك العمل بإخلاص لله ( جل وعلا )، ليس فيه رياء ولا سمعة، ولا طلب غرض من أغراض الدنيا.
وصفة ( الوجه ) صفة من صفات الله ( جل وعلا ) أثبتها لنفسه، وأثنى على هذه الصفة ثناء خالصا لم يثن به على صفة غيرها حيث قال :﴿ ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ﴾ [ الرحمان : آية ٢٧ ].
ونحن في هذه الدروس القرآنية مرارا نقول لكم : إن الطريق السليمة – التي إن متم عليها ولقيتم الله عليها في هذا المأزق الذي ضل فيه الآلاف [ فإنكم تلقون ربكم بعقيدة صحيحة في هذا الباب ] – أنها مركزة على ثلاثة أسس، كل واحد منها في ضوء القرآن العظيم بغاية الوضوح، من لقي الله على اعتقاد هذه الأسس الثلاثة لقيه سالما، ومن أخل بواحد منها دخل في مهواة، قد لا يتخلص منها.
أول هذه الأسس الثلاثة هو – أيها الإخوان – أن تلزموا قلوبكم بالطهارة من أقذار التشبيه، وتنزهوا خالق الكون ( جل وعلا ) عن أن يشبه شيء من خلقه في صفة من صفاته، كائنة ما كانت، ومن الخلق حتى يشبهوا خالق السماوات والأرض ؟ كيف يشبهونه وهم أثر من آثار قدرته وإرادته ؟ فالأثر لا يشابه مخترعه.
وهذا الأصل هو الأساس الأكبر في معرفة الله، والحجر الأساسي لصلة العبد بربه صلة صحيحة على أساس صحيح، وهو تنزيه خالق السماوات والأرض عن مشابهة الخلق. وهذا أساس منصوص في قوله :﴿ ليس كمثله شيء ﴾ [ الشورى : آية ١١ ] ﴿ ولم يكن له كفوا أحد ﴾ [ الإخلاص : آية ٤ ] ﴿ فلا تضربوا لله الأمثال ﴾ [ النحل : آية ٧٤ ] لأنه لا مثيل له ولا شبيه.
وهذا الأصل هو الأصل الأعظم في التوحيد، وهو أساس الصلة الصحيحة بين العبد وربه، فمن حقق هذا الأصل قرب من الخير، ومن لم يحقق هذا الأصل جره إلى تشبيهات وإلى معاني لا خلاص منها. فإذا حقق العبد هذا الأصل، وألزم قلبه بأن يعلم أن خالق السماوات والأرض أعظم وأكبر وأنزه من أن يشبهه شيء من خلقه بأي صفة من صفاتهم [ فإنه يكون قد طهر قلبه من دنس التعطيل وأقذار التشبيه ].
والأساس الثاني : هو أن يصدق الله بما وصف به نفسه، ويصدق رسوله بما وصف به ربه، تصديقا مبنيا على أساس ذلك التنزيه، على غرار ﴿ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ﴾ [ الشورى : آية ١١ ] فلا يتنطع بين يدي الله، وينفي عن الله وصفا مدح الله به نفسه، أو مدحه به من قال في حقه :﴿ وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ﴾ [ النجم : الآيتان ٣ ٤ ] إذ لا يصف الله أعلم بالله من الله ﴿ ءأنتم أعلم أم الله ﴾ [ البقرة : آية ١٤٠ ] ولا يصف الله بعد الله أعلم بالله من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا الأصل الثاني علمناه خالق الكون ( جل وعلا ) تعليما سماويا أعظم، لا يقع في الحق بعده لبس، وذلك قوله جل وعلا :﴿ وهو السميع البصير ﴾ بعد قوله :﴿ ليس كمثله شيء ﴾ فإتيانه بقوله :﴿ وهو السميع البصير ﴾ بعد قوله :﴿ ليس كمثله شيء ﴾ فيه سر أعظم، ومغزى أكبر، وتعليم خالق السماوات والأرض، وإيضاحه لهذه العقائد إيضاحا كالشمس.
والمعنى : لا تتنطع يا عبدي، يا مسكين، اعرف قدرك، ولا تنف عني صفة سمعي وبصري مدعيا أنك إن أثبت لي سمعي وبصري شبهتني بالحيوانات التي تسمع وتبصر، لا، ما هكذا الأمر. المعنى : أثبت لي سمعي وبصري، وراع في ذلك الإثبات قولي قبله مقترنا به :﴿ ليس كمثله شيء ﴾ فأول الآية تنزيه كامل من غير تعطيل، وآخرها إيمان بالصفات إيمانا تاما من غير تشبيه ولا تمثيل، فعلينا أن ننزه خالقنا ( جل وعلا ) بقوله :﴿ ليس كمثله شيء ﴾ وأن نثبت له ما أثبت لنفسه، ولا نقول إذا أثبتناه : كنا مشبهين ؛ لأن الحيوانات تتصف بهذا ! ! ولأجل هذا وصف نفسه بالسمع والبصر، مع أنهما من حيث هما سمع وبصر يتصف بهما جميع الحيوانات، فكل الحيوانات تسمع وتبصر ؛ ولذا وصف نفسه بالسمع والبصر بعد ﴿ ليس كمثله شيء ﴾ يعني : لا تنف عني سمعي وبصري بدعوى أنك إن أثبتهما كنت مشبها لي بالحيوانات التي تسمع وتبصر، لا. أثبت لي صفة سمعي وبصري إثباتا مراعى فيه قولي قبله :﴿ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ﴾ ولأجل هذه الحكمة قال :﴿ وهو السميع البصير ﴾.
فأول هذين الأصلين – الذي هو الأساس الأكبر للتوحيد والصلة بالله صلة صحيحة : تنزيه خالق السماوات والأرض عن أن يشبه شيئا من خلقه بأي شيء من صفاتهم.
الأساس الثاني : هو أن لا تتنطع – أيها المسكين – وتنفي عن الله وصفا مدح به نفسه، أو أثنى عليه به رسوله، بل أثبت له هذا الوصف مراعيا في ذلك أنه ( جل وعلا ) ليس كمثله شيء، كما قال :﴿ وهو السميع البصير ﴾ بعد :﴿ ليس كمثله شيء ﴾.
فعلينا أن ننزه الله عن مشابهة الخلق، وعلينا أن نصدق الله بما وصف به نفسه، ونصدق رسوله بما وصف به ربه، ولا يخطر في عقولنا التشبيه بصفات المخلوقين. ومن المخلوقين حتى تشبه صفات خالقهم ؟ أليسوا أثرا من أثار قدرته وإرادته ؟ وكيف تشبه الصنعة صانعها ؟
ولو تنطع متنطع وقال : نحن ما عرفنا صفة سمع ولا بصر منزهة عن صفة الخلق، وما علمنا صفة وجه منزهة عن صفات الخلق، وما علمنا كيفية صفة استواء منزهة عن استواءات الخلق، فبينوا لنا كيفية هذه الصفات حتى نعقل كيفية منزهة نعتقدها.
فنقول في هذا : قال مالك بن أنس : السؤال عن هذا بدعة. ولكن نتنزل معه ونقول : أيها المتنطع : هل عرفت كيفية الذات الكريمة المقدسة المتصفة بهذه الصفة ؟ فلا بد أن يقول : لا، فنقول : معرفة كيفية الاتصاف بهذه الصفات متوقفة على معرفة كيفية الذات.
هذان أصلان :
الأول منهما : تنزيه خالق السماوات عن أن يشبه شيئا من خلقه.
الثاني : تصديقه فيما وصف به نفسه، وعدم تكذيبه، وتصديق رسوله بما وصف به ربه تصديقا مبنيا على أساس التنزيه، على نحو :﴿ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ﴾ [ الشورى : آية ١١ ] فأول الآية تنزيه من غير تعطيل، وآخرها إثبات للصفات من غير تشبيه ولا تمثيل، وإن كانت الحيوانات تسمع وتبصر.
الأصل الثالث : هو أن نقطع طمعنا عن إدراك كيفية صفات الله ( جل وعلا ). والله قد نص على عجز الخلق عن الإحاطة بإدراك كيفياته. أشار إلى ذلك في السورة الكريمة – سورة طه حيث قال :﴿ يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما ﴾ [ طه : آية ١١٠ ].
هذه الأصول الثلاثة :
الأول : تنزيه الله.
الثاني : الإقرار بصفات الله مبنيا على أساس التنزيه على غرار ﴿ ليس كمثله شيء ﴾.
الثالث : قطع الطمع عن إدراك الكيفية.
وأنا أؤكد لكم – أيها الإخوان – أنا جميعا سننتقل من هذه الدار إلى القبور، وننتقل سريعا من القبور إلى عرصات القيامة. ولا شك أننا هناك نناقش عن كل ما قدمنا، وما أسلفنا من خير أو
شر، ومما يسألنا الله عنه : هل ما مدحت به نفسي وأثنيت به على [ نفسي ]( في هذين الموضعين انقطع الصوت في التسجيل. وقد استدركت النقص من المواضع التي تكلم فيها الشيخ ( رحمه الله ) على هذه المسألة بنحو هذا الكلام، كما في محاضرة الصفات ص ٤٤ – ٤٥، ومن كلامه في هذا التفسير كما في الأنعام عند الآيتين ( ١٠٣، ١٥٨ )، الأعراف ( ٥٤، ٩٩، ١٤٤ )، التوبة ( ٢١ ) ) أو أثبته لي [ رسولي يعد تشبيها ؟ لو متم يا إخواني وأنتم على هذا المعتقد، أترون الله يوم القيامة يقول لكم : لم نزهتموني عن مشابهة الخلق ؟ ويلومكم على ذلك ؟ لا وكلا، والله لا يلومكم على ذلك. أترون يلومكم على أنكم آمنتم بصفاته، وصدقتموه فيما أثنى به على نفسه، ويقول لكم : لم آمنتم بما أثبت لنفسي... ] ولا بم قد نص رسولي صلى الله عليه وسلم فيما أثنى به علي، تصديقا مبنيا على أساس التنزيه. لا وكلا، أبدا، فهو طريق سلامة محققة، ولا يقول له : لم لا تدعي أن عقلك المسكين القصير محيط بكيفيات صفاتي ؟
يقول الله جل وعلا :﴿ وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين ﴾ [ الأنعام : آية ٥٣ ].
قوله :﴿ كذلك ﴾ أي : وكذلك الفتون المتقدم الذي فتن الله فيه أغنياء العرب ورؤساءهم فتنهم بضعفاء المسلمين حيث احتقروهم، وأبوا أن يجالسوا النبي صلى الله عليه وسلم وهم معه في المجلس، وقالوا له : اطردهم عنا، فإنا لا نرضى أن نجلس معهم. حتى أنزل الله في ذلك ما أنزل.
﴿ وكذلك ﴾ أي : كما فتن هؤلاء الأغنياء بهؤلاء الفقراء، كذلك فتنا بعضهم ببعض، فالله يفتن بعض الناس ببعض، يفتن الغني بالفقير، والفقير بالغني.
وقد قدمنا مرارا أن الفتنة أطلقت في القرآن ثلاثة إطلاقات، وبعضهم يقول : أربعة إطلاقات، أما الإطلاقات الثلاث الذي لم يخالف فيها أحد :
فمنها إطلاق الفتنة على ( الاختبار )، وهو أشهرها في القرآن.
ومنها إطلاق الفتنة على ( الإحراق بالنار ) ؛ لأن العرب تقول : فتنت الذهب، إذا سبكته في النار وأذبته، أي : ليتبين أخالص هو أم زائف. ومن إطلاق الفتنة على مطلق الوضع في النار قوله تعالى :﴿ يوم هم على النار يفتنون ﴾ [ الذاريات : آية ١٣ ] أي : يحرقون بالنار – والعياذ بالله – وقوله تعالى :﴿ إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ﴾ [ البروج : آية ١٠ ] أي : أحرقوهم بنار الأخدود على أصح التفسيرين.
وكذلك تطلق الفتنة على نتيجة الاختبار إن كانت سيئة خاصة، كالمعاصي والكفر، فإن الكفار والعصاة اختبرهم الله بالأوامر والنواهي، فكانت نتيجة الاختبار فيهم غير محمودة حيث كفروا وعصوا ؛ ولذا يطلق اسم ( الفتنة ) على الكفر والمعاصي، ومنه قوله تعالى :﴿ وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ﴾ [ البقرة : آية ١٩٣ ] أي : حتى لا يبقى شرك. وهذا أصح التفسيرين، والدليل على صحة هذا التفسير : قوله صلى الله عليه وسلم : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ". فغاية " حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله " في هذا الحديث الصحيح يفسر الغاية في قوله :﴿ حتى لا تكون فتنة ﴾ أي : لا يبقى أحد إلا وهو يشهد أن لا إله إلا الله على أظهر التفسيرين، وخير ما يفسر به القرآن بعد القرآن : السنة الصحيحة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له :﴿ وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ﴾ [ النحل : آية ٤٤ ] فالسنة بيان للقرآن.
الرابع : إطلاق الفتنة بمعنى ( الحجة )، كما قاله بعض العلماء في قوله المتقدم :﴿ ثم لم تكن فتنتهم ﴾ [ الأنعام : آية ٢٣ ] أي : حجتهم ﴿ إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين ﴾ على القول بذلك.
والمراد بالفتنة في هذه الآية التي نحن بصددها : الاختبار والابتلاء. أي :﴿ فتنا بعضهم ببعض ﴾ أي : اختبرنا وابتلينا بعضهم ببعض. فالأغنياء يبتلون بالفقراء، والفقراء يبتلون بالأغنياء، وقد بين الله في سورة لقمان : أن هذا الابتلاء يحتاج إلى صبر، وأن لله فيه حكمة كما قال :﴿ وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا ﴾ [ الفرقان : آية ٢٠ ] غالبا الأغنياء يبتلون ويفتنون بما يعطيه الله للفقراء من الدين والإيمان بالله ( جل وعلا )، والفقراء غالبا يبتلون بما يعطيه الله للأغنياء من الدنيا، فيقول الفقراء : كيف أعطي هؤلاء الغنى والدنيا، ونحن خير منهم ولم نعطها ؟ ويحسدونهم على غناهم، كما أن الأغنياء يقولون : كيف يكون هؤلاء الفقراء على حق ودين ويكونون أفضل منا ونحن خير منهم ؟
وهذا النوع من الابتلاء هو المقصود هنا. أي : جعلنا فقراء المسلمين ابتلاء وامتحانا لأغنياء الكفار، حيث قالوا : هؤلاء الضعفاء كيف يعبأ الله بهم وهم لا جاه لهم ولا مكانة ؟ والله لا يعبأ الله بهم، ولو كان ما هم عليه فيه خير لكنا سابقين إليه ؛ لأنا أفضل منهم وأولى منهم بكل خير.
كما قال تعالى عن الكفار في هذا الموضوع :﴿ لو كان خيرا ما سبقونا إليه ﴾ [ الأحقاف : آية ١١ ] وكما قال :﴿ وإذا تتلى عليهم ءاياتنا قال الذين كفروا للذين ءامنوا أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا ﴾ [ مريم : آية ٧٣ ] أينا أحسن مجالس وأكثر غنى و أثاثا ؟ يعنون : أنا أفضل منكم، ولو لم نكن أفضل عند الله منكم في الآخرة لما فضلنا عليكم في الدنيا ! ! يقيسون الدنيا على الآخرة، ويحتقرون المسلمين، ويحلفون أن هؤلاء الضعفاء لا يرحمهم الله، ولا يعبأ بهم لسقوط مكانتهم فيما يظنون. كما يأتي في الأعراف في قوله :﴿ أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون ﴾ [ الأعراف : آية ٤٩ ] وكانوا إذا رأوهم يحتقرونهم، ويسخرون منهم، ويغمز بعضهم بعضا فيقولون : هؤلاء الضعفاء الفقراء، والأعبد الموالي الذين لا يعبأ بهم أحد، هم الذين يقول محمد صلى الله عليه وسلم : إن لهم عند الله المكانة العظيمة، وأنهم خير منا، كما قال الله تعالى :﴿ وإذا مروا بهم يتغامزون ﴾ [ المطفيفين : آية ٣٠ ] أي : يغمز بعضهم بعضا احتقارا لضعفاء المؤمنين، كانوا يسخرون منهم في دار الدنيا، ويتغامزون عليهم، ثم إنه يوم القيامة يكون أولئك الضعفاء في أعلى عليين، ويسخرون في ذلك الوقت من الذين كانوا يسخرون منهم، كما في قوله :﴿ زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين ءامنوا والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة ﴾ [ البقرة : آية ٢١٢ ] وقد نص الله تبارك وتعالى في السورة الكريمة – سورة الصافات – على أن أهل الجنة يمكنهم أن ينظروا أهل النار، وقد يتكلمون مع بعضهم، كما جاء في قصة ذلك الرجل المقصوص خبره في الصافات، وذلك كما بينه المفسرون : أنه كان رجلان شريكين في تجارة كثيرة، ثم اقتسما، وأخذ كل منهما نصيبه، وأحدهما مؤمن، والثاني كافر، وكان المؤمن ينصح الكافر للدين، والكافر يرشد المؤمن إلى الكفر وإنكار البعث – والعياذ بالله – فتزوج الشريك الكافر امرأة حسنة جميلة، وأعطاها مالا طائلا، فقال شريكه المؤمن : اللهم إن فلانا تزوج امرأة جميلة، وأعطاها كذا وكذا، وإني أخطب إليك من نساء الجنة بمثل المهر الذي تزوج به، وتصدق بقدر ذلك المهر. ثم إن فلانا – الكافر – اشترى بساتين وضياعا، فقال أيضا صاحبه : اللهم إن فلانا اشترى كذا وكذا بكذا، وإني أشتري منك في الجنة بذلك الثمن، فتصدق بالثمن على الفقراء والمساكين. حتى افتقر ذلك المؤمن، وجاء لشريكه الكافر يطلب أن يكون عنده أجيرا، فامتنع أن يشغله، ولامه ووبخه، فدخل ذلك المؤمن الجنة وذلك الكافر النار، وكان ذلك المؤمن يتحدث [ مع ] جلسائه [ في ] الجنة، وقال لهم : كان لي في الدنيا صديق صاحب من أمره كيت وكيت، فاطلعوا معي لنرى حاله وما هو عليه في النار، فأخبروه أنهم لا يعرفونه معرفة سابقة، ولا حاجة لهم فيه، وأنه هو إن شاء يطلع لينظر إليه، فاطلع فرآه في النار، وقال له ذلك الكلام الذي ذكره الله في الصافات، أشار الله إلى هذه القصة بقوله في أهل الجنة :﴿ وعندهم قاصرات الطرف عين كأنهن بيض مكنون فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون قال قائل منهم إني كان لي قرين يقول أءنك لمن المصدقين ﴾ إنكارا للبعث ﴿ أءذا متنا وكنا ترابا وعظاما أءنا لمدينون ﴾ إنا لمجازون ؟ لا يكون ذلك. إنكارا منه للبعث ﴿ قال هل أنتم مطلعون ﴾ يعني : مطلعون معي في النار لنشرف على حاله ﴿ فاطلع فرءاه في سواء الجحيم قال تالله إن كدت لتردين ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين ﴾ [ الصافات : الآيات ٤٨ ٥٧ ].
ومعنى قوله ( حل وعلا ) هنا :﴿ فتنا بعضهم ببعض ﴾ أي : جعلنا بعضهم فتنة لبعض، كما جعل الله فقراء المسلمين الضعفاء، الذين ليس لهم مال ولا جاه في ذلك الوقت، كبلال، وعمار، وصهيب، وما جرى مجرى ذلك من الفقراء، الذين ليسوا أصلا من قريش، ولا مال عندهم، فتن الله بهم أولئك الأغنياء. كأن الله ( جل وعلا ) قال : إنه من حكمته أن يفتنهم بهم ليقولوا هذا القول محتقرين لهؤلاء، ليسوا عارفين بحقيقة الأمر ﴿ فتنا بعضهم ببعض ﴾ لأجل أن يقولوا. أي : أن يقول أولئك الأغنياء محتقرين لأولئك الفقراء إنكارا :﴿ أهؤلاء ﴾ يعنون : أهؤلاء المساكين الفقراء الذين لا يعبأ بهم، ﴿ من الله عليهم ﴾ فأعطاهم المنة العظمى، وهي التوفيق والإيمان لما يرضي الله جل وعلا، والفضل برضا الله ( جل وعلا ) عنهم، إنكارا لهم أن الله يمن على الضعفاء في زعمهم أنهم أحق بذلك منهم، وأن الذي هم عليه لو كان حقا لكان أولئك الأغنياء سابقين إليه. كما قال عنهم :﴿ لو كان خيرا ما سبقونا إليه ﴾ [ الأحقاف : آية ١١ ] وقال الواحد منهم :﴿ ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى ﴾ [ فصلت : آية ٥٠ ] ﴿ ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا ﴾ [ الكهف : آية ٣٦ ] ﴿ لأوتين مالا وولدا ﴾ [ مريم : آية ٧٧ ] هذا كله جهل منهم، يظنون أن الله ما أعطاهم الغنى والجاه في الدنيا إلا لأنهم يستحقون ذلك، وأن لهم مكانة عند الله وشرفا استحقوا به ذلك، والله ( جل وعلا ) كذبهم مرارا في هذه المقالة الكاذبة، قال :﴿ وما أموالكم ولا أولادكم ﴾ يعني : التي تفتخرون بها في الدنيا وتقيسون عليها الآخرة ﴿ بالتي تقربكم عندنا زلفى ﴾ [ سبأ : آية ٣٧ ] وقال :﴿ أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون ﴾ [ المؤمنون : الآيتان ٥٥ ٥٦ ] وبين أن ذلك استدراج من الله، كما قال :﴿ سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين ﴾ [ الأعراف : الآيتان ١٨٢ ١٨٣ ] ﴿ ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين ﴾ [ آل عمران : آية ١٧٨ ] ولذا قال هنا :﴿ ليقولوا ﴾ محتقرين ضعفاء المسلمين ﴿ أهؤلاء ﴾ الضعفاء الذين لا مكانة لهم، ولا مال، ولا جاه ﴿ من الله عليهم ﴾ أي : أعطاهم المنة العظمى برضاه، ودينه، وهداه ﴿ من بيننا ﴾ أي : لم يعطنا نحن ذلك ؟ كما قال قوم صالح عنه :﴿ أبشرا منا واحد نتبعه ﴾ [ القمر : آية ٢٤ ] إلى أن قالوا :﴿ أءلقي الذكر عليه من بيننا ﴾ [ القمر : آية ٢٥ ] أجاءه الوحي من الله من بيننا، ولم يكن أفضلنا ولا أغنانا ؟ هذا لا يمكن أبدا ! ! كما قال كفار مكة :﴿ وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ﴾ [ الزخرف : آية ٣١ ] صاحب مال وجاه ؛ لأن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يكن عنده الغنى، وقد رد الله عليهم بقوله :﴿ أهم يقسمون رحمت ربك ﴾ [ الزخرف : آية ٣٢ ] لا وكلا ؛ ولذا قال هنا :﴿ ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا ﴾ واللام هنا ( لام كي )، وهي للتعليل، والله يبتلي الخلق ليقع منهم ما يشاء الله من خير وشر، وله في ذلك حكمة، وبين أنه يبتلي لينجح بعض الناس في ذلك الامتحان، ويسقط بعضهم في ذلك الامتحان، أوضح ذلك في سورة المدثر، حيث قال ( جل وعلا ) – لأنه لما جاء في القرآن أن خزنة جهنم تسعة عشر ملكا، كان هذا فتنة للكفار، حيث قالوا : كيف ونحن الآلاف المؤلفة يقهرنا تسعة عشر شخصا ؟ فقال لهم واحد منهم كان قويا : أنا أكفيكم منهم كذا وكذا – قدر سبعة عشرة – وأنتم تقتلون الباقي فنحتل الجنة، وندخلها قهرا ! ! ولذا قال الله :﴿ عليها تسعة عشر ﴾ ثم قال :﴿ وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ﴾ ثم بين نتيجة هذه الفتنة، وهذا الاختبار، وصرح بأن قوما ناجحون فيه، وقوما بعكس ذلك. قال :{ ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين ءامنوا إيما
وإذا جاءك الذين يؤمنون بئاياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم } [ الأنعام : آية ٥٤ ].
﴿ وإذا جاءك الذين يؤمنون بئاياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة ﴾ في هذين الحرفين ثلاث قراءات سبعيات : قرأه ابن عامر وعاصم :﴿ أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم ﴾ بفتح همزة الحرفين، ووافقهما نافع في فتح الحرف الأول، وخالفهما فكسر الثاني، فقراءة نافع :﴿ أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ﴾ وقرأ :﴿ فإنه غفور رحيم ﴾ فتحصل من هذا : أن ابن عامر وعاصما يفتحون الهمزة من ( أن ) في الحرفين، وأن نافعا يفتحها في الأولى ويكسرها في الثانية، وباقي السبعة يكسرها في الحرفين ﴿ كتب ربكم على نفسه الرحمة إنه من عمل منكم ﴾ ثم يقرؤون :﴿ فإنه غفور رحيم ﴾ وكسر الحرفين قراءة بقية السبعة، وهم : ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وشعبة عن عاصم، هؤلاء كسروا الحرفين، وابن عامر وعاصم فتحوهما برواية أبي بكر شعبة وحفص معا، ليس عن عاصم إلا الفتح فيهما، ونافع فتح الأول وكسر الثاني، والباقي منهم – وهم : أبو عمرو، وابن كثير، والكسائي، وحمزة – كسروا في الحرفين.
هذه هي قراءة السبعة في هذين الحرفين.
ومعنى الآية الكريمة ﴿ وإذا جاءك الذين يؤمنون بئاياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة ﴾ جمهور المفسرين على أن المراد ب ﴿ الذين يؤمنون بئاياتنا ﴾ هم الفقراء، فقراء المؤمنين الذين طلب الكفار طردهم وإبعادهم وقت مجالستهم للنبي صلى الله عليه وسلم، فجمع الله لهم بين ثلاثة أشياء تدل على عظم مكانتهم، وعظم منزلتهم عند الله ( جل وعلا )، وإن احتقرهم الكفرة الفجرة :
الأول : هو نهيه صلى الله عليه وسلم عن أن يطردهم.
وشهادة الله لهم بالإخلاص والعبادة حيث قال :﴿ يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ﴾.
ونهى النبي عن طردهم :﴿ ولا تطرد الذين يدعون ﴾ ثم في سورة الكهف أمره بالصبر معهم، وأن لا يقوم حتى يقوموا ﴿ واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي ﴾ ونهاه أن يطيع الكفرة فيهم ﴿ ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا ﴾ [ الكهف : آية ٢٨ ] ثم هنا أمره إذا جاؤوا أن يتلقاهم، ويسلم عليهم، ويخبرهم بسعة رحمة الله ( جل وعلا ) ؛ لتطمئن قلوبهم، ويسروا بذلك. وعلى هذا فالمعنى :﴿ وإذا جاءك الذين يؤمنون بئاياتنا ﴾ أي : وهم ﴿ الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ﴾ إذا جاؤوك ﴿ فقل سلام عليكم ﴾ فابتدرهم وسلم عليهم.
وقوله :﴿ سلام عليكم ﴾ فيه ثلاثة أوجه :
أشهرها : أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بأن يسلم عليهم مبتدئا إياهم بالسلام.
القول الثاني :﴿ فقل سلام عليكم ﴾ أي من ربكم. وعلى هذا التفسير فالله يقرئهم السلام على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم لما احتقرهم أعداء الله.
الوجه الثالث : أن السلام من النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه رد لسلامهم عليه، وهذا لم يقم ما يدل عليه، فأشهرها : أن النبي أمر بالتسليم عليهم.
ومعنى ﴿ سلام عليكم ﴾ ﴿ سلام ﴾ هنا مبتدأ، و﴿ عليكم ﴾ خبره، وإنما سوغ الابتداء به وهو نكرة : أنه مشم رائحة الدعاء، وقد تقرر في فن العربية : أن النكرة إن كان فيها معنى الدعاء بخير، نحو :( سلام )، أو بشر، نحو :( ويل لهم )، أنها يجوز الابتداء بها.
و ﴿ سلام عليكم ﴾ معناه : سلمكم الله من الآفات والمحذور.
وهذه تحية الإسلام، هي أكمل تحية وأفضلها ؛ لأن معنى ( السلام عليكم ) : سلمكم الله ( جل وعلا ) من الآفات ومما يؤذيكم. وهي أحسن من تحية الجاهلية الذين كانوا يقولون :( حياك الله ) ف ( السلام عليكم ) أفضل من ( حياك الله )، وإنما كانت أفضل منها لأن معنى ( السلام عليكم ) : سلمكم الله من كل ما يؤذي ومن جميع الآفات. ومعنى ( حياك الله ) لا تزيد ( حياك الله ) على معنى أطال الله حياتك ؛ وهذا الدعاء لا يستلزم الفائدة ؛ لأنه كم من إنسان تكون حياته ويلا عليه، ويكون يتمنى الموت. وما كل حياة مرغوبة ولا مرغوب فيها، بل رب حياة الموت خير منها، وهذا معروف في كلام العرب، وقد سمعتم بعض الناس من المتأخرين، وإن كان مثله يذكر للمثال لا للاستدلال يقول :
ألا موت يباع فأشتريه *** فهذا العيش ما لا خير فيه
ألا رحم المهيمن نفس حر *** تصدق بالوفاة على أخيه
***
فهذا الذي يطلب من يتصدق عليه بالموت لا يرغب في [ الحياة ] ( في الأصل :( الموت ) وهو سبق لسان ) فلو قلت له : " حياك الله " لقال لك – البعيد : " لا حياني الله " ! ! لأنه يرغب في الموت، بخلاف ( السلام عليكم ) فليس هذا معناه، ومن هذا المعنى قول الأعشى أو غيره في الأبيات التي اختلف في قائلها :
المرء يرغب في الحيا *** ة وطول عيش قد يضره
تفنى بشاشته ويب *** قى بعد حلو العيش مره
وتسوؤه الأيام حت *** ى ما يرى شيئا يسره
فمن كان بهذه المثابة لا خير له في الحياة.
وقوله في هذه الآية :﴿ كتب ر بكم على نفسه الرحمة ﴾ ليس يمكن لأحد أن يلزم الله شيئا، ولكن الله يلزم نفسه ما شاء، ومعنى إلزامه : أن يخبر به، ووعده ( جل وعلا ) صادق لا يتخلف، فما وعد الله به فهو واجب الوقوع لازمه محتوم ؛ لأن الله لا يخلف الميعاد، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ما يدل على أن الله ( جل وعلا ) : كتب في كتاب فهو عنده فوق عرشه : " إن رحمتي غلبت غضبي "، وسيأتي في قوله جل وعلا :﴿ ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ﴾ [ الأعراف : آية ١٥٦ ] فرحمة الله ( جل وعلا ) وسعت كل شيء، ولا يهلك على الله إلا هالك. ألا ترون ما يدل على نظائر كثيرة من هذا في القرآن ؟ تعلمون أنه لا أحد أشنع قولا من الذين قالوا : إن الله ثالث ثلاثة، ومع هذه الفرية العظمى، والوقوع في جناب الله ( جل وعلا ) بهذا الأمر الهائل العظيم، فالله مع هذا يستعطفهم ويتلطف بهم للتوبة ﴿ أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم ﴾ [ المائدة : آية ٧٤ ] ويأمر نبيه أن يخاطب الكفرة الفجرة ﴿ قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف ﴾ [ الأنفال : آية ٣٨ ] ومن أصرح ذلك :﴿ قل يا عبادي الذين أسرفوا ﴾ هذا خطاب موجه بخصوص المسرفين على أنفسهم دون غيرهم، يقول لهم الله :﴿ لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا ﴾ [ الزمر : آية ٥٣ ] فأمر النبي صلى الله عليه وسلم من خالق السماوات والأرض أن يوجه هذا الخطاب العظيم لخصوص المسرفين يدل على سعة رحمة الله جل وعلا ﴿ قل يا عبادي الذين أسرفوا ﴾ لم يقل : " الذين آمنوا "، ولا " الذين أخلصوا ". خص به المسرفين على أنفسهم ﴿ لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا ﴾ الآية ؛ ولذا قال :﴿ كتب على نفسه الرحمة ﴾ [ الأنعام : آية ٥٤ ] على قراءة من قرأ :﴿ أنه ﴾ بفتح ( أنه ) هنا، وهي في هذا الحرف قراءة ابن عامر، وعاصم، ونافع. فالمصدر المنسبك من ( أن ) وصلتها يعرب بدلا من الرحمة. والمعنى : كتب ربكم على نفسه الرحمة. معنى هذه الرحمة : هي غفرانه لمن عمل منكم سوءا. فقوله :﴿ أنه من عمل منكم سوءا ﴾ مفسر لتلك الرحمة مبين لها، فهو بدل منها، وعلى قراءة من قرأ :﴿ إنه من عمل منكم سوءا ﴾ فهو على الاستئناف، قطع مما قبله، وكان مستأنفا، و ( إن ) إذا كانت في ابتداء الجمل الاستئنافية كسرت. والضمير في ( إنه ) ضمير الشأن.
وقوله :﴿ من عمل منكم سوءا بجهالة ﴾ قال بعض العلماء :﴿ من عمل ﴾ هنا شرطية، وجوابها مقترن بالفاء. وقال بعضهم : هي موصولة، والمبتدأ إذا كان موصولا اقترن خبره بالفاء، كما قدمناه مرارا.
وقوله :﴿ من عمل منكم سوءا ﴾ السوء : هو كل ما يسوء صاحبه إذا رآه في صحيفته.
والأعمال قد دل الكتاب والسنة على أنها أربعة أنواع، كلها إذا عملها الإنسان على غير الوجه المشروع كان عاملا سوءا، والله ( جل وعلا ) يقول :﴿ يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ﴾ [ آل عمران : آية ٣٠ ] أي : لكراهتها إياه.
العمل على أربعة أنواع، هي التي إذا عملها الإنسان على غير الوجه المشروع كان عمله عمل سوء :
منها : فعله – المعروف – الزنى والسرقة.
الثاني : فعل اللسان، فهو عمل، والدليل على أن قول اللسان من الأفعال : أن الله صرح أن قول اللسان من الأفعال في سورة [ الأنعام ] ( في الأصل :( الأعراف ) وهو سبق لسان. )، في قوله جل وعلا :﴿ زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه ﴾ [ الأنعام : آية ١١٢ ] فأطلق على زخرف القول اسم ( الفعل )، فدل على أن قول اللسان فعل. هذان قسمان : الفعل – المعروف – بأحد الجوارح، وفعل اللسان.
الثالث : العزم المصمم ؛ لأن عزم الإنسان المصمم دلت السنة الصحيحة على أنه من الأفعال السيئة التي تدخل صاحبها النار، والدليل على ذلك : ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي بكرة ( رضي الله عنه ) : " إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار " قالوا : يا نبي الله قد عرفنا القاتل، فما بال المقتول ؟ قال : " إنه كان حريصا على قتل صاحبه ". فقولهم : ما بال المقتول ؟ سؤال من الصحابة واستفهام عن إبراز السبب الذي دخل به المقتول النار، فبين النبي صلى الله عليه وسلم جوابا مطابقا للسؤال أن حرصه وعزمه المصمم على قتل أخيه هو السبب الذي أدخله النار. أما الهم الذي لم يكن عزما مصمما، فليس من الأفعال، كما قال جل وعلا :﴿ إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا ﴾ [ آل عمران : آية ١٢٢ ] وإتباعه لذلك بقوله :﴿ والله وليهما ﴾ دل على أنه هم لم يستقر، ولم يكن عزما مصمما حتى يعد من الأفعال، ومن ذلك الهم الذي ليس من العزم المصمم الذي هو من الأفعال ما في الحديث : " وإذا هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة " / وإنما كتبت له حسنة ؛ لأنه تركها لوجه الله ( جل وعلا )، فكان تركه إياها امتثالا لأمر الله، وكانت بذلك حسنة، كما قال تعالى :﴿ وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى ﴾ [ النازعات : الآيتان ٤٠ ٤١ ].
الرابع هو الترك، والترك من الأفعال الحقيقية، فهو فعل على التحقيق، وإن خالف فيه من خالف، فمن ترك الصلاة حتى ضاع وقتها فقد عمل بهذا الترك سيئا يدخل به النار، وكان ابن السبكي في بعض تآليفه في الأصول يقول : طالعت كتاب الله لأجد فيه آية تدل على أن الترك فعل فما وجدت فيه شيئا يدل على أن الترك فعل إلا شيئا يفهم من آية في سورة الفرقان هي قوله :﴿ وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرءان مهجورا ﴾ [ الفرقان : آية ٣٠ ] قال : الاتخاذ أصله من الأخذ، والأخذ : التناول. فقال : تناولوه مهجورا. فدل على أن الهجر فعل.
ونحن نقول : إنا باتباع كتاب الله وجدنا آيات صريحة من كتاب الله تدل بصراحة لا شك فيها على أن الترك من الأفعال، منها : آيتان في سورة [ المائدة ] ( في الأصل :( الأنعام ) وهو سبق لسان )، ذكرناهما فيما مضى، إحداهما قوله تعالى :﴿ لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون ﴾ [ المائدة : آية ٦٣ ] فسمى عدم نهيهم وتركهم للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سماه :( صنعا )، والصنع أخص من مطلق الفعل، ومنه قوله تعالى في المائدة أيضا :﴿ كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه ﴾
﴿ وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين ﴾ [ الأنعام : آية ٥٥ ] في هذا الحرف ثلاث قراءات سبعيات : قرأه من القراء نافع وحده :﴿ ولتستبين سبيل المجرمين ﴾ بالتاء في ﴿ ولتستبين ﴾ ونصب ( سبيل المجرمين )، وعلى هذه القراءة ف ﴿ ولتستبين ﴾ تاؤه تاء خطاب والفاعل محذوف لزوما، تقديره : أنت. وعليه فالمعنى : ولتستبين أنت يا نبي الله سبيل المجرمين.
وقرأه حمزة، والكسائي، وشعبة عن عاصم :﴿ وليستبين سبيل المجرمين ﴾ بالياء وضم ( السبيل )، على أن ( السبيل ) مذكر ﴿ وليستبين سبيل المجرمين ﴾ و( السبيل ) يذكر ويؤنث، وتذكيره لغة التميميين وغيرهم من أهل نجد. وعلى لغة التذكير قراءة حمزة، والكسائي، وشعبة عن عاصم في قوله هنا :﴿ وليستبين سبيل المجرمين ﴾ أي : يظهر ويتضح طريق المجرمين. ومن تذكير ( السبيل ) قوله في الأعراف :﴿ وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ﴾ [ الأعراف : آية ١٤٦ ] بتذكير ( السبيل ).
وقرأ باقي السبعة، وهم : ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وحفص عن عاصم، قرأ هؤلاء :﴿ ولتستبين سبيل المجرمين ﴾ بالتاء في ( تستبين ) ورفع ( السبيل )، على أن ﴿ سبيل المجرمين ﴾ فاعل ( تستبين ) وأن ( السبيل ) مؤنثة، وتأنيث ( السبيل ) كهذه القراءة كقوله في سورة يوسف :﴿ قل هذه سبيلي ﴾ [ يوسف : آية ١٠٨ ] ولم يقل : هذا سبيلي.
فتحصل أن قراءة التاء ﴿ ولتستبين ﴾ رفع بعدها – غير نافع – ( السبيل ) فقالوا :﴿ ولتستبين سبيل المجرمين ﴾ أي : لتظهر وتتضح طريق المجرمين. والتاء في قراءة هؤلاء : هي تاء المؤنثة، كما تقول : " تستبين هند وتقوم فلانة ". و " تستبين السبيل " على أنها مؤنثة.
أما على قراءة نافع : فالتاء في ( تستبين ) تاء خطاب ليست تاء تأنيث، والفاعل غير ( السبيل )، مضمر، أي : ولتستبين أنت يا نبي الله سبيل المجرمين.
و ( استبان ) تأتي لازمة ومتعدية، ( استبان ) و ( أبان ) و ( تبين ) هذه الأفعال الثلاثة من المزيد من ( أبان ) تأتي في لغة العرب لازمة ومتعدية، أما ( استبان ) فقد جاءت لازمة على قراءة الجمهور، من قرؤوا :﴿ وليستبين سبيل المجرمين ﴾ ومن قرؤوا ﴿ ولتستبين سبيل المجرمين ﴾ على قراءتهم كلهم ف ( تستبين ) هنا لازمة، و ( سبيل المجرمين ) فاعل، ولا مفعول للفعل، أما على قراءة نافع : ففعل الاستبانة هنا متعد إلى المفعول ؛ لأن المعنى : ولتستبين أنت سبيل المجرمين، أي : تتبينها وتعرفها. فهاتان القراءتان فيهما مثال للزوم ( استبان ) ولتعديها.
ونحو ( استبان ) :( أبان ) و ( بين ) فالعرب أيضا تستعمل ( أبان ) لازمة، تقول : " أبان هذا الأمر واتضح ". بمعنى : ظهر. وتستعملها متعدية للمفعول، تقول : " أبان زيد كلامه، وأبان الله الأمر الفلاني ". كما هو معروف، ومن إتيان ( أبان ) لازمة : يكثر في القرآن اسم فاعلها ﴿ كتاب مبين ﴾ [ المائدة : آية ١٥ ] و ( الكتاب المبين ) هو من ( أبان ) اللازمة. ومن إتيان فاعل ( أبان ) اللازمة : قول كعب بن زهير في بانت سعاد :
قنواء في حرتيها للبصير بها*** عتق مبين وفي الخدين تسهيل
( مبين ) : اسم فاعل ( أبان ) اللازمة، بمعنى : بين ظاهر. ومن إتيان ( أبان ) لازمة : قول عمر بن أبي ربيعة المخزومي :
لو دب ذر فوق ضاحي جلدها لأبان من آثارهن حدور
يعني : لظهر من آثار النمل حدور، أي : ورم. و ( أبان ) لازمة، وفاعلها : الحدور، ولا مفعول لها، ومنه قول جرير :
إذا أباؤنا وأبوك عدوا أبان المقرفات من العراب
أي : ظهر وتبين المقرفات من العراب، وكذلك ( بين ) تأتي لازمة في كلام العرب، ومنه المثل :( قد بين الصبح لذي عينين ) معناه : بين الصبح، أي : بان وظهر وتبين. ومنه بهذا المعنى قول قيس بن ذريح في رواية الجمهور :
وللحب آيات تبين بالفتى*** شحوب وتعرى من يديه الأصابع
فرواية الجمهور، فيمن روى بيت ابن ذريح هذا يرويه :( شحوب ) بالضم، والمعنى : وللحب آيات تبين بالفتى، أي : تظهر وتلوح بالفتى. ما هذه الآيات ؟ شحوب وتعرى من يديه الأصابع. وروى بيت ابن ذريح هذا ثعلب، رواه ثعلب :
وللحب آيات تبين بالفتى*** شحوبا.............................
بالنصب وعلى هذه الرواية فلا شاهد في البيت. ومن إتيان ( بين ) لازمة قول جرير :
رأى الناس البصيرة فاستقاموا*** وبينت المراض من الصحاح
يعني : ظهرت وتبينت. وقوله يهجو الفرزدق :
وجوه مجاشع طليت بلؤم يبين في المقلد والعذار
ومعنى الآية الكريمة :﴿ وكذلك نفصل الآيات ﴾ وكذلك التفصيل الذي فصلنا لك فيه آيات هذه السورة الكريمة مما كنا نفصل، كذلك التفصيل والبيان الواضح نفصل آيات القرآن في كل ما يحتاج إليه الخلق من أمور دينهم وفي كل إبطال المقالات الباطلة التي يأتي بها الخصوم ﴿ ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا ﴾ [ الفرقان : آية ٣٣ ].
وقوله :﴿ ولتستبين ﴾ – على قراءة الجمهور من ( استبان ) اللازمة – معناه : ولتظهر طريق المجرمين. و ( المجرمون ) جمع ( المجرم )، و ( المجرم ) : اسم فاعل ( الإجرام )، و ( الإجرام ) : ارتكاب الجريمة، و ( الجريمة ) : الذنب العظيم الذي يستحق صاحبه النكال، تستعمل مادته رباعية وثلاثية، تقول : " أجرم "، كقوله :﴿ إن الذين أجرموا ﴾ [ المطففين : آية ٢٩ ] وتقول : " جرم الذنب، فهو جارم "، ففاعل الثلاثية :( جارم ) على القياس، وفاعل الرباعية ( مجرم ) على القياس، ومن إطلاقه ثلاثيا قول الشاعر :
وننصر مولانا ونعلم أنه كما الناس مجرم عليه وجارم
لأن ( المجروم ) و ( الجارم ) اسم مفعول، واسم فاعل لجرم الثلاثية إذا ارتكب الجريمة.
وقوله هنا :﴿ ولتستبين سبيل المجرمين ﴾ أي : ولتظهر طريق المجرمين، وعلى قراءة نافع :﴿ ولتستبين سبيل المجرمين ﴾ لتستبين يا نبي الله طريق المجرمين وتتبينها وتعلمها. والنبي وإن كان عالما بسبيل المجرمين فإنه يشرع على لسانه لأمته، فيخاطب ليشرع على لسانه لأمته كما بينا.
وفي هذه الآية الكريمة سؤالان معروفان :
أحدهما : في الواو، واو ﴿ ولتستبين سبيل المجرمين ﴾ علام عطف، وبم يتعلق ؟
الثاني : لم خص سبيل المجرمين، ولم يذكر سبيل المؤمنين ؟
الجواب عن الأول : أن الواو في قوله :﴿ ولتستبين سبيل المجرمين ﴾ تتعلق بمحذوف، واختلفوا في تقديره، قال بعضهم : هو مقدر بعدها وتقرير المعنى : ولأجل أن تستبين سبيل المجرمين فصلنا لك هذا التفصيل. أي : ولأجل استبانتها فصلنا. وقال بعض العلماء : هو معطوف على علة محذوفة، فدل المقام عليه : وكذلك نفصل الآيات لنبين لكم، ولتستبين سبيل المجرمين.
أما الجواب على السؤال الثاني : وهو لم خص سبيل المجرمين ؟ فللعلماء عنه جوابان :
أحدهما : أن سبيل المجرمين إذا عرفت عرفت منها سبيل المسلمين ؛ لأن الأشياء تعرف بأضدادها، وإذا عرف الإنسان الشر عرف أن مقابله هو الخير، وكان حذيفة بن اليمان ( رضي الله عنه ) – كما ثبت عنه في الصحيحين – يسأل عن الشر ليعرفه، ومعرفة الشر على هذا طيبة يعلمها الناس ليتجانبوها ويعلموا أن ما سواها هو الخير، كما ثبت في الصحيحين عن حذيفة ( رضي الله عنه ) : كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني.
قال بعض العلماء : في الآية هنا حذف الواو وما عطفت، أي : لتستبين سبيل المجرمين وسبيل المؤمنين. قالوا : ومنه ﴿ سرابيل تقيكم الحر ﴾ [ النحل : آية ٨١ ] أي : والبرد ﴿ وله ما سكن في الليل ﴾ [ الأنعام : آية ١٣ ] أي :[ وما تحرك ] ( في الأصل : " والنهار ". وهذا سبق لسان أو وهم من الشيخ – رحمه الله – لأن النهار مذكور في الآية. وإنما الذي يذكره العلماء عند هذه الآية هو ما أثبته أعلى، والله أعلم )، وحذف الواو وما عطفت إن دل المقام عليه معروف في كلام العرب، وإليه أشار ابن مالك في الخلاصة بقوله :
والفاء قد تحذف مع ما عطفت والواو إذ لا لبس........
يعني : وكذلك الواو تحذف مع ما عطفت كالفاء إن لم يكن هنالك لبس.
يقول الله جل وعلا :﴿ قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله قل لا أتبع أهواءكم قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين ﴾ [ الأنعام : آية ٥٦ ].
كان الكفار يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم : اعبد معنا آلهتنا مرة، ونعبد معك إلهك مرة أخرى ! ! فأمر الله نبيه أن يقول لهم : إنه لا يعبد ما يدعون من دون الله، قل لهم يا نبي الله :﴿ إني نهيت ﴾ أي : نهاني ربي ﴿ أن أعبد الذين تدعون من دون الله ﴾ والمعنى : نهاني أن أعبد الأصنام التي تعبدون من دون الله، والمصدر المنسبك من ( أن ) وصلتها في قوله :﴿ أن أعبد الذين تدعون من دون الله ﴾ مجرور بحرف محذوف ؛ لأن ( نهى ) تتعدى ب ( عن ) تقول : " نهاني ربي عن كذا ". كما تقدم في قوله :﴿ وهم ينهون عنه ﴾ [ الأنعام : آية ٢٦ ] لأن ( نهى ) تتعدى ب( عن )، والمصدر المنسبك من ( أن ) وصلتها يطرد جره بحرف الجر المحذوف، كما هو معروف، وتقرير المعنى : نهاني ربي عن أن أعبد الذين. وسبك المصدر : نهاني ربي عن عبادة الذين تدعون من دون الله، وهذا نهي عظيم، ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعبد شيئا من دون الله ؛ إلا أن الله يأمره وينهاه ليشرع على لسانه لأمته.
إذا عرفتم أن المصدر المنسبك من ( أن ) وصلتها في قوله :﴿ أن أعبد الذين ﴾ مجرور ب ( عن ) محذوفة، فاعلموا أن علماء العربية مختلفون في المصدر المنسبك من ( أن ) وصلتها المجرور بحرف محذوف، هل محله الجر أو محله النصب ؟ وفائدة هذا الخلاف تظهر فيما لو عطفت عليه اسما خالصا، فعلى أن محله النصب ينصب المعطوف بعده، وعلى أن محله الخفض يخفض المعطوف عليه، وكبراء النحويين – منهم الخليل والكسائي فمن حاذاهم – يقولون : إن محله النصب، وخالفهم في هذا الأخفش الصغير – علي بن سليمان النحوي المشهور – قال : محله الخفض ؛ لأنه مخفوض بالحرف المحذوف. قال : والدليل على ذلك أنا وجدنا في كلام العرب الفصحاء خفض المعطوف عليه، كقول الشاعر :
وما زرت ليلى أن تكون حبيبة إلي ولا دين بها أنا طالبه
فالرواية : " ولا دين " بالخفض وهو معطوف على مصدر منسبك من ( أن ) وصلتها، مجرور بحرف محذوف، وهو : " أن تكون " في قوله : " وما زرت ليلى أن تكون حبيبة " أي : لكونها حبيبة، ولا لدين. وقد أجاز سيبويه الوجهين، واحتج جماهير النحويين عن هذا البيت – الذي أنشده الأخفش مدعيا به أن المصدر المنسبك من " أن " وصلتها المجرور بحرف محذوف، أن محله الخفض – أجابوا عن ذلك : بأن محله النصب، وأن خفض " ولا دين " – بالجر – أنه من نوع العطف المعروف بعطف التوهم، وعطف التوهم معروف عند النحويين، وهو أن تكون الكلمة منصوبة أو مرفوعة، إلا أنها يجوز فيها أن تجر فيتوهمون أنها مجرورة، يتوهمون الوقوع من مطلق الجواز، ويعطفون عليها بالجر، ومنه قول زهير وهو عربي قح جاهلي :
بدا لي أني لست مدرك ما مضى***ولا سابق شيئا إذا كان جائيا
فإن الرواية بنصب ( مدرك )، وخفض ( سابق ) ؛ لأن " لست مدرك ما مضى " يجوز جره بالباء، فتوهموا أنها مجرورة من جواز دخول الباء عليها، فعطف عليها بالجر، ونظيره قول الآخر :
مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة ولا ناعب إلا ببين غرابها
فعطف ( ناعب ) بالجر على ( مصلحين ) وهو منصوب لتوهم دخول الباء.
وقوله جل وعلا :﴿ نهيت أن أعبد الذين ﴾ أي : نهاني ربي عن عبادة الأوثان، والأصنام، والمعبودات التي تعبدونها من دون الله ؛ لأن الله يقول لنبيه في هذا المنوال :﴿ ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين بل الله ﴾ أي بل الله وحده ﴿ فاعبد وكن من الشاكرين ﴾ [ الزمر : الآيتان ٦٥، ٦٦ ]. هذا معنى قوله :﴿ إني نهيت أن أعبد الذين تدعون ﴾ أي : تعبدون من دون الله ( جل وعلا ) من جميع أنواع العبادات، قل لهم يا نبي الله :﴿ لا أتبع أهواءكم ﴾ الأهواء : جمع ( هوى )، بفتحتين، و ( الهوى ) : ميل النفس، وأكثر ما يطلق في الشرع : إلى ميلها إلى ما [ لا ] ( زيادة يقتضيها السياق ) ينبغي. و ( الهوى ) : هو ميل النفس إلى ما لا ينبغي هنا. ف ﴿ أهواءكم ﴾ يعني : مهوياتكم التي تميل إليها نفوسكم باتباع الهوى والباطل، كما قال :﴿ أفرءيت من اتخذ إلهه هواه ﴾ [ الجاثية : آية ٢٣ ] وهمزة ( الأهواء ) مبدلة من ( ياء )، على القياس المعروف : أن كل واو أو ياء تطرفت بعد ألف زائدة وجب إبدالها همزة. وأصل الهوى :( هوي ) بفتحتين. والمادة مما يسميه علماء الصرف : اللفيف المقرون. عينها واو، ولا مها ياء، قلبت الياء في محل اللام ألفا، فقيل لها : " هوى " وأبدلت عند التكسير همزة، كما هو معروف في فن الصرف، والمعنى : لا أتبع أهواءكم الباطلة في عبادة الأصنام والإشراك بالله ( جل وعلا ) ؛ لأني لا أتبع الهوى، ولا أتبع إلا الحق، كما يأتي في كونه على بينة من ربه. وهذا من جملة ما أمره ربه أن يقول.
﴿ قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين ﴾ قرىء بإدغام الدال في الضاد ﴿ قد ضللت إذا ﴾ وقرأه بعض السبعة بالإظهار ﴿ قد ضللت إذا ﴾. ﴿ إذا ﴾ معناه : إن اتبعت أهواءكم فقد ضللت ولم أكن من المهتدين. والمعنى : لا أضل، ولا أخرج عن طريق الهدى، ولا أتبع أهواءكم أبدا.
وهذه الآية تدل على أن من اتبع هواه بغير علم ولا دليل أنه ضال، وأنه ليس من المهتدين.
***
﴿ قل إني على بينة من ربي وكذبتم به ما عندي ما تستعجلون به إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين ﴾ [ الأنعام : آية ٥٧ ].
﴿ قل إني على بينة من ربي ﴾ لما أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول للكفار : إنه لا يعبد معبوداتهم، ولا يتبع أهواءهم، وأنه لو فعل ذلك كان ضالا غير مهتد، أمره أن يقول لهم : إنه على بينة من أمره ﴿ قل إني على بينة ﴾ البينة : هي البيان والدليل القاطع، الذي لا يترك في الحق لبسا. وأصله صفة مشبهة من ( بان يبين )، إذا ظهر، فهو ( بين ). وإنما أنثت ( البينة ) لأنها كأنها تضمن معنى الحجة الواضحة التي يعضدها الدليل القاطع، الذي لا يترك في الحق لبسا ﴿ على بينة ﴾ أي : بيان، وبرهان، وعلم، ويقين من ربي، وليس لي في الحق شك معه، وهذا معروف في كلام العرب، كل أمر واضح لا يترك في الحق لبسا يسمونه :( بينة ) ؛ ولأجل هذا أطلقت ( البينات ) على معجزات الرسل ﴿ جاءتهم رسلهم بالبينات ﴾ [ الأعراف : آية ١٠١ ] أي : بالمعجزات ؛ لأنها لا تترك في الحق لبسا. وهذا معروف في كلام العرب، ومنه قول الشاعر :
أبينة تبغون بعد اعترافه *** وقول سويد : قد كفيتكم بشرا
يعني : هذا أمر واضح في البيان، لا يحتاج معه إلى ما يبين الحقيقة.
وقوله :﴿ وكذبتم به ﴾ ذكر الضمير مع أن ( البينة ) مؤنثة لفظا نظرا إلى المعنى ؛ لأن ( البينة ) معناها البيان والبرهان واليقين ﴿ وكذبتم به ﴾ أي : ذلك البرهان واليقين الذي أنا عليه، المعبر عنه بالبينة، وهذا هو الظاهر، خلافا لمن قال : إن الضمير عائد إلى الله، أي : كذبتم بالله ( جل وعلا ) أنه المعبود وحده جل وعلا.
﴿ ما عندي ما تستعجلون به ﴾ كان الكفار يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم : هذا الذي تهددنا به من عذاب الله، إن كنت صادقا، إن كنت نبيا فعجله علينا الآن. كما بين الله ذلك عنهم في آيات من كتابه، كقوله :﴿ وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب ﴾ [ ص : آية ١٦ ] والقط في لغة العرب : أصله كتاب الجائزة الذي يكتبه الملك. فالملك إذا أراد أن يجيز الوفود كتب لكل رئيس جائزة معينة في صك، وذلك الصك يسمى :( القط ). وعليه فقولهم :﴿ عجل لنا قطنا ﴾ معناه : عجل لنا نصيبنا من ملك السماوات والأرض الذي تقول إنه نصيبنا منه، وهو العذاب في الدنيا والآخرة، كما قال الشاعر، وهو نابغة ذبيان :
ولا الملك النعمان حين لقيته*** على ملكه يعطي القطوط ويأفق
ومعنى ( يأفق ) أي : يفضل في العطاء بعضهم على بعض ﴿ وإذا قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ﴾ [ الأنفال : آية ٣٢ ] ﴿ ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحبسه ﴾ [ هود : آية ٨ ] أي شيء يحبس العذاب ويؤخره، ولم لا تعجله ؟ والله يقول :﴿ يستعجلونك بالعذاب ﴾ [ العنكبوت : آية ٤٥ ] ﴿ يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها ﴾ [ الشورى : آية ١٨ ] ونحو ذلك من الآيات الدالة على استعجالهم العذاب، وقالوا له : إن كنت نبيا حقا فعجل لنا العذاب الذي تهددنا به، فأمره الله أن يقول لهم ﴿ ما عندي ما تستعجلون به ﴾ ( ما ) وهو الاسم المبهم الموصول واقعة على العذاب، والمعنى : ليس بيدي العذاب الذي تطلبون استعجاله عليكم ﴿ عجل لنا قطنا ﴾ [ ص : آية ١٦ ] ليس بيدي، وإنما هو بيد الله.
﴿ إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين ﴾ قرأ هذا الحرف قارىء أهل المدينة، وقارىء أهل مكة – أعني : نافعا، وابن كثير – وقرأ معهما عاصم من الكوفيين، هؤلاء الثلاثة من القراء السبعة – أعني : نافعا، وابن كثير، وعاصما – قرؤوا :﴿ يقص الحق ﴾ بضم القاف، وصاد مهملة مضمومة. وقرأ باقي السبعة – وهم : أبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي قرؤوا :﴿ يقض الحق ﴾ بسكون القاف والضاد المكسورة.
وعلى قراءة الحرميين وعاصم – أعني : نافعا، وابن كثير، وعاصم – فمعنى :﴿ يقص الحق ﴾ أي : يتلو علينا في كتابه الحق الواضح، الذي لا لبس فيه، كما قال تعالى :﴿ نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرءان ﴾ [ يوسف : آية ٣ ] وعلى هذا فإعراب ( الحق ) واضح ؛ لأنها مفعول به ل ( يقص ).
وأما على قراءة البصري والشامي والاثنين من الكوفيين ﴿ يقص الحق ﴾ ففي إعراب ( الحق ) إشكال، وبم نصبت ؟ وفي إعرابه للعلماء ثلاثة أوجه :
أحدهما : أنه نعت لمصدر محذوف، أي : ما ناب عن المطلق. والمعنى : يقضي القضاء الحق، الذي لا جور فيه، ولا حيف.
الثاني : أنه منصوب بنزع الخافض. أي : يقضي بالحق، فحذف حرف الجر فنصب الاسم. ومما يدل على هذا قوله :﴿ والله يقضي بالحق والذين يدعون من دونه لا يقضون بشيء ﴾ [ غافر : آية ٢٠ ].
الوجه الثالث : أن ( يقضي ) معناه : يصنع. أي : يصنع الحق ؛ لأن كل أعماله التي يعملها، من تشريع، وإثابة، وعقاب كله حق واقع موقعه منه ( جل وعلا ). والعرب تطلق ( القضاء ) وتريد ( الصنع ) وهو معنى معروف في كلام العرب، ومنه قول أبي ذؤيب الهذلي :
قضاهما : يعني صنعهما.
وقوله :﴿ إن الحكم إلا لله ﴾ ( إن ) هي النافية، والألف واللام في ( الحكم ) هي للاستغراق، والعبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب ؛ لأن سبب نزول الآية في الحكم الكوني القدري، حيث قالوا له : عجل لنا العذاب، وأنزل علينا الآيات. فأخبرهم الله أن ذلك الحكم الكوني القدري من تعجيل العذاب وإنزال الآيات إنما هو لله وحده، هو الذي بيده ذلك، وعموم الآية يقتضي أن الحكم من حيث هو : هو لله ( جل وعلا ) وحده، كذلك الحكم الشرعي له وحده. ويدل على دخول الحكم الشرعي : أنه قال في الآية :﴿ وهو خير الفاصلين ﴾ لأن ( الفاصلين ) جمع ( الفاصل )، وهو الذي يفصل الخصوم، وينصف بينها، ويحقق الحق بينها. ولا شك أن الحكم من حيث هو حكم سواء كان شرعيا أو قدريا فإنه لله وحده، فالأحكام القدرية له، لا يقع تحريك ولا تسكين، ولا خير ولا شر، ولا شيء كائن ما كان إلا بحكمه ( جل وعلا ) وقدرته ومشيئته. وكذلك الأحكام الشرعية، لا تشريع لأحد، ولا تحليل لأحد إلا له ( جل وعلا ) وحده، فالحلال ما أحله الله، والحرام ما حرمه الله، والدين ما شرعه الله ؛ لأنه من المعلوم أنه لا تشريع إلا للسلطة العليا، والسلطة الحاكمة على السماوات والأرض هي التي لها الأمر والنهي والتشريع. فالتشريع لرب العالمين ﴿ فالحكم لله العلي الكبير ﴾ [ غافر : آية ١٢ ] ﴿ إن الحكم إلا لله ﴾ [ الأنعام : آية ٥٧ ] ﴿ ولا يشرك في حكمه أحدا ﴾ [ الكهف : آية ٢٦ ] فالحاكم هو الله، والتشريع تشريع الله، والنبي صلى الله عليه وسلم مبلغ عن الله شرعه لخلقه، والمشرع هو الخالق جل وعلا.
ويفهم من هذا أن من زين له الشيطان أن يكون مشرعا يحلل ويحرم، ويضع النظم والقوانين ليحكمها في دماء الناس وأموال الناس وأعراضهم وعقولهم : أن هذا متمرد على نظام السماء، يحاول أن يجعل لنفسه خصوصية خالق السماوات والأرض، عتوا وتمردا على الله، فهو كافر، وقد دل القرآن العظيم في آيات كثيرة أن من يتبع نظما وقوانين وضعية شرعها الشيطان على ألسنة أوليائه مدعيا أن تشريع خالق السماوات والأرض لا يصلح لتنظيم العالم، ولا يساير التطور، فمن يرى هذا، ويرى نظام إبليس هو الذي يقوم بمصالح البشر، ونظام خالق السماوات والأرض – الذي خلق هذا الكون وهو أعلم بمصالحه – أنه لا يساير التطور، ولا ينظم علاقات الدنيا على الوجه الذي ينبغي : فهذا لا شك بين أهل العلم في أنه كافر كفرا بواحا مخرجا عن دين الإسلام، والآيات القرآنية الدالة على هذا كثيرة جدا من ذلك ما بيناه مرارا : أن إبليس عليه لعنة الله، لما جاء تلامذته وإخوانه من أهل مكة، وأراد أن يهيىء لهم وحي الشياطين ليجادلوا به النبي صلى الله عليه وسلم، قال لهم : سلوا محمدا عن الشاة تصبح ميتة، من هو الذي قتلها ؟ فلما أخبرهم أن الله هو الذي قتلها، قالوا له من وحي الشيطان : ما ذبحتموه بأيديكم – يعنون المذكاة – تقولون : حلال، وطاهر، وطيب، مستلذ، وما ذبحه الله بيده الكريمة – يعنون الميتة، أن الله قتلها – تقولون : هو حرام، ميتة، مستقذر، فأنتم إذا أحسن من الله ! ! وأنزل الله في وحي الشياطين جوابا لنبيه عنه قوله :﴿ ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ﴾ [ الأنعام : آية ١٢١ ] يعني الميتة، وإن زعم أولياء الشياطين أنها ذبيحة الله، ثم قال :﴿ وإنه لفسق ﴾ أي : وإن أكل الميتة لفسق، وخروج عن طاعة الله، ثم قال – وهو محل شاهد – ﴿ وإن أطعتموهم إنكم لمشركون ﴾ وإن أطعتموهم في تحليل الميتة إنكم لمشركون.
اعلم أن تحليل الميتة وتحريمها ليس عقيدة من العقائد، ولا أصلا من الأصول، وإنما هو فرع من الفروع. مضغة لحم شرع الله على لسان نبيه تحريمها ؛ لأنها ماتت ولم يذكر عليها اسم الله، وشرع إبليس على لسان أوليائه تحليلها، فهذا نظام إبليس، وهو تحليل الميتة، وهذا نظام خالق السماوات والأرض الذي شرعه على لسان نبيه. الله يقول : هذه ماتت حتف أنفها، ولم تذك ولم يذكر اسم الله عليها. والشيطان يشرع بفلسفته ويقول : هذه ذبيحة الله، وما ذبح الله أطهر وأحل مما ذبحتموه بأيديكم، والله يقول بالمقارنة بين تشريع الشيطان وتشريع الله :﴿ وإن أطعتموهم إنكم لمشركون ﴾ إن أطعتموهم في تحليل الميتة الذي هو تشريع إبليس، تاركين تحليل وتشريع الله – وهو تحريمها – إنكم لمشركون.
وهذه الآية الكريمة من سورة الأنعام هي عند علماء العربية مثال لحذف اللام الموطئة للقسم. قالوا : والقرينة على لام القسم : أنه لو كان الشرط وحده ليس معه قسم لاقترنت الجملة بالفاء، لقال : " وإن أطعتموهم فإنكم لمشركون " فلما لم تقترن بالفاء علمنا أن عدم اقترانها بالفاء لأنها جواب القسم المقدر المحذوفة لامه، لقرينه عدم الفاء ؛ ولأن الشرط إذا جاء معه القسم – يكون القسم قبله – ويكون الجواب والقسم، ويحذف جواب الشرط، كما هو معروف في علم النحو.
وإذا تقرر هذا، فقد أقسم الله – كما قلنا – في هذه الآية الكريمة على أن
من أطاع الشيطان واتبع تحليله مخالفا لتشريع الله أنه مشرك، وهذا الشرك شرك ربوبية ؛ لأن التشريع، والأمر، والنهي للرب الخالق، فالشيطان أراد أن يشارك الله في السلطة العليا، والأمر والنهي، فمن اتبعه فكأنه جعله ربا، وهذا الشرك في قوله :﴿ إنكم لمشركون ﴾ هو شرك أكبر مخرج عن ملة الإسلام، وسيوبخ الله مرتكبه على رؤوس الأشهاد، كما بينه الله في سورة يس في قوله :﴿ ألم أعهد إليكم يا بني ءادم أن لا تعبدوا الشيطان ﴾ [ يس : آية ٦٠ ] عبادتهم للشيطان التي عهد الله إليهم في دار الدنيا النهي عنها ليس معناها أنهم يسجدون للشيطان، ولا يركعون له، ولا يصومون، ولا يصلون له، وإنما هو اتباعهم تشاريعه ونظمه، تاركين تشريع الله ونظامه ؛ ولذا قال :﴿ ألم أعهد إليكم يا بني ءادم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني ﴾ واتبعوا تشريعي ﴿ هذا صراط مستقيم ﴾ [ يس : الآيتان ٦٠، ٦١ ] ثم بين ( جل وعلا ) كثرة من اتبع نظام الشيطان واختار تشريعه ودينه عن تشريع الله، وبين مصيرهم، قال :﴿ ولقد أضل منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون ﴾ [ يس : آية ٦٢ ] أليست عندكم عقول تعلمون أن التشريع هو تشريع الله الذي خلقكم فتمتثلوا أوامره، وتجتنبوا نواهيه، وتتركوا تشريع ا
﴿ قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم والله أعلم بالظالمين ﴾ [ الأنعام : آية ٥٨ ].
هذا أمر من الله لنبيه أن يقول للكفار الذين يستعجلون بالعذاب ويقولون له :﴿ عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب ﴾ [ ص : آية ١٦ ] ﴿ إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ﴾ [ الأنفال : آية ٣٢ ]، ﴿ ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحسبه ﴾ [ هود : آية ٨ ] قل يا نبي الله لهؤلاء المتمردين المتعنتين، الذين يستعجلون بالعذاب تعنتا وعنادا :﴿ لو أن عندي ما تستعجلون به ﴾ أي : العذاب الذي تستعجلون به، لو كان بيدي لعجلته عليكم، وقضي الأمر بيني وبينكم، وسلمت من ذلك لأني على حق، وأهلككم العذاب هلاك استئصال، واسترحت منكم.
وفي هذه الآية الكريمة سؤالان، لطالب العلم أن يسأل عنهما : أحدهما نحوي، والثاني وحيي.
أما النحوي فهو أن يقول طالب العلم : همزة ( أن ) إذا فتحت دلت على مصدر، فهي في محل اسم مفرد ؛ لأنها إن فتحت سدت مسد مصدر، وهذا المصدر – طبعا – معروف أنه اسم، و( لو ) حرف شرط، وحروف الشروط لا تتولى إلا الجمل الفعلية، فلم تولى حرف الشرط اسما، وهو هذا المصدر المنسبك من ( أن ) وصلتها ؟ هذا وجه السؤال.
والجواب عنه : هو ما حققه علماء العربية : أن المصدر المنسبك من ( أن ) وصلتها فاعل فعل محذوف، والفعل المضمر هو الذي يلي حرف الشرط، وتقدير المعنى : لو ثبت أن عندي، لو ثبت كون ما ستطلبونه عندي لعجلته عليكم. ولم يكن بعده إلا فعل، والمصدر المنسبك من ( أن ) وصلتها فاعل الفعل. هكذا يقولون.
﴿ لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر ﴾ قضاء الأمر هنا كناية عن إنزال العذاب عليهم، واستراحته منهم.
ومن قال : " إن قضاء الأمر هنا معناه ذبح الموت ". فهو غلط ووهم منه ؛ لأن ذلك الذي معناه ذبح الموت هو في آية مريم، وليس في هذه الآية، وهو قوله ( جل وعلا ) في أخريات مريم :﴿ وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر ﴾ [ مريم : آية ٣٩ ] فقد ثبت في صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم تفسير آية مريم هذه :﴿ وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر ﴾ قال : إذ ذبح الموت ﴿ وهم في غفلة وهم لا يؤمنون ﴾ أنذرهم وهم في غفلة ﴿ وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر ﴾ وذبح الموت. ولا يصح في آية الأنعام هذه هذا التفسير ؛ لأن المعنى هنا :﴿ لقضي الأمر بيني وبينكم ﴾ لعجلت لكم العذاب الذي تطلبونه فهلكتم، ونفذ القضاء بيني وبينكم. ونفوذ القضاء : هو إهلاك الظالم وبقاء المطيع سالما، وهذا معنى قوله :﴿ لقضي الأمر بيني وبينكم ﴾.
﴿ والله ﴾ جل وعلا ﴿ أعلم بالظالمين ﴾ أي : الكافرين الذين يتعنتون ويستعجلون، هو أعلم بهم، عالم من يهديه الله فيتوب، ومن يخذله فلا يتوب، وعالم بالوقت الذي يأتيهم فيه العذاب، وعالم بما يستحقون من العذاب، ووقت مجيئه لهم، وسيكون ذلك على حسب ما سبق في علمه ( جل وعلا ). وهذا معنى قوله :﴿ والله أعلم بالظالمين ﴾.
قال بعض العلماء : صيغة التفضيل هنا ليست على بابها ؛ لأن المقرر في علم العربية : أن صيغة التفضيل تدل على مشاركة بين المفضل والمفضل عليه، إلا أن المفضل أكثر في المصدر من المفضل عليه. و ( زيد أعلم من عمرو ) يدل على أنهما مشتركان في العلم، إلا أن المفضل يفضل فيه المفضل عليه. والعلم بالظالمين : بأحوالهم وما يؤولون إليه، ووقت نزول العذاب عليهم، هذا لا يشارك الله فيه أحد، وهذا إنما يعلمه الله وحده ؛ ولذا يقولون : إن صيغة ( أفعل ) هنا بمعنى ( الوصف ) بمعنى : والله عليم بالظالمين، كقوله :﴿ إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله ﴾ لأن هذه لا يشاركه فيها غيره، وقد تقرر في علم العربية، أن صيغة ( أفعل ) قد تأتي مرادا بها الوصف من غير إرادة التفضيل وشواهد ذلك كثيرة في كلام العرب، ومنه قول الشنفرى :
وإن مدت الأيدي إلى الزاد لم أكن
*** بأعجلهم إذ أجشع القوم أعجل
يعني ب( أجشع القوم ) : هو العجل منهم، وقول الفرزدق :
إن الذي رفع السماء بنى لنا بيتا دعائمه أعز وأطول
يعني عزيزة طويلة. وهذا أسلوب معروف في كلام العرب.
يقول الله جل وعلا :﴿ وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ﴾ [ الأنعام : آية ٥٩ ].
ذكر بعض أهل العلم أن سبب نزول هذه الآية الكريمة : أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه بدوي فقال له : إني تركت امرأتي حبلى، وتركت قومي في جدب، فأخبرني عما في بطن امرأتي : أذكرا هو أم أنثى ؟ وأخبرني عن الوقت الذي يأتي فيه الغيث لقومي فإنهم مجدبون. ثم قال له : ولقد عرفت الوقت الذي ولدت فيه، فأخبرني عن الوقت الذي أموت فيه. فأنزل الله :﴿ وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ﴾.
ومفاتح الغيب المذكورة في هذه الآية هي المذكورة في أخريات سورة لقمان في قوله :﴿ إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب إذا وما تدري نفس بأي أرض تموت ﴾ [ لقمان : آية ٣٤ ]. وتفسير النبي صلى الله عليه وسلم لمفاتح الغيب هنا بأنها الخمس المذكورة في قوله :﴿ إن الله عنده علم الساعة ﴾ إلى آخرها، ثبت في الصحيح عن أبي هريرة وعبد الله بن عمر، وجاء بأسانيد لا بأس عليها عن /قوم آخرين من الصحابة، منهم بريدة، وابن مسعود، وابن عباس، وصحابي من بني عامر : أن النبي صلى الله عليه وسلم فسر مفاتح الغيب المذكورة هنا بأنها المذكورة في قوله :﴿ إن الله عنده علم الساعة ﴾ ؛ لأن هذه الخمس أمهات عظيمة لها أهميتها من أمهات علم الغيب، ففسر النبي بها هذه الآية ؛ لأن الساعة هي أفظع أمر وأهم أمر يوجد، ليس علمها إلا عند الله وحده، كما قال :﴿ لا يجليها لوقتها إلا هو ﴾ [ الأعراف : آية ١٨٧ ] ﴿ يسئلونك عن الساعة أيان مرساها فيم أنت من ذكراها إلى ربك منتهاها ﴾ [ النازعات : الآيات ٤٢ ٤٤ ] ولما سأله جبريل في حديثه المشهور عن الساعة. قال له : ما المسؤول عنها بأعلم من السائل. وبين له شيئا من أماراتها.
هذه هي مفاتح الغيب، فالوقت الذي تقوم فيه الساعة لا يعلمه إلا الله وحده ( جل وعلا )، ولا يعلمه أحد ﴿ لا يجليها لوقتها إلا هو ﴾ [ الأعراف : آية ١٨٧ ] ﴿ وينزل الغيث ﴾ الوقت الذي ينزل فيه المطر لا يعلمه إلا الله وحده ﴿ ويعلم ما في الأرحام ﴾ الذي هو في رحم أمه لا يعلم حقيقته إلا الله، أذكر هو أم أنثى ؟ قبيح أو جميل ؟ شقي أو سعيد ؟ لا يدري الإنسان ماذا يكسب غدا. والمراد ب( ما يكسب غدا ) : من خير أو شر، ما يكسب من الحسنات التي تقربه لله، وما يكسب من السيئات التي تبعده عن الله ( جل وعلا )، ويدخل في ذلك : ما يكسبه من مال ونحوه ؛ لأن الله قد يغنيه من حيث لا يشعر، وقد يفقره من حيث لا يشعر ؛ لأن الله بيده كل شيء ﴿ وما تدري نفس بأي أرض تموت ﴾ لا يعرف الإنسان المحل الذي فيه قبره، وإن كان ساكنا في محل وإذا كتب الله أجله في محل لا بد أن تكون له حاجة إلى ذلك المحل، فيذهب إليه ليدركه أجله فيه، وينفذ قضاء الله كما سبق في علمه الأزلي، وجاء بذلك حديث عن جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : أن الله إذا كتب أن يموت رجل في محل، لا بد أن يجعل له حاجة إلى ذلك المحل حتى يذهب إليه ويدركه أجله فيه. هذه مفاتح الغيب الخمس التي بين النبي أنها معنى هذه الآية، وخير التفسير تفسيره صلى الله عليه وسلم.
وقد بين ( جل وعلا ) في آية عامة أن الغيب كله لا يعلمه إلا الله، كما قال تعالى :﴿ قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون ﴾ [ النمل : آية ٦٥ ] وقد بينا فيما مضى أمثلة لمصداق هذه الآيات، وبينا أن أعظم الخلق : الملائكة، والرسل، والملائكة لما قال لهم الله :﴿ أنبئوني بأسماء هؤلاء ﴾ ؟ أجابوا بأن قالوا :﴿ سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا ﴾ [ البقرة : آية ٣٢ ] وقوله :﴿ لا علم لنا ﴾ النكرة فيه مبنية مع ( لا ) والنكرة لا تبنى على الفتح مع ( لا ) إلا التي هي لنفي الجنس. فمعنى الآية : أنهم نفوا جنس العلم من أصله عن أنفسهم إلا شيئا علمهم الله إياه. وهؤلاء الرسل الكرام ( عليهم صلوات الله وسلامه ) مع ما أعطاهم الله من العلم والمكانة يقولون : إنهم لا يعلمون من الغيب إلا ما علمهم الله. هذا سيدهم وخاتمهم صلى الله عليه وسلم قد بينا أن الله أمره قال :﴿ قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي ﴾ [ الأنعام : آية ٥ ] وأمره أيضا في سورة الأعراف أن يقول :﴿ قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء ﴾ [ الأعراف : آية ١٨٨ ] وقد قال في أخريات أيام حياته صلوات الله وسلامه عليه : " لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة ". كما هو معروف. وقد بينا أن نبي الله نوحا ذكر الله عنه في سورة هود :﴿ ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا ﴾ [ هود : آية ٣١ ] وقد بينا أمثلة من هذا، فهذا سيد ولد آدم على الإطلاق، وأفضل الرسل، وأعلم الناس ( صلوات الله وسلامه عليه )، رميت أحب أزواجه بأعظم فرية، أم المؤمنين عائشة، لما رموها بصفوان بن المعطل في غزوة بني المصطلق، كما قص الله القصة موضحة في سورة النور، كان ( صلوات الله وسلامه عليه ) مع ما آتاه الله من العلم والمكانة العظيمة لا يدري أحق ما قالوا عن زوجته أم كذب، وكان يقول : " كيف تيكم ؟ " وفقدت منه العطف الذي كانت تجده إذا مرضت، وكان يقول لها غير دار بالحقيقة : " يا عائشة إن كنت ألممت بذنب فتوبي، وإن كنت بريئة فسيبرئك الله ". ولم يعلم بالحقيقة حتى أخبره عالم الغيب والشهادة ﴿ إن الذين جاءو بالإفك ﴾ [ النور : آية ١١ ] فسماه : إفكا، ثم قال في آخر الآيات :﴿ أولئك مبرءون مما يقولون ﴾ [ النور : آية ٢٦ ] فلم يعلم الحقيقة إلا بعد أن علمه الله إياها. ولما نزلت عليه آيات براءتها في بيت أبي بكر، وسري عنه وهو يبتسم، وقال : " أما أنت يا عائشة فقد برأك الله ". فقالت لها أمها أم رومان : " قومي إليه فاحمديه ". قالت لها : " والله لا أحمده، ولا أحمد اليوم إلا الله ؛ لأنه لم يبرئني، وإنما برأني الله ".
وهذا نبي الله إبراهيم، وهو هو، ذبح عجله، وتعب هو وامرأته بإنضاج العجل وحمله، كما قال الله :﴿ فما لبث أن جاء بعجل حنيذ ﴾ [ هود : آية ٦٩ ] ولم يدر أن الذين ينضج لهم عجله أنهم ملائكة كرام لا يأكلون ! ولأجل عدم علمه بذلك لما لم يأكلوا خاف منهم ﴿ فلما رءا أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة ﴾ [ هود : آية ٧٠ ] وما هذا إلا لأنه لا يعلم بحقيقتهم، وما درى عن الأمر حتى أخبروه ! سألهم :﴿ فما خطبكم أيها المرسلون ﴾ ؟. [ الحجر : آية ٥٧ ] ﴿ قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط ﴾ [ هود : آية ٧٠ ] ولما ارتحلوا من عنده، ونزلوا على نبي الله لوط، وكانوا في صفة شباب مرد حسنة ثيابهم، حسنة ريحهم، خاف عليهم أن يفعل بهم قومه فاحشة اللواط، فحزن أشد الحزن ؛ ولذا قال تعالى عنه :﴿ ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب ﴾ [ هود : آية ٧٧ ] وما سبب مساءته بهم وضيقه ذرعا بهم – كقوله : إن ذلك يوم عصيب – إلا لعدم علمه بحقيقة الواقع، حتى قال ذلك الكلام المؤسف المحزن :﴿ لو أن لي بكم قوة أو ءاوي إلى ركن شديد ﴾ [ هود : آية ٨٠ ] ولم يعلم بحقيقة الأمر حتى أخبروه، وقالوا له :﴿ يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فأسر بأهلك بقطع من الليل ﴾ الآيات [ هود : آية ٨١ ]. وقال المفسرون : عند ذلك نشر جبريل أجنحته عليه وشاحه، وضرب أوجههم بريشة من جناحه، فتركها ليس فيها محل العيون، لا أثر فيها للعيون، كأن وجوههم لم تكن بها عيون أصلا ! ! كما أشار الله إلى ذلك في سورة القمر بقوله في قصة لوط، والملائكة، وقوم لوط :﴿ ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم ﴾ والعياذ بالله ﴿ فذوقوا عذابي ونذر ﴾ [ القمر : آية ٣٧ ]. وهذا نبي الله يعقوب قال الله فيه :﴿ وإنه لذو علم لما علمناه ﴾ [ يوسف : آية ٦٨ ] مدحه الله بالعلم الذي علمه، ومع هذا فولده يوسف كان في مصر، ما بينه وبينه ثمان مراحل، لا يعلم عن أمره شيئا ﴿ وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم ﴾ [ يوسف : آية ٨٤ ] يقول لأولاده :﴿ يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيئسوا من روح الله ﴾ [ يوسف : آية ٨٧ ] يطلب من أولاده التحسس ليعثروا له على خبر، وهو لا يدري عنه حقيقة حتى جاء البشير بالقميص، كما هو مبين في سورة [ يوسف ] في الأصل :( هود ). وهو سبق لسان. ).
وهذا نبي الله نوح، وهو هو، لما قال له ربه :﴿ فاسلك فيها من كل زوجين اثنين وأهلك ﴾ [ المؤمنون : آية ٢٧ ] ظن أن ولده الفاجر أنه من أهله، ولم يدر أنه ليس من أهله حتى قال :﴿ رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين ﴾ [ هود : آية ٤٥ ] ولم يعلم بحقيقة الأمر حتى قال له عالم الغيب والشهادة ﴿ يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسئلن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين ﴾ [ هود : آية ٤٦ ] كان جوابه أن قال :﴿ رب إني أعوذ بك أن أسئلك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين ﴾ [ هود : آية ٤٧ ]. وهذا نبي الله سليمان أعطاه الله الريح، غدوها شهر، ورواحها شهر، وسخر له مردة الشياطين مع قدرتهم على الطيران في آفاق الأرض، ما كان يدري عن قصة (... ) ( في هذا الموضع كلمة غير واضحة. ولعلها : " أهل مأرب " والكلام مستقيم بدونها ) بلقيس وجماعتها حتى جاءه الهدهد الضعيف المسكين، وكان قد خرج بغير إذن، وكان نبي الله سليمان يتهدده ويتوعده على الخروج بلا إذن، كما قص الله في سورة النمل :﴿ وتفقد الطير فقال مالي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين ﴾ [ النمل : الآيتان : ٢٠، ٢١ ] فعلم من تاريخ اليمن، ومن جغرافية اليمن، ما لم يعلمه سليمان ( عليه السلام ) ! ! وهذا العلم الضئيل البسيط – علم تاريخ وجغرافية – أعطى هذا الضعيف قوة، وكان له سلاحا، وقواه على سليمان، حيث كان هو يعلم شيئا يجهله سليمان ؛ ولذا قام غير مبال بالوعيد، مع أن سليمان ملك نبي، له هيبة الملك، وهيبة النبوة، ومع هذا وقف ذلك الهدهد بين يديه وقفة البطل غير مكترث بالوعيد، وإنما قواه أنه علم شيئا من جغرافية اليمن وتاريخهم لم يعلمه سليمان، ونسب الإحاطة إلى نفسه، ونفاها عن سليمان، وقال له : إني ﴿ أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبإ يقين ﴾ [ النمل : آية ٢٢ ] وهذا النبأ بين فيه بعض تاريخهم، أنهم كفرة يسجدون للشمس، وأن ملكتهم امرأة، قال :﴿ إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله ﴾ [ النمل : الآيتان ٢٣، ٢٤ ] وعند خبر الهدهد إياه لم يعلم أيضا حقيقة الأمر ؛ لأنه [ ما كان يعلم صدق ] ( )في الأصل كلمتان غير واضحتين، وما بين المعقوفين زيادة ينتظم بها الكلام الهدهد ؛ ولذا قال مخاطبا له :﴿ سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين ﴾ [ النمل : آية ٢٧ ] ثم أرسله بكتاب، كما في هذه الآيات من سورة النمل، كل هذه الأمور من [ عدم ] ( زيادة يقتضيها السياق. ) علم الأنبياء الكرام، والملائكة الكرام هذه الأمور من الغيب كله مصداق لقوله :﴿ قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله ﴾ [ النمل : آية ٦٥ ]
يقول الله جل وعلا :﴿ وإذ قال إبراهيم لأبيه ءازر أتتخذ أصناما ءالهة إني أراك وقومك في ضلال مبين ﴾ [ الأنعام : آية ٧٤ ].
قرأ هذا الحرف نافع، وأبو عمرو، وابن كثير ﴿ إني أراك وقومك في ضلال مبين ﴾ وقرأه الباقون من السبعة :﴿ إني أراك وقومك في ضلال مبين ﴾ وهما قراءتان سبعيتان، ولغتان فصيحتان.
ووجه مناسبة هذه الآية الكريمة للتي قبلها التي كنا نفسرها بالأمس : أن الكفار قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه : ارجعوا إلى ديننا، فاعبدوا معنا معبوداتنا، وأنزل الله في ذلك :﴿ قل أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا ﴾ [ الأنعام : آية ٧١ ] لما بين الله أنهم دعوهم إلى عبادة الأوثان، وأنهم لا يمكن أن يرجعوا إلى [ الكفر ] ( في هذا الموضع يوجد مسح في التسجيل، وما بين المعقوفين [ ] زيادة يتم بها الكلام ) بعد أن علمهم الله الدين، وعلمهم توحيده الصحيح ﴿ ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله ﴾ هذا لا يكون، بين الله في هذه الآية سفاهة عقول مشركي مكة، وهم يقولون إن إبراهيم جدهم، وإنه على دين صحيح، وملة حنيفية سمحة ! ! فأمر الله نبيه أن يذكر لهم قصة إبراهيم مع أبيه وقومه، وتفنيده لعبادة الأوثان، وتحذيرهم من ذلك ؛ ليعلموا أن الذي يدعونكم إليه أنه كفر وضلال وسفه، وأنه مخالف لملة إبراهيم التي يقرون بأنها حسنة.
ومعنى قوله :﴿ وإذ قال إبراهيم ﴾ واذكر يا نبي الله ﴿ إذ ﴾ أي : حين ﴿ قال إبراهيم لأبيه ءازر ﴾ جرت عادة العلماء أن يقدروا الناصب ل( إذ ) يقدروه :( اذكر ).
ولطالب العلم أن يقول : أين القرينة على أن العامل في هذا الظرف الذي هو ( إذ ) أنه لفظة ( اذكر )، أين قرينة ذلك ؟
الجواب : أن العلماء فهموا ذلك من استقراء القرآن، وأن الله في القصص يأتي بلفظة ( اذكر ) عاملة في ( إذ ) هذه ونحوها، كقوله :﴿ واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف ﴾ [ الأحقاف : آية ٢١ ] ﴿ واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون ﴾ [ الأنفال : آية ٢٦ ] ﴿ واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم ﴾ [ الأعراف : آية ٨٦ ] ونحو ذلك في القرآن، كذلك قوله هنا : واذكر ﴿ إذ قال ﴾ أي : حين قال نبي الله وخليله إبراهيم قال :﴿ لأبيه ءازر ﴾ التحقيق الذي لا شك فيه أن ( آزر ) بدل، أو عطف بيان من الأب، وأنه أبوه، وإن كان عامة المؤرخين يقولون : إن أبا إبراهيم اسمه ( تارح ). وقد أجاب عن هذا ابن جرير وغيره، قالوا : لا أصدق من الله، وذكر هنا أن أباه ( آزر )، وقد يكون له اسمان، أي : اسم ولقب، أحدهما :( تارح )، والثاني :( آزر ). وهذه قراءة السبعة، وجماهير القراء، وهناك قراءات شاذة : منها من قرأ :﴿ وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر ﴾ بضم الراء. وعلى هذا فالمعنى : يا آزر أتتخذ أصناما آلهة. ومنهم من يقول : إن ( آزر ) ليس اسم أبيه، وإنما هو اسم صنم. والذين قالوا : هو اسم صنم، قالوا : كثرت عبادته لذلك الصنم، وملازمته إياه حتى نبز به، كما قيل في ابن قيس الرقيات ؛ لأنه تشبب بنساء متعددة، كلهن تسمى ( رقية )، فنبزوه بها. وفيه قراءات شاذة غير هذا، وأقوال أخر لا معول عليها.
واعلموا أن قصة أبي إبراهيم هذه ذكرها الله مرارا كثيرة في سور متعددة من كتابه، وكلها صريح في أنه أبوه لا عمه، ولم يرد في كتاب الله ولا في سنة رسول الله حرف واحد يدل على أنه عمه، إلا أن أهل السير أولعوا بأن قالوا : أبوه : عمه. والذي يجب علينا جميعا هو تصديق الله، وأن لا نحرف كلام الله، ولا نفسره بغير معناه إلا بدليل يجب الرجوع إليه من كتاب أو سنة، فاحترام الله واجب، واحترام كتابه واجب، ومن أوجب احترامه : أن لا نحرفه، ولا ننقل لفظا منه عن ظاهره المتبادر منه إلا بدليل يجب الرجوع إليه، لا سيما والله في آيات كثيرة من كتابه جاء بالقصة بعبارات مختلفة، منها ما هو في الخطاب، ومنها ما هو في غيره، كلها صريحة في أنه أبوه لا عمه.
والأب إذا أطلقته العرب انصرف إلى أب الرجل الذي ولده، ولا يجوز أن يحمل على أنه عمه إلا بدليل يجب الرجوع إليه، لا سيما لو كثر ذكره في القرآن بعبارات كثيرة مختلفة، على أنحاء مختلفة، كلها صريح في أنه أبوه، فنقلها إلى عمه من غير دليل من كتاب ولا سنة تجرؤ على الله وعلى كتابه بما لا يجوز. وأهم شيء في التعظيم والاحترام : كلام خالق السماوات والأرض، والحذر من أن يبدل أو يحرف، الله قال هنا :﴿ وإذ قال إبراهيم لأبيه ءازر ﴾ [ الأنعام : آية ٧٤ ] وقال في موضع آخر في سورة الأنبياء :﴿ ولقد ءاتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون ﴾ [ الأنبياء : الآيتان ٥١، ٥٢ ] وقال في الشعراء :﴿ واتل عليهم نبأ إبراهيم إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون ﴾ [ الشعراء : الآيتان ٦٩، ٧٠ ] وقال في سورة مريم :﴿ واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك ﴾ إلى آخر الآيات. [ مريم : الآيات ٤١ ٤٣ ]. وقال في براءة :﴿ وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه ﴾ [ براءة : آية ١١٤ ] وهذا كثير في القرآن، وكذلك قال نفس إبراهيم :﴿ واغفر لأبي إنه كان من الضالين ﴾ [ الشعراء : آية ٨٦ ] فجاء مرارا كثيرة بكلام خالق السماوات والأرض، وليس لنا أن نحرف كلام الله، ولا أن نحمله على غير معناه إلا بدليل يجب الرجوع إليه من كتاب وسنة، وكونه أباه لو كان فيه منقصة أو مضرة على إبراهيم لما كان إبراهيم يقول :﴿ واغفر لأبي إنه كان من الضالين ﴾ [ الشعراء : آية ٨٦ ] ﴿ وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه ﴾ [ التوبة : آية ١١٤ ] فشرف إبراهيم، وجلالته، ومكانته هي هي، لا ينقصها شيء من ذلك، وعلى كل حال فعلينا أن نصدق الله، ولا نحرف كلامه، ونحمله على غير معناه افتراء على الله من غير برهان من كتاب ولا سنة.
ومعنى قوله :﴿ وإذ قال إبراهيم ﴾ واذكر ﴿ إذ قال ﴾ نبي الله ﴿ وإبراهيم ﴾ وخليله ﴿ لأبيه ءازر ﴾ وكان في قوم يعبدون الكواكب السيارة السبعة، ويعبدون تماثيل أصنام أرضية، فلهم معبودات أرضية، ومعبودات سماوية، معبوداتهم الأرضية : أصنام، وتماثيل، يزعمون أنهم يجعلون صورها وأشكالها على هيئة الملائكة، ويعبدونها لتشفع لهم عند الله، وكذلك يعبدون الكواكب السيارة التي هي الشمس، والقمر، وزحل، والمشتري، والزهرة، وعطارد، والمريخ، كما هي معروفة. قال لهم نبي الله إبراهيم موبخا لهم مسفها أحلامهم : قال لأبيه ( آزر ) منكرا عليه بهمزة الإنكار :﴿ أتتخذ أصناما ءالهة ﴾ المعنى : أتتخذ تماثيل مصورة من حجارة، أو من غيرها من الأجسام، تتخذها آلهة تعبدها من دون الله، وتصرف لها حقوق الله، مع أنها لا تنفع ولا تضر ؟ هذا مما لا يليق ! ! كما قال له :﴿ يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا ﴾ [ مريم : آية ٤٢ ] وقد أفحمهم بالحجة في سورة الأنبياء، وذلك كما قصه الله في الأنبياء، والصافات، أنه ما كان يجد فرصة يكسر أصنامهم فيها ؛ لأنه إن كسرهم وهم ينظرون أهانوه وآذوه، وكان يرتقب فرصة يكسرهم فيها، حتى جاء يوم عيدهم، فجاؤوا بطعامهم وشرابهم ووضعوه عند الأصنام، وقالوا للأصنام : اجعلوا لنا البركات والخيرات في هذا الطعام والشراب حتى نرجع من عيدنا، وقالوا لإبراهيم، اخرج معنا إلى عيدنا. ﴿ فقال إني سقيم ﴾. يريد أن يتخلص منهم ليكسر الأصنام، فلما خرجوا جاء إلى الأصنام وبيده الفأس، فوجد الطعام عندهم ﴿ فقال ألا تأكلون ﴾ مستهزئا بهم، لم لا تأكلون من الطعام ؟ كما قال في الصافات :﴿ فقال ألا تأكلون ﴾ [ الصافات : آية ٩١ ] ﴿ فراغ عليهم ضربا باليمين ﴾ [ الصافات : آية ٩٣ ] يضربهم ويكسرهم بيمينه بالفأس، فلما كسرهم ترك كبيرهم، وهو أعظم صنم عندهم، يقولون : إنه مرصع بالجواهر، وأن عليه ياقوتتان. علق الفأس في عنقه، فلما جاؤوا من عيدهم وجدوا الأصنام مكسرة، والفأس معلقا في عنق الكبير فقالوا : من فعل هذا بآلهتنا ؟ فدلوا على إبراهيم، كما فصله الله في سورة الأنبياء :﴿ ولقد ءاتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون قالوا وجدنا ءاباءنا لها عابدين قال لقد كنتم أنتم وءاباؤكم في ضلال مبين ﴾ [ الأنبياء : الآيات ٥١ ٥٤ ] وكما قال هنا في الأنعام :﴿ إني أراك وقومك في ضلال مبين ﴾ [ الأنعام : آية ٧٤ ] فأجابوا :﴿ أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين ﴾ [ الأنبياء : آية ٥٥ ] فأجابهم أنه جاء بالحق :﴿ بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين ﴾ [ الأنبياء : آية ٥٦ ] ثم قال :﴿ وتالله لأكيدن أصنامكم ﴾ يعني بكيدها : أن يكسرها من حيث لا يحضر أحد يراه ﴿ بعد أن تولوا مدبرين ﴾ ﴿ فجعلهم جذاذا ﴾ وفي القراءة الأخرى :﴿ جذاذا ﴾ أي : كسرهم ﴿ إلا كبيرهم لهم لعلهم إليه يرجعون ﴾ فلما رجعوا ﴿ قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين قالوا سمعنا فتى يذكرهم ﴾ يعيبهم ويقول : إنه يكيدهم ﴿ يقال له إبراهيم قالوا فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون ﴾ يشهدون عليه أنه الذي فعل هذا، فاستنطقوه وقالوا :﴿ ءأنت فعلت هذا بئالهتنا يا إبراهيم ﴾ ؟ ﴿ هذا ﴾ يعني : جعلهم جذاذا، قال إبراهيم :﴿ بل فعله كبيرهم هذا فسئلوهم إن كانوا ينطقون ﴾ [ الأنبياء : الآيات ٥٧ ٦٣ ] إلى أن قالوا له :﴿ لقد علمت ما هؤلاء ينطقون ﴾ [ الأنبياء : آية ٦٥ ] أنت تعرف أن هؤلاء جماد، ما عندهم نطق، ولا يتكلمون. وكان هذا هو قصده، فقال :﴿ أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون ﴾ [ الأنبياء : آية ٦٧ ] فلما أفحمهم بالحجة والبرهان والدليل لجؤوا إلى القوة ﴿ قالوا حرقوه وانصروا ءالهتكم إن كنتم فاعلين قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين ﴾ [ الأنبياء : الآيات ٦٨ ٧٠ ] هذه القصة مكررة في القرآن، ومما بسطها الله فيه : سورة الأنبياء، وذلك معنى قوله هنا في الأنعام :﴿ وإني أراك وقومك في ضلال مبين ﴾ [ الأنعام : آية ٧٤ ] أي : في ذهاب عن طريق الحق بين واضح لكل من له أدنى عقل، كيف تتركون عبادة الخالق، الرازق، النافع، الضار، المحيي، المميت، وتعبدون جمادات لا تنفع ولا تضر، ولا تسمع ولا تبصر ؟ ! ! هذا هو الضلال المبين الواضح لكل من له أدنى عقل.
﴿ وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين ﴾ [ الأنعام : آية ٧٥ ] الإشارة في قوله :﴿ كذلك ﴾ كما بصرنا إبراهيم العقيدة الصحيحة، وعرفناه إخلاص العبادة لله، حيث وبخ المشركين، وبين لهم أنهم في الضلال المبين، كذلك التبصير والتعريف بالدين الصحيح، وإخلاص العبادة لله، كذلك التعريف والتبصير نريه – أيضا – ملكوت السماوات والأرض ؛ ليكون من الموقنين في عقيدته ودينه، و( الملكوت ) : أصله مصدر الملك، إلا أنه تزاد فيه الواو والتاء، كالرهبوت، والرحموت، والرغبوت في : الرحمة، والرهبة، والرغبة، وهي مصادر مسموعة في كلام العرب، نزل بها القرآن العظيم.
﴿ نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض ﴾ أي : ملك السماوات والأرض، وما أبدع الله في ملكه في السماوات والأرض من غرائب صنعه وعجائبه ؛ ليكون من الموقنين.
وفي ﴿ ملكوت السماوات والأرض ﴾ في هذه الآية الكريمة وجهان لعلماء التفسير معروفان : قالت جماعة كثيرة من العلماء : إن الله فتح له السماوات، فنظر كل ذلك، حتى إلى العرش، وأنه شق له الأرضين، وأطلعه حتى الأرض السفلى. وهذا قال به جمع كثير من العلماء، ولكن التحقيق في الآية : أن ﴿ ملكوت السماوات والأرض ﴾ التي أراه ليكون بها من الموقنين هو الظاهر من غرائب صنع الله وعجائبه، مما أبدع في أرضه وسمائه حيث جعل السماء سقفا محفوظا، تمر عليه آلاف السنين لا يتفطر، ولا يتشقق، ولا يحتاج إلى ترميم، مرفوعا على غير عمد ﴿ ما ترى في خلق الرحمان من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير ﴾ [ الملك : الآيتان ٣، ٤ ] أي : ذليلا من عظم ما رأى، وجلالة ذلك الصنع، وكذلك الأرض بما أودع الله فيها من غرائب صنعه، وعجائبه، من أنواع الثمار، والجبال، وألوانها، والحيوانات، والناس، واختلاف ألسنتهم، وما أودع فيها من المنافع، والمعادن، والثمار، مما هو آيات تبهر العقول، كما قال :﴿ أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض ﴾ مخاطبا لكل الناس الذين لم يشق لهم السماوات ولا الأرض ﴿ وما خلق الله من شيء ﴾ [ الأعراف : آية ١٨٥ ] وقال :﴿ قل انظروا ماذا في السماوات والأرض ﴾ [ يونس : آية ١٠١ ] ﴿ وكأين من ءاية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون ﴾ [ يوسف : آية ١٠٥ ] ﴿ أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج تبصرة ﴾ [ ق : الآيات ٦ ٨ ] هذه ( التبصرة ) المذكورة هنا هي ( الإيقان ) المذكور في قوله :﴿ نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين ﴾ [ الأنعام : آية ٧٥ ] هذا هو القول الصحيح الذي دل عليه استقراء القرآن، لا ما زعموا من أنه شقت له السماوات إلى العرش، وأنه شقت له الأرضون إلى السفلى، وأن الله ( جل وعلا ) رفعه حتى اطلع على أعمال بني آدم، وكلما رأى إنسانا على فاحشة دعا عليه فهلك، وأن الله نهاه عن ذلك، وأخبره أن من أسمائه الصبور. كل هذه مقالات ذكرها كثير من علماء السلف من أكابر المفسرين. والظاهر أن التحقيق خلاف ذلك كله، وهو ما ذكرنا، وهو أن ملكوت السماوات والأرض : ما أودع الله فيهما من غرائب صنعه، وعجائبها، مما يدل العقلاء على أن من صنعها هو العظيم القادر على كل شيء، وأنه المعبود وحده، كما قال :﴿ إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لأيات لأولي الألباب ﴾ [ آل عمران : آية ١٩٠ ] وأمثال ذلك من الآيات.
هذا معنى قوله :﴿ وكذلك نري إبراهيم ﴾ الظاهر أن ﴿ نري ﴾ هنا من ( رأى ) البصرية. وقال بعض العلماء : من ( رأى ) العلمية. و﴿ نري ﴾ عدي، أصله مضارع ( أرينا ) بهمزة التعدية ؛ ولذا كانت ( رأى ) بصرية، فعدتها إلى المفعولين.
وقوله جل وعلا :﴿ وليكون من الموقنين ﴾ فيه الوجهان اللذان ذكرنا في قوله :﴿ ولتستبين سبيل المجرمين ﴾ [ الأنعام : آية ٥٥ ] أحدهما : وليكون من الموقنين أريناه ذلك. والمعنى : ولأجل أن يكون من الموقنين أريناه ملكوت السماوات والأرض.
وقال بعض العلماء : نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض ليحاجج قومه، وليكون من الموقنين. والمعنى متقارب.
و( الموقنون ) جمع ( الموقن )، و( الموقن ) اسم فاعل ( الإيقان )، وواوه مبدلة من ياء، أصله ( ميقن ) من ( اليقين ). و( اليقين ) هو العلم الذي لا تتطرقه الشكوك ولا الأوهام، لا يقبل التغير بحال. وهذا معنى قوله :﴿ وليكون من الموقنين ﴾.
﴿ فلما جن عليه الليل رءا كوكبا ﴾ العرب تقول : " جن عليه الليل، وجنه الليل، وأجن عليه الليل، وأجنه الليل ". فإذا قالت : " أجن " رباعية كان قولها : " أجنه الليل " أفصح من " أجن عليه الليل ". وإذا قالت : " جن عليه الليل "، فهو أفصح من " جنه الليل "، والكل معروف في لغة العرب. ومن تعدية ( جن ) – ثلاثية – قول الهذلي :
وأصل مادة ( الجيم، والنون، والنون ) ( جنن ) أصل هذه المادة في جميع تصرفاتها معناها : الاستتار والتغطية، ومنه ( الجنة ) وهم – مثلا – إبليس وجنده ؛ لأنا لا نراهم. ومنه :( الجنين ) ؛ لأنه في بطن أمه، ومنه :( الجنة ) للدرقة ؛ لأنها تستر صاحبها وتغطيه عن السهام، ومنه :( جنان الليل ). أي : ظلامه وادلهمامه. وهذا معروف، كما قال الشاعر دريد بن الصمة :
ولولا جنان الليل أدرك ركضنا بذي الرمث والأرطي عياض بن ناشب
هذا أصل المادة، ومعنى ﴿ جن عليه الليل ﴾ أظلم عليه الليل، وأرخى سدوله، حتى غطى الأجرام بسواده ؛ لأنه عند ذلك الوقت تظهر الكواكب نيرة ؛ لأنه قبل ادلهمام الليل وظلامه لم تنر الكواكب. ﴿ فلما جن عليه الليل ﴾ أظلم وادلهم وغطى الأجرام بظلامه.
﴿ رءا كوكبا ﴾ ﴿ رءا ﴾ معناه : أبصر بعينه ﴿ كوكبا ﴾ والكوكب : النجم الكبير، وعلماء التفسير يقولون : إن ذلك الكوكب الذي رآه هو الكوكب المسمى بالزهرة. وهو من الإسرائيليات، وغاية ما دل عليه القرآن أنه رأى نجما كبيرا، وهو مراده بقوله :﴿ كوكبا ﴾، وكان أبوه وقومه يعبدون معبودات أرضية ومعبودات سماوية، منها الكواكب السبعة.
قال :﴿ هذا ربي ﴾، قول إبراهيم :﴿ هذا ربي ﴾ في رؤيته للكوكب، ورؤيته للقمر، ورؤيته للشمس، أصله فيه بحث معروف للعلماء، غلط جماعة في هذا المقام من العلماء، منهم العالم الكبير ابن جرير الطبري، فزعم أن إبراهيم قال هذا ناظرا لا مناظرا، وأنه قال هذا قبل أن يتيقن الدليل، يظن أن الكوكب ربه. هذا قاله ونقله عن ابن عباس، واستدل عليه بقوله :﴿ لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين ﴾ [ الأنعام : آية ٧٧ ] قال : فقوله :﴿ لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين ﴾ هذا يدل على أنه قال هذا قبل أن يتيقن الحقيقة، وقبل أن يتم له النظر، فبعد أن تم نظره وعلم الحق، قال :﴿ إني بريء مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا ﴾ [ الأنعام : الآيتان ٧٨، ٧٩ ].
والتحقيق بدلالة القرآن والسنة : أن هذا القول لهذه الطائفة من العلماء، منهم كبير المفسرين ابن جرير الطبري، ورواه عن ابن عباس، أن هذا القول غلط لا شك فيه، وأن إبراهيم لم يظن يوما في ربوبية كوكب، ولم يشك يوما واحدا في ربوبية الله، هذا التحقيق الواجب اعتماده، الذي دل عليه كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، أما القرآن : فقد دل على هذا في مواضع كثيرة :
منها : أنه أولا قال رافعا لهذا الاحتمال :﴿ وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين ﴾ [ الأنعام : آية ٧٥ ] فلما أثبت له اليقين قال بعد ذلك مرتبا عليه بالفاء :﴿ فلما جن عليه الليل رءا كوكبا قال هذا ربي ﴾ [ الأنعام : آية ٧٦ ].
والثانية : أن الله ذكر أنه قال هذا في سبيل المناظرة والمحاجة، لا في سبيل النظر بنفسه، حيث قال :﴿ وحاجه قومه ﴾ [ الأنعام : آية ٨٠ ]، وقال :﴿ وتلك حجتنا ءاتيناها إبراهيم ﴾ [ الأنعام : آية ٨٣ ] ومن أصرح الأدلة في هذا : أن الله نفى عن إبراهيم كون الشرك في ماضي الزمن مطلقا، حيث قال في آيات كثيرة من كتابه :﴿ ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين ﴾ [ النحل : آية ١٢٣ ] ونفي الكون الماضي يستغرق الكون في جميع الزمن كائنا ما كان، وكذلك قوله :﴿ ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين ﴾ [ آل عمران : آية ٦٧ ] هذا جاء في آيات كثيرة، ونفي الإشراك عنه في الكون الماضي يدل بدلالة القرآن – دلالة المطابقة – على أنه لم يتقدم له كون إشراك ألبتة. والله يقول :﴿ ولقد ءاتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين ﴾ [ الأنبياء : آية ٥١ ] فعلم الله به وبصلاحه يدل على ذلك، هذا هو الحق الذي لا شك فيه.
ولطالب العلم أن يقول : قررتم لنا أن إبراهيم لا يعتقد ربوبية الكوكب، وأن القرآن دل على ذلك، ومن السنة الصحيحة الدالة عليه : ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة ( رضي الله عنه ) عن النبي صلى الله عليه وسلم : " لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات، اثنين منها في ذات الله.. " الحديث.
وهذا حديث صحيح متفق عليه، وهذه الكذبات الثلاث التي قالها النبي صلى الله عليه وسلم يعني أنها في الصورة كصورة الكذب، وهي في نفس الأمر ليست من حقيقة الكذب، بدليل أنه قال : " اثنين منها في ذات الله " وكيف يكون الكذب في ذات الله ؟ فالذي يأتي في ذات الله هو أحق الحق، وأصدق الصدق.
والكذبات الثلاث التي يعنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة المتفق عليه :
أحدهما : قوله لقومه لما أرادوا أن يخرج معهم إلى عيدهم، وهو يريد أن يتخلف عنهم ليتسنى له تكسير الأصنام :﴿ فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم فتولوا عنه مدبرين فراغ إلى ءالهتهم فقال ألا تأكلون ما لكم لا تنطقون فراغ عليهم ضربا باليمين ﴾ [ الصافات : الآيات ٨٨ ٩٣ ] فقوله :﴿ إني سقيم ﴾ – وهو صحيح – قال بعض العلماء : يريد أني سقيم عليكم، سقيم القلب لخساسة عقولكم، وأنكم تعبدون مع الله جمادات، وأنكم ذاهبون بفعلكم إلى النار. أو : إني سقيم في المستقبل ؛ لأن الإنسان لا بد أن يمرض فيأتيه الموت. وفي المعاريض منادح كثيرة عن الكذب.
الثانية : هي قوله :﴿ بل فعله كبيرهم هذا ﴾ [ الأنبياء : آية ٦٣ ] وبعض العلماء يقول : إنه قال ﴿ بل فعله كبيرهم هذا ﴾ قصده ليلجئهم إلى الإقرار ؛ لأن كبيرهم لا يفعل، وأنه جماد لا يفعل شيئا، فكأنه يعرض ويقول : أنتم تعبدون ما لا ينفع ولا يضر، إلى غير ذلك من الأجوبة.
أما الثالثة : فهي أنه لما هاجر من بلاد قومه، لما أنجاه الله من النار، مر على ذلك الجبار، في القصة المشهورة الثابت في الصحيحين، وكانت امرأته – سارة – من أجمل النساء، فعلم بها ذاك الجبار فطلبها، ولما قال له : ما هي منك ؟ قال : هي أختي. ولم يقل : هي زوجتي. خوف أن يغار عليه فيلحقه منه بأس، وجاءها وقال لها : يا سارة، إني قلت لهذا الجبار : إنك أختي، وأنت أختي في الدين، ليس هنا من يدين بدين الإسلام إلا أنا وأنت، فأنت أختي في الإسلام، فلا تكذبيني. في القصة المشهورة الثابت في الصحيح فلما أدخلت عليه، وأراد أن يتناولها بسوء أخذ، فقال لها : ادعي الله لي ولا أعود، فدعت له فبرىء، فهم أن يعود فأخذ أشد من الأول، فقال لخدمه : ما أتيتموني بإنسان، وإنما أتيتموني بشيطان ! ! وأخدمها هاجر التي أعطتها لإبراهيم، فتسراها وكانت أم إسماعيل. ويذكرون في التاريخ – وقد دل عليه بعض الأحاديث أن هاجر أصلها بنت ملك القبط – ملك مصر – أخذها منه هذا الملك الجبار.
هذه الثلاث محل الشاهد من هذا الحديث الصحيح : أن إبراهيم لو كان معناه أن الكوكب رب، وأن القمر رب، وأن الشمس رب، لكان هذا أعظم فرية، وأعظم كذب. فلم يقل النبي : إنه لم يكذب إلا هذه الكذبات، وإن كانت في نفس الأمر ليست بكذبات، إلا أن صورتها كأنها صورة الكذب، وهي في الحقيقة بعيدة من الكذب، لطالب العلم أن يقول : قد قررتم لنا أن قول إبراهيم :﴿ هذا ربي ﴾ في الكوكب، وفي القمر، وفي الشمس، ليس يظن أن الكوكب رب، ولا يشك في ذلك، ولكن إذا فما معنى قوله :﴿ هذا ربي ﴾ ؟ وأين نصرف هذا اللفظ عن الاعتراف بربوبية الكوكب، والقمر، والشمس ؟ ؟
الجواب : أن العلماء خرجوا هذا على وجهين، كلاهما قد يغني عن الآخر :
الأول : الذي عليه الجمهور : أن المناظر إذا أراد أن يفحم خصمه سلم له مقدمة تسليما جدليا ليمكنه أن يفحمه ؛ لأنه إذا نفى المقدمة لا يمكن أن يفحمه. فالمعروف في فنون الجدل : أنه لا بد للخصمين من أن يتفقا على قاعدة، وإن اختلفا من الأول لا يمكن أن يفحمه. وعليه فالمعنى :﴿ هذا ربي ﴾ على التسليم الجدلي، وفي زعمكم الكافر الفاسد كما قال الله جل وعلا :﴿ أين شركاءي الذين كنتم تشاقون فيهم ﴾ [ النحل : آية ٢٧ ] فنسب إلى نفسه الشركاء ﴿ أين شركاءي ﴾ وليس له شريك ( جل وعلا ) ليقرعهم، ويوبخهم، كأنه يقول : هذا ربي على التسليم الجدلي والتنزل، وفرض المحال، وتسليم المحال، على قولكم الكاذب الفاسد، فكيف يكون الرب هو يأفل ويسقط ؟ فمقصوده بهذا ليفحمهم، فلو قال لهم عند أول وهلة : الكوكب مخلوق مسخر، لا يمكن أن يكون ربا. لقالوا له : أنت كذاب، الكوكب رب لا محالة. فلما تنزل معهم، وسلم لهم الكذب والمحال، أمكنه أن يفحمهم، وعلى هذا فمعنى قوله :﴿ هذا ربي ﴾ أي : في زعمكم الكافر الفاسد. فمن أين يكون الرب وهو يأفل ؟ أي يسقط.
الوجه الثاني : هو ما قاله بعض العلماء : من أن المقرر في علوم العربية أن الجملة إذا صدرت بهمزة استفهام أو همزة تسوية، وكان المقام يدل عليها، أن حذفها جائز، وعليه فالمعنى : أهذا ربي ؟ ! إنكارا لهم. وحذف همزة الاستفهام. قالوا : وحذف همزة الاستفهام إذا دل المقام عليه، ذهب غير واحد من علماء العربية إلى أنه جائز، وقال باطراده جماعة من النحويين، منهم : الأخفش، واعتمده ابن مالك في شرح الكافية، وقال به غير واحد.
وإذا نظرت كلام العرب وجدته كثيرا فيه، فائضا فيه، كثرة تعرف منها أنه جائز.
وهو يوجد في كلام العرب على ثلاثة أنحاء – أعني حذف همزة الاستفهام إذا دل المقام عليها : يوجد بدون ( أم )، وبدون ذكر الجواب، ويوجد بدون ( أم ) مع ذكر الجواب. وهو مع ( أم ) كثير مطرد شائع.
فمثال وجوده دون ( أم ) ودون ذكر الجواب : قول أبي خراش الهذلي – واسمه خويلد :
رفوني وقالوا يا خويلد لم ترع*** فقلت وأنكرت الوجوه هم هم
يعني : أهم هم ؟ فحذف همزة الاستفهام، ومن هذا المعنى قول الكميت :
طربت وما شوقا إلى البيض أطرب***ولا لعبا مني وذو الشيب يلعب ؟
يعني : أوذو الشيب يلعب ؟ ! فحذف همزة الاستفهام.
ومنه دون ( أم ) مع ذكر الجواب على التحقيق : قول عمر بن أبي ربيعة المخزومي :ثم قالوا :
أبرزوها مثل المهاة تهادى بين خمس كواعب أتراب
تحبها ؟ قلت بهرا عدد النجم والحصى والتراب
فقوله : " تحبها "، يعني : أتحبها ؟ ؟ وإتيانه مع ( أم ) لا تكاد تحصيه في كلام العرب وأشعارهم، فمن حذف همزة الاستفهام قبل ( أم ) قول عمر بن أبي ربيعة :
بدا لي منها معصم يوم جمرت وكف خصيب زينت ببنان
فوالله ما أدري وإني لحاسب بسبع رميت الجمر أم بثمان
يعني : أبسبع أم بثمان.
ومنه بهذا المعنى قول الأخطل :
كذبتك عينك أم رأيت بواسط*** غلس الظلام من الرباب خيالا
يعني : أكذبتك، بحذف الهمزة. كما جوزه سيبويه في كتابه خلافا للخيل. ومنه بهذا المعنى قول الأسود بن يغفر التميمي :
فوالله ما أدري وإن كنت داريا*** شعيث بن سهم أم شعيث بن منقر
يعني : أشعيث بن سهم ؟ ومنه بهذا المعنى قول أحيحة بن الجلاح الأنصاري المشهور :
وما تدري إن ذمرت سبقا لغيرك أم يكون لك الفصيل
يعني : ألغيرك.
وقول الخنساء الشاعرة :
قذى بعينيك أم بالعين عوار***
ثم قال جل وعلا :﴿ فلما رءا القمر بازغا قال هذا ربي ﴾ [ الأنعام : آية ٧٧ ] أصل البزوغ : أول الطلوع، لما رآه طالعا في أول طلوعه قال :﴿ هذا ربي ﴾ على ما بينا في غيره.
﴿ فلما أفل ﴾ أي : غاب القمر وذهب. ﴿ قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين ﴾. العلماء قالوا : قوله :﴿ لئن لم يهدني ربي ﴾ فيه وجهان من التفسير :
أحدهما : أنه تواضع من إبراهيم، كقوله هو وإسماعيل :﴿ ربنا واجعلنا مسلمين لك ﴾ [ البقرة : آية ١٢٨ ] يطلب الله أن يجعله من جملة المسلمين تواضعا لله ( جل وعلا ). وكقوله :﴿ واجنبني وبني أن نعبد الأصنام ﴾ [ إبراهيم : آية ٣٥ ] كل هذا تواضع من الأنبياء ( صلوات الله وسلامه عليهم )، وإظهارهم للفقر والعجز بين يدي الله ( جل وعلا )، ولذا قال :﴿ لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين ﴾ [ الأنعام : آية ٧٧ ].
الثاني : هو ما قال بعض العلماء : أن هذا تعريض بقومه، يعني من لم يهده الله فإنه ضال، فكيف تضلون وتعبدون من دون الله أجراما لا تنفع ولا تضر، وليس بيدها شيء ؟ والمعنى : من لم يهده الله فلا هادي له، فهو ضال، كأنه تعريض بقومه على هذا القول.
ثم لما رأى الشمس ﴿ فلما رءا الشمس بازغة ﴾ أي : طالعة ﴿ قال هذا ربي ﴾ [ الأنعام : آية ٧٨ ] والمعنى : هذا الطالع المنير ربي، فعبر عنها بالمعنى، هذا الطالع المنير ربي. قال بعض العلماء : ووجه تذكيره لأنه لا ينبغي أن يطلق على الرب اسم أنثى، ولو على لفظه ؛ ولذا قال :﴿ هذا ربي ﴾ هذا الطالع المنير ربي.
ثم قال :﴿ هذا أكبر ﴾ هذا من التنزل كالأول، يعني : هذا أكبر من الكوكب ومن القمر، فحذف ( من ) وما بعدها، هذا أكبر من الكوكب ومن القمر، ومقصوده ب﴿ هذا أكبر ﴾ هو إسقاط الشمس أيضا ؛ لأن الأكبر الأعظم إذا كان يتصف بصفة النقص فصفة النقص أعظم في الكبير الجليل منها في الصغير الحقير.
﴿ فلما أفلت ﴾ أي : غابت الشمس ﴿ فلما أفلت ﴾ أقام عليهم الحجة ثلاث مرات، فأظهر حقيقة أمره، وقد قضى وطره من التنزل لهم حتى ألقمهم الحجر، فصرح لهم بعقيدته، قال لهم :﴿ يا قوم إني بريء مما تشركون ﴾ أبرأ إلى الله مما تعبدون من دونه.
ثم قال :﴿ إني وجهت وجهي ﴾ [ الأنعام : آية ٧٩ ] أي : أخلصت عبادتي وقصدي ﴿ للذي فطر السماوات والأرض ﴾ للقادر النافع الضار الذي هو الخالق الرازق. وقوله :﴿ للذي فطر السماوات والأرض ﴾ يشير به إلى أن علامة استحقاق العبادة شيء واحد، والعلامة لمن يستحق العبادة شيء واحد، وهو أنه الذي يخلق ويبرز من العدم إلى الوجود، فمن يبرزك من العدم إلى الوجود هذا ربك الذي يستحق أن تعبده، ومن لا يقدر على إبرازك من العدم إلى الوجود فهو عبد مربوب محتاج إلى خالق يعبده مثلك ؛ ولذا قال تعالى :﴿ يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم ﴾ [ البقرة : آية ٢١ ] وقال :﴿ أفمن يخلق كمن لا يخلق ﴾ [ النحل : آية ١٦ ] لا والله ﴿ أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء ﴾ [ الرعد : آية ١٦ ] وخالق كل شيء هو المعبود وحده.
ومعنى :﴿ فطر السماوات والأرض ﴾ [ الأنعام : آية ٧٩ ] فطرهما يعني : خلقهما واخترعهما على غير مثال سابق. ف( الفطر ) معناه : الاختراع والابتداع على غير مثال سابق، روي عن ابن عباس ( رضي الله عنهما ) أنه قال : ما كنت أتحقق حقيقة معنى ﴿ فاطر السماوات والأرض ﴾ [ الأنعام : آية ١٤ ] حتى اختصم إلي أعرابيان في بير، فقال أحدهما : إنها بيري، وأنا الذي فطرتها. يعني : اخترعتها، وابتدأت حفرها. فعلمت أن العرب تطلق هذا على اختراع الفعل وابتدائه. وهذا معنى قوله :﴿ إني وجهت وجهي ﴾ أي : أخلصت عبادتي وقصدي للذي خلق السماوات والأرض.
﴿ فطر السماوات والأرض ﴾ أي : خلقهما وابتدعهما بما فيهما.
﴿ حنيفا ﴾ أي : حال كوني حنيفا، أي : مائلا عن الدين الباطل إلى دين الحق، أصل الحنيف :( فعيل ) من ( الحنف ) بفتحتين، و( الحنف ) أصله في لغة العرب أن يميل مقدم الرجل اليمنى إلى جهة اليسرى، ويميل مقدم الرجل اليسرى إلى جهة الرجل اليمنى، فيقال للرجل :( أحنف )، وللمرأة :( حنفاء ). وقد كان كذلك الأحنف بن قيس المشهور، وقد قالت أمه ترقصه وهو صغير :
والله لولا حنف برجله ما كان في فتيانكم من مثله
فهذا الميل صار حقيقة عرفية في الميل عن الدين الباطل إلى دين الحق، فمعنى ﴿ حنيفا ﴾ : مائلا عن كل دين باطل إلى دين الله الصحيح.
﴿ وما أنا من المشركين ﴾ [ الأنعام : آية ٧٩ ] يعني في قوله :﴿ هذا ربي ﴾ [ الأنعام : آية ٧٦ ] لست أشرك بربي شيئا، ولا أعتقد ربوبية كوكب، ولا شمس، ولا قمر. هذا هو الظاهر في هذه الآيات الكريمة أن نبي الله إبراهيم مناظر لا ناظر، وأنه يريد بهذا التنزل : التوصل إلى إفحام خصومه بدليل قوله :
﴿ وحاجه قومه ﴾ [ الأنعام : آية ٨٠ ] حاجه : أصله ( حاججه ) من ( المحاججة )، بأن يدلي كل منهما بحجته ضد الآخر، وكل كلام يدلي به خصم ضد آخر يسمى :( حجة ) ولو كان في غاية البطلان، كما قال تعالى في قوم أدلوا بكلام باطل :﴿ حجتهم داحضة عند ربهم ﴾ [ الشورى : آية ١٦ ] فهو يطلق على كل ما أدلى به خصم ضد آخر، تقول له العرب :( حجة )، و( المفاعلة ) :( حاج ) أصلها :( حاجج )، على وزن ( فاعل ) أدغمت إحدى الجيمين في الأخرى.
﴿ وحاجه قومه ﴾ قوم الرجل أصلهم : جماعته، و( القوم ) في وضع اللسان العربي يطلق على الذكور خاصة، وربما دخل فيهم الإناث بحكم التبع. فالدليل على إطلاقه على الذكور خاصة في الوضع العربي قوله تعالى :﴿ لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ﴾ ثم قال :﴿ ولا نساء من نساء ﴾ [ الحجرات : آية ١١ ] فعطف النساء عليهم يدل على اختصاص اسم ( القوم ) بالذكور دون الإناث، ونظيره من كلام العرب قول زهير بن أبي سلمى :
وما أدري وسوف إخال أدري *** أقوم آل حصن أم نساء
والدليل على دخول النساء في اسم ( القوم ) بحكم التبع قوله تعالى في بلقيس :﴿ وصدها ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين ﴾ [ النمل : آية ٤٣ ] دخلت بالتبع، بدليل قرينة السياق.
ومعنى محاجة قومه له : أنهم قالوا له : كيف تدعي أن المعبود واحد، وأن العالم كله يدبر شؤونه ويسمع نداءه معبود واحد ؟ هذا لا يمكن ! ! كما قال قوم نبينا له :﴿ أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب ﴾ [ ص : آية ٥ ] فقالوا له : من يعبد آلهة متعددة خير ممن يقتصر على واحد ؛ لأن هؤلاء المتعددين تتكرر بهم الشفاعة من جهات، وهذا واحد. ومحاججتهم له في توحيد الله ؛ ولذا قال :﴿ أتحاجوني في الله ﴾ [ الأنعام : آية ٨٠ ] دل ذلك على أن محاججتهم في الله وفي عبادته، قال منكرا عليهم :﴿ أتحاجوني ﴾ قرأ هذا الحرف عامة القراء، ما عدا نافعا وحده، وابن ذكوان عن ابن عامر، وهشام عن ابن عامر – بخلاف عنه – قرأه كلهم :﴿ أتحاجوني ﴾ بتشديد النون، وقرأه نافع برواية ورش وقالون وهشام – بخلف عنه – عن ابن عامر كذلك ﴿ أتحاجوني ﴾ بتخفيف النون. والياء مثبتة عند جميع القراء، فهما قراءتان سبعيتان ﴿ أتحاجوني ﴾ وهذه قراءة الجمهور، وقراءة نافع وهشام – في إحدى الروايتين :﴿ أتحاجوني ﴾ بنون بعدها ياء، نون مخففة.
أما قراءة الجمهور فلا إشكال في الآية عليها، أصلها تأتي هنا نونان، النون الأولى : نون الرفع، والثانية : نون الوقاية، فأدغمت إحدى النونين في الأخرى، وهذا لا إشكال فيه.
أما على قراءة نافع :﴿ أتحاجوني في الله ﴾ وقرأ بها هشام عن ابن عامر – في إحدى الروايتين ﴿ أتحاجوني في الله ﴾ فقد استشكلها بعض العلماء، وذكر عن بعض علماء العربية أنه قال : قراءة نافع في هذا لحن ! ! وهذا خطأ، بل هي قراءة فصيحة، ولغة عربية فصحى، قرأ بها نافع في حروف كثيرة من القرآن، في قوله هنا في الأنعام :﴿ أتحاجوني في الله ﴾ وفي قوله في الزمر :﴿ أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون ﴾ [ الزمر : آية ٦٤ ] وفي قوله في النحل :﴿ أين شركاءي الذين كنتم تشاقون فيهم ﴾ [ النحل : آية ٢٧ ] وفي قوله في الحجر :﴿ فبم تبشرون ﴾ [ الحجر : آية ٥٤ ] بكسر النون. كل هذه الحروف قرأها نافع على هذه الوتيرة. والتحقيق في هذا : أن هذه لغة فصحى، كما جزم به سيبويه أن من عادة العرب إذا اجتمع مثلان أن يخففوا ويحذفوا أحد المثلين، وأنشد له سيبويه قول عمرو بن معدي كرب الزبيدي :
تراه كالثغام يعل مسكا *** يسوء الفاليات إذا فلين
قال : الأصل : فلينني. فلما اجتمع نونان حذفت إحداهما. والتحقيق المقرر في علوم العربية : أن نون الرفع المعروفة في الأفعال الخمسة أنها لها حالات متعددة – لها تقريبا خمس حالات في ثلاث حالات يجب حذفها بقياس مطرد، وهذه الثلاث التي يجب فيها حذف نون الرفع :
أولها : ما إذا دخل عليها جازم.
والثانية : إذا دخل عليها ناصب. وقد جمعهما قوله :﴿ فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا ﴾ [ البقرة : آية ٢٤ ].
الثالثة : إذا دخلت عليها نون التوكيد الثقيلة نحو :﴿ لتبلون ﴾، فإنها يجب حذفها في هذه الأمور الثلاثة بقياس مطرد. ما إذا تقدمها جازم، أو تقدمها ناصب، أو دخلت عليها نون التوكيد الثقيلة. فتحذف نون الرفع باطراد، وبقاؤها مع الجازم أو الناصب لغات قليلة مسموعة، وبقاؤها مع الجازم كقول الشاعر :
لولا فوارس من نعم وأسرتهم*** يوم الصليفاء لم يوفون بالجار
فهذه لغة قليلة تحفظ ولا يقاس عليها. وكبقائها مع الناصب، كقول الشاعر :
أن تقرآن على أسماء ويحكما*** مني السلام وأن لا تشعرا أحدا
هذا أيضا كذلك.
أما الموضع الرابع : فهو يجوز فيه حذفها وإبقاؤها بقياس مطرد، كأن تجتمع نون الرفع مع نون الوقاية – كهذه الآيات التي ذكرنا – فإنها يجوز إثبات نون الرفع كقراءة الجمهور، ويجوز حذفها كقراءة نافع، وقد غلط من ظن أن النون المحذوفة أنها نون الوقاية، فالمحذوفة نون الرفع.
الموضع الخامس : هو أن تحذف نون الرفع لغير واحد من الأسباب الأربعة – لأن لا يدخل عليها ناصب، ولا جازم، ولا تكون مع نون التوكيد الثقيلة، ولا مع نون الوقاية – فحذفها في مثل هذا شاذ يحفظ ولا يقاس عليه، كقول الراجز :
أبيت أسري وتبيتي تدلكي *** وجهك بالعنبر والمسك الذكي
فالتحقيق أن قراءة نافع في هذا الحرف وفي غيره أنها على لغة عربية فصحى.
ومعنى الآية الكريمة : أتحاجونني، أتجادلونني في الله، وأني لا أعبده وحده، والحال قد هداني ربي، وشرح صدري بما أوحى إلي، وبما أراني من ملكوت السماوات والأرض حتى صرت من الموقنين، أبعد هذا من العلم واليقين الذي أعطاني الله، تحاجونني وتجادلونني في الله، في أنه المعبود وحده ؟ هذا مما لا يكون ولا يصح. ثم إنهم قالوا له على عادة الكفار : ترى أنك عبت آلهتنا وأصنامنا، وعبتها وكسرتها، وقلت : إنها لا تنفع ولا تضر. ترى أنها ستصيبك ببرص أو جذام أو تخبلك فتجننك ! ! وهذه عادة الكفار، يخوفون أنبياء الله من أصنامهم. فأجابهم إبراهيم قال لهم :﴿ ولا أخاف ما تشركون به ﴾ قال لهم : لا أخاف ما تشركون به ؛ لأنه لا ينفع ولا يضر، ولا يترقب منه خوف ولا نفع، فلا أخافه أبدا.
والتحقيق في الاستثناء في قوله :﴿ إلا أن يشاء ربي شيئا ﴾ أنه استثناء منقطع. هذا هو التحقيق، والمعنى : لكن إن شاء ربي أمرا مخوفا أوقعني فيه، أما أصنامكم فليس منها خوف، وليس منها نفع ؛ لأنها جمادات لا تنفع ولا تضر. وهذا هو التحقيق، خلافا لقوم زعموا أن الاستثناء متصل، وقالوا : لا أخاف من معبوداتكم إلا أن يشاء الله أن يجعل لي منها ضررا، كأن يسقط علي قطعة من القمر الذي تعبدون، أو من الشمس الذي تعبدون، وأن يخلق في الحجارة عقولا وقوة تبطش بي بها. هذا كله خلاف التحقيق.
والتحقيق أن الاستثناء منقطع، وأن المعنى : ولا أخاف ما تشركون به شيئا، فلا أخاف ما تشركون به، ثم إنه لما نفى الخوف عن نفسه استثنى مشيئة الله، إلا أن يشاء الله أن يخوفني بما شاء، فله في ذلك ما شاء، والاستثناء استثناء منقطع، والتحقيق : أن الاستثناء المنقطع جائز في لغة العرب، وفي كلام العرب، خلافا للمقرر في أصول الإمام أحمد بن حنبل، فالمقرر في الأصول عند ثلاثة من الأئمة : مالك، والشافعي، وأبي حنيفة، أن الاستثناء المنقطع صحيح، وأنه جائز في القرآن وفي كلام العرب، خلافا للمقرر في أصول الإمام أحمد بن حنبل أن الاستثناء المنقطع لا يجوز ؛ لأن غير ما دخل لا يمكن أن يخرج بالاستثناء، وحجة الجمهور ورود الاستثناء في القرآن وفي كلام العرب، ومن ورود الاستثناء المنقطع في القرآن :﴿ ما لهم به من علم إلا اتباع الظن ﴾ [ النساء : آية ١٥٧ ] فاتباع الظن ليس من جنس العلم، وكقوله :﴿ وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ﴾ [ الليل : الآيتان ١٩، ٢٠ ].
فليس من جنس نعمة لأحد عنده، وكقوله :﴿ لا يسمعون فيها لغوا ﴾ ﴿ إلا سلاما ﴾ [ الواقعة : الآيتان ٢٥، ٢٦ ] فالسلام ليس من جنس اللغو. وهو كثير في كلام العرب، ومن أمثلته في كلام العرب قول نابغة ذبيان :
وقفت فيها أصيلانا أسائلها*** عيت جوابا، وما بالربع من أحد
إلا الأواري لأيا ما أبينها*** والنؤي كالحوض بالمظلومة الجلد
فالأواري التي هي مرابط الخيل ليست من جنس الأحد. وكقول الراجز :
وبلدة ليس بها أنيس *** إلا اليعافير وإلا العيس
وذلك ليس من جنس الأنيس. وقول الفرزدق :
وبنت كريم قد نكحنا ولم يكن*** لها خاطب إلا السنان وعامله
فالسنان ليس من جنس الخاطب.
وينبني في الأصول على الخلاف في الاستثناء المنقطع : ما لو قال رجل في إقراره : أقر لزيد أن له علي ألف دينار إلا ثوبا. فالذين قالوا بجواز الاستثناء المنقطع، قالوا : تسقط قيمة الثوب من الألف. وعلى مذهب الإمام أحمد ابن حنبل – المانع للاستثناء المنقطع – لا يسقط من الألف شيء ؛ لأن الثوب ليس من جنس الدنانير التي أقر بها.
وعلى هذا فالمعنى :﴿ ولا أخاف ما تشركون به ﴾ لا أخاف الأصنام التي تشركونها بالله ( جل وعلا ). فالتحقيق في الضمير في ( به ) أنه عائد إلى الله. ( تشركونها بالله ) أي : به ( جل وعلا ). لا أخافها لأنها لا تنفع ولا تضر. ثم استثنى وقال :﴿ إلا أن يشاء ربي شيئا ﴾ لكن إن شاء ربي مخوفا أن يوقعني فيه فله ( جل وعلا ) ما شاء، فالاستثناء منقطع، وليس المراد أنه استثنى مخافة من الأصنام أبدا ؛ لأنها جماد لا ينفع ولا يضر، والاستثناء منقطع، كما جزم به غير واحد من المحققين، وقد غلط من جعله متصلا، كمن قال : إن الله قادر على أن يخلق في الأصنام عقولا وبطشا تضره به، وقادر على أن يسقط عليه فلقة من القمر الذي يعبدون فتضره ! ! هذا بعيد من كلام العرب، والظاهر ما ذكرنا. وهذا معنى قوله :﴿ ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا ﴾ يخوفني به فمشيئة الله نافذة كائنة ما كانت.
﴿ وسع ربي كل شيء علما ﴾ ﴿ علما ﴾ تمييز محول عن الفاعل. والمعنى : وسع علمه كل شيء، فهو عالم بكل شيء، وعلمه المحيط بكل شيء إذا أحاط بأنه يجعلني في مخافة فذلك حقيق، فلما نفى الخوف من الأصنام تدارك وقال : لا يمكنني أن أنفي الخوف، بل أنيطه بمشيئة الله، إذا شاء أن يخيفني أخافني، وإلا فلا. هذا معنى الكلام.
ثم قال :﴿ أفلا تتذكرون ﴾ أفلا تتعظون وتعلمون أنني لا ينبغي لي أن أخاف من جمادات لا تنفع، مع أنكم لا تخافون من شديد البطش، ملك السماوات والأرض، حيث تكفرون به، وتصرفون حقوقه لغيره ؛ ولذا أتبعه بقوله :
﴿ وكيف أخاف ما أشركتم ﴾ [ الأنعام : آية ٨١ ] في غاية الإنكار، كيف أخاف هذه الجمادات التي أشركتموها بالله، لا تنفع ولا تضر، وأنتم لا تخافون جبار السماوات والأرض، حيث تكفرون به، وتشركون به غيره ؟
﴿ ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به ﴾ ( ما ) موصلة، وهي في محل المفعول ل :﴿ أشركتم ﴾ أي : أشركتم بالله الشيء الذي لم ينزل به سلطانا. أي : حجة.
وهذه الآية الكريمة تدل على أن نفي الشيء لا يدل على إمكانه ؛ لأن نفي السلطان عن الآلهة لا يدل على إمكانه، كقوله :﴿ وما ظلمونا ﴾ [ البقرة : آية ٥٧ ] فنفيه ظلمهم عنه لا يدل على إمكانه، فهذا يدل على أن نفي الفعل لا يدل على إمكانه، كما قال جل وعلا :﴿ ومن يدع مع الله إلها ءاخر لا برهان له به ﴾ [ المؤمنون : آية ١١٧ ] فنفي البرهان لا يدل على إمكان البرهان، إذ لا يقوم عليه برهان أبدا. وهذا معنى قوله :﴿ وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا ﴾ [ الأنعام : آية ٨١ ] أي : حجة واضحة.
ثم قال :﴿ فأي الفريقين أحق بالأمن ﴾ أي الفريقين أحق بالأمن، أهو الفريق الذي يعبد الله، ويوحد الله، ويطيع الله، الذي بيده النفع والضر، ويرقب ويرجى من قبله كل شيء، أو هذا الذي يكفر بالله، ويغضبه، ويسخطه، ويصرف حقوقه للجمادات ؟ أي هذين الفريقين أحق بالأمن والسلامة من الآخر ؟ الجواب : أن فريق الله الذي يعبده ويوحده ويطيعه لا شك أنه أحق بالأمن ؛ ولذا قال :﴿ الذين ءامنوا ﴾ [ الأنعام : آية ٨٢ ]
﴿ الذين ءامنوا ﴾ [ الأنعام : آية ٨٢ ] وهم إبراهيم ﴿ ولم يلبسوا إيمانهم بظلم ﴾ أي : لم يخلطوا إيمانهم بشرك ﴿ أولئك لهم الأمن وهم مهتدون ﴾ وقد ثبت في صحيح البخاري، في تفسير هذه الآية الكريمة، أنه لما نزل قوله :﴿ الذين ءامنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم ﴾ شق ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا : أينا لم يظلم نفسه ؟ فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : " ليس الذي تريدون ". ثم تلا قوله : " ﴿ إن الشرك لظلم عظيم ﴾ [ لقمان : آية ١٣ ] " وبين لهم أن المراد بالظلم هنا : الشرك.
وكان الزمخشري يقول : لا يمكن أن يفسر الظلم هنا بالشرك ؛ لأن الله يقول :﴿ إيمانهم بظلم ﴾ لأن الشرك لا يختلط مع الإيمان ؛ لأنهما ضدان. وهذا في الحقيقة أمر غير صحيح ؛ لأن الله يقول :﴿ وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ﴾ [ يوسف : آية ١٠٦ ] فإنه يؤمن بربوبية الله ( جل وعلا )، وبأنه النافع الرازق، ويشركون معه غيره في عبادته، كما قال تعالى :﴿ وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ﴾ وقد جاء في بعض الأحاديث : أن النبي صلى الله عليه خرج في سفر من أسفاره من المدينة، ثم بعد ذلك لحق بهم بدوي راكب على بعير، وقد قال للنبي صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله، إني أتيتك من بلادي وتلادي، أريد أن تعلمني مما علمك الله، وأدخل في دينك، فعلمه النبي شرائع الإسلام، وآمن على يد النبي صلى الله عليه وسلم إيمانا صحيحا، وفي ذلك الوقت سقطت يد بعيره في جحر في الليل، فانكسر عنقه فمات، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : " هذا من الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم ". لأنه عندما آمن إيمانا صحيحا نقيا أخذه الله إليه.
وفي بعض الروايات : فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم : " إنه رأى ملكا يدس في فيه من ثمار الجنة ؛ لأنه مات جائعا ". جاء هذا في أحاديث مرفوعة، الله أعلم بأسانيدها.
وقوله جل وعلا :﴿ الذين ءامنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم ﴾ أي : لم يخلطوا إيمانهم بشرك ﴿ أولئك لهم الأمن ﴾ كإبراهيم ومن سار على سيره. ﴿ وهم مهتدون ﴾ على طريق صحيحة.
يفهم من مفهوم مخالفة الآية : أن الذين لم يؤمنوا، وكانوا يلبسون كل شيء بظلمهم، وكفرهم، وعبادتهم للأصنام لا أمن لهم في الدنيا، ولا في الآخرة، وليسوا مهتدين. هذا معنى الآية الكريمة.
يقول الله جل وعلا :﴿ وتلك حجتنا ءاتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشأ إن ربك حكيم عليم ﴾ [ الأنعام : الآية ٨٣ ].
وفي هذا الحرف قراءتان سبعيتان : قرأه أربعة من السبعة : نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر :﴿ نرفع درجات من نشأ ﴾ غير منون مضافا إلى ( من )، وقرأه الكوفيين – عاصم، وحمزة، والكسائي – ﴿ نرفع درجات من نشأ ﴾ بتنوين درجات، وإدغام نون التنوين في الميم.
ومعنى الآية الكريمة :﴿ وتلك حجتنا ﴾ اختلف العلماء في المشار إليه بقوله :﴿ وتلك حجتنا ﴾ فعن مجاهد : أن الحجة المشار إليها بقوله :﴿ وتلك حجتنا ﴾ أنها قول نبي الله إبراهيم :﴿ وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا ﴾ [ الأنعام : آية ٨١ ]. قال : لما خوفوه أصنامهم، وزعموا أنها تخبله وتستجلب له البرص ونحوه، قال لهم : كيف أخاف أصناما لا تنفع ولا تضر، وأنتم تشركون مع الله غيره ولا تخافونه ؟ قال مجاهد وغيره : هذه هي حجة الله التي آتاها إبراهيم. والظاهر أن الإشارة في قوله :﴿ وتلك حجتنا ﴾ راجعة إلى المناظرة كلها، من قوله :﴿ فلما جن عليه الليل رءا كوكبا قال هذا ربي ﴾ [ الأنعام : آية ٧٦ ]. كما جزم به غير واحد، وهو الصواب، أما عدم الخوف من الأصنام، فهذا أمر حجته أعطيت لجماعة من الرسل، ولم يخص بها إبراهيم، ألا ترى أن قوم هود قالوا له : إن بعض آلهتهم اعتراه بسوء، كما نص الله عليه في قوله :﴿ إن يقول إلا اعتراك بعض ءالهتنا بسوء ﴾ [ هود : آية ٥٤ ]. قولهم :﴿ إن نقول إلا اعتراك بعض ءالهتنا بسوء ﴾ يعنون : أن بعض معبوداتهم مس نبي الله هودا بسوء، حتى جعله مجنونا مختبلا، يقول : اعبدوا الله، اعبدوا الله، اعبدوا الله. كأن هذا عندهم هذيان وجنون، وأن آلهتهم خبلته، حتى صار يقول هذا. فأجابهم نبي الله هود :﴿ إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو ءاخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم ﴾ [ هود : الآيات ٥٤ ٥٦ ] وقد بين الله في سورة الزمر، أنهم خوفوا نبينا صلى الله عليه وسلم بآلهتهم، ثم أمره أن يقول : إنها لا تنفع ولا تضر، لا تكشف ضرا ولا تستجلب نفعا. وذلك في قوله :﴿ أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه ﴾ [ الزمر : آية ٣٦ ] يعني يهددونك بالأصنام أن تضرك كما خوفوا بها إبراهيم وهودا على الجميع صلوات الله وسلامه عليه. ثم إن الله أمر نبيه أن يبين أنها لا تنفع ولا تضر، في قوله بعد الآية التي ذكرنا :﴿ قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله ﴾ الآية. [ الزمر : آية ٣٨ ]. وهذا مما يبين أن الحجة التي آتاها الله نبيه إبراهيم هي إفحامه الخصوم، ومناظرته لهم جميعا ؛ ذلك أنهم كانوا يعبدون كواكب مسخرة، ويعبدون أصناما أرضية، وأجراما سماوية، فقال لهم في الأجرام الأرضية :﴿ أتعبدون ما تنحتون ﴾ [ الصافات : آية ٩٥ ] ﴿ أف لكم ولما تعبدون من دون الله ﴾ [ الأنبياء : آية ٦٧ ] ﴿ هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون ﴾ [ الشعراء : الآيتان ٧٢ ٧٣ ] ﴿ لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا ﴾ [ مريم : آية ٤٢ ] هذا في الأجرام الأرضية، وهي أصنامهم، وقد أشار له في هذه الآيات بقوله :﴿ وإذ قال إبراهيم لأبيه ءازر أتتخذ أصناما ءالهة إني أراك وقومك في ضلال مبين ﴾ [ الأنعام : آية ٧٤ ] حيث تعبدون ما لا ينفع ولا يضر، وتتركون عبادة الخالق الرازق النافع الضار. ثم ناظرهم في عبادتهم الأجرام السماوية، فلما رأى كوكبا :﴿ قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الأفلين ﴾ [ الأنعام : آية ٧٦ ] فكأنه يتنزل لهم في المناظرة ويسلم لهم مقدمة باطلة، هي مقدمة كفر، يسلمها لهم على زعمهم الفاسد الكافر ؛ ليمكنه إفحامهم، ويبين لهم أن الأفول صفة نقص محققة، تنافي صفات الربوبية، فاتصافه بالأفول ينافي كونه ربا، كما بينه، وكأنها نتيجة ترتبت على مقدمتين :
إحداهما : كون ذلك المزعوم معبودا، كونه آفلا. وهذه في قوله :﴿ فلما أفل ﴾ لأن أصل المعنى : رأى كوكبا فأفل ﴿ فلما أفل قال لا أحب الأفلين ﴾ بحذف الفاء وما عطفت عليه. فقوله ﴿ فلما أفل ﴾ تضمنت مقدمة معناها : هذا الجرم آفل.
ثم رتب المقدمة الأخرى :﴿ لا أحب الأفلين ﴾ لا أحب أن أعبد من يتصف بصفة الأفول والغيبوبة ؛ لأنها صفة نقص، تدل على النقص والتسخير، فمن كان كذلك لا يستحق أن يكون ربا. فهذا نظر عقلي صحيح، واستنتاج صحيح، وقد تقرر عند عامة النظار أن الاستنتاج العقلي إذا كان على طريقه الصحيحة أنه أمر صحيح. وقالوا : نوه الله بشأنه حيث جعله حجة أضافها لنفسه، وآتاها إبراهيم على قومه، حيث قال :﴿ وتلك حجتنا ءاتيناها إبراهيم ﴾ [ الأنعام : آية ٨٣ ].
ومعلوم أن النظر العقلي أنه محصور في أربعة أنواع ؛ لأن المستدل به : إما وجود، وإما عدم. والمستدل عليه : إما وجود، وإما عدم. فتضرب حالتي الدليل في حالتي المدلول، اثنين باثنين : بأربعة. بسطها وتصطيحها : استنتاج وجود من وجود، واستنتاج عدم من عدم، استنتاج عدم من وجود، واستنتاج وجود من عدم. هذا معروف.
مثال استنتاج الوجود من الوجود : هو استنتاج وجود خالق هذا الكون من وجود هذا الكون على هذه الأساليب الغربية العجيبة، الدالة على أن له خالقا مدبرا هو الرب المعبود وحده، كما قال تعالى :﴿ إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب ﴾ [ آل عمران : آية ١٩٠ ] فبين أن وجود هذا الكون دليل على وجود صانعه، فهو وجود يلزم منه عقلا وجود خالق مدبر، هو الرب المعبود.
ومثال استنتاج العدم من العدم : قوله تعالى ﴿ لو كان فيهما ءالهة إلا الله لفسدتا ﴾ [ الأنبياء : آية ٢٢ ] فهنا : عدم فساد السماوات والأرض يستلزم عدم تعدد الآلهة. فهو عدم ينتج عدما، كما في قوله :﴿ لو كان فيهما ءالهة إلا الله لفسدتا ﴾ فعدم الفساد المشاهد يلزمه عدم تعدد الآلهة.
وكذلك ربما يستنتج عدم من وجود – كما في هذه الآية – فإن أفول الكوكب صفة وجودية عاينوها بالحس فيه، استنتج منها عدم الربوبية، حيث قال :﴿ لا أحب الأفلين ﴾ [ الأنعام : آية ٧٦ ].
وأما استنتاج الوجود من العدم : فهو معروف باستنتاج عدم النقيض من وجود نقيضه، أو مساوي نقيضه، كما هو معروف.
والشاهد أن نبي الله إبراهيم ناظر قومه مناظرة عقلية، بين لهم فيها أن هذه المعبودات التي يزعمونها أربابا هي آفلة، وهذه المقدمة – التي كون تلك المعبودات آفلة – مقدمة قطعية ؛ لأنها تدرك بالحواس، فهم يشاهدون أفولها بأعينهم، فهي مقدمة لا يمكن إنكارها. ثم رتب لهذه المقدمة المحسوسة مقدمة عقلية ضمها معها، أشار لها بقوله ﴿ لا أحب الأفلين ﴾ هي أن الأفول صفة نقص لا شك فيها، تدل على حدوث وتسخير، وهذه تنافي صفات الربوبية، فالآفل لا يمكن أن يكون ربا. ثم قال لهم مثل هذا في الشمس والقمر، حتى ألقمهم الحجر. ثم بعد ذلك بين لهم معتقده، وأظهر حقيقته، وقال :﴿ إني بريء مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين ﴾ [ الأنعام : الآيتان ٧٨ ٧٩ ] وكان الله ( جل وعلا ) أعطى إبراهيم حسن الحجج والمناظرة، واللطف فيها. من ذلك أنه لما ناظر نمرود، وهو الذي بعث إبراهيم في زمن ولايته، وكان ملكا جبارا طاغيا، نمرود بن كنعان بن سنجاري بن كوش بن سالم بن نوح، الفاجر المعروف، كما قال له : من ربك الذي تدعونا إليه ؟ ﴿ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت ﴾ [ البقرة : آية ٢٥٨ ] وكان نمرود جاهلا، فأخذ رجلين، أحدهما كان محكوما عليه بالقتل فأطلقه، وأخذ آخر بريئا فقتله، فقال : هذا كان حيا فأنا أمته، وهذا كان سيموت الآن فأنا أحييته ! ! فلما أعطاه الله من الحجة وحسن المناظرة لم يقل له : هذه ليست الحياة التي أريد، ولا الموت الذي أريد. بل ترك له هذا كله، ولم يجبه بشيء منه، وقال :﴿ فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب ﴾ فزعموا في قصته أنه أولا أراد أن يكذب وأن يقول : أنا هو الذي آتي بها من المشرق، فقل لربك يأتي بها من المغرب ! ! فنظر فإذا في المجلس رجال كبار السن، يعلمون الشمس تطلع من المشرق، يطلعها الله قبل أن يولد نمرود، فخاف أن يكذبوه فيفتضح في المجلس، فبهت الذي كفر. هذه المناظرات التي يفحم بها الخصوم، كما في آية الأنعام هذه، هي التي نوه الله بشأنها، وأضافها إلى نفسه، وقال : إنه آتاها إبراهيم، معظما نفسه ﴿ وتلك حجتنا ﴾ تلك الحجة التي أفحم بها الخصوم حجتنا، أضافها الله لنفسه تشريفا وإعظاما.
﴿ ءاتيناها ﴾ أي : أعطيناها ﴿ إبراهيم ﴾، فهمناه إياها، وألهمناه إياها ﴿ على قومه ﴾، هذه الحجة يحتج بها على قومه الكفرة الذين يجادلونه، كما قال :﴿ وحاجه قومه ﴾ [ الأنعام : آية ٨٠ ] حتى يفحمهم ويلقمهم الحجر.
ثم قال :﴿ نرفع درجات من نشاء ﴾ [ الأنعام : آية ٨٣ ] هذه الآية تدل على أن من علمه الله الحجج، ومناظرات الخصوم التي يثبت بها التوحيد، ويدفع بها شبه المبطلين، أن هذا رفع من الله في درجاته، حيث أتبع قوله :﴿ حجتنا ءاتيناها إبراهيم ﴾ أتبعه بقوله :﴿ نرفع درجات من نشاء ﴾ أي : كما رفعنا درجة إبراهيم، بما آتيناه من تلك الحجة التي صدع بها بالحق، وقهر بها الخصوم.
أما على قراءة الجمهور :﴿ نرفع درجات من نشاء ﴾ بالإضافة، فالدرجات : مفعول به ل﴿ نرفع ﴾ و﴿ من نشاء ﴾ مضاف إليه ما قبله. ومن رفعت درجاته فقد رفع، كقوله :﴿ رفيع الدرجات ﴾ وفي الحديث : " اللهم ارفع درجته " والدرجة : المرتبة والمنزلة، فإن من رفعت درجته ومنزلته فقد رفع، وعلى هذا فمعناه : نرفع رتب ومنازل من نشاء أن نرفع رتبته ومنزلته.
أما على قراءة الكوفيين – عاصم، وحمزة، والكسائي :﴿ نرفع درجات من نشأ ﴾ ف﴿ من ﴾ الموصلة هي مفعول ﴿ نرفع ﴾ أي : نرفع من نشاء رفعه، نرفعه درجات.
وفي إعراب ﴿ درجات ﴾ على هذه القراءة أوجه معروفة للعلماء :
أحدهما : أنها ما ناب عن المطلق ؛ لأن معنى نرفع من نشاء درجات أي : رفعات عالية، فالدرجة في معنى الرفع، فهي في معنى المفعول المطلق لا بلفظه.
وقوم قالوا : هي منصوبة بنزع الخافض. أي : نرفعه في درجات. إلى غير ذلك من الأعاريب.
ومفعول المشيئة محذوف، ( نرفع درجات من نشاء رفع درجاته ). أو :( نرفع درجات من نشاء رفعه ). فعلى الإضافة : فالتقدير :( نرفع درجات من نشاء رفع درجاته ). وعلى التنوين : فالتقدير :( نرفع درجات من نشاء رفعه ). هذا معناه.
﴿ إن ربك ﴾ جل وعلا ﴿ حكيم عليم ﴾ الحكيم في الاصطلاح : هو من يضع الأمور في مواضعها، ويوقعها في مواقعها. فالله ( جل وعلا ) حكيم لا يضع أمرا إلا في موضعه، ولا يوقعه إلا في موقعه، ولا يأمر إلا بما فيه الخير، ولا ينهى إلا عما فيه الشر، ولا يعذب إلا من يستحق، وهو ( جل وعلا ) ذو الحكمة البالغة، له الحجة والحكمة البالغة. وأصل ( الحكيم ) : هو المتصف بالحكمة. وأصل ( الحكمة ) :( فعلة ) من الحكم. وأصل مادة ( الحكم ) في لغة العرب : أصلها معناه ( المنع ). تقول العرب : " حكمه وأحكمه " إذا منعه.
أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم إني أخاف عليكم أن أغضبا
لنا في كل
﴿ ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ﴾ [ الأنعام : آية ٨٤ ]، صيغة الجمع في قوله ﴿ ووهبنا ﴾ للتعظيم، ومعنى ﴿ وهبنا له ﴾ : أعطيناه إياهما. وقد بين الله ( جل وعلا ) أن هبته إياه إسحاق كانت على كبر عظيم منه، وعلى كبر من امرأته، بحيث لا يحمل مثلها عادة، وأن الرسل الذين بعثوا إلى قوم لوط لما نزلوا عنده، وذبح لهم عجله، وأنضجه، ونكرهم لما رأى أيديهم لا تصل إليه وخاف منهم، في ذلك الوقت بشروه بإسحاق، ومن وراء إسحاق : يعقوب، بشروه بأن امرأته تلد إسحاق، وأنه يولد له يعقوب، حتى تقر به أعينهما وهما حيان، كما نص الله عليه في سورة هود :﴿ وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب ﴾ [ هود : آية ٧١ ] حتى إن امرأته لشدة تعجبها من أنها تلد وهي عجوز فانية صرخت، وصكت وجهها، كما قال تعالى في الذاريات :﴿ فأقبلت امرأته في صرة ﴾ [ الذاريات : آية ٢٩ ] يعني : في صيحة وضجة ﴿ فصكت وجهها ﴾ لاستعجابها واستغرابها من هذا الخبر، وكذلك قال عنها في سورة هود :﴿ قالت يا ويلتي ءألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب ﴾ [ هود : آية ٧٢ ]. أما إسماعيل فقد أعطاه الله إياه قبل ذلك من سريته هاجر، كما هو مشهور في التاريخ، ولم يعطه إسماعيل أيضا إلا بعد أن كبر وطعن في السن، كما نص عليه في سورة إبراهيم الخليل ﴿ الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء ﴾ [ إبراهيم : آية ٣٩ ]. إلا أن وقت بشارته بإسحاق كان كبيرا كبرا شديدا، وامرأته عجوز فانية، أكبر من زمن إيتائه إسماعيل، وإن كان كبيرا عند الوقتين. وهذا معنى قوله :﴿ ووهبنا له إسحاق ويعقوب ﴾ [ الأنعام : آية ٨٤ ].
وآية هود هذه من النصوص الدالة على أن الذبيح : إسماعيل، وليس بإسحاق ؛ لأن ذلك دل عليه القرآن في موضعين، وهو الصحيح. إلا أن الإسرائيليين يحكون إسرائيليات كثيرة في أنه إسحاق، اغتر بها بعض من علماء المسلمين، فظن أنه إسحاق، وهو غلط، والتحقيق أن الذبيح : إسماعيل، وأن آية هود التي ذكرنا هي دليل قوي على ذلك، كما دلت عليه آية الصافات.
أما وجه دلالة آية هود لأن الله قال، وهو أصدق من يقول ﴿ وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب ﴾ [ هود : آية ٧١ ] أي : وبشرناها بأن إسحاق – وهو ولدها – يلد يعقوب، وهو ولد ولدها، فبعد البشارة بالوحي الصادق أن إسحاق لن يموت حتى يلد يعقوب فليس من المعقول أن يؤمر بذبحه وهو صغير ! ! وهذا معروف.
أما الآية الأخرى التي هي في الصافات فهي واضحة جدا في ذلك ؛ لأن الله قال :﴿ فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى ﴾ [ الصافات : آية ١٠٢ ] حتى جاء بقصة إسماعيل الذبيح تامة، قال بعدها لما أنهاها :﴿ وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين وباركنا عليه وعلى إسحاق ﴾ [ الصافات : الآيتان ١١٢، ١١٣ ]. فصار صريح القرآن أن الذبيح غير إسحاق، حيث قال في ذلك الغلام :﴿ بغلام حليم فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى ﴾ [ الصافات : الآيتان ١٠١، ١٠٢ ] حتى انتهى من قصته، وجاء بقصة إسحاق مستقلة بعدها، حيث قال :﴿ وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين وباركنا عليه وعلى إسحاق ﴾... [ الصافات : الآيتان ١١٢، ١١٣ ]. وهذه الآية الكريمة يفهم منها معنى أوضحه الله في سورة مريم ؛ ذلك أنه قال هنا إن إبراهيم سفه أحلام قومه، وعاداهم وكفرهم وضللهم، حتى اضطره ذلك إلى الخروج عنهم، والهجرة إلى بلاد الشام، كما يأتي في قوله :﴿ فئامن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي ﴾ [ العنكبوت : آية ٢٦ ] وكان في قرية بسواد العراق تسمى ( كوثى ).
لما هجر قومه وخرج من الوطن في الله عوضه الله عنهم قرة عين تؤنسه، وهي الأولاد الصالحون الكرام، يخلفون له الوطن والأقارب ؛ لأنه لما ذكر قصته معهم هنا قال بعدها :﴿ ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ﴾ [ الأنعام : آية ٨٤ ] فهذا يدل على أن إقرار عينه بالذرية الصالحين ؛ لأنه هجر الوطن، وخرج عن القرباء والأحباء في الله، وقد أوضح الله هذا في سورة مريم حيث قال :﴿ فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب ﴾ [ مريم : آية ٤٩ ].
ويفهم من هذه الآيات أن من هجر الأوطان والأقارب لله أقر الله عينه من ظهره بما يسليه عنهم ؛ ولذا قال هنا :﴿ ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ﴾ [ الأنعام : آية ٨٤ ] نون التنوين عوض عن كلمة، أي : كل واحد منهم هدينا، و﴿ كلا ﴾ مفعول به ل﴿ هدينا ﴾. وهذا تمام إقرار العين ؛ لأن الولد إذا كان غير صالح لم يكن قرة عين، فهبته والنعمة به إنما تتم إذا كان مهديا، لا إن كان غير مهدي ؛ ولذا قال :﴿ كلا هدينا ﴾.
ثم قال :﴿ ونوحا هدينا من قبل ﴾ لما كانت قصة نوح شبيهة بقصة إبراهيم ذكره معه ؛ لأن نبي الله نوحا نشأ في قوم يعبدون الأصنام، وهو أول نبي أرسل لقوم يعبدون الأصنام، وجادلوه جدا في الأوثان ﴿ وقالوا لا تذرن ءالهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا وقد أضلوا كثيرا ﴾ [ نوح : الآيتان ٢٣، ٢٤ ] وكان يجادلهم في عبادة الأصنام حتى قالوا له :﴿ قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين ﴾ [ هود : آية ٣٢ ] وكان إبراهيم نشأ في قوم يعبدون أجرام السماء وأجرام الأرض كذلك، وخاصمهم مثل مخاصمة نوح، بين أنه هدى نوحا من قبل إبراهيم، كما هدى إبراهيم، وهذا معنى قوله :﴿ ونوحا هدينا من قبل ﴾ [ الأنعام : آية ٨٤ ]. ( نوح ) : يسمونه ( آدم الصغير ) ؛ لأنه ليس على الأرض إنسان إلا وهو من ذريته، كما قال الله جل وعلا :﴿ وجعلنا ذريته هم الباقين ﴾ [ الصافات : آية ٧٧ ] ونبي الله إبراهيم لم يكن بعده نبي إلا وهو من ذريته، فالأنبياء الذين ليسوا من ذريته : إما من سبقه، وإما من كان معاصرا له، كلوط ابن أخيه، أما من بعده فهم جميعهم من ذريته، فالأنبياء من ذرية نوح وإبراهيم، فالذي لم يكن من ذرية إبراهيم فهو من ذرية نوح، وإبراهيم من ذرية نوح، كما قال جل وعلا :﴿ ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب ﴾ [ الحديد : آية ٢٦ ] وقال في سورة العنكبوت في إبراهيم :﴿ وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب وءاتيناه أجره في الدنيا ﴾ الآية [ العنكبوت : آية ٢٧ ] ولذا قال :﴿ ونوحا هدينا من قبل ﴾، ﴿ نوحا ﴾ : مفعول به ل﴿ هدينا ﴾ مقدما عليه.
وأهل التاريخ يزعمون أن ( نوحا ) أنه : ابن لملك بن متوشلخ بن خنوخ. ويزعمون أن خنوخ هو إدريس. هكذا يقولون. ويزعمون أن إبراهيم بن تارح. هذا المعروف في التاريخ، يقولون : إنه ابن تارح بن ناحور بن أرغو بن فالغ بن عابر بن شالخ بن قينان بن أرفخشد بن سام بن نوح. هكذا يقول المؤرخون، وهي أمور تذكر في التاريخ شبه الإسرائيليات، لم يقم على ضبطها وتحقيقها دليل. وهذا معنى قوله :﴿ ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان ﴾.
قوله :﴿ ومن ذريته ﴾ أي : وهدينا من ذريته داود. فهذا معطوف على معمول ﴿ هدينا ﴾. أي : وهدينا من ذريته داود.
واختلف العلماء في الضمير في قوله :﴿ ومن ذريته ﴾ قال بعضهم : هو راجع إلى إبراهيم ؛ لأنه هو المحدث عنه، وهذا في حجاجه مع قومه، والآيات كلها فيه. وقال بعض العلماء : الضمير راجع إلى نوح. والذين قالوا : " يرجع إلى نوح " عضدوه بأمرين :
أحدهما : أنه هو أقرب مذكور، والضمير يرجع لأقرب مذكور.
الثاني : أن هؤلاء الرسل الذين قيل من ذريته ذكر فيهم لوط، ولوط ليس من ذرية إبراهيم ؛ لأنه ابن أخيه، وذكر فيهم يونس، وأكثر المؤرخين أن يونس ليس من ذرية إبراهيم، وإن زعم قوم أنه منه، ولا يكاد يختلف المؤرخون أن لوطا ليس ابن إبراهيم، وإنما هو ابن أخيه ؛ لأن لوط بن هاران بن تارح ابن أخي إبراهيم. قالوا : لو كان الضمير لإبراهيم لما ذكر لوطا ؛ لأنه ليس من ذريته. واختار أن الضمير راجع إلى نوح، اختاره ابن جرير لذكر لوط ؛ ولأن نوحا أقرب إلى الضمير من إبراهيم. وعن ابن عباس : أن الضمير لإبراهيم، وأن يونس من أنبياء بني لإسرائيل، أو من ذرية إبراهيم، خلاف ما يزعمه أكثر المؤرخين، وأن لوطا جعل من ذريته تغليبا ؛ لأنه ابن أخيه، فجعل من ذريته تغليبا ؛ كما جعل إسماعيل أبا له تغليبا، لما ذكرت آباؤه، وهو عمه. هكذا يقولون.
﴿ ومن ذريته داود ﴾ أي : وهدينا من ذريته. أي : إبراهيم، أو نوح على الخلاف الذي ذكرنا.
﴿ داود ﴾ هو نبي الله داود، وهو أول من جمع من أنبياء بني إسرائيل بين الملك والنبوة. وهو داود بن إيشي، يزعمون أنه ابن إيشي بن عوبد. على كل حال لهم أسماء يختلف فيها المؤرخون، عجمية، وعلى كل حال داود يقولون : هو داود بن إيشي بن عوبد. يزعمون أنه من سبط يهوذا. هكذا يقولون :﴿ وسليمان ﴾ ولده.
وقوله :﴿ وأيوب ﴾ أكثر المؤرخين يقولون : إن أيوب بن موص، أنه من ذرية عيص بن إسحاق بن إبراهيم. وفيه غير ذلك.
﴿ ويوسف ﴾ : هو يوسف نبي الله ابن يعقوب. ﴿ وموسى وهارون ﴾ معروفان، أبناء عمران، وعمران : يزعمون – ابن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب.
ويعقوب : بن إسحاق بن إبراهيم. كما هو معروف.
وهؤلاء الأنبياء – كل هؤلاء المذكورين – لهم قصص معروفة في القرآن، بينها الله جل وعلا.
﴿ وكذلك نجزي المحسنين ﴾ كما هدينا هؤلاء الرسل الكرام، ووفقناهم لطريق الصواب : كذلك الجزاء نجزي المحسنين، فنهديهم ونوفقهم إلى ما يرضينا. والمحسنون : جمع المحسن، وهو اسم فاعل الإحسان. والإحسان هو : الإتيان بالعمل حسنا. وطريق الإتيان بالعمل حسنا بينها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : " أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ".
والآية تدل على أن من أحسن العمل لله زاده الله هدى ؛ لأن التشبيه في قوله :﴿ وكذلك نجزي ﴾ عائد إلى الهدى في قوله :﴿ كلا هدينا ونوحا هدينا ﴾.
﴿ ومن ذريته داود ﴾ أي : وهدينا من ذريته داود. كذلك الهدى والتوفيق نجزي ذلك الجزاء الحسن ﴿ نجزي المحسنين ﴾ مثل ذلك الجزاء ؛ لأن من آمن بالله وأحسن العمل زاده الله هدى ﴿ والذين اهتدوا زادهم هدى وءاتاهم تقواهم ﴾ [ محمد : آية ١٧ ].
﴿ وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين ﴾ [ الأنعام : آية ٨٥ ] يعني : وهدينا أيضا زكريا ويحيى. قرأه أكثر القراء :﴿ وزكرياء ويحيى ﴾ بهمزة. وقرأه بعض الكوفيين ﴿ وزكريا ويحيى ﴾ بلا همزة. وهما قراءتان سبعيتان معروفتان.
وأكثر المؤرخين يقولون : إن زكريا بن برخيا. وهو من ذرية سليمان بن داود ( عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام ). قص الله قصصه في سورة مريم، وسورة آل عمران، والأنبياء، وغيرهما.
﴿ ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين ﴾ يحيى : هو ابن زكريا، وقصته معروفة بيناها في آل عمران، وستأتي في سورة مريم. وعيسى : هو عيسى بن مريم.
وذكر عيسى هنا أخذ العلماء منه حكما فقهيا معروفا، وهو أنه إذا قال رجل : " هذا وقف على ذريتي ". أو أوصى للذريته، أن أولاد البنات يدخلون ؛ لأن عيسى ولد بنت ؛ لأنه لا يدلي إلى إبراهيم – الذي إليه الضمير في قوله :﴿ ومن ذريته ﴾ ( أو نوح، على القول بأن الضمير له ). لا يدلي بواحد منهما – إلا ببنته مريم ؛ لأنه لا أب له. / فالله ( جل وعلا ) أدرجه في اسم الذرية، ومن هنا يعرف أولاد البنات من الذرية، وهذه المسالة التي هدد الحجاج عليها يحيى بن يعمر، قال له : أتقول إن الحسن والحسين ( رضي الله عنهما ) من ذرية النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم. وأنه قال له : إن لم تجئني بدليل من كتاب الله فعلت بك وفعلت. قال : أتقرأ في سورة الأنعام ؟ قال : نعم، قال : قال الله :﴿ ومن ذريته داود ﴾ ثم إلى أن قال ﴿ وعيسى ﴾ وعيسى ابن بنت. وهذا صريح في دخول ابن البنت في الذرية، وعلى هذا أكثر العلماء. على أنه لو أوصى للذرية، أو وقف عليهم، أن أولاد البنات يدخلون لهذه الآية.
واختلفوا في البنين والأولاد، لو قال : " هذا وقف على بني، أو على ولدي ". قال جماعة : يدخل أولاد البنات في لفظ الأبناء ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الصحيح أنه قال في الحسن بن علي ( رضي الله عنه ) : " إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من أمتي ". الحديث المشهور. قالوا : سماه ابنا، وهو ابن بنت. وقال بعض العلماء : تسميته هنا ابنا ليست على حقيقتها ؛ لأن الله يقول :﴿ ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله ﴾ [ الأحزاب : آية ٤٠ ] فالله نفى هذه البنوة، فدل على أنها كقول الرجل للقريب : " يا بني ". وكذلك لو قال : " وقف على ولدي ". أو أوصى لوالده. أكثر العلماء على أن أولاد البنات لا يدخلون ؛ لأن الشاعر يقول :
بنونا بنو أبنائنا وبناتنا بنوهن أبناء الرجال الأباعد
ولإجماع من يعتد به من العلماء في قوله :﴿ يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين ﴾ [ النساء : آية ١١ ] أنه لم يقل أحد إنه يدخل فيها أولاد البنات فيكونون عاصبين كأولاد الذكور. ومن هنا قالوا : لما قال الله :﴿ يوصيكم الله في أولادكم ﴾ ولم يدخل في الميراث أولاد البنات في هذه الآية : عرف أنه إذا قال : " وقف على ولدي، أو : أولادي ". لم يدخل فيه أولاد البنات، كما هو معروف.
وقوله :﴿ عيسى ﴾ هو عيسى ابن مريم الذي خلقه الله بقدرته من غير أب ﴿ إن مثل عيسى عند الله كمثل ءادم خلقه من تراب ثم قال له كن ﴾ [ آل عمران : آية ٥٩ ]. ﴿ وإسماعيل ﴾ إسماعيل على التحقيق : هو نبي الله إسماعيل بن إبراهيم، جد النبي صلى الله عليه وسلم. وقال قوم : هو نبي آخر من بني إسرائيل. والذين قالوا هذا قد غلطوا. والتحقيق أنه إسماعيل، وأنه رسول كريم، كما قال الله جل وعلا :﴿ واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كنا صادق الوعد وكان رسولا نبيا ﴾ [ مريم : آية ٥٤ ]. والمؤرخون يقولون : إنه أرسل إلى قبيلة جرهم من العرب البائدة.
وقوله :﴿ وإلياس ﴾ المؤرخون يقولون إنه : إلياس بن ياسين بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران أخي موسى. هكذا يقولون، والله تعالى أعلم. وقد ذكر الله في قصته في آيات من كتابه، وبين أنه رسول كريم، وبين في سورة الصافات محاجته لقومه في قوله :﴿ وإن إلياس لمن المرسلين إذ قال لقومه ألا تتقون أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين الله ربكم ﴾ [ الصافات : الآيات ١٢٣ ١٢٦ ] إلى غير ما ذكر من خبره.
وقوله :﴿ كل من الصالحين ﴾ يعني :﴿ كل ﴾ من هؤلاء الأنبياء الذين هديناهم من ذرية إبراهيم أو من ذرية نوح ﴿ من الصالحين ﴾. والصالحون جمع الصالح، وهو من كانت أعماله ونياته صالحة لله ( جل وعلا ). والصلاح يتفاوت تفاوتا كثيرا.
﴿ وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين ﴾ [ الأنعام : آية ٨٦ ] ﴿ وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا ﴾ قرأ هذا الحرف عامة القراء ما عدا حمزة، والكسائي :﴿ وإسماعيل واليسع ﴾. وقرأه حمزة والكسائي :﴿ وإسماعيل والليسع ﴾ بتشديد اللام وسكون الياء وهما قراءتان سبعيتان معروفتان. أي : وهدينا إسماعيل، وهدينا الليسع، وهدينا اليسع.
بعض العلماء يقول : اليسع هو يوشع بن نون. وأكثر المؤرخين يقولون : إنه اليسع بن أخطوب بن العجوز. والله ( جل وعلا ) ذكره في مواضع من كتابه في جملة الأنبياء.
وقوله :﴿ ويونس ﴾ هو نبي الله يونس بن متى، أرسله الله إلى مئة ألف أو يزيدون، في بلد ( نينوى ) من بلاد الموصل. وقصته مشهورة، ذكرها الله في آيات كثير من كتابه. أرسله الله إلى مئة ألف أو يزيدون، ولم يرسل الله نبيا لقوم إلا كذبوه وأهلكهم الله بعذاب مستأصل، ولم يستثن من هذا أحد إلا الجماعة الذين أرسل إليهم نبي الله يونس بن متى ( عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ). سيأتيكم في مواضع في الصافات، وفي القلم، وغيرها : أن نبي الله يونس لما كذبه قومه وعدهم بالهلاك، وأن العذاب ينزل عليهم، وخرج عنهم، وسافر من قبل أن يأذن له ربه، كأنه ضجر منهم وعجل. وذلك الضجر والعجلة هو الذي نهى الله عنه نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم في سورة القلم، مؤدبا له بالتأني والحمل والصبر، قال :﴿ ولا تكن كصاحب الحوت ﴾ يعني يونس بن متى ﴿ إذ نادى وهو مكظوم ﴾ [ القلم : آية ٤٨ ] حيث ضجر وعجل.
زعم بعض المفسرين أنه كان شرعهم ونظامهم أن من جرب عليه الكذب أنهم يقتلونه. هكذا زعموا، وأن نبي الله يونس وعدهم بالعذاب، والله ( جل وعلا ) جاءهم بالعذاب، فلما أظلهم وعاينوا أوائله خافوا خوفا عظيما، وأنابوا إلى الله إنابة صادقة، وتوبة عظيمة، وضجوا جميعهم، وفرقوا بين الأمهات والأولاد من الآدميين والحيوانات، وصار الجميع يضج مبتهلين إلى الله، فرفع الله عنهم العذاب، ولم يوجد هذا لناس غيرهم أبدا، كما نص الله عليه في سورة يونس :﴿ فلولا كانت قرية ءامنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما ءامنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين ﴾ [ يونس : آية ٩٨ ] فقوله هنا ﴿ في الحياة الدنيا ﴾ الظاهر أنه ما كشف عنهم خزي العذاب في الحياة الدنيا إلا وهو يكشفه عنهم في الآخرة إذا داموا ولم ينكثوا. ويدل عليه الإطلاق في الصافات في قوله :﴿ وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون فئامنوا فمتعناهم إلى حين ﴾ [ الصافات : الآيتان ١٤٧، ١٤٨ ] فلما سلموا ولم يأتهم العذاب كان نبي الله يونس زعم أنه إن رجع إليهم قالوا : قلت : إنا نهلك بالعذاب ولم نهلك، فقد جربنا عليك الكذب. فخرج من غير إذن، فدخل في البحر، فلما دخل معهم في البحر وقفت السفينة ولم تمش، فقالوا : لعل فيها عبدا آبق على ربه، هنا عبد آبق على ربه، فاجعلوا القرعة نقترع، فإن سقطت القرعة على واحد ألقيناه في البحر، فهو العبد الآبق على ربه. فصاروا كلما اقترعوا تسقط القرعة على يونس. فقالوا : هذا العبد آبق على ربه ؛ لأنه خرج بغير إذن. كما قال تعالى :﴿ إذ أبق إلى الفلك المشحون فساهم فكان من المدحضين ﴾ [ الصافات : الآيتان ١٤٠، ١٤١ ] يعني كان سهمه داحضا ؛ لأنه هو الذي تأتي القرعة أنه يرمى في البحر. فرموه في البحر ﴿ فالتقمه الحوت وهو مليم فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون ﴾ [ الصافات : الآيات ١٤٢ ١٤٤ ] كما قص الله قصته في آيات من كتابه، وهو نبي الله يونس بن متى. والمؤرخون لا يكادون يصلون له نسبا إلى محله، وهو ابن متى ك ( حتى ) أرسل لجماعة في ( نينوى ) من بلاد الموصل، هكذا يقولون.
وقوله :﴿ ولوطا ﴾ هو نبي الله لوط ابن أخي إبراهيم، وقد هاجر معه من بلاد العراق، إلى بلاد الشام، مهاجر إبراهيم، كما قال الله جل وعلا :﴿ فئامن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي ﴾ [ العنكبوت : آية ٢٦ ] بعض المؤرخين يقولون : هاجر معه، وبعضهم يقول : لم يهاجر معه. واستدل بما ثبت في الصحيح أن إبراهيم قال لسارة : ليس على وجه الأرض مسلم غيري وغيرك. وعلى كل حال : الله بين أن لوطا آمن بإبراهيم.
والمعروف في التاريخ أنه هاجر معه إلى الشام، ثم إن الله أرسل لوطا إلى قرى ( سدوم )، كما هو معروف.
﴿ وكلا فضلنا على العالمين ﴾ وكلا من أولئك الأنبياء فضلنا على العالمين، عالمي زمانهم، فلا يلزم من ذلك تفضيلهم على من بعدهم كالنبي صلى الله عليه وسلم، فإنه أفضلهم.
وكان بعض العلماء يقول : آية الأنعام هذه مما استدل به العلماء على أن الأنبياء من الآدميين أفضل من الملائكة ؛ لأن الملائكة يدخلون في اسم ﴿ العالمين ﴾، بدليل قوله :﴿ قال فرعون وما رب العالمين قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين ﴾ [ الشعراء : الآيتان ٢٣، ٢٤ ] قالوا : والله فضلهم على العالمين، والتفضيل بين الرسل والملائكة معروف عند العلماء، ولم يقم عليه دليل قاطع، ولا حاجة لنا فيه. لو لقي الإنسان ربه وهو لم يبحث في التفضيل بينهم لم يسأله عن ذلك، ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه. وهذا معنى قوله :﴿ وكلا فضلنا على العالمين ﴾.
قوله :﴿ ومن ءابائهم وذريتهم وإخوانهم ﴾ معطوف على معمول ( هدينا ) أي : وهدينا أيضا من آبائهم وذرياتهم. ودل ب( من ) على أن مفعول ( الهداية ) البعض. أي : وهدينا أيضا بعض ذرياتهم. ﴿ وإخوانهم ﴾ لما بين الله هؤلاء الرسل الكرام ذكر أنه هدى بعض أصولهم وفروعهم، وبعض حواشيهم. فبعض الأصول كآدم وإدريس، وبعض الفروع كأولادهم من الطيبين، وبعض الحواشي كإخوة يوسف ومن جرى مجرى ذلك. أي : وهدينا من آبائهم وذرياتهم وإخوانهم.
﴿ واجتبيناهم ﴾ أي : اجتبينا هؤلاء الرسل المذكورين. والاجتباء : الاصطفاء والاختيار. أي : اخترناهم واصطفيناهم ﴿ وهديناهم إلى صراط مستقيم ﴾. أي : وفقناهم وأرشدناهم إلى صراط مستقيم. والصراط في لغة العرب : الطريق الواضح. والمستقيم : الذي لا اعوجاج فيه ومنه قول جرير يمدح عمر بن عبد العزيز :
أمير المؤمنين على صراط إذا اعوج الموارد مستقيم
وهذا الصراط المستقيم، أي : الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه : طريق دين الإسلام، دين الحنيفية السمحة، التي بعث الله بها إبراهيم، وحاصلها : اعتقاد نافع، اعتقاد بجميعه لله ( جل وعلا ) وما يجب اعتقاده، مع امتثال الأمر، واجتناب النهي بإخلاص، مطابقا للوجه الذي شرعه الله ( جل وعلا ).
﴿ ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون ﴾ [ الأنعام : آية ٨٨ ] ذلك الهدى الذي هدى الله به هؤلاء الأنبياء الكرام المذكورين في سورة الأنعام هو هدى الله، ولا هدى إلا هدى الله، كما قال تعالى ﴿ قل إن هدى الله هو الهدى ﴾ [ البقرة : آية ١٢٠ ].
﴿ يهدي به ﴾ أي : بهداه من يشاء أن يهديه من عباده. ومفهوم مخالفة الآية : أن من لم يشأ أن يهديه فلا هادي له ؛ لأن من هداه الله فلا مضل له، ومن يضلل الله فلا هادي له. فالهداية والإضلال كلها بمشيئته وحده ( جل وعلا ). وهذا معنى قوله :﴿ يهدي به من يشاء من عباده ﴾ ومفعول ﴿ يشاء ﴾ محذوف. أي : من يشاء هدايته من عباده.
ثم قال :﴿ ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون ﴾ هؤلاء الرسل الكرام الذين هداهم الله لو أشركوا بالله غيره، وعبدوا معه غيره، كما كان أبو إبراهيم يراود إبراهيم أن يرجع لعبادة الأصنام، لو أشركوا مع الله غيره لحبط عنهم ما كانوا يعملون، فبطل جميع ما عملوه من الخير ؛ لأن الشرك كفر يبطل جميع الحسنات، كما قال تعالى مخاطبا لنبينا وغيره من الأنبياء في سورة الزمر :﴿ ولقد أوحى إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين ﴾ [ الزمر : آية ٦٥ ]، وهذه الآية الكريمة تدل على أن الشرك – والعياذ بالله – محبطة للعمل، وأنه يبطل جميع أعمال الإنسان.
ومن هذه الآية الكريمة أخذ الإمام مالك بن أنس ( رحمه الله ) فرعا فقهيا، قال : إن الرجل إذا ارتد بانت منه زوجته. تارة يقول : بفسخ، وتارة يقول : بطلقة بائنة. لأن ذلك النكاح الذي عمل من عمله، وقد أشرك، وإذا أشرك حبط جميع ما كان يعمل، حتى معاشرته ؛ لأنه أخذ تلك المؤمنة بكلمة الله، وبكتاب الله ( جل وعلا )، والشرك يحبط ذلك.
وهنا بحث أصولي ؛ لأن القاعدة المقررة في الأصول : أنه إذا جاء في كتاب الله نص مطلق، ثم جاء في موضع آخر مقيدا، فالجماهير على أنه يحمل المطلق على المقيد. وإحباط الشرك الأعمال جاء مطلقا في آيات من كتاب الله، وجاء مقيدا في آية أخرى، فمن الآيات المطلقات : قوله هنا :﴿ ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون ﴾ وقوله :﴿ ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ﴾ [ الزمر : آية ٦٥ ] وقوله :﴿ ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين ﴾ [ المائدة : آية ٥ ] هذه الآيات تدل على أن الكفر بالله يحبط العمل من غير قيد. وهذا إذا كان مسلما ثم ارتد. وقد بين في موضع من سورة البقرة أن محل إحباط الإشراك، والرجوع للكفر بعد الإيمان، محل إحباطه للعمل ما إذا مات على ذلك، حيث قال :﴿ ومن يرتدد منكم عن دينه فيميت وهو كافر ﴾ [ البقرة : آية ٢١٧ ] فقيد بقوله :﴿ فيمت وهو كافر ﴾.
وذهب مالك في جماعة من العلماء إلى أن الآيات المطلقة هنا على بابها، قال : إذا ارتد الإنسان حبط جميع عمله، وبطلت حجة الإسلام – إن كان حجها – وبانت منه امرأته. وإذا راجع الإسلام ليس عليه قضاء فائت من صوم ولا صلاة ؛ لأن جميع أعماله حبطت.
وذهبت جماعة من العلماء، منهم محمد بن إدريس الشافعي ( رحمه الله )، إلى أن الكفر بعد الإيمان، والإشراك بعد الإسلام، لا يحبط جميع عمله إلا إذا مات على الكفر. بدليل القيد الذي في قوله :﴿ فيمت وهو كافر ﴾.
وقول الشافعي في هذه المسألة أجرى على الأصول ؛ لأن المقرر في الأصول : أنه إذا جاء نص من كتاب الله عاما أو مطلقا، وجاء مقيدا في موضع آخر، فله عند العلماء حالات : تارة يكون الحكم والسبب واحدا، وتارة يكون الحكم واحدا دون السبب، وتارة يكون السبب واحد دون الحكم، وتارة لا يتحد حكم ولا سبب.
فإذا كان الحكم والسبب متحدين فجمهور العلماء على أن المطلق يحمل على المقيد، وأنه يقيد بقيده ؛ ولأجل هذا فقد جاءت في تحريم الدم أربع آيات من كتاب الله، ثلاث منها مطلقات، وواحدة مقيدة :
أما المطلقات : فقوله في سورة النحل :﴿ إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم ﴾ [ النحل : آية ١١٥ ] وقوله في سورة البقرة :﴿ إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه ﴾ [ البقرة : آية ٧٣ ] وقوله في سورة المائدة :﴿ حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير ﴾ [ المائدة : آية ٣ ] فالدم في آية النحل، وآية البقرة، وآية المائدة، مطلق على قيد.
وقد جاء في سورة الأنعام هذه مقيدا بالمسفوحية، في قوله :﴿ لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به ﴾ [ الأنعام : آية ١٤٥ ] وجماهير العلماء على أن القيد بالمسفوحية في الأنعام يقيد به إطلاق الآيات في النحل والبقرة والمائدة ؛ ولذا أطبق من يعتد به من العلماء على أن الحمرة التي تعلو القدر من أثر تقطيع اللحم أنها لا تنجسه ؛ لأن ذلك الدم غير مسفوح، خارج بقيد المسفوحية في قوله :﴿ إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا ﴾ [ البقرة : آية ١٤٥ ] وهذا يدل على أن العلماء يحملون المطلق على المقيد، ولو كان المقيد هو السابق نزولا ؛ لأن القيد في آية الأنعام، وهي نازلة قبل البقرة، وقبل المائدة، وقبل النحل. أما نزولها قبل المائدة والبقرة فهو معروف ؛ لأن سورة الأنعام نازلة قبل الهجرة بلا خلاف، إلا آيات معروفة منها. والمائدة والبقرة من القرآن المدني بالإجماع، نزلتا في المدينة بعد الهجرة، والمائدة من آخر ما نزل، وفيها :﴿ اليوم أكملت لكم دينكم ﴾ [ المائدة : آية ٣ ] بقيت : النحل والأنعام، هما مكيتان على التحقيق، إلا أن القرآن دل في موضعين على أن سورة الأنعام نازلة قبل سورة النحل، وهي التي فيها القيد، والموضعان الذي دل القرآن فيهما على أن الأنعام نازلة قبل النحل : أن الله قال في سورة النحل :﴿ وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل ﴾ [ النحل : آية ١١٨ ] وهذا المحرم المحال، المقصوص عليه من قبل، في سورة الأنعام بلا خلاف، في قوله :﴿ وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما ﴾ الآية [ الأنعام : آية ١٤٦ ]. الموضع الثاني : أن الله قال في سورة الأنعام :﴿ سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا ءاباؤنا ﴾ [ الأنعام : آية ١٤٨ ] فبين أنهم سيقولون هذا في المستقبل، وأنهم لم يقولوه فعلا. وبين في سورة النحل أن ذلك القول الموعود به في المستقبل أنه وقع فعلا في قوله :﴿ وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا ءاباؤنا ﴾ الآية. [ النحل : آية ٣٥ ] فهذا دل على أن النحل بعد الأنعام. والمائدة والبقرة بعدها بلا نزاع. فتبين أن المطلق يحمل على المقيد، ولو كان المقيد سابقا نزولا. هذا هو المعروف عند العلماء.
أما إذا اتحد حكمهما واختلف سببهما : فكثير من العلماء – منهم أكثر الشافعية، والحنابلة، وجماعة من المالكية – أن المطلق يحمل على المقيد في هذه.
ومثال ما اتحد حكمه واختلف سببه : قوله ( جل وعلا ) في كفارة القتل خطأ :﴿ فتحرير رقبة مؤمنة ﴾ [ النساء : آية ٩٢ ] فقيد الرقبة بالإيمان، وأطلقها عن قيد الإيمان في كفارة اليمين، وكفارة الظهار حيث قال في كفارة اليمين في سورة المائدة :﴿ فتحرير رقبة ﴾ [ المائدة : آية ٨٩ ] ولم يقل : مؤمنة. وقال في الظهار في سورة المجادلة :﴿ فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ﴾ [ المجادلة : آية ٣ ] ولم يقل : مؤمنة. فالحكم هنا واحد، وهو التكفير بتحرير رقبة، والسبب مختلف ؛ لأن المقيد سببه : القتل خطأ، والمطلق سببه : إما حنث في يمين، وإما ظهار. وأكثر العلماء من الشافعية والمالكية والحنابلة يقولون : يحمل المطلق هنا على المقيد، فيشترط في كفارة الظهار وكفارة اليمين الإيمان. خلافا للإمام أبي حنيفة – رحمة الله على الجميع – قال في مثل هذه : لا يحمل، ولو أعتق الحانث في اليمين أو المظاهر رقبة غير مؤمنة لأجزأته ؛ لأن القيد في كفارة القتل خطأ، وهذه مطلقة.
ومثال عكس هذا : وهو ما إذا اتحد السبب واختلف الحكم، في مثل هذه يخالف الحنابلة، ويقولون : لا حمل في هذه. ويبقى المالكية والشافعية يقولون : فيها الحمل. ومثل الحنابلة لهذا، قالوا : الله ( جل وعلا ) في كفارة الظهار قيد بكونها قبل المسيس بالعتق والصوم، قال :﴿ فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ﴾ [ المجادلة : آية ٣ ] وقال في الصوم :﴿ فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا ﴾ [ المجادلة : آية ٤ ] وأطلق الإطعام عن كونه قبل المسيس، مع أن السبب في الجميع واحد، وهو الحنث في الظهار، والحكم مختلف ؛ لأن هذا عتق، وهذا إطعام، وهذا صوم، فلا يحمل المطلق على المقيد، فيجوز أن يعطي بعد المسيس، ولا يشترط في الطعام أن يقال فيه : من قبل أن يتماسا. وقال غيرهم : إن هذا يحمل فيه المطلق على المقيد. قالوا : ومثاله قوله في سورة المائدة، قال الله جل وعلا :﴿ فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون ﴾ [ المائدة : آية ٨٩ ] فقيد الإطعام بكونه من أوسط ما تطعمون، ثم قال :﴿ أو كسوتهم ﴾ ولم يقيد الكسوة بكونها من أوسط ما تكسون أهليكم. قالوا : فنحمل المطلق على المقيد، ونقول : إن الكسوة من أوسط ما تكسون أهليكم. كما قاله جماعة من العلماء. والحكم هنا مختلف ؛ لأن المطلق : كسوة، والمقيد : إطعام، إلا أن السبب واحد، وهو الحنث في كفارة اليمين.
ومحل هذه الأقوال ما إذا كان المقيد واحدا، أما إذا كان هناك مطلق وهناك مقيدين بقيدين مختلفين، فلهما حالتان : إن كان المقيدان بقيدين مختلفين ليس أحدهما أقرب للمطلق، فذهبت جماعة من العلماء على أن المطلق يحمل إلى أقرب المقيدين له، ويقيد بقيده.
مثال ما إذا كان أحدهما أقرب : أن الله ( تبارك وتعالى ) ذكر صوم أيام اليمين، قال :﴿ فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم ﴾ [ المائدة : آية ٨٩ ] وأيام اليمين لم يقيدها بتتابع ولا بتفريق، مع أنه جاء هنالك صوم مقيد بالتتابع، وهو صوم الظهار في قوله :﴿ فصيام شهرين متتابعين ﴾ [ المجادلة : آية ٤ ] وجاء هناك صوم آخر مقيد بالتفريق، وهو صوم التمتع ؛ لأن الله قيده بالتفريق، حيث قال :﴿ فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم ﴾ [ البقرة : آية ١٩٦ ] فقيد صوم الظهار بالتتابع، وقيد صوم التمتع بالتفريق، وأطلق صوم كفارة اليمين، لم يقيده بتتابع ولا بتفريق.
وقراءة ابن مسعود :﴿ فصيام ثلاثة ثيام متتابعات ﴾ لم تثبت قرآنا. وإذا لم يأت بها إلا على أنها قرآن، وبطل كونها قرآنا بطل الاحتجاج بها عند من يقول بذلك، خلافا لجماعة آخرين. قال بعض العلماء في هذه : نحمل الإطلاق في كفارة اليمين على أقربهما لها، والظهار أقرب لليمين من التمتع ؛ لأن الظهار واليمين كلاهما كفارة، والتمتع أبعد منهما.
ومثال ما لم يكن أقرب لواحد منهما : أن الله قيد صوم الظهار بالتتابع، وقيد صوم التمتع بالتفريق، وأطلق قضاء رمضان، ولم يقيده بتتابع ولا تفريق قال :﴿ فعدة من أيام أخر ﴾ [ البقرة : آية ١٨٤ ] ولم يقيد قضاء صوم رمضان الفائت بمرض أو سفر، ولم يقيده بتتابع ولا تفريق، حيث قال :﴿ فعدة من أيام أخر ﴾، من غير أن يقول : متتابعات
يقول الله جل وعلا :﴿ أولئك الذين ءاتيناهم الكتاب والحكم والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين ﴾ [ الأنعام : آية ٨٩ ] قرأه أكثر القراء ﴿ والنبوة ﴾ بالإدغام، وقرأه نافع :﴿ والنبؤة ﴾ بتحقيق الهمزة.
الإشارة في قوله ﴿ ص ﴾ إلى الأنبياء الكرام المذكورين في قوله :﴿ ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف ﴾ [ الأنعام : آية ٨٤ ] إلى آخر من عد منهم. أولئك الرسل الكرام : نوح، وإبراهيم، ومن ذكر معهم ﴿ الذين ءاتيناهم ﴾ أي : أعطيناهم ﴿ الكتاب ﴾ أي : جنس الكتاب، الصادق بصحف إبراهيم، وتوراة موسى، وإنجيل عيسى، وزبور داود، ونحو ذلك. وهذا معنى قوله ﴿ أولئك ﴾ الرسل المذكورون ﴿ الذين ءاتيناهم ﴾ أي : أعطيناهم ﴿ الكتاب ﴾ أي : جنسه الصادق بالكتب المنزلة عليهم.
وقوله :﴿ والحكم ﴾، قال بعض العلماء : الحكم هو الفهم في الدين، والفصل بين الخصوم. ومعنى الحكم على هذا : هو فهم الكتاب، والاطلاع على دقائقه، والعمل بما فيه.
وقوله :﴿ والنبوة ﴾ هو مصدر معنوي، معناه : أن الله جعلهم أنبياء. و( النبوة ) أصلها من ( النبأ ) في لغة العرب : الخبر الذي له شأن وخطب. لا تكاد العرب تطلق ( النبأ ) إلا على الخبر الذي له شأن. تقول : " جاءنا نبأ الأمير ". ولا تقول : " جاءنا نبأ حمار الحجام " ؛ لأن هذا لا شأن له ولا خطب. فالنبأ أخص من الخبر ؛ لأن كل نبأ خبر، وليس كل خبر نبأ ؛ لاختصاص ( النبأ ) عادة بالخبر الذي له شأن ؛ وذلك لأن الأنبياء يخبرهم الله عن طريق الوحي أخبارا لها شأن وأمر عظيم، خلافا لمن زعم أن ( النبوة ) و( النبي ) أنها من ( النبوة ) بمعنى : الارتفاع ؛ لارتفاع شأنهم بما أوحاه الله إليهم. وهذا معنى قوله :﴿ أولئك الذين ءاتيناهم الكتاب والحكم والنبوة ﴾.
ثم قال :﴿ فإن يكفر بها هؤلاء ﴾ الضمير في قوله :﴿ بها ﴾ قال بعض العلماء : عائد إلى النبوة ؛ لأنها أقرب مذكور. فإن يكفر بالنبوة، كنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، التي هي من جنس نبوتهم، كما صرح به في قوله :﴿ إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده ﴾ [ النساء : آية ١٦٣ ] وقال بعض العلماء : الضمير في ﴿ بها ﴾ راجع إلى المذكورات الثلاث، وهي : النبوة، والحكم، والكتاب. ﴿ ءاتيناهم الكتاب والحكم والنبوة فإن يكفر ﴾ بالثلاث ﴿ هؤلاء ﴾ يعني : كفار مكة، الذين كذبوا النبي صلى الله عليه وسلم. ولا شك أن الله أعطاه النبوة، وأعطاه الكتاب. فإن كفروا بنبوته وحكمه وكتابه ﴿ فقد وكلنا بها ﴾ أي : بالنبوة، أو بالمذكورات ﴿ قوما ليسوا بها بكافرين ﴾ كأن معنى الآية : يقول الله : إن كان هؤلاء تمردوا، وكذبوا رسلي، وكفروا بي، ولم يعبودوني، فلي قوم آخرون غيرهم، يعبودونني ويوحدونني كما ينبغي. وقوله ﴿ فقد وكلنا بها ﴾ أي : وفقناهم للإيمان بها. أي : بالنبوة. أو : النبوة والحكم والكتاب. ومعنى وكلناهم بها : أي : وفقناهم لها، وهيأناهم لها، حتى كانوا يقدمون بها، ويحافظون عليها، كما يقوم الوكيل بما أسند إليه. وهذا معنى قوله :﴿ فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين ﴾ بل هم مؤمنون بها بقلوبهم وألسنتهم وجوارحهم.
وهؤلاء القوم المؤمنون – الذين هم ليسوا بها بكافرين، الذين وكلهم الله بالإيمان بها – للعلماء فيهم أوجه من التفسير، لا يكذب بعضها بعضا :
أظهرها : أنهم الأنبياء المذكورون. يعني : إن كفر هؤلاء الكفرة، وكفروا بالنبوة، فلنا من صفوة خلقنا أناس طيبون يؤمنون كما ينبغي، ويعظمون الله كما ينبغي، تظهر بإيمانهم حكمة الله في خلقه الخلق، ليعبدوه ويعظموه. وعلى هذا فالقوم في قوله :﴿ قوما ليسوا بها بكافرين ﴾ الأنبياء المذكورون. ويدل عليه : أنه قال بعده ﴿ أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ﴾ [ الأنعام : آية ٩٠ ].
وقال بعض العلماء : المراد بهؤلاء القوم الذين بها، وليسوا بها بكافرين : المؤمنون من المهاجرين والأنصار، حيث تلقوه بالإيمان والعمل الصالح.
وقال بعض العلماء : هي تشمل كل مؤمن آمن بالله ( جل وعلا ). وعليه فالمعنى : إن كفر بعض خلقي وتمردوا وكذبوا رسلي فلي بعض آخر من الناس الطيبين وفقتهم للعمل والإيمان، يحصل بهم غرض التشريع، وخلق الخلق ؛ لأن الغرض الأكبر من خلق الناس : أن يعبدوا ربهم ( جل وعلا )، ويحسنوا العمل له، كما قال :﴿ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ﴾ [ الذاريات : آية ٥٦ ] فهؤلاء الطيبون تحصل بهم الحكمة المرادة في قوله :﴿ ليعبدون ﴾ ويحسنون العمل لله، فيحصل بهم المعنى المراد في قوله :﴿ ليبلوكم أيكم أحسن عملا ﴾ [ هود : آية ٧ ] وهذا معنى قوله :﴿ فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين ﴾.
﴿ أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ﴾ قرأ هذا الحرف حمزة والكسائي :﴿ فبهداهم اقتد ﴾ في الصلة بلا هاء، وقرأه غيرهما وغير ابن عامر :﴿ فبهداهم اقتده ﴾ بهاء السكت وصلا ووقفا، وقرأه ابن عامر من رواية هشام :﴿ اقتده ﴾ بكسرة مختلسة، وقرأه ابن عامر من رواية ابن ذكوان :﴿ اقتدهي ﴾ بكسرة مشبعة.
فتحصل أن القراءات فيه متعددة، قراءة الجمهور :﴿ فبهداهم اقتده ﴾ بهاء السكت الساكنة وصلا ووقفا، وقرأه حمزة والكسائي :﴿ اقتد ﴾ بلا هاء في حالة الوصل. ﴿ اقتده ﴾ بالهاء في حالة الوقف، وقرأه ابن عامر بهاء مكسورة تختلس كسرتها في رواية هشام عنه، وتشبع كسرتها في رواية ابن ذكوان عنه.
هذه هي القراءات :﴿ اقتد ﴾ وصلا ﴿ اقتده ﴾ وقفا ﴿ اقتده ﴾ وصلا ووقفا ﴿ اقتدهي ﴾ وصلا ﴿ اقتده ﴾ وصلا هذه قراءات القراء السبع في هذا الحرف.
و﴿ اقتد ﴾ معناه : فعل أمر من الاقتداء، والاقتداء معناه : الائتساء والاتباع في العمل. يقول العرب : " اقتدى به ". إذا ائتسى به وتبعه في عمله.
وقال قوم : إن قراءة ابن عامر هنا ﴿ اقتدهي ﴾ ﴿ اقتده ﴾ زعم قوم أنها لحن لا تجوز ؛ لأن هاء السكت لا يجوز كسره. وهذا غلط ؛ لأن قراءة ابن عامر قراءة صحيحة متواترة، والعلماء خرجوها على أن الهاء في قراءة ابن عامر – في حرف هشام وابن ذكوان – ليست هاء السكت ؛ لأن هاء السكت ساكنة على كل حال، وإنما هي ضمير راجع إلى المصدر.
ومعنى ﴿ اقتدهي ﴾ أي : الاقتداء فيكون بمعنى اقتد اقتداء بهم. هذا تخريج قراءة ابن عامر.
ومعنى ﴿ فبهداهم اقتده ﴾ اقتد بهداهم، وافعل كما يفعلون من الهدى.
وهذه الآية الكريمة هي التي أخذ منها جماهير العلماء – هي وأمثالها في القرآن – أن شرع من قبلنا شرع لنا إن ثبت في شرعنا إلا بدليل يدل على أنه ليس شرعا لنا.
وهذه مسألة معروفة في الأصول. اعلم أولا : أن شرع من قبلنا له ثلاث حالات : تارة يكون شرعا لنا بلا خلاف، وتارة يكون غير شرع لنا بلا خلاف، وتارة يكون محل خلاف، هو الذي فيه كلام العلماء ؛ لأن شرع من قبلنا واسطة وطرفان : طرف هو شرع لنا إجماعا، وطرف ليس شرعا لنا إجماعا، وواسطة هي محل بحث العلماء وخلافهم.
أما طرف الذي هو شرع لنا إجماعا : وهو ما ورد في شرعنا أنه كان شرعا لمن قبلنا، ثم جاءنا في شرعنا أنه مشروع لنا – كقتل النفس بالنفس قصاصا، فإن قتل النفس بالنفس قصاصا كان شرعا لمن قبلنا، كما نص الله عليه بقوله :﴿ وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس ﴾ [ المائدة : آية ٤٥ ]. ثم إن الله بين في كتابنا أنه شرع لنا، حيث قال :﴿ كتب عليكم القصاص في القتلى ﴾ [ البقرة : آية ١٧٨ ] وقال :﴿ ولكم في القصاص حياة ﴾ [ البقرة : آية ١٧٩ ] وقال :﴿ ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا ﴾ [ الإسراء : آية ٣٣ ] – فمثل هذا الطرف هو شرع لنا بإجماع.
الطرف الثاني : يكون شرع من قبلنا ليس بشرع لنا إجماعا، وهذا الطرف له صورتان :
إحداهما : ألا يثبت بشرعنا أصلا، بأن لا يوجد دليل من كتاب ولا سنة على أنه كان شرعا لمن قبلنا، وإنما تلقي عن الإسرائيليات. فهذا لا يكون شرعا لنا بالإجماع ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهانا عن تصديق الإسرائيليات وتكذيبها ما لم يقم دليل على صدقها أو كذبها. وما نهينا عن تصديقه لا يمكن أن يكون شرعا لنا.
الثاني من هذا الطرف : وهو ما ثبت في شرعنا أنه كان شرعا لمن قبلنا، إلا أنه نص لنا في شرعنا أنه غير مشروع لنا. ومثال هذا كالآصار والأغلال التي كانت على من قبلنا، فإن الله بين لنا في كتابه أنه رفعها عنا، كما قال تعالى :﴿ ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم ﴾ [ الأعراف : آية ١٥٧ ] ومن هذه الآصار : ما جاء في سورة البقرة من أن عبدة العجل لما أرادوا أن يتوبوا إلى الله لم يقبل الله توبتهم حتى قدموا أنفسهم للقتل، كما تقدم في قوله :﴿ فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم ﴾ [ البقرة : آية ٥٤ ]، لأن الله وضعها عنا بنص قوله :﴿ ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم ﴾ [ الأعراف : آية ١٥٧ ] والإصر في اللغة : الأثقال. والمراد به : الأثقال الشاقة في التكاليف. وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث ابن عباس وأبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ :﴿ ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ﴾ [ البقرة : آية ٢٨٦ ]. أن الله قال : " نعم ". في رواية أبي هريرة : قال الله : " نعم ". وفي رواية ابن عباس : قال الله : " قد فعلت ". وهو حديث صحيح، يصرح بأن الله وضع عنا الآصار والأثقال التي كانت على من قبلنا.
بقيت واسطة هي محل الخلاف بين العلماء، وهي ما تبث بشرعنا أنه كان شرعا لمن قبلنا، ولم يثبت في شرعنا أنه شرع لنا، ولا غير شرع لنا. هذا محل الخلاف، وجمهور العلماء وهو المشهور عن الأئمة الثلاثة، مالك وأحمد وأبي حنيفة – أن شرع من قبلنا الثابت بشرعنا يكون شرعا لنا، إلا لدليل يدل على أنه منسوخ عنا. وعن الشافعي في أصح الروايات في أصوله : أنه لا يكون شرعا لنا إلا بدليل منفصل. واحتج الشافعي بقوله تعالى في الأنبياء والرسل ﴿ لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ﴾ [ المائدة : آية ٤٨ ] قال : لكل نبي شرعة مستقلة، ومنهاج مستقل.
واستدل الجمهور على أن شرع من قبلنا – إن ثبت بشرعنا – شرع لنا بأدلة كثيرة، من آيات كثيرة :
قالوا : الله ( جل وعلا ) لما ذكر الأنبياء في سورة الأنعام، قال لنبينا وهو قدوتنا :﴿ أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ﴾ [ الأنعام : آية ٩٠ ] وأمر القدوة أمر لأتباعه. قالوا : والله ( جل وعلا ) بين أنه ما قص علينا قصصهم إلا لنعتبر بها، فنتباعد عن موجب الهلاك، ونتسارع إلى موجب النجاة، كما قال :﴿ لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ﴾ [ يوسف : آية ١١١ ] فصرح بأنه يقص قصصهم للاعتبار بما تضمنته قصصهم، ووبخ من لم يعقل ذلك، قال في قوم لوط :﴿ وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون ﴾ [ الصافات : الآيتان ١٣٧، ١٣٨ ] وبخ من لم يعقل عن الله وقائعه في الأمم الماضية ليعتبر بها، وفائدة ذلك العمل، وهو أن يكف عن أسباب الهلاك الذي هلك بها الهالكون، ويسارع إلى أسباب النجاة. وقال جل وعلا :﴿ شرع لكم من الدين وما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى ﴾ [ الشورى : آية ١٣ ] وقال في التوراة :﴿ يحكم بها النبيون الذين أسلموا ﴾ [ المائدة : آية ٤٤ ] والموجود من النبيين عند نزول الآية : محمد صلى الله عليه وسلم وحده.
***
***
وكان الإمام الشافعي ( رحمه الله ) يقول :﴿ فبهداهم اقتده ﴾ [ الأنعام : آية ٩٠ ] المراد بالهدى هنا في قوله :﴿ فبهداهم ﴾ والمراد بالدين في قوله :﴿ شرع لكم من الدين ﴾ خصوص العقائد والأصول، لا الفروع العملية ؛ لأن الله قال في الفروع العملية :﴿ لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ﴾ [ المائدة : آية ٤٨ ].
ونحن نقول : إن هذا الذي يذكر عن الإمام الشافعي ( رحمه الله )، وإن كان هو هو في الجلالة، إلا أن هذا الكلام غير مستقيم ؛ لما ثبت في صحيح البخاري عن مجاهد في تفسير سورة ( ص ) أنه سأل ابن عباس : أفي ( ص ) سجدة ؟ يعني : ومن أين أخذت السجدة في ( ص ) ؟ فقال له ابن عباس : أوما تقرأ :﴿ ومن ذريته داود ﴾ ثم قال ﴿ أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ﴾ وكان داود ممن أمر نبيكم أن يقتدي به، فسجدها داود، فسجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم. هذا حديث ثابت في صحيح البخاري عن ابن عباس، صرح فيه ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم اقتدى بداود في سجدة تلاوة، وسجود التلاوة فرع من الفروع كما هو معلوم، لا أصل من الأصول. وكذلك كان الإمام الشافعي ( رحمه الله ) يقول :﴿ فبهداهم اقتده ﴾ هذا الأمر الخالص بالنبي صلى الله عليه وسلم لا يشمل الأمة. هذا الصحيح في مذهب الشافعي. قال : الأوامر الخاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم لا تشمل أحكامها الأمة إلا بدليل منفصل. قال : لأن اللفظ الخاص بالرسول صلى الله عليه وسلم لم يشمل الأمة بحسب الوضع ومقتضى الصيغة، وإدخالنا في كتاب الله شيئا لم يتناوله اللفظ لا يجوز إلا بدليل منفصل. وقد بينا فيما مضى أن جماهير العلماء على أن الخطابات الخاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم أنها تشمل أحكامها الأمة، وإن كان اللفظ لا يتناول الأمة لأدلة خارجية عن مادة اللفظ، منها : أنه هو القدوة المشرع ( صلوات الله وسلامه عليه )، وأمر القدوة أمر لأتباعه، والله يقول :﴿ لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ﴾ [ الأحزاب : آية ٢١ ] أي : اقتداء كريم. وذلك الاقتداء في أفعاله وأقواله وتقريراته صلى الله عليه وسلم. والله جل وعلا يقول :﴿ من يطع الرسول فقد أطاع الله ﴾ [ النساء : آية ٨٠ ] ﴿ إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ﴾ [ آل عمران : آية ٣١ ] واتباعه يقتضي في كل شيء مما أمر به، ولو بأوامر خاصة. وثبت عن عائشة ( رضي الله عنها ) أنها ردت على من زعم أن تخيير الزوجة طلاق لها : بأن النبي صلى الله عليه وسلم خير أزواجه فاخترنه، فلم يعد ذلك طلاقا. مع أن الصيغة خاصة به صلى الله عليه وسلم في قوله ﴿ يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها ﴾ الآيتين [ الأحزاب : الآيتان ٢٨، ٢٩ ]. وقد بينا مرارا أن القرآن دل باستقرائه أن الله يخاطب نبينا بصيغة خاصة به صلى الله عليه وسلم، ثم يبين لنا أن مراده بالصيغة الخاصة أن يشمل حكمها الأسود والأحمر. هذا كثير في القرآن، يورد الله الخطاب خاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم، ثم يبين أن مراده عموم حكم ذلك الخطاب الخاص، كقوله في صدر سورة الطلاق بخطاب خاص به صلى الله عليه وسلم :﴿ يا أيها النبي ﴾ ثم قال :﴿ إذا طلقتم النساء ﴾ بصيغة الجمع الشاملة للأسود والأحمر، ﴿ فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم ﴾ [ الطلاق : آية ١ ] فلو لم يكن قوله :﴿ يا أيها النبي ﴾ يقصد منه شمول الحكم لجميع الأمة لأفرد الخطابات بعده، ولقال :( إذا طلقت النساء فطلقهن لعدتهن وأحص ) ( واتق الله ) ( لا تخرج ) فلما جاء بها مجموعة تبين أنه أراد إدخال الأمة تحت خطاب :﴿ يا أيها النبي ﴾. ونظير هذا أيضا في سورة التحريم، في قوله بخاطب خاص به صلى الله عليه وسلم :﴿ يا أيها النبي لم تحرم ﴾ [ التحريم : آية ١ ] ثم بين قصد شمول الخطاب للجميع حيث قال بعده :﴿ قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم ﴾ [ التحريم : آية ٢ ] بصيغة الجمع الشاملة الأسود والأحمر. ونظيره أيضا قوله في صدر سورة الأحزاب :﴿ يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين إنا الله كان عليما حكيما واتبع ﴾ [ الأحزاب : الآيتان ١، ٢ ]. كل هذه خطابات خاصة به صلى الله عليه وسلم، ثم قال :﴿ إن الله كان بما تعملون ﴾ بصيغة الجمع الشاملة للجميع، فدل على أن المراد شمول الجميع ب﴿ يا أيها النبي ﴾ ومن ظواهر هذا في القرآن قوله في سورة يونس :﴿ وما تكون في شأن وما تتلوا منه من قرآن ﴾. ثم قال بصيغة الجمع الشاملة للجميع :﴿ ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه ﴾ [ يونس : آية ٦١ ] وقد بينا أن من أصرح الأدلة في هذا آيتي الأحزاب، وآية الروم. أما آيتا الأحزاب : فالأولى منهما قوله تعالى في قصة زواج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش ( رضي الله عنها ) :﴿ فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها ﴾ فكاف الخطاب
﴿ وما قدروا الله حق قدره ﴾ ذهبت جماعة من العلماء إلى أن هذه الآية نزلت في مالك بن الصيف، وهو حبر من أحبار اليهود، ذكروا في قصته : أن النبي صلى الله عليه وسلم ناشده : " أوجدت في التوراة أن الله يبغض الحبر السمين ؟ " وأنه قال : نعم. وأنهم قالوا له : أنت حبر سمين ! ! وقال : " ما أنزل الله على بشر من شيء ". مع أن أثر : " إن الله يبغض الحبر السمين " لم يثبت من طريق صحيح، إلا أن هذا ذكره بعض العلماء في سبب نزول هذه الآية. والذين قالوا هذا قالوا : هذه آية مدنية من سورة مكية ؛ لأن سورة الأنعام مكية، نزلت قبل الهجرة إلا أن فيها آيات مدنية، منهن عند بعض العلماء هذه الآية. قالوا : نزلت في مالك بن الصيف اليهودي، والتي بعدها نزلت في مسيلمة والأسود العنسي. أعني قوله :﴿ ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ﴾ [ الأنعام : آية ٩٣ ] وأن آخرها :﴿ قل تعالوا أتل ما حرم ربكم ﴾ [ الأنعام : آية ١٥١ ] أنه مما نزل في المدينة، هكذا قال بعض العلماء.
والمعنى كما ذكره المفسرون : أن هذا اليهودي لما قال : ما أنزل الله على بشر من شيء.
وقال قوم : هذه المقالة لكفار مكة، والآية مكية من سورة مكية. وعلى كل حال فالذين قالوا هذه المقالة سواء قلنا إنه مالك بن الصيف، أو غيره من اليهود، أو كفار مكة الذين قالوا : ما أنزل الله على بشر من شيء، هؤلاء ﴿ ما قدروا الله حق قدره ﴾ يعني ما قدروا الله حق قدره : ما عظموا الله حق تعظيمه، ولا عرفوه حق معرفته، حيث نفوا إنزال الله الكتب السماوية على الأنبياء.
ولطالب العلم أن يقول : إذا نفوا عن الأنبياء إنزال شيء، فأي شيء في هذا من عدم تعظيم الله ؟
الجواب : أن هذا نزه الله نفسه عنه في سورة ( قد أفلح المؤمنون ) وبين أنه لا يليق به ؛ لأن الحكيم الخبير خلق هذا الخلق، وأبدع هذا الكون، كيف يفعل هذا إلا لحكم بالغة ؟ وهو أنه يمتحنهم ويجازيهم، ويكلفهم ويجازيهم. فهذا هو الذي نزه الله عنه نفسه، إذ لو كان يخلق الخلق ولا يكلفهم ولا يجازيهم كان خلقه إياهم كأنه من العبث، ومن ظن أن الله يفعل هذا لا لحكمة فويل له من النار، كما قال تعالى :﴿ وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار ﴾ [ ص : آية ٢٧ ] ﴿ وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق ﴾ [ الدخان : الآيتان ٣٨، ٣٩ ] وقال جل وعلا :﴿ أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون ﴾ [ المؤمنون : آية ١١٥ ] ثم نزه نفسه عن هذا – وهو محل الشاهد – فقال :﴿ فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم ﴾ [ المؤمنون : آية ١١٦ ] تعالى وتقدس وتنزه عن أن يخلق هذا العالم عبثا من غير تكليف ولا جزاء، لا يكون ذلك أبدا. ومن هنا لما قالوا : لم ينزل الله على بشر من شيء، وليست هنالك كتب على ضوئها التكاليف والجزاء، بين الله أنهم ما قدروه حق قدره، ما عظموه حق عظمته، ولا عرفوه حق معرفته، حيث يترك هذا العالم سدى عبثا ﴿ أيحسب الإنسان أن يترك سدى ﴾ [ القيامة : آية ٣٦ ] لا، وكلا. ثم قال :﴿ ألم يك نطفة من مني تمنى ﴾ وفي القراءة الأخرى :﴿ يمنى ﴾ ﴿ ثم كان علقة فخلق فسوى ﴾ [ القيامة : الآيات ٣٦ ٣٨ ] فهؤلاء الذين نفوا إنزال الكتب على الرسل وتكليف الخلائق ومجازاتهم، هؤلاء ظنوا بالله أنه خلق الخلق عبثا، ولم يخلقه للحكم البالغة، فما عظموه حق عظمته، ولا عرفوه حق قدره ﴿ إذ قالوا ﴾ حين قالوا :﴿ ما أنزل الله على بشر من شيء ﴾ [ الأنعام : آية ٩١ ] المعروف عند جماعة المفسرين : أن مالك بن الصيف لما قال :﴿ ما أنزل الله على بشر من شيء ﴾ قالوا : إن قومه قالوا : كيف تنكر إنزال شيء على أحد من البشر وأنت تعلم أن التوراة أنزل على موسى ؟ يذكرون في قصته أنه كان حبرهم، وأنهم خرجوه بسبب هذا، ووضعوا بعده كعب بن الأشرف، أو عبد الله بن صوريا الأعور، كما هو مذكور في التاريخ.
والعلماء في هذا يقولون : إن مناظرة هذا اليهودي أو غيره، أنها متطبقة على المناظرة الاصطلاحية تماما ؛ لأن هذا اليهودي قال :﴿ ما أنزل الله على بشر من شيء ﴾ فهذه المقدمة التي جاء بها هي التي تسمى في الاصطلاح :( كلية سالبة ). ولا شك أنه حذف مقدمة أخرى، وأنه يقصد : أنت يا محمد من جملة البشر، والبشر جميعهم – بالعنوان الأعم الذين أنت من جملتهم ما أنزل الله عليهم من شيء. ينتج من ذلك : أنت لم ينزل عليك شيء، حيث كنت داخلا في جملة البشر، وحيث إن البشر بالعنوان الأعم حجب عن جميعهم إنزال شيء. ينتظم من المقدمتين : أنت لم ينزل عليك شيء ! ! وقد تقرر في فنون المناظرة : أن ( السالبة الكلية ) إنما تنقضها ( موجبة جزئية ). فالخصم إذا أراد نقض كلام خصمه ؛ إذا كان مبنى كلام خصمه على ( سالبة كلية ) ؛ إنما ينقضها ب( موجبة جزئية )، كما هو معروف. قالوا : ولذا قال الله :﴿ قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى ﴾ أنت قلت :﴿ ما أنزل الله على بشر من شيء ﴾ من هو الذي أنزل الكتاب الذي هو التوراة على موسى ؟ ! فهذا في قوة : موسى بشر، وأنتم يا يهود تسلمون بشرية موسى، موسى أنزل عليه الكتاب، وهو التوراة، فأنتم تسلمون بشريته، ونزول الكتاب عليه. ينتج : بعض البشر – وهو موسى – أنزل عليه الكتاب.
إلا أن هذا في الاصطلاح يتطرقه سؤال، قد يكون بعض الحاضرين لا يفهمه ؛ لأنه يقال : هذا اليهودي بنى دليله على ( كلية سالبة ) ﴿ ما أنزل الله على بشر من شيء ﴾ وأن الله لما نقض عليه، كان النقض في قوة ( موجبة جزئية ) ؛ لأن معنى قوله :﴿ من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى ﴾ [ الأنعام : آية ٩١ ] هو في قوة : موسى بشر، موسى أنزل عليه كتاب. ينتج : بعض البشر أنزل عليه الكتاب.
العارف باصطلاحات هذه الفنون يقول : هذا الميزان من الشكل المعروف ب :( الشكل السالب ) وأهله يشترطون فيه كلية إحدى المقدمتين، وهما هنا : شخصيتان.
والجواب عن هذا هو : ما هو مقرر : أن كل ما تنتج فيه الكلية تنتج فيه الشخصية ؛ لأن المراد أن لا يبقى شيء من أفراد الموضوع الداخلة تحت العنوان، سواء حصرها سور، أو حصرها مجرد الوضع. وعلى كل حال فهذا اليهودي أو غيره قال :﴿ ما أنزل الله على بشر من شيء ﴾ فالله ألزم اليهود، وقال لهم : من هو الذي أنزل الكتاب على موسى ؟
وهم يعترفون ببشرية موسى، أنه بشر، وأن الله أنزل عليه الكتاب، يلزم من ذلك أن بعض البشر أنزل عليه الكتاب. وهو نقض لمقالتهم، وتكذيب لهم في قولهم :﴿ ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى ﴾ أي : وهو التوراة.
وقوله :﴿ نورا وهدى للناس ﴾ قوله :﴿ نورا وهدى ﴾ كلاهما حال. أي : جاء به موسى في حال كونه نورا يكشف ظلام الجهل، والشك، والشرك ﴿ وهدى ﴾ يهتدى به من الضلال. الجواب : أنزله الله ( جل وعلا )، والله ( جل وعلا ) لم يكل هذا إليهم ؛ لأنه قال لنبيه :﴿ قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون ﴾ [ الأنعام : آية ٩١ ] قل لهم يا نبي الله : أنزله الله. وهو محل الشاهد. وإذا كان الجواب : أنزله الله على موسى. أي : هذا الكتاب أنزله الله على موسى، وهو بشر، تبين كذب مقالتهم ﴿ ما أنزل الله على بشر من شيء ﴾ وهذا معنى قوله : قل لهم يا نبي الله ﴿ من أنزل الكتاب ﴾ من هو الذي أنزل الكتاب ﴿ الذي جاء به موسى ﴾ في حال كونه ﴿ نورا وهدى للناس ﴾ هذا السؤال في قوله :﴿ من أنزل الكتاب ﴾. أمر الله نبيه أن يجيب بقوله :﴿ قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون ﴾ ﴿ قل الله ﴾ معناه : قل أنزله الله جل وعلا ﴿ ثم ذرهم في خوضهم يلعبون ﴾.
وقوله جل وعلا :﴿ تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا ﴾ فيه قراءتان سبعيتان، قرأه أكثر السبعة :﴿ تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا ﴾. وقرأه بعض السبعة :﴿ يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيرا ﴾ أما على قراءة :﴿ تجعلونه ﴾ فهو خطاب لليهود. وسياق الكلام يعين أن الآية نازلة في اليهود لا في مشركي مكة، كما قاله بعض العلماء. ومعنى :﴿ يجعلونه ﴾ أي : اليهود. أو ﴿ تجعلونه ﴾ أنتم أيها اليهود.
وقوله :﴿ قراطيس ﴾ ( القراطيس ) جمع ( قرطاس )، و( القرطاس ) : الورقة. كما هو معروف ؛ لأن نسخة التوراة الكبيرة كلها فيها الحق، فإذا أرادوا التحريف أخذوا أوراقا مفرقة، وكتبوا فيها أشياء متعددة مما يريدون أن يحرفوه، وتركوا نسخة الكتاب الكبيرة غير حاضرة، فإذا أرادوا التحريف قالوا : هذا القرطاس نقلنا فيه من محل التوراة في المحل الفلاني كذا وكذا، وهذا نصه ! ! وهو محرف، ولم يأتوا بأصل الكتاب ؛ لأنه لو جاء لظهرت الحقيقة فيه. وهذا معنى :﴿ تجعلونه قراطيس ﴾ ﴿ تبدونها ﴾ أي : القراطيس المحرفة على أهوائكم ﴿ وتخفون كثيرا ﴾ وجعله بهذه القراطيس ليستعينوا بها على إخفاء ما يحبون وإبداء ما يحبون ؛ لأنه لو جاءت نسخة الكتاب كاملة لعرف الحقيقة فيه ؛ ولذلك يكتبونها كتبا محرفة، كما قال :﴿ فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم ﴾ [ البقرة : آية ٧٩ ] وقال :﴿ وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون ﴾ [ آل عمران : آية ٧٨ ] وهذا معنى قوله :﴿ تجعلونه قراطيس تبدونها ﴾ محرفة للناس ﴿ وتخفون كثيرا ﴾ في النسخة الكبيرة لا تظهرونه. كانوا يخفون صفات النبي صلى الله عليه وسلم، فيجدونه في التوراة :( أبيض مشربا بحمرة )، فيكتبون لونا غير ذلك. يجدون :( ربعة )، يكتبون :( طويلا مشذبا ). ( جعد الشعر ) : يكتبون :( سبط الشعر ) ويغيرون الحقائق ؛ ولذا قال تعالى :﴿ تبدونها وتخفون كثيرا ﴾.
ثم قال جل وعلا :﴿ وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا ءاباؤكم ﴾ أظهر الأقوال فيها : أن المراد : بهم اليهود الذين أنزل عليهم التوراة، أن الله علمهم بواسطة القرآن من غرائب ما في التوراة وعجائبه ما كانوا جاهلين به ؛ لأن القرآن مهيمن على الكتب، وكانت أشياء غامضة عليهم لا يعرفونها، فبينها القرآن حتى عرفوها، وعلموا بواسطة القرآن من أسرار التوراة ما لم يكونوا يعلمونه، كما قال جل وعلا :﴿ إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون ﴾ [ النمل : آية ٧٦ ] وقال الله جل وعلا :﴿ قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفوا عن كثير ﴾ [ المائدة : آية ١٥ ] إلى غير ذلك. وهذا معنى قوله :﴿ وعلمتم ما لم تعلموا ﴾ أي وعلمتم الشيء الذي لم تعلموه أنتم ولا آباؤكم من قبل، علمكم الله إياه بواسطة القرآن العظيم ؛ لأنه مهيمن على الكتب يبين ما فيها، كما قال :﴿ إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون ﴾ [ النمل : آية ٧٦ ] مما كانوا لا يعلمونه.
ثم قال جل وعلا :﴿ قل الله ﴾ قوله :﴿ قل الله ﴾ جواب للاستفهام في قوله :﴿ قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى ﴾ قل لهم : من هو الذي أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس، ثم أمره بالجواب : قل لهم : أنزله الله ( جل وعلا ). ثم بعد أن تفحمهم ﴿ ذرهم في خوضهم يلعبون ﴾ ﴿ ذرهم ﴾ معناه : اتركهم.
ومعنى :﴿ في خوضهم ﴾ أي : في خوضهم في الباطل، والكفر، والتكذيب بآيات الله ﴿ يلعبون ﴾ يتخذون ذلك لعبا واستهزاء.
وهذا الأمر قا
ثم قال :﴿ والذين يؤمنون بالأخرة يؤمنون به وهم على صلاتهم يحافظون ﴾ [ الأنعام : آية ٩٢ ] وفي بعض القراءات :﴿ على صلواتهم يحافظون ﴾.
﴿ والذين يؤمنون بالأخرة ﴾ قد بينا مرارا أن المعنى ( الآخرة ) أنها لا دار بعدها ينتقل إليها ؛ ولذلك سميت ( آخرة ). والإنسان قبل أن يصل إليها ينتقل من طور إلى طور. وقد بينا أن رحلة الإنسان يجب عليه النظر فيها ؛ لأن الله أمره بذلك. وأن مبدأ رحلة الإنسان أنه تراب بله الله بماء، ثم صار طينا، ثم ذكر عن هذا الطين أطوارا صار فيها حما مسنونا، ثم يبس فصار صلصالا كالفخار، ثم إن الله بقدرته خلق من هذا الطين بشرا سويا في غاية الجمال، اسمه آدم، ثم خلق من ضلعه امرأة، ثم كان بين هذا الرجل والمرأة ما يكون بين الرجل والمرأة. فالطور لنا جميعا : هو ذلك التراب، والطور الثاني : هو تلك النطفة الأمشاج من ماء الرجل وماء المرأة، والطور الثالث : هو الدم الجامد، المعبر عنه ب( العلقة )، والطور الذي بعد ذلك : هو طور ( المضغة )، وهو استحالة الدم مضغة، قطعة لحم، ليس فيها تخطيط، ولا تشكيل، ولا رأس، ولا يد، ولا رجل، ثم إن الله ( تبارك وتعالى ) يقلب تلك المضغة هيكل عظام، والله ( جل وعلا ) يرتب تلك العظام بعضها ببعض على هذا الأسلوب الغريب العجيب، في غاية من الإحكام، ثم إن الله ( جل وعلا ) بعد أن يصنع هيكل العظام يكسوه اللحم، ويجعل فيه العروق، فيفصله ويخططه، ويفتح فيه العينين، والأنف، والأذنين، ويجعل فيه الأعضاء، ويضع كل عضو في محله، ويضع الكبد في محله، والطحال، والكليتين، إلى غير ذلك، ويجعل الإنسان على هذا الأسلوب الغريب الهائل، الذي لو شرح منه عضو واحد لحارت عقول العقلاء بما أبدع الله فيه من غرائب صنعه وعجائبه، فليس في بدن الواحد منا موضع إبرة إلا والله أودع فيه من غرائب صنعه وعجائبه ما يبهر العقول، وكل هذا فعله فينا لم يشق أمهاتنا، لم يشق طبقة بطنها السفلى، ولا الوسطى، ولا العليا، ولم يخطها، ولم يبنجها، ولم ينومها في صحية. يفعل في بطنها هذا الأفعال الهائلة الغريبة العجيبة وهي لاهية تفرح وتمرح، لا تدري عن شيء من ذلك، بكمال قدرته وصنعه. والله يلفت أنظارنا إلى هذا ونحن نلفت أنظار إخواننا إليه دائما ؛ لأن الله يقول :﴿ يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق ﴾ [ الزمر : آية ٦ ] يعني : بعد النطفة علقة، وبعد خلق العلقة مضغة، وبعد خلق المضغة عظاما، إلى آخره. وهو يقول :﴿ في ظلمات ثلاث ﴾ يعني : ظلمة البطن، وظلمة الرحم، وظلمة المشيمة التي هي على الولد في داخل الرحم. لم يحتج إلى أن يزيحها أو يسلط عليها أشعة كهربائية. العلم والبصر نافذ لهذا الصنع الغريب العجيب في بطن أمه ﴿ هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم ﴾ [ آل عمران : آية ٦ ] ولذا لما قال :﴿ يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث ﴾.
قال :﴿ ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو ﴾ ثم قال – وهو محل الشاهد :﴿ فأنى تصرفون ﴾ [ الزمر : آية ٦ ] أين تصرفون ؟ أين تذهب عقولكم عن هذه الغرائب والعجائب التي يفعلها فيكم خالق السماوات والأرض ؟ ثم إن الله ( جل وعلا ) يخرجه من بطن أمه، ويسهل له طريق الخروج ﴿ ثم السبيل يسره ﴾ [ عبس : آية ٢٠ ] ويكون في هذه المحطة التي نحن فيها، فكل ما قبلها جاوزناه، ثم إنه عن قريب ينتقل الجميع من هذه المحطة إلى محطة القبور، فيمكثون فيها ما شاء الله، ثم ينادي خالق السماوات والأرض أن يرحلوا من القبور ﴿ ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون ﴾ [ الروم : آية ٢٥ ] فيجيبون داعي الله مهطعين إلى الداعي، فيجمعهم في صعيد واحد، صعيد المحشر، ينفذهم البصر، ويسمعهم الداعي، ثم يمكثون ما شاء الله، ثم يتفرقون كما قال :﴿ يومئذ يصدر الناس أشتاتا ﴾ [ الزلزلة : آية ٦ ] متشتتين متفرقين، وهذه الأشتات في سورة الزلزلة أوضحها الله في سورة الروم ﴿ ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون فأما الذين ءامنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة يحبرون وأما الذين كفروا وكذبوا بئاياتنا ولقاء الأخرة فأولئك في العذاب محضرون ﴾ [ الروم : الآيات ١٤ ١٦ ] فبعد ذلك يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، وعند ذلك تلقى عصى التسيار، ويذبح الموت، ويقول : يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت. وهو معنى قوله :﴿ وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون ﴾ [ مريم : آية ٣٩ ].
بهذا تعرفون حقيقة معنى ( الآخرة ) ؛ لأن الأطوار قبلها كلها ينتقل من طور إلى طور، بعد التراب نطفة، وبعد النطفة علقة، وبعد الدنيا قبر، وبعد القبر بعث. أما في الآخرة فالدار التي يحلها الإنسان ليس بعدها انتقال آخر إلى شيء، ومن هنا قيل لها ( الآخرة ) ؛ لأنها ليس بعدها شيء، والمنزل في ذلك إما غرفة من غرف الجنة، وإما سجن من سجون النار.
﴿ والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به ﴾ [ الأنعام : آية ٩٢ ] بهذا القرآن العظيم. كل من يؤمن باليوم الآخر يؤمن بهذا القرآن العظيم، لوضوح أدلته. أما الذي لا يؤمن باليوم الآخر فهو لا يخاف من عقاب، ولا يرجو ثوابا، فلا يؤمن بشيء.
ثم خص الصلاة لعظم مكانتها، قال :﴿ وهم على صلاتهم يحافظون ﴾.
يقول الله جل وعلا :﴿ ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحى إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن ءاياته تستكبرون ﴾ [ الأنعام : آية ٩٣ ].
نزلت هذه الآية الكريمة من سورة الأنعام في مسيلمة الكذاب، وكذاب صنعاء : الأسود العنسي، كل منهما ادعى أنه نبي كذبا وافتراء على الله، فبين الله ( جل وعلا ) أنه لا أحد أظلم ممن يفتري الكذب على الله، أو يدعي أن الله أوحى إليه وهو لم يوح إليه.
وقوله :﴿ ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا ﴾ الاستفهام إنكاري. والمعنى : لا أحد أظلم ﴿ ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحى إلي ولم يوح إليه شيء ﴾.
وقد بينا في هذه الدروس مرارا : أن مثل هذه الآية فيه سؤال معروف ؛ لأن معنى ﴿ ومن أظلم ﴾ ﴿ فمن أظلم ﴾ معناه : لا أحد أظلم. وإذا كان المعنى في قوله هنا :﴿ ومن أظلم ممن افترى ﴾ لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذبا. فإن هذا تشكل عليه آيات أخر كقوله :﴿ ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ﴾ [ البقرة : آية ١١٤ ] ﴿ ومن أظلم ممن ذكر بئايات ربه فأعرض عنها ﴾ [ الكهف : آية ٥٧ ] إذ يصير المعنى : لا أحد أظلم ممن افترى، لا أحد أظلم ممن منع مساجد الله، لا أحد أظلم ممن ذكر بئايات ربه فأعرض عنها. فينشأ من هذا سؤال، فيقول طالب العلم : كيف يقول : لا أحد أظلم من هذا، ثم يقول في موضع آخر : لا أحد أظلم من هذا، في شيء آخر ؟
وللعلماء عن هذا السؤال أجوبة معروفة، أشهرها اثنان، فيهما الكفاية :
أحدهما : أنه لا معارضة ألبتة بين الآيات، وأن هؤلاء المذكورين لا يوجد أحد أظلم منهم، وهم متساوون في مرتبة الظلم، فلا يكون هنالك تعارض، كما لو قلت : لا أحد أعلم في هذا البلد من زيد، ولا أحد أعلم فيه من عمرو. فيكون زيد وعمرو مستويين في العلم، ولا يفوقهما أحد فيه، فيكون كلا المقالين حق.
الوجه الثاني : أن هذه المواضع تتخصص بصلاتها. ومعنى ( تتخصص بصلاتها ) : أن كل واحد منها تفسره صلة موصوله، فيكون المعنى هنا : لا أحد من المفترين أظلم ممن افترى على الله كذبا، ولا أحد من المانعين أظلم ممن منع مساجد الله، ولا أحد من المعرضين أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها، إلى آخره.
وقوله ﴿ افترى على الله كذبا ﴾ افتراء الكذب : اختلاقه. والكذب في أصح معانيه : هو عدم مطابقة الخبر للواقع، فالكفار كذابون، خبرهم لا يطابق الواقع، وإن ظنوا في نفس الأمر أنه خير وسداد، كما قال جل وعلا :﴿ إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون ﴾ [ الأعراف : آية ٣٠ ] وقال جل وعلا :﴿ قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ﴾ [ الكهف : آية ١٠٣، ١٠٤ ] فقوله :﴿ ممن افترى على الله كذبا ﴾ كمن ادعى لله الشركاء، أو ادعى له الأولاد، أو ادعى أنه حرم ما لم يحرمه، أو أحل ما لم يحلله، أو قال : أوحي إلي. هذا داخل في افتراء الكذب، إلا أنه عطفه عليه ب( أو ) لأنه من أعظم أنواع الافتراء، كأنه لعظمه صار قسما مقابلا للافتراء وهو من أشنع أنواع الافتراء.
﴿ أو قال أوحى إلي ﴾ أي : قال : إن الله أوحى إليه، كمسيلمة الكذاب ( رحمان اليمامة )، وكالأسود العنسي ( صاحب صنعاء )، ويدخل في حكمهم غيرهم من المتنبئين، حيث قال كل من هؤلاء : إنه أوحي إلي.
وذكروا في تاريخ مسيلمة الكذاب أنه أرسل رسولا إلى النبي صلى الله عليه وسلم – يذكر أنه ابن النواحة الذي قتله بعد ذلك ابن مسعود، أرسله إليه – بكتاب فيه : " من مسيلمة رسول الله، إلى محمد رسول الله، إن الأرض نصفان، نصفها لي، ونصفها لك، ولكن قريشا قوم يعتدون ". فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم : " من محمد رسول الله، إلى مسيلمة الكذاب، إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين ".
ومعلوم أن ما يدعي أنه قرآن بالغ من التفاهة والسقوط ما لا يخفى على أحد، كقوله : " والطاحنات طحنا، والعاجنات عجنا، والخابزات خبزا، فالفاردات فردا، فاللاقمات لقما ". وغير ذلك من الترهات والخرافات.
الذين يدعون النبوة – كمسيلمة والأسود العنسي – لا أحد أظلم منهم، حيث قالوا : إن الله أوحى إليهم – ولم يوح إليهم – ظلما وعدوانا. وهذا معنى قوله :﴿ أو قال أوحي إلي ﴾ والحال :﴿ ولم يوح إليه شيء ﴾.
﴿ ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله ﴾ ( من ) في قوله :﴿ أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله ﴾ هذا كله معطوف على المجرور في قوله :﴿ ممن افترى على الله كذبا ﴾ ولا أحد أظلم ممن قال : أوحي إلي، ولا أحد أظلم ممن قال : سأنزل مثل ما أنزل الله.
***
وقوله :﴿ سأنزل مثل ما أنزل الله ﴾ هذه نزلت في عبد الله بن سعد بن سرح، على قول أكثر المفسرين. أسلم أولا، وكان من كتاب الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم، ولما أنزل الله في سورة ( قد أفلح المؤمنون ) :﴿ ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا ءاخر ﴾ [ المؤمنون : الآيات ١٢ ١٤ ] عجب عبد الله بن سعد بن أبي سرح من تفضيل الله هذا لخلق الإنسان فقال : " فتبارك الله أحسن الخالقين " فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " هكذا أنزلت " فشك في كلام النبي صلى الله عليه وسلم، قال : إني أوحي إلي مثل ما أوحي إليه، إن كان صادقا فقد أوحي إلي مثل ما أوحي إليه، وإن كان كاذبا فقد جئت بمثل ما جاء به. وارتد عن الإسلام – والعياذ بالله وهو ممن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلهم يوم فتح مكة، وكان أخا لعثمان بن عفان ( رضي الله عنه ) من الرضاعة، فأخفاه عثمان عنده حتى سكنت الحركة واستأمن النبي صلى الله عليه وسلم له فأمنه، وحسن إسلامه، وكان واليا لعثمان على جهة مصر، وهو الذي فتح إفريقية، وقتل ملكها ( جرجير )، والذي تولى قتله عبد الله بن الزبير كما هو معروف في التاريخ. أنزل الله فيه عندما ارتد :﴿ ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله ﴾ [ الأنعام : آية ٩٣ ] ونظيره قول بعض الكفار :﴿ لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين ﴾ [ الأنفال : آية ٣١ ].
ثم إن الله ( جل وعلا ) لما بين أنواع الكفرة الظالمين باجترائهم على الكذب، كادعائهم لله الأولاد والشركاء، وكقول بعضهم : إنه أوحي إليه، وكقول بعضهم : إنه قادر على أن ينزل مثل ما أنزل الله. بين وعيده لهؤلاء الكفرة، قال :﴿ ولو ترى ﴾ يا نبي الله ﴿ إذ الظالمون ﴾ حين الظالمون كالذين يفترون على الله الكذب، ويقولون : إنهم أوحي إليهم. أو يقولن : سننزل مثل ما أنزل الله. لو ترى حين الظالمون أمثال هؤلاء حين هم ﴿ في غمرات الموت ﴾ غمرات الموت : سكراته وشدائده وكرباته. وأصل ( الغمرة ) هي ما يغمر الشيء، كالماء الذي يغمر الوادي فيغطيه، كل ما غمر شيئا حتى غطاه وستره. المصدر من ذلك :( غمرا ) والمراد ب( غمرات الموت ) : شدائده وسكراته وكرباته، حين هم في سكرات الموت وشدائده وكرباته. والحال :﴿ والملائكة باسطوا أيديهم ﴾ باسطوا أيديهم : يعني باسطوها إليهم بالضرب الوجيع، والأذى الفظيع. والعرب تكني عن السوء ب( بسط اليد )، كقوله :﴿ لئن بسطت إلي يدك لتقتليني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك ﴾ [ المائدة : آية ٢٨ ] وكقوله :﴿ إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء ﴾ [ الممتحنة : آية ٢ ] والدليل على أن بسط الملائكة أيديهم إليهم أنه للأذى والضرب الوجيع : آيات جاءت بذلك، كقوله ﴿ وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم ﴾ [ الأنفال : آية ٥٠ ] فضربهم هذا لوجوههم وأدبارهم هو الذي بسطوا إليهم أيديهم به في قوله ﴿ والملائكة باسطوا أيديهم ﴾ هذا هو الأظهر، خلافا لمن قال : إنهم يمدون أيديهم إليهم ليأخذوا أنفسهم وأرواحهم من أبدانهم، كما يمد الغريم يده لغريمه ليأخذ حقه عليه بشدة وعنف.
وقوله :﴿ أخرجوا أنفسكم ﴾ أخرجوا أنفسكم : فيه وجهان معروفان من التفسير :
أحدهما : أن المعنى : أخرجوا أيها المحتضرون أنفسكم من هذه الكربات إن كانت لكم قدرة. والمعنى : لا تقدرون على الخروج عما يريد الله أن يفعله فيكم.
القول الثاني : أن روح الكافر إذا علمت بما لها عند الله من العذاب الشديد تفرقت في جسده وامتنعت من الخروج، فهم يقولون :﴿ أخرجوا أنفسكم ﴾ قدموا أرواحكم وأخرجوها من أبدانكم لنأخذها.
ثم قال :﴿ اليوم تجزون عذاب الهون ﴾ الهون : هو أشد الهوان، وهو الذل والخزي – والعياذ بالله وإنما أضاف العذاب إلى ( الهون ) لأنه عذاب موصوف بأن صاحبه يقع عليه أعظم الهوان وأشده، كقولك : رجل سوء، وعذاب هون، وما جرى مجرى ذلك.
وقوله :﴿ بما كنتم تقولون على الله غير الحق ﴾ لأن الله بين أن الذين يفترون على الله الكذب لا أحد أظلم منهم في قوله :﴿ ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا ﴾.
ثم بين أنهم عند الاحتضار تتوفاهم الملائكة، ويبسطون أيديهم إليهم بضرب الوجوه والأدبار. ثم بين علة ذلك :﴿ بما كنتم ﴾ في دار الدنيا ﴿ تقولون على الله غير الحق ﴾ كادعائكم له الأولاد والشركاء، وأنه حرم ما لم يحرمه، وأحل ما لم يحلله، وكقول بعضكم إنه أوحي إليه ولم يوح إليه شيء، وكقول بعض الكفار : إنه سينزل مثل ما أنزل الله. كل هذا من افتراء الكذب على الله، الذي بين الله أنه سبب لعذابه وضرب الملائكة إياه، حيث بين العلة بقوله :﴿ بما كنتم تقولون على الله غير الحق ﴾ من افتراء الكذب بادعاء الأولاد والشركاء، وما جرى مجرى ذلك ﴿ وكنتم عن ءاياته تستكبرون ﴾ وكنتم عن آياته ( جل وعلا ) إذا تليت عليكم تستكبرون، تتكبرون عنها وتأنفون من اتباعها ؛ لأن قادة الكفار ورؤساءهم كانوا إذا تلي عليهم القرآن ودعوا إلى الدين قالوا بجهلهم : نحن الآن رؤساء متبوعون، كيف نتنازل ونكون أتباعا مأمورين مرؤوسين ؟ لا يكون ذلك ! ! ولذا أجرى الله العادة أن من يناصب الرسل بالعداوة هو أشراف الناس، والمترفون منهم، كما صرح الله به في آيات من كتابه ﴿ وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون ﴾ [ سبأ : آية ٣٤ ] وفي حديث هرقل مع أبي سفيان الثابت في الصحيح : أن ملك الروم ( هرقل ) لما سال أبا سفيان : أأشرف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم ؟ قال : بل ضعفاؤهم. قال : أولئك أتباع الأنبياء. أجرى الله العادة بذلك، ومما يوضح هذا أن أول الأنبياء الذين بعثوا إلى الأرض بعد أن وقع الكفر والإشراك بالله : هو نوح ( عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام )، كان أتباعه من ضعفاء قومه ؛ ولذا قال له قومه :﴿ أنؤمن لك واتبعك الأرذلون ﴾ [ الشعراء : آية ١١١ ] وقالوا له :﴿ وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي ﴾ [ هود : آية ٢٧ ] وآخرهم نبينا صلى الله عليه وسلم. كذلك قدمنا في هذه السورة الكريمة العظيمة – سورة الأنعام – أن رؤساء الكفرة قالوا له : لا نجالسك حتى تطرد عنا هؤلاء النتنى، يعنون ضعفاء المسلمين. وقد مر معنا ما أنزل الله فيهم في قوله :﴿ ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ﴾ [ ا
﴿ ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاؤا لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون ﴾ [ الأنعام : آية ٩٤ ].
لما بين الله ( جل وعلا ) في هذه الآيات من سورة الأنعام أنه لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذبا، ولا أحد أظلم ممن ادعى الوحي كذبا، ولا أحد أظلم ممن ادعى أنه قادر على إنزال مثل ما أنزل الله، وبين الله ( جل وعلا ) أن هؤلاء الظالمين الذين قالوا هذه المقالات أنهم إذا حضرتهم الوفاة بسطت الملائكة أيديهم إليهم بالعذاب والنكال، وقالوا لهم :﴿ أخرجوا أنفسكم ﴾ [ الأنعام : آية ٩٣ ] بين حالتهم التي يبعثون عليها، وشدة ضعفهم وعدم قوتهم التي كانت هي سبب تمردهم في الدنيا.
وقوله في هذه الآيات :﴿ سأنزل مثل ما أنزل الله ﴾ يدخل في معناه : من ادعى أنه ينظم للبشرية ما يغنيها عن نظام الله ( جل وعلا ) الذي وضعه، ومن اتبع هذا – والعياذ بالله – فقد اتبع أحدا لا أظلم في الدنيا منه – والعياذ بالله – فالذي ينزله الله لا يقدر أحد على أن ينزل مثله. ومن ادعى أنه ينزل مثله صرح الله في هذه الآيات الكريمة أنه لا أحد ألبتة أظلم منه.
وبهذا تعلمون أن الذين يتنطعون ويدعون أنهم ينظمون للبشرية نظاما أحسن مما أنزل الله، أنهم يدخلون في هذه الآية، وأن الملائكة ستضربهم عند الموت. ستضرب وجوههم وأدبارهم، وتقول لهم :﴿ أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون ﴾ [ الأنعام : آية ٩٣ ] ومعلوم أنه لا تشريع إلا للسلطة العليا. فالسلطة العليا الحاكمة على كل شيء هي التي لها الأمر والنهي. فهؤلاء الذين يتمردون على نظام السماء، ويحاولون قلب الحكم السماوي لو جاء أحد يريد أن ينقلب الحكم عليهم ويحكم بغير ما شرعوا لقتلوه شر قتله، مع أنهم يتجاهرون بأن نظام خالق السماوات والأرض الحكيم الخبير، الذي نظم فيه علاقات الدنيا، وأوضح فيه طرق الخير في الدنيا والآخرة، وأتبع فيه متطلبات الروح بالتربية والتهذيب، ومتطلبات الجسم على الوجوه الشرعية، يقولون : إنه لا يصلح، ولا ينظم الحياة، ولا يساير التطور الحالي للحياة. الذين يقولون هذا والذين يتبعونهم، لا شك أنهم داخلون في هذا الوعيد في قوله :﴿ ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله ﴾. لأن من أعظم ما أنزله الله : وضع النظام البشري الذي يمشي عليه البشر ليؤاخي بينهم، وينشر بينهم العدالة، والطمأنينة، والرخاء، والمساواة في الحقوق الشرعية.
قد قدمنا في هذه الدروس مرارا كثيرة : أن من ادعى أن هنالك تنظيما ينظم الحياة البشرية في الدنيا مثل تنظيم الله أو أحسن من تنظيم الله، أن هذه الدعوى كفر بواح، لا يشك فيه من له أدنى عقل، والآيات المصرحة بذلك بإيضاح كثيرة في القرآن العظيم، منها : أن الشيطان لما جاء تلاميذه من كفار قريش، وجاءهم بوحي الشياطين، وقال لهم : سلوا محمدا صلى الله عليه وسلم عن الشاة تصبح ميتة، من هو الذي قتلها ؟ فلما أجاب وقال : " الله قتلها ". أوحى إليهم الشيطان أن قالوا : ما ذبحتموه بأيديكم – يعنون المذكى – تقولون : حلال. وما ذبحه الله بيده الكريمة – يعنون الميتة – تقولون : هو حرام ؟ فأنتم إذا أحسن من الله ؛ حيث كانت ذبيحتكم أحل من ذبيحته ! ! فهذه قضية اختلف الحق والباطل فيها في مضغة لحم شاة ماتت ولم تذك، فجاء تشريع الشيطان بأنها : حلال ؛ لأن الله هو الذي ذبحها، وجاء نظام الإسلام، وتشريع السماء، على لسان سيد الخلق : أنها حرام ؛ لأنها لم تذك، ولم يذكر عليها اسم الله، فصرح الله ( جل وعلا ) بأن الذين يتبعون قانون إبليس، ونظام الشيطان، ويحللون لحم الميتة الذي حرمه نظام السماء، أنهم كفرة مشركون ؛ ولذا قال الله جل وعلا :﴿ ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ﴾ يعني الميتة. ثم قال :﴿ وإنه لفسق ﴾ ثم قال :﴿ وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم ﴾ يجادلوهم بوحي الشيطان : ما ذبحتموه حلال وما ذبحه الله حرام، فأنتم إذا أحسن من الله. هذا معنى قوله :﴿ وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم ﴾. ثم قال – وهو محل الشاهد :﴿ وإن أطعتموهم إنكم لمشركون ﴾ [ الأنعام : آية ١٢١ ] وإن أطعتموهم في نظام إبليس في تحريم تلك اللحمة التي حللها إبليس على لسان أتباعه – بدعوى شبهة أنها ذبيحة الله، وحرمها الله في تشريعه السماوي على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم – صرح الله بأن من اتبع نظام إبليس وأحل تلك الميتة، وترك نظام الله الذي هو تحريمها : أنه مشرك بالله، كما قال :﴿ وإن أطعتموهم إنكم لمشركون ﴾ لأن الرب هو الذي يحلل ويحرم، فمن اتبعت تحريمه وتحليله فقد جعلته ربك. وهذا الشرك : شرك طاعة، ونظام، وقانون في التحريم والتحليل، وسيوبخ الله مرتكبيه يوم القيامة على رؤوس الأشهاد، ويبين مصيرهم الفظيع الشنيع من النار ؛ وذلك أن الله يقول لمن كانوا يتبعون نظم الشيطان وقوانينه التي شرعها على ألسنة أوليائه، تاركين نظام السماء الذي أنزله خالق الخلق على لسان نبيه، يقول الله لهم :﴿ ألم أعهد إليكم يا بني ءادم أن لا تعبدوا الشيطان ﴾ [ يس : الآية ٦٠ ] يعني : باتباع نظامه وتشريعه وقانونه ﴿ إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم ولقد أضل منكم جبلا كثيرا ﴾ والجبل الكثير الذي أضله : هم الذين يتبعون تزيينه في المعاصي، وتشريعه، ونظامه المخالف لتشريع السماء، ونظام خالق الكون ﴿ أفلم تكونوا تعقلون ﴾ لا عقول لكم حيث تتبعون نظام إبليس، وتتركون نظام خالقكم ﴿ جل وعلا ﴾، ثم قال :﴿ هذه جهنم التي كنتم توعدون اصلوها اليوم بما كنتم تكفرون اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون ﴾ [ يس : الآيات ٦٠ ٦٥ ] وقال الله ( جل وعلا ) عن نبيه إبراهيم أنه يقول لأبيه :﴿ يا أبت لا تعبد الشيطان ﴾ يعني بقوله :﴿ لا تعبد الشيطان ﴾ لا تتبع نظامه وتشريعه بالكفر والمعاصي، ﴿ إن الشيطان كان للرحمان عصيا ﴾ [ مريم : آية ٤٤ ].
وقد سمى الله ( جل وعلا ) الذين يطاعون في معصية الله، سماهم ( شركاء ) في هذه السورة الكريمة، سورة الأنعام، في قوله جل وعلا :﴿ وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ﴾ [ الأنعام : آية ١٣٧ ] فسماهم ( شركاء ) لما أطاعوهم في التحليل من قتل الأولاد، وقال جل وعلا :﴿ إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا ﴾ [ النساء : آية ١١٧ ] يعني : ما يعبدون إلا شيطانا مريدا. وعبادتهم له هي : اتباع تشريعه، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم هذا البيان لما سأله عدي بن حاتم ( رضي الله عنه ) عن قوله تعالى :﴿ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا ﴾ [ التوبة : آية ٣١ ] قال عدي للنبي : كيف اتخذوهم أرباب ؟. قال : " ألم يحلوا لهم ما حرم الله، ويحرموا عليهم ما أحل الله فاتبعوهم ؟ " قال : بلى، قال : " بذلك اتخذوهم أربابا ".
وقد صرح الله ( جل وعلا ) في سورة النساء أن من يدعي الإسلام ويزعم أنه مؤمن، ثم يريد التحاكم إلى الطاغوت من تشاريع الشيطان، أن دعواه للإيمان مع ذلك بالغة من الكذب والبطلان ما يستوجب التعجب منها، وذلك في قوله :﴿ ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم ءامنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا ﴾ [ النساء : آية ٦٠ ].
والآيات بمثل هذا كثيرة، وعلى كل حال فعلينا جميعا نحن المسلمين أن نعرف ونعتقد أنه لا تشريع إلا لخالق السماء والأرض، فالحلال ما أحله الله، والحرام ما حرمه الله، والدين ما شرعه الله، والأمر أمر الله، والنهي نهي الله، والحسن ما حسنه الله، والقبيح ما قبحه الله، وكل نظام وتشريع غير تشريع السماء وبال وويل على صاحبه – والعياذ بالله جل وعلا – ولذا أولئك يدخلون في قوله هنا :﴿ ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله ﴾ [ الأنعام : آية ٩٣ ].
وقد بين ( جل وعلا ) في هذه الآية الكريمة، أن أولئك المستكبرين في دار الدنيا، الذين يستكبرون عن آياته، الذين كان لهم في الدنيا خدم، وحشم، وأتباع، وأبهة، أنهم يوم القيامة يبعثون ويعرضون إلى ربهم لا أتباع لهم، ولا حشم، ولا خدم، حتى ولا نعال، ولا ثياب، كل واحد بمفرده ﴿ يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها ﴾ [ النحل : آية ١١١ ] ﴿ كما خلقناكم أول مرة ﴾ [ الأنعام : آية ٩٤ ] لأن الإنسان يخرج من بطن أمه وحيدا فريدا، لا مال له، حافيا، عاريا، لا نعال له، ولا لباس، غير مختون، لا خدم له، ولا حشم، كذلك يخرج من قبره وحيدا فريدا متجردا من الأبهة التي كان فيها، ليس معه خادم، ولا وزير، ولا مال، ولا نعل، ولا لباس، يحشرون يوم القيامة حفاة عراة غرلا. أي : غير مختونين ؛ ولذا يقول الله للذين يستكبرون ويكفرون – كانوا يجمعون في دار الدنيا بين أمرين : التكبر، والتعاظم، وعدم الإذعان لآيات الله والإيمان به، ويزعمون أن الأصنام التي يعبدونها من دون الله أنها تشفع لهم يوم القيامة، وتنجيهم من كربات يوم القيامة، فوبخهم الله هذا التوبيخ العظيم – قال :﴿ ولقد جئتمونا ﴾ هو مجيئهم يوم القيامة محشورين معروضين على خالقهم ( جل وعلا ) ﴿ فرادى ﴾ الفرادى : جمع فرد أو فرد. خلافا لمن قال : إن واحده ( الفردان ) كالسكران والسكارى. وواحده في الحقيقة : الفرد والفرد، وتقول : هو فرد وفرد، إذا كان واحدا. وربما قيل فيه : فرد، ويروى بهما معا قول نابغة ذبيان :
كأن رحلي وقد زال النهار بنا*** بذي الجليل على مستأنس وحد
من وحش وجرة موشي أكارعه طاوي المصير كسيف الصيقل الفرد
ويروى : الفرد، والفرد : هو الوحيد الذي لا شيء معه، ﴿ جئتمونا فرادى ﴾ كل واحد منكم فردا بمفرده، ليس معه مال، ولا ولد، ولا حشم، ولا خدم، حتى إنه حاف عارليس بمختون. وهذا معنى :﴿ كما خلقناكم أول مرة ﴾.
وفي إعراب ( الكاف ) من ( كما خلقنا ) وجهان من الإعراب.
أحدهما : أنه في محل نصب نعتا لمصدر. والمعنى : جئتمونا مجيئا مشابها لخلقنا لكم أولا في التجرد عن المال، والأعوان، والحشم، والخدم.
الثاني : أنه في محل الحال. أي : جئتمونا فرادى في حال كونكم مشابهين حالتكم الأولى التي ولدتم عليها، لأن الواحد منكم يخرج من بطن أمه فردا لا مال له، ولا ولد، ولا حشم، ولا خدم. وهذا معنى ﴿ كما خلقناكم أول مرة ﴾.
﴿ وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم ﴾ العرب تقول : " خوله " إذا أعطاه وأنعم عليه، ﴿ ما خولناكم ﴾ : أي : ما أعطيناكم، وأنعمنا عليكم به من المال والخول، والخدم، تركتموه وراءكم، أي : خلقكم، حيث متم عنه ولم يأت معكم.
ثم قال :﴿ وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم ﴾ الشفعاء الذين كنتم تزعمون أنهم شركاء لنا فيكم، وأن نصيبا لهم من حقوقنا، وتعبدونهم معنا، وتزعمون أنهم يشفعون لكم، ما نراهم معكم. وهذا توبيخ لهم – والعياذ بالله – كما قال تعالى :﴿ ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون ﴾ [ يونس : آية ١٨ ].
وقوله :﴿ لقد تقطع بينكم ﴾ فيه قراءتان :﴿ لقد تقطع بينَكم ﴾، ﴿ لقد تقطع بينُكم ﴾ فعلى قراءة :﴿ لقد تقطع بينُكم ﴾ ف( البين ) من الأضداد، يطلق على البعد، وعلى الوصل. وا
يقول الله جل وعلا :﴿ إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنى تؤفكون ﴾ [ الأنعام : ٩٥ ].
بين الله ( جل وعلا ) في هذه الآيات عجائب صنعه الدالة على أنه المعبود وحده، القادر على كل شيء. وهذه مع أنها آيات، فهي نعم عظام، فهو يذكر الخلق بنعمه العظام، وآياته العظام.
وقوله :﴿ إن الله فالق الحب والنوى ﴾ [ الأنعام : آية ٩٥ ] الفلق في لغة العرب معناه : الشق. وفي هذه الآية ثلاثة أوجه معروفة من التفسير :
أشهرها وعليه الجمهور، وهو ظاهر القرآن العظيم الذي دل عليه بعض القرائن أن معنى قوله :﴿ إن الله فالق الحب والنوى ﴾ إن الله ( جل وعلا ) فالق الحب، يفلق حب القمح – مثلا – إذا بذر في الأرض يفلقه ويشقه عن سنبلة فيها مئات الحب، ويفلق النواة.
﴿ والنوى ﴾ جمع نواة، وقيل : هو اسم جمع للنواة، كنوى التمر وغيره، فكل ثمر في داخله عجم يسمى : نوى. فإن الإنسان يبذر النواة في الأرض – نواة النخلة مثلا، وهي صلبة قاسية فيشقها الله، ويخرج منها هذه النخلة، هذه الشجرة العظيمة، ذات الخوص، وذات العيدان، وينبت من تلك النخلة تمرا أيضا، فالذي يشق الحبة إذا بذرت في الأرض، ويخرج منها سنبلة، ويشق النواة، ويخرج منها نخلة، أو شجرة أخرى – إذا كانت نواة غير نواة النخل – من يفعل هذه الأفعال التي تشاهدونها فهو العظيم القادر على كل شيء، وهو الرب وحده، المعبود وحده ( جل وعلا )، فعلى هذا الوجه الذي عليه جمهور المفسرين يذكرنا الله بعظمته، وكمال قدرته، حيث ينبت السنبلة من الحبة، والنخلة من النواة، فمن يفعل هذا فهو عظيم قادر على كل شيء، وكأنه يشير إلى أن ذلك السنبل الذي يفلق عنه الحبة هو معيشتنا التي لا نستغني عنها، فكما أنه من باهر آياته فهو من نعمه العظمى علينا، وقد أوجب الله على كل إنسان منا أن ينظر في هذا ؛ لأن الله قال بصيغة أمر تقتضي الوجوب، في سورة عبس قال :﴿ فلينظر الإنسان إلى طعامه ﴾ [ عبس : آية ٢٤ ] فأوجب على الإنسان بصيغة الأمر النظر إلى طعامه، ومعناه : كأنه يقول : أيها الإنسان انظر إلى طعامك، انظر إلى الخبز الذي تأكله، من هو الذي خلق الماء الذي أنبته الله بسببه ؟ أيقدر أحد غيره على أن يخلق الماء ؟ ! لا، هب أن الماء خلق، من يقدر على إنزاله على هذا الأسلوب العجيب رشاشا يسقي الأرض من غير أن يضر بأحد، لا يقدر على هذا إلا الله ﴿ ألم تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق ﴾ يعني المطر ﴿ يخرج من خلاله ﴾ [ النور : آية ٤٣ ] من فتوق السحاب ومخارجه رشاشا ؛ لأنه لو نزل مجتمعا لأهلك ما سقط عليه. هب أن الماء خلق، وأنه أنزل إلى الأرض على هذا الأسلوب الغريب العجيب حتى شربت الأرض ورويت، من هو الذي يقدر على شق الحبة عن السنبلة أولا، ثم على شق الأرض وإخراج مسمار النبات منها ؟ هب أن مسمار النبات خلق ؟ من هو الذي يقدر أن يخرج منه السنبلة ؟ هب أن السنبلة خرجت، من هو الذي يقدر على تنمية حبها، ونقله من طور إلى طور، حتى يصير صالحا مدركا، صالحا للأكل ؟ ﴿ انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذالكم لأيات لقوم يؤمنون ﴾ [ الأنعام : آية ٩٩ ] هذا ذكره الله بقوله :﴿ فلينظر الإنسان إلى طعامه إنا صببنا الماء صبا ﴾. وفي القراءة الأخرى :﴿ أنا صببنا الماء صبا ﴾ [ عبس : الآيتان ٢٤، ٢٥ ] يعني : فسقينا به الأرض، ثم شققنا الأرض عن النبات شقا بعد أن شققنا الحبة عن السنبلة، كما قال هنا :﴿ إن الله فالق الحب والنوى ﴾ هذه غرائب صنع الله وعجائبه يبينها لخلقه، ويذكرهم بنعمته ليعلموا عظمة من خلقهم ( جل وعلا ) فيعبدوه وينيبوا إليه.
هذا معنى قوله :﴿ إن الله فالق الحب ﴾ يعني : فالق الحب عن السنبل، وفالق النوى عن الشجر، كالنخل مثلا. هذا من غرائب صنعه وعجائب قدرته، ومن نعمه العظمى عليكم، حيث أنبت لكم الحبوب والثمار لتأكلوا منها.
وهذا معنى قوله :﴿ إن الله فالق الحب والنوى ﴾ هذا التفسير هو الذي عليه جمهور المفسرين، وهو المعروف عن علماء السلف والخلف، وفي الآية قولان آخران :
أحدهما : أن معنى كونه فالق الحب والنوى : أن حبة القمح مثلا فيها شبه شق في بعض جوانبها، والنواة فيها شق في جانبها، أنه هو الذي جعل ذلك الشق في الحب، وجعله في النوى ليري الناس كمال قدرته.
الوجه الثاني : هو ما ذكره بعض أهل العلم : أن الفلق والفطر والخلق كلها مترادفة. فمعنى :﴿ فالق الحب والنوى ﴾ أي : خالق الحب والنوى وغير ذلك.
والأول هو أشهرها.
وقوله :﴿ يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ﴾ فقوله :﴿ يخرج الحي من الميت ﴾ كالتفسير لقوله :﴿ فالق الحب والنوى ﴾ لأن الحبة اليابسة كأنها ميتة، وكل شيء ينمو ويتزايد تسميه العرب حيا ؛ ولذا يسمون النبات حيا ؛ لأنه ينمو، ويسمون اليابس منه – الذي لا ينمو – يسمونه ميتا. ومن هنا كانوا يقولون للأرض الجدبة القاحلة : ميتة ؛ لأن نباتها يابس لا ينمو، فإذا نبت فيها النبات الأخضر النامي سموها : حية. كما قال تعالى :﴿ وءاية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون ليأكلوا من ثمره ﴾ [ يس : الآيات ٣٣ ٣٥ ]. ولذا قال :﴿ يخرج الحي من الميت ﴾ الحي هنا : هو السنبل الأخضر النامي، والنخل الأخضر النامي يخرجه الله من ذلك الميت اليابس الذي لا ينمو، وهو الحب اليابس، أو النوى اليابس، وكذلك يخرج الله النطفة – وهي ميتة – يخرجها من الحي الذي هو الإنسان، والبيضة من الدجاجة. فقوله :﴿ يخرج الحي من الميت ﴾ أي يخرج النامي من النبات والحيوانات من الميت وهو بذر النبات اليابس الذي لا ينمو بذاته، وكذلك ما يخرج من الإنسان، كالنطفة فإنها لا تنمو بنفسها إلا أن الله ( جل وعلا ) يخرج منها الحي، كما قال :﴿ ومخرج الميت من الحي ﴾ المعنى : أن الله ( جل وعلا ) يخرج الحي النامي كالنخلة، والسنبلة من الحبة، والنوى، ويخرج الإنسان من النطفة، والدجاجة من البيضة مثلا، كما أنه يخرج الميت من الحي، يخرج أيضا ذلك الزرع الميت من الحي الذي هو النبات، ويخرج الثمر من الشجر الذي هو النامي، كما يخرج أيضا النطفة والبيضة من الحي الذي هو الإنسان والدجاجة.
هذا معنى قوله :﴿ يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ﴾ وهذا هو الذي عليه جمهور المفسرين، خلافا لمن قال : إنه يخرج الكافر من المؤمن، والمؤمن من الكافر، وما جرى مجرى ذلك. القول الأول هو المشهور.
وفي هذه الآية الكريمة سؤال عربي : وهو أن يقول طالب العلم : قال ﴿ يخرج الحي من الميت ﴾ بصيغة المضارع، وعطف عليه قوله :﴿ ومخرج الميت من الحي ﴾ بصيغة اسم الفاعل، فما النكتة العربية في عطف اسم الفاعل هنا على المضارع ؟ ولم لا يعطف عليه مضارعا آخر ؟ كما فعل في سورة آل عمران حيث قال :﴿ تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي ﴾ [ آل عمران : آية ٢٧ ].
عن هذا السؤال للعلماء وجهان :
أحدهما : أن قوله :﴿ ومخرج ﴾ معطوف على اسم الفاعل، وعليه فالمعنى : إن الله فالق الحب والنوى، ومخرج الميت من الحي. فهو اسم فاعل معطوف على اسم فاعل ؛ لأن قوله :﴿ يخرج الحي من الميت ﴾ كأنه تفسير لقوله :﴿ فالق الحب والنوى ﴾ فجاء باسم الفاعل في ﴿ فالق الحب والنوى ﴾ وفسره بأن معناه : يخرج الحي من الميت. أي : يخرج النخلة التي هي نامية حية من النواة التي هي ميتة، والسنبلة التي هي نامية حية من الحبة التي هي ميتة. وإذا كان قوله :﴿ يخرج الحي من الميت ﴾ كالتفسير لقوله :﴿ فالق الحب والنوى ﴾ يكون قوله :﴿ ومخرج ﴾ عطفا على ﴿ فالق ﴾ فهو اسم فاعل معطوف على اسم فاعل. وعلى هذا فالتقدير : إن الله فالق الحب والنوى. أي : مخرج الحي من الميت، ومخرج الميت من الحي.
الوجه الثاني : هو أن عطف اسم الفاعل على الفعل، وعطف الفاعل على الاسم المشتق، كلها أساليب معروفة في القرآن وفي لغة العرب. ومن أمثلة عطف الفعل على اسم الفاعل : قوله جل وعلا :﴿ أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ﴾ [ الملك : آية ١٩ ] لم يقل : وقابضات، وقوله :﴿ والعاديات ضبحا فالموريات قدحا فالمغيرات صبحا فأثرن به نقعا ﴾ [ العاديات : الآيات ١ ٤ ] ولم يقل : فالمثيرات. وكذلك عكسه، وهو : عطف الاسم على الفعل – اسم الفاعل على الفعل – أمر معروف موجود في كلام العرب، ومنه قول الراجز :
بات يغشيها بعضب باتر يقصد في أسوقها وجائر
فقوله : " جائر " معطوف على " يقصد " بمعنى : قاصد وجائر. وهذا أسلوب معروف في كلام العرب.
﴿ ومخرج الميت من الحي ﴾ ثم إن الله لما نبهنا على عظمته وكمال قدرته، وأنك أيها الإنسان تشاهدك تبذر حبة في الأرض، فيخرجها لك سنبلة خضراء فيها مئات الحب، وتبذر نواة في الأرض فيخرج لك منها نخلة ذات أغصان، وذات خوص وجريد، وذات ثمر، وهذا من أبدع صنعه ( جل وعلا )، دال على أنه الرب وحده. قال بعد هذه الآيات :﴿ فأنى تؤفكون ﴾ أين تصرفون عن النظر في هذا ؟ كيف تشاهدون غرائب صنعه وعجائبها الدالة على كمال قدرته، وتسوون به غيره، وتعبدون معه ما لا ينفع ولا يضر ؟ أين تصرفون ؟ وأين تذهب عقولكم عن أفعال ربكم العظيمة الدالة على أنه المعبود وحده ؟
و﴿ تؤفكون ﴾ مضارع مبني للمفعول، من ( أفكه يأفكه ) إذا قلبه، العرب تقول : " أفك الأمر يأفكه " إذا قلبه، ومنه قيل لقرى قوم لوط :( المؤتفكات ) لأن جبريل أفكها، أي : قلبها فجعل عاليها سافلها، ومن هنا قيل للكذب : إفك ؛ لأن الإفك أسوأ الكذب ؛ لأنه صرف للكلام عن وجهه الحقيقي إلى وجهه الباطل. فمعنى :﴿ فأنى تؤفكون ﴾ أين تصرفون وتقلبون عن هذه البراهين والآيات العظيمة الدالة على عظمة ربكم وجلاله، وأنه المعبود وحده جل وعلا.
﴿ فالق الإصباح وجعل الليل سكنا ﴾ قرأ هذا الحرف القراء السبعة ما عدا الكوفيين :﴿ وجاعل الليل سكنا ﴾ وقرأه الكوفيون – حمزة والكسائي وعاصم :﴿ وجعل الليل سكنا ﴾ بصيغة الفعل الماضي.
وإعراب ﴿ فالق الإصباح ﴾ فيه للعلماء ثلاثة أوجه لا يكذب بعضها بعضا :
أحدها : أنه خبر مبتدأ محذوف. أي : هو ( جل وعلا ) فالق الإصباح.
الثاني : أنه نعت للرب في قوله :﴿ ذلكم الله ﴾، الله فالق الإصباح. فهو نعت لاسم الجلالة.
وقال بعض العلماء : هو خبر آخر لقوله :﴿ إن ﴾ ﴿ إن الله فالق الحب والنوى ﴾، ﴿ فالق الإصباح ﴾ والخبر يتعدد للمبتدإ، وإذا دخلت ( إن ) على مبتدإ متعدد الخبر : تعددت الأخبار لها، والمعنى كله على هذه الأعاريب الثلاثة معنى واحد.
ومعنى :﴿ فالق الإصباح ﴾ الإصباح : أصله مصدر ( أصبح يصبح إصباحا )، إذا جاء ضوء النهار من بعد ظلام الليل.
وعامة القراء السبعة قرؤوا :﴿ فالق الإصباح ﴾ بكسر الهمزة. مصدر ( أصبح، يصبح، إصباحا ). وهو مصدر سمي به، [ والعرب ] ( في هذا الموضع انقطاع في التسجيل. وما بين المعقوفين زيادة يتم بها المعنى ) تقول للصبح : إصباحا، وهو معروف في كلام العرب، ومنه قول امرىء القيس :
ألا أيها الليل الطويل ألا انجل*** بصبح وما الإصباح فيك بأمثل
فبين أنه يقصد بالإصباح : الصبح، فأصله مصدر ( أصبح، يصبح، إصباحا ).
وهناك قراءة شاذة قرأ بها الحسن وغيره :( فالق الأصباح وجاعل الليل ) القراءة :( الأصباح ) بفتح الهمزة جمع ( صبح )، والعرب تقول : " أصباح، وأمساء ". جمع ( صبح ومساء ). و " إصباح وإمساء "، مصدر ( أصبح، وأمسى ) وهو كلام معروف في كلام العرب، ومنه قول الراجز :
أربى رباحا وبني رباح *** تناسخ الأمساء والأصباح
ويروى :
...................... *** تناسخ الإمساء والإصباح
وعلى قراءة الجمهور :﴿ فالق الإصباح ﴾ معناها : مبدي ضوء الصبح بعد ظلام الليل.
وفي هذا المعنى سؤال معروف، لطالب العلم أن يقول : الله ذكر هنا أن الإصباح هو الذي يفلقه الله. والذي يفلق في الحقيقة : الظلام، هو الذي يفلق ويشق عن نور الصباح، أما كون نور الصباح هو الذي يفلق ويشق فهذا فيه إشكال، فيه سؤال معروف للعلماء.
وللعلماء عن هذا السؤال أجوبة :
منها قول بعضهم : الكلام على حذف مضاف : فالق ظلمة الإصباح. وأنه حذف المضاف إليه، ولا يخلو من بعد ؛ لأن هذا المضاف لم تحتف به قرينة.
وقال بعض العلماء :﴿ فالق الإصباح ﴾ لأن الإصباح يبدأ شعاع الصبح أولا وتحته ظلام، ولم يسفر إسفارا تاما يكشف الظلام كشفا كليا، ثم ينصدع ذلك الإصباح انصداعا كليا عن ضوء النهار كما ينبغي، وهذا معروف ومنه قول أبي تمام :
وأزرق الفجر يبدو قبل أبيضه*** وأول الغيث قطر ثم ينسكب
فعلى هذا القول : أن الإصباح يبدو أولا وهو مختلط بغلس الظلام، ثم إن الله يشق ذلك الإصباح الذي بدأت أوائله مختلطة بالظلام شقا واضحا عن وضح النهار، وهذا هو المعروف، أن الظلام سواء كان ظلاما دامسا، أو ظلاما مختلطا ببعض ضوء الصبح، هو الذي يشق عن الصباح كما هو معروف، ومنه قول أبي نواس :
تردت به ثم انفرى عن أديمها *** تفري ليل عن ضياء نهار
هذا هو المعروف، وهم إما يقدرون مضافا فيقولون : فالق ظلمة الإصباح. أي : شاقها بضوء الصبح، أو ﴿ فالق الإصباح ﴾. أي : أوائل الإصباح المختلطة بغلس الظلام، فالقها وشاقها عن النور، نور النهار الحقيقي.
وقوله :﴿ وجاعل الليل سكنا ﴾ على قراءة :﴿ وجاعل الليل سكنا ﴾ فلا إشكال، اسم فاعل معطوف على اسم فاعل. وعلى قراءة :﴿ وجعل الليل سكنا ﴾ هو مما كنا نقول : إن الاسم إذا كان مشتقا – كاسم الفاعل هنا – يعطف عليه الفعل، ويعطف هو على الفعل، كما قال في الخلاصة :
واعطف على اسم شبه فعل فعلا*** وعكسا استعمل تجده سهلا
ومثاله في القرآن :﴿ أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ﴾ [ الملك : آية ١٩ ] وقوله جل وعلا :﴿ والعاديات ضبحا ﴾ – إلى قوله – ﴿ فأثرن به نفعا ﴾ [ العاديات : الآيات ١ ٤ ] كما قال هنا :﴿ فالق الإصباح وجعل الليل سكنا ﴾.
أحدهما : أنه جعله سكنا أي : شيئا يسكن الناس فيه ؛ لأن الناس في النهار يكدحون في أعمالهم، ثم يروحون في تعب، فيجدون ظلام الليل مناسبا للهدوء والراحة. وعلى هذا فهو من السكون الذي هو ضد الحركة. يسكنون فيه وينامون لينقطع عنهم تعب الكد بالنهار، كما في قوله :﴿ وهو الذي جعل لكم الليل لباسا والنوم سباتا ﴾ [ الفرقان : آية ٤٧ ] من ( السبت ) بمعنى القطع. يعني : يقطع عنهم تعب الكد في النهار، ومما يدل على هذا : أن الله في سورة القصص لما بين أن الليل والنهار آيتان من آيات الله العظام، بين أيضا أنهما نعمتان من نعم الله العظام، وجعل السكنى في الليل من ذلك الإنعام حيث قال :﴿ قل أرءيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ﴾ يعني في الليل ﴿ ولتبتغوا من فضله ﴾ [ القصص : الآيات ٧١ ٧٣ ] من طلب حوائجكم وأرزاقكم بالنهار، وهذه الآية تبين أن السكن هنا : أي محلا تسكنون فيه ملائما للسكنى ؛ لأن الليل ظرف مناسب للسكنى.
وعلى هذا :﴿ وجعل الليل سكنا ﴾ جعله ساجيا مظلما مناسبا للسكنى، كما قال :﴿ والليل إذا سجى ﴾ [ الضحى : آية ٢ ] أي : إذا صار ساجيا مظلما، صالحا للسكنى، ملائما للهدوء، وعدم الحركة.
وقال بعض العلماء : السكن في لغة العرب : هو كل ما ترتاح إليه وتحبه فتسكن إليه ؛ ولذا قيل لامرأة الرجل :( سكنه ) لأنه يأوي إليها، وكل شيء أويت إليه وارتحت إليه فهو سكن لك. والمعنى : شيء يستريحون إليه، ويأوون إليه، لمناسبته للراحة والهدوء. وهذا معنى قوله :﴿ وجعل الليل سكنا ﴾ ﴿ وجاعل الليل سكنا ﴾.
﴿ والشمس والقمر حسبانا ﴾ الحسبان هنا : هو من ( الحساب ) على أشهر التفسيرات.
قال بعض العلماء : هو جمع حساب، كشهاب وشهبان، وحساب وحسبان.
وقال بعض العلماء : هو مصدر ( حسب ) بفتح السين، ( يحسب ) [ بكسرها ] ( في الأصل :( بفتحها ). وهو سبق لسان )، ( حسابا وحسابة وحسبانا )، إذا عد الشيء، والمعنى : جعل الشمس والقمر حسبانا يعني : خلقهما بحسبان، يحسب حركتها وسيرهما بأسلوب متقن لا يتغير في السنة ؛ لتعلموا بذلك الحساب عدد السنين والأشهر والأيام. وهذه من نتائج الشمس والقمر التي ذكرها الله ( جل وعلا ) ؛ لأنهم يعرفون بها الشهور والأيام والأعوام، فيعرفون من ذلك شهر الصوم، وشهر الحج، ويعرفون عدد النساء، وآجال الديون، وما جرى مجرى ذلك، هذه من فوائد الشمس والقمر التي أكثر الله ( جل وعلا ) من ذكرها.
ومعلوم أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم – كما قدمناه في هذه الدروس في سورة البقرة أنهم تاقت نفوسهم إلى هيئة القمر، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : ما بال الهلال يبدو دقيقا ثم لم يزل يكبر حتى يستدير بدرا ؟ وهذا سؤال عن هيئة القمر، والنبي صلى الله عليه وسلم أرسل ليبين للناس كل ما لهم فيه فائدة، ما يحتاجون إلى بيانه من آيات الله، وغرائبه، وعجائب صنعه، فأنزل الله جوابا لسؤالهم :﴿ يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج ﴾ [ البقرة : آية ١٨٩ ] فبين أنها مواقيت، وهذه المواقيت إنما كانت مواقيت لأنها بحساب معين مقدر نظمه العزيز العليم ( جل وعلا ). ومشارق الشمس ومغاربها معروفة في كل يوم من السنة، وكذلك منازل القمر معروفة، وفي هذه المشارق والمغارب – التي تشرق منها الشمس وتغرب، ومنازل القمر – يعرف الناس بها عدد السنين، والشهور، والحساب، ويعرفون شهر صومهم، وشهر حجهم، وعدد نسائهم، وآجال ديونهم، وما جرى مجرى ذلك. أما غير ذلك، فقد بين القرآن أنه مما ليس لهم فيه جدوى ولا فائدة. ومعلوم أن القرآن العظيم بين للناس كل ما يحتاجون إليه، والنبي صلى الله عليه وسلم بين كل ما يحتاج إليه. ونحن نقول هذا، ونقول : إن الله ( جل وعلا ) لم يجعل لخلقه في القمر أشياء غير ما هو مشاهد من عدد السنين والحساب، ومما جعل الله في الشمس والقمر بمجاري عادته وقدرته من المنافع للنباتات، والثمار، والمعادن، وغير ذلك.
نحن نتكلم على هذا القرآن ولا نرضى لأحد أن يؤوله بغير تأويله، ولا أن يعطفه على آراء الكفرة الفجرة، في الوقت الذي نعلم فيه أن دين الإسلام يأمر بالتقدم في جميع ميادين الحياة. دين الإسلام يأمر المجتمع بالتقدم في جميع ميادين الحياة. والإخلاد إلى الأرض، والتواكل والكسل : مخالفة للأمر السماوي الذي يأمر به خالق السماوات والأرض ؛ لأن الله يقول :﴿ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ﴾ [ الأنفال : آية ٦٠ ] فهذا أمر. فالمتوكل المخلد إلى العجز والاستسلام، ولم يعد ما يستطاع من قوة، فهو مخالف لأمر الله في قوله :﴿ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ﴾ وبهذا يعلم أن التقدم، والكفاح، والإعداد للقوة : كل هذا أوامر القرآن العظيم، ونظام السماء، وأن العاجز المتكاسل المخلد إلى الأرض مخالف لأوامر الله، والله يقول :﴿ فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ﴾ [ النور : آية ٦٣ ] وعلى كل حال فلا شك أن دين الإسلام، وهذا القرآن العظيم، ينظم للإنسان جميع ميادين الحياة في دينه، ودنياه، هذا هو الحق. ودين الإسلام دين تقدم، ودين كفاح في الميادين، ودين قوة، وإذا قرأتم آيات من كتاب الله عرفتم ذلك واضحا، إذا قرأتم مثلا آيتين من سورة النساء يقول الله فيهما :﴿ وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ﴾ [ النساء : آية ١٠٢ ] هذا وقت التحام الكفاح المسلح، والمفروض أن الرجال تنزل رؤوسهم عن أعناقهم، والقرآن في هذا الوقت الضنك الحرج، ترونه ينظم الخطة العسكرية على أحسن الوجوه، وأبدعها، وأحصنها من العدو، في الوقت الذي يأمر فيه بالاتصال ( الأصل : على الاتصال ) بخالق الكون، والتأدب بالآداب الروحية السماوية، التي هي الصلاة في الجماعة، هكذا أوامر القرآن، الاتصال بالله، وتربية الأرواح وتهذيبها على ضوء النور السماوي، مع القوة الجسمية المادية في جميع مظاهرها مهما تطورت، وتسمعون الله يقول في سورة الأنفال :﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون ﴾ [ الأنفال : آية ٤٥ ] قوله :﴿ إذا لقيتم فئة ﴾ يعني : إذا التقى الصفان وقت التحام الكفاح المسلح، وقوله :﴿ فاثبتوا ﴾ هذا تعليم عسكري سماوي عظيم، معناه : الصمود في الخطوط الأمامية من خطوط النار، عند التقاء الصفين، وفي هذا الوقت يقول الله جل وعلا :﴿ واذكروا الله كثيرا ﴾ وهذا مما يدل أن دين الإسلام دين كفاح، ودين قوة، ودين عظمة وتقدم في الميدان، ودين تربية الأرواح على ضوء تعاليم خالق هذا الكون، والاتصال بخالق هذا الكون ( جل وعلا ) ؛ لأن الإنسان المسكين إذا فقد حظه من ربه خسر كل شيء، وماله في الحياة فائدة.
فعلينا جميعا معاشر المسلمين أن نعلم أ
﴿ وهو ﴾ أي : الله جل وعلا. ﴿ الذي جعل لكم النجوم ﴾ أي : خلق لكم النجوم. ﴿ لتهتدوا بها ﴾ كل هذا من غرائب صنعه وعجائبه ؛ لأن النجوم يهتدي بها الناس في ظلمات الليل، سواء كانوا في بر أو بحر، وقد يكون الناس ملججين في البحر لا يعرفون جهة قصدهم إلا بالنجوم، وكذلك تأتيهم الظلمات في فيافي الأرض الواسعة فيستدلون بالنجوم، وربما كانوا في مسافة بعيدة إذا جاءهم غيم هلكوا، فإذا رأوا النجوم فرحوا كل الفرح ؛ لأنهم يعرفون بها الجهات، ويستدلون بها على قصد الطريق، كما قال الشاعر :
يهل بالفرقد ركبانها كما يهل الراكب المعتمر
يذكر فيفاء من الأرض إذا رأى ركبانها الفرقد بعد أن غاب عنهم : أهلوا يصيحون بالفرقد فرحا منهم أنهم رأوه ؛ لأنهم يهتدون به، كما قال تعالى :﴿ وعلامات وبالنجم هم يهتدون ﴾ [ النحل : آية ١٦ ].
وقد بين القرآن العظيم ثلاثا من حكم خلق النجوم، ثلاثة أشياء :
منها : أنها يهتدي بها الضالون في ظلمات البر والبحر، يعني : ظلمات الليل الكائنة برا أو بحرا كما قاله غير واحد.
الثاني : أن الله زين بها السماء كما قال :﴿ ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح ﴾ [ الملك : آية ٥ ].
الثالث : أنها ترجم بها الشياطين كما قال :﴿ رجوما للشياطين وأعتدنا لهم عذاب السعير ﴾ [ الملك : آية ٥ ].
هذه الحكم الثلاث : من رجم الشياطين بالنجوم، وتزيين السماء الدنيا بها، واهتداء الناس بها في ظلمات البر والبحر، هي حكم ثلاث ذكرها الله من حكم خلقه للنجوم.
والنجوم : هي الكواكب التي ترى في السماء. قيل سمي النجم نجما لأنه يطلع، والعرب تسمي الطلوع نجما، تقول : " نجم النبات ". إذا طلع.
وهذا معنى قوله :﴿ وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر ﴾ إنما أضاف الظلمات إلى مكانها من بر أو بحر للملابسة بينهما.
ثم قال تعالى :﴿ وقد فصلنا الآيات ﴾ أي : الدلالات الواضحة على قدرتنا وكمالنا، وأنه ليس لأحد أن يعبد غيرنا.
﴿ لقوم يعلمون ﴾ وهذه الآيات التي فصل كما ذكر من أنه يفلق الحب عن السنبل، والنوى عن النخل، وأنه ( جل وعلا ) يأتي بالليل بدل النهار، والنهار بدل الليل، وأنه ( جل وعلا ) يسخر الشمس والقمر، وأنه ( جل وعلا ) خلق النجوم، وبين من حكمها : اهتداء الخلق بها، هذه الآيات الباهرة القاهرة قد فصلناها لقوم يعلمون.
وإنما خص القوم الذين يعلمون لأنهم هم المنتفعون بها، ومن أساليب القرآن العظيم : أن يخصص بالكلام المنتفع به، كقوله :﴿ فذكر بالقرآن من يخاف وعيد ﴾ [ ق : آية ٤٥ ] وهو مذكر للأسود والأحمر، وكقوله :﴿ إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمان ﴾ [ يس : آية ١١ ] وهو منذر للأسود والأحمر، ﴿ إنما أنت منذر من يخشاها ﴾ [ النازعات : آية ٤٥ ] ونحو ذلك.
وقد بينا فيما مضى أن ( الآيات ) جمع ( آية )، وأنها عند المحققين من علماء العربية، أصلها :( أييه ) على وزن ( فعلة ). وقع الإعلال بموجبه الأول، فأبدلت الياء الأولى ألفا، فقالوا :( آية ).
إطلاقين، أما الإطلاقان في لغة العرب فأشهرهما : أن العرب تطلق ( الآية ) على ( العلامة )، تقول : " آية كذا "، أي : علامته. ومنه قوله تعالى :﴿ إن ءاية ملكه أن يأتيكم التابوت ﴾ [ البقرة : آية ٢٤٨ ] أي : علامة أن الله ملك طالوت عليكم : أن يأتيكم التابوت. وهذا أشهر اصطلاح الآية. وقد جاء في شعر نابغة ذبيان – وهو عربي قح جاهلي – تفسير الآية بالعلامة، حيث قال :
توهمت آيات لها فعرفتها لستة أعوام وذا العام سابع
[ ثم بين ]( في هذا الموضع انقطاع في التسجيل، وقد أتممت النقص من كلام الشيخ – رحمه الله – عند تفسير الآية ( ٩ ) من سورة الأعراف ) أن مراده بالآيات : علامات الدار وآثارها، حيث قال :
رماد ككحل العين لأيا أبينه*** ونؤي كجذم الحوض أثلم خاشع
المعنى الثاني من إطلاق الآية في اللغة : أن العرب تطلق الآية على الجماعة، تقول : جاء القوم بآياتهم، أي : بجماعتهم. ومنه قول برج بن مسهر :
خرجنا من النقبين لا حي مثلنا بآيتنا نزجي اللقاح المطافلا
أي : بجماعتنا.
إذا عرفتم أن ( الآية ) في لغة العرب تطلق على ( العلامة )، وتطلق على ( الجماعة )، فاعلموا أن ( الآية ) في القرآن تطلق إطلاقين :
أحدهما : الآية الكونية القدرية.
الثاني : الآية الشرعية الدينية.
أما الآية الكونية القدرية فهي العلامة التي نصبها الله كونا وقدرا، ليبين بها لخلقه أنه الرب وحده، المعبود وحده، كفلقه الحب عن السنبل، والنوى عن النخل، وكإتيانه بالليل بدل النهار، والنهار بدل الليل، وكتسخيره الشمس والقمر، وكخلقه النجوم ليهتدى بها، هذه آيات كونية قدرية، وضعها خالق هذا الكون كونا وقدرا، جعلها علامة لخلقه أنه القادر على كل شيء، المعبود وحده، والآية الكونية القدرية في القرآن هي من الآية اللغوية التي بمعنى ( العلامة ) لا غير.
الثاني من إطلاقي الآية في القرآن : الآية الشرعية الدينية، كقوله :﴿ رسولا يتلوا عليكم ءايات الله ﴾ [ الطلاق : آية ١١ ] أي آياته الشرعية الدينية، كآيات هذا القرآن العظيم.
أما الآية الشرعية الدينية فقد قال بعض العلماء : هي من ( العلامة ) لغة أيضا ؛ لأنها علامات على صدق من جاء بها لما فيها من الإعجاز.
وقال بعض العلماء : الآية الشرعية الدينية من الإطلاق اللغوي الآخر، أي : بمعنى الجماعة ؛ لأن الآية : جماعة من كلمات القرآن اشتملت على بعض ما اشتمل عليه القرآن من الإعجاز، والعقائد، والحلال، والحرام.
وهذا معنى قوله :﴿ قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون ﴾. أما القوم الذين لا يعلمون فتفصيل هذه الآيات لا ينفع فيهم ؛ لأنهم لا يفهمون عن الله شيئا، فهم كالأنعام ؛ لأن الحمير والبغال والبعير لا يفهمون هذه الآيات عن الله، والله ( جل وعلا ) فضل عليهم الأنعام، قال :﴿ أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون ﴾ [ الأعراف : آية ١٧٩ ] ﴿ أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام ﴾ [ الفرقان : آية ٤٤ ] فالكفار – والعياذ بالله – أنزل درجة من الأنعام، وإيضاح ذلك : أن البغل – مثلا – والبعير، البغلة التي تعطيها الشعير وتعلفها إذا رأتك صهلت إليك، وظهر عليها الفرح إذا رأتك، الكافر يغدق الله عليه نعمه، وهو يرتكب مساخطه، ويناصبه بالعداء جل وعلا ! !
***
﴿ وهو الذي أنشاكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون ٩١ وهو الذي انزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذالكم لآيت لقوم يومنون٩٩ ﴾ " الأنعام : الايتان٩٩، ٩٨ "
يقول الله جل وعلا﴿ وهو الذي أنشاكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون ٩٨ ﴾ " الأنعام : آية ٩٨ "
هذه الآيات من سورة الأنعام بين الله فيها براهين العقائد العقلية الدالة على أنه الرب وحده، المعبود وحده، ومن ذلك أنه خلق جميع الآدميين من نفس واحدة، أبوهم رجل واحد، وأمهم امرأة واحدة، مع اختلاف أشكالهم، وألوانهم، وألسنتهم، وذلك دليل على إبداع عظيم. والله( جل وعلا )ينبهنا في القرآن العظيم في آيات كثيرة على ما أودع في أنفسنا من غرائب صنعه وعجائبه، الدالة على أنه وحده هو الرب، وهو المعبود وحده جل وعلا.
وقوله هنا﴿ وهو ﴾أي : الله الذي أدعوكم إلى توحيده وطاعته، ﴿ وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة ﴾أصل الإنشاء : الإبراز من العدم إلى الوجود. والمراد بهذه النفس الواحدة : أبونا آدم، كما أطبق عليه العلماء. وإنما قال :﴿ واحدة ﴾بالتاء الفارقة بين الذكر والأنثى مع أن آدم ذكر : لأنه أطلق عليه اسم النفس، فهو تأنيث لفظي لا حقيقي، كقول الشاعر :
أبوك خليفة ولدته أخرى وأنت خليفة ذاك الكمال
هذه النفس الواحدة هي : آدم. والله( جل وعلا )أرشدنا في هذه الآية إلى أن نتأمل ونتعقل مم خلقنا، ونعرف عظمة ربنا، فأول منشئنا تراب بله الله( تبارك وتعالى )بماء. هذا الأصل الأول لنا، كما قال﴿ إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ﴾( الحج : اية ٥ )أخذ الله ترابا فبله بماء، فلما بل وعجن بالماء صار طينا، ولذا قال تارة :﴿ خلقكم من تراب ﴾( الروم : اية٢٠ ) وتارة ﴿ من طين ﴾( الأنعام : اية٢ ). ثم إن الله ( جل وعلا )ذكر أحوال ذلك الطين، مرة قال﴿ من طين لازب ﴾( الصافات : اية١١ )يلزق باليد إذا مسه الإنسان، بين أنه :﴿ من حمإ مسنون ﴾( الحجر : اية٦٢ ) ثم بين أن ذلك الطين يبس فصار كالفخار، تسمع له صلصلة إذا قرعه شيء، ثم خلق من ذلك الطين-الذي أصله ماء وتراب، بشرا سويا، ذا لحم وعظام ودم، هو أبونا( آدم )المراد بقوله هنا :﴿ أنشأكم من نفس واحدة ﴾( الأنعام : اية ٩٨ )ثم خلق من آدم امرأته ( حواء )أمنا، خلقها من زوجها آدم، وقد نص على ذلك في آيات كثيرة كقوله في أول سورة النساء ﴿ يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة ﴾هي آدم ﴿ وخلق منها زوجها ﴾( النساء : اية ١ )يعني حواء، وقوله في سورة الأعراف :﴿ خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها ﴾( الأعراف : اية ١٩٨ ). وقوله في سورة الزمر :﴿ خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها ﴾( الزمر : اية٦ )وهذا من غرائب صنعه وعجائبه، حيث كان العنصر الأول : الماء والتراب، وخلق منه رجلا جميلا في غاية الحسن والجمال، ثم خلق من نفس الرجل امرأة أنثى. وهذا أحد القسمة الرباعية، لأن الله خلق نوع الإنسان على قسمة رباعية : قسم منه خلقه من ذكر دون أنثى، وقسم منه خلقه من أنثى دون ذكر، وقسم منه خلقه بلا أنثى ولا ذكر، وقسم منه خلقه من أنثى وذكر.
أما الذي خلق من دون الأنثى ومن دون الذكر : فهو أبونا آدم، لأن الله خلقه من تراب ﴿ إن مثل عيسى عند الله كمثل ءادم خلقه من تراب ثم قال له كن ﴾( آل عمران : آية ٥٩ )
والذي خلق من ذكر دون انثى : هو حواء، خلقها الله من آدم دون أنثى.
والذي خلق من أنثى دون ذكر : هو نبي الله عيسى، أوجده الله من أمه مريم بلا ذكر.
والذي خلق من ذكر وأنثى : هو سائر جنس الإنسان.
وهذه غرائب وعجائب تدل على كمال قدرة خالق هذا الكون. إن شاء خلق دون أنثى دون ذكر، وإن شاء خلق من ذكر دون أنثى، وإن شاء خلق من أنثى دون ذكر، وإن شاء خلق من أنثى وذكر.
ثم إن الله أشار إلى الطور الثاني من أطوار الإنسان، لأن الطور الأول من أطوار الإنسان : الماء والتراب، والطور الثاني : هو النطفة. أشار الله إلى بعض تلك الأطوار بقوله ﴿ أنشأكم من نفس واحدة ﴾ثم اتبعه بقوله :﴿ فمستقر ومستودع ﴾على قراءة :﴿ فمستقر ومستودع ﴾( ) في هذا الوضع وقع وهم للشيخ ( رحمه الله ) استدركه بعده بأسطر وقد حذفت الكلام الذي وقع فيه الوهم هنا واثبت الكلام على وجهه بعد استدراك الشيخ رحمه الله ) وبعضهم قرأ :
﴿ فمستقر ﴾بكسر القاف. أما ﴿ ومستودع ﴾فجميع السبعة قرؤوها بفتح الدال. واما ﴿ مستقر ﴾ففيها قراءتان سبعيتان ﴿ فمستقر ومستودع ﴾﴿ فمستقر ومستودع ﴾.
أما على قراءة :﴿ فمستقر ومستودع ﴾ فالأظهر أنهما اسما مكان. اي. مكان استقرار، ومكان استيداع. وقيل : هما مصدران ميميان. اي : فاستقرار واستيداع.
أما على قراءة :﴿ فمستقر ومستودع ﴾اسم مفعول كما يأتي شرحه.
وقد تقرر في فن العربية : أن الفعل إذا زاد ماضيه على ثلاثة أحرف فإن اسم مكانه، واسم زمانه، ومصدره الميمي كلها بصيغة وزن اسم المفعول، كما هو معروف في فن الصرف.
وأكثر علماء التفسير أن المراد ب ( المستقر ) : المستقر في الأرحام، والمراد ب( المستودع ) : المستقر في الأصلاب. يعني أول نشأتكم من نفس واحدة، ثم صار بعد ذلك النطف يقرها الله في الأصلاب، ثم ينقلها فتستقر في الأرحام، فيخرج منها بشرا سويا، وهذا عليه أكثر المفسرين، أن ( المستقر ) : هو استقرار الجنين في الرحم، و( المستودع ) : هو استيداع الله للنطفة الذي خلق منها في أبيه.
وكان بعض العلماء يختار : أن ( المستقر ) : الاستقرار على وجه الأرض ايام الحياة، وأن ( المستودع ) : الاستيداع في بطن الأرض في القبور.
وبعض العلماء يقول : المستقر في الأصلاب : والمستودع في الأرحام. عكس ما ذكرنا.
والذي عليه أكثر المفسرين : أنها تشير إلى بعض أطوار الإنسان، لأن الله ( تبارك وتعالى ) نبه الإنسان على انه نقله من حال إلى حال، وجعل خلقه طورا بعد طور كقوله :﴿ مالكم لا ترجون لله وقارا١٣ وقد خلقكم أطوارا ١٤ ﴾( نوح الآيتان١٣، ١٤ )أي : خلقكم على طور ثم نقلكم من ذلك الطور الى طور آخر. وقال جل وعلا :﴿ يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق ﴾( الزمر : أية ٦ ) بعد أن كنتم نطفا تصيرون علقا، ثم مضغا، ثم عظاما. وقد بين الله ( جل وعلا )هذه المراتب بيانا شافيا في آيات كثيرة من أوضحها آية ( قد أفلح المؤمنون )لأن الله بين فيها الأطوار الذي مر بالإنسان عليها إلى حالته هذه حيث قال :﴿ ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ١٢ثم جعلناه نطفة في قرار مكين١٣ ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم انشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين١٤ثم إنكم بعد ذالك لميتون ١٥ ثم إنكم يوم القيامة تبعثون١٦ ﴾( الآيات ١٢-١٦ ). وعلى هذا : فالمستقر : هو القرار المكين الذي يجعل الله فيه الإنسان في رحم أمه بعد أن خلق آدم من تراب، كما قال في آية ( قد أفلح ) هذه :﴿ ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ١٢ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ١٣ ﴾يعني : رحم أمه. وهذا نبهنا الله عليه، وحذرنا أن ننصرف عن هذا، و أن نغفل عنه، لأنكم كلكم تعلمون أن الواحد منا لم يدخل رحم أمه مخططا، وليس فيه يد، ولا رجل، ولا رأس، ولا عين، بل يدخل رحم أمه وهو نطفة من مني، ثم إن الخالق ( جل وعلا ) ينقل بقدرته تلك النطفة فيجعلها دما جامدا، وهو المعبر عنه ب ( العلقة )، ثم يقلب ذلك الدم مضغة لحم ليس فيها تخطيط، ولا رجل، ولا يد، ثم إنه يقلب ذلك الدم المضغة هيكل عظام، ويرتب هذه العظام بعضها ببعض هذا الترتيب المحكم المتقن الذي يجده الواحد منكم، فيرتب السلاميات في السلاميات، والمفاصل بالمفاصل، وفقارى الظهر بفقارى الظهر، ويجعل هذه العظام على أم الدماغ، فيجعل له دماغه في هذا الغلاف الذي هو أم الدماغ، ويفتح في وجهه العينين، ويصبغ بعضهما بصبغ أسود، وبعضهما بصبغ أبيض، ويزينها بشعر الحواجب والجفون، ويجعل فيهما حاسة البصر، ويفتح له الأنف، ويجعل فيه اللسان ليرد به شارد الطعام على أضراسه عند المضغ، ويبين به الكلام، حتى يقضي حاجته من بني الإنسان، ثم انه ( جل وعلا ) يضع الكبد في محله، والكليتين في محلهما، وكل موضع في محله، ويوكله بوظيفتين في تدبير الجسم، ويفتح الشرايين ليدور الدم، ويفتح مجاري البول والغائط، ولو شرح عضو واحد من أعضاء الإنسان تشريحا حقيقيا لبهر العقول ما أودع الله ( جل وعلا ) فيه من غرائب صنعه وعجائبه، فليس في الواحد منا موضع رأس إبرة إلا وفيه من غرائب صنع خلقه وعجائبه ما يبهر العقول لو فكر.
وأنا أؤكد لكم أن هذه العملية الهائلة التي تفعل في الواحد منا، العليم القدير الذي فعلها لم يحتج إلى أن يشق بطن أم الواحد منا، ولم يبنجها، ولم ينومها، في صحية، بل فعل فيها هذه الأعمال الهائلة العجيبة الغريبة من حيث لا تشعر، وهي لاهية تفرح وتمرح، لا تدري عما يفعل في بطنها من غرائب الصنع وعجائبه، مع أن الجنين الذي يفعل فيه هذا من الغرائب والعجائب هو مندرج في ثلاث ظلمات : ظلمة بطن أمه، وظلمة رحمها داخل البطن، وظلمة المشيمة التي على الولد، لأنه في داخل الرحم يكون عليه المشيمة، والسلا يغطيه، فالله ( جل وعلا ) علمه نافذ، وبصره نافد، لا يحتاج إلى كهرباء، ولا إلى نور يكشف به تلك الظلمات، بل علمه وقدرته نافذة، فيفعل في الإنسان هذه الأفعال الغريبة العجيبة، يرتب بعضه مع بعض، ويخلقه هذا الخلق العجيب.
ونحن دائما نذكر هذا لأن الله ينبهنا عليه، وينكر علينا أن نغفل عنه، لأن الله يقول في السورة الكريمة –سورة الزمر- :﴿ يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث ﴾ثم قال :﴿ ذالكم الله ربكم لا إله إلا هو ﴾ثم قال :﴿ فأنى تصرفون ﴾( الزمر : آية ٦ )أين تصرفون وتروح عقولكم عن فعل خالقكم فيكم ؟ فأنى تصرفون عما يفعل الله ( جل وعلا ) فيكم ؟ هذه غرائب صنع ربنا وعجائبه، حتى إنه من شدة لطفه وحكمته : أن ما يحتاج الإنسان إلى تقصيره دائما، كشعره واظفاره : نزع منه روح الحياة، إذ لو جعل الحياة في الشعر والظفر لم يحلق الإنسان، ولم يقصر، ولم يقلم أظفاره إلا وهو منوم في صحية بعملية. هذا من غرائب صنعه وعجائبه ( جل وعلا )ولطفه بخلقه، ولذا نبهنا على هذا حيث قال :﴿ وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة ﴾كما قال جل وعلا :﴿ ومن آياته، أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون٢٠ ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها ﴾الآية. ( الروم : الآيتان ٢١، ٢٠ )وقال هنا :﴿ وهو الذي أنشاكم من نفس واحدة ﴾فلكم بعد إنشاء تلك النفس، وإنشاء زوجها منها، لكم بعد ذلك ﴿ فمستقر ﴾في الأرحام، تنقلون فيها من طور النطفة إلى طور العلقة، ومن طور العلقة إلى طور المضغة إلى آخر الأطوار.
﴿ ومستودع ﴾ : نطفا في اصلاب الآباء. هذا قول أكثر المفسرين.
وبعض العلماء عكس، قال : الاستيداع في بطن الأمهات، والاستقرار في أصلاب الرجال.
وبعض العلماء يقول : مستقر على ظهر الأرض، ومستودع في بطنها في القبور وأنتم أموات، كما قال تعالى :﴿ ألم نجعل الأرض كفاتا٢٥ أحياء وأمواتا٢٦ ﴾( المرسلات : الآيتان ٢٦. ٢٥ ) الكفات هنا : محل الكفت. والكفت ف
البرهان الثالث : إحياء الأرض بعد موتها، المشار إليه بقوله هنا :﴿ وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء ﴾ ( الأنعام : آية ٩٩ )لأن من يحيي الأرض، ويخرج النبات بعد الإنعدام قادر- بلا شك – على أن يحيي الأنفس الإنسانية بعد العدم، لأن الكل من باب واحد، كله جرم خلقه الله أولا وانقرض وانمحى، وقد عاينا أنه يعيد النباتات، فتجد الأرض بحليها وحللها من أنواع النبات، ثم ييبس، وتذروه الريح، ويصير هشيما، ثم إن الله يوجد في الأرض شيئا كثيرا بعد فنائه، فمن أحيا الأرض و أنبت النبات بعد أن انعدم : فلا شك أنه قادر على خلق الإنسان، وإنبات الآدميين بعد أن أكلتهم الأرض.
ترى الأرض خاشعة فإذا انزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحيي الموتى إنه على كل شيء قدير ٣٩ }( فصلت : آية ٣٩ ) وكقوله جل وعلا : حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون }( الأعراف : آية ٥٧ ) أي : فإخراجنا للنبات بعد الإنعدام كذلك اخراجنا للموتى بعد أن أكلتهم الأرض. وكقوله جل وعلا :﴿ فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى وهو على كل شيء قدير٥٠ ﴾( الروم : آية٥٠ ) وكقوله تعالى :﴿ فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون١٧ وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون١٨ يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويحيي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون ١٩ ﴾( الروم : الآيات ١٧-١٩ ) أي من قبوركم أحياء بعد الموت، وكقوله تعالى :﴿ ونزلنا من السماء ماءا مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد ٩ والنخل باسقات لها طلع نضيد١٠ رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج ١١ ﴾( ق : الآيات ٩-١١ ) أي كخروج النبات الذي تشاهدون﴿ كذلك الخروج ﴾أي : خروجكم من قبوركم أحياء بعد الموت. والآيات الدالة على هذا كثيرة جدا كما قال جل وعلا :﴿ سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى ﴾( الأعراف : آية ٥٧ ) كذلك الإخراج نخرج الموتى، ولذا قال ( جل وعلا ) ينزل الماء من السماء، لأن الله قال :﴿ فلينظر الإنسان إلى طعامه٢٤ ﴾( عبس : آية ٢٤ )وقوله :﴿ فلينظر ﴾صيغة أمر تدل على الوجوب، فإذا لم ينظر الإنسان إلى طعامه كان مخالفا للأمر السماوي من خالق السماوات والأرض. وما يدريه أن الله كما قال لإبليس :﴿ ما منعك ألا تسجد إذا أمرتك ﴾( الأعراف : آية ١٢ ) ما منعك ألا تنظر إلى طعامك إذا أمرتك ؟
وهذا النظر المامور به إلى الطعام كأن الله يقول لك : انظر يا عبدي لتعلم عظمتي وقدرتي، وتعرف قدرك، وضعفك، وعجزك، انظر إلى الخبز الذي تأكله، وتقيم به أودك، من هو الذي خلق الماء الذي نبت بسببه ؟ أيقدر احد غير الله أن يخلق هذا الجرم اللطيف الذي يحيي به الله الجسام، وينبت به النباتات ؟ لا والله لا يقدر على خلقه إلا الله.
هب أن الماء خلق، فمن يقدر على إنزاله، وسقي الأرض به مع سعة رقعتها ؟ من يقدر على انزاله على هذا الأسلوب الغريب العجيب الذي ينزل رشاشا ؟ فلو كان منزله قطعة واحدة متصلا بعضه ببعض. ولو نزل المطر الغزير قطعة واحدة لأهلك كل من سقط عليه، وترك الخلق اثرا بعد عين، لأن الله تعالى بين كيفية إنزاله إياه، وما في ذلك من الغرائب والعجائب ﴿ ألم تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله ﴾( النور : آية ٤٣ )الودق : المطر يخرج من خلال السحاب، أي : من فتوق المزن وثقوبه التي جعلها الله فيه، وهو إنما يأتي به قادر يصرفه كيف يشاء. ولكن الله بين في السورة الكريمة-سورة الفرقان –أنه ينزل الماء هذا الإنزال الهائل الغريب العجيب، وأن كثيرا من الناس يأبى في هذه الغرائب والآيات إلا الكفر- والعياذ بالله-، لأن الله قال :﴿ وأنزلنا من السماء ماء طهورا لنحيي به بلدة ميتا ونسقيه مما خلقنا أنعاما وأناسي كثيرا ٤٩ ولقد صرفناه بينهم ليذكروا ﴾( الفرقان : الآيات ٤٨-٥٠ ) يعني : صرفنا الماء بين الناس، تارة نغدق المطر على قوم لتخصب أرضهم، وتنبت زروعهم، ويكثر خير مواشيهم، اختبارا لهم وابتلاء هل يشكرون نعمنا ؟ ونصرفه عن قوم كانو في خصب حتى يجدبوا، لنختبرهم بذلك الجدب، والفقر، وهلاك المواشي، والزروع : أيتعظون، وينيبون إلينا ؟ ولما قال :﴿ ولقد صرفناه بينهم ليذكروا ﴾قال :﴿ فأبى أكثر الناس إلا كفورا ﴾( الفرقان. آية ٥٠ ) ومن الناس الذين أبوا إلا كفورا : الكفرة، وأذناب الكفرة، الذين يزعمون أن السحاب لم ينزله ملك مقتدر، وإنما هي طبائع، وأن الماء تتفاوت عليه درجات الشمس، أو احتكاك الهواء حتى يتبخر وتتصاعد أبخرته، فتتجمع ثم تلاقى هواء حارا، ثم تزعزعها الريح، فتفرقها، وأن هذا ليس فعل فاعل ! ! هؤلاء الذين يقول الله فيهم :﴿ فأبى أكثر الناس إلا كفورا ﴾ وقد ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم في تلك السحابة- التي أنزلها الله ليلا- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" أسمعتم ما قال ربكم البارحة ؟ قال : أصبح من عبادي مؤمن بي كافر بالكوكب، وأصبح من عبادي كافر بي مؤمن بالكوكب. أما الذين قالو : مطرنا بفضل الله وبرحمته، فهذا مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما الذي قال : مطرنا بنوء كذا، فهو كافر بي مؤمن بالكوكب " ومثله الذي يقول : مطرنا ببخار كذا ! ! لأن السحاب ينزله ملك مقتدر، يخلق ماءه أولا، وبين خلقه قال :﴿ ألم ترى أن الله يزجي سحابا ﴾
أي : يسوقه﴿ ثم يؤلف بينه ﴾يضم بعضه إلى بعض ﴿ ثم يجعله ركاما ﴾متراكبا يعلو بعضه فوق بعض﴿ فترى الودق ﴾ يعني المطر ﴿ يخرج من خلاله ﴾( النور : آية ٤٣ ) جمع خلل، أي : من ثقوب المزن وفروجه : ينزل منها، لأنه يجعل وعاءه كالغرابيل، ينزل منها المطر، على قدر ما يشاء الله جل وعلا ﴿ ولقد صرفناه بينهم ليذكروا فأبى أكثر الناس إلا كفورا٥٠ ﴾( الفرقان : آية ٥٠ ).
هب أن الماء خلق، وأن المطر أنزل على هذا الأسلوب الغريب العجيب، من هو الذي يقدر أن يشق الأرض ويخرج منها مسمار النبات ؟
هب ا أن مسمار النبات خرج، من هو الذي يقدر أن يشقه ويخرج منه السنبلة ؟
هب أن السنبلة وجدت، من هو الذي يقدر ان يخرج حبها وينميه، وينقله من طور إلى طور حتي يصير صالحا مدركا نافعا للأكل ؟ كما ينبهنا الله على هذا في هذه الآية التي نحن عندها في قوله ﴿ انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون ﴾( الأنعام : آية ٩٩ )انظروا الثمر عندما يبدوا، وانظروه عندما يدرك ناضجا صالحا للأكل، تعلمون أن الذي نقله منذ تلك الحال الأولى إلى حالة الإنتفاع هذه، أنه رب قادر عظيم، هو الخالق وحده، المعبود وحده ( جل وعلا )، ولذا قال جل وعلا :﴿ وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء ﴾( الأنعام : آية٩٩ ) الباء : سببية، والله ( جل وعلا ) يسبب ما شاء على ما شاء من الأسباب ولو شاء أن تنخرم الأسباب لانخرمت، فهو ( جل وعلا ) يفعل كيف يشاء، ويسبب ما شاء من المسببات، على ما شاء من الأسباب، ويبين لنا في كتابه غرائب وعجائب وعبرا نعلم بها أنه لا تأثير إلا لله وحده، وأنه لو شاء أن لا تؤثر الأسباب لم تؤثر، ومن ذلك ما قص علينا في سورة الأنبياء وغيرها من سور القرآن أنه ألقي إبراهيم في نار نمرود وقومه، ألقي إبراهيم في نار تضطرم، تأكل الحطب حتى تتركه رمادا، ألقي فيها إبراهيم والحطب، فأكلت الحطب بحرارتها فتركته رمادا، وصارت بردا على إبراهيم. ولو لم يقل الله. ﴿ كوني بردا وسلاما ﴾( الأنبياء : آية ٦٩ )لو لم يقل :﴿ وسلاما ﴾لأهلكه بردها، والنار لا عقل لها ولا إدراك تحرق به الحطب وتترك إبراهيم. وذلك يبين أن الفاعل هو الخالق ( جل وعلا )، وأنه يسبب ما شاء على ما شاء من المسببات. ويوضح لنا هذا : أن السبب تارة يكون مناقضا للمسبب وينتج الشيء من نقيضه، كما قدمنا في هذه الدروس في قصة قتيل بني إسرائيل لأنه لما أراد الله ان يحييه قال لهم : اذبحوا بقرة، فذبحت البقرة، وصارت ميتة، وقطعت منها وصلة، وهي ميتة، قطعة من بقرة ميتة، ليس فيها من الحياة شيئ، فضربوه بها فحيي، /وأخبرهم بقاتله ! ! لو ضربوه بالبقرة حية لربما قال جاهل : قد استفاد الحياة منها، وسرت حياتها فيه ! ! اما هو فقد أمرهم ان يميتوها، ويذبحوها، ويضربوه بقطعة منها فحيى ! ! فمن أين وجدت هذه الحياة من هذا الضرب بقطعة من بقرة ميتة ؟ وذلك برهان قاطع على أن الله يسبب ما شاء على ما شاء من الأسباب ؟ لأجل هذا قال :﴿ فأخرجنا به ﴾ أي : بسببه ﴿ نبات كل شيء ﴾.
قوله :﴿ نبات كل شيء ﴾ أي : جميع أصناف النباتات مما يأكله الناس والأنعام كما قال جل وعلا : كلوا وارعوا أنعامكم }( طه : آية ٥٤ ) فينبت للناس أنواع النبات مما هو قوت كالقمح والشعير ونحوهما، ومما هو فاكهة، وينبت لهم المرعى لحيواناتهم، لأن الحيوانات إذا أكلت المرعى المليء كثرت ألبانها، وأزبادها، ولحومها، وكثرت جلودها، وأصوافها، وأوبارها، وأشعارها، إلى غير ذلك من منافعها بسبب الماء، ولذا قال :﴿ فأخرجنا به نبات كل شيء ﴾.
﴿ فأخرجنا منه ﴾أي : من نبات كل شيء.
﴿ خضرا ﴾ الخضر : هو صفة مشبهة من ( خضر ) فهو ( خضر و أخضر )والمراد بالخضر هنا : الذي ينبت أخضر كالبقول ونحوها. لأن القمح والشعير وما جرى مجراهما ينبت أولا نبات البقول.
ثم قال ﴿ نخرج منه ﴾ أي : من ذلك الخضر النابت.
﴿ حبا متراكبا ﴾يعلو بعضه بعضا كالسنبل : فإنك تجد السنبلة يتراكب فيها الحب ويعلو بعضه بعضا وهذا معنى قوله :﴿ نخرج منه حبا متراكبا ﴾.
وقوله :﴿ ومن النخل من طلعها قنوان دانية ﴾ قراءة الجمهور :﴿ ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات ﴾بالنصب، لأن الكسرة علامة هنا للنصب.
وقوله :﴿ ومن النخل من طلعها قنوان دانية ﴾ النخل من جنس المنبت بهذا الماء، إلا أن الله قطعه، وجاء به في صيغة جملة مستأنفة من مبتدأ وخبر وتنويها بشأن النخل، لأن النخل كله منافع.
وجرت العادة في القرآن : أنه إذا ذكر الإنعام بالتمر ذكر باسم شجرته التي هي النخلة، وإدا ذكر الإنعام باسم العنب ذكره باسم الثمرة التي هي العنب. هذه القاعدة مطردة في القرآن.
قال بعض العلماء : إنما ذكر شجرة التمر التي هي النخلة لأن النخلة كلها منافع، فتمرها بعض منافعها. فلو عبر بالتمر لأهمل منافع النخل الكثيرة، لأن منافع النخل الكثيرة ؛ لأن النخل كلها منافع ؛ لأن خوصها تصنع منه القفاص، وجريدها تصنع منه الحصر، وتصنع منها الحبال، ولبها يؤكل، وجدعها يسقف به، وكرنافها يوقد به، فجميع ما فيها منافع.
أما شجرة العنب : فليس في نفس الشجرة من المنافع مافي النخلة، فأعظم منافعها في ثمرتها.
وقوله ﴿ ومن النخل ﴾النخل : جميع نخلة. وقيل : هو جنس أو إسم جمع وهو يذكر ويؤنث، لأن الله ذكره في قوله ﴿ كأنهم أعجاز نخل منقعر ﴾( القمر : آية ٢٠ ) ولم يقل : منقعرة. وأنثه في قوله :﴿ كأنهم أعجاز نخل خاوية ﴾( الحاقة : آية ٧ )وهذا معروف في كلام العرب، أن أسماء الأجناس تذكر وتؤنث.
قال بعض العلماء : فإن قيل له :( نخيل ) لم يجز تأنيثه.
وقوله :﴿ ومن النخل من طلعها ﴾يطلق ( الطلع ) على أول ما يخرج من النخلة، لأنه يخرج أولا قبل ان ينفتح يسمى ( كما )، ثم ينفتح على النور المسمى ب( الإغريض ). وهذا هو المراد بقوله :﴿ من طلعها ﴾. وربما يط
يقول الله جل وعلا :﴿ وجعلو لله شركاء الجن وخلقهم وخرقو له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون١٠٠ ﴾( الأنعام : آية ١٠٠ ).
قرأ هذا الحرف عامة القراء ما عدا نافعا :﴿ وخرقو له بنين ﴾بتخفيف الراء. وقرأه نافع وحده :﴿ وخرقوا ﴾بتشديد الراء أما على قراءة عبد الله ابن مسعود :( وحرفوا له بنين وبنات )فهذه قراءة شاذة
ومعنى هذه الآية الكريمة : أن الله ( جل وعلا ) لما بين غرائب صنعه وعجائبه الدالة على أنه الرب وحده، المعبود وحده كما في الآيات الماضية، وكقوله :﴿ إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ﴾ ( الأنعام : آية ٩٥ )وكقوله :﴿ وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع ﴾ ( الأنعام : آية ٩٨ )وكقوله :﴿ وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها ﴾الآية ( الأنعام : آية ٩٨ ). وقوله :﴿ وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا ﴾( الأنعام : آية ٩٩ )إلى آخر الآيات، بين الله فيها كمال قدرته، وغرائب صنعه، وعجائبه، الدالة على أنه الرب وحده، المعبود وحده، فقال في هذه الآية، كأنه يقول : مع ما أبديت لخلقي من آياتي الدالة على عظمتي وجلالي، وأني الرب المعبود، مع هذا أشركوا بي الجن، وعبدوا معي المعبودات التي لا تنفع ولا تضر.
وقوله :﴿ وجعلوا لله شركاء الجن ﴾في إعراب قوله :﴿ الجن ﴾أوجه : أشهرها : أنه احد مفعولي﴿ جعلوا ﴾. والمعنى : جعلوا الجن شركاء الله. فهو المفعول الأول، أخر لأمن اللبس.
و( جعل )هنا ذهب كثير من العلماء إلى أنها التي بمعنى( صير ) وهو غلط. و إن قاله كثير من أجلاء العلماء.
والتحقيق : أن ( جعل ) هنا بمعنى(... )( في هذا الموضع وقع انقطاع في التسجيل. والكلام على ( جعل ) ومعانيها تجده عند تفسير الآية ( ١١٢ ) من سورة الأنعام، والآية ( ١٨٩ ) من سورة الأعراف. والكلام بعد الإنقطاع يتعلق بالآية التي بعدها ١٠١ وهي قوله تعالى :﴿ بديع السماوات والأرض أن يكون له ولد ولم تكن له صاحبة.... ﴾الآية ).
منافعها من ألبان، وأصواف، وأوبار، وأشعار، وأسمان إلى غير ذلك، وكذلك خلق السماء، ورفعها، وأبعد سمكها، وزينها بالنجوم، وجعلها سقفا محفوظا تمر عليه آلاف السنين لا يتفطر، ولا يتصدع، ولا يتشقق، ولا يحتاج إلى إصلاح وترميم﴿ فارجع البصر هل ترى من فطور٣ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير٤ ﴾( الملك : الآيتان ٣. ٤ )أي : من عظم ما رأى، ولذا قال هنا :﴿ بديع السماوات والأرض ﴾( الأنعام : آية ١٠١ ) أي خالق السموات والأرض، ومخترعهما ومن فيهما.
﴿ أنى يكون له ولد ﴾وهذه الآية يفهم منها أن الملك والولدية لا يمكن أن يجتمعا، لأنهما لما ذكروا له الولد كان من رده عليهم : أنه مخترع الأرض والسماء. أي : ومن فيهما، وصانع الشيء هو مالكه، والولد لا يكون مملوكا أبدا.
وجرت العادة في القرآن : بأن الله يرد على الكفرة في ادعاء الولد بأنه مالك كل شيء، وأن الخلق عبيده، كما قال :﴿ بل عباد مكرمون ﴾ لأن العبد لا يمكن أن يكون ولدا.
ومن هذه الآيات القرآنية أخد العلماء أن الإنسان إذا ملك ولده – بأن تزوج أمة لغيره-وكان ولده رقيقا واشتراه- أنه يعتق عليه بنفس الملك، ولا يمكن أن يملكه، لأن الملكية والوالدية متنافيان، ولذا قال هنا :﴿ بديع السموات والأرض أنى يكون له ولد ﴾.
﴿ أنى ﴾هنا : هذا استفهام للاستبعاد والإنكار والنفي. لا يمكن أن يكون له ولد، لأن كل ما في السماوات والأرض إنما هو خلقه وملكه، فكيف سيكون له ولد من صنعه وملكه الذي خلقه وأبرزه من العدم إلى الوجود.
﴿ ولم تكن له صاحبة ﴾ أي : امرأة، لأنه يتنزه( جل وعلا ) عن ذلك، ولذا قال :﴿ أنى يكون له ولد ولم تكن له صحبة وخلق كل شيء ﴾ وجميع الكائنات خلقه، فلا يمكن أن يكون شيء من خلقه ولدا له بحال، لأن الولد كالجزء من الوالد، والخلق صنع الوالد، والجزء والصنعة متباينان لا يمكن أن يجتمعا في شيء، ولذا قال جل وعلا :﴿ وخلق كل شيء وهو-جل وعلا-بكل شيء عليم ﴾لا تخفى عليه خافية، فهو ( جل وعلا ) يعلم كل شيء، ويعلم غير الشيء، لأن ( الشيء ) عند أهل السنة والجماعة لا يطلق إلا على الوجود، والله يعلم الموجود الذي هو شيء، ويعلم المعدوم الذي هو ليس بشيء، فهو عالم بالموجودات، والمعدومات، والجائزات، والمستحيلات، حتى إنه من إحاطة علمه ليعلم المعدوم الذي سبق في علمه أنه لا يوجد، يعلم أن لو كان كيف يكون ؟ كما قد بين نصه تعالى على ذلك في هذه السورة – سورة الأنعام- فقد بيناه مفسرا في قوله :﴿ ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه و إنهم لكاذبون ﴾( الأنعام : آية ٢٨ ) لأن الكفار إذا عاينوا النار ندمو على تكذيب الرسل، وتمنوا الرد للدنيا مرة أخرى ليصدقوا الرسل، ولذا قال :﴿ ياليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ( جل وعلا )عالم أن هذا الرد الذي تمنوه عالم أنه لا يكون، وقد صرح ( جل وعلا )أنه عالم أنه لو كان كيف يكون ؟ كما قال :{ ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون ﴾( الأنعام : آية ٢٨ ) والمتخلفون عن غزوة تبوك لا يحضرونها أبدا لأن الله هو الذي ثبطهم عنها بإرادته لحكمة يعلمها ﴿ ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين ﴾( التوبة : آية ٤٧ ). وكقوله :﴿ ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون٧٥ ﴾( المؤمنون : آية ٧٥ ) إلى غير ذلك من الآيات. ولذا قال هنا :﴿ وهو بكل شيء عليم ﴾( الأنعام : آية ١٠١ )فمن أحاط علمه بكل شيء فكيف يكون جنسا له –كالولد-من لا يعلم شيئا إلا ما علمه الله ؟ يعني : فالذي تدعون من الأولاد لله لا يعلمون شيئا إلا ما علمهم الله، فكيف يكونون كالجزء والجنس لمن لا يخفى عليه شيء ؟
وقد قدمنا مرارا : أن العلم المحيط لله وحده، وأن المخلوقين يعلمون من علم الله ما علمهم الله فقط، وبينا أمثلة كثيرة لذلك، منها :
أن أعلم الخلائق – الملائكة والرسل - الملائكة قد قدمنا في سورة البقرة أن الله لما قال لهم :﴿ انبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين٣١ قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا ﴾( البقرة : الآيتان ٣٢. ٣١ )فقوله :﴿ لا علم لنا ﴾النكرة إذا بنيت على الفتح مع ( لا )ف ( لا ) التي معها هي ( لا ) التي لنفي الجنس. والمعنى : أنهم نفوا جنس العلم من أصله عن أنفسهم، إلا شيئا علمهم الله إياه.
والرسل( صلوات الله وسلامه عليهم )-مع ما أعطاهم الله من الفضل والمكانة والعلم- دلت آيات كثيرة أنهم لا يعلمون إلا ما علمهم خالقهم جل وعلا.
هذا سيد الخلق ( صلوات الله وسلامه عليه )، الذي فضله الله في الأرض والسماء على جميع الخلق –نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، لأنكم تعرفون قصة الإسراء والمعراج الثابتة بالأحاديث الصحيحة التي لا كلام فيها، أنه لما ارتفع( صلوات الله وسلامه عليه )( زيادة يقتضيها الكلام ) إلى السماء، واخترق السبع الطباق، بلغ مبلغا لم يبلغه رسول من الأنبياء، فظهرت مكانته على الجميع في العالم العلوي. ولما نزل إلى الأرض ( صلوات الله وسلامه عليه )صلى بهم، فكان هو الإمام الأعظم، بإشارة من جبريل ( صلوات الله على الجميع ) –قد رميت أحب زوجاته إليه بأعظم فرية، رموها بالفاحشة مع صفوان بن المعطل، وهو ( صلوات الله وسلامه عليه )يغدو الملك ويروح عليه بالوحي، فلما رموها كان ( صلوات الله وسلامه عليه )لا يدري أحق ما قالوا عنها أم لا ؟ ؟ حتى هجرها، وكان يقول : كيف تيكم ؟ قالت : فقدت من رسول الله صلى الله عليه وسلم العطف الذي كنت أجده منه إذا مرضت. وكان يقول لها :" يا عائشة إن كنت ألممت بذنب فتوبي إلى الله، وإن كنت بريئة فسيبرئك الله ". لا يدري عن الحقيقة حتى أخبره المحيط علمه بكل شيء – رب السماوات والأرض-وقال له :﴿ أولائك مبرؤون مما يقولون لهم مغفرة ورزق كريم ﴾( النور : آية ٢٦ )وصرح بأن المقالة التي قيلت عليهم إفك وزور ﴿ إن الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم ﴾( النور : آية ١١ )ولما قالت لها أمها –لما نزلت برائتها في بيت أبي بكر- : قومي إليه فاحمديه. قالت ( رضي الله عنها ) : والله لا أحمده اليوم، ولا أحمد اليوم إلا الله، لأنه هو الذي برأني، فهو( صلوات الله وسلامه عليه )لم يبرئني.
وهذا نبي الله إبراهيم –وهو هو – مع ما أعطاه الله من المكانة ﴿ قال إني جاعلك للناس إماما ﴾( البقرة : آية ١٢٤ )وشهد له الله الشهادات العظيمة ﴿ وإبراهيم الذي وفى ٣٧ ﴾( النجم : آية ٣٧ )﴿ وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن ﴾( البقرة ١٢٤ )وقيل للنبي –وهوهو –( صلوات الله وسلامه عليه ) :﴿ ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا ﴾( النحل : آية ١٢٣ )ذبح عجله، وتعب هو وامرأته في إنضاج العجل، ولم يدرك أن ضيفه ملائكة حتى قدم العجل المنضج إلى الملائكة، ولما رآهم لا يمدون إليه أيديهم نكرهم وخاف منهم، كما قال تعالى :﴿ فلما رآى أيديهم لا تصل إليه نكرهم و أوجس منهم خيفة ﴾( هود : آية ٧٠ )وصرح لهم في سورة الحجر بأنه خائف منهم ﴿ فقالوا سلاما قال إنا منكم وجلون ﴾( الحجر : آية( ٥٢ ) أي خائفون منكم، ولم يدر حقيقة الأمر حتى سألهم :﴿ فما خطبكم أيها المرسلون٥٧ قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين ٥٨ ﴾( في هذا الموضع وقع انقطاع في التسجيل ) ( الحجر : الآيتان ٥٧، ٥٨ )(.... ).
وهذا نراه مشاهدا اليوم، كل كفر وإلحاد، وكل خساسة في الخلق ارتكبوها، دخلوا معهم كل جحر، حتى إنه وجد واحد إفرنجي نبتت قرحة تحت أنفه ‘فلم يقدر على حلق شعرات الشارب، صاروا يتركون من ذلك شيئا، دخولا في ذلك الجحر، واتباعا لتلك القرحة، فحلقوا لحاهم، وتركوا دينهم، ودخلوا مع الإفرنج في كل جحر دخلوه ! ! وهذا من غرائب معجزاته ( صلوات الله وسلامه عليه )، حيث أقسم على هذا، وتحقق بعد عشرات القرون، والغيوب التي أخبر بها كثيرة جدا، كثير منها شاهده الناس، والباقي منها سيشاهدونه. وهذا معنى قوله ( جل وعلا ) :﴿ وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم ﴾( الأنعام : آية ١٠١ ).
ثم إن الله ( جل وعلا ) لما بين غرائب وعجائب صنعه وكمال قدرته، وبين لنا هذا في آيات كثيرة ﴿ إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ﴾( الأنعام : آية ٩٥ )، وبين ( جل وعلا ) أنه الذي أنشأنا وخلقنا :﴿ وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع ﴾( الأنعام : آية ٩٧ )، وبين أنه خلق أرزاقنا على ذلك الأسلوب الغريب العجيب ﴿ وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا ﴾ ( الأنعام : آية ٩٩ )وبين انه الواحد الذي لا مثيل له ولا نظير، المتنزه عن الأولاد والصاحبات، وأنه خالق كل شيء، وانه العليم بكل شيء، أشار لنا وقال﴿ ذالكم ﴾الذي سمعتم صفاته وغرائب فعله وعجائبه هو﴿ الله ﴾خالق هذا الكون الذي يأمركم وينهاكم على لسان نبيه ﴿ لا إله إلا هو ( الأنعام : آية ١٠٢ )، لا معبود يعبد بالحق إلا هو وحده، وكل معبود من دونه –الجن الذي عبدها أولئك الكفرة-هو وعابدوه في النار { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون٩٧ ﴾( النساء. آية ٩٧ ).
﴿ ذالكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء ﴾ )النعام. آية ١٠٢ ) " جل وعلا " لأنه " جل وعلا " خالق كل شيء، وإذا نظر الإنسان في أصناف المخلوقات بهر عقله قدرة الله " جل وعلا "، فإذا نظرتم إلينا معاشر الآدميين تجدون خالق السموات والأرض أودع في الواحد منا من غرائب صنعه وعجائبه ما يبهر العقول، ويفتت الكبود.
من اظهر ذلك : أنه صبنا صبة واحدة، فجعل الأنف هنا، والعينين هنا، والفم هنا، ولم يتفق منا اثنان، لا يمكن ان يتفق اثنان، حتى لا يعرف " فرق " ( زيادة يقتضيها السياق ) بينهما، ولو جاءت الآلاف والملايين، مضروبا في الآلاف والملايين : لم يضق العالم أن يجعل لكل واحد صورة وهيئة مخالفة لصورة الآخر وهيئته، حتى إن الأصوات، وآثار الأقدام، وبصمات الأصابع في الأوراق، كل هذا لم يشتبه منه شيء. وهذا من غرائب صنع هذا الخالق وعجائبه جل وعلا. وأبدع في كل واحد منا، وشرح عضو واحد تشريحا صحيحا لبهر العقول ما أودع الله فينا من غرائب صنعه وعجائبه.
إذا نظرت في العينين تجد في العينين من غرائب صنع الله ما يبهر العقول، كيف جعل هذا النور الذي يشع لهذا الإنسان يجتلب عليه جميع مصالحه، ومن ذلك-من الظاهر الواضح- أنه جعل للعين شحمة لئلا يجففها الهواء والريح، وجعل ماء العين ملحا لئلا تنتن الشحمة، لأن الملح يزيل النتن، وصبغ له بعضها بصبغ أسود، وبعضها بصبغ أبيض، وفتح له فما، وجعل له عينا عذبة من الريق يأكل بها الطعام، ولو جف ريقه لما قدر أن يبتلع الزبد الذائب، ومن كمال قدرة الله أن الريق إذا كان يأكل به يبل به الطعام ويبتلعه ويجم له الريق، إذا كان غير وقت الحاجة ينقطع عنه الجم، لئلا يتعبه التفل. فلو جعل له عينيه في قدميه لما رأى بهما شيئا، ولو جعله عمودا واحدا كالخشبة من غير مفاصل لتعب، رتب بعض مفاصله ببعض لينثني، ورتب فقرات الظهر بعضها ببعض، وفرق له أصابع يده، لو جعل يده ملتصقة كيد البعير لم يحل شيئا ولم يعقد شيئا، وشد له رؤؤس أصابعه بالأظفار، وأودع فيه من الغرائب شيئا يبهر العقول.
ونحن نلفت أنظار إخواننا دائما لما لفت الله أنظارنا إليه، بأن كل هذه العمليات-أيها الإخوان –عملها ربنا فينا من غير أن يشق بطن أمهاتنا، ولا أن يخيطها، كل هذه العمليات الهائلة والأم بطنها لم يشق، ولم يحتج إلى أن تبنج، ولا أن تنوم في صحية، يعمله خالق الكون وهي لا تدري﴿ وهو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم٦ ﴾( آل عمران : آية ٦ ). وهذا ننبه الناس إليه دائما، لأن الله يعجب خلقه منهم كيف ينصرفون عن هذا ؟ ! حيث قال في السورة الكريمة سورة غافر :﴿ يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق ﴾( الزمر : آية ٦ )
أنتم كلا تعلمون أن الواحد منكم يدخل رحم أمه ليس مخططا مفصلا، ليس فيه رأس، ولا يد، ولا عظم، نطفة ماء من مني، ثم الله " جل وعلا " يخلق هذا المني دما، ثم يخلق الدم علقة، ثم يخلق الدم مضغة، ثم المضغة عظام، إلى آخر ما ذكر. ويخططكم هذا التخطيط، ويفصلكم هذا التفصيل، ويفتح لكم العيون، والأفواه، والآناف، والأسماع، ويجعل في العين حاسة البصر، وفي اللسان حاسة الذوق، وفي ( الأذن ) حاسة ( السمع )( في الأصل :" وفي السمع حاسة الأدن " وهو سبق اللسان ) إلى غير ذلك : ويرتب-أيها الإخوان- هذه العظام والسلاميات هذا الترتيب الغريب العجيب﴿ نحن خلقناهم وشددنا أسرهم ﴾( الإنسان : آية ٢٧ )الأسر : معناه شد الشيء بالشيء وإلصاقه به. إذ لو كان الذي ألصق هذه العظام والسلاميات بعضها ببعض، بل ولو لم يجعله قويا مشدودا لقالوا : سقطت يد فلان البارح، وسقطت رجله، وطاح فخده، لأنه لم يكن مشدودا ! لا، شده خالق السموات والأرض، وألصق العظام بعضها ببعض، والغضارف بالعظام واللحم، وشد هذا شدا محكما ﴿ نحن خلقناهم وشددنا أسرهم وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا٢٧ ﴾( الإنسان : آية ٢٧ ).
الشاهد أن الله نبهنا على فعله فينا﴿ وفي أنفسكم أفلا تبصرون ٢١ ﴾( الذاريات : آية ٢١ )وبين لنا أنا ندخل بطون أمهاتنا نطف ماء، ولذا قال :﴿ يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق ﴾( الزمر : آية ٦ ) ينقلكم من طور إلى طور﴿ مالكم لا ترجون لله وقارا١٣ وقد خلقكم أطوارا ١٧ ﴾( نوح : الآيتان ١٣، ١٤ )وهذا كله الواحد في ظلمات ثلاث :﴿ يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث ﴾( الزمر : آية ٦ )ظلمة البطن، وظلمة الرحم، وظلمة المشيمة، لم يحتج خالق السماوات إلى أن يشق البطن، ويشق الرحم، ويزيل المشيمة التي على الولد، حتى يتمكن بصره، لا، بصره " جل وعلا " وعلمه نافذ، يفعل هذه الأفعال الغريبة العجيبة، ولم تمنعه من ذلك الظلمات الثلاث، ثم قال ﴿ ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو ﴾ثم قال- وهو محل الشاهد- :﴿ فأنى تصرفون ﴾( الزمر : آية ٦ ). ﴿ فأنى تصرفون ﴾أين تصرف عقولكم، وتذهب عن فعل خالقكم جل وعلا فيكم ؟ ! ولذا قال " جل وعلا " :﴿ الله خالق كل شيء ﴾( الرعد : آية ١٦ )وقد بين غرائب صنعه وعجائبه، وأشار لخلقه للإنسان كما كنا نقول :﴿ يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق ﴾( الزمر : آية ٦ ) وهذا الخلق بعد الخلق، والطور بعد الطور، المذكور في قوله :﴿ وقد خلقكم أطوارا ١٤ ﴾ ( نوح : آية ١٤ ) بينه " جل وعلا " في سورة ( قد أفلح المؤمنون ) قال : ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين١٢ ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ١٣ ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين١٤ }( المؤمنون : الآيات ١٢-١٤ )هذه أفعال الله جل وعلا فينا الدالة على أنه الرب وحده، المعبود وحده " جل وعلا "، ولذا قال ﴿ وهو بكل شيء عليم١٠١ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه ﴾ يعني : أن فعل هذه الأفعال، وكانت قدرته بهذه المثابة من العظمة هو المعبود وحده جل وعلا.
﴿ وهو ﴾-جل وعلا- ﴿ على كل شيء وكيل ﴾ ( الأنعام : الآيتان ١٠٢، ١٠١ ) أصل الوكيل : هو الذي تفوض إليه الأمور وتسند، ليجلب المصالح فيها، ويدفع المضار، وهو " جل وعلا " هو الوكيل بكل شيء، الذي كل شيء بيده، تفوض أمور كل شيء إليه، يفعل فيها ما يشاء " جل وعلا ". هذا الذي هذه صفاته هو الذي يستحق أن يعبد جل وعلا.
قال تعالى :﴿ لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير١٠٣ ﴾( الأنعام : آية ١٠٣ ).
استدل المعتزلة بهذه الآية الكريمة على أن الله لا يرى بالأبصار. واستدلالهم بهذه الآية على ذلك باطل.
واعلموا أولا : أن التحقيق في رؤية الله بعين الرأس أنها ينظر إليها بنظرين :
أحدهما : النظر إليها بالحكم العقلي.
والثاني : النظر إليها بالحكم الشرعي.
أما رؤية الله بالنظر إلى حكم العقل : فهي جائزة في الدنيا، وجائزة في الآخرة.
فالدليل على جوازها عقلا في دار الدنيا : أن نبي الله موسى – وهو هو – قال ﴿ رب أرني أنظر إليك ﴾( الأعراف : آية ١٤٣ ) فلو كانت رؤية الله مستحيلة عقلا في الدنيا لما خفي ذلك على نبيه موسى، لأنه لا يجهل المستحيل في حق الله.
أما بالنظر إلى الحكم الشرعي : فهي جائزة وواقعة في الآخرة قطعا، ممتنعة في الدنيا. وهذا هو التحقيق، فعلم من هذا التحقيق : أن رؤية الله بالأبصار وعيون الرؤوس جائزة عقلا في الدنيا وفي الآخرة، ممتنعة شرعا في الدنيا.
فالله جل وعلا في دار الدنيا لا يرى بالأبصار فعلا، وإن كان ذلك يجوز عقلا، ولكنه في الآخرة يراه المؤمنون " جل وعلا "، هذا هو التحقيق.
ومذهب أهل السنة والجماعة الذي دلت عليه آيات القرآن، والأحاديث الصحيحة المتواترة، أن رؤية الله واقعة شرعا، يراه المؤمنون يوم القيامة بأبصارهم، كما جاء عن حوالي عشرين صحابيا في أحاديث متواترة : أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة. وقد نص الله على ذلك في آيات من كتابه، كقوله :﴿ وجوه يومئذ ناظرة٢٢ إلى ربها ناظرة٢٣ ﴾( القيامة : الآيتان ٢٢، ٢٣ ) وكقوله " جل وعلا " في الكفار :﴿ كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون١٥ ﴾ ( المطففين : آية ١٥ ) يفهم من مفهوم مخالفته : أن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فسر قوله :﴿ للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ﴾ قال :" الحسنى الجنة، والزيادة : النظر إلى وجه الله الكريم ".
هذا هو التحقيق في رؤية الله، أنها جائزة في حكم العقل في الدنيا والآخرة، ممتنعة في حكم الشرع في دار الدنيا، واقعة في الآخرة.
ولطالب العلم هنا سؤال، وهو أن يقول : إذا كانت جائزة عقلا في الدنيا فما وجه منعها وعدم إمكانها شرعا ؟
أجاب بعض العلماء عن هذا السؤال : بأن الناس في دار الدنيا ركبوا تركيبا ضعيفا معرضا للتغير، والفناء، والزوال، لا يقدر، ولا يستطيع، ولا يقوى على رؤية خالق السماوات والأرض، والدليل على ذلك : أنه لما تجلى للجبل صار الجبل دكا لعظم رؤية الله " جل وعلا "، كما يأتي في الأعراف في قوله :﴿ قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا ﴾( الأعراف : آية ١٤٣ )فما يدك الجبال لا يقدر عليه بنو آدم، ولا يقوون عليه. أما في الآخرة فإن الله يركبهم تركيبا جديدا قويا ليس قابلا للتغير ولا للفناء، فيقوون بتلك القوة على رؤية الله جلا وعلا.
فتبن بهذا أنها جائزة عقلا في الدنيا، إلا أن البشر يعجزون ولا يقوون عليها، وأنها واقعة شرعا، لأنهم في ذلك الوقت يطيقونها لتركيبهم الجديد الدائم.
هذا مذهب أهل السنة والجماعة، وقد قدمنا مرارا في هذه الدروس : أن الواجب على كل المسلمين في آيات الصفات : أن يعتقدوا ثلاثة أسس كلها في ضوء القرآن العظيم، فمن اعتقد الأسس الثلاثة كلها لقي ربه مسلما على محجة بيضاء، ومن أخل بواحد منها وقع في مهواة قد لا يتخلص منها، وهذه الأسس الثلاث :
أولها :- وهو الأساسا الأكبر للتوحيد، وهو الحجز الأساسي لمعرفة الله الصحيحة، والصلة بالله على اساس صحيح وثيق. هذا الأصل العظيم الذي هو أساس التوحيد، والحجر الأساسي لمعرفة الله معرفة صحيحة وثيقة - : هو اعتقاد أن خالق السموات والأرض منزه غاية التنزيه عن أن يشبه شيئا من صفات خلقه، أو ذواتهم، أو أفعالهم. فهو " جل وعلا " العظيم الأعلى الذي لا يشبه شيئا من خلقه، ومن الخلق حتى يتشبهوا من خلقهم ؟ أليسوا أثرا من آثار قدرته وإرادته ؟ كيف تشبه الصنعة صانعها ؟ لا.
وهذا الأساس العظيم، الذي هو أساس التوحيد، والحجر الأساسي لمعرفة الله معرفة صحيحة، الذي هو تنزيه خالق السماوات والأرض عن مشابهة الخلق، بينه الله في آيات من كتابه، كقوله :﴿ ليس كمثله شيء ﴾( الشورى : آية ١١ )﴿ ولم يكن له كفوا أحد ٤ ﴾( الإخلاص : آية ٤ )﴿ فلا تضربوا لله الأمثال ﴾( النحل : آية ٧٤ )﴿ هل تعلم له سميا ﴾( مريم : آية ٦٥ ) هذا أسا التوحيد الأكبر، فإذا نظف الإنسان ضميره من نجاسة وتقذير كان سهلا عليه أن يؤمن بما وصف الله به نفسه، وما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم إيمانا مبنيا على أساس التنزيه، لأن كل البلايا منشؤها من أقذار القلوب بنجاسات التشبيه، فمن طهر قلبه على أقذار التشبيه ونجاساتها، وعلم أن صفات الله بالغة من غايات الكمال والجلال ما يقطع علائق أوهام المشابهة بينهما وبين صفات المخلوقين : سهل عليه أن يؤمن بالصفات، لأنه يعتقد في معانيها التنزيه الكامل عن مشابهة الخلق.
وهذان الأصلان اللذان بيناهما الآن – اللذان هما : تنزيه الله عن مشابهة خلقه، والإيمان بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله إيمانا مبنيا على أساس التنزيه، وعدم مشابهة الخلق – لم نقله من تلقاء أنفسنا، وإنما قلناه في ضوء تعليم خالق السماوات والأرض في ضوء المحكم المنزل، لأن الله لما قال :﴿ ليس كمثله شيء ﴾اتبع ذلك بقوله :﴿ وهو السميع البصير ﴾( الشورى : آية ١١ )فإتيانه بقوله :﴿ وهو السميع البصير ﴾ بعد قوله :﴿ ليس كمثله شيء ﴾ فيه تعليم أعظم، ومغزى أكبر، وسر سماوي لا يخفى، لا يبقى معه في الحق لبس، لأنه قال :﴿ وهو السميع العليم ﴾ بعد قوله :﴿ ليس كمثله شيء ﴾ مع أن السمع والبصر – ولله المثل الأعلى – من حيث هما سمع وبصر يتصف بهما جميع الحيوانات –ولله المثل الأعلى - فكأن الله يقول : لا تتنطع يا عبدي يا مسكين فتنفي عني صفة سمعي وبصري، مدعيا أن المخلوقات التي تسمع وتبصر، وأنك إن أثبت لي سمعي وبصري كنت مشبها لي بالمخلوقات التي تسمع وتبصر. لا وكلا ! أثبت لي سمعي وبصري، مراعيا في ذلك الإثبات، تنزيهي، وقولي قبله :﴿ ليس كمثله شيء ﴾ فجميع الصفات من هذا الباب الواحد. فأول الآية - أعني :﴿ ليس كمثله شيء ﴾ – يدل على التنزيه الكامل عن مشابهة المخلوقين من غير تعطيل، وقوله :﴿ وهو السميع البصير ﴾ يدل على الإيمان بالصفات إيمانا حقا على أساس التنزيه، من غير تشبيه ولا تمثيل.
فالأساس الأول من هذه الأسس الثلاثة : هي تنزيه خالق السماوات والأرض عن مشابهة المخلوقين في صفاتهم، وذواتهم، وأفعالهم.
الأساس الثاني : هو أن لا تكذب الله فيما أثنى به على نفسه، لأنه لا يصف الله أعلم بالله من الله ﴿ ءأنتم أعلم أم الله ﴾ ( البقرة : آية ١٤٠ ) ولا يصف الله بعد الله أعلم بالله من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال في حقه :﴿ وما ينطق عن الهوى ٣أن هو إلا وحي يوحى٤ ﴾( النجم : الآيتان٣، ٤ ).
فعلينا أولا أن نطهر قلوبنا من أقذار التشبيه، وأن ننزه خالق السماوات والأرض عن أن تشبه صفته صفة خلقه، ثم إذا طهرنا القلوب من أقذار التشبيه، ونزهنا خالق السماوات والأرض عن مشابهة الخلق، سهل علينا الإيمان بصفاته –صفات الكمال والجلال- إيمانا مبنيا على أساس التنزيه، وعدم المماثلة، على غرار ﴿ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ﴾( الشورى : آية ١١ ).
الأساس الثالث من هذه الأسس : هو قطع الطمع عن إدراك الكيفيات، لأن من أدرك كيفية الشيء فقد أحاط به، والله يقول :﴿ يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما١١٠ ﴾( طه : آية ١١٠ ).
فهذه الأسس الثلاثة التي هي : تنزيه الله عن مشابهة خلقه، والإيمان بصفاته الثابتة في كتابه وسنة رسوله، إيمانا مبنيا على أساس التنزيه، وقطع الطمع عن إدراك الكيفية. هذا معتقد السلف الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون. لا يفسرون صفات الله إلا بدليل جليل لائق منزه عن الأقدار ومشابهة الخلق، ولا ينفون عن الله ما أثبته لنفسه، بل يثبتونه له على أساس التنزيه، على غرار :﴿ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ﴾ ( الشورى : آية ١١ ).
وأنا أؤكد لكم : أننا في هذه الدار –دار الدنيا- وسنرتحل جميعا منها إلى القبور، ثم ننتقل من القبور إلى عرصات القيامة، إلى محل المناقشة والسؤال عن الحقير والجليل، فإذا جئتم الله وأنتم معتقدون هذه الأسس الثلاثة، أؤكد لكم أنه لا تأتيكم بلية، ولا ويلة، ولا مشكلة، ولا لوم، ولا توبيخ من واحد منكم : لم تنزهني عن مشابهة المخلوقات ؟ لا، وكلا. هذا التنزيه طريق سلامة محققة. ولا يقول الله لأحد منكم : لم أثبت لي ما أثبته لنفسي، أو أثبته لي رسولي ؟ ولم تصدقني فيما أثنيت به على نفسي ؟ لا، وكلا. فتصديق الله والإيمان بما قال على أساس التنزيه طريق سلامة محققة لا شك فيها. ولا يقول الله لواحد منكم : لم لا تدعي أن عقلك الضعيف المسكين محيط بكل صفاتي وكيفياتها ؟ لا، وكلا.
فهذه الأسس الثلاثة في ضو ء القرآن العظيم طريق سلامة محققة، ولذا ما ثبت من رؤية الله بالأبصار نمره كما جاء، ونعتقد انه حق على الوجه اللائق بكماله وجلاله، المنزه عن مشابهة صفات المخلوقين من جميع النواحي.
إذا عرفتم هذا : فاعلم أن العلماء أجابوا عن استدلال المعتزلة بهذه الآية الكريمة على مذهبهم الباطل بأجوبة متعددة :
منها : أن معنى﴿ لا تدركه الأبصار ﴾ ( الأنعام : آية ١٠٣ )كما جاء عن ابن عباس وجماعة من السلف : أن الإدراك المنفي هنا هو الإحاطة.
والمعنى : لا تحيط به الأبصار.
والإدراك قد يطلق على الإحاطة كثيرا، كقوله :﴿ أدركه الغرق ﴾ ( يونس : لآية ٩٠ )أي : أحاط به من جميع جهاته. ﴿ إنا لمدركون ﴾( الشعراء : آية ٦١ )أي محاط بنا.
وعلى هذا فمعنى :﴿ لا تدركه ﴾ أي : لا تحيط به الأبصار، وإن كانت تراه في الجملة، فالإدراك المنفي هو الإحاطة. والإحاطة لا يستلزم نفيها نفي مطلق الرؤية الثابت في الأحاديث المتواترة، والآيات القرآنية.
الوجه الثاني : أن معنى :﴿ لا تدركه الأبصار ﴾( الأنعام : آية ١٠٣ ) أي : لا تدركه في دار الدنيا، بدليل قوله : في الآخرة ﴿ وجوه يومئذ ناظرة ٢٢ إلى ربها ناظرة ٢٣ ﴾( القيامة : الآيتان ٢٢-٢٣ ). فلما قيد نظرها إلى ربها بقوله :﴿ يومئذ ﴾ أي : يوم القيامة، عرفنا أن ذلك النظر مقيد بالقيامة، وأن :﴿ لا تدركه الأبصار ﴾أي : في دار الدنيا.
وقال بعض العلماء : لو سلمنا ما يقوله المعتزلة من أن الإدراك : الرؤية، وأن الآية عامة ﴿ لا تدركه الأبصار ﴾ فعمومها تخصصه آيات أخر بيوم القيامة :﴿ وجوه يومئذ ناظرة٢٢إلى ربها ناظرة٢٣ ﴾ ( القيامة : الآيتان ٢٢-٣٢ ) وقوله :﴿ كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ١٥ ﴾( المطففين : آية ١٥ )أي : بخلاف المؤمنين فليسوا بمحجوبين عن ربهم.
وقد تقرر في الأصول أن المفهوم يخصص العام، سواء من كان مفهوما موافقة، او مفهوم مخالفة، فمثال تخصيص العام بمفهوم الموافقة : قوله صلى الله عليه وسلم " لي الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته " ومعنى قوله :" لي الواجد " يعني : ظلم الغني يحل عقوبته. يعني : بالحبس. وعرضه : بأن يقول : ظلمني، ومطلني. وظاهر هذا العموم يشمل الوالد إذا مطل
﴿ قد ﴾ : هنا حرف تحقيق. و ﴿ جاءكم بصائر ﴾ إنما ذكر الفاعل ولم يقل :" جاءتكم بصائر "، لأن الجمع المكسر يجري مجرى الواحدة المؤنثة المجازية التانيث، ويجوز التجريد من التاء. وحسنه هنا الفصل بالمفعول –اعني :﴿ جاءكم ﴾-فإن الفصل يبيح ويجوز به ترك التاء المؤنثة الحقيقة، أحرى غيرها.
وقوله :﴿ بصائر ﴾البصائر : جمع البصيرة( فعيلة ) مجموعة على ( فعائل ) على القياس. والبصيرة أشهر معانيها في لغة العرب أنها تطلق إطلاقين يرجع إليهما غالب استعمال البصيرة في القرآن، وفي لغة العرب :
أحدهما : أن البصيرة هي الحجة والدليل القاطع، ومعنى ( البصائر ) : الحجج والأدلة القاطعة، وإنما قيل للدليل القاطع والحجة والبرهان :( بصيرة )لأنه ينور البصيرة التي هي نور العقل، ينورها حتى ترى الحق حقا، والباطل باطلا، والنافع نافعا، والضار ضارا، والحسن حسنا، والقبيح قبيحا، وعلى هذا فمعنى :﴿ قد جاءكم بصائر ﴾أي : قد جاءتكم حجج قاطعات، وأدلة واضحات في هذا القرآن العظيم، بين الله لكم بها توحيده، وأدلة براهينه القاطعة، كقوله :﴿ إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ﴾( الأنعام : آية ٩٥ ) إلى آخر ما تقدم من آيات البراهين، والحجج القاطعة في هذه السورة الكريمة.
ومن إطلاق البصيرة على الدليل القاطع : قوله جل وعلا :﴿ قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة ﴾( يوسف : آية ١٠٧ )أي : على علم، ودليل واضح، وبرهان قاطع لا يترك في الحق لبسا. ومنه بهذا المعنى : قوله تعالى :﴿ بل الإنسان على نفسه بصيرة١٤ولو ألقى معاذيره١٥ ﴾( القيامة : الآيتان ١٤-١٥ ) معناه : أن الإنسان حجة على نفسه. ﴿ ولو ألقى معاذيره١٥ ﴾ في قوله :﴿ ولو ألقى معاذيره١٥ ﴾ وجهان معروفان من التفسير :
أحدهما : انه لو اعتذر كل الأعذار، كما قالوا :﴿ والله ربنا ما كنا مشركين ﴾( الأنعام : آية ٢٣ ) فنفسه حجة عليه، لأن جلده وجوارحه تنطق بما فعل، كما يأتي في قوله :﴿ وما كنتم تسترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعلمون٢٢ ﴾( فصلت : آية ٢٢ ) وكقوله :﴿ اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم ﴾( يس : آية ٦٥ )فكلام أيديهم وشهادة أرجلهم هو كون الإنسان بصيرة وحجة على نفسه، حيث يشهد عليه جلده وأعضاؤه ﴿ وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة ﴾( فصلت : آ ]ة ٢١ )فعلى هذا :﴿ ولو ألقى معاذيره١٥ ﴾لو أتى بالأعذار الكاذبة كقولهم :﴿ حجرا محجورا ﴾( الفرقان : آية ٢٢ ) ﴿ ما كنا نعمل من سوء ﴾( النحل : آ ]ة ٢٧ )﴿ والله ربنا ما كنا مشركين ﴾( الأنعام : آية ٢٣ ) فنفسه منها حجة قاطعة عليه، وهي شهادة أعضائه وجلده على أنه فعل كذا يوم كذا، في وقت كذا، في مكان كذا.
الوجه الثاني : أن ( المعذار )يطلق في لغة بعض العرب من اليمانيين وغيرهم على ( الستر )، فيقول : " أرخى معذاره " أي : ستره. والمعنى :﴿ بل الإنسان على نفسه بصيرة١٤ ﴾ تقوم حجة منه بما فعل على نفسه بشهادة جوارحه﴿ ولو ألقى معاذيره١٥ ﴾ أي : ولو أرخى ستوره وقت الذنب بحيث لا يطلع عليه أحد، فجوارحه تخبر بما فعل. هذا هو معنى البصيرة، ومعانيها راجعة إلى هذا.
والظاهر أن تسمية العرب الدم الذي يخرج من البكر عند افتضاضها –فقطعة الدم التي تخرج من البكر عند افتضاضها – تسميها العرب ( بصيرة )لأنها حجة على ان الزوج وجدها بكرا غير ثيب. ومن هنا قيل لدم القتيل الذي يكون عند أولاده –يأخذون دمه – تقول العرب لدمه :( بصيرة )، لأنه حجة
راحو بصائرهم على أكتافهم وبصيرتي يعدو بها عتد وأى
فمعنى قوله :﴿ قد جائكم بصائر ﴾ أي : قد جائتكم في هذه السورة الكريمة حجج وبراهين قاطعات على كمال قدرته " جل وعلا " وآياته الباهرة، الدالة على أنه رب كل شيء، وأنه المعبود وحده. ( بدون إحالة )
﴿ فمن أبصر ﴾ أي : بعين قلبه، لأن الإبصار إنما هو بالبصيرة، وهو المعنى الثاني للبصيرة، وهو الاستبصار والعلم بالقلب بحقائق الأشياء ﴿ فمن أبصر ﴾ يعني : ببصيرة قلبه، لأن الإبصار ببصيرة القلب كما يأتي في قوله :﴿ فإنها لا تعمى القلوب التي في الصدور ﴾( الحج : آية ٤٦ ).
ومن أراد أن يقرب عنده معنى هذه الآية الكريمة ﴿ فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ﴾فلينظر إلى رجلين في وسط الشارع، أحدهما صحيح العينين، تام البصر جدا، إلا انه مفقود العقل بتاتا.
والثاني أعمى، مكفوف لا يبصر شيئا، إلا أنه كامل العقل تامه. فتجد صحيح العينين قوي النظر حديده، الذي يفقد العقل يضرب رأسه في الجدار، ويسقط في البئر، ويسقط في النار، ويسقط على الحية، فهو لا يرى شيئأ، وبصره الحديد لا ينتفع به، وتجد ذلك الأعمى وعصاه أمامه، يروغ من هنا ومن هنا، كأنه يرى كل ما يضره وما ينفعه، بهذا تعلموا مدى قوله :﴿ فإنها لا تعمى الأبصار و لكن تعمى القلوب التي في الصدور ﴾.
إذا أبصر القلب المروءة والتقى فإن عمى العينين ليس يضير
ومعنى قوله ﴿ فمن أبصر ﴾ أي : ببصيرة قلبه وأدرك عظمة الله، وفهم عن الله آياته التي جاءت بها رسله فآمن بالله، وصدق رسله، وامتثل أمر الله، واجتنب نهيه.
﴿ فلنفسه ﴾ أي : فقد أبصر لنفسه، لأن فائدة ذلك الإبصار راجعة عليه في الدنيا والآخرة ﴿ ومن عمي ﴾ أي : عمى قلبه، ولم يفهم عن الله – والعياذ بالله- فلم يفهم عن الله آياته، ولم يفهم هذه البصائر والججج والأدلة القاطعة، لم يفهمها، ولكن عمى قلبه عنها – والعياذ بالله- فعلى نفسه، فعماه على نفسه، نفسه عماه عليها، وإياها أضر.
وهذه الآيات تدل الإنسان على انه إن أبصر عن الله فإنما ينفع نفسه، وإن عمى عن الحق فإنما يضر نفسه – والعياذ بالله- فعلى المسلم أن يجتهد فيما يبصر به من إخلاص النية، وطاعة الله ( جل وعلا ).
وهذا معنى قوله :﴿ فمن أبصر فلنفسه ومن عمى فعليها ﴾ وهذا الكلام كأنه أمر النبي صلى الله عليه وسلم ان يقوله، ولذا قال في آخره :﴿ وما أنا عليكم بحفيظ ﴾ الحفيظ :( فعيل )بمعنى ( فاعل ) أي : بحافظ عليكم أعمالكم، أوفقكم إلى خير وأوفقكم لترك الشر، وإلى فعل الخير، وأحسب أعمالكم، وأضبطها عليكم، لا، وكلا، ليس من شأني حفظ أعمالكم وتوفيقكم، ولا إحصاء أعمالكم عليكم، ولا مجازاتكم عليها، إنما أنا رسول مبلغ، إنما علي البلاغ، وقد بلغت، وحفظ أعمالكم وتوفيقكم إلى الخير والشر ومجازاتكم على ذلكم كله بيد الله وحده، كما قال جل وعلا ﴿ فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب ﴾ ( الرعد : آية ٤٠ ) ﴿ فإن تولوا فإنما عليه ما حمل ﴾ أي : وهو التبليغ ﴿ وعلكم ما حملتم ﴾ ( النور : آية ٥٤ ) أي : وهو الطاعة. وهذا معنى قوله :﴿ وما أنا عليكم بحفيظ ﴾ ( الأنعام : آية ١٠٤ )
﴿ وكذلك نصرف الآيات وليقولوا درست ولنبينه لقوم يعلمون١٠٥ ﴾( الأنعام : آية ١٠٥ ).
في هذه الآية الكريمة ثلاث قراءات سبعيات قرأه من السبعة نافع، غير ممدود بألف، و( التاء ) مفتوحة-تاء المخاطب- ﴿ درست ﴾ بعدم مد الدال، وفتح التاء، هذه قراءة نافع، وعاصم، والكسائي.
وقرأه من السبعة أبو عمرو، وابن كثير :﴿ وليقولوا دارست ولنبينه لقوم يعلمون ﴾ على وزن " فاعلت " بتاء المخاطب المفتوحة.
وقرأه ابن عامر وحده من السبعة :﴿ وليقولوا درست ولنبينه لقوم يعلمون ﴾ على وزن " فعلت " بتاء التأنيث الساكنة.
اعلم أولا أن معنى الآية :﴿ وكذلك نصرف الآيات ﴾ أي : وكذلك التصريف الواضح الذي تصرف عليه الآيات على أنحاء مختلفة، من إقامة البراهين العقلية، و إفحام الخصوم، والوعد والوعيد، وبيان المحجة، كذلك التصريف الذي نصرف به الآيات في هذه السورة : نصرفها بغيرها من جميع القرآن مما يحتاج له البشر على انحاء مختلفة من العقائد، والحلال والحرام، والآداب، والمكارم، والأمثال، والوعد والوعيد، كذلك التصريف الواضح على الأنحاء المختلفة، نصرف الآيات. وتصريف القرآن بهذه الأساليب العظيمة لحكمة مفترقة إلى شيئين : أي : ليؤمن به من وفقه الله، وليكذب به من خذله الله فيقول : درست هذا القرآن على غيرك، وأخذته من غيرك، كما قالوا :﴿ وقالو أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا ٥ ﴾ ( الفرقان : آية ٥ ) ﴿ إن هذا إلا إفك افتراه و أعانه عليه قوم آخرون ﴾ ( الفرقان : آية ٤ ) والمعنى : نصرف آيات القرآن على أنحاء مختلفة، في أكمل بيان وأوضحه، لنخذل قوما، ونوفق آخرين، لأن الله انزل هذا القرآن، وصدق في علمه أنه يؤمن به قوم فيدخلهم الجنة، ويكفر به آخرون فيدخلهم النار، لأن هذا القرآن منذ انزله الله لا يدخل أحد الجنة إلا عن طريق العمل به، ولا النار إلا عن طريق الإعراض عنه، فالعمل به مفتاح الجنة، والإعراض عنه مفتاح النار، ﴿ ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده فلا تك في مريه منه إنه الحق من ربك ﴾ ( هود : آية ١٨ ) والله ( جل وعلا ) يبتلي بابتلاءاته فيضل قوم ويهدي آخرين، وله في ذلك الحكمة البالغة، ولأجل هذا القرآن هدى لقوم وفقهم للعمل به، وجعله هلاكا على آخرين، وحجة عليهم، خذلهم فأعرضوا عنه، كما قال تعالى :﴿ وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا٧٢ ﴾ ( الإسراء : آية ٧٢ )﴿ قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في ءاذانهم وقر وهو عليهم عمى ﴾ ( فصلت آية ٤٤ ) والعياذ بالله ﴿ وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون ١٢٤ وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون١٢٥ ﴾( التوبة : الآيتان ١٢٤-١٢٥ )هذا معنى قوله :﴿ وكذلك نصرف الآيات ﴾ و لأجل أن ينقسموا إلى أشقياء وسعداء : صرفنا هذا القرآن على هذا التصريف.
﴿ وليقولوا درست ﴾ أي : وليقول الكفار الذين خذلهم الله ولم يوفقهم للعمل به :﴿ درست ﴾ يعنون درست هذا القرآن على غيرك، و أخذته عن بعض البشر، كما يأتي في قوله :﴿ إنما يعلمه بشر ﴾ ( النحل : آية ١٠٣ ) وقوله :﴿ إنه فكر وقدر١٨ فقتل كيف قدر١٩ ثم قتل كيف قدر٢٠ثم نظر٢١ ثم عبس وبسر ٢٢ثم أدبر ﴾ إلى أن قال :﴿ إن هذا إلا سحر يؤثر ﴾ أي : يرويه محمد من غيره﴿ إن هذا إلا قول البشر ٢٥ سأصليه سقر٢٦ ﴾ ( المدثر : الآيات ١٨-٢٦ ) وكقوله :﴿ وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون ﴾ ( الفرقان آية ٤ ) وكقوله :﴿ اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا ﴾ ( الفرقان : آية ٥ ) أي : ليقول من خذله الله : درست هذا القرآن، وأخذته عن غيرك من البشر، وتعلمته منه، كما قالوا :﴿ إنما يعلمه بشر ﴾ ( النحل : آية ١٠٣ ) أي : لأجل أن يخذل الله من خذله فيكذبون بكتاب الله، وينكرون أنه منزل من الله، ويزعمون أنه درسه على غيره، و أخده من البشر.
هذا على قراءة نافع، وعاصم، وحمزة، والكسائي.
أما على قراءة ابن كثير، وأبي عمرو ﴿ وليقولوا دارست ﴾ فمعناه راجع إلى الأول، والمعنى : دارست غيرك من البشر، دارستهم فدارسوك، وقرأت عليهم وقرؤوا عليك، فاستعنت بهم حتى حصلت هذا الكلام الذي جئت به من عندهم.
أما على قراءة ابن عامر :﴿ وليقولوا درست ﴾ فأصلها قراءة معناها مشكل، وأظهر أقوال العلماء فيها وجهان :
أحدهما : وليقول من خذله الله وأشقاه ولم يوفقه للقرآن : درست هذه الآيات التي تأتي بها، لأنها متقدم عهدها، لأنها من أساطير الأولين أخذتها عنهم، فهو ليس بشيء جديد أنزل عليك، و إنما هي دراسة قديمة، كانت عند الأولين من أساطيرهم، أخذتها عنهم وعلى هذا فالمعنى يرجع إلى قوله :﴿ وقالوا أساطير الأولين ﴾ ( الفرقان : آية ٥ ) ﴿ وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين ٢٤ ﴾( النحل : آية ٢٤ ) لأن أساطير الأولين أساطير قديمة دارسة أخذتها عنهم، ليس بأمر جديد منزل عليك. وهذا من أبين الوجوه في قراءة ابن عامر :﴿ وليقولوا درست ﴾.
الوجه الثاني : أي : وليقول من خذله الله وأشقاه ولم يوفقه للعمل بالقرآن : درست هذه الآيات، طال علينا العهد بها وانمحت، فينبغي لك أن تأتي بغيرها /وتبدلها بجديد، فإن هذه الأولى درست ولم تنفع، كما قال :﴿ قال الذين لا يرجون لقائنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله ﴾ ( يونس : آية ١٥ ). والأول أظهر.
﴿ ولنبينه لقوم يعلمون ﴾ ( الأنعام : آية ١٠٥ ) هذه الحكمة، أي : ليقول من خذلهم الله و أشقاهم : درست هذا القرآن و أخذته عن البشر، فهو أساطير الأولين وليس بكلام الله، ولأجل ان نبينه لمن وفقناهم، فيكون عمى على هؤلاء وهدى لهؤلاء، كما قال :﴿ قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء ﴾ ( فصلت : آية ٤٤ ) فقوله :﴿ هدى وشفاء ﴾ كقوله :﴿ ولنبينه لقوم يعلمون ﴾، وقوله :﴿ وليقولوا درست ﴾ ( الأنعام : آية ١٠٥ ) كقوله :﴿ وهو عليهم عمى ﴾ ( فصلت : آية ٤٤ ) وكقوله :﴿ وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ﴾ ( الإسراء : آية ٨٢ )أي :﴿ ولنبينه لقوم يعلمون ﴾.
﴿ اتبع ما أوحي إليك من ربك ﴾ لما بين الله ( جل وعلا ) انه أنزل علينا على لسان نبينا بصائر حيث قال :﴿ قد جاءكم بصائر ﴾ والمعنى : جاءتكم قبلنا على لسان نبينا بصائر، أي : حجج قاطعات، وأدلة واضحات، لا تترك في الحق لبسا. فهذه البصائر التي جاءتكم يلزمكم اتباعها، وعدم الميل والحيدة عنها، ولذا أتبع قوله :﴿ قد جاءكم بصائر ﴾ ( الأنعام : آية ١٠٤ ) بقوله :﴿ اتبع ما أوحي إليك من ربك ﴾ ( الأنعام : آية ١٠٦ ) وهعو تلك الباصئر والبيانات والحجج القاطعات التي أنزلها الله عليك، وهذه البصائر : هي هذا القرآن العظيم، وهو المأمور باتباعه في قوله :﴿ اتبع ما أوحي إليك ﴾ ( الأنعام : آية ١٠٦ ) وهذا القرآن العظيم يجب علينا جميعا أن نتبعه، ونتأدب بآدابه، ونتخلق بما فيه من مكارم الأخلاق، ونحل حلاله، ونحرم حرامه، ونعتقد عقائده، وننزجر [ بوعيده ]، وننبسط( لوعده )، ونتأسى بأمثاله، إلى غير ذلك من العمل به.
وعلموا أن هذا القرآن العظيم هو أعظم نعمة أعطاها الله لهذا الخلق الذي أنزله علينا، وقد بين ( جل وعلا ) أن إيراث هذا القرآن العظيم هو العلامة الوحيدة في الاصطفاء، فالله لا يورث هذا الكتاب إلا من اصطفاء من خلقه، حيث قال بعد أن نوه بالقرآن والعمل به :﴿ إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا ﴾ إلى أن قال :﴿ يرجون تجارة لن تبور ﴾ ثم قال :﴿ ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا ﴾ فبين أن إيراث هذا الكتاب علامة للاصطفاء، ولذا قال :﴿ أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا ﴾ والجمهور من العلماء على أن الذين أورثوا الكتاب الذين اصطفاهم الله بإيراث هذا الكتاب لا يختصون بحملة القرآن الذين يحفظونه، بل يشمل جميع الأمة الذين يعملون به، فيحلون حلاله، ويحرمون حرامه، ويعتقدون عقائده، إلى غير ذلك، وإن لم يكونوا يحفظونه، وسواء وقع منهم تقصير، لأن الله لما بين إيراثه للكتاب، وأن إيراثه الكتاب علامة الاصطفاء، قسم هذه الأمة التي أورثها هذا الكتاب إلى ثلاثة أقسام، قال :﴿ فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات ﴾ ثم نوه بالقرآن العظيم فقال :﴿ ذلك هو الفضل الكبير ﴾ ﴿ ذلك ﴾ أي : إيراثنا الكتاب إياهم عن نبيهم ﴿ هو الفضل الكبير ﴾ من الله عليهم. فصرحت الآية بأن إنزال القرآن، وإيراثنا إياه أعظم فضل وأكبره علينا، ولذا علمنا الله أن نحمده على هذه النعمة الكبرى، والفضل الأعظم، حيث قال في أول سورة الكهف :﴿ الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا١ ﴾ ( الكهف : آية ١ ) يعني لم يجعل فيه اعوجاجا من جهة الألفاظ ولا المعاني، فألفاظه بليغة مستقيمة، " ومعانيه " ( في الأصل : ومعناه ) كريمة جليلة، أخباره صدق، وأحكامه عدل ﴿ وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا ﴾ ( الأنعام : آية ١١٥ ) يعني : صدقا في الأخبار، وعدلا في الأحكام. ثم قال ( جل وعلا ) وهو محل الشاهد :﴿ جنات عدن يدخلونها ﴾ يعني جميع الذين أورثوا الكتاب، هذا القرآن العظيم وعلى رأسهم الظالم لنفسه، لأنه أول من ذكر، حيث قال :﴿ فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات ﴾ ثم قال عن الجميع :﴿ جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤ ولباسهم فيها حرير٣٣وقالوا الحمد لله الذي اذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور٣٤ الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب ٣٥ ﴾ ولم يبق غير الذين أورثوا الكتاب بظالمهم، ومقتصدهم، وسابقهم إلا الكفرة الفجرة، ولذا قال بعدها :﴿ والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور٣٦ ﴾ ( فاطر : الآيات ٢٩-٣٦ ) وكان بعض العلماء يقول : حق لهذه( الواو ) ان تكتب بماء العينين. يعني واو ﴿ يدخلونها ﴾ لأنها حكمت بدخول الجميع في الجنة، وعلى رأسه الظالم لنفسه.
وأصح التفسيرات في ( الظالم )، و ( المقتصد )، و ( السابق ) :
أن الظالم : هو الذي يطيع مرة ويعصي أخرى، من الذين قال الله فيهم :
﴿ خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم ﴾ ( التوبة : آية ١٠٢ ).
والمقتصد : هو الذي يأتي بالواجبات، ويترك المحرمات، ولا يتقرب بالنوافل.
والسابق بالخيرات : هو الذي يأتي بالواجبات، ويتقي المحرمات، ويتقرب إلى الله بالنوافل، تقربا إليه بغير الواجبات.
وكان بعض العلماء يقول : ما الحكمة في تقديم الظالم في آية فاطر هذه، والظالم إذا كان في هذا الوعد الكريم بدخول الجنة ﴿ جنات عدن يدخلونها ﴾ فمن أين له ان يقدم فيقدمه الله بالذكر على المقتصد والسابق ؟
للعلماء عن هذا أجوبة معروفة :
منها : أن معظمهم قال : هذا المقام أظهر الله فيه كرمه وتعظيمه هذا القرآن العظيم، وقوة آثاره على من أورثهم إياه بدخول الجنة، لذا بدأ بالظالم لئلا يقنط، واخر السابق بالخيرات لئلا يعجب بعمله فيحبط.
وقال بعض العلماء : أكثر أهل الجنة الظالمون لأنفسهم، لأن الله يقول :﴿ إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم ﴾ ( ص : آية ٢٤ )ولما كان أكثر أهل الجنة الظالمين لأنفسهم بدأ بهم لشأن الكثرة.
كذا قالوا والله – تعالى – اعلم، ولذا لما نوه بهذه البصائر التي هي النعمة العظيمة ﴿ قد جاءكم بصائر من ربكم ﴾ ( النعام : آية ١٠٤ ) أمر بإتباعها وقال :﴿ اتبع ما أوحي إليك من ربك ﴾ ( الأنعام : آية ١٠٦ ) وهذا الذي أوحي إليك من ربك هو تلك البصائر، أي الحجج القاطعات، والأدلة الساطعات الواضحات، التي لا تترك في الحق لبسا، التي صرفها الله في هذا القرآن العظيم ﴿ وكذلك نصرف الآيات ﴾ ( الأنعام : آية ١٠٥ ) كما قال جل وعلا :﴿ ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل ﴾ ( الإسراء : آية ٨٩ ) وهذا معنى قوله :﴿ اتبع ما أوحي إليك من ربك ﴾ ( الأنعام : آية ١٠٦ ).
وهذه الآية نص بان الذي يجب اتباعه هو الوحي، وهو القرآن العظيم، فلا يجوز اتباع غيره، فمن اتبع تشريعا غيره فربه من اتبع تشريعه كما بيناه مرارا وكما سيأتي إيضاحه مرارا في هذه السورة الكريمة سورة الأنعام، لأن التشريع إنما هو لخالق السماوات والأرض، كما أنه لا شريك له في عبادته : كذلك لا شريك له في حكمه، ولذا قال تعالى في العبادة :﴿ فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ﴾ ( الكهف : آية ١١٠ ) :﴿ ولا يشرك في حكمه أحدا ﴾ فالحكم لله وحده، كما أن العبادة له وحده، فهو المعبود وحده ( جل وعلا )، فيجب توحيده في العبادة، وهو الحاكم وحده ( جل وعلا )، فالحكم له وحده ﴿ إن الحكم إلا لله ﴾ ( الأنعام : آية ٥٨ ) لأن الحكم لا يكون إلا لمن هو أعلى من كل شيء، وأكبر من كل شيء، وأعظم من كل شيء، كما قال تعالى :﴿ ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلي الكبير١٢ ﴾ ( غافر : آية ١٢ ) لأن العلي الكبير الذي هو متصف بغاية العلو والكبر والعظم هو الذي له يأمر وينهى، فالحلال ما أحله الله، والحرام ما حرمه الله، والدين ما شرعه الله، وليس لأحد ألبتة تشريع مع الله، فكل من اتبع تشريعا وضعيا سواء سماه نظاما، او قانونا، أو دستورا من التشاريع الوضعية التي وضعها إبليس على ألسنة اوليائه من الكفرة : فربه ذلك الذي اتبع تشريعه، وهو كافر بالله كفرا بواحا مخرجا عن الملة. والله بين هذا في آيات كثيرة، لأن التشريع لا يمكن إلا ان يكون للسلطة العليا الحاكمة، التي لا يمكن ان تكون فوقها سلطة، وهي سلطة خالق السماوات والأرض، فهو الآمر الناهي، فالأمر أمره، والنهي نهيه، والدين ما شرع، والحلال ما أحل، والحرام ما حرم، ومن أراد ان يتبع تحليلا وتشريعا لغيره فقد اتخذ غيره ربا، وهو مشرك بخالق السماوات والأرض، لأن الشرك به في حكمه كالشرك به في عبادته، ولذا سياتيكم في هذه السورة الكريمة –سورة الأنعام- براهين قاطعة من هذه البصائر التي قال الله :﴿ قد جائكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها ﴾ ( الأنعام : آية ١٠٤ ) موضحا أن من اتبع تشريع الشيطان فقد اتخذ الشيطان ربا، وهو مشرك بالله شركا أكبر عن دين الإسلام، ذلك ان ابليس اللعين لما قال لتلامذته من كفار مكة : سلوا محمدا صلى الله عليه وسلم عن الشاة تصبح ميتة، من هو الذي قتلها ؟ قال لهم : الله قتلها. قالوا : إذا هي ذبيحة الله، وأنتم تقولون : هي ميتة نجسة، فما ذبحتموه بأيديكم –يعنون المذكى – تقولون : حلال طيب مستلذ ! ! وما ذبحه الله بيده الكريمة تقولون : حرام ميتة نجس، فأنتم إذا أحسن من الله ! ! فانزل الله – بإطباق العلماء - فيهم قوله تعالى :﴿ ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه( الأنعام : آية ١٢١ ) يعني : الميتة. أي وإن زعموا أنها ذبيحة الله، ثم قال :{ وإنه لفسق ﴾ ﴿ وإنه ﴾ يعني : الأكل من الميتة ﴿ لفسق ﴾ وخروج عن طاعة الله. ثم قال :﴿ وإن أطعمتموهم ﴾ أي : وإن أطعمتموهم في أن الميتة حلال في تشريع الشيطان، لأن الصحابة والكفار اختلفوا في لحم الميتة، فقال الصحابة : حرام بتشريع الله، لأن الله يقول :﴿ إنما حرم عليكم الميتة ﴾ ( البقرة : آية ١٧٣ ) وقال أتباع الشيطان في تشريع الشيطان : الميتة حلال، لأنها ذبيحة الله، فما ذبحه الله أحسن مما ذبحه البشر.
فهي قطعة لحم اختلف فيها شرع الله مع قانون الشيطان، فقال الله ﴿ وإن أطعمتموهم إنكم لمشركون ﴾ ( الأنعام : آية ١٢١ ) يعني : إن أطعتم الكفار بأكل الميتة الذي أباحه قانون إبليس، ونظام الشيطان ﴿ إنكم لمشركون ﴾ بالله حيث أشركتم في حكمه، وهو يقول ﴿ ولا يشرك في حكمه أحدا ﴾ ( الكهف : آية ٢٦ ).
وهذا الشرك الذي حكم الله به في سورة الأنعام على من اتبع قانون الشيطان، ونظام إبليس، هو الذي يوبخ الله مرتكبيه يوم القيامة – في سورة " يس " – على رؤؤس الأشهاد، ويبين مصيرهم النهائي، وذلك في قوله :﴿ ألم أعهد إليكم يا بني آدم ان تعبدوا الشيطان ﴾ ( يس : آية ٦٠ )وقد أجمع العلماء أن عبادتهم للشيطان التي نهاهم عنها وعهد إليهم ألا يفعلوها إنما هي اتباع نظامه، وتشريعه، وقانونه، في سن المعاصي، والكفريات، والمنكرات، ثم قال :﴿ ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين٦٠ وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم٦١وقد أضل منكم جبلا كثيرا ﴾ حيث عبدوه واتخذوا تشريعه﴿ أفلم تكونوا تعقلون ﴾ ثم بين المصير النهائي لعبدة الشيطان، ومتبعي نظام إبليس :﴿ هذه جهنم التي كنتم توعدون٦٣اصلوها اليوم بما كنتم تكفرون٦٣اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون٦٥ ﴾ ( يس : الآيات ٦٠-٦٥ )لأجل هذا سمى الله تعالى الذين يطاعون في المعصية : " شركاء " حيث قال :﴿ وكذلك زين لكثير من المشركين قتل اولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم ﴾ ( الأنعام : آية ١٣٨ ) ولما سأل عدي بن حاتم النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى :﴿ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا ﴾ ( التوبة : آية ٣١ ) كيف اتخذوهم اربابا ؟ قال : ألم يحلوا لهم ما حرم الله ؟ ويحرموا عليهم ما أحل الله فاتبعوهم ؟ قال : بلى. قال : بذلك اتخذوهم أربابا.
فكل من يتبع نظام إبليس، وقانون الشيطان، فهو مشرك بالله في حكمه، والله يقول :﴿ ولا يشرك في حكمه أحدا ﴾( الكهف : آية ٢٦ )، ﴿ إن الحكم إلا لله ﴾ ( الأنعام : آية ٥٨ )، { وما اختلفتم فيه م
يقول الله جل وعلا :﴿ ولو شاء الله ما أشركوا وما جعلناك عليهم حفيظا وما أنت عليهم بوكيل١٠٧ ﴾( الأنعام : آية ١٠٧ ) لما قال الله ( جل وعلا ) لنبيه :﴿ اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين١٠٦ ﴾( الأنعام : آية ١٠٦ ) لما أمره بالإعراض عن المشركين، بين أن إشراكه بالله واقع بمشيئة الله ( جل وعلا )، واتبعه بقوله :﴿ ولو شاء الله ما أشركوا ﴾. قد تقرر في فن المعاني : أن فعل المشيئة إذا ربط بأداة شرط يحذف مفعوله دائما، فمفعول المشيئة هنا محذوف، وتقديره : ولو شاء الله عدم إشراكهم ما أشركوا.
وهذه الآية الكريمة تبين أنه لا يقع شيء إلا بمشيئة الله، وأنه لو شاء عدم إشراك الكفار لم يشركوا. وقد دلت على هذا آيات كثيرة كقوله :﴿ ولو شاء الله لجمعهم على الهدى ﴾ ( الأنعام : آية ٣٥ ) ﴿ ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ﴾ ( السجدة : آية ١٣ ) وهذه الآيات ترد على القدرية الزاعمين أن الكفر والمعاصي بمشيئة العبد لا بمشيئة الله، فمذهبهم باطل، فروا من شيء فوقعوا فيما هو أشنع وأكبر منه، فهم يريدون التقرب لله، بأن يزعموا أن الخسائس كالسرقة، والزنا، والشرك أنها بمشيئة العباد لا بمشيئة الله، زاعمين أن الله أنزه وأعظم وأجل من أن تكون هذه الرذائل بمشيئته.
وهذه الشبهة –التي هي شبهة الجبر والقدر- هي أعظم الشبه التي في دين الإسلام، وكثير من ضعفاء العلم يصعب عليهم أن ينفكوا عنها ويتخلصوا منها، ونحن في هذه الدروس دائما نبين كيفية رد هذه الشبه، وخلوص مذهب أهل السنة والجماعة بين مذهب القدرية والجبرية كخلوص اللبن من بين الفرث والدم سائغا خالصا للشاريين.
ونقول مثلا : لو أراد سني أن يناظر جبريا وقدريا متمسكين بمذهب القدرية والجبرية، القدري " يزعم " ( في الأصل : " فيقول القدري مثلا الزاعم.... " فالكلام غير متلائم مع ما بعده ) أن أفعال العبد القبيحة بمشيئة العبد لا بمشيئة الله ويزعم الجبري أن الأفعال كلها من الله، فليس للعبد فعل. فلو قال جبري مثلا : هذه الأفعال الصادرة من الإنسان، كالإشراك والزنا والسرقة وما جرى مجرى ذلك من الرذائل، هي مكتوبة عليه قبل أن يولد، قدرها الله وكتبها في الأزل، وما قدره الله و كتبه لا يمكن أن يتغير ! ! يقول الجبري مثلا : ما سبق في علم الله من أن المشرك يشرك، وأن الزاني يزني، وأن السارق يسرق، سبق به العلم الأزلي، فلا يمكن أن يتغير، لأن ما سبق في علم الله لا يمكن أن يتغير ! ! فإذن يقول هذا الجاهل : إنه مجبور ما دام الفعل كتب عليه قبل أن يولد، وجفت الأقلام وطويت الصحف، فالواقع واقع لا محالة، فيقول : هو مجبور ! !
فيجيب السني مثلا فيقول : كل الأسباب التي هدى الله بها المهتدين أعطاكها، فالأبصار الذي أبصروا بها آيات الله أعطاك بصرا مثلها، والأسماع التي سمعوا بها آيات الله فاهتدوا أعطاك سمعا مثلها، والقلوب التي فهموا بها عظم الله، وأدلته، وبراهينه فاهتدوا اعطاك عقلا مثلها، والرسل التي نصحتهم، وبينت لهم، واهتدوا بهديها أرسلها إليك كما أرسلها لهم، فجميع الأسباب الذي اهتدوا بها المهتدون أعطاكم، ولم يبق فرق بينك أيها الضال وبين المهتدي إلا أن الله تفضل عليه بتوفيقه، ولم يتفضل عليك بتوفيقه، ويوضح هذا المقام : مناظرة أبي إسحاق الإسفرائيني وعبد الجبار المعتزلي. وذلك أن عبد الجبار جاء إلى أبي إسحاق متقربا بمذهب القدرية فقال : سبحان من تنزه عن الفحشاء ! ! يعني أن السرقة والزنا والإشراك ليست بمشيئته، وأنه يتنزه عن أن يشاء هذا.
فقال أبو إسحاق : كلمة حق أريد بها باطل ! ! ثم قال : سبحان من لا يقع في ملكه إلا ما يشاء.
فقال عبد الجبار : أتراه يشاؤه ويعاقبني عليه ؟
فقال أبو إسحاق : أتراك تشاؤه جبرا عليه، أأنت الرب وهو العبد ؟
فقال عبد الجبار : أرأيت إن دعاني إلى الهدى وسد الباب دوني، دعاني ولم يسهل لي طريق الخروج، تراه أحسن إلي أم أساء ؟
فقال أبو إسحاق : إن كان هذا الذي منعك حقا واجبا لك عليه فقد ظلمك وقد أساء – سبحانه عن ذلك- وإن كان ملكه المحض فإن أعطاك ففضل، وإن منعك فعدل.
فبهت عبد الجبار، وقال الحاضرون : والله ما لهذا جواب.
وهذا مفهوم من قوله في السورة الكريمة :﴿ قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين١٤٩ ﴾ ( الأنعام : آية ١٤٩ ) ملكه التوفيق يتفضل به على من يشاء، ويمنعه ممن يشاء، هو حجته البالغة على خلقه، لأن المالك إذا تفضل فأعطى ففضل منه، وإذا منع فعدل منه، ولذا قال :﴿ قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين١٤٩ ﴾.
وذكروا عن عمرو بن عبيد، كبير المعتزلة، مع قوته، وذكائه، ومعرفته، أنه جاء بدوي وقال له : كنت أعمل على دابتي فسرقها اللصوص، فادع الله أن يردها على. فقال عمرو بن عبيد يتقرب بهذا المذهب الباطل، فقال : اللهم إنها سرقت، ولم ترد سرقتها، لأنك أكرم وأجل وأنزه من أن تريد السرقة. فقال له ذلك البدوي : ناشدتك الله يا هذا إلا ما كففت عني من دعائك الخبيث. إن كانت قد سرقت ولم يرد سرقتها فقد يريد ردها ولا ترد.
فالحاصل انه لا يقع في الكون شيء كائنا ما كان إلا بمشيئة خالق السماوات والأرض، وانه لا جبر ولا قدر، وأن الله تبارك وتعالى قدر في سابق أزله أن يخلق قوما مجبولين على الخير والفضل، ويوفقهم إلى ما يرضيه، لتظهر فيهم أسرار أسمائه وصفاته، من اسمه الكريم، واللطيف، وغير ذلك من أسماء الكرم والجود، وقدر في أزله أن يخلق آخرين مطبوعين على القذارة والنجاسة، ليظهر فيهم بعض أسراره كالقهار، يظهر فيهم قهره، وجبروته، وعظمته، وشدة عقابه، ليجتمع للناس الخوف والطمع، لأنه لو كان خوف لا طمع معه فقد يكون هنالك بغض، وإن كان طمع لا خوف معه فقد يكون هنالك أمن يحمل على الدلال وسوء الأدب، فخلق بعض الخلق وقدر لهم الشقاء الأزلي، لما جبلهم عليه من الخبث، ليظهر فيهم بعض أسرار أسمائه وصفاته، من قهره، وملكه، وقوة بطشه، و إنصافه، وقدر لقوم آخرين الهدى ليظهر فيهم بعض أسرار أسمائه وصفاته من رحمته، وفضله، ولطفه، وكرمه، ولكن قدرة الله و إرادته صرفت قدر الخلق وإرادتهم إلى ما شاء الله وقدره في أزله، فأتوه طائعين. فالله ( جل وعلا ) بقدرته وإرادته يصرف قدرة العبد وإرادته إلى ما سبق به الكتاب في علمه الأزلي، فيأتيه طائعا :﴿ وما تشاءون إلا أن يشاء الله ﴾ ( الإنسان : آية ٣٠ ) هذا هو أصل هذه المسألة. فالله يشاء، ويقدر، ويصرف قدر العباد وإرادتهم إلى ما سبق به العلم الأزلي، فيأتوه طائعين. وله المثل الأعلى، والحكمة البالغة في كل ما يقدر.
ولا يخفى أن الجبريين الذين يقولون : إن العبد لا فعل له، وإنما هذا فعل الله ! ! لا يقبل منك هذا العذر، ويقول : أنت الذي فعلت وفعلت. وينتقم منك غاية الانتقام، ولكنه بالنسبة إلى التكاليف يتعلل هذا التعلل الباطل. فكل شيء في الكون لا يقع في العالم تحريكه ولا تسكينه من خير أو شر إلا بمشيئة خالق السماوات والأرض. وهو يوجه قدر الخلق وإرادتهم إلى ما سبق به العلم الأزلي، فيأتوه طائعين، فريق في الجنة وفريق في السعير، ليظهر فيهم أسرار أسمائه وصفاته.
وبهذا يتضح أن القائلين بالجبر مفترون، وأن النافين للقدر أنهم كذلك مجوس هذه الأمة. فالله يقدر الأشياء في أزله، ويكتب كل شيء، ثم يصرف بقدرته وإرادته الخلق وقدرتهم، فيأتون ما سبق به العلم الأزلي طائعين.
وهذه المسألة قد سأل أصحاب النبي عنها النبي صلى الله عليه وسلم، فسألوه : هل هذا الذي نعمل له شيء مؤتنف، أو أمر قد قضي في السابق وانتهى وفرغ منه ؟ فبين لهم صلى الله عليه وسلم أنه أمر قضي وفرغ منه، فقالوا له : لم لا نترك العمل ونتكل على ما سبق به الكتاب في العلم الأزلي ؟ فالنبي صلى الله عليه وسلم أجابهم فقال :﴿ اعملوا فكل ميسر لما خلق له ﴾. فمعنى هذا الحديث : أن الله يخلق الخلق ويجبلهم على ما شاء من خبث، ومن خير ومن شر، ثم يسهل كل واحد منهم وييسر ما خلق له، فييسر للسعيد عمل الخير، وللشقي عمل الشر، يصرف قدرهم و إرادتهم بقدرته و إرادته، فيأتوه طائعين، ولذا قال تعالى :﴿ ولو أشاء الله ما أشركوا ﴾( الأنعام : آية ١٠٧ )أي : لو شاء عدم إشراكهم بالله ما أشركوا.
وقوله :﴿ وما جعلناك عليهم حفيظا ﴾ كان النبي صلى الله عليه وسلم بما جبله الله عليه من الرأفة والرحمة يحزنه عدم إيمانهم، فالله يقول : أنا ما جعلتك حفيظا عليهم، حافظا تحفظهم من الوقوع في الشر، وتيسرهم إلى الخير، ولا جعلتك وكيلا عليهم تحاسبهم بأعمالهم وتجازيهم، بل أنا الذي أوفق من شئت، وأضل من شئت، وأحصي عليهم أعمالهم فأجزيهم عليها، ﴿ فذكر فإنما أنت مذكر٢١لست عليهم بمسيطر ٢٢ ﴾ ( الغاشية : الآيتان٢١-٢٢ )وكقوله :﴿ فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب ﴾( الرعد : آية ٤٠ ) والمعنى : كأنه يقول له : لست موكلا بأعمالهم، ولا حافظا لهم توفقهم، حفظهم ومحاسبتهم على الله، و إنما انت نذير، وقد قمت بوظيفتك، وبلغت، فأرح نفسك، ولا تحزن، كما قال له :﴿ ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون ﴾ ( النحل : آية ١٢٧ ) وقد تقدم في هذه السورة الكريمة قوله :﴿ قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون ﴾ إلى ان قال :﴿ فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية ﴾ أي : فتقهرهم بها على الإيمان فافعل. ثم قال :﴿ ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين ﴾( النعام : الآيات ٣٣-٣٥ ). وقال له :﴿ لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين٣ ﴾( الشعراء : آية ٣ )، ﴿ فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا٦ ﴾( الكهف : آية ٦ )ومعنى ﴿ باخع نفسك ﴾ أي : مهلكها من الحزن عليهم، ولذا قال له هنا :﴿ وما جعلناك عليهم حفيظا وما أنت عليهم بوكيل ﴾( الأنعام : آية ١٠٧ ).
﴿ ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم ﴾ لما أنزل الله تعالى قوله :﴿ إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون٩٨ ﴾ ( الأنبياء : آية ٩٨ ) اجتمع رؤساء قريش من كفار مكة إلى أبي طالب في آخر أيام حياته قالوا له : إن ابن أخيك يعيب آلهتنا ويذمها. والله لتنهين ابن اخيك عن سب آلهتنا أو لنهجون إلهه الذي أمره بهذا. فانزل الله :﴿ ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم ﴾.
وقال بعض العلماء : كان المؤمنون يسبون الأصنام بانها أجرام لا تنفع ولا تضر، ولا تسمع ولا تبصر، فأنزل الله نهيهم عن ذلك لئلا يتذرع به المشركون فينتقمون منهم فيسبون ربهم، ولذا قال تعالى :﴿ ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله ﴾. السب معناه : الذم والثلب بذكر المساوئ التي لا تليق. والعرب تقول : سبه يسبه، وتسابا سبابا، إذا هجا كل واحد منهما الآخر وقال فيه قولا قبيحا. والسباب : المهاجاة والمشاتمة. وسب الرجل هو الذي يكافئه فيرد عليه إذا سبه. ومنه قول حسان بن ثابت " رضي الله عنه "
لا تسبنني فلست بسبي إن سبي من الرجال الكريم
والمعنى : لا تهجوا أصنامهم وتقولوا ما هي متصفة به من الخساسة، فيتسبب عن ذلك أن يسبوا الله ( جل وعلا ). وإذا سبوا الله معناه : أنهم قالوا فيه ما ليس بواقع، لأن الله ليس متصفا إلا بالكمال والجلال، فليس فيه نقص حتى يكون موضعا للسب. ولكن الكفرة الفجرة يكذبون. فمعنى﴿ فيسبوا الله ﴾ يتكلمون فيه بما لا يليق بكماله وجلاله ( جل وعلا ).
وقوله :﴿ عدوا ﴾العدو معناه : الظلم والعدوان. أي : فيسبوه ظلما وعدوانا، وهو خالقهم ورازقهم المحسن إليهم وإعراب قوله :﴿ عدوا ﴾ فيه أوجه من الإعراب معروفة :
احدها : انه مصدر منكر بمعنى الحال، أي : فيسبوه في حال كونهم معتدين ظالمين.
الثاني : أنه ما ناب عن المطلق من " يسبوا "، لأنه سب الله عدوان ﴿ فيسبوا الله ﴾معناه : يعتدوا بسب الله ﴿ عدوا ﴾، أي : عدوانا وعليه فهو ما ناب عن المطلق.
والإعراب الثالث فيه : انه مفعول من أجله، أي : فيسبوا الله لأجل عدوانهم، وطغيانهم، وظلمهم.
وقوله :﴿ بغير علم ﴾ الظاهر أن الجار والمجرور في محل حال ثانية، أي : حال كونهم معتدين جاهلين، لا علم لهم بما ينبغي أن يقال في الله، حيث يسبوا الله ( جل وعلا ). وهذا معنى قوله :﴿ عدوا بغير علم ﴾.
وهذه الآية الكريمة –من آيات الأحكام – أخذ العلماء منها أصل ( سد الذرائع )، لأن سب الأصنام بالنسبة إلى ذاته جائز مطلوب، ولكن لما كان هذا الأمر المحمود الطيب – وهو سب الأصنام وتقبيحها- قد يؤدي إلى أمر آخر لا يجوز، وهو سب الله، منع هذا الشيء الطيب سدا للذريعة التي وذريعة الشيء /أصلها طريقه الموصلة إليه.
ومعروف عند علماء الأصول أن الذرائع ثلاثة أقسام :
قسم منها يجب سده إجماعا، كما دلت عليه هذه الآية الكريمة من سورة الأنعام، ودل عليه الحديث الصحيح المتفق عليه. وهذا القسم هو أن يكون هذا الأمر جائزا أو مطلوبا، وليس في نفسه فساد في ذاته، أو فيه خير، إلا أنه يؤدي إلى شر عظيم، كسب الأصنام، فإنه في ذاته طيب مطلوب، إلا أنه لما كان يكون سببا لسب الله كان محرما.
ومن هذا النوع، وهي الذريعة التي يجب سدها إجماعا : حفر الآبار في طرق المسلمين، فلو جاء رجل إلى طريق المسلمين وحفر فيها بئرا ليلا، وغطى فم البئر بشيء خفيف، فمن جاء مع الطريق وتردى في البئر ففعله وحفره البئر ليس نفس إهلاك لنفس ولا مال، ولكنه ذريعة لذلك يجب سدها ومنعها بالإجماع.
ومن هذا النوع : إلقاء السم في مياه المسلمين وأطعمتهم. فإلقاء السم في مياه المسلمين التي يشربون، وإلقاؤه في أطعمتهم ذريعة للفساد يجب سدها بإجماع المسلمين. ( بدون إحالة )
هذا إحدى أنواع الذرائع الثلاث، لأن نوعا منها يجب سده بإجماع المسلمين كما مثلنا له ودلت عليه هذه الآية الكريمة من سورة الأنعام ﴿ ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم ﴾ وفي الحديث الصحيح المتفق عليه عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال : " إن من العقوق شتم الرجل والديه ". قالوا : يا رسول الله وهل يشتم الرجل والديه ؟ قال :" نعم، يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أم الرجل فيسب أمه "، هذا الحديث الصحيح سمى ( به ) النبي صلى الله عليه وسلم ( في الأصل : " سمى النبيى صلى الله عليه – به – وسلم وسمى.... " وهو سبق لسان ) ذريعة السب :( سبا ) وهو كالآية يدل على أن ذريعة الحرام حرام.
النوع الثاني من أنواع الذرائع الثلاث : نوع لا يجب سده بإجماع المسلمين، فهو ذريعة يجب إهدارها وإلغاؤها، ولا يجب سدها بإجماع المسلمين. وهذا النوع من الذرائع نوعان :
أحدهما : أن يكون الفساد بعيدا فيه، والمصلحة أرجح من الفساد فيه. ومثال هذا النوع : غرس شجر العنب. فإن غرس شجر العنب ذريعة إلى عصر الخمر التي هي أم الخبائث، قبحها الله، وقبح شاربها، إلا أن الذين يعصرون الخمر من المجتمع ويشربونه قلة في أقطار الدنيا، فمنفعة انتشار العنب والزبيب في أقطار الدنيا مصلحة عظمى ألغى من أجل هذه المصلحة المفسدة التي قد تكون من شجر العنب بعصر الخمر منه، لأن الذي يعصرها أفراد قليلون ويشربونها، ولو ضاعت عقولهم بسبب شربها فمصلحة العالم العامة بوجود العنب والزبيب في أقطار الدنيا أعظم من هذه المفسدة الجزئية، فألغيت هذه الذريعة وأهدرت.
ومن هذا النوع : إجماع العلماء من زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليوم في أقطار الدنيا أنه يجوز في البلد الواحد أن يكون – يسكن- فيه الرجال والنساء. في هذا البيت رجال ونساء، وفي هذا رجال ونساء، مع هذا بناته وأزواجه وأخواته وهكذا مع ان اجتماع الرجال والنساء في البلد الواحد قد يكون ذريعة للزنى –أعاذنا الله والمسلمين منه – من بعض الأفراد، لأنه قد يشير إليها من غرفة أو سطح كما هو معروف، وكما قال نصر بن حجاج :
ليتني في المؤذنين نهارا إنهم ينظرون من في السطوح
فيشيرون أو يشار إليهم حبذا كل ذات دل مليح
أو تلقي إليه ورقة، أو يلقيها إليها في موعد يجتمعان فيه على القبيح الخسيس قبح الله من يفعله، فاجتماع الرجال والنساء في البلد الواحد لا شك أنه ذريعة لفعل بعض الفواحش، ولم يقل أحد من المسلمين بسد هذه الذريعة، فلم يقل أحد من العلماء، : إنه يجب أن يجعل جميع النساء في البلد على حدة، ويجعل عليهن حصن من حديد قوي، وأن يكون الباب قويا من حديد، والمفتاح عند رجل تقي ورع مأمون ذي شيبة وذي زواج، لم يقل أحد هذا من الناس ! ! لأن وقوع الفاحشة ولو وقعت من بعض الأخساء أمر نادر بالنسبة إلى مصالح المجتمع، ومعاونة الرجال والنساء على المجتمع الإنساني في مصالحه الدنيوية والأخروية، فهذه الذريعة ألغيت لعظم هذه المفسدة.
والحاصل أن المفسدة إذا عارضتها مصلحة فلذلك ثلاث حالات :
إما أن تكون المصلحة أعظم وأرجح، والمفسدة أقل وهي مرجوحة.
وإما أن تكون المفسدة أعظم.
وإما يستويان.
فإن كانت المصلحة أعظم – كما مثلنا- ألغيت الذريعة، وأهدرت.
وإن كانت المفسدة أعظم، أو استويا فإنه يجب سد الذريعة فيهما.
ومثالهما معا : ما لو كان من المسلمين أسارى عند الكفار في الجهاد مع الكفار، فأسر العدو، من الكفار أسرى المسلمين، طلب إمام المسلمين فداء الأسرى المسلمين من أيدي الكفار، فقال الكفار : لا نقبل فداءهم إلا بسلاح، وكان هذا السلاح يقدرهم على الفتك بالمسلمين بذلك السلاح قدر الأسارى أو أكثر منهم، فمصلحة فداء الأسارى تعارضها مفسدة قتل عددهم من المسلمين أو أكثر، فيجب سد هذه الذريعة، ولا يفدى أولئك الأسارى.
اما إذا كان السلاح يقدر به الكفار على أن يقتلوا المسلمين، فإن هذه المفسدة تكون مرجوحة، ويجوز فداؤهم. هذان نوعان من أنواع سد الذرائع، الأول مجمع على سده، والثاني مجمع على ( عدم ) ( زيادة يقتضيها السياق ) سده، وهما طرفان وواسطة، طرف من الذرائع يجب سده إجماعا، مثلنا له بسب الأصنام إن كان عبدتها يسبون الله، وكحفر الآبار في طرق المسلمين، وإلقاء السم في مشاربهم ومآكلهم. هذا النوع يجب سده إجماعا، ونوع لا يجب سده إجماعا، كما مثلنا له بغرس العنب، ومساكنة الرجال والنساء في البلد الواحد، وواسطة هي محل الخلاف بين العلماء.
ومثال هذه الواسطة التي هي محل الخلاف بين العلماء : البيوع المعروفة بالفقه المالكي ببيوع الآجال التي يسميها الحنابلة والشافعية : بيوع العينة، فهذه ذريعة لمحرم، والعلماء مختلفون فيها، كما لو باع إنسان سلعة إلى أجل معين بعشرة دراهم مثلا، ثم اشتراها بثمن أكثر لأبعد من الأول، أو بثمن أقل من الثمن الأول بدون الأجل، فإن ظاهر هاتين البيعتين أن كلا منهما بيعة لسلعة بثمن إلى أجل، وهي في ظاهرها جائزة، إلا أنها يمكن أن تكون ذريعة إلى ربا محرما، لأن السلعة الخارجة من اليد، العائدة إليها ملغاة، فيؤول الأمر إلى أنه أخذ أولا خمسة دراهم، ثم أخذ عنها في الأجل الثاني عشرة دراهم، وأخذ عشرة مؤجلة بدل خمسة هو ربا الجاهلية بعينه. فهذه الذريعة الوسطى ذهبت جماعة من العلماء إلى وجوب سدها وهو مذهب مالك بن أنس وأصحابه، وهو مذهب الإمام أحمد بن حنبل وأصحابه، وهو مذهب أم المؤمنين عائشة( رضي الله عنها ).
وخالف في هذا النوع من الذرائع الإمام الشافعي، وزيد بن أرقم ( رضي الله عنه ).
قال الإمام الشافعي : هما بيعتان، كل واحدة منهما بيع سلعة بثمن معلوم، إلى أجل معلوم، وهذا لا شيء فيه.
وقد قالت أم المؤمنين عائشة ( رضي الله عنها ) لامرأة زيد بن أرقم قولي لزيد : إن لم يرجع عن هذا فإنه يبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومراد عائشة " رضي الله عنها " : أن هذا النوع من الذريعة ذريعة للربا، لأن السلعة الخارجة من اليد العائدة إليها ملغاة، فيؤل الأمر إلى أنه عند الأجل الأول دفع خمسة دراهم مثلا، وأخد عند الأجل الثاني عشرة دراهم، وهذا ربا الجاهلية، وإنما قالت عائشة لامرأة زيد : إنه إن لم يرجع عن هذا أبطل جهاده، لأن هذا ربا، وآكل الربا محارب الله، لأن أكل الربا هو محاربة الله، ومن أعظم الدواعي للغلبة في الجهاد أكل الربا، لأن آكل الربا محارب الله، ومحارب الله لا يفلح ولا ينجح، والله يقول في محكم كتابه :﴿ يا أْيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقى من الربا إن كنتم مؤمنين١٧٨ ﴾ فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله } ( البقرة : الآيتان : ٢٧٨-٢٧٩ ) فلما كان آكل الربا حربا لله ولرسوله، لا يمكن أن يكون مجاهدا من حزب الله ورسوله، لأن الضدين لا يجتمعان. وهذا هو مراد عائشة ( رضي الله عنها )، لأنه إن لم يرجع عن هذا أبطل جهاده.
وهذا معنى قوله :﴿ ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم ﴾ ( الأنعام : آية ١٠٨ ) في هذه الآية الكريمة سؤال عربي معروف، وهو أن لفظ ﴿ الذين ﴾ ولفظ :﴿ يدعون ﴾ من خواص العقلاء، ومعبوداتهم أصنام وحجارة لا تعقل، فكيف يعبر عنها ب﴿ الذين يدعون ﴾التي هي صفة العقلاء الذكور ؟
والجواب عن هذا : أن القاعدة المقررة في علم العربية أن كل شيء غير عاقل إذا نزله بعض الناس منزلة العاقل، أو وصفه ببعض صفات العاق
﴿ وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون ﴾ ( الأنعام : آية ١٠٩ ) سبب نزول هذه الآية الكريمة : أن كفار مكة اقترحوا على النبي صلى الله عليه وسلم اقتراحات كثيرة، قصدهم بها التعنت، لا طلب الحق، قالوا له : أنت تزعم لنا أن عيسى بن مريم يحيي الموتى، وأن سليمان كان يركب الريح، وأن صالحا خرجت له ناقة عشراء جوفاء وبراء من صخرة، فأحي لنا قصيا لنكلمه ونسأله عنك، وائتنا بالملائكة لنسألهم : هل أنت على حق : واجعل لنا الصفا ذهبا، وباعد عنا جبال مكة لنزرع بينها، في تعنتات كثيرة سيأتي كثير منها في قوله :﴿ وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا ٩٠أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا٩١ أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا ٩٢ أو يكون لك بيت من زخرف ﴾ يعنون : من ذهب ﴿ أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا ﴾ ( الإسراء : الآيات ٩٠-٩٣ ) هذا من تعنتاتهم، ومنها أنهم قالو : " اسأل ربك ينزل علينا الملائكة " ﴿ وقال الذين لا يرجون لقائنا لولا أنزا علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتو عتوا كبيرا٢١ ﴾ ( الفرقان : آية ٢١ ) وقدمنا في هذه السورة الكريمة تفسير قوله :﴿ وقالوا لولا أنزل عليه ملك ﴾ ( الأنعام : آية ٨ ) وما جرى مجرى ذلك من الإقتراحات، فقالوا له : أحي لنا قصيا لنكلمه، وائتنا بالملائكة، كما يأتي في قوله :﴿ ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى ﴾ كقصي بن كلاب الذي اقترحوا إحياءه ليكلموه ﴿ وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ﴾ أي : ولو جئناهم بالملائكة وجميع المخلوقات جماعات جماعات يشهدون لك ﴿ ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ﴾ ( الأنعام : آية ١١١ ) ولما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : اسأل ربك أن يجعل لنا الصفا ذهبا، والله لئن جعله الله لنا ذهبا لنتبعنك ولنؤمنن بما جئت به، فطمع قوم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في إيمانهم، فقالوا له : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم : اسأل ربك أن يجعل الصفا ذهبا لأجل أن يؤمنوا، فهم صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله ليجعل الصفا ذهبا، فجاءه جبريل ( عليه السلام ) وخيره قال : إن شئت جعله الله لهم ذهبا، ولكن إن كفروا بعد تلك الآية التي اقترحوها أهلكهم الله، ودمرهم ولم ينظرهم وإن شئت ترك عنهم الآيات المقترحة، وأمهلهم ليتوب تائبهم. فاختار النبي صلى الله عليه وسلم الأخيرة، لأن قوما إذا اقترحوا آية عظمى وجاءتهم ولم يؤمنوا أهلكهم الله، كما يأتي في قوله :﴿ وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها ﴾ ( الإسراء : آية ١٩ ) يعني : معناه : الحلف. تقول العرب : " أقسم فلان ". إذا حلف. أصل ( القسم ) الذي هو اليمين من ( الانقسام )، لأنه لا يكون إلا في طائفتين منقسمتين، كل منهما تكذب الأخرى، فيقسم أحد الطرفين ليقوي خبره ويؤكده.
ومعنى :﴿ وأقسموا بالله ﴾ حلفوا بالله قائلين : والله لئن جعلت لنا الصفا ذهبا لنؤمنن بك ولنتبعنك.
وقوله :﴿ جهد أيمانهم ﴾ معناه : أقسموا جهد أيمانهم، أي : غاية ما يمكنهم من تغليظ اليمين وتوكيدها، ( جهد اليمين ) معناه : بلوغ غاية ما يمكن من تغليظها وتوكيدها.
وفي إعراب قوله :﴿ جهد أيمانهم ﴾ أوجه من الإعراب :
أعربها بعض العلماء مفعولا مطلقا بالمعنى من ﴿ وأقسموا ﴾ أي : فهي ما ناب عن المطلق : كما تقول : ضربه أشد الضرب، وسار أشد السير، وأقسم أشد الإقسام.
فمعنى :﴿ جهد أيمانهم ﴾ أوكد أقسامهم وأغلظها. وعلى هذا فهو مفعول مطلق بالمعنى، ما ناب عن المطلق من ﴿ وأقسموا ﴾ لأن معنى ﴿ جهد أيمانهم ﴾ أشد إقساماتهم وأغلظها و أوكدها.
الوجه الثاني من أوجه الإعراب : أنه حال. أي : أقسموا بالله في حال كونهم جاهدين في تغليظ أيمانهم وتوكيدها. ولا ينفي هذا أن الحال تكون نكرة، وأن المصدر المؤول بالحال هنا مضاف إلى معرفة، لأن الحال إن عرفت لفظا فهي منكرة معنى، كما قال في الخلاصة :
والحال إن عرف لفظا فاعتقد *** تنكيره معنى كوحدك اجتهد
والأيمان : جمع اليمين، وأوكد الأيمان و أغلظها هو ما كان بالله، وهم كانوا يحلفون بآلهتهم وأصنامهم، وإذا أرادوا جهد اليمين وتوكيدها وإغلاظها حلفوا بالله.
وقوله جل وعلا :﴿ لئن جاءتهم آية ﴾ أي : لئن جاءتهم آية من الآيات التي اقترحوها، أما الآيات التي لم يقترحوها فقد جاءتهم بكثرة، وأعظم الآيات : هذا القرآن العظيم، لأنه آية عظمى ومعجزة كبرى باقية تتردد في آذان الناس إلى يوم القيامة، ولأجل أنه أعظم الآيات، وأكبر المعجزات، أنكر الله في سورة العنكبوت على من لم يكتف به، وطلب آية غيره، حيث قال :﴿ وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين ٥٠ ﴾ ثم قال منكرا عليهم :﴿ إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون ٥١ ﴾ ( العنكبوت : الآيتان ٥٠-٥١ ) فإنكاره على من لم يكتف بأكبر الآيات وأعظمها، وهو هذا القرآن العظيم دليل على أنه أعظم آية.
والآيات التي سألوها واقترحوها، إنما اقترحوها تعنتا وعنادا، لا طلبا للحق، ولذا قال جل وعلا :﴿ لئن جاءتهم آية ﴾ هذه صورة إقسامهم حكاها الله غير حكاية لفظهم، لأنه لو حكى لفظهم لقال : " لئن جاءتنا آية لنؤمنن بها " فحكى القصة بالمعنى لا باللفظ. أقسموا جاهدين قائلين : لئن جاءتهم آية من الآيات التي اقترحوها، كأن يجعل الله لهم الصفا ذهبا، أو يبعث لهم قصيا ليكلمهم، أو يأتيهم بالملائكة، أو يشق عنهم جبال مكة ويباعدها ليزرعوا في متسع من الأرض، لأنهم يزعمون أن الجبال لا تمكنهم من الزراعة، كما يأتي في قوله :﴿ ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى ﴾ ( الرعد : آية ٣١ ).
على حد قوله :
لو طار ذو حافر قبلها *** لطارت ولكنه لم يطر
وقال بعض العلماء :﴿ ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى ﴾ لكفروا بالرحمن، لأنهم ما اقترحوا الآيات طلبا للحق، ولكن اقترحوها عنادا وتعنتا، ولذا قال هنا :﴿ لئن جاءتهم آية ﴾ أصل الآية في لغة العرب – قدمنا في هذه الدروس مرارا - أن أصل الآية بالميزان الصرفي، أن وزنها :( فعلة ) وأن أصلها ( أيية ) فاؤها همزة، وعينها ياء، ولامها ياء، على وزن( فعلة ) فكان فيها موجب الإعلال في الحرفين، أعني : الياءين، والقاعدة في التصريف : أن الأغلب أن يكون الإعلال في الحرف الأخير، فلو كانت على الأغلب لقيل :( أياه ) وكان المبدل ( ألفا ) :( الياء ) الأخرى، ولكن هنا وقع الإعلال في الياء الأولى، فأبدلت ( ألفا )، وهذا يوجد في كلام العرب، وجاء به القرآن، هذا أصلها في الميزان الصرفي.
وهي في لغة العرب الآية تطلق إطلاقين، وفي القرآن العظيم تطلق إطلاقين، أما أشهر معني الآية في لغة العرب : فهو العلامة العرب يقولون : " آية كذا ". معناه : علامة كذا، ومنه قوله تعالى :﴿ إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم ﴾ ( البقرة : آية ٢٤٨ ) أي : علامة ملكه، وقد جاء في شعر نابغة ذبيان – وهو عربي قح جاهلي – جاء فيه تفسير الآية بالعلامة، حيث قال :
توهمت آيات لها فعرفتها *** لستة أعوام وذا العام سابع
ثم بين أن مراده بالآيات : علامات الدار، وآثار رسومها حيث قال مفسرا للآيات :
رماد ككحل العين لأيا أبينه *** ونؤي كجذم الحوض أثلم خاشع
فأشهر معنيي الآية في اللغة : العلامة، وقد تطلق الآية في لغة العرب على الجماعة، يقولون : " جاء القوم بآياتهم " أي : بجماعتهم، ومنه بهذا المعنى قول برج بن مسهر خرجنا من النقبين لا حي مثلنا *** بآيتنا نزجي اللقاح المطافلا
أي : بجماعتنا.
هذان المعنيان للآية في لغة العرب : الآية بمعنى ( العلامة )، الآية بمعنى ( الجماعة ).
والآية تطلق من القرآن العظيم إطلاقين : تطلق مرادا بها الآية الكونية القدرية. والكونية القدرية من الآية بمعنى ( العلامة ) لغة قولا واحدا، كقوله :﴿ إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب ١٩٠ ﴾ ( آل عمران : آية ١٩٠ ) أي : لعلامات واضحات لأصحاب العقول على أن خالق هذا الكون قادر على كل شيء، وأنه رب كل شيء، وأنه المعبود وحده ( جل وعلا )، فهذه الآية الكونية القدرية في القرآن من معنى الآية بمعنى العلامة في لغة العرب.
الإطلاق الثاني للآية في القرآن : إطلاق الآية بمعنى الآية الشرعية الدينية، كقوله :﴿ رسولا يتلوا عليكم آيات الله ﴾ ( الطلاق : آية ١١ ) وهذه هي الآيات الشرعية الدينية كآيات هذا القرآن العظيم. وهذه لما تضمنت من الإعجاز أو بأن لها علامات تعرف بها مبادئها ومقاطعها.
وقال بعض أهل العلم : إن الآية بالمعنى الشرعي الديني بمعنى الجماعة، لأنها جماعة من كلام القرآن وحروفه اشتملت على بعض تضمنه القرآن.
إذا عرفتم هذا فالآية في الآية التي نحن بصددها ﴿ لئن جاءتهم آية ﴾ هي الآية الكونية القدرية، الدالة على صدق من جاء بها، أي : علامة خارقة للعادة أنك رسول مرسل من الله ( جل وعلا )، كأن يجعل الصفا ذهبا وكأن يحيي لنا قصيا لنكلمه، وما جرى مجرى ذلك.
وهذا معنى قوله :﴿ لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها ﴾ اللام الأولى موطئة للقسم، واللام في قوله :﴿ ليؤمنن بها ﴾ جواب للقسم، لأن القسم قبل الشرط، والقاعدة المقررة في علم العربية : أنه إذا اجتمع شرط و قسم فالجزاء للسابق منهما. والسابق هنا : القسم. يعني : لئن جاءتهم آية من الآيات التي اقترحوها عليك ليؤمنن بها، ويصدقون بأنها من الله، وأنها معجزة دالة على أنك نبي حقا. فأمر الله نبيه بأمرين :
أحدهما : أن يقول لهم :﴿ وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون ﴾ فمعنى قوله :﴿ قل إنما الآيات عند الله ﴾ أي : الآيات التي اقترحتموها عند الله وبيده، إن شاء أنزلها، وإن شاء لم ينزلها، إنما أنا نذير، وقد جئتكم به من المعجزات ما يوضح الحق، ويقطع الشبه، ويثبت لكم ثبوتا ضروريا أني نبي كريم. أما التعنتات والآيات المقترحات فهي عند الله، إن شاء أنزلها عليكم فأهلككم إن لم تؤمنوا، وإن شاء لم ينزلها عليكم.
وقوله :﴿ وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون ﴾ الإشعار في لغة العرب : الإعلام، أي ما يعلمكم، وما يدريكم.
وقرأ هذا الحرف عامة القراء ما عاد البصري أبا عمرو ﴿ وما يشعركم ﴾ بضم الراء، ومن يرقق – كورش- يرقق، ومن يفخم يفخم. وقرأ هذا الحرف أبو عمرو في رواية الدوري والسوي " ﴿ وما يشعركم ﴾ بسكون الراء وروى عنه الدوري : ضم الراء مختلسة. هذه قراءة أبي عمرو، أما الاختلاس فهو للتخفيف قولا واحدا، وأما إسكان الراء في قراءة أبي عمرو هذه ﴿ وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون ﴾ فهو على إسكانه الراء. فالراء مرققة، لأن الراء الساكنة بعد كسرة مرققة بإجماع القراء، وإجماع أهل اللسان العربي، إلا إذا جاء بعدها حرف استعلاء كما هو معروف.
لطالب العلم أن يقول : ما وجه قراءة أبي عمرو هذه وجزم مضارع من غير جازم، و أصل المضارع إذا لم يدخل عليه جازم أو ناصب فحكمه الرفع كما هو معروف ؟
والجواب عن هذا : أن إسكان بعض الحروف المحركة للتخفيف أسلوب عربي معروف، جاء ذلك في القرآن وفي لغة العرب في حرف الإعراب، وفي غير حرف ا
﴿ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ( ١١٠ ) ﴾ ( الأنعام : آية ١١٠ )
في هذه الآية الكريمة كلام كثير لعلماء التفسير، وأقوال كثيرة، أظهرها و أولاها بالصواب، وهو الحق- إن شاء الله – الذي دلت عليه آيات كثيرة من كتاب الله، وخير ما يفسر به القرآن القرآن : أن الكفار لما أقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم بعض الآيات المقترحات ليؤمنن بها، وبين الله أنهم لا يؤمنون، كما هو واضح في قراءة أبي عمرو، وابن كثير، وشعبة في رواية :{ إنها إذا جاءت بخبر مؤكد ب ( إن ) بات أنهم لا يؤمنون، والسبب بين سبب عدم هذا الإيمان، كأنه قال : إني قلت : إنهم لا يؤمنون، والسبب في ذلك : انهم أول مرة قابلوا رسلي بالكفر، والعناد، والتعنت، فطمست على قلوبهم، وخذلتهم، وطبعت عليها.
وهذا معنى قوله " كما " هنا تعليلية : أي : لأنهم لم يؤمنوا بالقرآن أول مرة، فلأجل ما سبق منهم من العناد والتعنت طمسنا على قلوبهم، وقلبنا أبصارهم وقلوبهم، والله ( جل وعلا ) مقلب القلوب، وكل قلب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها ويصرفها كيف شاء، وفي الحديث " يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ". وعلى هذا فالمعنى المانع الذي يمنعهم من الإيمان لو جاءتهم الآيات المقترحات : أنهم بادروا بتكذيب الرسل أول مرة عندما جاءهم عنادا وتعنتا، وبسبب ذلك الكفر والعناد قلبنا أبصارهم فأزغناها عن الحق، وقلبنا أفئدتهم فأزغناها عن الحق، والدليل على هذا : أن المبادرة بالعمل السيئ سبب لطمس البصيرة، والطبع، والران على القلوب كما بينه الله في آيات كثيرة، كقوله :﴿ في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ﴾ ( البقرة : آية ١٠ ) وكقوله :﴿ بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ﴾ ( المصطفين : آية ١٤ ) وكقوله جل وعلا :﴿ فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم ﴾ ( الصف : آية ٥ ) فقوله :﴿ كما لم يؤمنوا به أول مرة ﴾ في مكان ( زاغوا ) في هذه الآية، وقوله ﴿ أزاغ الله قلوبهم ﴾ في مكان قوله :﴿ ونقلب أفئدتهم وأبصارهم ﴾، لأن المعاصي والكفر – والعياذ بالله- ذنبا. نكت في قلبه نكتة سوداء فإذا كان عاقلا ذكيا من الذين قال الله فيهم :﴿ إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون ٢٠١ ﴾ ( الأعراف : آية ٢٠١ ) وأناب إلى الله وتاب إليه زال ذلك السواد، وصار قلبه صقيلا، لأن القلب كالزجاجة، ونور الإيمان الذي يبصر به الحق والباطل في داخله كأنه النور وسط الزجاجة، والزجاجة إذا تلطخت بالأوساخ انكسف النور داخلها، وإذا كانت صقيلة نظيفه شع النور.
أما ترى الذبال في المصباح *** إذا صفا يرضيك في استصباح
وإن يكن بوسخ ملطخا *** كسف نوره لذلك الطخا
فإذا أذنب العبد ذنبا صارت واسخة سوداء على قلبه، فإذا بادر إلى الإنابة والتوبة غسلها، فبقي القلب صقيلا نظيفا، فشع نور الإيمان فيه، كالنور في الزجاجة الصقيلة، فإذا كان المسكين مغفلا جاهلا، وزاد في الذنوب، لم يزل يزيد في الذنوب، والسواد يزداد حتى يعلو جميع القلب، فيسود جميعه، فيبقى النور لا أثر له، وعلامة هذا من طمس البصائر – والعياذ بالله- أن ترى من وقع به هذا الاسوداد القلبي، والران المستولي على قلبه، تراه يرتكب فظائع الذنوب وهو يضحك في فرح ولهو، لأن البصيرة والنور الذي يرى به شدة ضرر هذا انطمس، فلا يرى ضررا، وتراه تفوته الصلاوات والرغائب العظام في الدين وهو فرح مسرور ! ! لا يرى هذا الحق حقا، ولا هذا الباطل باطلا، لأن البصيرة التي يرى بها الحق حقا والباطل باطلا، والنافع نافعا والضار ضارا، إذا اسودت القلوب انطمس نورها، فلا يبصر بها شيئا، فكما أن الكفار بادروا إلى تكذيب الأنبياء، وكانوا قبل ذلك قد يكونون على فطرة، وقد يكونون معذورين، اسودت قلوبهم فطبع الله عليها، وقلبها عن الحق – والعياذ بالله-، كما قال جل وعلا :﴿ ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم ﴾ ( البقرة : آية ٧ ) وكما قال :﴿ إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا ﴾( الكهف : آية ٥٨ ) وقال هنا :﴿ ونقلب أفئدتهم وأبصارهم ﴾ ( الأنعام : آية ١١٠ ) وذلك جزاء وفاق، وعدل، لأن المعاصي ترين على القلوب، وتطمسها حتى لا تبصر حقا.
وهذا هو الأظهر في معنى قوله :﴿ ونقلب أفئدتهم ﴾ حتى تزيغ عن إدراك الحق، ونقلب ﴿ أبصارهم ﴾ حتى تزيغ عن إدراك الحق ﴿ كما لم يؤمنوا ﴾ لأجل أنهم لم يؤمنوا بهذا القرآن ﴿ أول مرة ﴾ جاءهم به الرسول، فكان كفرهم وزيغهم الأول سببا للطبع على قلوبهم وتقليب قلوبهم وأبصارهم عن الحق. كقوله﴿ فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم ﴾ ( الصف : آية ٥ ) ﴿ بل طبع الله عليها بكفرهم ﴾ ( النساء : آية ١٥٥ ) فالباء سببية، وكقوله :﴿ فأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا على رجسهم وماتوا وهم كافرون١٢٥ ﴾ ( التوبة : آية ١٢٥ ) ﴿ بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ﴾ ( المطففين : آية ١٤ ) وهذا معنى قوله ﴿ ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ﴾ ( الأنعام : آية ١١٠ ) ف ( كما ) من حروف التعليل، ومعنى نقلبها : لأجل أنهم لم يؤمنوا به أول مرة، فذلك الكفر يجر إلى الخذلان، وطمس البصيرة، وتقليب القلوب والأبصار، ولما زاغوا أزاغ الله قلوبهم.
وقوله " ونذرهم " معناه : نتركهم.
وقوله : " في طغيانهم " : الطغيان في لغة العرب مجاوزة : الحد، ومنه قوله : " إنا لما طغا الماء " " الحاقة : آية ١١ ) أي : جاوز الحدود التي يبلغها الماء العادي. وطغيان الإنسان : مجاوزته الحدود، ومجاوزتهم الحدود ككفرهم بربهم، وجعلهم له الشركاء والأولاد.
وقوله : " يعمهون " المضارع جملته حالية، ومعلوم أن جملة المضارع لا تقترن بالواو، وأن الرابط فيها ضمير، هذا معروف.
والعمه في لغة العرب : هو عمى القلب خاصة، العمى :- مقصور بالألف- يطلق على عمى البصر، وعلى عمى البصيرة، كما يأتي في قوله :﴿ فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ﴾ ( الحج : آية ٤٦ ) أما العمه – بالهاء – فلا يطلق إلا على عمى البصيرة خاصة، ومن عميت بصيرته لم ير حقا من باطل، ولم يميز حسنا من قبيح، ولا نافعا من ضار والعياذ بالله جل وعلا.
﴿ ولو اننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ولكن أكثرهم يجهلون ١١ ﴾ ( الأنعام : آية ١١١ ) قد اقترحوا على النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم الملائكة، كما بينه تعالى في قوله :﴿ وقال الذين لا يرجون لقائنا لولا أنزل علينا الملائكة ﴾ ( الفرقان : آية ٢١ ) وكقوله عنهم ﴿ أو تأتي بالله والملائكة قبيلا ﴾ ( الإسراء : آية ٩٢ ) ﴿ لولا أنزل عليه ملك ﴾ ( الأنعام : آية ٨ ) هذه الآيات الدالة على اقتراحهم إتيانه بالملائكة، وقد اقترحوا عليه أن يحيي لهم آبائهم الذين ماتوا ( ليسألوهم عنه ) ( في الأصل : " ليسألوه عنهم " وهو سبق لسان )، كما بينه تعالى في الجاثية، وأوضح كثرة قولهم له :﴿ وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات ما كان حجتهم إلا أن قالوا ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين ٢٥ ﴾ ( الجاثية : آية ٢٥ ) أحيوا لنا آبائنا وأسلافنا الذين ماتوا لنسألهم عنكم أنتم على حق أم لا، كذلك قالوا له :﴿ أو تأتي بالله والملائكة قبيلا ﴾ ( الإسراء : آية ٩٢ ) قال الله هنا :﴿ ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة ﴾ كما اقترحوا أو ﴿ وكلمهم الموتى ﴾ ( الفرقان : آية ٢١ ) ﴿ أو تأتي بالله والملائكة ﴾ ( الإسراء : آية ٩٢ ) ﴿ لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا ﴾ ( الفرقان : آية ٧ ) واقتراحهم لتكليم آبائهم :﴿ فأتوا بآبائنا إن كنتم صادقين ٣٦ ﴾ ( الدخان : آية ٣٦ ) ﴿ ما كان حجتهم إلا أن قالوا أئتوا بآبائنا إن كنتم صادقين ٢٥ ﴾ ( الجاثية : آية ٢٥ )
يعني : لو أتيناهم بما اقترحوا فنزلنا عليهم الملائكة، والملائكة لو نزلت عليهم، لجاءهم العذاب، كما يأتي في قوله :﴿ ما تنزل الملائكة إلا بالحق ﴾ وفي القراءة الأخرى :﴿ ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين ٨ ﴾ ( الحجر آية ٨ ) أي : لو نزل الملائكة لا ينظرون بعد ذلك، وكقوله : يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا ٢٢ } ( الفرقان : آية ٢٢ ) أي : حراما محرما عليكم أن تؤذونا كما سيأتي، ولذا قال هنا﴿ ولوأننا نزلنا إليهم الملائكة ﴾كما اقترحوا، وأخبرتهم بأنك نبي الله ﴿ وكلمهم الموتى ﴾ كأن أحيينا لهم قصيا فسألوه، وأخبرهم بأنك نبي الله ﴿ وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ﴾ قرأه الجمهور ﴿ قبلا ﴾. وقرأه أثنان من السبعة ﴿ قبلا ﴾. أما على قراءة :( قبلا ) فهو من المعاينة. معنى :﴿ وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ﴾ أي معاينة وجها لوجه من غير مواراة بشيء وعلى قراءة ﴿ قبلا ﴾ ففيه وجهان : أحدها أن القبل جمع قبيل، أي : جماعات جماعات. كأن تأتيهم الملائكة جماعات.
وقال بعض العلماء : ظاهر قوله ﴿ كل شيء ﴾ أن تأتيهم الملائكة قبيلا، وكل نوع من أنواع الحيوانات قبيلا قبيلا، فأنطقها الله على خرق العادة، وكلمتهم، كل هذا لو وقع لم يؤمنوا.
وكان بعض العلماء يقول :" قبلا " و " قبلا " معناها واحد، لأن القبل : هو ما تستقبله بوجهك وتعاينه. ومنه قيل لما يستقبله الرجل من وجهه : " قبل " ولما خلفه " دبر " وعلى هذا القول ف " قبلا " و " قبلا " معناها واحد، وعلى القول الثاني : أن " القبل " جمع قبيل، والمعروف في فن التصريف أن ( الفعيل ) إذا كان اسما يجمع غالبا على ( فعل ) كقذال وقذل، وسرير وسرر وما جرى مجرى ذلك.
والمعنى :﴿ ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم ﴾ أي : جمعنا عليهم " كل شيء " من جميع الأشياء قبيلا قبيلا، أي : " ما كانوا ليؤمنوا " هذه اللام هي التي تسمى ( لام الجحود ) والفعل المضارع منصوب ب ( أن ) بعدها، والمعنى : ماكانوا مريدين لأن يؤمنوا، أو : ما كانوا مستعدين لأن يؤمنوا ﴿ إلا أن يشاء الله ﴾ التحقيق : أن الاستثناء متصل، خلافا لمن زعم أنه منفصل.
والمعنى : ما كانوا ليؤمنوا في حالة من الأحوال إلا في حالة أن يشاء الله ذلك لأنهم متعنتون.
وفي هذه الآية الكريمة سؤال عربي معروف، وهو ( أن ) المفتوحة إنما تكون لسد المصدر، فهي بمعنى اسم بالتأويل، و( لو ) حرف شرط لا يدخل إلا على الجملة الفعلية، فكيف دخل هنا على الاسم الذي هو المصدر المنسبك من ( أن ) وصلتها ؟
وهذا السؤال جوابه معروف، لأن إتيان ( ان ) بعد ( لو ) كثير جدا في القرآن العظيم ﴿ ولو أنما في الأرض من شجرة أقلم ﴾ ( لقمان : آية ٢٧ ) ﴿ ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم ﴾ ( النساء : آية ٦٤ ) فهو كثير في القرآن وفي كلام العرب، ومنه في كلام العرب قول لبيد :
لو أن حيا مدرك الفلاح *** لناله ملاعب الرماح
والجواب عند علماء العربية : أن المصدر المنسبك من ( أن ) وصلتها في محل رفع فاعل فعل محذوف، قالوا : تقديره " ولو ثبت أننا نزلنا إليهم الملائكة " أي : لو ثبت ووقع تنزيلنا الملائكة عليهم ﴿ ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ﴾ إيمانهم ﴿ ولكن أكثرهم ﴾ أي : أكثر الكفار.
قال بعض العلماء :﴿ ولكن أكثرهم ﴾ أي أكثر الكفار.
وقال بعض العلماء : " أكثرهم " أي : اكثر الجميع من الكفار والمسلمين ﴿ يجهلون ﴾ أنهم لو أنزلت عليهم الآيات التي اقترحوا لم يؤمنوا.
والقول الأول أظهر، لأن التعبير بالمضارع في " يجهلون " يدل على أنهم من عادتهم وشأنهم الجهل وعدم المعرفة بالله. وهذا أليق بالكفار.
﴿ وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون ١١٢ ﴾ ( الأنعام : آية ١١٢ ).
لما كان كفار مكة، أعداء النبي صلى الله عليه وسلم، عادوه شدة المعاداة، اضطر إلى أن يخرج مهاجرا إلى المدينة حرسها الله، عن مسقط رأسه الذي ولد به، لما لقي من أذاهم وهمهم بأن يقتلوه كما يأتي في سورة الأنفال في قوله :﴿ وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين٣٠ ﴾ ( الأنفال : آية ٣٠ ).
أراد الله أن يسلي نبيه في هذه الآية الكريمة، أن هذا الذي جرى عليه جرى على إخوانه وآبائه من الرسل الكرام، كإبراهيم وإسماعيل، يعني : " وكذلك " أي : كما جعلنا لك أعداء كفرة من قومك، يعادونك، ويهمون بقتلك، وإخراجك وحبسك، كما جعلنا لك أعداء، ﴿ وكذلك جعلنا لكل نبي ﴾ من الأنبياء ﴿ عدوا ﴾ أي : أعداء يعني لم يبق نبي إلا جعل الله له أعداء، لأن الحق لا يأتي به أحد إلا كان خصوم الحق أعداء له، ولذا تعرفون في حديث البخاري المشهور : أن خديجة بنت خويلد ( رضي الله عنها ) لما ذكرت أمر النبي لورقة بن نوفل، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم :( ليتني جذع إذ يخرجك قومك أكون معك، فأنصرك نصرا مؤزرا ) لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح المشهور : " أو مخرجي هم ؟ " أجابه بقوله " لم يأت بهذا الدين أحد إلا عودي ". لأن الحق لا يأتي به أحد، إلا عاداه خصوم الحق، وهم شياطين الإنس والجن، فهم أعداء للحق، و أعداء لمن قام بالحق، كما قال جل وعلا.
﴿ وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون١١٢ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون ١١٣ أفغير الله أبتغى حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين ١١٤ وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم ١١٥ ﴾الأنعام : الآيات ١١٢-١١٥ )
يقول الله جل وعلا :﴿ وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون ١١٢ ﴾( الأنعام : آية ١١٢ ).
لما بين الله ( جل وعلا ) في هذه السورة الكريمة – سورة الأنعام – ما لاقى النبي صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين، ومن عدا وتهم، وعدم انقيادهم إليه _ كما قدما في قوله :﴿ قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون ﴾ إلى قوله :﴿ فإن استطعت أن تبتغى نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية ﴾( الأنعام : الآيات ٣٣-٣٥ ) أي : إن استطعت ذلك فافعل –بين الله لنبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة أنه ما أرسل نبيا من الأنبياء إلا جعل له أعداء كفرة فجرة من شياطين الإنس والجن، والقصد من هذا تسلية النبي صلى الله عليه وسلم لأنه ما لوقي به من العداوة إذا كان قد لاقاه إخوانه الكرام من الرسل الكرام هون ذلك الأمر عليه، كما قال له :﴿ ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك ﴾( فصلت : آية ٤٣ ) ﴿ ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا ﴾( الأنعام : آية ٣٤ )﴿ فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ﴾( الأحقاف : آية ٣٥ ) ونحو ذلك من الآيات.
ومعنى الآية الكريمة " وذلك " أي : كما جعلنا لك أعداء كفرة من كفار قريش يعادونك، ويناصبونك العداوة، كذلك الجعل ﴿ وجعلنا لكل نبي ﴾ من الأنبياء قبلك ﴿ شياطين الإنس والجن ﴾ جعلناهم عدوا للأنبياء، وقد نص الله على هذا في الفرقان حيث قال :﴿ وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين ﴾( الفرقان : آية ٣١ ) فبين أن أعداء الأنبياء هم المجرمون، وهم شياطين الإنس والجم.
وقرأ هذا الحرف عامة القراء ما عدا نافعا وحده :﴿ وكذلك جعل لكل نبي ﴾ بالإدغام. وقرأه نافع وحده برواية ورش وقالون :﴿ جعلنا لكل نبيء عدوا ﴾ ونافع يقرأ جميع ما في القرآن من النبيء و والأنبياء كله بالهمزة في رواية ورش، وكله بالهمزة في رواية قالون عن نافع، إلا حرفين في سورة الأحزاب.
أما على قراءة نافع :" جعلنا لكل نبيء " فالنبيء مشتق من ( النبأ )، والنبأ : الخبر الذي له خطب وشأن، وإنما قيل للنبيء " نبيء " لأنه يوحى إليه، والوحي : خبر له خطب وشأن، فكل نبأ خبر، وليس كل خبر نبأ، لأن العرب لا تطلق النبأ إلا على الخبر الذي له شأن وخطب، أما الخبر فتطلقه على الحقير والجليل، فلو قلت : جاءنا نبأ الأمير، وجاءنا نبأ عن الجنود، وعن الأمور العظام. كان هذا من كلام العرب، فلو قلت : جاءنا نبأ عن حمار الحجام. لم يكن هذا من كلام العرب، فلو قلت : جاءنا نبأ عن حمار الحجام لا خطب لها. ولاشأن، فلا يعبر عنها بالنبأ، و إنما يعبر عنها بالخبر أما على قراءة الجمهور :﴿ وكذلك جعلنا لكل نبي ﴾ بالإدغام ففيه أحدهما : أن أصله من ( النبأ )، إلا أن الهمزة أبدلت ياء، وأدغمت الياء في الياء. وعليه فالقراءة بالنبيء والنبي كالقراءتين السبعيتين ﴿ إنما النسيء زيادة في الكفر ﴾ [ التوبة آية ٣٧ ] ﴿ إنما النسي زيادة في الكفر ﴾ وعلى هذا التأويل فمعنى قراءة الجمهور كمعنى قراءة نافع.
الوجه الثاني : أن النبي على قراءة الجمهور ليس اشتقاقه من ( النبأ ) بمعنى الخبر، وإنما هو من ( النبوة ) بمعنى الارتفاع لارتفاع شأن النبي، وعلى هذا التفسير فأصل النبي على قراءة الجمهور ليس بمهموز، والأظهر أن أصله مهموز، وأن الهمزة أبدلت ياء، بدليل قراءة نافع بالهمزة.
وقوله :﴿ وكذلك جعلنا لكل نبيء عدوا ﴾اختلف العلماء في إعراب قوله :﴿ عدوا شياطين الإنس والجن ﴾ فذهب بعض العلماء إلى أن " عدوا " و " شياطين " هما المفعولان " ل " جعلنا ". أي : جعلنا ﴿ شياطين الإنس والجن ﴾أعداء، أي : صيرناهم أعداء لكل نبي. وعلى هذا فتكون " شياطين الإنس " هو المفعول الأول، وقوله :" عدوا " هو المفعول الثاني. و( جعل ) هنا هي التي بمعنى :( صير ).
الوجه الثاني من الإعراب : أن أحد المفعولين هو الجار في قوله :" لكل نبي " والمفعول الثاني هو قوله : " عدوا " وعليه فيكون إعراب " شياطين الجن والإنس " أنه بدل من " عدوا " هذان الإعرابان في الآية و( جعل ) هنا بمعى( صير ) أي : صيرنا شياطين الإنس والجن أعداء لكل نبي من الأنبياء.
و( جعل ) تأتي في كلام العرب على أربعة أنحاء ثلاثة منها في القرآن، والرابع موجود في لغة العرب وليس في القرآن :
الأول من الأقسام الأربعة :( جعل ) التي بمعنى ( اعتقد ) ومنه قوله :﴿ وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمان ﴾( الزخرف : آية ١٩ ) وفي القراءة الأخرى :﴿ الذين هم عند الرحمان إناثا ﴾ المعنى : اعتقدوا الملائكة إناثا. ف( جعل ) هذه بمعنى ( اعتقد ) وهي تنصب مفعولين، أصلها مبتدأ وخبر.
الثاني :( جعل ) بمعنى ( صير ) كهذه التي عندنا ﴿ جعلنا لكل نبي عدوا شياطين ﴾( الأنعام : آية ١١٢ )أي صيرنا شياطين الإنس والجن عدوا لكل نبي.
وهي أيضا تنصب المبتدأ والخبر مفعولين.
الثالث :( جعل ) بمعنى ( خلق ) وهي تنصب مفعولا واحدا، وهي التي تقدمت في أول هذه السورة الكريمة ﴿ الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ﴾( الأنعام : آية ١ ) أي : خلق الظلمات والنور.
هذه الأقسام الثلاثة من معاني( جعل ) أعني كونها بمعنى ( اعتقد )، وكونها بمعنى ( صير )، وكونها بمعنى ( خلق )، كلها في القرآن العظيم.
أما معناها الرابع فهو في اللغة، وليس في القرآن وهو إتيان ( جعل ) بمعنى شرع في الأمر، كقولهم : جعل فلان يفعل كذا. أي : شرع يفعله. ومنه بهذا المعنى قول الشارع :
وقد جعلت إذا ما قمت يثقلني ثوبي فأنهض نهض الشارب السكر.
وهذا معنى قوله أي : وكذلك الجعل الذي جعلنا لك يا نبي الله أعداء من كفار قريش في مكة " وكذلك " الجعل " جعلنا لكل نبي " قبلك من الأنبياء " عدوا شياطين الإنس والجن ".
في هذه الآية الكريمة سؤال معروف، وهو أن يقال : إن المراد : أعداء، لأنهم شياطين الإنس والجن، وهم جماعة، وأعداء الرسل جماعات لا مفرد، وهنا قال :" عدوا " بصيغة المفرد، ولم يقل : " وكذلك جعلنا لكل نبي أعداء " بل قال : " عدوا " وجاء في القرآن إطلاق العدو مرادا به الجمع في آيات متعددة كقوله :" فإن كان من قوم عدو لكم " أي : أعداء لكم. وكقوله : " هم العدو فاحذرهم " أي : هم الأعداء فاحذرهم. وقد قدمنا في هذه الدروس مرارا : أن المقرر في علوم العربية : أن المفرد إذا كان اسم جنس جاز إطلاقه مفرد اللفظ مرادا به الجمع إذا دلت على ذلك قرائن.
وهذا كثر في القرآن وفي كلام العرب في الحالات الثلاث، أعني بقولي( في الحالات الثلاث ) : أن يكون منكرا، و أن يكون معرفا بالألف واللام، وأن يكون مضافا. فمثال إطلاق الجنس مفردا مرادا به الجمع منكرا في القرآن قوله :﴿ إن المتقين في جنات ونهر ٥٤ ﴾( القمر : آية ٥٤ )يعني : وأنهار، بدليل قوله :﴿ فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه ﴾( محمد : آية ١٥ ) وقوله :﴿ ثم نخرجكم طفلا ﴾( الحج : آية ٥ ) يعني أطفالا. وقوله :﴿ واجعلنا للمتقين إماما ﴾( الفرقان : آية ٧٤ ) أي : أئمة. وقوله :﴿ فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا ﴾ [ النساء : آية ٤ ] أي : أنفسا. وقوله :﴿ وإن كنتم جنبا فاطهروا ﴾( المائدة : آية ٦ ) أي : وإن كنتم جنبين أو أجنابا فاطهروا. وقوله جل وعلا :﴿ مستكبرين به سمارا تهجرون٦٧ ﴾( المؤمنون : آية ٦٧ )أي : سامرين. وهو كثير في القرآن. ومن أمثلته في القرآن واللفظ معرف بالألف واللام قوله جل وعلا :﴿ أولئك يجزون الغرفة ﴾( الفرقان : آية ٧٥ ) يعني : الغرف. بدليل قوله :﴿ لهم غرف من فوقها غرف مبنية ﴾( الزمر : آية ٢٠ ) ﴿ وهم في الغرفات آمنون ﴾( سبا : آية ٣٧ ) وقوله :﴿ أو الطفل الذين لم يظهروا ﴾( النور : آية ٣١ ) يعني : الأطفال ﴿ سيهزم الجمع ويولون الدبر ٤٥ ﴾( القمر : آية ٤٥ ) أي : الأدبار.
وقوله :﴿ وجاء ربك والملك صفا صفا ٢٢ ﴾( الفجر : آية ٢٢ )أي : والملائكة، لأن الملك الواحد لا يكون صفا صفا، وكما دل عليه قوله :﴿ هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ضلل من الغمام والملائكة ﴾( البقرة : آية ٢١٠ ) وهذا كثير في القرآن. ومن أمثلته واللفظ مضاف : قوله جل وعلا :﴿ إن هؤلاء ضيفي ﴾( الحجر : آية ٦٨ ) أي : أضيافي، وقوله :﴿ فليحذر الذين يخالفون عن أمره ﴾ [ النور : آية ٦٣ ] أي : أوامره ﴿ وإن تعدوا نعمت الله ﴾( إبراهيم : آية ٣٤ ) أي : نعم الله، وأنشد الشيخ سيبويه في كتابه لإطلاق اسم الجنس مفردا مرادا به الجمع، أنشد له بيتين، أحدهما قول علقمة بن عبدة التميمي :
بها جيف الحسرى فأما عظامها فبيض وأما جلدها فصليب
يعني : وأما جلودها فصليبة. وقول الآخر :
كلوا في بعض بطنكم تعفوا فإن زمانكم زمن خميص
يعني : في بعض بطونكم. هذان البيتان أنشدهما سيبويه لهذا المعنى في كتابه، وهذا كثير في كلام العرب.
ومنه اللفظ منكرا في كلام العرب : قول عقيل بن علفة المري
وكان بنو فزارة شر عم وكنت لهم كشر بني الأخينا
يعني : شر أعمام.
ومنه اللفظ مضاف : قول العباس بن مرداس السلمي :
فقلنا أسلموا إنا أخوكم وقد سلمت من الإحن الصدور
أي : إنا إخوانكم. وقول جرير :
إذا آباؤنا وأبوك عدوا أبان المقرفات من العراب
وهو كثر جدا في كلام العرب، ومنه قوله هنا :﴿ عدوا شياطين الإنس والجن ﴾ وا
وفي هذه الآية ترتيب غريب عجيب، بالغ في الحسن، لأن السبب الأول : هو الغرور والخديعة، فتسبب عن الغرور والخديعة : أن صغت إليه قلوبهم ومالت، ثم تسبب عن صوغ القلب وميلها : أنهم أحبوه ورضوه، ثم تسبب عن كونهم أحبوه ورضوه : أن اقترفوه، ولذا رتبها على هذا الترتيب، قال أولا : " غرورا " أي : لأجل أن يغروهم. ثم نتج من الغرور : صوغ أفئدتهم إليه. قال : " ولتصغى إليه أفئدة الذين " ثم تسبب عن كونها صغت إليه : أنها رضيته وأحبته، ولذا قال :" وليرضوه " ثم تسبب عن رضاهم ومحبتهم له أنهم فعلوه واقترفوه، ولذا جاء بعدها بقوله : " وليقترفوا ". وقوله :" ولتصغى " وهو معطوف على " غرورا " والمعنى : يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول لأجل الغرور. أي : لأجل أن يغروهم، ولأجل أن تصغى. و( تصغى ) معناه : تميل. تقول العرب : " صغي يصغى " كلها بمعنى : مال إليه، و " أصغى يصغي إصغاء " أيضا إذا مال. وهذا معروف في كلام العرب، وفي القرآن العظيم :" إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما " ( التحريم : آية ٤ ) أي : مالت إلى أمر تعلمان أن النبي لا يحبه. وقوله هنا : " ولتصغى " أي : تميل إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة، ومادة ( صغى ) تستعمل واوية ويائية اللام. تقول العرب : " صغى يصغى "، و " صغى يصغو "، و " صغي يصغى "، كلها بمعنى : مال. وأصغى الإناء : إذا أماله، ومنه : رجل مصغى الإناء. إذا كان منقوص الحظ. تقول :" بنو فلان يصغون إناء فلان ". إذا كانوا ينقصونه من حقه، لأن الإناء المائل لا يحمل من الملء قدر ما يحمله الإناء المعتدل، فالناس إذا وضعت أوانيها لتملأ لها فالإناء المصغى – أعني المائل- لا يحمل كثيرا، بخلاف الإناء المعتدل فإنه يمتلء. وهذا معنى معروف في كلام العرب، ومنه قول غسان بن وعلة، ويروى للنمر بن تولب العكلي قال :
إذا كنت في سعد وأمك منهم فقيرا فلا يغررك خالك من سعد
فإن ابن أخت القوم مصغى إناؤه إذا لم يزاحم خاله بأب جلد
معنى " مصغى إناؤه " أي : ممال إناؤه، لأن الإناء الممال لا يمتلىء كما ينبغي، فحقه منقوص. هذا معنى المادة في لغة العرب، والعرب تقول :
" أصغى إليه " إذا أمال إليه أذنه. ومنه قولهم :" أصغت الناقة إلى من يشد الرحل عليها ". إذا صارت تميل إلى من يشد الرحل عليها، كالذي يستمع. ومنه قول غيلان ذي الرمة :
تصغي إذا شدها بالكور جانحة حتى إذا ما استوى في غرزها تثب
والعرب تستعمله رباعيا، ( أصغى إليه إصغاء )إذا مال إليه، ومنه قول الشاعر :
إن السفيه به عن كل مكرمة زيغ وفيه إلى التشبيه إصغاء
أي : ميل. والمراد بالتشبيه هنا : التخليط.
ومعنى قوله :" ولتصغى إليه " أي : لتميل إليه، أي : ذلك القول المزخرف المزين الباطل، الذي توحيه شياطين الإنس والجن، تميل إليه " أفئدة " أي : قلوب. الأفئدة : جمع الفؤاد، والفؤاد : القلب.
" ولو شاء ربك ما فعلوه " مفعول المشيئة محذوف، والمعنى : لو شاء ربك عدم فعلهم إياه ما فعلوه، فالضمير في " ما فعلوه " يرجع في أظهر الأقوال إلى " زخرف القول " الذي يوحونه إليهم، فزخرف القول الذي يوحونه إليهم لو شاء ربك ما فعلوه. والمعنى : لو شاء الله لكف شياطين الإنس والجن عن غرور الناس، وزخرفة الأقوال لها ليغروها، ولكن له ( جل وعلا ) في ذلك حكمته البالغة، يفتن خلقه ليظهر المطيع من العاصي.
وقوله :" فذرهم وما يفترون " ذرهم : معناه أتركهم، وهذا الفعل لا يوجد منه في اللغة العربية إلا الأمر و المضارع. تقول العرب : " ذر "، وتقول :" يذر ". بالمضارع والأمر. ولا يوجد من مادته فعل ماض، ولا مصدر، ولا اسم فاعل ولا اسم مفعول، فماضي " ذر " هو قولك : " ترك ". واسم فاعله : تارك، واسم مفعوله : متروك. ومصدره : الترك. ولا يستعمل منه إلا الأمر والمضارع. ومعنى " ذرهم " : اتركهم.
" وما يفترون " ( ما ) منصوبة لأنها مفعول معه. ويحتمل أن تكون مصدرية والمعنى : ذرهم وافترائهم. وعلى أنها موصولة فالمعنى : اتركهم والذي يفترونه على الله. وصيغة الأمر هنا إنما هي للتهديد، والمعنى : خلهم وافتراءهم فسيجدون غب ذلك، ويعلمون عاقبته الوخيمة. وقد تقرر في فن الأصول في مباحث الأمر، وفي فن المعاني في مباحث الإنشاء : أن من المعاني التي تأتي لها صيغة ( افعل ) منها : قصد التهديد والتخويف، كقوله :﴿ ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون٣ ﴾ ( الحجر : آية ٣ ) وقوله :﴿ تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار ﴾( الزمر : آية ٨ ) وقوله :﴿ فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ﴾ ( الكهف : آية ٢٩ ) كل هذه صيغ مراد بها التهديد، ولذا قال هنا :﴿ فذرهم وما يفترون ﴾ والافتراء : هو اختلاق الكذب والعياذ بالله جل وعلا.
وقوله :﴿ ولتصغى إليه ﴾ ( الأنعام : آية ١١٣ ) أي : ليغروهم، ولتميل إليه، أي : إلى ذلك القول المزخرف المزين الباطل، ليكون سببا للضلال، تميل إليه أفئدة : أي : قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة – والعياذ بالله - لأن المؤمنين يعرفون زخارف الشيطان ووحيه، فيتباعدون منه ويجتنبونه، ولذا قال :﴿ ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه ﴾. إذا مالت قلوبهم إليه يرضوه ويحبوه، ثم إذا رضوه وقعوا في الكفر المزين المزخرف والعياذ بالله.
﴿ وليقترفوا ما هم مقترفون ﴾( الأنعام : آية ١١٣ ) الاقتراف في لغة العرب : معناه الاكتساب. والمعنى : وليكتسبوا ما هم مكتسبون إياه من الكفر والمعاصي – عياذا بالله- بسبب ذلك القول المزخرف، الذي صغت إليه قلوبهم ورضوه وأحبوه، ووقعوا بسببه بالكفر والمعاصي. والاقتراف : الاكتساب. وتقول : راح فلان يقترف لأهله أي يكتسب لهم من الدنيا. والمراد بالإقتراف هنا : اكتساب المعاصي هذا معنى قوله :﴿ وليقترفوا ما هم مقترفون ﴾.
﴿ أفغير الله ابتغى حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين ١١٤ ﴾( الأنعام : آية ١١٤ ).
قرأ هذا الحرف جمهور القراء ما عدا حفصا، وابن عامر :﴿ منزل من ربك بالحق ﴾ بصيغة اسم مفعول ( أنزل ). وقرأه حفص عن عاصم، وابن عامر ﴿ منزل ﴾ بصيغة اسم مفعول من ( نزل ) مضعفا.
كان كفار قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : احتكم معنا إلى علماء اليهود والنصارى، الذين عندهم بقية علم من التوراة والإنجيل، ليخبرونا أأنت رسول حقا أم لا.
وقال بعضهم : قالوا له : نحن وأنت اختلفنا فلنتحاكم إلى بعض الكهنة، فبين الله جل وعلا – أمر نبيه أن يبين – أنه لا يبتغي حكما غير الحكم العدل، خالق السماوات والأرض، الذي أنزل هذا الكتاب وفصله. وأهل الكتاب الذين تريدون أن نتحاكم معكم إليهم يعلمون أن هذا الكتاب حق، وأنه منزل من الله، وأن النبي صلى الله عليه وسلم رسولا حقا. كما أخذ عليهم بذلك العهد في كتبهم، كما قدمناه مرارا.
﴿ يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ﴾ ( البقرة : آية ١٤٦ ) وقد أخذ الله العهد على جميع الرسل، وعلى أممهم أن منهم من أدرك النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤمن به ويصدقه، كما قدمنا بيانه في سورة آل عمران في قوله :﴿ وإذ أخد الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين٨١ ﴾ ( آل عمران : آية ٨١ ) ومعنى الآية الكريمة : قل لهم يا نبي الله : أأضل عن سواء الطريق ضلالا بعيدا في الحكومة فأبتغي حكما غير الله ؟ ! لا يكون ذلك مني أبدا.
قال بعض العلماء : والحكم : أعظم من الحاكم، لأن الحكم لا تكاد العرب تطلقه إلا على من هو معروف بالإنصاف والعدالة في حكومته، أما الحاكم فيطلق على كل من يحكم، سواء حكم بجور أم بحق.
والهمزة للإنكار. أي : لا أبتغي حكما غير الله. وقد قدمنا بعض الكلام في الليلة الماضية على بعض هذه الآية وأوضحنا إعراب ( غير ) و( حكما ).
وقوله :﴿ أفغير الله أبتغي حكما ﴾أي : لا يكون ذلك، لأن الهمزة إنكار، بمعنى النفي. أي : وهو الذي أنزل، الحكم الذي لا أبتغي حكما سواه هو الله الذي أنزل إليكم على لساني هذا الكتاب – القرآن العظيم- الذي جمع الله فيه ثمرات الكتب المنزلة، وجمع فيه علوم الأولين والآخرين.
وقوله : " مفصلا " أي : موضحا مبينا، آياته توضح فيها العقائد، والحلال والحرام، والأمثال، والمواعظ، والآداب، والمكارم، لأنه في غاية الإيضاح والتفصيل، والذي فصله هو الحكيم الخبير ﴿ كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ﴾ ( هود : آية ١ ).
وقوله :﴿ مفصلا ﴾ حال من ﴿ الكتاب ﴾ أي : أنزله إليكم في حالة كونه مفصلا، أي : موضحا مبينا فيه العقائد، مبينا فيه الحق من الباطل، والنافع من الضار، والحسن من القبيح، بين الله فيه العقائد، والحلال والحرام، وما يقرب إلى الله، وما يوصل إلى جنته، وما يبعد من الله ويسخطه، ويوصل إلى ناره، وبين مصير الفريقين، وما أعد لأوليائه، وما أعد لأعدائه، كل هذا موضح مفصل في القرآن، وإن كان في القرآن بعض الآيات المتشابهات، فإنها ترد إلى المحكمات، ويعرف إيضاحها بردها إلى المحكمات.
كما قدمنا في سورة آل عمران تفسير قوله : " هن أم الكتاب " ( آل عمران : آية ٧ ).
يعني : أن المحكات هن أم الكتاب التي يرد إليها ما أشكل من متشابهاته، وهذا معنى قوله :﴿ وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا ﴾ ( الأنعام : آية ١١٤ ) التفصيل : ضد الإجمال، وهو الإيضاح والبيان. وقول من قال : " مفصلا " أي : بينه فترات وفصل، لأنه ينزل أنجما منجما ". هو غير الصواب، والتحقيق : أن معنى قوله : " مفصلا " : أنه مبين موضح، بين الله فيه العقائد، والحلال والحرام، ومصير أهل الجنة، ومصير أهل النار، وكل شيء يحتاج إليه الخلق، كما قال تعالى :﴿ ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء ﴾ ( النحل : آية ٨٩ ) فالقرآن فيه تبيان كل شيء، ولكن الناس [ كل منهم ] ( في الأصل : كلهم ) يأخد منه بقدر ما أعطاه الله من الفهم، فهو بحر، وكل يغرف منه بحسب ما عنده، كما بينه حديث أمير المؤمنين على بن أبي طالب ( رضي الله عنه وأرضاه )، كما ثبت عنه في صحيح البخاري : انه لما سأله أبو جحيفة : هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء ؟ أجاب على ( رضي الله عنه ) : لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، إلا فهما يعطيه الله رجلا في كتاب الله، وما في هذه الصحيفة. قال : وما في هذه الصحيفة ؟ قال : العقل، وفكاك الأسير، وألا يقتل مسلم بكافر. ومحل الشاهد من الحديث : قول علي ( رضي الله عنه ) : " إلا فهما يعطيه الله رجلا في كتاب الله " فهو يدل على أن من أعطاه الله فهما في كتاب الله فهم علوما خصه الله بها لم تكن عن أحد، لأن القرآن يتضمن جميع الأشياء، والناس في فهمه بحسب ما أعطاهم الله من المواهب، ولذا قال تعالى :﴿ وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا ﴾.
وقوله :﴿ والذين آتيناهم الكتاب ﴾﴿ آتيناهم ﴾ معناه : أعطيناهم ﴿ الكتاب ﴾ والمراد بالكتاب : جنس الكتاب الصادق بالتوراة و الإنجيل، وصيغة الجمع في قوله :﴿ آتيناهم ﴾ للتعظيم. والمعنى : والإسرائيليون والنصارى الذين أعطيناهم علما من علم التوراة والإنجيل يعلمون أن هذا القرآن ﴿ منزل من ربك بالحق ﴾ أن الله نزله عليك في حالة كونه متلبسا بالحق، لأن كل ما فيه حق، لا يأمر إلا بخير، ولا ينهى إلا عن شر، ولا يخبر إلا بصدق، إلى غير ذلك من أمور أحقيته.
ومعنى الآية : علماء اليهود والنصارى الذين تطلبون أن نتحاكم إليهم هم يعلمون أن هذا الكتاب الذي أنزله الله علي حق، وأني رسول الله، ولأنهم يعلمون أن الكتاب حق[ وأنه ] ( في هذا الموضع وقع انقطاع في التسجيل، وما بين المعقوفتين [ ] زيادة لربط أجزاء الكلام ) ﴿ منزل من ربك بالحق ﴾.
وقوله :﴿ بالحق ﴾ كأنه في محل حال. أي : في حال كونه متلبسا بالحق، والحق : ضد الباطل. ومعناه : أن هذا القرآن لا باطل فيه، كله حق، وكله هدى ﴿ فماذا بعد الحق إلا الضلال ﴾( يونس : آية ٣٢ ) كما يأتي إيضاحه في قوله :﴿ وتمت كلمت ربك صدقا وعدلا ﴾ ( الأنعام : آية ١١٥ ) وهذا معنى قوله :﴿ يعلمون أنه منزل من ربك بالحق ﴾.
﴿ فلا تكونن من الممترين ﴾ ( الأنعام : آية ١١٤ ) ( الفاء ) كأنها سببية. أي : يتسبب عن كون هذا القرآن حقا لا شك فيه ألا يمتري أحد فيه.
وقوله : " الممترين " هو جمع الممتري. والممتري : اسم فاعل امترى، يمتري، فهو ممتري : إذا كان شاكا.
وأصله : " ممتري " من المرية، والمرية : الشك.
[ ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن شاكا فيما أوحي الله إليه، وإنما هذا كقوله :﴿ ولا تطع منهم آثما أو كفورا ﴾( الإنسان : آية ٢٤ ) وكقوله :﴿ ولا تكونن من المشركين ﴾ ( الأنعام : آية ١٤ ) وكقوله :﴿ يأيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين ﴾( الأحزاب : آية ١ )ولا يخفى أن رسول الله صلوات الله عليه ] ( في هذا الموضع انقطاع في التسجيل، وما بين معقوفتين [ ] زيادة يتم بها الكلام ) وسلامه عليه أنه متق وأنه لا يطيع منهم آثما ولا كفورا، وأنه لا يشرك. وقد قدمنا مرارا أنه جرت العادة في القرآن أن الله ( جل وعلا ) يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم وينهاه ليشرع ذلك الأمر والنهي لأمته على لسانه صلى الله عليه وسلم، لأنه هو القدوة لهم، المشرع لهم بقوله، وفعله، وتقريره، ومن أكبر الأدلة على ذلك : هو ما قدمنا في آية بني إسرائيل، وهي قوله :﴿ وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما ﴾( الإسراء : آية ٢٣ ) هذا خطاب النبي صلى الله عليه وسلم على التحقيق، لأن كل الخطابات في الآيات له، يقول له الله :﴿ إما يبلغن عندك الكبر ﴾ يعني : إن يبلغ عندك والداك الكبر أو أحد والديك ﴿ فلا تقل لهما أف ﴾ومعلوم أن وقت نزولها أن والديه قد ماتا من زمان، لأن أباه مات وهو حمل، وأمه ماتت وهو( صلوات الله عليه وسلامه ) صغير، فعرف أنه أمره بأنه إن بلغ والداه أو أحدهما الكبر أن يبرهما، وهما قد ماتا، لا يمكن برهما، عرفنا من ذلك أنه يأمره ليشرع للناس على لسانه صلى الله عليه وسلم، وقد بينا مرارا أن من أساليب اللغة العربية :/أن الإنسان يخاطب إنسانا والمراد عنده بالخطاب غيره، وذكرنا فيه مرارا المثل المعروف :( إياك أعني واسمعي يا جارة ) وبينا فيما مضى أنه من رجز لرجل من بني فزارة، يسمى : سهل بن مالك، نزل في بيت حارثة بن لأم الطائي، ووجده غائبا، فأكرمته أخته، وأعجب بجمالها، فأراد أن يعرض لها بالخطبة فخاطب أخرى غيرها قائلا :
يا أخت خير البدو والحضارة كيف ترين في فتى فزارة
أصبح يهوى حرة معطارة إياك أعني واسمعي يا جارة
فعلمت بنت ( هذا من سبق اللسان. وإلا فهي أخته ) حارثة بن لأم الطائي أن الخطاب موجه إليها وإن كان يخاطب غيرها حيث قال : " إياك أعني واسمعي يا جارة ".
فأجابت قائلة :
إني أقول يا فتى فزارة لاأبتغي الزوج ولا الدعارة
ولا فراق أهل هاذي الحارة فارحل إلى أهلك باستحارة
والشاهد من هذا الرجز قوله :" إياك أعني واسمعي يا جارة " فهو أسلوب عربي، يخاطب الإنسان إنسانا لينقل الخطاب بواسطته إلى غيره، والقرآن بلسان عربي مبين، ولا سيما أن النبي صلى الله عليه وسلم هو المشرع، فما أمر به أو نهى عنه صار مشرعا لأمته ( صلوات الله وسلامه عليه )، ولذا قال هنا :﴿ فلا تكونن من الممترين ﴾ ( الأنعام : آية ١١٤ ) وقالت جماعة من أهل العلم : الخطابات في قوله :﴿ فلا تكونن من الممترين ﴾ ﴿ لئن أشركت ليحبطن عملك ﴾( الزمر : آية ٦٥ ) كالخطاب العام الموجه لجميع الناس وإن كان لفظه مفردا، كما هو معروف، كقول طرفة بن العبد :
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ويأتيك بالأخبار من لم تزود
فإن هذا الخطاب لفظه كأنه مفرد، ومعناه عام موجه لكل من يصح منه الخطاب. هذا معنى قوله :﴿ فلا تكونن من الممترين ﴾ أي : لا تكونن يا نبي الله. أي : يا مخاطب ممن يصح منه الخطاب ﴿ من الممترين ﴾ أي : في الشاكين في أن هذا الكتاب منزل من الله. أي لا تكونن من الممترين في أن الذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق.
﴿ وتمت كلمات ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم ١١٥ ﴾ ( الأنعام : آية ١١٥ ) ﴿ وتمت كلمت ربك صدقا وعدلا ﴾ قرأ هذا الحرف جمهور القراء ما عدا الكوفيين الثلاثة، قرأه من السبعة : نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، كلهم قرؤوا :﴿ وتمت كلمات ربك صدقا وعدلا ﴾بصيغة الجمع، وقرأه الكوفيون، أعني : عاصما، وحمزة، والكسائي :﴿ وتمت كلمت ربك صدقا وعدلا ﴾بالإفراد. ومعنى القراءتين واحد، لأن ( الكلمة ) أضيفت إلى معرفة فتعم، كقوله :﴿ وإن تعدوا نعمت الله ﴾ ( إبراهيم : آية ٣٤ ) أي : نعم الله﴿ فليحذر الذين يخالفون عن أمره ﴾ ( النور : آية ٦٣ ) أي : أوامره ﴿ وتمت كلمت ربك ﴾ أي : كلمات ربك. وقد بين الله ( جل وعلا ) في آيات من كتابه أن كلماته ( جل وعلا ) لا حصر لها ولا نهاية، كما قال في قوله جل وعلا :﴿ ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله ﴾ ( لقمان : آية ٢٧ ) وكقوله :﴿ قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا١٠٩ ﴾ والمراد بالتمام هنا : الكمال التام من جميع الجهات، والمعنى : أن كلمات الله – ومنها هذا القرآن العظيم –أنها بالغة غاية الكمال والتمام.
وقوله :﴿ صدقا وعدلا ﴾ قال بعضهم : هما تمييز محول عن الفاعل. أي تم صدقها وعدلها.
وقال بعض العلماء : هما مصدران حالان. أي : تمت في حال
وأعربها بعض العلماء بأن كليهما ما ناب عن المطلق، لأن التمام يتضمن معنى الصدق والعدالة، أي : تمت، أي : صدقت وعدلت. ﴿ صدقا وعدلا ﴾ والمعنى أنها كاملة صدقا في أخبارها، وعدلا في أحكامها. وقوله ﴿ صدقا ﴾أي : في جميع الأخبار ﴿ وعدلا ﴾ أي : في جميع الأحكام. فما في القرآن من أحكام فهو في غاية العدالة، والإنصاف، ومراعاة مصالح البشر في دنياهم وأخراهم، وما فيه من الأخبار فهو صحيح حق مطابق للواقع، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، يعني أن ما تخبرون فيه من الأخبار هو حق، وما تؤمرون فيه وما تنهون عنه فيه من الشرائع فهو في غاية العدالة والكمال، وإذا كانت كلمات الله بهذه المثابة من الكمال والصدق في الأخبار، والعدالة في الأحكام، فليس لأحد أن يطلب عنها غيرها، فالله ( جل وعلا ) كلماته تامة في عدالتها، كل شرعه في غاية العدالة، والإنصاف، والإحكام، وكل أخباره في غاية الصدق، ولذا فإن هذا القرآن العظيم جاء للبشرية بخير الدنيا والآخرة، أما في دار الدنيا : فجاء فيه تنظيم علاقاتها، أمر فيه الفرد بأن يكون لبنة صالحة لبناء المجتمع، بأن يكون سخيا باذلا لما لديه، وأن يكون شجاعا مضحيا، وأن يكون مخلصا لأمته لا يغشها، إلى غير ذلك من مكارم الأخلاق. وعلم الإنسان كيف يعاشر أقرب الناس إليه، زوجته، وأبنائه، وأسرته الأدنين، أمره أن يتحفظ منهم غاية التحفظ لدينه ودنياه، لأنهم ربما أوقعوه فيما لا ينبغي، ثم أمره إذا وجد منهم ما لا يحب أن يعاملهم باللين والصفح والمغفرة، كما قال في التغابن :﴿ إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم ﴾ ( التغابن : آية ١٤ )فمن شدة حكمته يعلم الإنسان كيف يعاشر اسرته الأدنين، ثم إذا عثر منهم على ما لا ينبغي أمره ألا يعاملهم بالشدة والمكروه، ولذا قال في هذه الآية :﴿ إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم ﴾ثم قال- إذا رأى منهم ما يكره- :﴿ وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم ﴾ وعلم الإنسان كيف يعاشر مجتمعه، وبين له ما يعاشر به مجتمعه من الوفاء، والإخلاص، والبذل، والسخاء، والتضحية، وأمر الرؤساء أن يلينوا للمرؤوسين، وأن يسعوا في مصالحهم، وينصفوهم، ويلينوا لهم الجانب ﴿ فبما رحمة من الله لنت لهم ﴾( آل عمران : آية ١٥٩ ) ﴿ واخفظ جناحك للمؤمنين ﴾( الحجر : آية ٨٨ ) وأمر المرؤوسين أن يطيعوا الرؤساء، ويعاونوهم على الخير، والسمع والطاعة، لتتحدد جهود الجميع إلى ما فيه مصلحة الدنيا والآخرة. وأحاط الجواهر الست التي عليها مدار المظالم والإنصاف في دار الدنيا، لأن جميع المظالم والإنصاف في دار الدنيا إذا تأملتها فهي راجعة إلى ست جواهر، اعتنى دين الإسلام بالإحاطة بها، وهذه الجواهر الست – أعني بها – الدين، والنفس والنسب، والعقل، والمال، والعرض، هذه الجواهر الست التي تدور حولها المظالم والإنصافات في الدنيا، واعظمها : دين الإنسان. فهؤلاء الذين يأتون البلاد متمسكة بدين، ويدسون لهم السموم، والمذاهب الهدامة، والتعاليم الخبيثة، حتى يضيعوا دينهم، ويفصلوا بينهم وبين خالقهم، هذا أكبر عدوان، وأعظم جريمة عرفها التاريخ. كذلك الأنفس بعد ذلك، الذي يظلم إنسانا فيقتله ظلما، ثم بعد ذلك تكون العقول، كالذي يضيع عقل الإنسان، أو إنسان يضيع عقل نفسه، كالذي يشرب الخمر. فالله ( جل وعلا ) حمى الدين، كما قال صلى الله عليه وسلم :" من بدل دينه فاقتلوه " حماية للدين. وقال الله جل وعلا :﴿ وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ﴾ ( الأنفال : آية ٣٩ ) وقد حمى الله الأنفس، ولذلك شرع القصاص حياطة لأنفس الناس، لأن من أعظم السد دون القتل وهو شرعية القصاص، والله يقول :﴿ ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب ﴾( البقرة : آية ١٧٩ ) هذا من مراعاة القرآن لمصالح البشرية في دينها ودنياها، لأن القاتل إذا احترق قلبه من الغضب فأخذ الآلة ليقتل تذكر إيقافه للقصاص على الخشبة للقتل فارتعدت فرائصه، وخاف من ذلك الموقف الهائل، فسلم هو من القتل، وسلم من كان يريد أن يقتله، كما قال :﴿ ولكم في القصاص حياة ﴾ ( البقرة : آية ١٧٩ ) وقد جعل على العقول حمى، حيث حرم شرب كل ما يضر بالعقل من مسكر ونحوه، وقال صلى الله عليه وسلم : " كل مسكر حرام " " ما أسكر كثيره فقليله حرام " ﴿ إنما الخمر والميسر و الأنصاب والأزلام ﴾ ( المائدة : آية ٩٠ ) إلى قوله :﴿ فاجتنبوه لعلكم تفلحون ﴾ وتحريم هذه المسكرات كلها محافظة من النظام السماوي على عقول الناس، لأنه من شرب فضاع عقله ارتكب كل فاحشة وكل سوء – والعياذ بالله- لأن نور العقل هو النور الذي يميز الإنسان به بين الحسن والقبيح، والنافع والضار، فربما إذا سكر ربما وقع على ابنته، وربما ضرب جاره، وذكر بعضهم في تفسير آية الخمر في سورة المائدة : أنه رأى شائبا شاربا – والعياذ بالله – يبول في يده- يتخيل للخبيث أنه يتوضأ – ويستنشق ويتمضمض بالبول، ويغسل وجهه ولحيته بالبول، ويقول : الحمد لله الذي جعل الإسلام نورا، والماء طهورا ! وهو لا يدري أنه يغسل وجهه بالبول والعياذ بالله ! فالخمر أم الخبائث، ولمحافظة دين الإسلام على العقول حرم كل ما يضر بالعقل، فحرم شرب الخمر، وأوجب النبي صلى الله عليه وسلم الحد في شربها، كذلك حافظ القرآن العظيم على أنساب الناس، فمنع الزنى صيانة للأنساب، وتطهيرا للفرش من التقذير، لئلا تتقذر فرش المجتمع وتختلط أنسابه. ولذا قال :﴿ ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة ﴾( الإسراء : آية ٣٢ ) وأوجب في الزنا الجلد الرادع " الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة " ( النور : آية ٢ ) كل هذا محافظة على الأنساب ومكارم الأخلاق، لئلا تتقذر فرش المجتمع، وتختلط أنسابه. وفي آية محكمة الحكم منسوخة التلاوة : أن الزاني المحصن أنه يرجم، لأن جريمته عظمى، والذي اعتاد النساء لا يصبر عنهن، فكان الزجر في جنبه أغلظ لأنه ارتكب أخس جريمة، وتعرض لاختلاط أنساب الناس، وتقذير فرش المجتمع، فقتله القرآن في آية منسوخة التلاوة، باقية الحكم " الشيخ [ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة " فهذا الحد ] ( في هذا الموضع وقع انقطاع في التسجيل. وما بين المعقوفتين [ ] زيادة يتم بها الكلام، وقد جاء في بعض الروايات زيادة " بما قضيا من اللذة " ) يطهر به البدن.
وهذه نبذ قليلة يفهم بها الإنسان كيف حافظ دين الإسلام على مصالح البشر، وأحاط أديانهم وأحاط أنفسهم، وحفظ عقولهم، وأنسابهم، وأعراضهم، وأموالهم، كل هذا تشريع رب العالمين، ينظم فيه علاقات الدنيا على أكمل الوجوه، ويهذب أرواحها لتتقي، والقرآن العظيم اعتنى بالإنسان من ناحيتيه : من ناحيته الجسدية، وناحيته الروحية، لأن هذا الحيوان المسمى بالإنسان هو مركب من عنصرين مختلفين في الحقيقة أشد الاختلاف، أحدهما : يسمى الروح والثاني يسمى الجسد، ولا بد لكل منهما من متطلبات، فللروح متطلبات لا تكفي عنها متطلبات الجسد، وللجسد متطلبات لا تكفي عنها متطلبات الروح. فالقرآن العظيم جاء للإنسان بمتطلباته الجسدية، ومتطلباته الروحية، فنظم له جميع العلاقات التي بها تقدمه وقوته في الدنيا في جميع الميادين من حيث إنه جسد حيواني، وبين له طرق الصلة بالله لتتهذب روحه على ضوء النور السماوي، لأن الروح هي التي لها الأهمية، والمادة إذا طغت وقويت ولم تقدها روح مهذبة كانت ويلة عظمى على البشرية. وأنتم تشاهدون هذا في الدنيا، تشاهدون الكتلة الشرقية والغربية، كلتاهما نجحت غاية النجاح في خدمة الإنسان من حيث إنه جسد حيواني، وأفلستا كل الإفلاس في خدمة الإنسان من ناحيته الروحية، وصارت هذه المادة لم تقدها روح مرباة مهذبة على ضوء تعليم سماوي، فكانت ويلة عظمى على البشرية، وخطرا داهما يهدد الإنسان، ولذلك تجدونهم يعقدون المؤتمر بعد المؤتمر، والمجلس بعد المجلس ليدمروا القوة التي بذلوا فيها النفس والنفيس خوفا منها، وكل منهم يبيت في قلق من القوة التي بذلوا فيها النفس والنفيس ! !
كل ذلك إنما جاءهم من إهمالهم الناحية الروحية، لأن أرواحهم لو كانت مرباة على ضوء نور سماوي من تعاليم رب العالمين كان البشر في أمن وطمأنينة أن تلك الروح المهذبة المرباة لا تقود تلك المادة الطاغية، والقوة الهائلة إلا قيادة طبيعية لخير البشرية، وخير الدنيا والآخرة. فإهمال الناحية الروحية هو من أعظم البلايا والويلات.
ونحن دائما ننبه أبناءنا معاشر المسلمين، لأنا نأسف كل الأسف أنهم أضلتهم الحضارة الغربية، فانفصلوا عن تعاليم السماء، وقطعوا الصلة بينهم وبين من فتح أعينهم، ونحن نبين لهم الحقائق، ونضرب لهم الأمثال، لأن الحضارة الغربية بالإستقرار التام لا يمكن أن يكابر جاحد للمحسوس جمعت بين نافع لا مثال لنفعه، وبين ضار لا مثال لضره. أما الذي حصلته من النفع : فهو ما حصلت عليه من التقدم المادي، والتقدم التنظيمي في جميع ميادين الحياة، فهذا الأمر كماء المزن، والتواكل عنه عجز، وضعف، وتمرد على نظام السماء، لأن نظام السماء يأمر المسلم أن يكون قويا متقدما في جميع الميادين العملية، سابحا في جميع الميادين العملية ﴿ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ﴾ ( الأنفال : آية ٦٠ ) هذا الأمر كأنه يقول : أعدوا ما يكون في المستطاع من القوة كائنا ما كان، مهما تطورت القوة، ومهما بلغت، فالمتواكلون العجزة الذين لا يعدون القوة متمردون على نظام السماء، مخالفون لأمر خالق السماوات والأرض ﴿ فليحذر الذين يخالفون عن أمره ﴾ ( النور : آية ٦٣ ) ومن نظر في القرآن وجده جامعا بين الأمرين : الأمر بالقوة والتقدم، مع المحافظة على الآداب الروحية.
ونحن دائما نضرب بعض الأمثال : اقرؤوا آيتين من سورة النساء :{ و
يقول الله جل وعلا :﴿ وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون١١٦ ﴾ ( الأنعام : آية ١١٦ ).
أخبر الله في هذه الآية الكريمة نبيه صلى الله عليه وسلم ليبين على لسانه لأمته أن من أطاع أكثر الناس أضلوه عن سبيل الله، وهذه الآية الكريمة تدل على أن أكثر الخلق ضالون مضلون، وهو كذلك، كما جاء مبينا في أحاديث كثيرة صحيحة، وآيات من كتاب الله، فمن الآيات الدالة على ذلك قوله :﴿ ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ﴾ ( هود : آية ١٧ ) ﴿ وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين ﴾( هود : آية ١٠٣ ) ﴿ ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين ٧١ ﴾ ( الصافات : آية ٧١ ) ﴿ إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين ٨ ﴾ ( الشعراء : آية ٨ ) وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أن نصيب الجنة من الناس واحد من الألف، وأن نصيب النار تسعة وتسعون وتسعمائة. هذا ثابت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي الصحيح : أن الله يقول لآدم يوم القيامة : يا آدم. فيقول آدم : لبيك ربي وسعديك، والخير كله في يديك. فيقال له : يا آدم أخرج خلق النار. فيقول : يا ربي، وما خلق النار ؟ فيخبره ربه أنه تسعة وتسعون وتسعمائة من كل ألف، ولما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم هذا ضاق على الصحابة، وحزنوا من هذا لقلة نصيب أهل الجنة، وكثرة نصيب النار، فبين لهم النبي صلى الله عليه وسلم كثرة الكفرة الفجرة، وأن يأجوج ومأجوج يمكن أن يكون منهم الألف ومنكم واحد، ولذا قال تعالى :﴿ وإن تطع أكثر من في الأرض ﴾( الأنعام : آية ١١٦ ) المراد بالأرض على التحقيق : جميع أهل الدنيا الذين هم في الأرض، خلافا لمن زعم أن المراد بها أرض مكة، وأن المراد أكثر أهلها من رؤساء الكفرة. التحقيق هو التعميم.
وقوله :﴿ يضلوك ﴾ هو جزاء الشرط، منصوب بحذف النون، مضارع ( أضله، يضله ) إذا جعل ضالا، وتسبب له في الضلال عن طريق الصواب.
وقد بينا في هذه الدروس مرارا : أن الضلال –أعاذنا الله والمسلمين منه- يطلق في القرآن العظيم وفي اللغة العربية إطلاقات متعددة على ثلاثة أنحاء : يطلق الضلال في اللغة والقرآن على الذهاب عن طريق الحق إلى طريق الباطل، كالذي يذهب عن طريق الهدى إلى طريق الكفر، وعن طريق الجنة إلى طريق النار. وهذا الاستعمال أكثر استعمالات الضلال. ومنه قوله تعالى :﴿ غير المغضوب عليهم ولا الضالين ﴾ ( الفاتحة : آية ٧ ) وهذا أكثر معناه في القرآن. ويطلق الضلال في القرآن، وفي لغة العرب : على الغيبوية والاضمحلال. فكل شيء غاب واضمحل وذهب تقول العرب :" ضل ". ومنه قول العرب :" ضل السمن في الطعام " إذا طبخ فيه وغاب فيه، ومنه بهذا المعنى في القرآن :﴿ وضل عنهم ما كانوا يفترون ﴾( الأنعام : آية ٢٤ ) أي : غاب وبطل واضمحل، ومنه بهذا المعنى في القرآن قوله تعالى :﴿ وقالوا أءذا ضللنا في الأرض ﴾ ( السجدة : آية ١٠ ) يعنون أن عظامهم أكلتها الأرض، فاختلطت بالتراب، فذهبت واضمحلت فيها كما يضمحل السمن في الطعام، ومن أجل هذا كانت العرب تسمي الدفن ( إضلالا )، إذا دفنوا الميت في قبره تقول العرب، : " أضلوه ". أي غيبوه في قبره، لأن مآله إلا أن تأكله التراب، كما قالو : " أءذا ضللنا في الأرض " ( السجدة : آية ١٠ ) ومن إطلاق العرب الإضلال على الدفن كما ذكرنا، قول المخبل، السعدي يرثي قيس بن عاصم المنقري التميمي :
أضلت بنو قيس بن سعد عميدها وفارسها في الدهر قيس بن عاصم
فقوله :" أضلت " يعني : دفنت عميدها قيس بن عاصم لما مات. ومنه بهذا المعنى :: قول نابغة ذبيان يرثي النعمان بن الحارث بن أبي شمر الغساني :
فإن تحيا لا أملك حياتي، وإن تمت فما في حياتي بعد موتك طائل
فآب مضلوه بعين جلية وغودر بالجولان حزم ونائل
فقوله :" آب مضلون " يعني : رجع دافنوه في قبره. ( بعين جلية ) أي : بخبر يقين أنه قد مات. ومن هذا المعنى :" وقالوا أءذا ضللنا في الأرض " ( السجدة : آية ١٠ ) ﴿ وضل عنهم ما كانوا يفترون ﴾ ( الأنعام : آية ٢٤ ) أي : غاب واضمحل. وقول الشاعر :
ألم تسأل فتخبرك الديار عن الحي المضلل أين ساروا
يعني بالحي المضلل : الذين ذهبت بهم الأيام والليالي فماتوا وغابوا.
ويطلق الضلال أيضا في القرآن، وفي لغة العرب على :" الذهاب عن معرفة حقيقة الشيء، فكل من لم يعرف حقيقة شيء تقول العرب :" ضل " وهذا ليس من الضلال في الدين وإنما هو الذهاب عن علم معرفة الشيء. وهذا الإطلاق كثير في القرآن، ومنه على أصح التفسيرات : قوله تعالى :﴿ ووجدك ضالا فهدى ٧ ﴾ ( الضحى : آية ٧ ) أي : ذاهب عما تعلمه الآن من العلوم والأسرار، فهداك إليه بالوحي، لأنه لا يعلم إلا بالوحي. ومنه بهذا المعنى : قول أولاد يعقوب في حق أبيهم :﴿ إنك لفي ضلالك القديم ﴾( يوسف : آية ٩٥ ) ﴿ إن أبانا لفي ضلال مبين ﴾ ( يوسف : آية ٨ ) يعنون : لفي ذهاب عن حقيقة الأمر، حيث فضل ابنين على عشرة بنين، وحيث رجا يوسف أنه حي وهو قد مات، فهو ذاهب عن علم الحقيقة في زعمهم، ومن الضلال بهذا المعنى :﴿ لا يضل ربي ولا ينسى ﴾ ( طه : آية ٢٥ ) أي : لا يخفى عليه علم شيء، ولا تذهب عليه حقيقة شيء، ومنه بهذا المعنى قوله تعالى :﴿ فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما ﴾( البقرة : آية ٢٨٢ )أي : تذهب عن علم حقيقة المشهود به بنسيان ونحوه﴿ فتذكر إحداهما الأخرى ﴾ ومن الضلال بهذا المعنى قول الشاعر :
وتظن سلمى أنني أبغي بها بدلا أراها في الضلال تهيم
يعني بالضلال : عدم معرفتها للحقيقة حيث ظنت أنه يبغي بها بدلا، وهو لا يبغي بها بدلا. هذه معاني الضلال في القرآن وفي لغة العرب. وقوله في هذه الآية الكريمة :" يضلوك " هو من المعنى الأول. أي : يذهبوك عن طريق الصواب إلى طريق الباطل، عن طريق الهدى إلى طريق الجور، وعن طرق الجنة إلى طرق النار.
وهذا معنى قوله :﴿ وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله ﴾( الأنعام : آية ١١٦ ) السبيل في لغة العرب : الطريق. وهي تذكر وتؤنث، فمن تأنيثها في القرآن :﴿ قل هذه سبيلي ﴾( يوسف : آية ١٠٨ ) ولم يقل :" هذا سبيلي ".
ومن تذكيرها في القرآن :﴿ وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا ﴾( الأعرف : آية ١٤٦ ) فهي من الأجناس التي تذكر وتؤنث.
والسبيل : الطريق. وسبيل الله معناه : طريق الله. وأضاف تلك الطريق إلى الله /، لأنه هو الذي شرعها، وبين معالمها، وأمر بسلوكها، ووعد من سلكها خير الدنيا والآخرة. فسبيل الله – التي هي الحق، التي أمر بها وبعث بها أنبياءه – من طاع أكثر من في الأرض أضلوه عنها إلى سبيل الشيطان، وطريق الجور عن الحق. وهذا معنى قوله :﴿ وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله ﴾.
ثم بين ( جل وعلا ) أن أثر أهل الأرض الضالين المضلين لم يكن عندهم مستند علمي في ضلالهم، وإنما هي ظنون وتخمينات، حيث قال ﴿ إن يتبعون إلا الظن{ وإن هم إلا يخرصون ﴾ ( الأنعام : آية ١١٦ )( إن ) هنا نافية بمعنى :( ما )، والمعنى : ما يتبعون شيئا إلا الظن، وماهم إلا يخرصون.
والخرص معناه : الكذب، وأصل الخرص : هو الحزر والتخمين، ومنه : " خرص ما على النخلة فحزره ". لأن الكاذب لا يتحرى في الأمور، بل يخمن ويحزر، ولا يتحرى الحقائق، ومن هنا قيل للكذب خرص ومنه :﴿ قتل الخراصون١٠ ﴾ ) الذاريات : آية ١٠ )أي : لعن الكذابون، لأن الخارص يظن ويحرز، ولا يتحرى ويتحقق.
والظن يطلق في القرآن وفي لغة العربية يطلق إطلاقين :
أحدهما يطلق ( الظن ) على الشك المستوى الطرفين. وكون الظن جل الاعتقاد اصطلاح حادث للأصوليين والفقهاء، أما لغة العرب فتطلق الظن إطلاقين، وهما في القرآن : أحدهما : إطلاق الظن بمعنى الشك، ومنه قوله هنا :﴿ إن يتبعون إلا الظن ﴾ ( النجم آية ٢٨ ) الشك في تقليد آبائهم، وهذا الظن- الذي هو شك- هو المراد في قوله :﴿ إن الظن لا يغني من الحق شيئا ﴾( النجم : آية ٢٨ ) ﴿ وما يتبع أكثرهم إلا ظنا ﴾( يونس : آية ٣٦ ).
الثاني من إطلاق ( الظن ) في القرآن : هو إطلاق الظن مرادا به اليقين، وهو كثير أيضا في القرآن، وفي كلام العرب، فمن إطلاق الظن مرادا به اليقين في القرآن﴿ قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله ﴾( البقرة : آية ٢٤٩ )أي : يوقون أنهم ملاقو الله ﴿ الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم ﴾( البقرة : آية ٤٦ )﴿ إني ظننت أني ملاق حسابية٢٠ ﴾( الحاقة : آية ٢٠ ) أي : أيقنت ذلك﴿ ورءا المجرمون النار فظنوا ﴾أي : أيقنوا ﴿ أنهم مواقعوها ﴾( الكهف : آية ٥٣ ). ومن إطلاق الظن في لغة العرب بمعنى اليقين : قول دريد بن الصمة الجشمي حيث قال :
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج سراتهم في الفارسي المسرد
فقوله :" ظنوا " أي : أيقنوا بألف فارس مدجج بالسلاح. ومنه بهذا المعنى قول عميرة بن طارق :
بأن تغتزوا قومي وأقعد فيكم وأجعل مني الظن غيبا مرجما
يعني : أجعل مني اليقين غيبا مرجما.
ومن إطلاق ( الظن ) في كلام العرب بمعنى( الشك )قول طرفة بن العبد :
وأعلم علما ليس بالظن أنه إذا ذل مولى المرء فهو ذليل
فقوله : " ليس بالظن " : ليس بالشك. هذه إطلاقات( الظن ) في القرآن وفي لغة العرب، والمراد بالظن في الآية : الشك. والمعنى :﴿ وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن )( الأنعام : آية ١١٦ ) أي : ما يتبعون إلا الشك حيث قلدوا آباءهم في أمر جهل لا يعلمون حقيقته{ وإن هم إلا يخرصون ﴾ : يكذبون، لأن الخرص الحزر والتخمين من غير معرفة الحقيقة، ومن هنا أطلق على الكذب، كقوله :﴿ قتل الخراصون١٠ ﴾ ( الذرايات : آية ١٠ )أي : لعن الكذابون. وقوله هنا :﴿ وإن هم إلا يخرصون ﴾( الأنعام : آية ١١٦ ) أي : ما هم إلا يكذبون في قولهم : إن الميتة حلال، لأنها ذبيحة الله، وفي أدعائهم الشركاء والأولاد لله –سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا -. ﴿ وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء ﴾( يونس : آية ٦٦ )أي : لا يتبعون شركاء في نفس الأمر، ولا في الحق، إن يتبعون إلا ظنا.
﴿ إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين١١٧ ﴾( الأنعام : آية ١١٧ ) لما بين الله لنبيه أن أكثر أهل الأرض ضالون مضلون، وأنه إن أطاعهم أضلوه، بين أنه ( جل وعلا ) عالم بمن سبق له الضلال في الأزل، ومن سبق له الهدى في الأزل فيسر كلا منهما لما خلقه له، لأن أصحاب النبي صلى اله عليه وسلم لما سألوه وقالوا : هذه الأعمال التي نسعى لها، وجزاؤها، وما نصير إليه، هل هو أمر مؤتنف، أو أمر قضي، وكتب، وفرغ منه ؟ فلما بين لهم أن الله قدر ما سيكون، قالوا : أفلا نتكل على الكتاب السابق، ونترك العمل ؟ فمن قدر الله له الجنة لابد أن يدخلها، ومن قدر له النار لا بد أن يدخلها ؟ فأخبرهم صلى الله عليه وسلم أن كلا ميسر لما خلق له.
فهو يخلق الخلق ويجبلهم على ما شاء، من خبث وطيب ثم ييسر كلا لما خلقه له. ﴿ وهو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن ﴾( التغابن : آية ٢ ) ﴿ فريق في الجنة وفريق في السعير ﴾( الشورى : آية ٧ ) ﴿ فمنهم شقي وسعيد ﴾( هود : آية ١٠٥ ) فهو ( جل وعلا ) يخلق الناس وييسر كلا لما خلقه له من خير أو شر ﴿ وهو أعلم بالمهتدين ﴾( الأنعام : آية ١١٧ ) الذي سبق له الهدى في الأزل فييسره للهدى. وأعلم بالمعتدي الضال الذي سبق له الضلال في الأزل فييسره للهدي. -والعياذ بالله – كما قال :﴿ فأما من أعطى واتقى٥وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى٧ وأما من بخل واستغنى٨ وكذب بالحسنى ٩فسنيسره للعسرى١٠ ﴾ ( الليل : ا لآيات ٥-١٠ ) ولذا قال هنا :﴿ إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين١١٧ )( أعلم ) هنا ليست في معنى صيغة التفضيل، بل هي هنا بمعنى الوصف، لأن صيغة التفضيل لا بد أن يشرك فيها المفضل والمفضل عليه في نفس المصدر، ثم يكون المفضل أكثر فيه من المفضل عليه، فإذا قلت " زيد أعلم من عمرو " معناه : أنهما مشتركان في العلم إلا أن هذا يفوق هذا فيه، ولا يجوز أن تقول :" زيد أعلم من الحمار "، لأن الحمار لا يشاركه في العلم. وكذلك قوله هنا :{ أعلم من يضل عن سبيله ﴾ لا يشارك الناس ربهم في علم عواقب الناس، وما يؤولون إليه من ضلال وهدى، لأن ذلك لا يعلمه إلا الله، ولذلك صيغة التفضيل تأتي بمعنى الوصف ليست مرادا بها التفضيل، كقولهم : " الناقص والأشج أعدلا بني أمية " أي : هما العادلان منهم. وهذا موجود في كلام العرب، ومنه قول الفرزدق :
إن الذي رفع السماء بني لنا بيتا دعائمة أعز وأطول
يعني : دعائمه عزيزة طويلة. وقول الشنفرى :
وإن مدت الأيدي إلى الزاد لم أكن بأعجلهم إذ أجشع القوم أعجل
يعني : لم أكن أنا هو العجل منهم. وكذلك هنا :﴿ أعلم من يضل ﴾ هو العالم من يضل عن سبيله.
واختلف علماء العربية في إعراب ( من ) في قوله هنا :﴿ من يضل عن سبيله ﴾ فعلماء الكوفة يقولون : إنها مفعول به ل( أعلم )، لأنهم يجيزون عمل صيغة التفضيل في نصبها للمفعول، هذا قول الكوفيين. وخالفهم عامة نحاة البصرة زاعمين أن صيغة التفضيل لا يمكن أن تنصب المفعول، ولذا اختلفوا في إعراب بيت العباس بن مرداس السلى المشهور حيث قال :
فلم أر مثل الحي حيا مصبحا ولا مثلنا يوم التقينا فوارسا
أكر وأحمى للحقيقة منهم وأضرب منا بالسيوف القوانس
فالكوفيون يقولون :( القوانس ) مفعول به ل( أضرب ) التي هي صيغة التفضيل. والبصريون يقولون : لا يمكن أن تنصب بصيغة التفضيل فهي منصوبة بفعل محذوف دلت عليه صيغة التفضيل، أي : نضرب القوانس. وعلى قول البصريين فيكون قوله : " من يضل " منصوب بفعل محذوف دلت عليه صيغة التفضيل، أي : يعلم من ضل عن سبيله. وقال قوم : هو منصوب بنزع الخافض، لأن الأصل :( هو أعلم بمن ضل عن سبيله )فحذف الباء ونصب بنزع الخافض، قالوا : ويدل لهذا قوله :﴿ هو أعلم بالمعتدين ﴾ فجاء بالباء في قوله :﴿ بالمعتدين ﴾ وقوله في أخريات النحل :﴿ إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله ﴾( النحل : آية ١٢٥ ) فجاء بالباء. وهذا الإعراب ضعفه الكوفيون، لأن النصب بنزع الخافض لا يكون إلا بعامل يعمل، وصيغة التفضيل لا تعمل في المفعول ونحوه. هذا قول العلماء.
والذي يظهر لنا في القواعد العربية : أن هذه المسألة الصواب فيها مع الكوفيين لا مع البصريين، وأن صيغة التفضيل تنصب المفعول، وأنه لا مانع من ذلك، لأن صيغة التفضيل مستندة على مصدر، فقوله : " وأضرب من السيوف القوانس " في معنى قولك : يزيد ضربنا القوانس على غيرنا. وهذا لا ما نع من عمله، فالمصدر الكامن فيها، القياس أن يعمل عمل فعله. وخالف البصريون في ذلك، وهذا معنى كلام علماء العربية في قوله :﴿ إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله ﴾ ( الأنعام : آية ١١٧ )عالم بالضالين في الأزل وهو ميسرهم لما خلقهم له، وعالم بالمهتدين في الأزل وميسرهم لما خلقهم له، وهو يعلم أنك يانبي الله ومن اتبعك من المهتدين، وأن من خالفك من الضالين المعتدين. وهذا معنى قوله :﴿ إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين١١٧ ﴾.
﴿ فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين ١١٨ ﴾ هذه الآيات كلها إلى قوله :﴿ وإن أطعتموهم إنكم لمشركون ﴾( الأنعام : الآيتان ١١٨-١٢٠ ) نزلت لما قال الكفار للنبي صلى الله عليه وسلم : كيف تأكلون ما قتلتموه بأيديكم، ولا تأكلون ما قتله الله ؟ يعنون الميتة. ذبيحتكم التي قتلتموها تأكلونها، وتقولون : هي طيبة حلال مستلذة، والتي قتلها الله تقولون : هي ميتة جيفة قذرة حرام، فأنتم إذن أحسن من الله ! فجاءت هذه الآيات ردا عليهم. فقال لهم الله ( جل وعلا ) :﴿ فكلوا مما ذكر اسم الله عليه ﴾( الأنعام : آية ١١٨ )لأن المسلمين إذا أرادوا أن يذبحوا سموا الله ( جل وعلا ) على ذبائحهم عند الذبح، وكذلك إذا أرادوا أن يذبحوا سموا عند ذلك، وإذا أرادوا أن يرسلوا جوارحهم كالكلاب، والصقور، والبازة، أرسلوها وسموا الله على الصيد عند إرسالها، ولذا قال لهم الله :﴿ فكلوا مما ذكر اسم الله عليه ﴾.
قوله :﴿ فكلوا ﴾أصله ( اؤكلوا ) لأنه مضارع ( أكل ) ومعروفة في لغة العرب ثلاثة أفعال من فعل الأمر هي الأمر من ( أخذ )، و( أمر )، و( أكل ) كلها بجوز حذف الهمزة في الأمر، فتقول في( أخذ ) في أمرها :( خذ )، وفي أمر ( أكل ) : كل، وفي أمر ( أمر ) مر. أما ( أمر ) إذا كان قبلها حرف عطف فالأجود ردها إلى الأصل، كقوله :﴿ وأمر أهلك بالصلواة ﴾( طه : آية ١٣٢ ) واما إذا كان ليس قبلها حرف عطف فإن الهمزة تحذف، كقوله :﴿ مره فليراجعها ﴾، " مروهم بالصلاة لسبع، واضربوهم لعشر ". أما ( أخذ ) و( أكل ) فالأجود فيهما حذف الهمزة في الأمر، تقول : " خذ " ولا تقول : " أخذ " وتقول : " كل " ولا تقول :" ء أكل " وردها إلى أصلهما لغة قليلة.
والأمر في قوله هنا :﴿ فكلوا ﴾ أمر إباحة، وقد تقرر في فن الأصول أن من صيغ ( افعل ) التي تأتي لها : الإباحة. يعني : فكلوا. والفاء هنا مسببة عما قبلها، إن زعموا أن الميتة ذبيحة الله، وأنها خير من ذبيحتكم، ومما ذبحه الكفار وذكروا عليه اسم الأصنام. كما يأتي في قوله :﴿ ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ﴾( الأنعام : آية ١٢١ ) فإنه قابل بين الأمر والنهي، أمر بالأكل مما ذكر اسم الله عليه ﴿ فكلوا مما ذكر اسم الله عليه ﴾ ( الأنعام : آية ١١٨ ) ونهى عن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه في قوله :﴿ ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ﴾
ومعنى ذكر اسم الله عليه : هو أن يسمى على الذبيحة عند الذكاة، أو على العقيرة عند الاصطياد، أو على الجارح إذا أرسل إلى الصيد، كل هذا يسمى الله عليه ويؤكل منه، وسيأتي ذلك في قوله :﴿ ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ﴾ وسنتكلم عليه هناك، وحاصله أن للعلماء فيه ثلاثة مذاهب :
أحدها : أن كل ما ذبحه مسلم ولم يذكر اسم الله عليه، أو صاده ولم يذكر اسم الله عليه، أو أرسل عليه جارحه من كلبه أو صقره أو بازه ولم يسم الله عليه، أنه لا يؤكل، سواء ترك التسمية عمدا أو نسيانا. وهذا قال به طائفة قليلة في الذبيحة، وقال به جماعة في الصيد، وهو رواية قوية عن أحمد بن حنبل. وجمهور العلماء على أنه إن ترك التسمية نسيانا فالذبيحة تؤكل، لأنه ما تركها إلا نسيانا، والنسيان معفو عنه، وإن تركها عمدا فلا تؤكل عند جماهير العلماء، خلافا للإمام الشافعي وعامة أصحابه في مشهور مذهبه أنه إن ترك التسمية وهو مسلم أكلت ذبيحته مطلقا، سواء تركها عمدا أو نسيانا، لأن الشافعي يفسر قوله :﴿ ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ﴾ بما أهل به لغير الله، أما المسلم عنده فذبيحته حلال سواء سمى الله أو لم يسم، سواء تركها عمدا أو نسيانا. وسيأتي تفاصيل هذا في قوله :﴿ ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ﴾.
وقوله هنا :﴿ فكلوا مما ذكر اسم الله عليه ﴾أي : مما ذكيتم وذكرتم اسم الله عليه. والآية على التحقيق في الذكاة، خلافا لبعض العلماء القائل : هي عامة. أي : كل طعام : من خبز، أو لحم، أو غيره، أو فاكهة تسمي الله عليه وأن تأكل منه. وعلى هذا فلا ينبغي للإنسان أن يأكل من شيء كائنا ما كان إلا إذا سمى الله عليه. والتحقيق أنها في الذكاة كما يقتضيه السياق. وهذا معنى قوله :﴿ فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين١١٧ ﴾ هذه( إن )الشرطية هي كثيرة في القرآن وفي السنة، وفيها إشكال معروف كثير، لأنهم يؤمنون قطعا. وقد تقرر في فن المعاني : أن تعليق فعل الشرط بجزاء الشرط بأداة الشرط التي هي ( إن ) لا تكون إلا فيما لا يتحقق وقوع الشرط فيه، فلو قلت لعبدك وهو عارف باللغة العربية :" إن جاءك زيد فأعطه درهما ". هو يعلم أن معنى كلامك : أن زيدا قد يأتي وقد لا يأتي، لأن ( إن ) لا تدل على تحقيق وقوع الشرط، بل قد يقع الشرط فيقع الجزاء، وقد لا يقع الشرط فلا يقع الجزاء. وقوله :﴿ إن كنتم بآياته مؤمنين ﴾يفهم من " إن " الشرطية أنهم قد يكونون مؤمنين وقد يكونون غير مؤمنين، وهم مؤمنون حقا قطعا، فمن هذا جاء الإشكال في ( إن ) هذه، وهذا كثير في القرآن، وكقوله للمؤمنين :﴿ إن كنتم مؤمنين ﴾ وكقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث زيارة القبور :" السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون " وهم لاحقون بهم قطعا يقينا. وكقوله جل وعلا :﴿ لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين ﴾ ( الفتح : آية ٢٧ ) وهم دخلوه قطعا بلا شك، فما وجه التعليق بأداة الشرط التي هي ( إن ) التي تدل على أن جزاء الشرط قد يقع، وقد لا يقع، مع أنها أمور محققة ؟ هذا وجه الإشكال. وهذه مسألة عربية معروفة، وهي من مساءل العربية الكبار المشهورة التي اختلف فيها علماء البصرة وعلماء الكوفة من النحاة، فذهب عامة علماء الكوفة إلى أن ( إن ) في جميع هذه الآيات بمعنى ( إذ ) التعليلية، قالوا : وتأتي ( إن ) بمعنى ( إذ ) التعليلية، وعليه ﴿ فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم ﴾ أي : لأجل كونكم مؤمنين بآياتي. قال الكوفيون : ومن هذا المعنى ﴿ فذكر إن نفعت الذكرى٩ ﴾( الأعلى : آية ٩ ) قالوا معناها : إذ نفعت الذكرى ذكر، لأجل أن الذكرى تنفع. قالوا : وهذا أسلوب عربي معروف. واستدلوا من أشعار العرب بقول الفرزدق- وهو عربي فصيح قح :
أتغضب إن أذنا قتيبة حزتا جهارا ولم تغضب لقتل ابن خازم
قالوا :( إن ) هنا بمعنى ( إذ )، أتغضب إذ حزت أذنا قتيبة. هذا قول البصريين، ولذا كله أجروه على سنن واحد. " وإنا إن شاء الله } قالوا : وإنا لاحقون إن شاء الله ذلك. ﴿ لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله ﴾ ( الفتح : آية ٢٧ )أي : إن شاء الله ذلك. وهذا قول الكوفيين. وأما البصريو ن ففصلوا بين الأمرين، قالوا : أما قوله :﴿ إن كنتم مؤمنين ﴾فهي أداة شرط جيء بها للتهييج والإلهاب، لأن من عادة العرب أن يهيجوا المخاطب، تقول للرجل :" إن كنت ابن الكرام، ابن فلان وفلان، فافعل لي كذا ". وليس مقصودك تعليق الشرط بالجزاء، بل مقصودك تهييجه وبعثه للفعل، وهذا أسلوب معروف في كلام العرب، ومنه قول أحد أولاد الخنساء الشاعرة :
لست لخنساء ولا للأخزم ولا لعمرو ذي السناء الأقدم
إن لم أرد في الجيش جيش الأعجمي ماض على الهول خضم خضرم
يقول : لست لأبي ولا لأمي إن لم أرد في الجيش. ليس يعني التعليق، وإنما يعني تحريض نفسه.
قالوا : قوله :﴿ وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ﴾ وقوله :﴿ لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله ﴾( الفتح : آية ٢٧ ) قال علماء البصرة : المراد بالتقييد بالمشيئة في هذا الأمر المحقق : هو تعليم الخلق ألا يتكلموا عن أمر مستقبل إلا معلقين بمشيئة الله. وإنما جيء بالأمر المحقق لتوكيد ذلك، وأنه لا ينبغي للإنسان أن يتحدث عن مستقبل أنه سيقع أو سيفعل إلا إذا قيد بمشيئة الله، كما قال الله لنبيه :﴿ ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا٢٣ إلا أن شاء الله ﴾ ( الكهف : الآيتان ٢٣، ٢٤ ) وهذا معنى قوله :﴿ إن كنتم بآياته مؤمنين ﴾.
و( الآيتان )جمع تصحيح مؤنث، مفرد ( آية )، وقد بينا أن الآية أصلها عند المحققين من علماء التصريف أن أصلها ( أيية ) اجتمع فيها موجبا إعلال، فوقع الإعلال في الحرف الأول، على خلاف القاعدة الكثيرة المطردة، وهو جائز، فلو جرى على الأغلب لكان الإعلال في الحرف الأخير. وقيل ( أياه ) ولكن الإعلال وقع هنا في الحرف الأول، فصار ( آية ) ووزنه بالميزان الصرفي :( فعلة ) وحروفه : فاؤه همزة، وعينه ولامه كلاهما ياء. هذا الأصل وزنها وصرفها.
وهي في لغة العرب – قد بينا مرارا - أن( الآية ) في لغة العرب تطلق إطلاقين، وذكرنا هذا كثيرا في هذه الدروس.
أما الإطلاق الأول المشهور : فهو إطلاق الآية بمعنى ( العلامة ). تقول العرب :" الآية بيني وبينك ". أي : العلامة بيني وبينك كذا. ومنه قوله تعالى :﴿ إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت ﴾( البقرة : آية ٢٤٨ ) أي : علامة ملكه أن يأتيكم التابوت. وقد جاء في شعر نابغة ذبيان – وهو عربي جاهلي- تفسير الآيات بالعلامات حيث قال :
توهمت آيات لها فعرفتها لستة أعوام وذا العام سابع
ثم بين أن مراده بالآيات :( علامات الدار ) فقال :
رماد ككحل العين لأيا أبينه ونؤي كجذم الحوض أثلم خاشع
إطلاق الآية الآخر في لغة العرب : تطلق العرب الآية على ( الجماعة ) وهو إطلاق عربي مشهور، يقولون : " جاء القوم بآياتهم ". أي : بجماعاتهم، ومنه بهذا المعنى : قول برج بن مسهر الطائي :
خرجنا من النقبين لا حي مثلنا بآيتنا نزجي اللقاح المطافيلا
أي : بجماعتنا.
إذا عرفتم أن ( الآية ) تطلق في لغة العرب : إطلاقين، تطلق بمعنى ( العلامة )، وتطلق بمعنى ( الجماعة )، فاعلموا أن ( الآية ) في القرآن تطلق أيضا إطلاقين :
تطلق على الآية الكونية القدرية، وهي : ما نصبه الله كونا وقدرا دالا على ربوبيته، وأنه المعبود وحده، وهي بهذا المعنى من الآية بمعنى ( العلامة ) قولا واحدا. كقوله :﴿ إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب ١٩٠ ﴾ ( آل عمران : آية ١٩٠ )أي : علامات واضحات لأصحاب العقول على أن لهذا الكون مدبرا هو رب كل شيء وهو المعبود وحده جل وعلا.
الإطلاق الثاني في القرآن : إطلاق الآية بمعنى الآية الشرعية الدينية، كآيات هذا القرآن العظيم، كقوله :﴿ رسول يتلوا عليكم آيات الله ﴾ ( الطلاق : آية ١١ ) فهي بهذا من الآية الشرعية الدينية قيل : من الآية بمعنى :( الجماعة )، لأن الآية جمعت كلمات من القرآن اشتملت على بعض معانيه ومقاصده.
وقال بعض العلماء : الآية الشرعية الدينية أيضا من الآية بمعنى ( العلامة )، لأنها علامات على صدق من جاء بها، لما فيها من الإعجاز، ولأن لها علامات : مبادىء، ومقاطع تدل على انتهاء هذا السورة وابتداء هذه.
وهذا معنى قوله :﴿ إن كنتم بآياته مؤمنين ﴾.
والإيمان في لغة العرب : التصديق، ومنه قوله :﴿ وما أنت بمؤمن لنا ﴾( يوسف : آية ١٧ ).
والإيمان في اصطلاح الشرع في مذهب أهل السنة والجماعة : هو التصديق الكامل من جميع الجهات، أعني : تصديق القلب بالاعتقاد، واللسان بالاقرار، والجوارح بالعمل، ولذا ثبت في الصحيح أن :﴿ أن الإيمان بضع وستون ﴾ وفي بعض الروايات : " بضع وسبعون شعبة، أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناه إماطة الأذى عن الطريق " فسمى إماطة الأذى عن الطريق ( إيمانا ). وفي الحديث الصحيح :" من صام رمضان إيمانا واحتسابا " فسمى الص
﴿ وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بالمعتدين١١٩ ﴾( الأنعام : آية ١١٩ ).
وفي هذه الآية الكريمة قراءات سبعيات : قرأ نافع وحفص عن عاصم :﴿ وقد فصل لكم ما حرم عليم ﴾ ببناء الفعلين للفاعل.
وقرأ ابن عامر، وابن كثير، وأبو عمرو قرؤوا :{ وقد فصل لكم ما
وقرأ هذا شعبة عن عاصم، وحمزة، والكسائي :﴿ وقد فصل لكم ما حرم عليكم ﴾ ببناء " فصل " للفاعل، و " حرم " للمفعول. فتحصل أنها ثلاث قراءات سبعيات :﴿ فصل لكم ما حرم ﴾ لنافع، وحفص، ﴿ فصل لكم ما حرم ﴾ لابن عامر، وابن كثير، وأبي عمرو، ﴿ فصل لكم ما حرم ﴾ لحمزة، والكسائي، وشعبة عن عاصم.
والجمهور – غير الكوفيين- قرؤوا :﴿ وإن كثيرا ليضلون ﴾ بفتح الياء. وقرأ الكوفيون الثلاثة- أعني : عاصما، وحمزة، والكسائي- ﴿ وإن كثيرا ليضلون ﴾بضم الياء ﴿ بأهوائهم بغير علم ﴾. هذه القراءات في الآية.
ومعنى الآية الكريمة ﴿ وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه ﴾ ( ما ) استفهامية، أي شيء ثبت لكم يمنعكم من أن تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه ؟ والاستفهام هنا بمعنى الإنكار، أي : لا يوجد شيء يمنعكم من ذلك. وقال بعض العلماء : هو بمعنى التقرير بأن يقولوا : ليس هنالك شيء يمنعنا مما ذكر اسم الله عليه. وهذا معنى قوله :﴿ وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه ﴾ أي شيء ثبت لكم يمنعكم من ذلك ؟ والمعنى : لا شيء يمنع من ذلك، لأنكم ذكيتموه، وذكرتم اسم الله عليه، وفعلتم فيه الطريقة الشرعية التي أمرتم بها، فأي مانع يثبت يمنعكم من أكل هذا ؟ والمعنى : لا مانع منه، وإنما جاء المانع في الأكل مما لم يذكر اسم الله عليه. وهذا معنى قوله :﴿ وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه ﴾أي : والحال أنه حلال كماء المزن، لأن الله فصل لكم ما حرم عليكم، أي : أوضحه وبينه كماء المزن، لأن الله فصل لكم ما حرم عليكم، أي : أوضحه وبينه غاية البيان و الإيضاح، ولم يجعل مما حرم عليكم ما ذبحتموه، وذكيتموه، وسميتم الله عليه، فإذا كان الله فصل لكم ما حرمه عليكم بالتفصيل والبيان، ولم يكن منه أنه حرم ما ذكيتموه، وذكرتم اسم الله عليه، فما لكم ألا تأكلوا منه ؟ لا مانع من الأكل منه.
واعلم أن هذه الآية غلط فيها كثير من المفسرين فقالوا :
﴿ فصل لكم ما حرم عليكم ﴾ فصله بقوله :﴿ حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير ﴾
( المائدة : آية ٣ ) وهذا غلط لا شك فيه، لأن هذه الآية التي نفسرها من سورة الأنعام، وهي من القرآن النازل بمكة بإجماع العلماء، إلا آيات معروفة منها، كقوله :﴿ قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ﴾الآيات( الأنعام : آية ١٥١ )وقوله :﴿ وما قدروا الله حق قدره ﴾( الأنعام : آية ٩١ ) ﴿ ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ﴾( الأنعام : آية ٩٣ ) فهي آيات معدودة مدنية في سورة مكية، أما جل سورة الأنعام فهي نازلة في مكة قبل الهجرة بلا خلاف بين العلماء، وهي نازلة قبل النحل بلا شك، والنحل من القرآن المكي على التحقيق، وقد دل القرآن في موضعين أن سورة الأنعام نزلت قبل سورة النحل :
أحدهما : قوله في النحل :﴿ وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل ﴾( النحل : آية ١١٨ ) فهذا المحرم المقصوص من قبل المحال عليه هو النازل في سورة الأنعام بالإجماع في قوله :﴿ وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومها ﴾( الأنعام : آية ١٤٦.
الثاني : أن الله قال في سورة الأنعام هذه :﴿ سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ﴾ ( الأنعام : آية ١٤٨ ) فبين أنهم سيقولونه في المستقبل بدلالة حرف التنفيس الذي هو السين، ثم بين في سورة النحل أن ذلك الموعود به في المستقبل وقع وثبت في سورة النحل حيث قال :﴿ وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء ﴾( النحل : آية ٣٥ ) فدل على أنها بعدها، وإذا كانت سورة الأنعام التي فيها :﴿ وقد فصل لكم ما حرم عليكم ﴾ ( الأنعام : آية ١١ ) نازلة في مكة قبل الهجرة، وقوله :﴿ حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير ﴾ ( المائدة : آية ٣ ) من سورة المائدة نزلت بعد الهجرة في المدينة في آخر ما نزل من القرآن، لأن المائدة من آخر ما نزل من سورة القرآن، وفيها :﴿ اليوم أكملت لكم دينكم ﴾ ( المائدة : آية٣ ) المؤذنة بكمال الدين، وقرب انقضاء الوحي، كيف يكون هذا التفصيل المذكور في الأنعام في سورة المائدة والمائدة لم تنزل إلا بعد ذلك بسنين كثيرة ؟ والتحقيق أن قوله هنا :﴿ وقد فصل لكم ما حرم عليكم ﴾( الأنعام : آية ١١٩ ) أنه هو التفصيل المذكور في سورة الأنعام، لأنها نزلت جملة واحدة، وهذا مما فصله في الأنعام، وهو قوله :﴿ قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به ﴾ ( الأنعام : آية ١٤٥ ) فقوله :﴿ لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا ﴾( الأنعام : آية ١٤٥ ) هذا التفصيل للحرام يدل على أن ما ذبحتم، وذكيتموه، وذكرتم اسم الله عليه أنه ليس من المحرم الذي فصل لكم، وهذا معنى قوله :﴿ وقد فصل لكم ما حرم عليكم ﴾ ( ما ) : موصولة، وهي في محل المفعول، والعائد إلى الصلة المحذوف، والتقدير : وقد فصل لكم ما حرمه عليكم. وعلى قراءة ( حرم ) فالرابط هو ضمير النائب المحذوف أي : ما حرم هو عليكم وهذا معنى قوله :﴿ وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه ﴾ جرت العادة في القرآن أن الله ذكر هذه المحرمات الأكل، أنه يستثني منها حالة الضرورة كما قال :﴿ إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله ﴾ ثم قال :﴿ فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه ﴾( البقرة : آية ١٧٣ ) وقال في النحل :﴿ إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم ١١٥ ﴾ ( النحل : آية ١١٥ ).
وقال :﴿ فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم ﴾ ( المائدة : آية ٣ )
وقال هنا :﴿ وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه ﴾يعني : أن هذا الذي حرمه عليكم، وفصل تحريمه، إذا ألجأكم الضرورة إليه فهو حلال عليكم للضرورة، لأن الضرورة تبيح المحظورات.
ومن يأت الأمور على اضطرار فليس كمثل آتيها اختيارا
فالميتة حرام بالإجماع، ولكن الإنسان إذا خاف على نفسه الهلاك ولم يجد إلا الميتة أو الخنزير أو ما جرى ذلك فإنه يباح له ذلك الحرام. وقد قدمنا في سورة البقرة كلام العلماء في الضرورة التي تبيح الميتة، وفي القدر الذي يباح منها هل هو ما يسد الرمق ويمسك الحياة، أو هو الشبع والتزود حتى يجد غيرها كما قدمناه موضحا.
وقوله :﴿ إلا ما اضطررتم إليه ﴾ يدل على أن هذه المحرمات التي فصلها الله، وبين أنها حرام إذا اضطر الإنسان إليها، وألجأته الضرورة إليها كانت حلالا عليه، لأن نبينا صلى الله عليه وسلم بعث بالحنيفية السمحة، وسهل له فيها كل التسهيل، ورفعت عنا على لسانه الآصار – وهي أثقال التكليف التي كانت على من قبلنا- وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة وابن عباس رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ :﴿ ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ﴾ الآيات ( البقرة : آية ٢٨٦ ). أن الله قال : " قد فعلت " في رواية ابن عباس عند مسلم، وأن الله قال : " نعم " في رواية أبي هريرة عند مسلم.
ولذا كان من علامات نبوته صلى الله عليه وسلم أنه يحل الطيبات، ويحرم الخبائث، ويضع الآصار، والأغلال، وأثقال التكاليف التي كانت على من قبلنا، لأن ذلك من صفاته في الكتب المتقدمة كما يأتي في سورة الأعراف في قوله :﴿ النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم ﴾( الأعراف : آية ١٥٧ ) والآصار والأغلال هي : الأثقال التي كانت شديدة في التكليف على من قبلنا، لأن من قبلنا ربما إذا أذنب الواحد منهم ذنبا لا تقبل توبته حتى يقدم نفسه للموت والقتل، كما قدمناه في البقرة في قوله :﴿ فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم ﴾( البقرة : آية٥٤ ) وما كانوا تصح صلاتهم إلا في المساجد، ولا تصح صلاتهم إلا بالماء، ولا طهارتهم من الخبث إلا بالماء، فهي آصار، وتكليفات، وأثقال شديدة رفعها الله عنا على لسان نبينا صلى الله عليه وسلم حيث قال :﴿ وما جعل عليكم في الدين من حرج ﴾( الحج : آية ٧٨ ) ﴿ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ﴾( البقرة : آية ٢٨٦ ) ﴿ فاتقوا الله ما استطعتم ﴾( التغابن : آية ١٦ ) ﴿ يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ﴾( البقرة : آية ١٨٥ ) ونحو ذلك من الآيات، ولذا قال هنا :﴿ إلا ما اضطررتم إليه ﴾والطاء في قوله :﴿ ما اضطررتم إليه ﴾ أصلها مبدلة من تاء الافتعال، وقد تقرر من فن العربية : أن تاء الافتعال إذا جاء بعد واحد من حروف الإطباق أنه يبدل طاء، والحقيقة أصل مادة هذا الفعل( ضرر ). ففاء المادة : ضاد، وعينها : راء، ولامها : راء. فدخلها تاء الافتعال، كما تقول في قرب : اقترب، وفي كسب : اكتسب، وفي ضرر، اضتر فأبدلت تاء الافتعال طاء، ثم بني الفعل للمفعول وركب للنائب، فقيل : اضطررتم... والمعنى : أن هذه المحرمات التي فصلها الله لنا أن محل تحريمها علينا ما لم تلجئنا إليها ضرورة، فإن ألجأتنا إليها ضرورة فهي حلال لنا.
وقد قدمنا كلام العلماء في قوله﴿ غير باغ ولا عاد ﴾ فالإنسان إذا خاف على نفسه من الهلاك جاز له أكل الميتة إن لم يجد غيرها، وجاز له أكل الخنزير إن لم يجد غيره، وجاز له ما حرم عليه للضرورة. وأعظم الأشياء هو كلمة الكفر إذا ألجيء الإنسان، وأكره عليها، وقالها إكراها، وقلبه مطمئن بالإيمان لا يؤاخذه الله بها، لأن الله قال كما يأتي في سورة النحل :﴿ إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ﴾ الآية( النحل ) : آية ١٠٦ ) وهذا معنى قوله :﴿ إلا ما اضطررتم إليه ﴾.
وقوله :﴿ وإن كثيرا ليضلون ﴾ قرأه القراء :﴿ وإن كثيرا ليضلون ﴾ وقرأه الكوفيون :﴿ وإن كثيرا ليضلون ﴾ فعلى قراءة " يضلون " فالفعل لازم لا مفعول له. والمعنى : أنهم يضلون ويذهبون عن طريق الحق. وعلى قراءة الكوفيين " يضلون " فهو متعد للمفعول، والمفعول محذوف. والمعنى : كثيرا من الناس ليضلون الناس عن طريق الحق بأهوائهم. وحذف المفعول إذا دل المقام عليه سائغ أسلوب عربي معروف مشهور.
" بأهوائهم " الأهواء : جمع الهوى، وأصل الهوى :( هوي ) بواو وياء، اجتمع فيه موجبا إعلال فوقع الإعلال في الحرف الأخير الذي هو الياء على القاعدة الأغلبية.
وأصل ( الهوى ) في لغة العرب ميل النفس، وكثيرا ما يطلق على ميلها إلى ما لاينبغي، ورما أطلق نادرا على ميلها لما ينبغي.
والهمزة في قوله :{ " بأهوائهم " مبدلة من الياء، لأن مادة ( الهوى ) مما بسميه الصرفيون " اللفيف المقرون " معتل الواو واللام. والقاعدة المقررة في التصريف : أن كل واو أو ياء تطرفت بعد ألف زائدة وجب إبدالها همزة، فهمزة(
﴿ وذروا ظاهر الإثم وباطنه إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون١٢٠ ﴾( الأنعام : آية ١٢٠ ) ﴿ وذروا ظاهر الإثم وباطنه ﴾( ذروا ) معناه : اتركوا. و( ذر ) بمعنى : اترك. وهذا الفعل – الذي هو ( ذر ) – لم يستعمل منه في لغة العرب إلا الأمر والمضارع، تقول العرب :( ذر ) بمعنى : اترك، و( يذر ) بمعنى : يترك. ولم يستعمل منه ماضي، ولا مصدر، ولا اسم فاعل، ولا اسم مفعول، ولا صيغة تفضيل، لم يستعمل منه إلا المضارع والأمر خاصة. ومعنى ( ذر ) : اترك. ومعنى :﴿ وذروا ظاهر الإثم ﴾ اتركوا ظاهر الإثم. وعلماء العربية يقولون : إن الحرف المحذوف في مكان الفاء إنها واو، وإن أصل( ذر ) أن أصل ماضيه ( وذر ) بواو، إلا أن هذه الواو لم تثبت، لأن ( فعل ) إذا كانت مفتوحة العين تحذف فاؤها في المضارع والأمر، ويحذف في المصدر، وذلك إنما ينقاس في ( فعل يفعل ) وأما ( وذر يذر ) فليس مقيسا فيها، إلا أن العرب لم تنطق بالواو ولم تنطق بها إلا في المضارع والأمر. وعلى كل حال ف( ذروا ) معناه : اتركوا.
وقوله :﴿ ظاهر الإثم وباطنه ﴾ الظاهر : كل ما ظهر وعلن. والباطن : كل ما خفى واستتر، والإثم : أصله ضد الطاعة، فكل ما هو خلاف التقوى والطاعة من الوقوع في المعاصي يسمى :( إثما ). وقد قال الشاعر -وصدق- :
إني رأيت الأمر أعجبه تقوى الإله وشره الإثم
فقابل الإثم بالتقوى.
واعلموا أن ظاهر الإثم وباطنه فيهما أقوال[... ] ( في هذا الموضع انقطع التسجيل. وللوقوف على الأقوال المشار إليها راجع : القرطبي ( ٧/٧٤ )، ابن كثير ( ٢/١٦٨ ) وقد تم استدراك النقص هنا من كلام الشيخ رحمه الله عند تفسير الآية ( ٣٣ )من سورة الأعراف ).
[ وأنها كلها ترجع إلى شيء واحد، فقال بعضهم : الفواحش الظاهرة هي الزنى مع البغايا ذوات الرايات، والفواحش الباطنة هي الزنى مع الخليلات والصديقات التي يزنى بهن سرا في البيوت. قول بعض العلماء : ما ظهر من الفواحش : كنكاح زوجات الآباء، كما تقدم في قوله :} ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا ٢٢ }( النساء : آية ٢٢ ) وأن ما بطن منها هو الزنى.
والتحقيق : أن الآية الكريمة تشمل جميع المعاصي والذنوب، لا تفعلوا شيئا منها ظاهرا علنا بين الناس، ولا شيئا باطنا في خفية لا يطلع عليه أحد، وهو يشمل جميع التفسيرات الواردة عن الصحابة وغيرهم.
والفواحش ظاهرها وباطنها تشمل جميع الذنوب، إلا أن الله عطف بعضها على بعض عطف خاص على عام. وقد تقرر في المعاني : أن عطف الخاص على العام، وعطف العام على الخاص، إن كان في كل منهما في الخاصة أهمية لا تكون في غيره من أفراد العام أنه سائغ، وأنه من الإطناب المقبول لأجل الخصوصية التي في الخاص. فكأن تميزه بخصوصيته جعله كأنه قسم آخر من أقسام العام فحسن عطفه عليه. وهنا عطف الخاص على العام لأن المعطوفات الآتية كلها داخلة في الفواحش ما ظهر منها وما بطن.
وقول من قال : إن ﴿ ما ظهر ﴾ هو الزنى مع البغايا ذوات الرايات، و " ما بطن " الزنى مع الخليلات الصديقات التي يزنى بهن سرا. أو : إن " ما ظهر منها " هو نكاح زوجات الآباء، وأن " وما بطن " هو الزنى إلى غير ذلك من الأقوال كله يشمله التفسير العام الذي هو الصواب، وإن الله نهى عن ارتكاب جميع المحرمات سواء كان ذلك ظاهرا أمام الناس، أو خفية لا يطلع عليه الناس ].
يقول الله جل وعلا :﴿ ويوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم ١٢٨ ﴾( الأنعام : آية ١٢٨ ).
قرأ هذا الحرف عامة القراء ما عدا حفصا عن عاصم :﴿ وويوم نحشرهم جميعا ﴾ وقرأه حفص – وحده- عن عاصام :﴿ ويوم يحشرهم جميعا ﴾ بالياء التحتية.
أما قراءة الجمهور ففاعل الفعل ضمير محذوف تقديره : نحن. أي : نحشرهم نحن. وصيغة الجمع في ( نحشرهم ) وفي ( نحن ) للتعظيم، كقوله :﴿ إنا نحن نزلنا الذكر ﴾ ( الحجر : آية ٩ ) ﴿ إنا نحن نحيي الموتى ﴾ ( يس : آية ١٢ ) وهو جل وعلا واحد إلا أنه يعبر عن نفسه بصيغة الجمع، لأجل التعظيم والتجليل. وعلى قراءة حفص :﴿ ويوم يحشرهم ﴾ فالفاعل ضمير يرجع إلى الله. ( يحشرهم ) هو. أي : الله.
وقوله هنا :﴿ ويوم نحشرهم ﴾ قال بعض العلماء : هو منصوب ب ( اذكر ) مقدرا، أي : اذكر يوم نحشرهم. وقال بعض العلماء : هو منصوب بالقول المحذوف الذي دل عليه المقام. والمعنى :﴿ ويوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن ﴾، أي : يا معشر الجن قد استكثرتم. نقول ذلك القول :﴿ يوم يحشرهم جميعا ﴾
والحشر في لغة العرب معناه : الجمع. وكل شيء قد جمعته فقد حشرته. ومنه قول قوم فرعون لفرعون :﴿ وأرسل في المدائن حاشرين ﴾( الأعراف : آية ١١١ ) ﴿ وابعث في المدائن حاشرين ﴾ ( الشعراء : آية ٣٦ ) أي : قوما العرب : الجمع، لأن الله يوم القيامة يجمع الأولين والآخرين، إنسهم وجنهم، في صعيد واحد، يسمعهم الداعي وينفذهم البصر، كما قال :﴿ يوم يجمعكم ليوم الجمع ﴾( التغابن : آية ٩ ) ﴿ الله لا إله إلا هو ليجمعنكم ﴾ ( النساء : آية ٨٧ ) ﴿ قل إن الأولين والآخرين ٤٩ لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم ٥٠ ﴾ ( الواقعة : الآيتان ٤٩-٥٠ ) ﴿ فحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا ﴾ ( الكهف : آية ٤٧ ) والمعنى : يقول الله جل وعلا﴿ يا معشر الجن قد استكثرتم ﴾( الأنعام : آية ١٢٨ ) يقول ذلك القول حين يحشرهم جميعا.
وقد بين الله في هذه السورة الكريمة – سورة الأنعام – انه يحشر جميع المخلوقات مما يدب على رجلين، ومما يطير في السماء، وسائر المخلوقات كما تقدم في قوله :﴿ وما من دابة في الأرض ولا طير يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون ٣٨ ﴾ ( الأنعام : آية ٣٨ ) فبين أنه يحشر كل دابة وكل طير – جل وعلا -، والذي يجازى من هذا إنما هو الثقلان : الإنس والجن.
وقوله :﴿ نحشرهم ﴾ : نجمعهم جميعا يوم القيامة بعد أن نخرجهم من قبورهم أحياء يمشون بعد أن كانوا عظاما رميما.
وقوله :﴿ جميعا ﴾ يعرب حالا، ومعناه : التوكيد، بدليل أنك لو حذفت التنوين وأضفته لكان توكيدا محضا، لو قلت : " نحشرهم حميعهم "، لكان توكيدا، فلما حذفت الإضافة أعرب حالا ومعناه التوكيد. أي : نحشرهم في حال كونهم مجتمعين فلم يشذ منهم أحد.
﴿ ثم نقول ﴾ فسره بعض العلماء :( يقال ). قال : لأن الله ليس هو القائل، لأن كفرة الإنس لا يكلمهم الله، لأن الله يقول عن الكفار :﴿ ولا يكلمهم ﴾.
والتحقيق : أن الله يكلم الكفار كلام توبيخ وتقريع، الذي هو من جنس العذاب، وكقوله لما قالوا :﴿ أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون ١٠٧ قال اخسئوا فيها ولا تكلمون ١٠٨ ﴾( المؤمنون : الآيتان ١٠٧-١٠٨ } لأن هذا التكليم لهم ليس تكليم تشريف، إنما هو تكليم توبيخ وتقريع، وهو من أنواع عذابه لهم، ولا مانع منه.
يقول الله ذلك اليوم مخاطبا عتاة الشياطين الذين أضلوا بني آدم حتى أغووهم وأدخلوهم النار :﴿ يا معشر الجن ﴾ المعشر في لغة العرب : الجماعة، كل جماعة تسمى معشرا، ويجمع على : معاشر. كان بعضهم يقول : لأن بعضهم يعاشر بعضا. وقد يطلق المعشر على الجماعة المتفقين في نحلة أو ناحية وإن لم يعاشر بعضهم بعضا، كما في الحديث :" إنا معاشر الأنبياء لا نورث " والنبي صلى الله عليه وسلم لم يدرك منهم أحدا، ولم يعاشر منهم أحدا.
والحاصل أن المعشر : الجماعة، أي : يا جماعة الجن.
وأصل ( الجن ) مشتق من الاجتنان، وكل ما يخفى عنك ويجتن فهو مجنون عنك، أي : مغيب. ومنه : جن عليه الليل، وقيل للجنين :( جنين ) لأن بطن أمه يجنن، ومنه سمى المجنون ( مجنونا ) لغيبوبة عقله. وبعضهم قال : تسمى العرب الملائكة ( جنا )، لأنهم محجوبون عن الأبصار، وهو أحد التفسيرين في قوله :﴿ وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ﴾( الصافات : آية ١٥٨ ) والعرب تعرف ذلك، ومنه قول الأعشى يمدح سليمان :
وسخر من جن الملائك تسعة قياما لديه يعملون بلا أجر.
والمراد بالجن هنا : عتاتهم وشياطينهم الذين كانوا يضلون الآدميين ويغوونهم في دار الدنيا، يقول الله لهم يوم القيامة :﴿ يامعشر الجن " أعني : يا جماعة الشياطين{ قد استكثرتم من الإنس ﴾ والمعنى :﴿ قد استكثرتم من الإنس ﴾ أكثرتم من إغوائهم وإضلالهم - والعياذ بالله – حتى أضللتم منهم أعدادا طائلة وجبلا كثيرا ضخما، كما يأتي في قوله :﴿ ولقد أضل منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون ٦٢ ﴾( يس : آية ٦٢ ).
وهذه الآيات يبينها الله لنا في دار الدنيا لنحذر من أن تكون الشياطين تستهوينا وتضلنا لتدخلنا النار، وقد بين القرآن أن هذا العدد الكثير من الإنس الذي أضلتهم شياطين الجن الذين قال الله فيهم :﴿ يامعشر الجن قد استكثرتم من الإنس ﴾( الأنعام : آية ١٢٨ ) أن منهم الذين يتبعون تشريع الشيطان، ويحيدون عن تشريع الله فيتبعون ما نظمه الشيطان من النظم على ألسنة أوليائه، صرح القرآن بأن هؤلاء داخلون في هذا الاستكثار وما أكثرهم، لأن الله يقول في السورة الكريمة – وكل سورة من القرآن كريمة- أعني سورة يس :﴿ ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان ﴾ ( يس : آية ٦٠ ) ومعنى عبادتهم للشيطان ليست أنهم سجدوا للشيطان، ولا ركعوا للشيطان، ولا صاموا للشيطان، ولا حجوا للشيطان، وإنما عبادتهم للشيطان : هي اتباعهم ما شرعه من النظم على ألسنة أوليائه، كما قدمنا في قوله :﴿ وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم ﴾ ثم قال :﴿ وإن أطعمتموهم إنكم لمشركون ﴾ ( الأنعام : آية ١٢١ ) فالله – مثلا – يقول : إن الميتة حرام ﴿ ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ﴾( الأنعام : آية ١٢١ ) فالميتة حرام ﴿ إنما حرم عليكم الميتة ﴾( البقرة : آية ١٧٣ ) هذا من تشريع الله الذي شرعه على لسان نبيه. فيأتي الشيطان فيشرع نظاما آخر غير هذا ويقول : ما قتله الله بيده الكريمة بسكين من ذهب أحل وأكرم مما قتله الإنسان بيده ؟ فالميتة ذبيحة الله، وهي أحل من ذبيحة الناس ! فهذا تشريع إبليس على ألسنة أولياء إبليس، فصرح الله بأن من اتبع تشريع إبليس وقال : بأن الميتة حلال : أنه مشرك الله، وهو قوله :﴿ وإن أطعمتموهم إنكم لمشركون ﴾ ( الأنعام : آية١٢١ ) وهذا الشرك بالله هو عبادة الشيطان التي نهى الله عنها في ( يس ) في قوله :﴿ ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان ﴾ وليس المراد بعبادته أنهم يسجدون له ويركعون، لا، وإنما بطاعته فيما شرع، واتباعه في نظمه وقوانينه، ثم بين أن الذين يتبعون ذلك من هذا الاستكثار المذكور في ( الأنعام ) حيث قال في ( يس ) :﴿ ولقد أضل منكم جبلا كثيرا ﴾ أي : ومنهم الذين عبدوه باتباع نظامه وشرعه وقانونه ﴿ أفلم تكونوا تعقلون ﴾ فتتركون تشريع خالق السموات والأرض إلى عبادة الشيطان باتباع نظامه وقانونه، ثم بين مصير هؤلاء فقال :﴿ هذه جهنم التي كنتم توعدون ٦٣ أصلوها اليوم بما كنتم تكفرون ٦٤ اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون ٦٥ ﴾( يس : الآيات ٦٠-٦٢-٦٥ ) هؤلاء عابدي الشيطان باتباع تشريعه، وشرع الشيطان، وقانون الشيطان الذي شرعه من عبادة الأوثان، ومعاصاة الرسل. فليعلم كل إنسان أن للشيطان مذهبا وقانونا وشرعا وضعه على ألسنة أوليائه من مردة الإنس، ولخالق السماوات والأرض نظاما وشرعا : نورا منزلا من السماء شرعه على ألسنة أوليائه إلى تشريع الشيطان الذي شرعه على ألسنة أو ليائه داخلون في قوله :﴿ يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس ﴾ ( الأنعام : آية ١٢٨ ) وداخلون في قوله :﴿ ولقد أضل منكم جبلا أفلم تكونوا تعقلون٦٢ ﴾ ( يس : آية ٦٢ ) سواء سموا ذلك قانونا، أو سموه نظاما، أو تشريعا، لأن خالق السماوات والأرض لا يقبل أن يعبد إلا بما شرع، لأن ملك الملوك لا يقبل غير شرعه وتشريعه، كما قال :﴿ أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ﴾ ( الشورى : آية ٢١ ) ﴿ قل أرئيتم ما أنزل لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل الله أذن لكم أم على الله تفترون ٥٩ ﴾ ( يونس : آية ٥٩ ) فالحلال ما أحله الله، والحرام ما حرمه الله، والدين ما شرعه الله، وكل من يتبع نظاما شيطانيا وضعه الشيطان على مردة شياطين الإنس من أوليائه فإنه يوم القيامة صائر إلى النار، داخل في قوله :﴿ ولقد أضل منكم جبلا كثيرا ﴾ ( يس : آية ٦٢ ) وفي قوله :﴿ يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس ﴾ ( الأنعام : آية ١٢٨ ).
والنبي صلى الله عليه وسلم قد بين هذا لعدي بن حاتم رضي الله عنه، فإنه لما قال له : يا نبي الله : قول الله تعالى :﴿ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا ﴾ ( التوبة : آية ٣١ ) كيف اتخذوهم أرباب ؟ قال : ألم يحلوا لهم ما حرم الله، ويحرموا عليهم ما أحل الله فاتبعوهم ؟ قال : بلى. قال : بذلك اتخذوهم أربابا. وذلك هو عبادتهم إياهم. فكل تشريع غير تشريع الله، وكل نظام غير نظام السماء الذي يمشي عليه كأنه يقول : تشريع خالق السموات والأرض أفضل منه تشريع غيره ! فهو ينزل درجة الخالق – جل وعلا، سبحانه عن ذلك وتعالى علوا كبيرا – إلى أن أوضاعا ملفقة من أذهان الكفرة الفجرة الخنازير أنه أحسن من تشريع الله ! ولذا يعدلون عن نور القرآن والسنة النبوية الصحيحة إلى ما يسمونه قانونا ونظاما وضعه أبناء الكلاب القردة الخنازير من اجتهاداتهم، تارة يحرمون ما أحل الله صريحا، ويحللون ما حرم الله صريحا، يزعمون أن الهدى في هذا ! هذا – والعياذ بالله – من أشنع الكفر والطغيان على الله، والتمرد على نظام السماء، واحتقار الخالق – جل وعلا - حيث كان تشريعه لا ينفع، وتشريع غيره من سفلة الخنازير أحسن من تشريعه ! وهذا إنما وقع – والعياذ بالله – بسبب طمس البصيرة، لأن نور البصيرة إذا طمس من قلب الإنسان صار يرى الباطل حقا، والحق باطلا، والحسن قبيحا، والقبيح حسنا، والذين يعدلون عن نور الله يطلبون النور في تشريع المخلوقين هم في الحقيقة – بالكلمة التي هي بمعنى الحرف الصحيح – هم خفافيش البصائر، أعماهم ضوء القرآن فصاروا يطلبون الضياء في ظلام أفكار الكفرة الفجرة.
خفافيش أعماها النهار بضوئه ووافقها قطع من الليل مظلم
مثل النهار يزيد أبصار الورى نورا ويعمى أعين الخفاش
والله ( جل وعلا ) يقول :﴿ يكاد البرق يخطف أبصارهم ﴾ ( البقرة : آية ٢٠ ) وفي بعض التفسيرات : تكاد أنوار القرآن تعمي بقية بصائرهم، والله يقول :﴿ قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى ﴾ ( فصلت : آية ٤٤ ) لأن النور الساطع الشديد يقضي على البصر الأعشى الضعيف، وقد بين الله تعالى في السورة الكريمة – سورة الرعد – أن الذي لا يعلم أحقية القرآن، ومنزلته، وكون
يقول الله جل وعلا :﴿ وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون١٢٩ ﴾( الأنعام : الآية ١٢٩ ).
في هذه الآية الكريمة أوجه متقاربة من التفسير معروفة عند العلماء، لا يكذب بعضها بعضا، بل كلها حق. قوله جل وعلا :﴿ وكذلك ﴾ أي : كما سلطنا شياطين الجن على شياطين الإنس حتى أغووهم واستكثروا منهم فأدخلوهم النار، كما تقدم في قوله :﴿ يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس ﴾( الأنعام : الآية ١٢٨ )﴿ وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا ﴾ في قوله :﴿ نولي ﴾ أوجه معروفة :
أحدها : أن معنى : نوليهم عليهم أي : نوليهم ولاية تسليط، أي : نسلط بعض الظالمين على بعض فيضره ويؤذيه، ثم ننتقم من الجميع.
وما من يد إلا يد الله فوقها ولا ظالم إلا سيبلى بظالم
فكما سلطنا شياطين الجن على شياطين الإنس فأغووهم وأضروهم حتى أدخلوهم النار، كذلك نسلط بعض الظالمين عل بعض، فننتقم من بعض الظالمين ببعضهم، ثم ننتقم من الجميع. واختار أبو جعفر بن جرير الطبري أن معنى :﴿ نولي بعض الظالمين بعضا ﴾ أي : نجعل بعضهم له بقوله :﴿ وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتعنا بعضنا ببعض ﴾( الأنعام : الآية ١٢٨ ).
وكان قتادة يقول :﴿ نولي بعض الظالمين ﴾ أي : نتابعهم طائفة بعد طائفة في النار يوم القيامة، كما سيأتي في قوله لما ذكر الجن والإنس :﴿ قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار كلما دخلت أمة لعنت أختها ﴾( الأعراف : الآية ٣٨ ) وكونه يوم القيامة بالموالاة في النار ليس بأظهرها، بل إنما هو تسليط بعضهم على بعض، فيؤذيه انتقاما من الله من بعض الظلمة ببعض، أو يولى بعضهم لبعض، لأن الكافرين بعضهم أولياء بعض، كما صرحوا به لله في قوله :﴿ وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض ﴾( الأنعام : الآية ١٢٨ ) وجاء في حديث أخرجه ابن عساكر :" من سلط ظالما أعانه الله عليه " وهو من تولية بعض الظالمين على بعض. والحديث فيه غرابة معروفة ( غريب ). ولما سمع عبد الله بن الزبير بقتل عبد الملك للأشدق ذكر هذه الآية :﴿ وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا ﴾ يريد أن معناه عنده : أن الله ينتقم من بعض الظالمين ببعض. هذا جل أقوال العلماء في معنى :﴿ نولي ﴾.
وأما ( الظالمين ) فهو جمع تصحيح للظالم، والظالم : اسم فاعل الظلم، والظلم في لغة العرب : هو وضع الشيء في غير موضعه، وكل من وضع شيئا في غير موضعه فهو ظالم في لغة العرب، ومنه يقولون للذي يضرب لبنه قبل أن يروب : هذا ظالم، لأنه وضع الضرب في غير موضعه، لأن ضربه قبل أن يروب يضيع زبده، وفي لغز الحريري في مقاماته : هل يجوز أن يكون القاضي ظالما ؟ قال : نعم إذا كان عالما. يعني كونه ظالما : أنه يضرب لبنه قبل أن يروب. وهذا المعنى مطروق في كلام العرب، ومنه قول الشاعر :
وقائلة : ظلمت لكم سقائي وهل يخفى على العكد الظليم ؟
( ظلمت لكم سقائي ) تعني : أنها ضربته لهم فشربوه قبل أن يروب. وقوله :
" وهل يخفى على العكد الظليم " العكد : عصب اللسان، لايخفى عليه اللبن المضروب قبل أن يروب من غيره. ومنه بهذا المعنى قول الآخر في سقاء له فيه لبن :
وصاحب صدق لم تربني شكاته ظلمت وفي ظلمي له عامدا أجر
يعني أنه سقى الناس به قبل أن يروب. وفي هذا الضرب هو يريد الأجر، لأنه صدقة منه، ولذا قال :
وصاحب صدق لم تربني شكاته ظلمت، وفي ظلمي له عامدا أجر
ومن هنا كانت العرب تسمي الأرض التي لم تحفر، وليست محلا للحفر، إذا حفرت :( مظلومة ) لأن الحفر وضع في غير موضعه. ومنه على التحقيق قول نابغة ذبيان :
إلا الأواري لأيا ما أبينها والنؤي كالحوض بالمظلومة الجلد
أي : بالأرض التي ليست محلا لأن يحفر فيها، وحفر النؤي فيها حفر في غير محله، لأنها في فلاة من الأرض. هذا هو التحقيق، دون قول من قال : إن الأرض المظلومة : التي تأخر عنها المطر. هذا ليس بالصحيح في معنى البيت. ومنه تقول العرب للتراب الذي يخرج من القبر إذا حفر، تقول له : ظليم، ( فعيل ) بمعنى ( مفعول ) أي : مظلوم، لأن العادة أن القبور إنما تحفر في المحال التي ليس من شأنها أن يحفر فيها سابقا، وهذا معروف في كلام العرب، ومنه قول الشاعر يذكر ميتا :
فأصبح في غبراء بعد إشاحة من العيش، مردود عليها ظليمها.
يعني ب ( غبراء ومردود عليها ظليمها ) أي : الأرض التي أخرجت منها عند الحفر ردت عليها عند الدفن. هذا أصل الظلم في لغة العرب، هو وضع الشيء في غير موضعه. وقد جاء في القرآن في موضع واحد معناه : النقص، وهو تنقص منه شيئا. إذا عرفتم أن الظلم في لغة العرب هو وضع الشيء في غير موضعه، اعلموا أن وضع الشيء في غير موضعه على نوعين :
أحدهما : أن يكون بالغا في غاية القباحة والشناعة.
والثاني : أن يكون دون ذلك.
أما وضع الشيء في غير موضعه البالغ غاية الشناعة : فهو وضع العبادة في غير خالق السماوات والأرض، فمن عبد غير الذي خلقه ورزقه فقد وضع الأمر في غير موضعه، فهو أعظم الظالمين، وأخبث الواضعين للشيء في غير موضعه ولهذا المعنى كثر في القرآن العظيم إطلاق الظلم مرادا به الكفر، وهو أخبث أنواعه، ومنه قوله :﴿ أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا ﴾ ( الكهف : الآية ٥٠ ) وقوله :﴿ والكافرون هم الظالمون ﴾( البقرة : الآية ٢٥٤ ) وقوله :﴿ ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين١٠٦ ﴾( يونس : الآية ١٠٦ ) وقال عن العبد الحكيم لقمان :﴿ يابني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ﴾ ( لقمان : الآية ١٣ ) وقد ثبت في صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فسر قوله في هذه السورة الكريمة –سورة الأنعام- ﴿ الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم ﴾( الأنعام : الآية ٨٢ ) قٌال : معناه لم يلبسوا إيمانهم بشرك.
النوع الثاني من أنواع الظلم : هو وضع الطاعة في غير موضعها، والمعصية في غير معصيتها بما لا يؤدي إلى الكفر، كأن يزين لك الشيطان أن تعمل عملا يخالف الشرع فتطيع الشيطان، وتعصي الله، وأنت عالم أنك عاص مجرم، وأنك فعلت قبيحا، فهذا ظلم دون ظلم، ووضع للطاعة في غير موضعها، وليس بكفر، وهو ظلم دون ظلم. ومنه بهذا المعنى : قوله تعالى في سورة فاطر لما نوه بشأن القرآن العظيم، وأنه أعظم فضل أعطيه الخلق، وأن جميع الأمة التي أعطي لها هي قد اصطفاها الله، وأن كلها في الجنة، قال :﴿ ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا ﴾( فاطر : الآية ٣٢ ) وبين أن هذا النور المنزل لا يعطيه الله، ثم قال :﴿ فمنهم ظالم لنفسه ﴾وهذا ظلم دون ظلم، كالذي يعصي تارة ويطيع أخرى، من الذين قال الله فيهم :﴿ خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم ﴾( التوبة : الآية ١٠٢ ) والعلماء يقولون : " عسى " من الله واجبة. ﴿ ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ﴾ثم قال :﴿ ذلك هو الفضل الكبير ﴾ أي : إيراثنا الكتاب إياهم عن نبيهم هو الفضل العظيم عليهم منا، فلذا علمنا الله أن نحمده على هذا الفضل العظيم في قوله في أول سورة الكهف :﴿ الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا١ ﴾( الكهف : الآية ١ ) أي : لم يجعل فيه اعوجاجا ما، لا في معانيه، ولا في ألفاظه، ولا في أحكامه، ولا في أخباره، أخباره كلها حق، صدق، وأحكامه كلها عدل، وهو في غاية الاستقامة، لم يجعل الله فيه اعوجاجا﴿ قيما ﴾ أي : مستقيما في غاية الاستقامة. ثم لما ذكر هذه الأصناف الثلاثة التي انقسمت إليها أمة الكتاب الذي أورثت إياه بدأ بالظالم لنفسه في قوله :﴿ فمنهم ظالم لنفسه ﴾ ثم وعد الجميع بوعده الصادق الذي لا يخلف دخول الجنة، قال﴿ جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير٣٣ وقالو الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور٣٤ الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب٣٥ ﴾( فاطر : الآيات ٣٣-٣٥ ) فهذا الظالم المعدود ممن أورثوا الكتاب، الموعود بالجنة، ظلمه : ظلم دون ظلم. وأصح التفسيرات في ( الظالم )، و( المقتصد )، و( السابق )، فيما يظهر :
أن( الظالم ) هو من يطيع الشيطان مرة، ويعصيه أخرى، ويطيع الله مرة، وربما عصاه، من الذين قال الله فيهم :﴿ خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ﴾( التوبة : الآية ١٠٢ ).
والمقتصد : هو الذي يمتثل أوامر الله، ويجتنب نواهي الله، ولكنه لا يتقرب بزيادة الطاعات الغير الواجبة.
وأما السابق بالخيرات : فهو الذي يجتنب محارم الله، ويمتثل أوامر الله، ويستكثر من القربات والطاعات الغير الواجبة مرضاة لله.
وفي آية فاطر هذه- التي ذكرناها استطرادا- فيها سؤال معروف، وهو أن يقال : كيف بدأ الله بالظالم في هذه الآية، وقدمه على المقتصد، وأخره على السابق بالخيرات، مع أنهما خير من الظالم، وخيرهم السابق بالخيرات، ثم المقتصد، ثم الظالم. فلم قدم هذا الذي غيره أفضل منه ؟
وللعلماء عن هذا التقديم أجوبة معروفة، منها :
أن هذا إظهار كرم من الله يستدعيهم بالقرآن بفضل آثاره على الأمة التي أورثت إياه، فبدأ بالظالم لئلا يقنط، وأخر السابق بالخيرات لئلا يعجب بعمله فيحبط.
وقال بعض العلماء : أكثر أهل الجنة الخطاؤون الذين يظلمون أنفسهم، يخالفون مرة وينيبون إلى الله. وأما السابقون بالخير فقليل جدا، والمقتصدون أقل من الظالمين، ولذا لما سئلت عائشة رضي الله عنها عن معنى هذه الآية قالت : المقتصد الذي ربما خاف، مثلي ومثلك- جعلت نفسها من الظالمين – فقدم الظالمين لأنفسهم لأنهم أكثر أهل الجنة، والأكثرية لها شأن، فعلم من هذه الآية أن الظلم قد يكون ظلما دون ظلم، والظلم معناه : وضع الشيء في غير موضعه، تارة يعظم فيكون كفرا، وتارة يكون ظلما دون ظلم فلا يكون كفرا. وهذا معنى قوله :﴿ وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا ﴾ أي : نولي البعض منهم البعض الآخر، كما بينا.
﴿ وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون١٢٩ ﴾ وهذه التولية بينهم هي : تسليط بعضهم على بعض ليؤذيه ويضره، أو : جعل بعضهم وليا للآخر أو قرينا له، كلها بسبب ما كانوا يعملونه، فعلى أنها تسليط فهي انتقام منه لعمله السيء، وعلى أنها ولاية بعضهم البعض فهي بسبب اتحادهم بالعمل الخبيث والعمل الشيء، لأن الخبيث ولي الخبيث، والكافر ولي الكافر، والناس يوم القيامة أزواج، أي : أصناف، كل خبيث يحشر مع من يطابقه من الخبثاء. كما سيأتي في قوله :﴿ احشروا الذين ظلموا وأزواجهم ﴾( الصافات : الآية ٢٢ ) أي : أصنافهم وأشكالهم الملائمين لهم الخبيث – والعياذ بالله-. وهذا معنى قوله :﴿ وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون١٢٩ ﴾( الأنعام : الآية ١٢٩ ).
﴿ يا معشر الجن والإنس ألم يأتيكم رسل منكم يقصون عليكم آيتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين١٣٠ ﴾( الأنعام : الآية ١٣٠ ).
هنا يقال لهم يوم القيامة، يقال لأهل النار يوم القيامة من الجن والإنس :﴿ يا معشر الجن والإنس ﴾ يا جماعة الجن والإنس، الذين طغيتم وكفرتم في دار الدنيا حتى دخلتم النار، وقيل لكم :﴿ النار مثواكم خالدين فيها ﴾( الأنعام : الآية ١٢٨ ) ألم تصلكم في دار الدنيا وقت إمكان الفرصة رسل ينذرونكم من هذا اليوم، ويحذرونكم من العذاب أنتم فيه، ويبينون لكم طرق النجاة من هذا قبل أن تضيع الفرصة، فتكونوا قد حذرتم هذا العذاب، ونجوتم مع من نجى ؟ وهذا معنى قوله :﴿ يا معشر الجن والإنس ألم يأتيكم رسل منكم ﴾. قال بعض علماء التفسير : كل فعل مضارع في القرآن مجزوم ب( لم ) إذا تقدمته همزة الاستفهام، فيه وجهان معروفان من التفسير في جميع القرآن :
أحدهما : أن الاستفهام استفهام تقرير، وهو الظاهر في هذه الآية. ومعنى استفهام التقرير : هو الاستفهام الذي لا يريد المخاطب به أن يفهم الشيء، وإنما يريد أن يحمل المخاطب على أن يقر ويقول : بلى، ويقر بالحقيقة، كقول جرير لعبد الملك بن مروان :
ألستم خير من ركب المطايا وأندى العالمين بطون راح
مقصود جرير أن يقول عبد الملك : بلى، فيقول : هذه[ منزلتكم ] ( في هذا الموضع كلمة غير واضحة، وما بين المعقوفتين [ ] زيادة يتم بها الكلام ) ما دمتم بهذه المثابة، هذا قصده.
الثاني : أن يختلج المضارعة ماضوية، وينقلب النفي إثباتا، فيصير المضارع المنفي ب( لم ) معناه الماضي المثبت، كقوله :﴿ ألم نشرح لك صدرك ١ ﴾( الانشراح : الآية ١ ) معناه : شرحنا لك صدرك، وقوله :﴿ ألم نجعل لك عينين٨ ﴾( البلد : الآية ٨ ) جعلنا له عينين، ﴿ ألم يأتيكم رسل منكم ﴾ أتاكم رسل منكم. وطالب العلم يعرف أن انقلاب المضارعة ماضوية أنه هنا واضح لا إشكال فيه، لأن لفظة ( لم ) حرف قلب، تقلب المضارع من معنى الاستقبال إلى معنى الماضي. وهذا معروف، كقولك :" لم يأت زيد " بمعنى : ما جاء زيد في الماضي. وهذا معروف، فقلب المضارع ماضويا ظاهر، ولكن قلب النفي إثباتا هو الذي يشكل على طالب العلم، وإيضاحه على هذا التفسير : أن همزة الاستنكار المتقدمة على حرف( لم ) أصلها حرف إنكار، فهو مشتمل على معنى النفي الصريح في ( لم ) فينفيه، ونفي النفي إثبات، ويرجع النفي إلى إثبات، والمضارعة إلى الماضوية. ومعنى القولين واحد.
ومعنى :﴿ ألم يأتكم ﴾ يجئكم في دار الدنيا رسل منكم. الرسل : جمع الرسول، والرسول : بمعنى ( مفعل ) والمراد بهم هنا : من أرسله الله، فالرسول- طبعا- يكون من الإنس، ومن الملائكة، كما سيأتي في قوله :﴿ الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس ﴾( الحج : الآية ٧٥ ) أما الجن فسنذكر الخلاف فيهم – الآن- المعروف عند العلماء، فالرسل : جمع رسول، وهو( فعول ) بمعنى( مفعل ) أي : مرسل، وأصله مصدر، وإتيان المصادر على ( فعول ) قليل جدا، كالرسول، فأصله من معنى الرسالة، وكالقبول، والولوع، وكون الرسول أصله مصدر فيه فوائد، تفيد في التفسير، لأن أصل الرسول مصدر، تقول العرب :" أرسلته رسولا " أي : رسالة. و " ما أرسلته برسول " أي : برسالة : فأصله : مصدر، ومنه قول الشاعر :
لقد كذب الواشون ما فهت عندهم بقول ولا أرسلتهم برسول
أي : برسالة. والمصدر إذا نعت به – بأن أجري مجرى الوصف- جاز إفراده، وربما جاز جمعه وتثنيته نظرا إلى وصفيته العارضة. وتارة ينظر إلى أصله وهو المصدر، فلا يجمع ولا يثنى، وتارة ينظر إلى ما عرض له من الوصفية فيجمع ويثنى. وبهذا التقرير يزول الإشكال في قوله عن موسى وهارون في الشعراء :﴿ إنا رسول رب العالمين ﴾( الشعراء : الآية ١٦ ) وفي طه :﴿ إنا رسولا ربك ﴾( طه : الآية ٤٧ ) فثنى في آية، وأفرد في أخرى، وهما رجلان : موسى وهارون، فإفراد الرسول نظرا إلى أصله وهو المصدر، وتثنيته في قولهم :﴿ إنا رسولا ﴾ نظرا إلى الوصفية العارضة له، ولذلك جمع الرسل هنا في قوله :﴿ ألم يأتكم رسل ﴾ وفي قوله :﴿ تلك الرسل ﴾ ( البقرة : الآية ٢٥٣ ) فيجوز إطلاق الرسول مرادا به الجمع أيضا، كما أريد به الاثنان، لكن إطلاق الرسول مرادا به الجمع ما جاء به القرآن، وإنما جاء في كلام العرب بكثرة، ومنه قول أبي ذؤيب الهذلي في رائيته المشهورة :
ألكني إليها وخير الر سول أعلمهم بنواحي الخبر
فرد على الرسول ضمير الجمع، لأن أصله مصدر.
وقوله :﴿ ألم يأتيكم رسل منكم ﴾ ظاهر قوله :﴿ منكم ﴾ أن من الإنس رسلا ومن الجن رسلا، ، هذا هو المتبادر من الآية، ولأجل هذا الظاهر تمسك قوم قليلون بأن الله بعث من الجن رسلا إلى الجن. وزعم بعضهم أنه ما أرسل للجن منهم إلا رسولا واحدا، واسمه يوسف. والذي عليه جماهير العلماء، خلفا وسلفا، أن الرسل جميعهم إنما هم من الإنس، وإنما قال :﴿ رسل منكم ﴾ لمجموع الإنس والجن، نظرا إلى أن العرب تطلق المجموع وتريد بعضه. أي : من مجموعكم الصادق بالإنس دون الجن. وهو كثير في القرآن، وفي كلام العرب، فمنه في القرآن قوله تعالى :﴿ ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا١٥ وجعل القمر فيهن نورا ﴾( نوح : الآيتان ١٥-١٦ ) أي : في مجموعهن الصادق بواحدة منها. وأظهر الآيات الدالة عليه في القرآن قراءة حمزة، والكسائي :﴿ ولا تقتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقتلوكم فيه فإن قتلوكم فاقتلوهم ﴾( البقرة : الآية ١٩١ ) لأن المراد هنا : بأنه لا يصح ان تقول :" فإن قتلوكم ومتم وخرجتم من الدنيا، فاقتلوهم " ( في هذا الموضع وقع انقطاع في التسجيل. وما بين المعقوفتين[ ] زيادة يتم بها الكلام )[ وعلى هذا المعنى يحمل قول الشاعر :
فإن تقتلونا عند حرة واقم فلسنا على الإسلام أول من قتل ]
هو حي يتكلم، ويقول :" فإن تقتلونا " يعني : تقتلوا بعضا. هذا هو المعروف في كلام العرب، أي : من مجموعكم الصادق بالإنس، بناء على أن الجن لم ترسل منهم رسل.
وجمع بعض العلماء بين القولين فقال : رسل الإنس هم الذين يرسلهم الله بواسطة الملك، ورسل الجن هم الذين ينذرون قومهم بما سمعوا من الأنبياء، فهم رسل الرسل/ ولذا أطلق عليهم( الرسل ) هنا. ويطلق عليهم ( النذر ) كما يأتي في قوله :﴿ وإذا صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين ٢٩ ﴾( الأحقاف : الآية ٢٩ ) فالنذر كأنهم جاؤوهم منذرين مرسلين من النبي صلى الله عليه وسلم وكادوا يكونون عليه لبدا، وأنه دعاهم إلى الإسلام، وعلمهم الدين، وأمرهم ان يبلغوا قومهم. ومن هنا قال جمهور العلماء : الرسل من الإنس، والجن ليسوا برسل[ وإنما يكون لهم نذر ] ( في هذا الموضع كلام غير واضح. وما بين المعقوفتين [ ] زيادة يتم بها الكلام ) إلى قومهم، كما قال :﴿ ولوا إلى قومهم منذرين ﴾.
وقد أجمع جميع المسلمين أن نبينا صلى الله عليه وسلم مرسل إلى الجن والإنس معا، وأنه بلغ الرسالة لمن استطاع أن يبلغه من الجنسين، وأمر كلا منهم أن يبلغ من لقي، وقال :" فليبلغ الشاهد الغائب "، وقد يأتي صريحا في سورة الرحمان لما قرأ على الجن سورة الرحمان، وقال :﴿ يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض ﴾( الرحمن : الآية ٣٣ ) كلما قال :﴿ فبأي آلاء ربكما تكذبان٣٢ ﴾( الرحمان : الآية ٣٢ ) والتثنية للجن والإنس، والجن يقولون : ولا شيء من آلاء ربنا نكذب. وذكر الله كثيرا من قصصهم في سورة الجن، وبين أنهم ما كانوا يظنون أن الله يمكن أحدا أن يفتري عليه، قالوا :﴿ وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا٥ ﴾( الجن : الآية ٥ )وبينوا أن منهم طيبين وخبثاء :﴿ وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قددا١١ ﴾( الجن : الآية ١١ ) وتحصل أن قوله :﴿ ألم يأتكم رسل منكم ﴾ جمهور العلماء على أن الرسل كلهم من الإنس، وأنه أطلق المجموع مرادا بعضه، لا أن الجن رسل أرسلوا إلى قومهم. وخالف بعض قليل من أهل العلم وقالوا : أرسلت للجن رسل منهم لظاهر هذه الآية الكريمة، قالوا : ولأن كون الرسل منهم أدرى بأحوالهم، وأقدر على تبليغهم، وذلك ليس قاطع، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه جن نصيبين تكلم معهم، وخاطبوه في كل ما يفيد، وأباح لهم ما أباح لهم من الزاد، كما هو معروف في الأحاديث الصحيحة، ودعاهم إلى الإسلام.
وهذا معنى قوله :﴿ ألم يأتكم رسل منكم ﴾.
﴿ يقصون عليكم آياتي ﴾ معنى :﴿ يقصون عليكم آياتي ﴾ أي : يقرؤون عليكم آياتي التي أنزلت، ويبينون لكم ما فيها من العقائد، ومن الحلال والحرام، ومما أمرت به وبينت أنه يدخل الجنة، ومما بينت في آياتي أنه سبب لدخول النار- وهي التي أنتم فيها- وحذرت جميعكم على ألسنة الرسل من ذلك الفعل الذي يكون سببا لدخولها.
وقد أجمع جميع العلماء على أن الكفرة من الجن في النار، هذا لا نزاع فيه بين العلماء، والآيات الدالة عليه كثيرة في القرآن العظيم، كقوله جل وعلا :﴿ قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار ﴾( الأعراف : الآية ٣٨ ) فصرح بأن أمما منهم كثيرة في النار في آيات كثيرة وقالو لقومهم : إنهم إن لم يجيبوا داعي الله يعذبهم :﴿ يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم ﴾إلى أن قال :﴿ ويجركم من عذاب أليم ﴾( الأحقاف : الآية ٣١ ) فلا خلاف أن الجن يعذب كافرهم وعاصيهم، كما يعذب كافر الإنس وعاصيهم، وإنما الخلاف المشهور بين العلماء : هل الجن يدخلون الجنة أولا يدخلون الجنة ؟ ؟ وهذا خلاف معروف قديم بين العلماء، ويروى عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله أنه من الطائفة الذين يقولون : لا يدخل الجن الجنة، وأن الجنة لا يدخلها أحد من الجن. وغالب ما استدل به هؤلاء : أن الله جعل جزاءهم هو الإجارة من العذاب فقط، وغفران الذنوب فقط، حيث قال :﴿ أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم ﴾( الأحقاف : الآية ٣١ ) ولم يقل : ويدخلكم الجنة. بخلاف الإنس، فإنه إذا ذكر ثواب الطاعة تذكر الجنة جزاء لها، ولم يذكر الله في القرآن جزاء للجن إلا غفران الذنوب، والإجارة من العذاب الأليم. ومن هنا قال من قال : إن مؤمني الجن لا يدخلون الجنة.
والتحقيق الذي عليه جمهور العلماء : أنهم كما أن كافرهم في النار فمؤمنهم المطيع في الجنة، وقد دلت على هذا بعض ظواهر آيات، ومنها قوله تعالى :﴿ لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان ﴾ ( الرحمان : الآية ٥٦ ) فعلم أن في الجنة جانا يطمثون النساء، ومن أصرح الأدلة في ذلك : قوله تعالى مخاطبا الجن والإنس :﴿ لمن خاف مقام ربه جنتان ٤٦ ﴾( الرحمان : الآية ٤٦ ) ثم قال مبينا دخول الجن والإنس فيه :﴿ فبأي آلاء ربكما تكذبان ٤٧ ﴾( الرحمان : الآية ٤٧ ). فلو لم يكن من الآلاء على الجن دخولهم الجنة لما قال فيهم وفي الإنس معا :﴿ فبأي آلاء ربكما تكذبان ٤٧ ﴾ بعد قوله :﴿ ولمن خاف مقام ربه جنتان٤٦ ﴾ فدل قوله :﴿ فبأي آلاء ربكما تكذبان ٤٧ ﴾الصادق على الجن و الإنس، على أن قوله :﴿ ولمن خاف مقام ربه جنتان٤٧ ﴾أي : للجن والإنس، وهذا هو الأظهر. وهذا معنى قوله :{ يا معشر الجن والإنس ألم يأتيكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذ
يقول الله جل وعلا :﴿ ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون١٣١ ﴾( الأنعام : الآية ١٣١ ).
اختلفوا في موقع ( ذلك ) من الإعراب، فعن سيبويه : أنها تتعلق بمحذوف، جملة- مبتدأ وخبر- أي : الأمر ذلك الذي قصصنا عليكم، وذهب بعضهم إلى أنها في محل نصب، أي : فعلنا ذلك، لأجل ان لم يكن ربك مهلك القرى بظلم. و ( أن ) هنا زعم بعضهم أنها المصدرية الناصبة للمضارع. وزعم بعضهم أنها المخففة من الثقيلة. والمعنى متقارب.
ومعنى الآية الكريمة : ذلك الذي ذكرنا من أنا أرسلنا إلى معاشر الجن والإنس رسلنا في دار الدنيا لينذرهم ويحذروهم حتى شهدوا على أنفسهم ان الرسل بلغتهم في دار الدنيا، وأنهم كانوا كافرين، ذلك الإنذار والإعذار على ألسنة الرسل في دار الدنيا واقع من أجل أن ربك لم يكن ليهلك القرى بظلم، أي : ليهلكها بظلمها بكفرها ومعاصيها. والقول الذي يقول :" ليهلك القرى بظلمه لها قبل أن ينذروها " ليس على الصحيح، وإنما التحقيق أن المعنى : ذلك الإنذار والإعذار على ألسنة الرسل في دار الدنيا، لأجل أن ربك لم يكن ليهلك القرى بظلمها، أي : بكفرها ومعاصيها، والحال : هم غافلون، لم ينبهوا برسول ولا بكتاب. بل لا بد من إزالة الغفلة في دار الدنيا بإرسال الرسول والكتاب.
وهذه الآية الكريمة صرح الله فيها بانه لم يكن ليهلك القرى بظلمها وهي غافلة غير منبهة على ألسنة الرسل، منذرة محذرة على ألسنة الرسل.
فمعنى قوله :﴿ وأهلها غافلون ﴾ أي : غافلون عن حجج الله وتوحيده، لم ينبهوا عليها بإنذار الرسل، بل لا بد من إنذار الرسل. والنفي هنا في قوله :﴿ لم يكن ربك مهلك القرى بظلم ﴾ منصب على الحال، ولأن المنفي هنا إهلاكهم في حال كونهم غافلين، فالنفي منصب على الحال لا على إهلاك القرى، لأن القرى أهلكوا، فالنفي منصب على الحال، ونظيره : وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ٣٨ }( الدخان : الآية ٣٨ ) فالنفي منصب على اللعب الذي هو الحال لا على خلق السماوات والأرض.
وهذه الآية الكريمة تدل على أن الله يعذب قوما لا بهلاك مستأصل في الدنيا، ولا بعذاب في الآخرة، حتى ينذرهم على ألسنة رسله في دار الدنيا، ويكذبوا. والآيات الدالة على هذا المعنى كثيرة، كقوله :﴿ وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ﴾( الإسراء : الآية ١٥ ) فبين( جل وعلا ) أن حكمة إرسال الرسل هي قطع حجة البشر عن خالقهم، حيث قال :﴿ رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ﴾( النساء : الآية ١٦٥ )، وهذه الحجة التي كانت تكون للناس على الله لو لم يرسل الرسل، أوضحها في أخريات ( طه )، وأشار لها في( القصص )، قال في ( طه ) :﴿ ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى١٣٤ ﴾( طه : الآية ١٣٤ ) وقال في ( القصص ) :﴿ ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين٤٧ ﴾ ( القصص : الآية ٤٧ ) فهذه الآيات جاءت آيات تصدقها، أن الله ما عذب أحدا بالنار إلا بعد إنذارهم في دار الدنيا على ألسنة الرسل، ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى في سورة ( الملك ) :﴿ كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير٨ قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير٩ ﴾( الملك : الآيتان ٨-٩ ) وقوله :﴿ كلما ألقي فيها ﴾ إن كلمة ( كلما ) تعم أزمنة الإلقاء كلها، فتعم جميع الملقين من الأفواج في النار، أنهم جاءهم نذير في الدنيا. ونظيرها من الآيات أن الله قسم أهل المحشر في سورة الزمر قال :﴿ وسيق الذين كفروا ﴾ و( الذين ) موصول، وقد تقرر في علم الأصول أن الموصولات من صيغ العموم، لأنها تعم كل ما تشمله صلاتها، قال :﴿ وسيق الذين كفروا ﴾ وظاهر النص أنه شامل لكل من صدق عليه اسم الكافر. ﴿ إلى جهنم زمرا حتى إذا جاءؤها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين ﴾( الزمر : الآية ٧١ ) فمعنى قولهم :( بلى ) أي : قد جاءنا نذير، والله ذكره عنهم في معرض التصديق والتسليم، ونظيره في سورة ( فاطر ) أنه لما قسم الأمة إلى من أورثوا القرآن، وقسمهم إلى الطوائف الثلاثة : مقتصد، وسابق بالخيرات، وظالم، ووعد جميعهم الجنة، لم يبق إلا الكفار، قال في جميعهم :﴿ والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور٣٦ وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير ﴾( فاطر : الآيتان ٣٦-٣٧ ) وقوله :﴿ وجاءكم النذير ﴾ راجع لجميع الذين كفروا، المذكورين في قوله :﴿ والذين كفروا لهم نار جهنم ﴾ ونظيرها من الآيات قوله تعالى :﴿ وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب٤٩ قالوا أولم تك تأتكم رسلكم بالبينات قالوا بلى ﴾ ( غافر : الآيتان ٤٩-٥٠ ) أي : جاءتنا رسلنا بالبينات، والآيات بنحو هذا كثيرة.
وهذه الآيات تدل على أن أهل الفترة معذورون، لأن الله يقول :﴿ ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون١٣١ ﴾( الأنعام : الآية ١٣١ ) ويقول :﴿ وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ﴾( الإسراء : الآية ١٥ ) وتمسك بظاهر هذه الآيات جماعات من أهل العلم.
وذهب جماعات آخرون، إلى أن الكفر وعبادة الأوثان لا يعذر فيه أحد، وأن كل من مات كافرا يعبد الوثن، أنه في النار، وإن لم يأته نذير. واستدلوا بظواهر آيات من كتاب الله، وبأحاديث جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
والحاصل أن هذه المسألة مسألة اصطدمت فيها عقول الفحول، واختلف فيها العلماء، وجاء كل منهم بحجج وأدلة، وسنذكر طرفا من أدلة الجميع، ومناقشة أدلتهم، ثم نذكر ما يرجحه الدليل إن شاء الله تعالى.
أما الذين قالوا : إن من مات في الفترة معذور، فدلالة قوله : الآيات –التي ذكرنا- القرآنية، كقوله :﴿ وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ﴾( الإسراء : الآية ١٥ )﴿ ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون١٣١ ﴾( الأنعام : الآية ١٣١ ) ﴿ رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ﴾( النساء : الآية ١٦٥ )﴿ ولو أنا أهلكنا بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى١٣٤ ﴾( طه : الآية ١٣٤ ) وأن الله بين أنه ما أدخل أحدا النار إلا بعد الإنذار والإعذار في دار الدنيا﴿ كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير٨قالوا بلى ﴾( الملك : الآيتان٨-٩ ) إلى آخر ما ذكرنا من الآيات.
أما الذين قالوا : إن الكفر وعبادة الأوثان لا يعذر فيها أحد، وأن كل من مات كافرا يعبد الأوثان فهو في النار- فاعلموا أولا : أن الفروع كالصيام، والحج، والصلاة، والواجبات، والمحرمات، فهذا محل إجماع بين العلماء أن الله لا يؤاخذ به أحدا إلا بعد إبانة الرسل، وإنما الخلاف في شهادة أن لا إله إلا الله وعبادة الأوثان من دون الله، . هذا محل خلاف العلماء، الذين قالوا : إن كل من مات مشركا بالله يعبد الأصنام أنه في النار، ولو لم يأته نذير- استدلوا بظواهر آيات دلت على ذلك، وبأحاديث، وناقشهم فيه خصماؤهم مناقشات سنلم ببعضها. قالوا : قال الله :﴿ ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما ﴾ ( النساء : الآية ١٨ )
﴿ إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به أولئك لهم عذاب أليم وما لهم من ناصرين٩١ ﴾( آل عمران : الآية ٩١ )﴿ ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوى به الريح في مكان سحيق ﴾( الحج : الآية ٣١ ) ﴿ وإنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ﴾[ المائدة : الاية ٧٢ ] ﴿ قالوا إن الله حرمهما على الكافرين ﴾( الأعراف : الآية ٥٠ ) ﴿ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ﴾( النساء : الآية ٤٨ ) إلى غير ذلك من الآيات.
واستدلوا بأحاديث ثابتة في الصحيح، صرح فيها النبي بتعذيب بعض من مات في الفترة، كما ثبت في صحيح مسلم من حديث أنس بن مالك ( رضي الله عنه ) أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله رجل فقال : أين أبي ؟ قال :" في النار "، فلما ولى الرجل دعاه، فقال :" إن أبي وأباك في النار " فهذا ثابت من لفظ النبي في صحيح مسلم. وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة : أن النبي صلى الله عليه وسلم استأذن ربه أن يزور أمه فأذن له أن يزورها، واستأذنه أن يستغفر لها فلم يؤذن له. وفي بعض رواياته عند مسلم : فزار قبرها فبكى وأبكى، وقال :" فزوروا القبور فإنها تذكر الآخرة ".
وأمثال هذا من الأحاديث الثابة في تعذيب بعض أهل الفترة. وهذا القول : أن كل من مات في الفترة على الإشراك، وعلى دين الآباء، كما قال أبو طالب في آخر كلامه : " إنه على دين الأشياخ " الذين عاشوا في الفترة، وأنزل الله فيه :﴿ إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء ﴾( القصص : الآية ٥٦ ) ولما استغفر له النبي صلى الله عليه وسلم وقال :( لأستغفرن لك ما لم أنه عن ذلك ) واستغفر المسلمون لموتاهم، أنزل الله في ذلك :﴿ ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى ﴾الآية ( براءة : الآية ١١٣ ) ولما قالوا : " لنا في إبراهيم أسوة حسنة، وقد استغفر إبراهيم لأبيه " أنزل الله :﴿ وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له، أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم ١١٤ ﴾ ( التوبة : الآية ١١٤ ) والموعدة التي وعدها إياه : هي المذكورة في سورة ( مريم ) :﴿ قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا٤٦ قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا٤٧ ﴾( مريم : الآيتان ٤٦-٤٧ ) ثم إن الله في سورة الممتحنة استثنى الاستغفار للمشركين من أسوة إبراهيم، حيث قال :﴿ قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم ﴾ ثم استثنى من هذه الأسوة :﴿ إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك ﴾( الممتحنة : الآية ٤ ) فلا أسوة لكم بإبراهيم فيه.
وهذا القول الذي يقول : إن كل من مات مشركا دخل النار، ولو لم يأته نذير، جزم به النووي في شرح مسلم، وحكى عليه القرافي الإجماع في شرح التنقيح في الأصول.
وأجاب من قال بهذا عن الآيات التي ذكرنا من أربعة أوجه :
قال : قوله مثلا :﴿ وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ﴾( الإسراء : الآية ١٥ ) يعني عذاب الدنيا، كما وقع لقوم نوح من الإغراق، وقوم هود من الريح العقيم، وقوم لوط من أن الله رفع أرضهم إلى السماء فجعل عليها سافلها. أما عذاب الآخرة فلم يقصد، وحكى القرطبي وأبو حيان على هذا أن عليه إجماع المفسرين.
الوجه الثاني : قالوا : إن الواضح الذي لا يلتبس على أحد، وهو عبادة الأوثان، لا عذر فيها، لأن عابديها يعلمون في قرارة أنفسهم أنها لا تنفع ولا تضر، وأنها حجارة، ومثل هذا لا يعذر فيه أحد، ولذا لما قال إبراهيم لقومه :﴿ فسئلوهم إن كانوا ينطقون ﴾( الأنبياء : الآية ٦٣ )أجابوه فقالوا :﴿ لقد علمت ما هؤلاء ينطقون ﴾( الأنبياء : الآية ٦٥ ) قالوا : والدليل على أنهم يعلمون أن الأصنام لا تنفع ولا تضر، وأنها جمادات لا يعذر أحد في عبادتها : أنهم إذا نزلت بهم شدائد، أو قامت عليهم كر
﴿ ولكل درجات مما عملوا وما ربك بغافل عما يعملون١٣٢ ﴾( الأنعام : الآية ١٣٢ ).
قرأه عامة القراء، غير ابن عامر :﴿ عما يعملون ﴾ وقرأه ابن عامر ﴿ عما تعملون ﴾ والمعنى واحد.
وقوله ( جل وعلا ) :﴿ ولكل درجات مما عملوا ﴾التنوين : تنوين عوض. أي : ولكل الناس من كافرين ومؤمنين على التحقيق. خلافا لمن خصه بالكافرين. لكل واحد منهم درجات.
والدرجات : جمع الدرجة، وهي المرتبة والمنزلة. أي : لكل عامل مطيع وعاص، لكل واحد من المطيعين والعاصين درجات. أي : منازل ومراتب يستحقونها بأعمالهم، فمنهم من هو بدرجته في أعلى الجنان، ومنهم من هو بأعماله في دركات النار، وقد بين ( جل وعلا ) أن الآخرة يتفاوت أهلها بدرجاتهم، كما في قوله :﴿ وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا ﴾( الإسراء : الآية ٢١ ) وبين أن أهل النار يتفاوتون في دركاتهم قال :﴿ إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ﴾( النساء : الآية ١٤٥ ) وفي القراءة الآخرة :﴿ في الدرك الأسفل من النار ﴾فهم يتفاوتون، ففي أعمال أهل الشر تفاوت، وتتفاوت بها منازلهم في النار. ولأعمال أهل الخير تفاوت، تتفاوت بها منازلهم في الجنة. وهذا معنى قوله :﴿ ولكل درجات مما عملوا ﴾.
والآية فيها موعظة عظيمة، يعني : أيها المخاطبون ما دمتم في دار الدنيا فاعلموا أن الدركات في النار والدرجات في الآخرة إنما تنال بالأعمال في الدنيا، فراقبوا الله واجتهدوا في أن تكون أعمالكم صالحة، لأن تكون درجاتكم ومنازلكم في الجنة عالية. وكذلك يحذر من أن تكونوا في دركات النار –والعياذ بالله- وهذا معنى قوله :﴿ ولكل درجات مما عملوا ﴾.
﴿ وما ربك بغافل عما يعملون ﴾الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، و( ما ) نافية، والباء في قوله﴿ بغافل ﴾ هي لتوكيد النفي، لأن للإسناد الخبري المنفي توكيدا كما للإيجابي توكيدا، فلو قلت مثلا :" زيد قائم ". فهذا ليس فيه توكيد، ولو قلت في الإثبات :" إن زيدا لقائم ". فقد أكدت إثبات قيامه ب( إن ) واللام. ولو قلت :" مازيد بقائم ". فقد أكدت نفي قيامه ب ( الباء )، والباء في النفي تفيد التوكيد الذي تفيده( إن ) في حالة الإثبات. وهي توكيد للنفي، والجار والمجرور في مثل هذا هو مفرد، وليس بشبه جملة، ولذا لا يقدر له الكون ولا الاستقرار، فلا يجرى على قول ابن مالك :
وأخبروا بظرف أو بحرف جر ناوين معنى( كائن ) أو( استقر )
فهذا لا يقدر فيه كون ولا استقرار، لأنه مفرد زيدت به( باء ) للتوكيد، ليس بشبه جملة.
والغفلة هي : الغفلة عن الشيء وخروجه عن الذهن للاشتغال بغيره، فالله لا يغفل عما يعمله الظلمة، فهو( جل وعلا ) لا يغفل عن شيء، ولكنه يمهل ولا يهمل. وقد نهى الله خلقه أن يظنوا به هذه الغفلة، قال :﴿ ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار٤٢ ﴾( إبراهيم : الآية٤٢ ) يعني : على قوله :﴿ وما ربك بغافل عما يعملون ﴾ ( الأنعام : الآية ١٣٢ ) ليس بغافل عما يعملونه من الكفر، فهو مدخره لهم، ومخلدهم به بالنار، ﴿ وما ربك بغافل عما يعملون ﴾ ليس الله غافلا عما تعملون أيها المسلمون من الخير والحسنات، فهو مدخره لكم ومجازيكم عليه، فجميع الأعمال تحفظ عند الله، لا يغفل عن شيء منها، يجازي بها أهلها يوم القيامة، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه. وهذا معنى قوله :﴿ ولكل درجات مما عملوا وما ربك بغافل عما يعملون ١٣٢ ﴾( الأنعام : الآية ١٣٢ ).
﴿ وربك الغني ذو الرحمة ﴾قوله :﴿ وربك ﴾ خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأضاف لفظة الرب إليه إضافة تشريف وتكريم. والرب في لغة العرب : يطلق على عشرة معان : منها : السيد الذي يسوس الناس ويدبر شؤونها، وكل من يسوس بلدا ويدبر شؤونه تقول العرب : هنا ربه. وتقول العرب : فلان رب بني فلان. أي : سيدهم الذي يسوسهم ويدبر شؤونهم. والعرب تقول : ربه يربه. إدا أصلح شؤونه، وساسه، وأصلح أموره. فالفاعل : رب، والمفعول : مربوب. ومن إطلاق العرب الرب على الذي يسوس الأمور ويدبرها : قول علقمة بن عبدة التميمي، قال لرجل ساد قومه :
وكنت امرأ أفضت إليك ربابتي *** وقبلك ربتني فضعت ربوب
أي : سادتني قبلك سادة وساسة، وضيعوني، والآن أفضت إليك ربابتي، فصرت ربي الذي يدبر شؤوني، فلا تضيعني، وتعرفون في السيرة، أن صفوان بن أمية بن خلف كان عدوا للنبي صلى الله عليه وسلم، لأن النبي قتل يوم بدر أباه أمية بن خلف، وقتل أخاه علي بن أمية بن خلف يوم بدر، وقتل عمه أبي بن خلف يوم أحد، وهو من أشد الناس عداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما فتح النبي مكة- صلى الله عليه وسلم- وطلب منه إعارة السلاح، المشهورة الثابتة في الحديث، طلب صفوان النبي صلى الله عليه وسلم أن يعطيه مهلة ينظر فيها في أمره، ويتدبر فيما يفعل، وكان في تلك المهلة أن غزى النبي صلى الله عليه وسلم هوازن- غزوة حنين – المذكورة في القرآن، وكانت الرياسة في ذلك الوقت صارت من دريد بن الصمة إلى مالك بن عوف النصري، وكان دريد شائبا أعمى، وكانت فكرته : أن هوازن يفعلون مثل ما فعله ثقيف، يبقون في ديارهم، ويخرجون النبال والرماح من كوى الحصون، ويحاصرهم القوم فيرامونهم وهم في مقرهم. وأبى عن هذه الفكرة مالك بن عوف النصري سيد هوازن في ذلك اليوم، وقال : إن لم تطيعوني لأتكئن على سيفي ( في قصة حنين المشهورة ). فخرج بهواز٤ن، بنسائهم، وأطفالهم وأموالهم، حتى نزل بهم في مضيق وادي حنين، في طريق النبي صلى الله عليه وسلم، وكان دريد أعمى، فقال : ما لي أسمع رغاء البعير، ونهاق الحمير، وبكاء الصغير ؟ يظن أن الخارجين جيش فقط. فقيل له : خارج مالك بن عوف النصري بالمال، يقول : إن الرجل إذا كان معه أهله وماله وزوجاته لا يفر. فحرك بشفتيه استهزاء برأيه، وقال : إن الرجل إذا انتفخ سحره –أي : رأته – من الخوف لا يلوي على مال ولا ولد. ونزلوا مضيق حنين، وصلى النبي صلى الله عليه وسلم الصبح في غلس من ظلا م الليل، ثم انحدر مع وادي حنين هو وأصحابه، فلم يعلموا بشيء حتى أتوا هوازن، وهم أمامهم في مضيق الوادي، فصبوا عليهم النبال والسهام كأنها مطر تزعزعه الريح، فوقع ما وقع، وقصه الله في سورة براءة :﴿ ويوم حنين إذا أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين ﴾( التوبة : الآية ٢٥ ) وفي ذلك الوقت لم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا أحد عشر رجلا، ونزل عن بغلته ( دلدل )، بغلة لا تصلح لكر ولا لفر، وهو يقول :
" أنا النبي لا كذب *** أنا ابن عبد المطلب "
والشاهد : أنه لما وقع ما وقع بالمسلمين في أول وهلة، وصفوان بن أمية حاضر، ومعه رجل يرافقه، قال ذلك الرجل : بطل الآن سحر محمد ! يعني : أن هوازن غلبوه، وأن قومه انهزموا، وأن ما كان عنده سحر، وأنه بطل. فقال له صفوان – وهو محل الشاهد- : اسكت فض فوك، لئن يربني رجل من قريش أحب إلي من أن يربني رجل من هوازن ! ومعناه : أن يسودني ويسوسني قرشي، ابن عمي، أحب إلي من أن يسوسني واحد من ثقيف، أهل الطائف. فهذا يبين أن معنى ( ربه يربه ) أي : ساده وساسه ودبر أموره، وهو بالنسبة إلى الله ( جل وعلا ) : السيد الذي يدبر شؤون الناس، ويسوس أمورها، فلا يستغني عنه العالم طرفة عين.
وقوله :﴿ الغني ﴾ معناه : هو الذي عنده الغنى، والله ( جل وعلا ) غني بذاته غنى مطلق، لا يحتاج إلى خلقه، وخلقه محتاجون إليه. والنكتة في الآية : أن الله بما مضى أمر ونهى، وبين ما يدخل الجنة وما يدخل النار، ثم نبه خلقه، فكأنه يقول : يا عبادي : لا تظنوا أنني آمركم وأنهاكم لأجل أن أجر بذلك لنفسي نفعا أو أصرف عنها ضرا، لا، أنا الغني بذاتي الغنى المطلق، وإنما النفع لكم لا لي، كما قال :﴿ يأيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد ١٥ ﴾ ( فاطر : الآية ١٥ ) وفي الحديث القدسي، الثابت في صحيح مسلم، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيما يرويه عن ربه، أن الله ( جل وعلا ) يقول :" يا عبادي لو أن أولكم، وآخركم، وإنسكم، وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا. يا عبادي لو أن أولكم، وآخركم، وإنسكم، وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا " الحديث. فهو ( جل وعلا ) لا ينتفع بطاعة المطيع، ولا تضره معصية العاصي :﴿ إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد ﴾( إبراهيم : الآية ٨ )﴿ فكفروا وتولوا واستغنى الله والله غني حميد ﴾( التغابن : الآية٦ ) ولذا قال هنا :﴿ وربك الغني ﴾ الذي لا تنفعه طاعة من أطاع منكم، ولا تضره معصية من عصى منكم، وهو غني بذاته غنى مطلق.
﴿ ذو الرحمة ﴾ : هو الرحيم الذي يرحمكم – إن اتبعتم أوامره- يوم القيامة، كما قال تعالى :﴿ وكان بالمؤمنين رحيما ﴾ ( الأحزاب : الآية ٤٣ ) أي : يدعوكم إلى طاعته – وهو رحيم- ليرحمكم ويدخلكم جنته.
وقد قدمنا أن ( الرحمن ) هو ذو الرحمة الشاملة لجميع الخلائق في الدنيا، و( الرحيم ) هو الذي يرحم عباده المؤمنين في الآخرة
ومن رحمانيته ( جل وعلا ) : لطفه بالطير الصافات، كما قال :﴿ أو لم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمن ﴾ ( الملك : الآية ١٩ ) أي : ومن رحمانيته : لطفه بالطير صافات وقابضات في جو السماء، وإمساكه لها. وهذا معنى قوله :﴿ وربك الغني ذو الرحمة ﴾ يعني : ومن شدة غناه عنكم وعن أعمالكم، وعدم حاجته إليكم، ولا إلى طاعتكم، ولا إلى معصيتكم، فهو في قدرته أن يذهبكم جميعا ويجعلكم أثرا بعد عين، ويأتي بقوم آخرين غيركم، كما جاء بكم أنتم من ذرية قوم آخرين، وهذا معنى قوله :﴿ وربك الغني ذو الرحمة إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء ﴾.
﴿ ويستخلف من بعدكم ﴾ : أي : يجعل خلفاء في الأرض بعدكم خلقا منكم﴿ ما يشاء ﴾ من خلقه. وهذا المعنى تكرر في القرآن، يبين الله للناس أنه قادر على أن يزيلهم عن بكرة أبيهم، ويستبدل قوما غيرهم، وقد يكون المستبدلون خيرا منكم أيها المخاطبون، كقوله في سورة النساء :﴿ إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديرا١٣٣ ﴾ وقوله ( جل وعلا ) :﴿ ويستخلف ربي قوما غيركم ولا تضرونه شيئا ﴾ ( هود : الآية ٥٧ ) إذا استخلف غيركم فما عليه في ذلك من ضرر، وقوله في سورة فاطر :﴿ يأيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد١٥ إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد١٦ وما ذلك على الله بعزيز ١٧ ﴾ ( فاطر : الآيات١٥-١٧ ) أي : ليس فيه صعوبة عليه ولا مشقة، بل هو هين عليه يسير. وقوله في أخريات سورة القتال – سورة محمد- حيث قال فيها :﴿ والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم ﴾( محمد : الآية ٣٨ ) وقد قال في الواقعة :﴿ نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين ٦٠ على أن نبدل أمثالكم ﴾ ( الواقعة : الآيتان ٦٠-٦١ ) وقد قال في الإنسان :﴿ نحن خلقناهم وشددنا أسرهم وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا٢٨ ﴾( الإنسان : الآية ٢٨ ) يعني : فذهابكم جميعا والإتيان ببدل منكم، سهل علي، خفيف عندي، لا يضرني شيئا، فأنتم إنما تنتفعون بطاعتكم وتتضررون بمعصيتكم، وأنا الغني بذاتي عنكم، القادر على أن أذهبكم، وآتي بغيركم، وقوله :﴿ إن يشأ يذهبكم ﴾ المراد هنا : الإدهاب بوقت واحد، بأن يدهبهم جميعا، وليس المراد أن يذهبهم تدريجا بالموت، كما هي عادته في القرون أن ينفي قرنا تدريجا بالموت، ثم يأتي بعده بقرن آخر تدريجا بالولادة، لأن هذا هو الواقع، فلو كان هو المراد لما قال :﴿ إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء ﴾ لأنه مذهبهم قطعا ومستخلف بعدهم ما يشاء على التدريج، هذا واقع قطعا.
وقوله :﴿ ويستخلف من بعدكم ما يشاء ﴾ عبر ب( ما ) هنا للإبهام في الشيء، وإن كان قد يقع على العاقل، لأن المقرر في علم النحو، أن الشيء إذا أبهمت صفاته – أي : كان المراد صفاته مثلا – أنه يعبر عنه ب( ما ). وهذا معنى قوله :﴿ ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين ﴾ كما أنه كان في الأرض قبلكم ناس غيركم، قال بعضهم : هم الذين كانوا في سفينة نوح، وقال بعضهم : يعم ما قبلهم من القرون. كان قبلكم ناس أهل ثروة وأهل غنى في الدنيا، وأهل تمدن ومكانات - أذهبناهم جميعا، وجئنا بكم، وجعلناكم خلفاء في الأرض بعدهم، كما أذهبنا أولئك وجعلناكم خلفا بعدهم، فنحن قادرون أيضا على أن نفعل بكم مثل ذلك، وهذا معنى قوله :﴿ ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين ﴾.
يقول الله جل وعلا :﴿ إن ما تعودون لآت وما أنتم بمعجزين١٣٤ ﴾( الأنعام : الآية١٣٤ ).
( ما ) هنا موصولة، وعائد الصلة محذوف، والتقدير : إن الذي توعدونه لآت لا محالة. اعلموا أولا : أن ﴿ توعدون ﴾ هنا يحتمل أن يكون من الوعد، ويحتمل أن يكون من الإيعاد، والوعد : هو الوعد بالخير، والإيعاد : هو الوعد بالشر، كما قال الشاعر :
وإني وإن أوعدته أو وعدته لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
فقوله :﴿ إن ما توعدون ﴾ بناء على ظانه من الوعد، فالله ( جل وعلا ) لا يخلف وعده أبدا، لأن الله يقول :﴿ إن الله لا يخلف الميعاد ﴾ ( آل عمران : الآية٩ ) اما إخلاف الوعيد ففيه تفصيل غلط فيه جماعات من العلماء، حتى كان من يقول من العلماء بفناء النار، أن الله لو صرح بأنها [ لا ] تفنى ( في الأصل : " بأنها تفنى " وهو سبق لسان ) أن ذلك وعيد، وإخلاف الوعيد من المدح لا من الذم، إذ إن من أوعدك بشر ثم عفا عنك وأعطاك الخير فهذا من الجميل، وإنما المذموم القبيح هو إخلاف الوعد بالخير.
والتحقيق في هذا المقام : أن الله ( جل وعلا ) إن وعد بخير فإنه لا يخلف وعده أبدا، لأن الله يقول :﴿ إن الله لا يخلف الميعاد ﴾ وإن أوعد بشر فإيعاده بالشر له حالتان :
تارة يكون وعيدا للكفار. وهذا لا يبدل بحال، ويدل عليه قوله هنا :﴿ إن ما توعدون لآت ﴾، لأن الكلام في الكفار الذين يهددهم الله. أي : ما يوعدكم الله من العذاب واقع لا محالة، يدل عليه قوله :﴿ وما أنتم بمعجزين ﴾ كما سنفسره، وقد صرح الله في آيات من كتابه أن وعيده للكفار لا يخلف حيث قال في سورة ( ق ) :﴿ قال لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد٢٨ ما يبدل القول لدي ﴾( ق : الآيتان ٢٨-٢٩ ) والمراد به على التحقيق : ما وعد الكفار به من عذاب النار. وقال جل وعلا :﴿ كل كذب الرسل فحق وعيد ﴾ ( ق : الآية ١٤ ) حق : معناه ثبت ووجب، وما قال الله فيه :﴿ إنه ثبت ووجب ﴾ لا يمكن أن يختلف، و( الفاء )في قوله :﴿ كل كذب الرسل فحق وعيد ﴾ من حروف التعليل، وقد تقرر في الأصول في ( مسلك النص )وفي ( مسلك الإيماء والتنبيه ) أن ( الفاء ) من حروف التعليل كما تقول :" سها فسجد "، أي : لعلة سهوه. و " سرق فقطعت يده " أي : لعلة سرقته. و " أساء فأدب ". أي : لإساءته. ﴿ كل كذب الرسل فحق وعيد ﴾ أي : وجب الوعيد لأجل تكذيب الرسل، ونظيره قوله في ( ص ) :﴿ إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب١٤ ﴾( ص : الآية ١٤ ).
أما الوعيد الذي يجوز أن يخلف : هو وعيد الله لعصاة المسلمين، فإن الله أوعد مرتكبي الذنوب الكبائر بأنه يعذبهم، وهذا الوعيد إن شاء الله أنفذه، وإن شاء الله عفا عن أهله. وصرح الله بهذا في قوله :﴿ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ﴾( النساء : الآية ٤٨ ) فجعل غير الشرك من الكبائر تحت مشيئته، إن شاء عفا، وإن شاء عذب. هذا هو تحقيق المقام في الوعد والوعيد.
قوله هنا :﴿ إن ما توعدون لآت ﴾ أي : ما يوعد به من ثواب وخير فهو آت لا محالة، وما يوعد به الكفار المكذبون للرسل من العذاب والتنكيل فهو آت لا محالة.
ثم قال :﴿ وما أنتم بمعجزين ﴾ المعجزون : جمع تصحيح للمعجز، والمعجز : اسم فاعل للإعجاز، ومفعول اسم الفاعل هنا محذوف. والمعنى : وما أنتم بمعجزين ربكم. أي : لستم بفائتيه حتى تعجزوه فيعجز عن التمكن منكم وتعذيبكم، بل أنتم في قبضة يده، وتحت قهره وسلطانه، لا تعجزونه ولا تفوتونه، بل أمره واقع فيكم، نافذ فيكم، ليس لكم مفر ولا ملجأ، ولا يمكن أن تعجزوا ربكم وتفوتوه حتى لا يعذبكم. فعرف من هذا أن المفعول محذوف، العرب تقول :" طلب فلانا فأعجزه ". أي : فاته ولم يقدر على إدراكه، والله يقول :﴿ وما أنتم بمعجزين ﴾ لا تعجزونني فتسبقونني حتى لا أنفذ فيكم ما أوعدتكم به، بل أنتم تحت قهري وسلطاني، وفي قبضة يدي، وسأنفذ فيكم ما أشاء من وعيدي الذي قلت :﴿ إن ما توعدون لآت ﴾ وهذا معنى قوله :﴿ إن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين١٣٤ ﴾.
﴿ قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون١٣٥ ﴾ ( الأنعام : الآية ١٣٥ ).
قرأ هذا الحرف عامة القراء، ما عدا شعبة بن عاصم :﴿ اعملوا على مكانتكم ﴾ بالإفراد، وقرأه شعبة- وحده- عن عاصم :﴿ اعملوا على مكانتكم ﴾ بمد النون جمع مكانة. وكذلك قرأ شعبة في جميع القرآن. وقرأ عامة القراء أيضا ما عدا حمزة والكسائي :﴿ فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار ﴾ بالتاء الفوقية في قوله :﴿ من تكون ﴾ وقرأ حمزة والكسائي :﴿ فسوف تعلمون من يكون له عاقبة الدار ﴾.
ولا إشكال في قراءة شعبة، ولا في قراءة حمزة والكسائي، لأن قراءة شعبة أن كل واحد له مكانة يعمل عليها، فجمعت المكانات اعتبارا بتعدد المخاطبين. وعلى قراءة الجمهور :﴿ اعملوا على مكانتكم ﴾ فالمكانة أضيفت إلى معرف وهي مفرد فعمت جميع المكانات، لأن المقرر في الأصول : أن المفرد إذا أضيف إلى معرف صار صيغة عموم يشمل جميع الأفراد، كقوله :﴿ وإن تعدوا نعمة الله ﴾ ( النحل : الآية ١٨ ) أي : نعم الله. وقوله :﴿ فليحذر الذين يخالفون عن أمره ﴾ ( النور : الآية ٦٣ ) أي : عن أوامره ﴿ إن هؤلاء ضيفي ﴾( الحجر : الآية ٦٨ ) أي : ضيوفي كما هو معروف. فكلتا القراءتين معناهما واحد، وكذلك قراءة حمزة و الكسائي :﴿ من تكون له عاقبة الدار ﴾ يجوز فيه التذكير بأمرين :
أحدهما : أن العاقبة تأنيثها مجازي، والتأنيث المجازي إذا كانت ( الفاعلة ) تأنيثها مجازيا في الفعل التذكير والتأنيث.
الثاني : أنه فصل بين الفعل وفاعله فصل، وهو قوله :﴿ من يكون له ﴾ والفصل بين الفعل وفاعله يسوغ تذكير الفعل، ولو كان فاعله مؤنثا حقيقيا، كما هو معروف في علم النحو.
ومعنى الآية الكريمة : أن الله ( جل وعلا ) أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يهدد الكفار تهديدا عظيما بأسلوب لطيف في غاية الإنصاف واللطافة، مع اشتماله على أعظم التهديد، وأشنع التخويف، وهو قوله :﴿ قل يا قوم اعملوا على مكانتكم ﴾. ﴿ ياقوم اعملوا ﴾ أصله :( يا قومي ) حذفت ياء المتكلم، وحذف ياء المتكلم اكتفاء بالكسرة لغة فصحى مطردة في القرآن وفي لغة العرب.
وقد قدمنا في الدروس الماضية أن ( القوم ) اسم جمع لا واحد له من لفظه، وأن معناه في لغة العرب : جماعة الرجال دون النساء، وأن النساء ربما دخلن في اسم( القوم ) تبعا. أما الدليل على أن لفظ( القوم ) في النطق العربي يختص بالرجال دون النساء : فقوله تعالى في الحجرات :﴿ لا يخسر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ﴾ ثم قال :﴿ ولا نساء من نساء ﴾ (.... ) ( في هذا الموضع انقطع التسجيل. وتمام الآية لا يخفى، ويمكن استدراك باقي النقص فيما يتعلق بمعنى القوم بمراجعة ما ذكره الشيخ( رحمه الله ) في الموضع السابق ).
(.... )فيها الربا إجماعا، التي هي : القمح والشعير والتمر والزبيب، قالوا : كل واحدة من هذه الأربعة مقتاتة مدخرة، معناه أنها قوت يتقوت به الإنسان، وأنه يدخرها أزمانا فلا تضيع، فكل مقتات مدخر من الحبوب والثمار تجب فيه الزكاة عند مالك والشافعي. وأنهما اتفقا أيضا على أن الأشجار ليس في ثمارها شيء مقتات مدخر إلا الزبيب والتمر خاصة، ولم يوجب مالك والشافعي الزكاة إلا في التمر والزبيب خاصة، أما غيرها من ثمار الأشجار فليست عندهما مما يقتات ويدخر، ولم يوجب فيها شيئا إلا الزبيب والتمر، وأما الحبوب فإن مالكا و الشافعي اتفقا أيضا على أن كل ما يقتات ويدخر من الحبوب أنه تجب فيه الزكاة، وهي العشر ونصف العشر على ما قررنا، والحبوب المقتاتة المدخرة : كالقمح من السلت، والعلس، والأرز، والذرة، وأنواع القطاني الثمانية : كالبسيلة، والجلبان، والحمص، والترمس والفول، إلى غير ذلك من أنواع القطاني الثمانية، لأن القطاني ثمانية أنواع. وضابطها : ما يثبت فيه الربا من الفول، والحمص، والترمس، واللوبيا، والجلبان، والجلجلان، والبسيلة. أما الكرسنة : فالمشهور في مذهب مالك، أنها لا زكاة فيها لأنها علف، خلافا لأشهب من أصحاب مالك، إلا أن مشهور مذهب مالك أن الكرسنة من أنواع القطاني في باب الربا لا في باب الزكاة.
وزعم قوم أن الكرسنة هي البسيلة من أنواع القطاني. هذه الحبوب هي التي تقتات وتدخر، وتجب فيها الزكاة : القمح، والشعير، والسلت، والعلس، والذرة، والأرز، والدخن، وأنواع القطاني : كالتمرس، والحمص، والبسيلة، والفول، والجلبان، والجلجلان، واللوبيا، إلى غير ذلك، هذه الحبوب التي تقتات وتدخر تجب فيها الزكاة عند مالك والشافعي. وإنما اختلفا في شيئين : أحدهما : أن مالكا يقول : لا يضم شيء منها إلى شيء، فلا يضم فول إلى لوبيا، ولا ترمس إلى حمص، بل كل في جرابه، وإذا حصد خمسة أوسق من جنس واحد. وإن اختلفت أنواعها يضم بعضها إلى بعض ويخرج من كل نوع بحسبه. والشافعي يقول : لا يضم شيء منها إلى شيء، فلا يضم فول إلى لوبيا، ولا ترمس إلى حمص، بل كل في جرابه، وإذا حصد خمسة أوسق من واحد وجبت زكاة، وإلا فلا. كما أن الشافعي يقول : لا يضم قمح إلى شعير، ولا الشعير إلى القمح، ولا السلت إلى واحد منهما. ومالك يقول : إنه إذا قطع وسقين من قمح، ووسقين من شعير، ووسقا من سلت، أنها تكون خمسة أوسق، يضم بعضها إلى بعض، فتجب فيها الزكاة، فيخرج عن كل بحسبه.
أما العلس عند مالك فلا يضم إلى هذه الثلاثة.
والحاصل أن مالكا يضم عنده إلا أنواع القطاني الثمانية. يضم بعضها إلى بعض، ويضم عنده القمح، والشعير، والسلت، هذه الثلاثة بعضها إلى بعض. وأما غير هذا فلا ضم، فلا ضم تمر إلى قمح، ولا سلت إلى ذرة، ولا ذرة إلى أرز، بل كل بحسبه. والشافعي لا يرى ضم شيء من هذا إلى شيء. هذا حاصل مذهب مالك والشافعي.
وقد اختلفا في أشياء : منها الزيتون هل فيه زكاة أو لا : فمشهور مذهب الإمام مالك( رحمه الله ) أن الزيتون تجب فيه الزكاة إذا بلغ حبه خمسة أوسق، ولكنه لا يخرج إلا من زبته، فإذا كان حب الزيتون خمسة أوسق وجبت الزكاة فيه، ولكن الإخراج من زيته، وهو العشر أو نصف العشر. فالوجوب في الحب، والإخراج من الزيت. هذا مشهور مذهب مالك، ومثل الزيتون عند مالك في هذا- من انه ينظر نصاب الأوسق من الحب، ثم يخرج من الزيت مثل الزيتون عنده- السمسم، وبذر الفجل الأحمر، والقرطم، وبذر الفجل الأحمر خاصة، هي عند مالك إذا كانت حبوبها تبلغ النصاب وجبت فيها الزكاة، وأخرج العشر أو نصفه من زيتها، هذا مشهور مذهبه( رحمه الله )، ولا زكاة عند مالك في كتان ولا في غيره مما ذكرنا.
ومذهب الإمام الشافعي مختلف- أيضا- في الزيتون، فقال في القديم : إن الزيتون فيه زكاة إن صح أثر عمر الذي ورد فيه. وقد ورد عن عمر وابن عباس أثران أن في الزيتون زكاة، والأثران ضعيفان لا تقوم حجة بواحد منهما، ولذا كان مذهب الشافعي في الجديد : أن الزيتون لا زكاة فيه، والخلاف عنده في القرطم -أيضا- كالخلاف في الزيتون فيه الزكاة في القديم، وفي الجديد لا زكاة فيه، وهذا معروف عندهم.
واختلاف العلماء في زكاة العسل معروف، يذكر في هذا المحل عند الآيات الدالة على هذا، وإن كان العسل ليس في نفسه مما تنبته الأرض، ولكن نحله ترعى فيما تنبته الأرض فتخرجه. و زكاة العسل الخلاف معروف فيها بين العلماء، فعند مالك لا زكاة في العسل، والخلاف عند الشافعي، في القديم : يزكي العسل، وفي مذهب أبي حنيفة أنه إن كان في أرض العشر زكي وإلا فلا.
وقد وردت في زكاة العسل أحاديث متعددة، كحديث بني شبابة، وهو بطن من بني فهم، أنهم كانوا يؤدون زكاة عسلهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال البخاري وغير واحد من المحدثين : إن زكاة العسل لم يثبت فيها حديث واحد قائم، ولم يصح فيها شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم، وجميع الأحاديث الواردة في زكاة العسل لا يخلو إسناد شيء منها من قادح وكلام.
قالوا : والأصل براءة الذمة، وعضدوا عدم الزكاة في العسل بالقياس على اللبن، قالوا : إن العسل واللبن كلاهما مائع خارج من حيوان، واللبن لا زكاة فيه، والعسل كذلك.
والحاصل أن العسل وردت في الزكاة فيه أحاديث متعددة، قال بعضهم : بعضها يشد بعضا. وأخد بمضمونها الإمام أحمد في طائفة من العلماء، فأوجب الزكاة في العسل، والجمهور : منهم الشافعي في الجديد، ومالك، قالوا : لا زكاة في العسل، لأنه لم يثبت فيه شيء، والأصل براءة الذمة، وليس هو مما تنبته الأرض مباشرة حتى يدخل في عموم :﴿ ومما أخرجنا لكم من الأرض ﴾( البقرة : الآية ٢٦٧ ).
أيضا كذلك اختلف الرواية عن الإمام أحمد في الزيتون، وروى عن بعض أصحابه أن فيه الزكاة، وروى بعضهم أنه ليس فيه زكاة.
وليس عند الإمام أحمد زكاة في العصفر، ولا في الكتان، وإنما الزكاة عند احمد – رحمه الله- بما استوجب ثلاثة أشياء، لأن علة الزكاة عنده مركبة من ثلاثة أوصاف، وهي : أن يكون الشيء مكيلا، وأن يكون ييبس، لا يبقى مبلولا دائما، وأن يكون يبقى ويجوز ادخاره لبقائه، فكل ما جمع هذه الأوصاف الثلاثة، بأن كان يكال، وييبس، ويبقى، ففيه الزكاة عند الإمام أحمد، ولذا قال : عن بعض الأشجار إن ثمارها تكال وتيبس وتبقى، ولا يشترط كونها قوتا، سواء كانت قوتا أو غير قوت، ولذا أوجب الإمام أحمد الزكاة في بعض ثمار الأشجار التي لم يوجبها مالك والشافعي، لأن مالكا والشافعي اشترطا الاقتيات والادخار، وأحمد لم يشترط الاقتيات، قال : إن كان الشيء يكال وييبس ويبقى وجبت فيه الزكاة، ولذا أوجب الزكاة في بعض ثمار الأشجار، كالفستق، والبندق، وما جرى مجراها. هذا مذهب الإمام أحمد. وكذلك أوجب الزكاة في كل حب ييبس ويبقى و يكال، وإن كان لا يقتات، وتجب الزكاة عنده في الأبازير التي تصلح الطعام، كالكمون بنوعيه : الأحمر والأسود، والكراويا، واليانسون، وما جرى مجرى ذلك. وتجب عنده في كل بذر يزرع، وتجب عنده الزكاة في بذر الكتان، وفي بذر الخيار والقثاء، وكل ما جرى مجرى ذلك، لأنها حبوب تيبس وتكال وتبقى، هذا مذهب الإمام أحمد–رحمه الله-
وهؤلاء الأئمة الثلاثة لا تجب عندهم الزكاة إلا فيما بلغ الخمسة الأوسق. أعني : مالكا والشافعي والإمام أحمد، لأن عموم " فيما سقت السماء العشر " وعموم :﴿ ومما أخرجنا لكم من الأرض ﴾ ( البقرة : الآية ٢٦٧ ) يخصصه عندهم حديث :" ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة " فأقل نصاب الحبوب والثمار أن يبلغ خمسة أوسق.
والوسق- بالفتح والكسر- ستون صاعا بإجماع العلماء.
والصاع الشرعي النبوي بالتقريب : ملء اليدين المتوسطتين، لا مقبوضتين ولا مبسوطتين، وهو بالضبط : وزن رطل وثلث بالبغدادي، فوزن الرطل وثلث الرطل البغدادي هو الصاع النبوي ( هذا سبق لسان، والصواب :( المد النبوي ) كما في المحلى ( ٥/٦٤٥ )، والكافي لابن عبد البر( ص١٠٣ )، والمغني( ٢/٥٦١ )، القاموس الفقهي ( ص٣٣٧ ). وإنما الصاع : خمسة أرطال وثلث من الحنطة ).
فعدة الأوساق بالأمداد : ألف مد ومائتا مد، وبالصيعان، ثلاثمائة صاع، وبالأرطال : ألف وستمائة رطل. هذا هو نصاب الحبوب والثمار.
والرطل عندهم عندما حققه مالك وأصحابه –وهم أدرى الناس بقدر الصاع والمد، لأنهم في محل الصاع والمد، قدره عندهم يعني بالوزن – ألف وستمائة رطل.
ووزن الرطل عندهم مائة وثمانية وعشرون درهما مكيا، لأن وزن الذهب والفضة وزن مكة، والكيل كيل أهل المدينة، ووزن الرطل : مائة وثمانية وعشرون درهما مكيا، ووزن الذهب المكي : خمسون وخمسا حبة من مطلق الشعير وزيادة ابن حزم خمسة أسباع حبة ردها المحققون من علماء المالكية، هذا هو النصاب، وهو خمسة أوسق، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ".
والمزكيات فيها- عندهم- تفصيل، فيها نوعان يخرصان قبل إخراج الزكاة بلا نزاع، وهما : التمر والزبيب، والزبيب : العنب اليابس، فإنه إذا بدا صلاح التمر وتهيأ العنب للأكل يخرصان، فيرسل السلطان إليهما خارصا حازرا يخرصهما، بشرط أن يكون أمينا عدلا، عارفا بالخرص، صادق الحرز غالبا، فيأتي لهذا البستان ويخرصه نخلة نخلة، فيقول : في هذه النخلة الآن كذا من البلح من الزهو، ثم يكون فيها من الرطب كذا، فإذا يبست وجف رطبها نقص بكذا. فيحصل منها من التمر اليابس قدر كذا وكذا، ثم إذا خرصوا ذلك وحرزوا قدر ما يحصل منه من التمر اليابس قيدوه على لصاحبه، وقالوا لصاحبه : بينك وبين بستانك، فكل ما شئت، وبع ما شئت، وتصرف فيه كيف شئت، ولكنه عند الجذاذ أد قدر هذا الخرص تمرا يابسا، أو زبيبا يابسا. وهذا لم يخالف فيه إلا القليل من العلماء، فجماهير العلماء على الخرص، وقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، لما مر بوادي القرى نزل بحائط امرأة، فقال لقومه : اخرصوا كم يخرج منه ؟ فخرصوا، وخرص النبي صلى الله عليه وسلم مع الخارصين، وقال لها : في خرصه :" أرى أن تحصل منه عشرة أوسق من التمر اليابس، واحفظيه حتى نرجع من سفرنا " فلما رجعوا من غزوة تبوك سألوا المرأة فقالت : خرج منه عشرة أوسق مطابقة لحزره صلى الله عليه وسلم. مضمون هذا الحديث ثابت في صحيح مسلم والبخاري، وهو يدل على أن الخرص حق، وأنه سنة. والظاهر أنهم ما خرصوه إلا ليأخذوا زكاته إذا كانوا قافلين. والأحاديث الكثيرة في أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث الخارصين، كعبد الله بن رواحة وغيره إلى يهود خيبر، فيخرص عليهم النخل، ويقول لهم : إن شئتم خذوه بهذا الكيل، وإن شئتم دعوه لنا بهذا الكيل هذا معروف.
وشذت طائفة من العلماء، فقال الشعبي : الخرص بدعة. وقال سفيان الثوري : لا يجوز الخرص، لأنه ظن وتخمين، والظن أكذب الحديث. وهذا مذهب الإمام أبي حنيفة –رحمه الله -قال : الخرص ظن وتخمين لا يثبت به حكم أبدا، وإنما كان النبي يأمر بخرص النخيل تخويفا للقائمين عليه من أن يخونوا، فالمقصود به عنده تخويفهم م
يقول الله جل وعلا :﴿ ومن الأنعام حمولة وفرشا كلوا مما رزقكم الله ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين١٤٢ ﴾( الأنعام : الآية ١٤٢ ).
قوله :﴿ حمولة ﴾ معطوف على ﴿ جنات ﴾ مما قبله. وتقرير المعنى : وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات، وأنشأ من الأنعام حمولة وفرشا فهو منصوب بالعطف على منصوب. أي : وهو الذي أنشأ جنات معروشات، وأنشأ حمولة وفرشا من الأنعام، والمعنى : هو الذي رزقكم أنواع النباتات والحبوب، وأنواع الأنعام، فما كان لكم أن تقولوا﴿ هذه أنعام وحرث حجر ﴾ ولا ان تجعلوا لشركائه من الأنعام والزروع شيئا. أي : وهو الذي أنشأ لكم من الأنعام حمولة وفرشا.
التحقيق أن الأنعام : أنها الإبل، والبقر، والغنم بأصنافها الثلاثة. والحمولة : هي ما يحمل عليه الأثقال، ويسافر عليها –بها- من بلد إلى بلد، كما قال :﴿ وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس ﴾( النحل : الآية ٧ ) ﴿ فمنها ركوبهم ومنها يأكلون ﴾( يس : الآية ٧٢ ) ومن نقل عن ابن عباس أن الحمولة : الإبل، والبغال، والخيل، وكل ما يحمل عليه من الدواب، فهو قول لا يصح، لأن الأنعام لا تطلق إلا على الإبل، والبقر، ونوعي الغنم، فلا تطلق على الخيل، ولا على البغال، ولذا فسر الله الأنعام في هذه السورة بقوله :﴿ ثمانية أزواج ﴾ ( الأنعام : الآية ١٤٣ ). كما يأتي إيضاحه. أي : وهو الذي أنشأ لكم من الأنعام حمولة، أي : مراكب تحملون عليها أمتعتكم، وتركبون عليها، كالإبل. قال بعض العلماء : وكالبقر في بعض البلاد. وهو صادق، لأنا شاهدنا بعض الأقطار يحملون الأحمال الثقيلة على ذكور البقر من بلاد بعيدة، وقد يكون عندهم ذكور البقر يحمل الواحد منهم فوق ما يحمل البعير، ويسافرون عليها من بلاد إلى بلاد. وإن كان بعض علماء المالكية افتى بأن البقر لا يجوز ركوبه، ولا يحمل عليه، ظنا منه أن ركوبه والحمل عليه من تكليفه ما لا يطيقه. ونحن شاهدنا ذي الأيام في بعض الأقطار ذكور البقر تكون معروضة تحمل الأثقال العظيمة من بلاد إلى بلاد رأي العين. وبذلك نعلم أنها داخلة في قوله :﴿ حمولة ﴾ أي : ما يحملون عليه أثقالهم كالإبل، وربما دخل البقر في بعض الأقطار.
وقوله :﴿ وفرشا ﴾ الفرش هنا فيه أقوال متقاربة للعلماء : حكى الفراء إجماع أهل اللغة على أن الفرش صغار الإبل، وهي الفصلان. وقال بعض العلماء : الفرش : الغنم.
والتحقيق : أن الآية تشتمل كل ذلك، وأن الأنعام منها ركوبة كالإبل، ومنها فرش، وهو ما يؤكل، ويشرب من لبنه، مع أنه ليس صالحا للركوب، فيدخل في الفرش : الغنم، وفصال الإبل، وعجاجيل البقر، لأن ولد البقرة يقال له : عجل، ويجمع على : عجاجيل. على غير قياس. فالغنم، وفصال الإبل، وعجاجيل البقر كلها يدخل في الفرش.
قيل : وإنما سميت هذه الصغار :( فرشا ) لقربها من الفراش والمهاد الذي هو التراب، لانها صغيرة قصار قريبة من الأرض. هكذا قالوا، والله أعلم.
وعلى كل حال فجميع الأقوال راجعة إلى أن الله أنشأ الأنعام، وجعل فيها منة الركوب والأكل.
أما قول من قال :( فرشا ) فإنه لا يتناول إلا ما يصنع منه الفراش، كالضأن الذي يصنع من صوفها الفراش، والمعز الذي يصنع من بعض شعرها الفراش ونحو ذلك، وأن الفرش هو ما يستمده الخلق من جلود الأنعام، وأصوافها، وأشعارها، وأوبارها -كما يأتي في سورة النحل- فهذا قول غير متجه، لأن المنة تكون بمجرد الأصواف، والأوبار، والأشعار، والجلود، لا بنفس الأنعام، والمعروف في القرآن –وإن ذكر المنة بالأصواف، والأوبار، والأشعار، والجلود في قوله :﴿ ومن أصوافها وأوبارهاوأشعارها ﴾( النحل : الآية ٨٠ ) وفي قوله :﴿ وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ﴾الآية ( النحل : الآية ٨٠ ) إلا أن المراد هنا :- الامتنان بها جميعا، وأعظم أنواعه : الأكل منها. وهذا المعروف في القرآن، كقوله :﴿ أولم يروا أنا خلقننا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون٧١ وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون٧٢ ﴾( يس : الآيتان ٧١-٧٢ )﴿ والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون٥ ﴾( النحل : الآية٥ ) ﴿ الله الذي جعل لكم الأنعام لتركبوا منها ومنها تأكلون٧٩ ﴾ ( غافر : الآية٧٩ ) إلى غير ذلك من الآيات. فتبين أن المنة في الركوب، وغيره من الأكل، وغير ذلك من النعم، يعني : هذا الذي أنشأ لكم الأنعام –حمولتها وفرشها – هو الله جل وعلا.
ثم قال :﴿ ومن الأنعام حمولة وفرشا كلوا مما رزقكم الله ﴾أي : هذا الذي خلقته لكم، وهي : الأنعام، والفرش، كلوا من الذي رزقكم الله من الأنعام، والفرش، والزروع، المعطوف عليها في قوله :﴿ أنشأ جنات معروشات وغير معروشات ﴾( الأنعام : الآية ١٤١ )فهذا رزق الله كلوا منه ولا تحرموا منه شيئا على أنفسكم افتراء على الله، ولا تجعلوا منه شيئا للأوثان، كما قال :﴿ ولا تتبعوا خطوات الشيطان ﴾ يعني : كلوا من رزقي ونعمي، ولا تتبعوا في نعمتي ورزقي تشاريع الشيطان وقوانينه، بأن تحلوا هذه وتحرموا هذه، فتحرموا البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام، وتقولون : ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا. وتقولوا : هذه أنعام وحرث حجر. كل هذا اتباع خطوات الشيطان.
والآية نص صريح في أن من مشى على تشريع جعله الشيطان، يحل فيه ما لا يحله الله، ويحرم فيه ما لا يحرمه الله، أنه اتبع خطوات الشيطان.
والخطوة –بضم الخاء- هي ما بين قدمي الماشي، فكما بين قدمي الماشي من المسافة :( خطوة ). والمرة من خطوه تسمى( خطوه ) بالفتح. وفيه قراءتان سبعيتان : قرأه ابن عامر، والكسائي، وقنبل عن ابن كثير، وحفص عن عاصم :﴿ خطوات الشيطان ﴾ بضم الطاء إتباعا للخاء﴿ خطوات الشيطان ﴾، وقرأه باقي السبعة : نافع، وأبو عمرو، وحمزة، والبزي عن ابن كثير، وشعبة عن عاصم :﴿ خطوات الشيطان ﴾ بسكون الطاء.
والشيطان –قبحه الله- معروف، وهو هنا : الشيطان الذي سن المعاصي. وقد قدمنا مرارا أن كل متمرد عات شيطان، وذكرنا – في الدروس الماضية- أن الشيطان فيه قولان للعلماء : هل اشتقاقه من ( شطن الشيء ) بمعنى بعد، أو اشتقاقه من( شاط الشيء ) إذا هلك ؟ قال بعض العلماء : الشيطان من ( شطن ) تقول العرب : " شطن، يشطن، فهو شطين ) أي : بعيد، ومنه قول الشاعر :
نأت بسعاد عنك نوى شطون فبانت والفؤاد بها حزين
وهذا القول جاء في شعر العرب ما يدل عليه، فقد قال أمية بن أبي الصلت الثقفي – وهو عربي قح- يمدح سليمان :
أيما شاطن عصاه عكاه ثم يلقى في السجن والأكبال
فقوله : " أيما شاطن " : أيما شيطان، والشاطن : اسم فاعل من ( شطن ) بلا نزاع، فدل هذا البيت على أن أصله من ( شطن ) فالعرب تقول : " شطن قعر البير ". إذا بعدت مسافة عمقها.
وعلى هذا القول فاشتقاق الشيطان من ( شطن ) بمعنى ( بعد ) أي : لشدة بعده عن رحمة الله –و العياذ بالله-وعلى هذا القول : فوزن الشيطان بالميزان الصرفي :( فيعال ) والياء زائدة، والنون أصلية، بناء على انه من ( شطن ) بمعنى ( بعد ) ذكر هذا سيبويه في موضع من كتابه، ثم ذكر القول الآخر في موضع آخر من كتابه، أن أصل الشيطان من ( شاط يشيط ) إذ هلك. تقول العرب :" شاط الفارس يشيط ". إذ هلك. وهو معنى معروف في كلام العرب، منه قول الأعشى ميمون بن قيس :
قد نخضب العير من مكنون فائله وقد يشيط على أرحامنا البطل
أي : يهلك عليها
وعلى انه من ( شاط يشيط ) فوزنه بالميزان الصرفي ( فعلان ) لأن الألف والنون زائدتان، لأن أصل حروفه الأصلية على هذا :( شيط ) فاؤها شين، وعينها ياء، وطاؤها لام، والألف والنون زائدتان. فعلى القول الأول فوزنه :( فيعال ) وعلى الثاني فوزنه( فعلان ) وكل متمرد عات شيطان، سواء كان من الإنس أو الجن أو غيرهما، ومن شعر جرير :
أيام يدعونني الشيطان من غزل وكن يهوينني إذ كنت شيطانا
ثم قال :" إنه " أي : الشيطان " لكم " يا بني آدم " عدو مبين " أي : بين العداوة ظاهرها، لأن الشيطان هو عدو بني آدم، لأن زعم الخبيث أن سبب شقائه هو آدم، حيث امتنع من السجود له، وقال : ما دام آدم هو سبب شقاء البعيد فسيبذل كل مجهود حتى يشقي أولاد آدم
وقد أظهر العداوة لله لبني آدم مجاهرا بها، ولم يكتمها، ولم يوار حيث قال :﴿ لأقعدن لهم صراطك المستقيم١٦ ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين ١٧ ﴾( الأعراف : الآيتان١٦-١٧ )﴿ أرءيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته ﴾ الأظهر في تفسيرها أن معنى :﴿ لأحتنكن ذريته ﴾( الإسراء : الآية ٦٢ ) لأقودنهم إلى المهالك بتزييني، من قول العرب :" احتنك الرجل البعير ". إذا جعل الحبل على حنكيه فقاده بالحبل على حنكيه حيث شاء. وقال هذا مرارا :﴿ ربي بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين ﴾( الحجر : الآية ٣٩ )﴿ لأضلنهم لأمنينهم فليبتكن آذان الأنعام ولأمرنهم فليغيرن خلق الله ﴾( النساء : الآية ١١٩ ) فقد أظهر العداوة. فربنا يقول : كونوا عقلاء، واعرفوا عدوكم من صديقكم، واعرفوا أن الشيطان عدوكم، فلا تتبعوا خطوات الشيطان﴿ إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدو إنما يدعوا حزبه ليكونوا من أصحاب السعير ٦ ﴾( فاطر : الآية ٦ ) ﴿ أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا ﴾( الكهف : الآية٥٠ ) وهذا قد قاله للأب والأم الكبيرين، ولكن الله لم يشأ أن ينفعهما بذلك، حيث قال لآدم :﴿ ياآدم إن هذا عدوا لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى ﴾( طه : الآية ١١٧ ) بين له عداوته، وحذره منها، ولكن قضاء الله غالب، وقدره نافذ. فعلينا معاشر المسلمين أن نعلم أن الشيطان عدونا فنعاديه، ولا ننجر معه إلى ما يريد أن يجرنا إليه من المعاصي والهلكات، لأنه عدو طالب ثأر، يريد أن ينتقم منا، فالمسلم الفاهم إذا قرأ آية في سورة سبأ –إن كان يفهم عن الله- عرق جبينه من الخجل، إن كان يتبع الشيطان، لأن الشيطان احتقرنا معاشر الآدميين احتقارا عظيما لا مثيل له، حيث إنه عدونا، واعتقد فينا أن عندنا من سذاجة العقول، وعدم الفهم، وعدم عمق العقل أنه إذا أراد أن يجرنا إلى المهلكة بوساوس، وتزيينات، وزخارف فاضية أننا نبلغ من سذاجة العقول، وعدم التفكير، وسوء النظر أننا نجر معه حتى يدخلنا في المهلكة، ويشفي غيظه منا، وينتقم منا، ظن هذا في بني آدم لعتقادا منه سوء عقولهم، وعدم نظرهم، إلا القليل منهم، لأنه قوله :﴿ لأغوينهم أجمعين ﴾ ظن منه، ولذا قال :﴿ إلا عبادك منهم المخلصين ﴾( الحجر : الآيتان ٣٩-٤٠ ) زعموا أنه خاف أن يظهر عليه الكذب. ومن هنا قال بعض العلماء : لا خصلة أقبح من الكذب، لأن الشيطان تحرز عنها حيث قال :﴿ إلا عبادك منهم المخلصين٣٠ ﴾ وما قال هذا إلا ظنا ببني آدم ضعف العقول، وضعف النظر، وعدم التفكير، ومع هذا يقول الله في سورة سبأ، وهي الآية التي تحزن المؤمن المتبع للشيطان :﴿ ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه ﴾( سبأ : الآية ٢٠ )هذه الأية إذا تأملها المسلم الذي يعلم من نفسه أنه يتبع الشيطان، عرق جبينه من الخجل، حيث يكون الشيطان يعتقد فيه من السداجة، وضعف العقل، وعدم النظر والتفكير أن عدوه إذا أراد أن
في قوله :﴿ ثمانية أزواج ﴾( الأنعام : الآية ١٤٣ ) أوجه معروفة من الإعراب : أظهرها وأصحها : أنها بدل من قوله :﴿ حمولة وفرشا ﴾ ( الأنعام : الآية ١٤٢ ) أي : أنزل لكم من الأنعام حمولة وفرشا. ثم بين الحمولة والفرش ما هي ؟ فبينها بالإبدال منها فقال :﴿ ثمانية أزواج ﴾.
والمراد بالأزواج هنا : الأصناف. وكل شيء يحتاج إلى أن يجتمع مع واحد من جنسه تسميه العرب : زوجا. كالخف فإنه يحتاج إلى خف آخر فهو زوجه، وكأحد مصراعي الباب فإنه يحتاج إلى مصارع آخر فهو زوجه، وكالذكر فإنه يحتاج إلى الأنثى فهي زوجه، لأنهما مزدوجان.
﴿ ثمانية أزواج من الضأن اثنين ﴾ الضأن معروف، وهو نوع الغنم الذي فيه الصوف، ومقابله : المعز. وقرأه عامة القراء :﴿ من الضأن ﴾ بتحقيق الهمزة، وأبدلها السوسي عن أبي عمرو :﴿ من الضأن اثنين ﴾.
وقوله :﴿ ومن المعز اثنين ﴾ قرأه نافع والكوفيون الثلاثة-وهم : عاصم، وحمزة، والكسائي، قرؤوا :-﴿ ومن المعز اثنين ﴾بسكون عين المعز، وقرأه الباقون- وهم : ابن كثير، وابن عامر، وأبو عمرو-﴿ ومن المعز اثنين ﴾ بفتح عين المعز. وهما لغتان في ( المعز، والمعز )، وكذلك( الضأن، والضأن ) ولكن( الضأن ) لم يقرأ بها، إنما قرأوا ب( الضأن ) بالسكون، وأبدلها السوسي عن أبي عمرو، وأظهر اللغتين :( المعز ) بالسكون، لأن( الفعل ) قد يجمع على ( فعيل ) والمعز يجمع على معيز، كالعبد، والعبيد، والمعز، والمعيز، ومن جمعه على ( المعيز ) قول امريء القيس :
أبحث المارث الملك ابن عمرو له ملك العراق إلى عمان
ويمنعها بنو شمجى بن جرم معيزهم حنانك ذا الحنان
﴿ من الضأن اثنين ﴾ أي : زوجان، ذكر الضأن وأنثاه، وهما : الكبش والنعجة﴿ ومن المعز اثنين ﴾ ذكره وأنثاه، وهو : التيس والمعزة. ويقال لها : المعزى والعنز. والمعزى تطلق على جنس المعز أيضا، ومنه قول امريء القيس :
ألا إلا تكن إبل فمعزى كأن قرون جلتها العصي
فهذه أربعة أصناف من الغنم، وهي : الكبش، والنعجة، والتيس، والمعزة-التي هي العنز- هذه أربعة في الغنم من الأزواج الثمانية.
ثم قال بعد هذا :﴿ ومن الإبل اثنين ﴾ وهما : الجمل والناقة.
﴿ ومن البقر اثنين ﴾ ذكر البقر وأنثاه، البقرة والثور. فهذه هي الأصناف الثمانية، التي هي الأنعام، التي يباح أكلها من الحيوانات، كما سيأتي في قوله :﴿ وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج ﴾ ( الزمر : الآية ٦ ) وهي هذه الثمانية. وهذا معنى قوله :﴿ من الضأن اثنين ومن المعز اثنين قل ءآلذكرين حرم ﴾﴿ آلذكرين ﴾الهمزة الأولى همزة استفهام، والثانية همزة الوصل. والقاعدة : أن همزة الوصل إذا كانت همزة( أل ) وجاءت قبلها همزة الاستفهام، أن همزة الوصل تبدل مدا بهمزة الاستفهام، ويجوز تسهيلها بين بين، وبعضهم يجيز إبدالها هاء. وزعم بعض علماء القراءات أن الذين مدوها هنا قالوا :﴿ ءالذكرين ﴾ أنهم جاءت عنهم قراءات بتسهيلها بين بين﴿ آالذكرين ﴾ وعلى تسهيلها لم يكن بينهما ألف الإدخال، لأن الألف في التسهيل بين بين إنما يأتي بالهمز المحققة. ومن تسهيل العرب لهمزة الوصل بعد همزة الاستفهام قول الشاعر :
أيا ظبية الوعساء بين جلاجل وبين النقا آأنت أم أم سالم
هي تمدها العرب وتسهلها، فشاهد مدها- كقوله هنا ﴿ قل آلذكرين ﴾-
قول الشاعر :
أيا ظبية الوعساء بين جلاجل وبين النقا آأنت أم أم سالم
الأصل :( ءأنت ) ولكنها هنا ليست همزة وصل، بل همزة أخرى، وتسهيلها وهي همزة وصل شاهده قول الشاعر :
أألحق إن دار الرباب تباعدت أو انبت حبل أن قلبك طائر
قوله :﴿ قل ءالذكرين حرم ﴾، ﴿ ءالذكرين ﴾ : مفعول﴿ حرم ﴾ مقدم عليه. والمعنى : أحرم الله الذكرين، ذكر المعز والضأن ﴿ أم الأنثين ﴾ أم حرم أنثيي الضأن والمعز﴿ أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين ﴾ حرم الذكور والإناث كلا. كأنه يقول : تفريقكم بين بعض الذكور وبعض الإناث، وبعض ما في بطون الأنعام بأن تحلوا بعض هذا، وتحرموا بعضه، إن كانت العلة في تحريم الذكر الذكورة، فكان اللازم أن يحرم كل ذكر لاطراد العلة، وإن كانت الأنوثة لزم أن تحرم كل أنثى لاطراد العلة، وإن كان كونه في البطون –مشتملة عليه الرحم-لزم أن يحرم كل مولود من ذكر وأنثى، وكل لبن، لأن الكل اشتملت عليه الرحم ! فكأنه يقول : تفريقكم هذا باطل، لأنه لو كانت العلة المذكورة لحرم ذكر الضأن والمعز معا وأنثاهما كلا. ولو كانت التخلق في الرحم لحرم ما اشتملت عليه الرحم مطلقا. فلم حرمتم بعض هذا، وحللتم بعض هذا ؟ وما الفارق بين ما حللتم وما حرمتم ؟
ثم قال :﴿ ومن الإبل اثنين ﴾ الجمل والناقة. ﴿ ومن البقر اثنين ﴾ البقرة والثور. ثم أعاد القضية﴿ قل ءالذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين ﴾ عجزهم في الأول فقال :﴿ نبئوني بعلم ﴾ أخبروني عن هذا الذي حرمتم، وهذا الذي حللتم، ما وجه تحريمكم لهذا ؟ وتحليلكم لهذا ؟ مع استواء الجميع ! وقال في الثاني :﴿ أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا فمن ﴾ ؟.
وآية الأنعام هذه مثال معروف لعلماء الجدل للدليل الذي يسميه الجدليون :( الترديد والتقسيم ) ويسميه المنطقيون :( الشرطي المنفصل )
ويسميه الأصوليون :( السبر والتقسيم )، فكأنه يقول : حرمتم بعض هذه الإناث، وحللتم بعضها، وحرمتم بعض الذكور، وحللتم بعضها، وفرقتم بين ما في بطون الأنعام فقلتم : إنه خالص للذكور، محرم على الأزواج، فرقتم بين هذه الأحكام، فلا يخلو تفريقكم بينها من أحد أمرين في التقسيم الصحيح :
إما أن يكون معللا بعلة معقولة.
وإما أن يكون تعبديا.
وهذا الحصر هو المعبر عنه بالتقسيم في اصطلاح الأصوليين والجدليين، والمعبر عنه بالشرطي المنفصل في اصطلاح المنطقيين. فكأنه يقول : لا يخلو الحال من أمرين : إما أن يكون معللا، وإما أن يكون تعبديا. ثم قال-مثلا- بناء على أنه معلل : إما أن تكون العلة في الذكور : الذكورة، وفي [ الإناث ] ( في الأصل :" الأنوثة " ) : الأنوثة، أو التخلق في الرحم. فلو كانت العلة الذكورة لحرم كل ذكر، ولم يحرم الحام دون غيره من الذكور. ولو كانت العلة الأنوثة لحرمت كل أنثى، ولم يختص بالبحيرة والسائبة والوصيلة. ولو كانت العلة اشتمال الرحم، لحرم الجميع، وحرم اللبن أيضا الذي فرقتم فيه، فحرم الجميع.
ثم قال بناء على أنه تعبدي أبطله بقوله :﴿ أم كنتم شهداء ﴾ أم كنتم حاضرين حتى قال لكم الله : هذا حلال وهذا حرام ؟ فهذا باطل أيضا. فبين أن جميع دعاويهم أنها باطلة كلها بهذا الدليل الذي هو السبر والتقسيم. وقد بينا أن هذا الدليل من أمهات الجدل العظام، حيث حصر جميع الأوصاف، ثم أبطلها كلها، ولا يكون بهذا المعنى إلا عند الجدليين، لأنه عند الأصوليين لا يكون إلا في مسالك العلة، ولا بد أن يبقى وصف صحيح هو العلة. كأن تقول : العلة في تحريم البر : إما أن تكون الطعم، أو الكيل، أو الاقتيات والادخار. فلا بد أن تبطل بعض الأوصاف، وتترك وصفا صالحا في زعمك، تقول : إنه علة.
وقد ذكرنا في الكثير من المناسبات وفي بعض ما كتبنا في الكتب أشياء كثيرة عن هذا الدليل، وذكرنا له آثارا تاريخية في العقائد، وآثار تاريخية في الآداب، وذكرنا له أمثلة قرآنية.
فمن أمثلته القرآنية : هذه الآية، ومن أمثلته القرآنية قوله :﴿ أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون٣٥ ﴾( الطور : الآية٣٥ ) فكأنه يقول : لا يخلوا حالهم من واحدة من ثلاث حالات : إما أن يكونوا خلقوا أنفسهم، أو خلقوا من غير خالق، أو خلقهم خالق. فهذه ثلاثة أقسام، اثنان منها باطلان بلا نزاع، وهو كونهم خلقوا أنفسهم، أو خلقوا من غير خالق. فتغلب القسم الثالث أن لهم خالقا هو رب السماوات والأرض، تجب عليهم طاعته وعبادته. ولا نطيل من أمثلته في القرآن، ونقتصر على أن نذكر له أثرا تاريخيا في العقائد، وأثرا تاريخيا في الآداب.
أما أثره التاريخي في العقائد، فما جاء عن بعض المؤرخين من أن هذا الدليل هو أول مصدر لكبح المحنة العظمى، التي قتل فيها العلماء، وعذب فيها أفاضلهم، وقتلوا، وهي : محنة القول بخلق القرآن، لأن محنة القول بخلق القرآن نشأت في الدولة العباسية أيام المأمون، واستحكمت أيام المأمون، وأيام المعتصم، وأيام الواثق، فهؤلاء الخلفاء الثلاثة العباسيون مضت مدتهم ومحنة القول بالقرآن قائمة على ساق وقدم، يمتحن العلماء، فمنهم من قتل، ومنهم من عذب، ومنهم من وافق مداهنة خوفا على نفسه من الموت. وكان القائم بهذه الدعوة : الخبيث أحمد بن أبي دؤاد الإيادي المشهور، الذي يقدسه العباسيون، وهو العالم الوحيد في نظرهم، وهي التي ضرب فيها سيد المسلمين في زمانه : الإمام أحمد بن محمد بن حنبل، -غمده الله برحمته الواسعة، وجزاه خيرا-، لأنه هو الذي بقي وحده صامدا، وضرب في أيام المعتصم ضربا مبرحا، حتى يرفع من محل الضرب لا يدري ليلا من نهار، وكلما أفاق وقالوا له : قل القرآن مخلوق ! يقول : لا، القرآن كلام الله غير مخلوق. حتى جاء المتوكل على الله بعد الواثق، فأزال الله هذه المحنة على يديه-جزاه الله من هذه الحسنة خيرا- وأظهر السنة.
ومقصودنا ما ذكره الخطيب البغدادي في تاريخه، وذكره غير واحد، وإن كانت القصة ذكر ابن كثير في تاريخه أن في إسنادها عند الخطيب بعض من لا يعرف، فهي قصة مشهورة، تلقاها العلماء بالقبول في أقطار الدنيا، وهي مشهورة، والاستدلال بها صحيح بلا شك، وهو بهذا الدليل، وذلك أنه في أيام الواثق جيء بشيخ من أهل السنة من الشام، مقيد بالحديد، يمتحن في القول بخلق القرآن، ورد الامتحان على أنه عزم على قتله. روى هذه القصة محمد المهدي، ولد الواثق، قال : كان أبي إذا أراد أن يقتل رجلا أحضرني، فلما أراد قتل هذا الشيخ الشامي أحضرني، وقال : ءإذنوا لأبي عبد الله. يعني : أحمد بن أبي دؤاد، فجاء، فقال الشيخ الشامي المكبل بالحديد، السني : السلام عليكم يا أمير المؤمنين !
فقال له : بئس ما أدبك مؤدبك ياأمير المؤمنين، الله يقول :﴿ وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها ﴾( النساء : الآية ٨٦ ) والله ما حييتني بأحسن منها ولا رددتها !
قال له بن أبي دؤاد : الرجل متكلم !
فقال الواثق : ناظره. وفي بعض روايات القصة : أن الشيخ الشامي قال :
هو أحقر من أن يناظرني ! فازداد غضب الواثق عليه، ثم إن ابن أبي دؤاد قال للشيخ الشامي : ما تقول في القرآن ؟ ؟
فقال الشيخ الشامي : ما أنصفتني ! يعني : ولي السؤال. إن المقيد الذين يريدون أن يقدموه للموت أولى بالسؤال !
فقال : سل !
فقال : ما تقول أنت يا ابن أبي دؤاد في القرآن ؟ ؟
فقال : مخلوق
قال : مقالتك هذه التي تدعو الناس إليها، ويقتل الخلفاء العلماء بسبب دعوتك إليها، هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون، وأبو بكر وعمر وعلي وعثمان عالمين بها أو لا ؟ ؟
قال بن أبي دؤاد : لم يكونوا عالمين بها.
فقال الشيخ الشامي : سبحان الله ! جهلها رسول الله، وعلمها أحمد بن أبي دؤاد !
فقال بن أبي دؤاد : أقلني، والمناظرة على بابها.
فقال له : لك الإقالة.
ثم قال : ما تقول في القرآن ؟
قال : مخلوق.
قال : هل كان رسول الله وخلفاؤه الراشدون عالمين بدعوتك هذه التي تدعوا الناس إليها أو جاهلين ؟
قال : كانوا عالمين بها، ولكن لم يدعوا الناس إليها.
فقال له الشيخ الشامي : يا بن أبي دؤاد، ألم يسعك في أمة رسول الله ما وسع رسول الله ؟ ولم يسعك في أمة رسول الله ما وسع خلفاؤه الراشدون ؟ ! ففهم الواثق الحقيقة، وقام من مجلسه، واضطجع في محل خلوته واستلقى، وجعل رجله على رجله ثم قال : جهلها رسول الله وعلمتها أنت يا بن أبي دؤاد ! ثم قال : جهلها رسول الله وعلمتها أنت يا ابن أبي دؤاد ! ثم قال : علمها رسول الله وخلفاؤه الراشدون ولم يدعوا الناس إليها، ألم يسع ابن أبي دؤاد في أمة محمد ما وسع رسول الله وخلفاؤه الراشدين ؟ ! وعلم أن ابن أبي دؤاد مبطل.
قالوا : فمن ذلك اليوم لم يمتحن أحدا بعدها، ولم يقدم عالم ليمتحن في القول بخلق القرآن.
وذكر الخطيب : أن الواثق مات بعد أن تاب منها بسبب قصة هذا الشيخ.
وهذا الشيخ إنما استدل بهذا السبر والتقسيم. كأنه يقول : مقالتك هذه لا تخلو بالتقسيم الصحيح من أحد أمرين : إما أن يكون النبي وخلفاؤه عالمين أوجاهلين ؟ فلا قسم إلا هذان القسمان. ثم نرجع إلى القسمين فنسبرهما ونختبرهما، ونظنك يابن أبي دؤاد ضالا على كل تقدير. إذا كان عالما ولم يدع الناس إليها فقد يسعك ما وسعه، / وإن كان غير عالم بها وأنت عالم بها فهذا لا يمكن أن يقال ! فأنت ضال مبطل على كل تقدير.
ومن آثار الدليل الأدبية : ما ذكره المؤرخون : أن عبد الله بن همام السلولي وشى به واش إلى عبيد الله بن زياد المعروف. -زياد ابن أبيه، الذي يقولون له : زياد ابن أبي سفيان، لأنه استلحقه معاوية بعد موت أبي سفيان، وهو معروف-قال لعبيد الله بن زياد واش من الوشاة : إن ابن همام السلولي يعيبك ويقول فيك كذا وكذا. فأحضر ابن زياد الواشي، وجعله في غرفة قريبة، وأحضر السلولي، وقال : لم تعيبني وتقول في كذا وكذا ؟ قال : أصلح الله الأمير، ما قلت شيئا من ذلك ! ففتح وأخرج الواشي، وقال : هذا أخبرني أنك قلت كذا وكذا ! فسكت ابن همام هنيهة ثم قال يخاطب الواشي :
وأنت امرؤ إما ائتم
يقول الله جل وعلا :﴿ قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم١٤٥ ﴾( الأنعام : الآية ١٤٥ ).
تكلمنا بالأمس بعض الكلام على هذه الآية، وذكرنا حكم الميتات البرية والبحرية، وذكرنا بعض ما زادته النصوص من المحرمات على هذه المحرمات الأربع، وذكرنا خلاف بعض العلماء في أشياء منه. وسنتكلم- إن شاء الله- الآن بعض الكلام على بقية الآية.
والمعنى : أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان المشركون في زمانه يحرمون بعض ما أحل الله، وأقام عليهم الحجج الواضحة، وأفحمهم بالمناظرة في قوله :﴿ قل ء الذكرين حرم ﴾( الأنعام : الآية ١٤٣ ) كما بينا وجه إفحامهم بالسبر والتقسيم في الآية، أخبرهم أنه لا تحريم إلا بالوحي، لا بالاجتهاد والهوى، فإنما الذي يحرم : الله، والطريق التي يعرف بها تحريم الله وتحليله هي الوحي، لا اتباع الهوى، أمر أن يقول :﴿ لا أجد في ما أوحي إلي محرما ﴾ شيئا من هذه المحرمات التي تزعمون انها حرام، كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحام، وكما في بطون تلك الأنعام التي قلتم هو محرم. وما حرمتم من الحروث، والزروع، والأنعام، كل هذا لا أجده حراما علينا فيما أوحى الله إلينا، وإنما أجد فيما أوحي تحريمه : هذه الأربعة.
﴿ لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه ﴾لطالب العلم أن يقول : لما قال :﴿ على طاعم ﴾ لم لا تكفي عنه قوله :﴿ يطعمه ﴾ ؟ وهو أسلوب عربي معروف تذكره العرب في لغتها، وهو كثير في القرآن، كقوله :﴿ ولا طائر يطير بجناحيه ﴾( الأنعام : الآية ٣٨ ) ومعلوم أنه لا يطير إلا بهما.
﴿ فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ﴾( البقرة : الآية ٧٩ ) ومعلوم أنهم لا يكتبونه إلا بأيديهم.
﴿ إلا أن يكون ميتة ﴾ قدمنا فيه أوجه القراءات، وأحكام أنواع الميتة.
وقوله :﴿ أو دما مسفوحا ﴾ عطف على قوله :﴿ ميتة ﴾. أما على قراءة الجمهور فهو منصوب معطوف على منصوب﴿ إلا أن يكون ميتة أو دما ﴾. فهو معطوف على ﴿ ميتة ﴾ المنصوب على أنه خبر كان.
وأما على قراءة ابن عامر﴿ لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن تكون ميتة أو دما مسفوحا ﴾فعطف المنصوب على المرفوع قد يشكل على طالب العلم، والجواب : أن قوله :﴿ أو دما ﴾ بالنصب في قراءة ابن عامر معطوف على المصدر المنسبك من( أن ) وصلتها في قوله :﴿ إلا أن يكون ﴾ إلا كونه ميتة أو دما، هكذا قاله بعض المعربين.
والدم المسفوح : المسفوح اسم مفعول( سفحه يسفحه ) إذا صبه.
وتقول العرب :" سفح الماء فهو سافح، وسفحه بوله يسفحه فهو سافح ". والمفعول : مسفوح. وقد يستعمل متعديا ولازما. فمن استعماله متعديا قوله هنا :﴿ أو دما مسفوحا ﴾ لأن المسفوح اسم مفعول ( سفحه يسفحه ) فالفاعل سافح، والمفعول مسفوح، إذا أراقه وصبه، ومن إتيان ( السافح ) اسم فاعل ( سفح ) اللازمة قول ذي الرمة غيلان بن عقبة :
أمن دمنة جرت بها ذيلها الصبا *** لصيداء- مهلا- ماء عينك سافح
أي : جار منصب. وهو هنا من ( سفح ) اللازمة.
والدم المسفوح : هو المصبوب من شيء حي، كما كان يفعله العرب، أو يكون خارجا من أجل الذكاة أو العقر. كانت عادة العرب إذا جاعوا أن يفصد الواحد منهم عرقا من جمله، ثم يجعل تحت الدم إناء، حتى يجتمع من عرق الجمل دم في الإناء، ثم يطبخه بالأبازير ويأكلونه، فحرم الله عليهم أكل الدم. وهو حرام، والانتفاع به حرام.
وأصل الدم : أصله( دمي ) بالياء على التحقيق، فلامه المحذوفة ياء، وغلط من علماء العربية من زعم أن لامه المحذوفة واو ووزنه بالميزان(.... ) ( في هذا الموضع انقطع التسجيل. ويمكن استدراك ذلك بمراجعة أضواء البيان( ١/١٠٤-١٠٥ ) ).
فتكون بالعين( يدمى ) والألف مبدلة من الياء، أصله ( يدمي ) كما هو معروف.
فلسنا على الأعقاب تدمى كلومنا *** ولكن على أقدامنا تقطر الدما
هل أنت إلا إصبع دميت *** وفي سبيل الله ما لقيت
هذا أصل الدم، وهو من الكلمات التي حذفت العرب لامها ولم تعوض عنها شيئا، وأعربتها على العين كدم، وغد، ويد، وثد، كما هو معروف. فلامه محذوفة لم يعوض عنها شيء.
والدم المسفوح : هو الذي صب من شيء حي، كفصد عرق الدابة، أو جرحها فيسيل منها دمه، أو هو الذي يسيل عند التذكية، كأن تذبح فيسيل من عروقها، أو عند العقر كأن يرميها بالنبل فيسيل الدم. هذا هو الدم المسفوح.
واعلموا أن الدم نزلت في تحريمه أربع آيات من كتاب الله، ثلاث منها مطلقة لا قيد فيها، وهي قوله في النحل :﴿ إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به ﴾( النحل : الآية ١١٥ )وقوله في سورة البقرة :﴿ إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله ﴾( البقرة : الآية ١٧٣ ) وقوله في المائدة :﴿ حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير ﴾( المائدة : الآية٣ ) فقد أطلق الدم عن قيد المسفوحية في النحل والبقرة والمائدة، وجاء مقيدا في الانعام بكونه مسفوحا. وجماهير العلماء على أن المطلق يحمل على المقيد، ولا سيما إن اتحد سببهما وحكمها كما هنا، سواء كان المقيد هو الأول في النزول، أو هو الآخر، لأن المقيد هنا هو المتقدم في النزول، لأن سورة الأنعام نازلة قبل السور الأخر الثلاث التي حرم فيها الدم، التي هي النحل، والبقرة، والمائدة. أما كون الأنعام قبل البقرة والمائدة فهو واضح لا يخفى، لأن الأنعام مكية بالإجماع، والبقرة والمائدة مدنيتان بالإجماع، فهذه قبل الهجرة، وهاتان بعدها، فكونهما بعدها لا إشكال فيه. أما النحل فالتحقيق أنها مكية، وزعم بعضهم أنها مدنية، وهو غلط ممن زعمه، والذي سبب هذا الغلط : أن خواتيم سورة النحل نزلت في المدينة في شهداء احد لما مثل المشركون بحمزة بن عبد المطلب-رضي الله عنه- وعبد الله بن جحش وغيره من شهداء أحد، فقد قطعوا آنافهم وآذانهم، وأخذت هند بنت عتبة بن ربيعة- وهي يوم أحد كافرة- نظمت قلادة من آذان الصحابة وآنافهم، كما هو معروف في السيرة، وتقلدتها، وأخذت قلادتها وجعلتها في عنق الوحشي، عبر جبير بن مطعم بن نوفل بن عدي النوفلي، لأنه هو الذي قتل حمزة، ثم رقيت على صخرة من صخرات أحد وبكت، لأنهم كانوا اشترطوا يوم بدر ألا يبكي أحد منهم على قتيله حتى يقتصوه، فلما قتل حمزة وعبد الله بن جحش، هذا عم النبي، وهذا ابن عمته، وقتل شماس بن عثمان من المهاجرين، ومن الأنصار سبعون من خيارهم، رقيت على صخرة من صخرات أحد وبكت تقول :
نحن جزيناكم بيوم بدر والحرب بعد الحرب ذات سعر
ما كان عن عتبة لي من صبر ولا أخي وعمه وبكري
شفيت نفسي وقضيت نذري *** شفيت وحشي غليل صدري
فشكر وحشي علي عمري *** حتى ترم أعظمي في قبري
يذكرون في سبب نزولها أن النبي صلى الله عليه وسلم لما وقف على عمه حمزة-رضي الله عنه- قتيلا وقد مثل به، أنه قال : لئن أظفرني الله بقريش لأمثلن بكذا وكذا رجلا منهم. وأن الله أنزل في ذلك خواتيم سورة النحل﴿ وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين١٢٦ ﴾( النحل : الآية ١٢٦ ) هكذا ذكره بعض العلماء، والمشهور عند المفسرين في أسباب النزول أن خواتيم( النحل )هذه مدنية، أما نفس سورة النحل فهي مكية.
وقد نزلت سورة النحل في مكة بعد سورة الأنعام، ودل القرآن في موضعين على أن النحل نازلة بعد الأنعام، أحد الموضعين : أن الله قال في النحل :﴿ وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل ﴾( النحل : الآية ١١٨ )، والمحرم المحال عليه المقصوص من قبل هو المذكور في الأنعام إجماعا في قوله :﴿ وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومها إلا ما حملت ظهورهما ﴾ الآية ( الأنعام : الآية ١٤٦ ).
الموضع الثاني من الموضعين الدالين على نزول الأنعام قبل النحل : أن الله قال في سورة الأنعام :﴿ سيقول الذين أشركوا لو أشاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ﴾( الأنعام : الآية ١٤٨ ) فبين أنهم سيقولونها في المستقبل، فعلم أنهم لو يقولوها فعلا في ذلك الوقت، وبين في سورة النحل أن ذلك القول الذي كان موعودا بأنه يقال : أنه قيل ووقع في سورة النحل، حيث قال في النحل :﴿ وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا ﴾( النحل : الآية ٣٥ )، فدل هذا على أن النحل بعد الأنعام، وأن السور الثلاث-أعني النحل، والبقرة، والمائدة- جاء فيها تحريم الدم مطلقا من غير قيد. وجاء في السورة النازلة أولا وهي الأنعام تقييده بكونه مسفوحا بقوله هنا :﴿ أو دما مسفوحا ﴾.
فجماهير العلماء من الصحابة وفقهاء الأمصار على أن تلك الآيات المطلقة في النحل، والمائدة، والبقرة، تقيد بقيد( الأنعام ) هذه، فلا يحرم الدم الغير المسفوح، ولذا أطبق العلماء على أن الحمرة التي تعلو القدر من أثر تقطيع اللحم وهي من الدم أنها معفو عنا وليست بنجس، لأنها ليست من الدم المسفوح. ويدخل في غير المسفوح : الكبد والطحال.
والحاصل أن الذي يظهر من الدم عند تقطيع اللحم وفصل الأعضاء بعضها عن بعض أن جمهور العلماء على أنه ليس بحرام، وليس من المسفوح. وأن الخارجة عند الذكاة، أو المخرج من شيء حي، أو عند العقر أنه هو الدم المسفوح.
واختلف العلماء في الدم الذي يتجمد في القلب عند ذبح الشاة، والذي ينقع في جوفها، خلاف معروف، ومنهم من يقول : هما حلالان، ومنهم من يقول : هما مسفوحان، وفصل علماء المالكية قالوا : الذي يتجمد في القلب طاهر، لأنه ليس بمسفوح، والذي ينقع في الجوف مسفوح، لأنه منعكس إليه من العروق التي سفح منها وقت الذبح. وهذا أظهر والله تعالى أعلم.
هذا معنى قوله :﴿ إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير ﴾ جميع هذه الآيات إنما صرحت بتحريم لحم الخنزير. والخنزير حيوان معروف خسيس قبحه الله، ولم تتعرض آية من كتاب الله إلى حكم شحم الخنزير، والعلماء مجمعون على أن شحم الخنزير حكمه حكم لحم الخنزير.
واستدل بهذا على بطلان دعوى ابن حزم أنه لا يحرم شيء إلا ما نص الله على تحريمه، لأن ابن حزم توسع توسعا شنيعا أجتنى به على الشرع، مع علمه وقوة ذهنه، وزعم أن كل ما[ لم ينص ] ( في الأصل : " مانص " وهو سبق لسان، والصواب : أن كل ما لم ينص... إلخ ) الله على أنه حرام أنه لا يمكن أن يكون حراما، ومن هنا حمل على الأئمة –رضي الله عنهم وأرضاهم – مالك، والشافعي، وأبي حنيفة، وأحمد، وغيرهم من فقهاء الأمصار، وتكلم عليهم كلاما شديدا شنيعا غير لائق، وزعم أنهم مشرعون، يشرعون من تلقاء أنفسهم، ولما احتج عليه بإجماع العلماء على أن شحم الخنزير حرام، والله لم يذكره في كتابه قياسا على لحمه الذي نص على تحريمه، أجاب ابن حزم عن هذا بأن قال : الضمير في قوله :﴿ فإنه رجس ﴾ عائد على الخنزير، فيدخل فيه شحمه ولحمه. وخالف في هذا القاعدة العربية المعروفة، لأن الضمائر في الأصل إنما ترجع للمضاف لا المضالف إليه، لأن المضاف هو المحدث عنه، فلو قلت : جاءني غلام زيد فأكرمته. يتبادر أن المكرم هو نفس الغلام لا زيد، وكذلك قوله :﴿ لحم خنزير فإنه ﴾ أي : لحم الخنزير ؛ لأنه هو المحدث عنه.
وربما رجع الضمير على المضاف إليه ناد
يقول الله جل وعلا :﴿ وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومها إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون١٤٦ ﴾( الأنعام : الآية ١٤٦ ).
لما بين الله ( جل وعلا ) أشياء حرمها على هذه الأمة على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، وكان حرمها عليهم لمصالح معلومة عنده ( جل وعلا )، بين أنه حرم على اليهود بعض الأشياء مؤاخدة لهم وجزاء لهم باجترامهم السيئات، تقول :" وعلى الذين هادوا " المراد بالذين هادوا هنا : اليهود، والعرب تقول :" هاد يهود " إذا تاب من ذنبه ورجع إلى الصواب. وهذا معروف في كلام العرب، ومنه قول الله في الأعراف عن نبيه موسى :﴿ واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك ﴾( الأعراف : الآية١٠٦ ) أي : تبنا ورجعنا منيبين إليك. فمعنى( هاد، يهود ) : إذا رجع تائبا إلى الحق، متنصلا من ذنبه. واسم فاعله :( هائد )، ويجمع على ( هود )، ومنه :﴿ كونوا هودا أو نصارى ﴾( البقرة : الآية ١٣٥ ) وجمع( الفاعل ) على ( فعل ) مسموع في أوزان قليلة، وكهائد وهود، وحائل وحول، وعائذ وعوذ، وبازل وبزل. وقد قال بعض الأدباء :
يا صاحب الذنب هد هد *** واسجد كأنك هدهد
فقوله أولا : " هد، هد " معنها : تب، تب. " واسجد كأنك هدهد " وهو الطائر المعروف. يعني : وإنما قيل لليهود :﴿ الذين هادوا ﴾لأنه في تاريخهم توبة عظيمة سجلها لهم القرآن، وهي توبتهم من عبادة العجل، لما رجع موسى من الميقات من الطور، ووجدهم يعبدون العجل، جاء الوحي بأن الله لا يقبل توبة أحد منهم حتى يقدم نفسه للموت، كما قدمنا إيضاحه في البقرة في قوله :﴿ فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم ﴾ ( البقرة : الآية ٥٤ ) أي : فقدمتم أنفسكم فتاب عليكم. هذه التوبة التي تجر الإنسان إلى أن يقدم نفسه لله صابرا محتسبا على الموت توبة عظيمة سجلها لهم القرآن، ولذلك ربما أطلق عليهم اسم :( الذين هادوا ) : تابوا. أي : بتلك التوبة المعروفة، وإن كانت هذه حسنة فخسائسهم المذكرة في القرآن لا تكاد أن تحصر.
﴿ وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ﴾ ﴿ كل ذي ظفر ﴾ معناه : أن كل حيوان له إصبع فيها ظفر، حرام على اليهود، ومن ذلك : الإبل، والنعام، والإوز، والبط، وماجرى مجرى ذلك، لأن كل هذه من دوات الظفر، فكل حيوان ذي ظفر كان محرما على اليهود جميعه، شحمه ولحمه، كالأنعام، وكالإبل، وكالبط، والإوز، وما جرى مجرى ذلك.
وقول بعض العلماء : الظفر : الحافر، فإنه يحرم عليهم كل ذات حافر. غير صحيح، لأنهم يعدون أظافر البقر والغنم من ذوات الحوافر، ولحومها مباحة لهم كما سيأتي.
وقول بعضهم : المراد بذات الظفر هي : ذات المخالب، أو ذات السباع من الطير. لا يساعده لفظ القرآن، فالصحيح أنه ما كالبعير، وما كالنعامة، وما كالبط، وما كالإوز، وما جرى مجرى ذلك.
وقوله :﴿ وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومها ﴾أي : حرمنا عليهم شحوم البقر والغنم لا لحومها.
والتحقيق : أن الشحوم المحرمة عليهم من البقر، والغنم مقصورة على الثروب، وشحم الكليتين.
والثروب : جمع ثرب، وهو الغطاء-الغشاء- من الشحم الرقيق الذي يغطي الجوف فيكون على الكرش والمصارين. هذا هو وشحم الكلى هو الحرام عليهم، أما غيره فيدخل فالاستثناءات الآتية، ولذا قال :﴿ حرمنا عليهم شحومها إلا ما حملت ظهورها ﴾ قرأ بعض السبعة :﴿ إلا ما حملت ظهورها ﴾بإظهار التاء، وقرأ بعضهم :﴿ إلا ما حملت ظهورها ﴾ بالإدغام –الإدغام الصغير -يعني : أن ما علق بظهر البقر والغنم من الشحوم، كالشرائح التي تكون على الظهر من الشحم، فإنها مباحة لهم.
وقوله :﴿ أو الحوايا ﴾ التحقيق أن ﴿ أو الحوايا ﴾ في محل رفع معطوف على الظهور، يعني : إلا ما حملت ظهورهما أو ما حملته الحوايا، فهو مستثنى بالتحريم، خلافا لمن زعم أن الحوايا يعني منصوبا معطوفا على شحومها، حرمنا عليهم شحومها أو الحوايا، فهي محرمة، فهذا القول ضعيف مرجوح. والمعنى : أن ما حملته الظهور من الشحوم حلال لهم، وما حملته الحوايا.
والحوايا : تختلف فيها عبارات المفسرين بألفاظ متقاربة، معناها راجع إلى شيء واحد. منهم من يقول : هي بنات اللبن، ويسمونها بأسماء، والتحقيق : أنها كل ما كان مدورا في البطن مما يسمى : الدوارة، والمصارين، ومحل البعر الذي يخرج منه. ما تعلق بذلك الجوف من الشحوم غير الثروب التي هي غشاء فوق الجوف، كل ما تعلق بذلك فهو حلال لهم. وهذا معنى :﴿ أو الحوايا ﴾ وهو جمع ( حاوية )، كقاصعة وقاصعاء. وقيل : جمع( حوية ) ك :( فعيلة ) و( فاعلة ). وهي ما احتوت عليه البطن من الأمعاء، وما جرى مجراها من الدوارة، والمباعر، ونحو ذلك. فالمتعلق بهذا من الشحم لا يحرم عليهم، وإنما يحرم عليهم الثروب، وهي الغشاء الذي فوق الكرش والأمعاء من الشحم، وشحم الكلى. وهذا معنى قوله :﴿ أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ﴾.
والتحقيق أن :﴿ أو ما اختلط بعظم ﴾ معطوف على المستثنى الحلال، أي : فما اختلط بالعظم فهو حلال لهم، فكل شحم مختلط بعظم كالشحم الذي يكون في عظام البقرة والشاة فكله حلال لهم.
ويدخل فيه الذنب الكبير السمين الذي يسمى الإلية فإنه مختلط بعظم، لأنه مختلط بعظم العصعص، وهو عجب الذنب المعروف. ويدخل في ﴿ فيما اختلط بعظم ﴾ : شحم العينين، وشحم الأذنين، وكل شحم اختلط فإنه حلال لهم. وهذه الاستثناءات تبين أن الحرام عليهم إنما هو الثروب، وشحم الكلى فقط. وهذا معنى قوله :﴿ أو ما اختلط بعظم ﴾.
ثم بين الله أنه حرم عليهم بعض هذه المحرمات بسبب ظلمهم، فضيق عليهم بالتحريم لمخالفتهم واجترامهم، كما بينه في النساء بقوله :﴿ فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا١٦٠ وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل ﴾( النساء : الآيتان ١٦٠-١٦١ ) أي : وقتلهم الأنبياء، وتحريفهم للكتب، كل هذه الذنوب حرم عليهم بسببها بعض الطيبات، ولذا كان نبي الله عيسى ابن مريم ( عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ) بعث بأن يكون جميع عمله وأحكامه في الغالب عملا بالتوراة، ولا يزيد إلا أن يحلل لهم بعض ما حرم عليهم بسبب ذنوبهم كما سيأتي في قوله عن عيسى ابن مريم :﴿ ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم ﴾( آل عمران : الآية ٥٠ ) فجاء تخفيف وتحليل على لسان عيسى ابن مريم، ولكنهم- قبحهم الله- لعداوته لم يقبلوا منه شيئا، وزعموا أنه لبن زانية !
+وقد يشكل على كثير من الناس أن من يزعمون أنهم على دين النصرانية دائما يفصلون الدين من السياسة، ويزعمون أن الدين مقتصر على الكنيسة، وأنه لا دخل له في تنظيم العلاقات البشرية، والأعمال الدنيوية ! وسبب ذلك : أن النصارى يزعمون أنهم على دين عيسى ابن مريم، ودين عيسى ابن مريم جل شريعته التي فيها الحلال، والحرام، والحدود، وإقامة صلاح المجتمع إنما هو بالكتاب الذي هو التوراة، وفي الإنجيل زيادات ليس فيها شرع قائم مستقل، فالنصارى لشدة بغضهم لموسى كذبوا بكتابه، ولم يأخذوا من شريعة عيسى إلا ما اختص به الإنجيل، وتركوا ما في التوراة مما بعث عيسى بالعمل به، وصارت ليس في الإنجيل شريعة كاملة وافية يفصل فيها الحلال والحرام وأحكام علاقات الدنيا، فاضطروا إلى أن يجعلوا تشريعا سموه ( الأمانة الكبرى ) وهي الخيانة العظمى ! كما هو معروف في تاريخهم. أما التوراة فهو كتاب فيه شرع واضح تبين فيه العقائد، والحلال والحرام، وكل شيء، كما قال الله( جل وعلا ) عن التوراة :﴿ وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء ﴾ ( الأعراف : الآية ١٤٥ ) مع أن الإنجيل جاء به بعض الأحكام :﴿ وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ﴾ ( المائدة : الآية ٤٧ ). وكثير من أحكام الإنجيل يحال فيها على ما أنزل الله على موسى في التوراة، كما قال الله في التوراة :﴿ إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار ﴾( المائدة : الآية ٤٤ ). وهذا معنى قوله :﴿ وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومها إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ﴾.
﴿ ذلك جزيناهم ﴾ ذلك التحريم والتضييق جزيناهم بسبب بغيهم، أي : كفرهم، وظلمهم، وعدوانهم، كما بينه بقوله :﴿ وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما ١٥٦ وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم ﴾( النساء : الآيتان ١٥٦-١٥٧ ) وقوله :﴿ فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا١٦٠ وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل ﴾( النساء : الآيتان ١٦٠-١٦١ ) وكقوله :﴿ وقتلهم الأنبياء بغير حق ﴾ ( النساء : الآية ١٥٥ ) وقوله :﴿ ويقتلون النبيين بغر حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس ﴾( آل عمران : الآية ٢١ ) هذا الظلم والبغي حرم الله عليهم بسببه بعض ما كان حلالا عليهم، كما قال هنا :﴿ ذلك جزيناهم ببغيهم ﴾.
وفي إعراب ( ذلك ) وجهان معروفان :
أحدهما : أنها في محل رفع. الأمر الذي قصصنا عليك جزيناهم ذلك الجزاء ببغيهم.
الثاني : أنها في محل نصب بمصدر، أي : جزيناهم ذلك الجزاء، وهذا الإعراب اختاره غير واحد. ولكن ابن مالك قال : إن اسم الإشارة لا يكون منصوبا على المصدر إلا إذا ذكر بعده المصدر، كأن تقول : قمت هذا القيام، وقعدت ذلك القعود. أما لو لم تذكر بعده المصدر كأن قلت : " قمت هذا " تعني : القيام، أو " جلست هذا " تعني : الجلوس، يزعم ابن مالك أن هذا لا يجوز وقال بعض العلماء : هي مفعول أول ل( جزيناهم )، لأن ( جزى ) تتعدى لمفعولين، تقول : جزيت عمرا خيرا، وجزيته شرا، فتكون ( ذلك ) أحد مفعولي( جزى )، أي : جزيناهم ذلك الجزاء ببغيهم، فتكون مفعولا به مقدما، وعليه فلا إشكال.
والبغي : أصله الإرادة، وكثيرا ما يستعمل في إرادة الظلم.
وقوله :﴿ وإنا لصادقون ﴾ صيغة الجمع للتعظيم. والله يقول : إني لصادق. معظما نفسه، ومعلوم أن الله صادقا على كل حال، ﴿ ومن أصدق من الله قيلا ﴾ ( النساء : الآية ١٢٢ )، ﴿ ومن أصدق من الله حديثا ﴾( النساء : الآية ٨٧ ). والسبب في هذا أن اليهود زعموا أن هذا الذي حرم عليهم لم يكن جزاء ولا عقوبة، بل إنما كان حراما على إسرائيل، حرمه إسرائيل على نفسه فاقتدوا به. وقد تقدم أن الله أكذبهم في هذه الدعوى وألقمهم فيها حجرا في سورة آل عمران، في قوله :﴿ كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين٩٣ ﴾ ( آل عمران : الآية ٩٣ ) فلما أفحمهم وقال :﴿ قل فأتوا بالتوراة إن كنتم صادقين ﴾ خجلوا ولم يأتوا بالتوراة، وعلموا أن القرآن مهيمن على الكتاب، كما قال :﴿ ومهيمنا عليه ﴾( المائدة : الآية ٤٨ ) ولذا قال هنا :﴿ وإنا لصادقون ﴾، فيما ذكرنا من أنا حرمنا عليهم ذلك لظلمهم، لا أنه حرمه إسرائيل على نفسه، والذي حرمه إسرائيل على نفسه قد قدمنا في سورة آل عمران أن المفسرين يذكرون أن نبي الله يعقوب أصابه المسمى بعرق النسا وآلمه
الواو في قوله :﴿ فإن كذبوك ﴾ قال بعض العلماء : راجعة إلى اليهود، لأنهم أقرب من ذكر في قوله :﴿ وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ﴾ فإن كذبوك وقالوا : لم تحرم علينا هذه الأشياء جزاء بغينا، بل ما كان حراما علينا إلا ما حرمه إسرائيل على نفسه﴿ فقل ربكم ذو رحمة واسعة ﴾.
الوجه الثاني : أنه راجع إلى كفار مكة الذين أرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم، وبين لهم أن شركهم بالله باطل، وأن تشريعهم الحلال والحرام بالكذب باطل. فإن كذبوك وقالوا : ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكرونا ومحرم على أزواجنا، والبحيرة حق، والسائبة حق، وما جرى مجرى ذلك، فقل : ربكم ذو رحمة واسعة.
وقال بعض العلماء : يرجع إلى الجميع، فإن كذبك الكفرة المعادون المعاندون من مشركين ويهود فقل لهم : ربكم الذي أنشأكم وأوجدكم ذو رحمة واسعة، إلا أن هذه الرحمة الواسعة ذكر الله في سورة الأعراف أنها مخصوصة بالمتقين حيث قال :﴿ ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون ﴾( الأعراف : الآية ١٥٦ ) لا لكل كافر وفاجر.
وقد قدمنا في تفسير ( البسملة )و( الفاتحة ) أن ( الرحمة ) صفة من صفات الله، اشتق لنفسه منها اسم( الرحمان )و( الرحيم )، وأن ( الرحمان ) هو : ذو الرحمة الشاملة في الدنيا لجميع المخلوقين[ في الدنيا، و( الرحيم ) : هو الذي يرحم عباده المؤمنين في الآخرة ] (... ) ( في هذا الموضع وجد انقطاع في التسجيل، وجرت عادة الشيخ رحمه الله في مثل هذا الموضع أن يذكر عقيدة أهل السنة في باب الصفات، وأنها تنبني على ثلاثة أسس، ثم يذكر عقيدة المتكلمين في هذا الباب وتقسيمهم الصفات قسمة سداسية، ثم يرد عليهم. وهو كلام طويل أكتفي بالإحالة عليه في أحد المواضع، وذلك عند تفسير الآية ( ١٥٧ ) من سورة الأنعام، وكذا محاضرة الشيخ ( رحمه الله ) في الأسماء والصفات، وهي مطبوعة بعنوان :( منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات ). انظر ص١٣-١٦، ١٩-٢٢ من المطبوع.
تنبيه : ما بين المعقوفتين زيادة تم بها استدراك بعض النقص المتعلق بالكلام على صفة ( الرحمة ) وقد نقلته من كلام الشيخ( رحمه الله ) عند تفسير الآية ( ١٣٣ ) من سورة الأنعام ).
﴿ إني اصطفيتك على الناس برسالتي وبكلامي ﴾( الأعراف : الآية ١٤٤ ) ﴿ فأجره حتى يسمع كلام الله ﴾ ( التوبة : الآية٦ ) ووصف بعض خلقه بالكلام فقال :﴿ فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين ﴾( يوسف : الآية ٥٤ ) وقال :﴿ وتكلمنا أيديهم ﴾ ( يس : الآية ٦٥ ) ولا شك أن لله كلاما لائقا بكماله وجلاله، وللمخلوقين كلام مناسب لحالهم وعجزهم وفنائهم وافتقارهم، وبين كلام الخالق والمخلوق من المنافاة كما بين ذات الخالق والمخلوق.
هذه صفات المعاني السبع الذي أقر بها من جحد كثيرا من الصفات.
كذلك الصفات التي يسمونها السلبية، والصفة السلبية في اصطلاح المتكلمين : هي التي لا تدل بدلالة المطابقة على معنى وجودي، وإنما تدل على سلب ما لا يليق بالله عن الله. وهي عند المتكلمين خمس صفات : هي : البقاء، والقدم، والغنى المطلق –الذي يسمونه : القيام بالنفس، يعنون به : الاستغناء عن المحل والمخصص، -والمخالفة للخلق، والوحدانية. أما القدم، والبقاء : فالمتكلمون أثبتوهما لله، وقد قال بعض العلماء : إنه ورد في مثل ذلك حديث، وبعضهم ينفي صحته. والمتكلمون يقصدون بهما معنى صحيحا، لأن القدم عندهم : هو سلب العدم السابق، والبقاء : هو سلب العدم اللاحق. زاعمين أن الله أثبتهما لنفسه في قوله :﴿ هو الأول والآخر ﴾ ( الحديد : الآية ٣ ) أي : الأول الذي لا ابتداء لأوليته، والآخر الذي لا انتهاء لآخريته. قالوا : هذا معنى القدم والبقاء.
فنقول : القدم وصف الله به المخلوقين، قال :﴿ حتى عاد كالعرجون القديم ﴾( يس : الآية ٣٩ )﴿ إنك لفي ضلالك القديم ﴾ ( يوسف : الآية ٩٥ ) ﴿ أنتم وآباؤكم الأقدمون٧٦ ﴾ ( الشعراء : الآية ٧٦ ) والبقاء وصف به الحادث حيث قال :﴿ وجعلنا ذريته هم الباقين٧٧ ﴾( الصافات : الآية٧٧ ) ﴿ ما عندكم ينفذ وما عند الله باق ﴾ ( النحل : الآية٩٦ ) والوحدانية وصف بها نفسه :﴿ وإلهكم إله واحد ﴾ ( البقرة : الآية ١٦٣ ) ووصف بعض المخلوقين بها قال :﴿ يسقى بماء واحد ﴾ ( الرعد : الآية٤ ) والغنى وصف به نفسه :﴿ إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد ﴾( إبراهيم : الآية ٨ ) ﴿ والله غني حميد ﴾ ( التغابن : الآية٦ ) وقال في بعض المخلوقين :﴿ ومن كان غنيا فليستعفف ﴾ ( النساء : الآية٦ ) ﴿ إن يكونوا فقراء يغنهم الله ﴾ ( النور : الآية ٣٢ ). ولا شك أن ما وصف به الله من هذه الصفات مخالف لما وصف به المخلوق، كمخالفة ذات الله لذات المخلوق، فلا مناسبة بين الذات والذات، ولا بين الصفة والصفة، فالله حق، وصفاته حق، والمخلوقون حق، وصفاتهم حق، إلا أن صفة كل بحسبه، فصفة الله بالغة من الكمال والتنزيه ما تتعاظم أن تشبه صفات المخلوقين، كما أن ذات الخالق تتعاظم ان تشبه ذوات المخلوقين.
وهذه الصفات الجامعة : كالعلو، والكبر، والعظم، والملك، والجبروت، كل هذا جاء في القرآن العظيم وصف الخالق والمخلوق به، فقد وصف تعالى نفسه بالعلو والكبر والعظم، قال في وصف نفسه بالعلو والعظم :﴿ ولا يئوده حفظهما وهو العلي العظيم ﴾ ( البقرة : الآية ٢٥٥ ). وقال في وصف نفسه بالعلو والكبر :﴿ إن الله كان عليا كبيرا ﴾ ( النساء : الآية ٣٤ ) ﴿ عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال٩ ﴾ ( الرعد : الآية٩ ) (... ) ( في هذا الموضع وجد انقطاع في التسجيل. ويمكن استدراك النقص بمراجعة محاضرة الشيخ( رحمه الله ) في الأسماء والصفات( ص١٧-١٩ ) مع مراجعة كلام الشيخ ( رحمه الله ) على هذه المسألة في هذا التفسير عند الآية( ١٣٣ ) من سورة الأنعام وغيره من المواضع بالإضافة إلى محاضرة( منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات ) ) فإن كذبوك، وتمردوا، وكفروا فقل لهم، رغبهم ورهبهم، واجمع لهم بين الوعد والوعيد، فأخبرهم أن ربك واسع الرحمة لمن أطاعه، يرحمه ويدخله جنته، شديد العقاب والنكال لمن عصاه، لأن مطامع العقلاء محصورة في أمرين : هما جلب النفع ودفع الضر، ومن أمثال العرب :( سوط وتمرة ) ليكون الخوف والرجاء جناحين يطير بهما الإنسان إلى امتثال أمر الله. هذا الملك الجبار الذي أدعوكم إليه رحيم عظيم الرحمة الواسعة لمن أطاعه، شديد النكال والبأس لمن عصاه، فعليكم أن تخافوا بأسه ونكاله، وتطمعوا في رحمته فتطيعوه.
قال بعض العلماء : ومن معاني قوله :﴿ ربكم ذو رحمة واسعة ﴾( الأنعام : الآية ١٤٧ ) حيث أمهلكم، وأغدق عليكم نعمه، وأعطاكم العافية والإمهال، وأنتم تكذبون رسله، وترتكبون مساخطه، وتتمردون عليه، فما أرحمه، وما أعظم لطفه ( جل وعلا ) ! ! إلا أنه قال :﴿ ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين ﴾ إذا أراد بطشا بقوم مجرمين لا يرد بأسه عنهم، ﴿ بأسه ﴾ أي : عذابه ونكاله، لا يقدر أحد أن يرده، لا بقوة ولا بشفاعة، ولا بغير ذلك، كبأس غيره من ملوك الدنيا الذي يرد بأسه بالقوة، ويرد بالشفاعة من غير إذن، فهو إذا أراد بقوم سوءا فلا مرد له.
وكثيرا في القرآن أن يجمع الله بين الوعد والوعيد، يجمع بين الخوف والطمع، كقوله هنا :﴿ ذو رحمة واسعة ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين ﴾ وقوله في آخر هذه السورة :﴿ إن ربك سريع العقاب وإنه غفور رحيم ﴾ ( الأنعام : الآية ١٦٥ ) ﴿ نبيء عبادي أني أنا الغفور الرحيم ٤٩ وأن عذابي هو العذاب الأليم ٥٠ ﴾ ( الحجر : الآيتان ٤٩-٥٠ ) ﴿ تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم٢ غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ﴾ ( غافر : الآيتان ٢-٣ ) وقوله جل وعلا :﴿ وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب ﴾( الرعد : الآية ٦ ) إلى غير ذلك من الآيات.
وقد قدمنا في هذه الدروس مرارا أن لفظ ( القوم ) قال بعض العلماء : إنما سمي قوم الرجل ( قوما ) لأنه يرجع إليهم فيكونوا قواما له، لأنه لا يستغني الإنسان عن جماعة يستند إليهم فيساعدوه في أموره.
وقد قدمنا مرارا أن القوم في الوضع العربي مختص بالذكور، وأنه ربما دخل فيه الإناث بحكم التبع، وبينا أن الدليل على اختصاص القوم بالذكور : قول الله في الحجرات :﴿ لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ﴾( الحجرات : الآية ١١ ) فعطفه النساء على القوم يدل على المغايرة، ونظيره قوم زهير :
وما أدري وسوف إخال أدري أقوم آل حصن أم نساء.
والدليل على دخول النساء في القوم بحكم التبع : قوله في بلقيس ملكة اليمن :﴿ وصدها ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين٤٣ ﴾( النحل : الآية ٤٣ ).
وقوله :﴿ بأسه ﴾ أي : عذابه ونكاله.
وقوله :﴿ المجرمين ﴾ هو جمع تصحيح للمجرم، والمجرم : اسم فاعل الإجرام، والإجرام ارتكاب الجريمة. والجريمة : الذنب العظيم الذي يستحق صاحبه العذاب. كالذين كفروا بالله، وحرموا وحللوا بالباطل، وفعلوا الفواحش، وقالوا : الله أمرنا بها. هؤلاء كلهم من القوم المجرمين.
﴿ سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون١٤٨ ﴾( الأنعام : الآية ١٤٨ ).
هذه الآية الكريمة من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه أخبر فيها عن أمر غيب، ثم تحقق ذلك الغيب طبقا لما ذكر، قال :﴿ سيقول الذين أشركوا ﴾ ذكر أنهم سيقولونه في المستقبل، وهو أمر غيب، ثم بين الله أن إخباره عن ذلك الغيب وقع كما قال، بينه في ( النحل )و( الزخرف )، حيث قال في ( النحل ) :﴿ وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء ﴾( النحل : الآية ٣٥ ) وقال في ( الزخرف ) :﴿ وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ﴾ ( الزخرف : الآية٢٠ ) فتحقق ما قال : إنهم سيقولونه.
وهذه شبهة جاء بها الكفار-عليهم لعائن الله- وتمسك بها المعتزلة، فهذه الآية محط رحال عند المعتزلة في أن العبد يخلق عمل نفسه بلا تأثير لقدرة الله فيها- سبحانه وتعالى عن قولهم وافترائهم- وكلام الزمخشري في هذه الآية في غاية الخبث والقبح، لأنه يزعم أن هذه الآية تبريء الله وتنزهه من أن يكون شيء من الشر بإرادته أبدا، وأن جميع الشر بإرادة العباد. في كلام قبيح خبيث.
ولما أفحم القرآن الكفار في تحريم ما حرموه بالأدلة والمناظرات، حيث قال :﴿ قل ألذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين ﴾ ( الأنعام : الآية ١٤٣ ) وأفحمهم بالحجة في أنه لم يحرم هذا، وأفحمهم أنه ليس له شركاء، قال :﴿ وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات ﴾ ( الأنعام : الآية١٤١ ) وهو الخالق الصانع المدبر الذي لا حرام إلا ما حرمه، ولا حلال إلا ما أحله، ولا معبود إلا هو، لما أفحمتهم الأدلة، وألقمتهم البراهين الحجر[ قالوا كلمة ] ( في هذا الموضع وقع مسح في التسجيل. وما بين المعقوفتين[ ] زيادة يتم بها الكلام ) حق أرادوا بها باطلا، قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : هذا الكفر والتحريم، وتحريم البحائر والسوائب، وهذه الأنعام والحرث التي قلنا : إنها حجر، وهذا جعل النصيب لغير الله، هذا الكفر، لأنه قوي ونحن الضعفاء، فهو قادر جدا على أن يمنعنا، فلما كان قادرا على منعنا ولم يمنعنا عرفنا أنه راض بفعلنا، لأنه إن رآك تفعل شيئا قبيحا وهو قادر على أن يمنعك وتركك تفعله، ولم يمنعك منه، معناه : أنه راض بفعلك، وأنه حسن عنده ! هذا مقصودهم- قبحهم الله- كما أنهم لما قيل لهم : تصدقوا على المساكين ! قالوا : الرزق أكثر عند الله، وهو الذي خلقه، والطعام أكثر عنده، فلو كان يحب أحدا أن يطعمه لأطعمه هو ! كما يأتي في ( يس ) في قوله :﴿ أنطعم من لو يشاء الله أطعمه إن أنتم إلا في ضلال مبين ﴾( يس : الآية ٤٧ ) فقد احتجوا بهذه الحجة الباطلة، والكلام الذي هو من جهة حق أريد به الباطل﴿ لو شاء الله ﴾ قالوا : نعم، إن شركنا كفر، وأنه مودي للنار، وإن ما حرمنا تحريم افتراء على الله، وأنا ندخل به النار، هذا الذي فعلنا بمشيئة الله، لو شاء الله عدم إشراكنا ما أشركنا، ولو شاء أن لم نحرم شيئا ما حرمنا شيئا، فلما كان قادرا على منعنا ولم يمنعنا دل ذلك على أنه راض بفعلنا، ولذا قالوا :﴿ لو شاء الله ﴾ عدم إشراكنا﴿ ما أشراكنا ولا آباؤنا ﴾ يعني : ولا أشرك آباؤنا. وإنما سوغ العطف هنا على ضمير الرفع المنفصل : الفصل بين العطف والمعطوف ب( لا )، وهو مذهب الكوفيين، وهو صحيح، لأن القرآن جاء بمذهب الكوفيين هنا، وفي مذهب البصريين في ( النحل )، لأن مذهب البصريين : أن ضمير الرفع المتصل لا يعطف عليه إلا في الإتيان بضمير رفع منفصل ك( نحن ) في قوله في ( النحل ) :﴿ لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ﴾( النحل : الآية ٣٥ ) والكوفيون يقولون : يكفي أي فاصل و( لا ) هنا فاصلة، فهي تكفي. وهو الحق، لأن القرآن نزل به.
﴿ ولو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء ﴾( الأنعام : الآية ١٤٨ ) يعني هذا التحريم الذي فعلنا، والشرك الذي فعلنا، هو بمشيئته، ولو شاء لمنعنا، فلما لم يمنعنا عرفنا أنه راض بفعلنا. وهذه الجمل، قولهم منها :﴿ لو شاء الله ما أشركنا ﴾ هذا كلام صحيح لا شك فيه، ولكنه كلام حق أريد به باطل، لأنهم يزعمون أنه لما كان قادرا على منعهم ولم يمنعهم أن ذلك رضا منه، والله يقول :﴿ ولا يرضى لعباده الكفر ﴾ ( الزمر : الآية٧ ) فهو لا يرضى بذلك الفعل بل يدخلهم به النار. وحاصل هذا : أن الكفار احتجوا بأن الله قادر على أن يمنعهم [ من الوقوع فيما وقعوا فيه ] ( في هذا الموضع وجد مسح في التسجيل. وما بين المعقوفتين[ ] زيادة يتم بها الكلام ) من الشرك وتحريم ما حرموا، دل ذلك على أنه راض بذلك. فالله كذبهم في هذه وقال : إن عدم منعه لهم مع قدرته على ذلك لا يدل على رضاه، لأن الله( جل وعلا ) يأمر خلقه جميعا بالدعوة، ويوفق من شاء، ويخذل من شاء، فالذي وفقه للخير يرضى بفعله، والذي لم يوفقه للخير لم يرض الله( جل وعلا ) بالكفر، والإرادة الكونية القدرية لا تستلزم الرضا، فالله ( جل وعلا ) قد أراد كونا وقدرا كفر الكافرين، لأن الله يقول :﴿ ولو شاء الله ما أشركوا ﴾( الأنعام : الآية ١٠٧ )﴿ ولو شئنا لأتينا كل نفس هداها ﴾ ( السجدة : الآية ١٣ )﴿ ولو شاء الله لجمعهم على الهدى ﴾ ( الأنعام : الآية ٣٥ ) وهذا الكفر بمشيئته ولكنه ليس يرضاه، والإرادة الكونية القدرية لا تستلزم الرضا، وإنما يستلزم الرضا : الإرادة الشرعية الدينية، فما أحبه الله شرعا، ورضيه دينا، وأراده دينا هذا هو الذي يلازم الرضا. أما الإرادة الكونية القدرية فإنها لا تستلزم الرضا، فقد يريد الله كونا وقدرا ما يرضاه، كإيمان المؤمنين، وقد يريد كونا وقدرا ما لا يرضاه ككفر الكافرين، وقد بينا احتجاج المعتزلة بهذا، وذكرنا بعض المناظرات التي توضح هذا. والحاصل أن الله تبارك وتعالى خلق خلقه، وسبق في سابق أزله أن قوما صائرون إلى الجنة، وقوما صائرون إلى النار، ثم إن الله صرف بقدرته وإرادته قدرهم وإرادتهم إلى ما سبق به العلم الأزلي، فأتوه طائعين : " اعملوا فكل ميسر لما خلق له ".
وقد بينا أن عبد الجبار المعتزلي لما جاء يتقرب بهذا المذهب ويقول : " سبحان من تنزه عن الفحشاء ". يعني : أن الله لا يشاء السرقة والزنى، لأنهم يزعمون-في زعمهم الباطل- أن الله أكرم، وأنزه، وأجل من أن تكون هذه القبائح بمشيئته، ولذا قال معبرا عن هذا :" سبحان من تنزه عن الفحشاء ".
فناظره أبو إسحاق الإسفراييني فقال :" سبحان من لا يقع في ملكه إلا ما يشاء ".
فقال عبد الجبار : " أتراه يشاؤه ويعاقبني عليه " ؟
فقال أبو إسحاق :" أتراك تفعل جبرا عليه، أأنت الرب وهو العبد " ؟
فقال عبد الجبار :" أرأيت إن دعاني إلى الهدى، وقضى علي بالردى، دعاني إلى الخير، وأوضح لي طريق الخير، ولكن سد بابه دوني، أتراه أحسن إلي أم أساء " ؟ !
قال : " إن كان الذي منعك حق واجبا لك عليه فقد ظلمك وقد أساء، وإن ملكه المحض فإن أعطاك ففضل، وإن منعك فعدل ". فبهت عبد الجبار، وقال الحاضرون :" والله ما لهذا جواب ".
وهذه المسألة بعينها هي التي ذكرنا أن البدوي الجاهل أسكت بها كبير المعتزلة عمر بن عبيد المشهور، الذي رثاه أبو جعفر المنصور، لأنه لما سرقت له دابة كان يعمل عليها، فجاء لعمرو بن عبيد فقال : ادع الله أن يردها لي. قالوا : إنه قام يتقرب بهذا المذهب فقال : اللهم إنها سرقت، ولم ترد سرقتها، لأنك أكرم، وأجل، وأنزه من أن تريد هذه الخسيسة القبيحة ! فالبدوي الجاهل قال له : ناشدتك الله يا هذا إلا ما كففت عني من دعائك الخبيث، إن كانت سرقت ولم يرد سرقتها فقد يريد ردها ولا ترد ! فهم حاولوا أن ينزهوا الله عن أن تكون القبائح بمشيئته فقدحوا في قدرته وإرادته، وجعلوا الخلق يفعلون شيئا بلا قدرة الله ولا إرادته، أرادوا أن ينزهوه فقدحوا في ربوبيته- والعياذ بالله- فمن كان منهم حسن الظن فقد وقع في أمر عظيم، ومن كان سيء الظن فهو سيء الظن، والإنسان قد يحسن الظن ويريد البر ويقع في آثام عظيمة كبيرة، وقد قال الشافعي رحمه الله :
رام نفعا فضر من غير قصد ومن البر ما يكون عقوقا
والحاصل أن الله ( تبارك وتعالى ) أعلم بخلقه، فخلق خلقه، وقدر مقادير الكائنات قبل أن يخلقها، ثم إنه خلق قوما جبلهم على القبح، والخساسة، والخبث-والعياذ بالله- وخلق قوما جبلهم على الطهارة، ويسر كلا لما خلقه له، فصرف الطيبين- صرق قدرتهم وإرادتهم- بقدرته وإرادته إلى ما شاء من خير، فأتوه طائعين، فأدخلهم جنته، وصرف قدرة قوم آخرين وإرادتهم بمشيئته وقدرته إلى ما سبق به علمه فأتوه طائعين فدخلوا النار﴿ وما تشاؤون إلا أن يشاء الله ﴾( الإنسان : الآية ٣٠ ). فالله ( جل وعلا )يصرف قدر الخلق وإرادتهم حتى يأتوا ما سبق به العلم الأزلي، يأتوه طائعين، ولذا قال صلى الله عليه وسلم :" كل ميسر لما خلق له ".
ولا شك أن الجاهل يقول هنا : ما الحكمة عند الله وهو الرؤوف الرحيم الكريم أن يخلق قوما ويجبلهم على الخبث، ويصرف إرادتهم إلى ما يستوجبون به العذاب الأليم مع أنه الرحمن الرحيم ؟ ؟.
هذا سؤال إلحادي قد يقع في قلوب كثيرة من الملاحدة.
والجواب عن هذا : إن خالق السموات والأرض، الجبار( جل وعلا )، غني عن جميع الخلائق، غنى بذاته الغنى المطلق﴿ إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد ﴾ ( إبراهيم : الآية٨ ) وإنما خلق الخلق ليظهر فيهم بعض أسرار عظمته، وأسرار أسمائه وصفاته، فلو لم يخلق إلا المطيعين، ولم يكن- أبدا- إلا الثواب كان ذلك إدلالا عليه، وسببا للجراءة على الجناب الكريم، لأن الذي لا يخاف يدل بمحبته، وقد يقع في الجناب الأعظم بما لا يليق، ولما خلق قوما أشقياء ظهر فيهم ما عنده من الإنصاف والحكمة البالغة، وظهر فيهم بعض أسرار أسمائه كالجبار، والقهار، وظهر فيهم عظمته، وقوته، وشدة عقابه ونكاله، ليحصل الخوف من جانب، خلق قوما آخرين ووفقه إلى الخير، ليظهر فيهم بعض أسرار أسمائه وصفاته، من الرأفة، والرحمة، والحلم، والكرم، والجود، ليجمع بين المحبة والخوف، فلو كانت محبة لا خوف فيها لكان لا عظمة في القلوب، ولوقع الناس في الجناب الإلهي، ، لأنهم لا يخافون من شيء. ولو كان خوفا محضا لا محبة معه ولا رحمة لكان الكل يمقتون الله ويكرهونه، وكان ذلك غير لائق، فاقتضت الحكمة أن يقسم الخلق إلى صنفين، ليظهر في هؤلاء بعض أسرار أسمائه وصفاته، من الرأفة، والرحمة، والكرم، والجود، وجبل قوما آخرين على خلاف ذلك، ليظهر فيهم بعض أسرار صفاته وأسمائه من القوة، والبطش، والقهر، والعظمة، والجلال- سبحانه وتعالى- وله الحكمة البالغة في ذلك، وقد خلق خلقا وقال : هؤلاء للنار ولا أبالي، وخلق قوما وقال : هؤلاء للجنة ولا أبالي.
يقول الله جل وعلا :﴿ سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون١٤٨ ﴾( الأنعام : الآية ١٤٨ ).
قذ ذكرنا بالأمس أن الكفار –قبحهم ا
﴿ قل فلله الحجة البالغة ﴾ ( الأنعام : الآية ١٤٩ ) إن احتججتم بأمور باطلة وشبه كاذبة، فلله الحجة البالغة على خلقه، وليس لأحد حجة على الله. والبالغة معناه : هي التي يبلغ بها صاحبها غرضه لإفحام خصمه، وإظهار الحق. والعلماء يقولون : هذه الحجة البالغة هي إرسال الرسل، وإقامة المعجزات، وبيان أنه ( جل وعلا ) واحد لا شريك له.
وظاهر القرآن يدل على ان هذه الحجة البالغة على مذهب الجبرية هي قوله جل وعلا :﴿ فلو شاء لهداكم أجمعين ﴾ فهذا داخل فيها دخولا أوليا، لأن ملك التوفيق حجة بالغة على الخلق، وهذه الآية هي التي احتج بضمنها أبو إسحاق على عبد الجبار، لأنه كأنه قال له : ملكه تعالى للتوفيق حجة بالغة على خلقه، فتمام الحجة البالغة أنك إذا قارنت بين سني –مثلا- وجبري، فقال الجبري : إن كفره- والعياذ بالله- ومعاصيه كتب عليه في الأزل قبل أن يولد، وإن الأقلام جفت، والصحف طويت، وما كان فقد كان، ولم يبقى شيء حادث إلا وقد سبق في الأزل. فيقول هذا الجبري الكافر : إن كفر البعيد قد كتبه الله عليه أزلا، وإنه لو شاء أن يتخلص من ذلك المكتوب أزلا لما كانت له القدرة، لأن علم الله الأزلي لا يتغير.
فيقول البعيد : هو مقهور، وإذا هو مجبور ! فله حجة في زعمه على ربه، فكأن ربه يقول : جميع الأسباب التي اهتدى بها المهتدون أعطيتك إياها، فالأعين التي أبصر بها سمائي، وأرضي، وجبالي، وبحاري، وحدائقي، وحيواناتي، حتى عرفوا بها قدرتي، وأني رب كل شيء، وأني المعبود وحده، أعطيتك عيونا مثلها، والآذان التي سمعوا بها مواعظي، وآياتي، وكتبي عن الرسل أعطيتك مثلها، والقلوب التي عقلوا بها عن الله، وعرفوا مخالفة الخالق للمخلوق، وعرفوا بها عظمة جبار السماوات والأرض، وأنه جدير بأن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى أعطيتك قلبا مثل قلوبهم، فكل ما أعطيت المهتدين من أسباب الهداية أعطيتك مثل ما أعطيتهم، إلا خصوصية التوفيق، فقد تفضلت به على قوم ولم أتفضل به على آخرين، فمن تفضلت به فهو فضل مني، ومن لم أتفضل به فهو عدل مني. كما قال أبو إسحاق : " إن كان الذي منعك حق واجبا لك عليه فقد ظلمك، وإن كان ملكه المحض فإن منعك فعدل، وإن منحك ففضل ". ولذا قال هنا :﴿ قل فلله الحجة البالغة ﴾ على خلقه، وهي ما أنذرهم به من الإنذار، وما أرسل لهم من الرسل، وما أعطاهم من العقول، والأسماع، والأبصار﴿ والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون٧٨ ﴾( النحل : الآية٧٨ ). ﴿ فلله الحجة البالغة ﴾ ( الأنعام : الآية ١٤٩ ) لأنه قطع عذر عبده بأن أعطاه كل ما أعطى المهتدين : إلا خصوص التوفيق، فهذا الذي منعه. وبملكه للتوفيق قامت حجته البالغة، ولذا أتبعه بقوله :﴿ فلو شاء لهداكم أجمعين ﴾ فلو شاء لمنحكم التوفيق كلا، ولكنه تفضل به على بعض، ولم يتفضل به على الآخرين، فمن تفضل به عليهم فهو فضل، ومن منعهم إياه فهو عدل لا ظلم فيه، ولذا قال :﴿ فلو شاء لهداكم أجمعين ﴾ ومفعول المشيئة محذوف، وقد ذكرنا مرارا أن فعل المشيئة إن كان معلقا بشرط فإنه يكفي عن مفعوله جزاء الشرط. والأصل : فلو شاء هدايتكم أجمعين لهداكم أجمعين، ولكنه لم يشأ، كما قال :﴿ ولو شئنا لأتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين١٣ ﴾( السجدة : الآية ١٣ ) وهذا معنى قوله :﴿ فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين ﴾( الأنعام : الآية ١٤٩ ).
وهذه تقتضي على مذهب المعتزلة، لأن الله صرح بأنه لو شاء لهداهم أجمعين، فعرف بأن شركهم بمشيئته، وأنه لو شاء أن لا يشركوا ما أشركوا﴿ ولو شئنا لأتينا كل نفس هداها ﴾ ( السجدة : الآية ١٣ ) ﴿ ولو شاء الله ما أشركوا ﴾( الأنعام : الآية ١٠٧ ) ونحو ذلك من الآيات.
﴿ قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا فإن شهدوا فلا تشهد معهم ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة وهم بربهم يعدلون١٥٠ ﴾( الأنعام : الآية١٥٠ ).
﴿ قل هلم شركاءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا ﴾ قل يا نبي الله لهؤلاء الذين حرموا السائبة والبحيرة والوصيلة والحام، وقالوا :﴿ ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا ﴾( الأنعام : الآية١٣٩ )﴿ وقالوا هذه أنعام وحرث وحجر ﴾( الأنعام : الآية ١٣٨ )أي : حرام. قل للمحرمين هذه الأشياء، الزاعمين أن الله أمرهم بتحريمها، كما صرح به في ( الأعراف ) في قوله :﴿ وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها ﴾( الأعراف : الآية ٢٨ ) قل لهم يا نبي الله : هذا الذي ادعيتم على الله من أنه حرم هذا وأمركم بتحريمه هلم شهداءكم الذين يشهدون لكم على الله أنه حرم هذا.
و( هلم ) معناه : أحضروا وقربوا. وهذه الكلمة- كلمة( هلم ) –فيها خلاف، هل هي مفردة، أو مركبة ؟ لا يعنينا بحثه الآن. وهي فيها لغتان - :
لغة الحجازيين التي نزل بها القرآن : أن لفظة ( هلم ) اسم فعل لا فعل أمر، ولذا إذا خاطبوا الأنثى قالوا لها :" هلم يا فلانة ". ولم يقولوا : " هلمي " بياء المؤنثة. فيقول الحجازيون للذكر الواحد :" هلم " وللذكرين :" هلم ". وللذكور :" هلم ". وللإناث :" هلم " فهي اسم فعل. وهي لغة القرآن، لأن المخاطب هنا جماعة، والأصل لو مشى على لغة التميميين من النجديين لقال :" هلموا شهداءكم ".
أما لغة التميميين، وبعض القبائل النجديين : ف( هلم ) فعل أمر لا اسم فعل، لأنهم يقولون للجماعة :" هلموا " وللأثنين :" هلما " وللأنثى :" هلمي " فإذا قالوا لها :" هلمي " دخلتها ياء المؤنثة المخاطبة، وهي من علامات الأفعال، كما قال في الخلاصة :
( بتا فعلت، وأتت، ويا افعلي ) ***.................................................
فهي في لغة الحجازيين اسم فعل، وفي لغة التميميين وبعض القبائل النجديين فعل أمر. ويظهر الفرق في كونها اسم فعل، وبين كونها فعل أمر : أنها إن كانت فعل أمر اتصلت بها ضمائر المخاطبين، نحو( هلموا )للرجال و ( هلممن ) للنساء، و( هلما ) للاثنين، و( هلمي ) للواحدة. والقرآن جاء فيها على لغة الحجازيين، أنها اسم فعل لا فعل أمر.
وتأتي متعدية ولازمة، فمن إتيانها متعدية قوله هنا :﴿ هلم شهداءكم ﴾( الأنعام : الآية ١٥٠ )أي : أحضروا شهداءكم وقربوهم. ومن إتيانها لازمة قوله في الأحزاب :﴿ والقائلين لأخوانهم هلم إلينا ﴾( الأحزاب : الآية١٨ ) أي : اقربوا قريبا منا. ولم تكن هناك متعدية. والمعنى : أحضروا شهداءكم الذين يشهدون لكم أن الله حرم هذا الذي ادعيتم أنه حرام.
ثم قال لنبيه : فإن تجرؤوا على الشهادة الكاذبة الباطلة- شهادة الزور على الله- فلا تشهد معهم، لأنهم كلهم كذبة فجرة متعاضدون على الكذب، يصدق بعضهم بعضا في الكذب﴿ فلا تشهد معهم ﴾
ثم قال :﴿ ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا ﴾ فالخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، ومعلوم ان النبي لا يتبع أهواء الذين كذبوا بآيات الله. هذا أمر لا شك فيه، كقوله :﴿ ولا تطع منهم آثما أو كفورا ﴾( الإنسان : الآية ٢٤ ). ومعلوم أنه لا يطيع آثما ولا كفورا، هذا معروف، فالله( جل وعلا ) يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم مخاطبة السيد لعبده، ومراد بخطابه- في أشياء لا تقع منه صلى الله عليه وسلم أبدا- ليشرع على لسانه لأمته، كما بيناه مرارا. ومن أمثال العرب :( إياك أعني واسمعي يا جارة ) معناها : إياك أعني، والمقصود عندي هي جارتك الأخرى. وهذا مثل معروف، وقد قدمنا في هذه الدروس مرارا أنه أصل هذا المثل من أبيات رجز لرجل من بني فزارة يسمى : سهل بن مالك الفزاري، نزل في بيت حارثة بن لأم الطائي المشهور فوجده غائبا، فأنزلته أخت حارثة وأكرمته، وأعجب بجمالها، فخاطب داية من داياتها لا اهمية فيها، لأنها من خدمها، وقال لهذه التي هي من الدايات والخدم قال لها :
يا أخت خير البدو والحضارة *** كيف ترين في فتى فزارة
أصبح يهوى حرة معطارة *** إياك أعني واسمعي يا جارة
ففهمت الطائية أنه يريد خطابها، فأجابته جوابها المعروف :-
إني أقول يا فتى فزارة *** لا أبتغي الزوج ولا الدعارة
ولا فراق أهل هذي الحارة *** فارحل إلى أهلك باستحارة
ومن هنا صار بيت الرجز هذا مثلا عند العرب ( إياك أعني واسمعي يا جارة ).
والمعنى : إنك تخاطب واحدا ومقصودك/ أن تفهم ذلك الآخر. فالله يخاطب النبي ومقصوده إسماع أمته، والتشريع لهم. والدليل القاطع على هذا : أن النبي صلى الله عليه وسلم مات أبوه وهو صغير، لأن أباه مات وهو حمل في بطن أمه، وأمه ماتت وهو صغير. ومعلوم أنهما وقت نزول سورة بني إسرائيل ماتا منذ سنين كثيرة والله يقول للنبي مخاطبا له ببر الوالدين :﴿ وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا ﴾، ثم قال مخاطبا للرسول :﴿ إما يبلغن عند الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة ﴾ ( الإسراء : الآيتان٢٣-٢٤ )كل هذا في الرسول صلى الله عليه وسلم وأبواه قد ماتا من زمان، فدل على أن قوله :﴿ إما يبلغن عندك الكبر ﴾ أي : يبلغ عندك الكبر أحد والديك فبرهما وقل لهما قولا كريما، أي : المراد خطابه ليشرع لأمته. ومن زعم من الناس أن هذا الخطاب- أي : قوله :﴿ إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما ﴾- أنه يخاطب به مطلق الإنسان المخاطب، وليس النبي، فهذا غلط محض، لأن كل هذه الخطابات للنبي صلى الله عليه وسلم﴿ إما يبلغن عندك الكبر ﴾﴿ وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ﴾( الإسراء : الآية ٢٨ ) والدليل عليه أنه قال :﴿ ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة ﴾( الإسراء : الآية ٣٩ )، فدل أن الخطاب للموحى إليه لا إلى مطلق الواحد من الناس.
وآية الإسراء هذه نص صريح في أن النبي صلى الله عليه وسلم يخاطب بالخطاب ليس هو المراد به، بل المراد التشريع لأمته، لأنه صلى الله عليه وسلم هو المشرع لهم بأقواله وأفعاله. وهذا معنى قوله :﴿ ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا ﴾ ككفار قريش، الذين كذبوا بآيات الله، لا تتبع أهواءهم في الشرك، ولا في تحريم ما أحل الله.
﴿ والذين لا يؤمنون بالآخرة ﴾ ظاهر العطف أنهما طائفتان، والتحقيق : أنهما طائفة واحدة، إلا أن المعروف في علم العربية : ان الشيء يعطف على نفسه بألفاظ مختلفة إذا كانت الصفات مختلفة. نزلوا تغاير الصفات منزلة تغاير الألفاظ، فعطفوه على نفسه نظرا إلى تغاير الصفات، لأن صفة التكذيب بآياتنا، وصفة عدم الإيمان بالآخرة متغايرتان. فصار الموصوف كأنه متغاير لتغاير الصفات. ومن أمثلة هذا في كلام العرب قول الشاعر :
إلى السيد القرم وابن الهمام *** وليث الكتيبة في المزدحم
وهو واحد. ومن أمثلته الواضحة في القرآن –غير هذا الموضع- قوله تعالى :﴿ سبح اسم ربك الأعلى ١ الذي خلق فسوى٢والذي قدر فهدى٣ والذي أخرج المرعى٤ ﴾( الأعلى : الآيتان ١-٤ ) وهو واحد( جل وعلا ). وإنما عطف بعضها على بعض لتغاير الصفات، وهذا هو التحقيق، أنهما طائفة واحدة، تغايرت فعطفت على نفسها نظرا لتغاير الصفات. كما قررنا.
والأهواء : جمع( هوى، هوى ) بفتحتين، وألفه مبدلة من( ياء ) لأن أصله( هوي ) على وزن( فعل ) والياء المتطرفة بعد ألف زائدة يجوز إبدالها همزة، كما هو معروف في فن التصريف.
والهوى : ميل النفس. وأكثر ما يستعمل في ميلها إلى ما لا ينبغي.
وهو المراد هنا. أي : لا تتبع مهوياتهم الزائغة من الإشراك بالله، وتحريم ماأحل الله، وجعل بعض الأرزاق التي خلقها الله جعلها للأصنام. لا تتبع مهوياتهم في شيء من ذلك.
﴿ ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة ﴾ فهم جامعون بين التكذيب بالقرآن والتكذيب بالبعث والآخرة- عياذا بالله- وقد صرح ( جل وعلا ) بأن المكذب بالبعث أنه من أهل النار الذين يجرون بالسلاسل في أعناقهم في غير ما آية، من أصرحها آية الرعد لأن الله ( جل وعلا ) لما بين في سورة الرعد- في أولها- عظمته، وبراهين كماله، وقدرته، وأنه المعبود وحده، وأبطل فيها أدلة الطبائعيين إبطالا كليا لا شبهة فيه، حيث قال في السورة – في أولها- :﴿ آلمر تلك آيات الكتاب والذي انزل إليك من ربك الحق ولكن أكثر الناس لا يؤمنون١ الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون٢ وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشي الليل النهار إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون٣ وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل ﴾- وفي القراءة الأخرى- :﴿ وزرع ونخيل ﴾ ﴿ صنوان وغير صنوان ﴾-وفي الأخرى- :﴿ صنوان وغير صنوان ﴾﴿ تسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل ﴾- وفي الأخرى- :﴿ يسقى بماء واحد ويفضل بعضها على بعض في الأكل ﴾ ﴿ إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون ﴾ أتبع هذا بقوله :﴿ وإن تعجب فعجب قولهم ﴾- في البعث- :﴿ إءذا كنا ترابا أءنا لفي خلق جديد ﴾ هذا تعجب منكري البعث من البعث الذي هو خلق جديد. ثم قال مخبرا عن هؤلاء الذين شكوا في البعث وأنكروه :﴿ أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الأغلال في أعناقهم وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ﴾( الرعد : الآيات ١-٥ ) والعياذ بالله. فهؤلاء جمعوا بين التكذيب بالقرآن والتكذيب بالبعث. ثم قال جل وعلا :﴿ وهم بربهم يعدلون ﴾ العرب تقول :" عدل به، يعدل به ". إذا جعل الشيء عديلا ونظيرا له يماثله ويعادله. وهم يعدلون بالله أي : يجعلون له العديل، والنظير، والمثيل حيث قالوا :﴿ هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا ﴾( الأنعام : الآية ١٣٦ ) فجعلوا له النظراء، والعديلين بسبب عبادتهم له مثله، وجعلهم له مثل ما جعلوا. والعرب تقول :" أعدلت بفلان فلانا " ؟ إذا جعلته عدلا ونظيرا له. وهو مشهور في كلام العرب، ومنه قول جرير :
أثعلبة الفوارس أم رياحا *** عدلت بهم طهية والخشابا
أي : جعلتهم نظراء وأمثالا لهم وليسوا كذلك.
يقول الله جل وعلا :﴿ قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون١٥١ ﴾( الأنعام : آية ١٥١ ) كان بعض السلف يقولون : من سره أن ينظر إلى وصية محمد صلى الله عليه وسلم عليها خاتمها لم يفك فليقرأ هذه الآيات الثلاث من سورة الأنعام :﴿ قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ﴾ إلى قوله :﴿ لعلكم تتقون ﴾ وعن ابن عباس-رضي الله عنهما- أن هذه الآيات الثلاث من سورة الأنعام هي المحكمات المذكورات في آل عمران﴿ منه آيات محكمات هن أم الكتاب ﴾ ( آل عمران : آية٧ )لم ينسخ الله حكما من أحكامها في شريعة من الشرائع قط بل أحكامها مثبتة في جميع التشاريع السماوية منذ خلق الله الدنيا، فهي محكمات، ولذا قال ابن عباس : إنها المذكورة في قوله :﴿ منه آيات محكمات هن أم الكتاب ﴾ كما قدمنا في آل عمران.
وهذه الآيات تضمنت أصول الشرائع من عقالة ومعاملات واجتماعيات. كما سيأتي إيضاحه في محله.
قل لهم يا نبي الله، الظاهر أنه خطاب لجميع الخلق، وإن كان الكلام السابق مع المشركين. قل لجميع البشر الذين أرسلت إليهم :﴿ تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ﴾( تعال ) التحقيق ان ( تعال، وهات ) فعلا أمر، وغلط فيهما جماعة من علماء العربية[ فزعموا ] ( في الأصل :" فزعما " ) أنهما اسما فعل. والدليل على ان( هات ) و( تعال ) فعلا امر : أنهما تلحقهما ياء المؤنثة المخاطبة، وياء المؤنثة المخاطبة من علامات الأفعال، ولا تلحق أسماء الأفعال. فالعرب تقول للأنثى :" تعالي يا فلانة " بياء المؤنثة المخاطبة. ومنه قول نابغة ذبيان :
فقلت :
تعالي نجعل الله بيننا على ما لنا، أو تنجزي لي آخره
وكذلك( هات ) فالعرب تقول للذكر :( هات ) بلا ياء، وللأنثى :( هاتي ) بياء المؤنثة المخاطبة، فدل أيضا على أن ( هات ) ك :( تعال ) فعل أمر لا اسم فعل، خلافا لمن زعم ذلك. ومن دخول ياء المؤنثة المخاطبة على ( هات ) قول امرىء القيس :
إذا قلت هاتي نوليني تمايلت علي هضيم الكشح ريا المخلخل
وهذه الكلمة أصلها خاص، ثم صار استعمالها عاما، لأن أصل( تعال ) يقولها الذي هو مرتفع إلى من هو أسفل منه، فيقول له : تعال. أي : ارتفع حتى تحضر عندي، هذا أصلها، إلا ان العرب توسعت فيها فصارت تطلق( تعال ) على : احضر عندي. ولو كان الآمر أسفل والمأمور أعلى، فيقول الرجل في الأرض لمن على السطح : تعال عندي. وهو في الحقيقة تسافل إلي، إلا أن العرب صارت تطلق( تعال ) بمعنى : احضر. من غير نظر إلى أصل العلو والسفل. فمعنى ( قل تعالوا ) احضروا عندي، وادنوا مني، واقربوا مني﴿ أتل ﴾ عليكم ﴿ ما حرم ربكم عليكم ﴾.
﴿ أتل ﴾ معناه : أقرأ وأقص. والمضارع مجزوم في جواب الأمر. وعلماء العربية يقولون : إن المضارع المجزوم في جواب الأمر أنه في الحقيقة مجزوم بشرط مقدر دل عليه الأمر، وتقريره : إن تتعالوا، أي : إن تحضروا عندي اتل عليكم ما حرم ربكم، و( أتل ) معناه : أقرأ وأقص. وأصل ( التلاوة ) من :( تلاه يتلوه ) إذا تبعه، لأن ( التلاوة ) مصدر سيال لا تحصل إلا من حرف يتلوه حرف، يتلوه حرف، يتلوه حرف، وهكذا. فأصلها من :( تلاه يتلوه ) إذا تبعه، والعرب تسمي التابع : تاليا، والمتبوع : متلوا. والتباعة تلاوة، ومنه سموا الجمل : تاليا، لأنه يتبع النوق فيشمها ليعرف منها المستعدة للقاح واللاقح كما هو معروف. ومنه قول غيلان ذي الرمة :
إذا الجافر التالي تناسين عهده وعارضن أنفاس الرياح الجنائب
أصل( التلاوة ) مصدر سيال، لأنها من مقاطع حروف يتلو بعضها بعضا.
والمصادر قسمان : مصدر سيال، ومصدر غير سيال. فالمصدر الذي ليس بسيال هو الذي يحصل بأدني مرة، كالضرب، فإنك لو ضربت شيئا بشيء مرة واحدة حصلت ماهية الضرب. فالضرب مصدر غير سيال، بخلاف التلاوة والكلام، فلو نطقت بحرف واحد لم تحصل التلاوة، لأنها مصدر سيال لا بد من بعض يتبع بعضا حتى يتم معنى المصدر.
قوله :﴿ أتل ما حرم ربكم عليكم ﴾ ( ما ) هنا : موصولة، وهي على التحقيق في محل المفعول، مفعول( أتل ). معناه : اقرأ وأقص عليكم الذي حرمه ربكم عليكم. وقيل : إنها استفهامية معلقة للفعل. وهو ضعيف، لأن المعروف في علم العربية أن الاستفهام إنما يعلق أفعال القلوب، والتلاوة ليست من أفعال القلوب، فالتحقيق أن( ما ) موصولة، وأنها في محل المفعول. أي : تعالوا اقرأ وأقص عليكم الذي حرم ربكم عليكم.
والتحريم في لغة العرب معناه : المنع. وهو يطلق في الشرع وفي اللغة. يطلق في الشرع على ما حرمه الله، أي : منعه على لسان نبيه، وتوعد مرتكبه بالعقاب. ويطلق في اللغة على منع الشيء، فكل الشيء منعته بالقوة فقد حرمته. ومن إطلاقه بمعناه الشرعي : قوله هنا :﴿ أتل ما حرم ربكم عليكم ﴾ فهو تحريم شرعي. ومن إطلاق التحريم بمعناه اللغوي في القرآن قوله في بني إسرائيل وهو في التيه، قال :﴿ فإنها محرمة عليهم أربعين سنة ﴾( المائدة : آية ٢٦ ) فإنه تحريم كوني قدري، لأن الله منعهم إياه، لا تحريم شرعي على التحقيق. ومن إطلاق العرب التحريم على التحريم بمعنى المنع لا بمعنى الشرع قول امرىء القيس :
جالت لتصرعني فقلت لها اقصري
*** إني امرؤ صرعي عليك حرام
أي : لا تقدرين عليه. ومنه :﴿ وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون٩٥ ﴾( الأنبياء : الآية ٩٥ ) فهو من التحريم الكوني القدري لا الشرعي، ومنه قول الشاعر :
حرام على عيني أن تطعما الكرى
*** وأن ترقآ حتى ألاقيك يا هند
والتحريم هنا شرعي. ﴿ عليكم ﴾ في قوله :﴿ عليكم ﴾ وجهان :
أحدهما : انه يتعلق ب( حرم )، ( حرمه عليكم ) أو يتعلق ب( أتل ) أتلو عليكم ما حرم ربكم.
والثاني : سيأتي في الجواب عن الإشكال الذي في لفظة ( لا ) من قوله :﴿ ألا تشركوا ﴾.
و﴿ ربكم ﴾ معناه : سيدكم وخالقكم المدبر لشؤونكم.
وقوله :﴿ ألا تشركوا ﴾ بدأ هذه الوصية بعدم الإشراك بالله، لأن إخلاص العبادة لله، وعدم الإشراك به هذا رأس الأمر، وهو الذي بعث الله جميع الرسل من اجله، وهو الذي فيه المعارك بين الرسل والأمم، والله قد أوضح في كتابه ذلك إجمالا وتفصيلا، قال على سبيل الإجمال :﴿ ولقد بعثنا في كل أمة رسولا ﴾ بم بعثنا ؟ ﴿ ان اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ﴾( النحل : آية٣٦ ) وقوله :﴿ أن اعبدوا الله ﴾ هو حظ الإثبات من ( لا إله إلا الله )، ﴿ واجتنبوا الطاغوت ﴾ هو حظ النفي من( لا إله إلا الله ) وقوله :﴿ وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا يوحى إليه ﴾، وفي القراءة الأخرى :﴿ إلا نوحي إليه ﴾﴿ أنه لا إله إلا انا فاعبدون ﴾( الأنبياء : آية ٢٥ )، وقوله :﴿ وسئل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمان آلهة يعبدون٤٥ ﴾( الزخرف : آية٤٥ ) هذه الآيات الإجمالية ونظائرها في القرآن.
أما التفصيل : فإنا إذا نظرنا إلى دعاوى الرسل وقصصهم مع اممهم وجدنا هذا هو دعوة كل نبي، فأول من بعث بعد الكفر في الأرض : نوح يقول الله فيه :﴿ لقد أرسلنا نوحا إلى قومه ﴾ ماذا قال نوح ؟ ﴿ فقال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ﴾( الأعراف : آية٥٩ ) ثم قال :﴿ وإلى عاد أخاهم هود ﴾ أي : وأرسلنا إلى عاد اخاهم هودا. ماذا جاءهم به ؟ اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا﴿ وإلى عاد أخاهم هودا قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ﴾( الأعراف : آية ٦٥ )، ﴿ وإلى ثمود أخاهم صالحا ﴾ ماذا قال ؟ ﴿ قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ﴾( الأعراف : آية ٧٣ )﴿ وإلى مدين أخاهم شعيب ﴾ ماذا قال ؟ ﴿ قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ﴾( الأعراف : آية ٨٥ )، وهكذا على سبيل التفصيل. فالسماوات والأرض إنما على أشرف كلمة، هي كلمة( لا إله إلا الله ) هي التي خلقت من أجلها الجنة والنار، وامتحن الخلق فيها، ودخل من دخل الجنة بالعمل بها، ودخل من دخل النار بعدم العمل بها، وهي مركبة من جزأين : نفي وإثبات.
فمعنى نفيها : خلع جميع أنواع المعبودات في جميع أنواع العبادات في خالق السماوات والأرض ( جل وعلا ).
ومعنى إثباتها : إفراده( جل وعلا ) وحده بالعبادة التي هي التقرب إلى الله بما أمر أن يتقرب إليه به على وجه الذل، والخضوع، والمحبة. فلا يكفي الذل والخضوع عن المحبة، ولا المحبة عن الذل والخضوع. وضابط هذا : من أراد أن يخلص هذه الكلمة لله فلينظر إلى كل شيء أمر الله أن يتقرب إليه به، وأن يتعبد به خلقه، وليخلص في هذا لله، فإنه يلقى الله مسلما موحدا، وليحذر كل الحذر من أن يصرف شيئا من حقوق الخالق للمخلوق، لأن من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة، والأحاديث في ذلك في حكم المتواترة لكثرتها.
من أشهرها : حديث أبي ذر الثابت في الصحيحين :" من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة "، قال : وإن زنى وإن سرق ؟ قال :" وإن زنى وإن سرق ". حتى قال في الثالثة :" وإن رغم أنف أبي ذر ".
وكان أبو ذر إذا حدث بالحديث يقول :" وإن رغم أنف أبي ذر "
والعبد إذا لقي ربه بقراب الأرض ذنوبا ولم يشرك به شيئا لقيه بقرابها مغفرة. وهو يقول في محكم كتابه :﴿ إن الله لا يغفر ان يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ﴾( النساء : آية٤٨ )، وفي بعض الروايات عن سبب إسلام الوحشي- وإن زعم قوم أنها غير ثابتة، إلا أنها ذكرها بعض العلماء-أن الوحشي، عبد جبير بن مطعم، لما قال له : إن قتلت عم محمد صلى الله عليه وسلم- يعني حمزة- بعمي طعيمة بن عدي الذي قتله يوم بدر فأنت حر. وحضر الوحشي، وأصله عبد حبشي، مملوك لجبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف، حضر أحدا لا يريد إلا حمزة، لأجل أن يعتقه سيده، فأخذ حربة حبشية ذات حدين، وكمن في صخرة من صخرات سفح جبل أحد، حتى رأى حمزة، فرماه فأصابه في ثنته تحت السرة، فخر صريعا( رضي الله عنه وأرضاه ). بعد أن قتل حمزة لم يف له سيده بوعده بالعتق، فغاضب سيده، وهم أن يأتي النبي ويسلم. زعموا في هذه القصة أنه كاتب النبي صلى الله عليه وسلم وقال : يامحمد- صلوات الله وسلامه عليه- إني أردت الدخول في دينك فمنعتني آية مما أنزل عليك، قنطتني من رحمة الله، وهي قول ربك :﴿ والذين لا يدعون مع الله إله آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما٦٨ يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيها مهانا٦٩ ﴾( الفرقان : الآيتان ٦٨-٦٩ ) قال : ربك صادق لا يكذب، وقد قال : إن من فعل هذه الثلاث إنه يلقى العذاب ويخلد فيها مهانا، فإذا لا فائدة لي في الإسلام، ولا طمع لي في الخير بعد أن فعلت الثلاثة – يعني نفسه البعيد- قالوا : فأنزل الله :﴿ إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فأولئك يبدل الله سيآتهم حسنات ﴾( الفرقان : آية٧٠ ) زعموا أن النبي بعث بها إليه، وأنه لما نظرها رد إليه الجواب وقال : ربك يقول :﴿ وعمل عملا صالحا ﴾ فهذه على شرط قوي، ومن يقدر على العمل الصالح ؟ فقد لا أقوم بهذا الشرط. فأنزل الله :﴿ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ﴾( النساء : آية٤٨ ) فأرسل إليه الضامن والكفيل لي أنه يشاء ؟ فأرسل بها إليه، فأنزل الله :﴿ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم٥٣ ﴾( الزمر : آية٥٣ ) قالوا : فتأ
يقول الله( جل وعلا ) :﴿ ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون١٥٢ ﴾( الأنعام : آية١٥٢ ).
قوله( جل وعلا ) في هذه الآية الآية الكريمة :﴿ ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده ﴾ كانت عادة العرب أن يأخذوا من اليتيم ماله الذي ترك أبوه، ويظلموه في حقه، ويظلموا المرأة، ويقولون : إن الذي يستحق المال هو من يحمي الذمار، ويدافع عن الحريم، وهم الرجال الذين يستعينون بالمال على الدفاع، أما اليتيم والمرأة فإعطاء المال لهما ضياع له، وإذا كانوا يدفعون اليتيم عن حقه، ويظلمونه، كما في قوله :﴿ أرءيت الذي يكذب بالدين١ فذلك الذي يدع اليتيم٢ ﴾( الماعون : الآيتان ١-٢ ) والدع : الدفع بقوة. أي : يدفعه بقوة عن حقه ويظلمه. والله( جل وعلا ) أرسل هذا النبي الكريم( صلوات الله وسلامه عليه ) بكمال الإصناف، ومكارم الأخلاق، والمحافظة على حقوق الضعيف الذي لا يقدر على الدفاع عن نفسه، ولذا نهى عن قربان مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن، ونهى عن ظلم المرأة، وبين أن من ظلم المرأة تعرض إلى البطش ملك جبار عظيم، حيث قال في سورة النساء :﴿ فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا ﴾( النساء : آية٣٤ )أي : لا تظلموهن إن أطعنكم وكن غير ظالمات. ثم أتبع ذلك بقوله :﴿ إن الله كان عليا كبيرا ﴾ يعني : من يحافظ على حقوقهن، وينتقم لمن ظلمهن، علي كبير عظيم، يرهب منه، وتخاف سطوته.
كذلك قال هنا :﴿ ولا تقربوا مال اليتيم ﴾ تكلمنا على الحكمة في النهي عن قرب الشيء، وأن المراد بها سد الذريعة والتباعد منه بالكلية. ومال اليتيم : هو ماله الذي هو ملك له، سواء ورثه عن أبيه، أو حصل له بطريق أخرى. واليتيم( فعيل ) من اليتم، واليتم في لغة العرب معناه : الانفراد. تقول العرب : هذه يتيمة عصماء. يعنون : ياقوتة منفردة لا نظير لها. وإنما قيل لليتيم ( يتيم ) لانفراده عن وليه الذي من شأنه أن يقوم بأمره، وهو أبوه. واليتيم في بني آدم : هو من مات أبوه وإن كانت أمه حية، ولا يتم بعد بلوغ بإجماع العلماء. فالبالغ لا يسمى يتيما بإجماع العلماء. واليتيم : هو الصغير الذي لم يبلغ إذا كان أبوه قد مات، ولو كانت أمه حية، هذا هو اليتيم، ويجمع على ( يتامى )، ويستوي في الجمع ذكره وأنثاه، تقول في جميع اليتيمة : يتامى. وفي جميع اليتيم : يتامي. كما تقدم في قوله :﴿ في يتامى النساء التي لا تؤتوهن ما كتب لهن ﴾( النساء : آية ١٢٧ ) والمعنى : إذا مات والد الإنسان، وبقي الطفل صغيرا مسكينا لا يقدر على الدفاع عن نفسه، ولا يقدر على حفظ ماله، فلا تأخذوا ماله وتظلموه لضعفه، بل لا تقربوا ماله إلا بالتي هي أحسن. أي : إلا بالخصلة التي هي أحسن. أي : إلا بالخصلة التي هي أحسن الخصال وأنفعها لليتيم، وذلك بالمحافظة عليه وتنميته، وتثميره بالتجارة في مواقع النظر والسداد، كما قالت عائشة :" اتجروا في أموال اليتامى لا تأكلها /الزكاة "، فالتي هي أحسن : المحافظة عليه من الضياع. والتثمير : هو تنميته بالربح بالوجوه المأمونة، التي يغلب على الظن-بحسب العادة- أن فيها سلامة وربحا لا ضياعا، ومن التي هي أحسن : ان القائم على مال اليتيم- وإن اشتغل في حفظه والتجارة فيه- إن كان له مال لنفسه يأكل من مال نفسه، ويثمر لليتيم ماله مجانا، كما تقدم في قوله :﴿ ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف ﴾( النساء : آية٦ ) وهذه من الدلالات على أن الشرع الكريم شرع سماوي، يراعي حقوق الضعيف، ويحافظ على مكارم الأخلاق.
وقوله :﴿ حتى يبلغ أشده ﴾ ( حتى ) حرف غاية بمعنى( إلى )، والمغيا بها : النهي عن قرب مال اليتيم بغيرالتي هي أحسن، والمضارع بعد( حتى )، منصوب ب( أن ) محذوفة، وهو في محل جر ب( حتى ) والمعنى ب( حتى ) : إلى. إلى أن يبلغ أشده. أي : إلى بلوغ أشده. وظاهر هذه الغاية ليس مرادا بإجماع العلماء، إذا ليس المعنى : لا[ تقربوا ] ( في الأصل :" تبلغوا " وهو سبق لسان ) ماله إلا بالتي هي أحسن، حتى يبلغ أشده، فإن بلغ أشده فاقربوه بغير التي هي أحسن. ليس هذا مرادا بإجماع العلماء، وإنما الغاية تتعلق بمحذوف دل المقام عليه، أي : فحتى يبلغ أشده، فإن بلغ أشده وآنستم منه رشدا فادفعوا إليه ماله.
وإنما كانت الغاية : لأنه إذا كان بالغا أشده، ومستكملا قوته وعقله، لا يقدر أحد أن يغتصب منه ماله، فهو كسائر الرجال.
والأشد هنا : التحقيق الذي لا شك فيه أنه بلوغ الحلم مع إيناس الرشد، لأن خير ما يفسر به القرآن القرآن، وقد قال الله تعالى :﴿ وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ﴾ ( النساء : آية ٦ ) فدلت آية النساء على أن الأشد في الغاية هنا : أنه أن يبلغ الحلم، ويؤنس منه الرشد، لأن ببلوغ الحلم يتقوى بدنه ويكون في قوة الرجال، وبإيناس الرشد يتقوى عقله ونظره، فاجتمع أشده بدنا وفكرا ونظرا، فعند ذلك يعطى ماله. وخير ما يفسر به القرآن القرآن.
اما الأشد من حيث هو : فهو يطلق على خمس وعشرين، وعلى ثلاثين سنة، وعلى أربعين، وعلى ستين، وعلى خمسين. ومن إطلاقه على الخمسين قول سحيم بن وثيل الرياحي :
أخو خمسين مجتمع أشدي ونجذني مداورة الشؤون
فهذه الأقوال المروية عن العلماء في الأشد- من خمس وعشرين، ثلاثين، أربعين، خمسين، إلى ستين- لا ينبغي أن تذكر في هذا الموضع، لأن بلوغ اليتيم أشده صرح القرآن بأنه بلوغ الحلم مع إيناس الرشد، كما أوضحته آية النساء﴿ وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا ﴾( النساء : آية٦ ) أما أقوال العلماء في( الأشد ) فينبغي أن تكون عند آية قوله :﴿ حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة ﴾ ( الأحقاف : آية١٥ ) لأن بلوغ الإنسان الأشد بالنسبة إلى غير دفع ماله إليه هو الذي ينبغي أن تكون فيه الأقوال المعروفة.
وكلام أهل اللغة في الأشد معروف، قال بعضهم : الأشد واحد لا مفرد من لفظه، وإتيان المفرد على وزن ( أفعل ) نادر جدا، ومنه قولهم : " آنك " و " الآنك " هو الرصاص. وهو مفرد على وزن ( أفعل )، وقال سيبويه : الأشد جمع( شدة )، كنعمة وأنعم، وشدة وأشدد، أصله :( أشدد )، وعلماء العربية يقولون : إن قول الشيخ سيبويه من قبيل اللغة معروف، لأن العرب يقولون : بلغ الغلام شدته. إذا قوي واشتد، إلا أن جمع( فعلة ) على ( أفعل ) لم يعرف في كلام العرب. أما قول سيبويه :" إن النعمة تجمع على أنعم " فقد قالوا : ليس ذلك كذلك، وإنما الأنعم جمع نعم، كما تقول العرب : نعم وأنعم، وبؤس وأبؤس. و( الفعل ) قد يجمع على( أفعل ). وقال بعض العلماء : الأشد جمع( شد ) –بالفتح- ككلب وأكلب، وشد وأشدد.
والأشد : أصله( أشدد ) حصل فيه الإدغام. وقال بعضهم : مفرده( شد ) بالكسر، كذئب وأذؤب. وهذه أقوال العلماء فيه. والمعنى صائر إلى شيء واحد.
والأشد هنا لا شك أنه بلوغ الحلم مع إيناس الرشد.
ومعنى( بلوغ النكاح ) وهو بلوغ الحلم. وللبلوغ علامات معروفة عند العلماء، منها السن، وأكثر العلماء على أن سن البلوغ خمس عشرة سنة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم في بعض غزاوته رد أبناء أربع عشرة سنة، وأذن في الغزو لأبناء خمس عشرة سنة. فدل ذلك أنهم صاروا رجالا. وعن مالك : أن أقله بالسن ثمان عشرة سنة. وعن أبي حنيفة : تفريق بين الذكور والإناث معروف في فروع المذاهب، وليس فيه تحديد بنص من النصوص، وإنما هي اجتهادات في تحقيق المناط، كما يقول : إذا بلغ هذه السن فقد بلغ مبلغ الرجال. وكان بعض العلماء واللغويين يرى أنه إذا كان خمسة أشبار أنه بلغ مبلغ الرجال. وهذا القول يروى عن علي بن أبي طالب، واعتمده الفرزدق في شعره حيث قال :
ما زال مذ عقدت يداه إزاره فسما فأدرك خمسة الأشبار
يدني خوافق من خوافق تلتقي في ظل معتبط الغبار مثار
فقوله ببلوغه " خمسة الأشبار " يعني أنه بلغ مبلغ الرجال. وأسباب البلوغ كثيرة معروفة في الفروع، منها : إنبات العانة، وليس المراد به إنبات الشعر، لأن الشعر ينبت عليها من الطفل، وإنما المراد خشونة وغلوظة تعرض للمحل عند البلوغ. والعلماء يذكرون له أسبابا كثيرة، ومنها بلوغ الحلم، كما قال :﴿ وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم ﴾ ( النور : آية ٥٩ )أي : صاروا بالغين مبلغ الرجال﴿ فليستئذنوا ﴾ ومنعى( بلوغ الحلم ) : أن الصبي إذا رأى في نومه أنه يجامع لا ينزل منه مني، بخلاف البالغ، إذا رأى في النوم أنه يجامع، فإنه ينزل منه المني، وذلك معنى بلوغه الحلم. أي : إنزال المني بسبب ما يراه في حلم النائم. وهذا معنى قوله :﴿ حتى يبلغ أشده ﴾ أي : فإن بلغ أشده فادفعوا إليه ماله إن آنستم منه رشدا، كما تقدم في سورة النساء.
وهذه الآية الكريمة تدل على أن ظلم اليتيم حرام. ولما أنزل الله :﴿ إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا ﴾( النساء : آية ١٠ ) خاف الصحابة الذين عندهم أيتام، وعزلوا مال الأيتام عن مالهم، وطعامهم عن طعامهم، حتى صار ما فضل عن اليتيم من طعامه يبقى ولا يجد من يأكله، خوفا منه، وربما فسد، فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله آية البقرة المعروفة :﴿ ويسئلونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح ولو شاء الله لأعنتكم ﴾ ( البقرة : آية٢٢٠ ) ﴿ لأعنتكم ﴾ أي : لحملكم العنت والمشقة بحفظ أموالهم وطعامهم معزولا عن طعامكم، لأن ذلك فيه حرج ومشقة، إلا أنه خوفهم بقوله :﴿ والله يعلم المفسد من المصلح ﴾ فمن خالط اليتيم، وخلط ماله بماله يريد مصلحة اليتيم والتوفير له، فالله يعلم نيته ويثيبه، ومن كان يريد بمخالطة مال اليتيم وطعامه لطعامه أن يأكل مال اليتيم خديعة في غضون ذلك، فالله يعلم نيته، ويجازيه على ذلك. وهذا معنى قوله :﴿ والله يعلم المفسد من المصلح ﴾. وقال هنا :﴿ ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ﴾ أي : إلا بالخصلة التي هي أحسن الخصال وأتمها وأحوطها واحفظها لمال اليتيم، بالمحافظة عليه، وتثميره وتنميته بالطرق المأمونة، التي يغلب على الظن أنها لا خسار فيها ولا ضياع. وهذا معنى قوله :﴿ إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده ﴾ أي : يبلغ الحلم، ويونس منه رشد، فادفعوا إليه ماله، وأشهدوا عليه إذا دفعتموه إليه.
ثم قال :﴿ وأوفوا الكيل والميزان ﴾ هذه أوامر اجتماعية عظيمة، تدل على كمال تشريع الإسلام، ورعاية دين الإسلام لمصالح البشر، كبيرها وصغيرها، جليلها وحقيرها.
والمكيال والميزان هما الآلتان التي جعلهما الله( جل وعلا ) لتضبط بهما المبيعات. وهذا من فضل الله ورحمته بخلقه، لأن الله خلق الإنسان محتاجا للغداء، ومفتقرا للنساء، وخلق له ما في الأرض جميعا، ولم يتركه سدى. فأنت محتاج إلى طعام أخيك، وأخوك محتاج إلى طعام آخر عندك، فلو لم يجعل الله المقادير بمكيال وميزان تعرف به قدر ما تدفع، وقدر ما تأكل، لتهارشتم على ذلك تهارش الحمر والكلاب. فالميزان والمكيال آلات جعلها الله ( ج
يقول الله جل وعلا :﴿ وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون١٥٥ ﴾( الأنعام : آية١٥٥ ) ذكرنا أنه جرت العادة أن الله ينوه بالتوراة والقرآن معا، لأنهما أعظم الكتب المنزلة، لأنه قبل/ نزول القرآن كان التوراة أعظم الكتب المنزلة وأجمعها للأحكام، كما قال الله فيه :﴿ وتفصيلا لكل شيء ﴾ ( الأنعام : آية١٥٤ ). فلما نزل القرآن كان أشمل كتاب وأعظمه، لأن أجمع الله فيه علوم الأولين والآخرين، وزاد في أشياء لم تنزل على غيره، ولذا لما نزلت التوراة في قوله :﴿ ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أنزلناه مبارك ﴾( الأنعام : آية١٥٥ ) ومثل هذا يتكرر في القرآن، كقوله في التوراة :﴿ قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون ﴾( الأنعام : آية٩١ )، ثم قال :﴿ وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ﴾( الأنعام : آية٩٢ ) فأتبع التنويه بالتوراة التنويه بالقرآن، كقوله :﴿ ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة وهذا ﴾ يعني : القرآن ﴿ كتاب مصدق لسانا عربيا لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين ﴾ ( هود : آية١٧ ) وكقوله :﴿ قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى أو لم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا سحران ﴾( القصص : آية ٤٨ ) وفي القراءة الأخرى :﴿ ساحران تضاهرا ﴾ [ والجن ] ( في الأصل :" واليهود " وهو سبق لسان ) الذين استمعوا القرآن قالوا :﴿ إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه ﴾( الأحقاف : آية٣٠ ).
ومعنى الآية الكريمة : وهذا الذي تتلى عليكم آياته كهذه الآيات المحكمات :﴿ تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم...... ﴾ إلى آخر الآيات( الأنعام : آية ١٥١ )، ﴿ وهذا ﴾ الذي تتلى عليكم آياته جامعة هذا من الأحكام والتشاريع، ﴿ كتاب ﴾ هو كتاب الله( جل وعلا )، الذي هوآخر كتاب نزل من السماء، وهو أعظم كتاب سماوي، على أعظم رسول أرسله الله في الأرض، فهو آخر الكتب السماوية، ونازل على آخر الرسل وخاتمهم صلى الله عليه وسلم، جمع الله فيه علوم االكتب السابقة، كما قدمناه في سورة المائدة في قوله :﴿ ومهيمنا عليه ﴾ ( المائدة : آية٤٨ ) ولذا ما حرف اليهود بين القرآن أنه محرف، وكان اليهود يختلفون في أشياء لا تعلم علماؤهم حقائقها، من غوامض التوراة، فبينها لهم القرآن، وأوضحها لهم، لهيمنته على الكتب قبله. ﴿ إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون٧٦ ﴾ ( النمل : آية٧٦ ) أي : ويوضحه لهم، ولما أنزل الله :﴿ فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم ﴾ ( النساء : آية١٦٠ ) قال اليهود : " ماحرم علينا شيء بسبب ذنب، وإنما حرم علينا ما كان محرما على أبينا إسرائيل من الأطعمة }. وإسرائيل : هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام. فلما زعموا أن الله لم يحرم عليهم إلا ما كان محرما من الطعام على إسرائيل كذبهم القرآن، وألقمهم الحجر، فقال :﴿ كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين٩٣ ﴾( آل عمران : آية ٩٣ ) فلما قال لهم :﴿ قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين ﴾ خافوا وخجلوا، ولم يأتوا بها.
وكذلك قصة اليهوديين الزانيين المشهورة، بأنه زنى يهوديان من يهود خيبرأو ما يقرب منها، فأرسلوا ليهود المدينة :" سلوا لنا محمدا صلى الله عليه وسلم عن حكم الزاني المحصن، فإن اتاكم بجلد أو شيء غير القتل فاقبلوا حكمه، ونخرج من العهدة أمام الله بانهما حكم فيهما نبي كريم " لأنهم يعلمون أنه نبي كريم صلى الله عليه وسلم. كما تقدم في قوله :﴿ إن أوتيتم هذا فخدوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ﴾( المائدة : آية ٤١ ) يعنون : إن أعطاكم الحكم السهل من عدم رجم الزانيين فخذوه، وإن لم تؤتوه فاحذروا ! ! وعلى كل حال ثبت في الصحيحين في قصة الزانيين المشهورة أنهما أتوا بهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وحكمه فيهم ( هكذا العبارة في الأصل، والصواب أن يقال :" أنهم أتوا بهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وحكموه فيهم...... )، والنبي صلى الله عليه وسلم قال : " سأحكم فيهم بالحكم الذي أنزل الله في التوراة " وهو الرجم. وكان رئيسهم الديني في ذلك الوقت : عبدالله بن صوريا الأعور، فقال له : ليس في التوراة الرجم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " بلى، إن في التوراة لآية تدل على الرجم فأتوا بالتوراة ". فجاؤوا بالتوراة، فقرأ للحق، فجاء عبد الله بن سلام( رضي الله عنه وأرضاه )، وهو يهودي أصلا من يهود بني قينقاع، وهو من خيار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأفاضل الصحابة الكرام، فهو الذي أنزل الله فيه في الأحقاف :﴿ قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم ﴾ ( الأحقاف : آية١٠ ) هذا الشاهد : هو عبد الله بن سلام، وكان أعلمهم بالتوراة، فقال لابن صوريا : ارفع يدك ! ! وقرأ آية الرجم، فحكم الني عليهما بالرجم، ورجمهما الصحابة. وفي الصحيحين : أن بعض الصحابة رأى الرجل يجنؤ على المرأة. أي : ينحني عليها ليقيها الحجارة، فرجما وقتلا. وهذا من هيمنة القرآن على الكتب، وإنما سمي هذا القرآن كتابا لأنه مكتوب في اللوح المحفوظ، كما قال تعالى :﴿ بل هو قرآن مجيد٢١ في لوح محفوظ٢٢ ﴾( البروج : الآيتان ٢١-٢٢ ) ومكتوب في صحف عند الملائكة لما جمع كله في بيت العزة في السماء الدنيا، كما قال في قوله :﴿ كلا إنها تذكرة١١ فمن شاء ذكره١٢ في صحف مكرمة١٣ مرفوعة مطهرة١٤ ﴾( عبس : آيةالآيات١١-١٤ ) ولأنه مكتوب أيضا عند المسلمين، كما قال :﴿ لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة١ رسول من الله يتلوا صحفا مطهرة٢ فيها كتب قيمة٣ ﴾( البينة : الآيات ١-٣ ).
فلما كان مكتوبا في اللوح المحفوظ، وفي الصحف عند الملائكة، وبالصحف بأيدي المسلمين قيل له :( كتاب ) وأصل الكتاب :( فعال ) بمعنى ( مفعول ) وإتيان( الفعال ) بمعنى ( المفعول ) مسموع في لغة العرب في كلمات غير كثيرة، ككتاب بمعنى مكتوب، ولباس بمعنى ملبوس، وإله بمعنى مألوه، أي : معبود، ونحو ذلك في أوزان غير كثيرة.
وأصل مادة الكتابة، مادة( الكاف، والتاء، والباء ) ( كتب ) معناها في لغة العرب التي نزل بها القرآن معناها : الضم والجمع، فكل شيء ضممت بعضه إلى بعض وجمعت بعضه إلى بعض فقد كتبته. ومن هنا قيل للخياطة كتابة. وفي لغز الحريري :
وكاتبين وما خطت أناملهم حرفا ولا قرؤوا ما خط في الكتب
يعني بالكاتبين : الخياطين. ومنه قول عمرو بن دارة يهجو بني فزارة من قبائل غطفان كانت العرب تعيرهم بالفاحشة مع إناث الإبل، يزعمون أنهم يزنون بالنوق، تعييرا لهم، فعيرهم هذا الشاعر فقال :
لا تأمنن فزاريا خلوت به على قلوصك واكتبها بأسيار
يعني : خط فرجها بأسيار لئلا يزني بها. وهذا معنى معروف في كلام العرب.
ومنه قيل للرقعة التي تكون في السقاء، وقيل لها : كتبة وقيل للسير الذي تخاط به الرقعة أيضا :( كتبة ) لأنه يضم الرقعة إلى السقاءن ومنه قول غيلان ذي الرمة :
ما بال عينك منها الماء ينسكب كأنه من كلى مفرية سرب
وفراء عرفية أثأى خوارزها مشلشل ضيعته بينها الكتب
يعني : ب( الكتب ) : قيل : السيور التي تخاط بها الرقع، أي : مسك الرقع، يشبه كثرة دموعه بماء السقاء إذا اتسع موضع السير الذي خيطت به، لأنها جماعة ينضم بعضها إلى بعض، ويتشكل مع بعض، فسميت الخياطة كتابة، لأن الخياط يضم طرفي الثوب أو الأديم، ويجمع بعضها إلى بعض بالخياطة، يضع حرفا منقوشا ثم حرفا ثم حرفا، حتى يتكون من ذلك كلام يدل على المعاني، فلأجل هذا فالكتابة مصدر سيال.
أي : وهذا قرآن مكتوب في اللوح المحفوظ، وفي الصحف عند الملائكة، وصحف مطهرة بأيدي المسلمين.
﴿ أنزلناه ﴾ يعني : هذا الكتاب أنزلناه من عندنا، ومن كلامنا، وصيغة الجمع للتعظيم، وجملة الفعل وفاعله في﴿ أنزلناه ﴾ في محل النعت للكتاب، لأن النكرات تنعت بالجمل، كما هو معروف. و( مبارك ) نعت آخر، والأصل ان يقدم النعت بالمفرد ثم بشبه الجملة كما في قوله :﴿ وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه ﴾( غافر : آية٢٨ ) فبدأ بالنعت بقوله :﴿ مؤمن ﴾ لأنه مفرد، ثم أتبعه بشبه الجملة، وهي :﴿ من آل فرعون ﴾ ثم أتبعه بالجملة﴿ يكتم إيمانه ﴾ هذا هو الأصل المقرر في المعاني. وربما قدم النعت بغير الجملة، وربما قدم النعت بغير المفرد على النعت بالمفرد. فمثال تقديمه بشبه الجملة :﴿ لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين ﴾ فالجار والمجرور نعت قدم على النعت المفرد في قوله :﴿ عظيم ﴾( الزخرف : آية٣١ ) ومثال تقديم الجملة على المفرد قوله هنا :﴿ كتاب أنزلناه مبارك ﴾ فجملة﴿ أنزلناه ﴾ نعت قدم على النعت بالمفرد. ونظيره من كلام العرب قول طرفة بن العبد :
وفي الحي أحوى ينفض المرد شادن مظاهر سمطى لؤلؤ وزبرجد
فإن قوله :( شادن ومظاهر ) مفردان، قدم قبلهما النعت بالجملة في قوله :" ينفض المرد " وهذا معروف.
وقوله :﴿ مبارك ﴾ معناه : أن هذا الكتاب مبارك، أي كثير البركات، والخيرات، فمن تعلمه وعمل به غمرته الخيرات في الدنيا والآخرة، لأن ما سماه الله مباركا فهو كثير البركات والخيرات قطعا. وكان بعض علماء التفسير يقول : اشتغلنا بالقرآن فغمرتنا البركات والخيرات في الدنيا. تصديقا لقوله :﴿ كتاب أنزلناه مباركا ﴾ ونرجو أن يكون لنا مثل ذلك في الدنيا. وهذا الكتاب المبارك لا ييسر الله للعمل به إلا الناس الطيبين المباركين، فإنه كثير البركات والخيرات، لأنه كلام رب العالمين، إذا قرأه الإنسان وتدبر معانيه ففي كل حرف عشر حسنات في القراءة، وإذا تدبر معانيه عرف منها العقائد التي هي الحق، وعرف أصول الحلال والحرام، ومكارم الأخلاق، وأهل الجنة وأهل النار، وما يصير إليه الإنسان بعد الموت، وما يسبب له العذاب الأبدي، فكله خيرات وبركات، لأنه نور ينير الطريق التي تميز بين الحسن من القبيح، والنافع من الضار، والباطل من الحق، فهو كله خيرات وبركات، من عمل به غمرته الخيرات والبركات في الدنيا والآخرة، وأصلح له الله الدارين.
ومن غرائب الأشياء وعجائبها أن أكثر أهل المعمورة ممن يؤمنون بأنه كلام الله الذي أنزله على رسوله يطلبون الهدى في غيره، ويطلبون التشاريع والتحليلات والتحريمات من غيره ! ! فهذا من الغرائب ! إذا كيف يعدل عاقل عن كلام خالق السماوات والأرض ؟ فهذا النور المبين، والحبل المتين الذي بينه سيد الخلق صلى الله عليه وسلم بسنته الصحيحة. يدل عن هذا زاعما أنه ليس بصالح لهذا الوقت، وأن الحياة تطورت بعد نزوله تطورا لا يلائم هذا القرآن ! ! ومن انزل القرآن عالم بما يحدث من التطورات، وما يكون، فجعل القرآن دينا خالدا لا ينسخه دين، باق إلى يوم القيامة، وهو عالم بما ينزل وما يحدث في الدنيا، بل لو عملت الدنيا أجمعها بهذا الكتاب الكريم لأزال جميع مشاكلها، وازال عنها كل الضرر، ونظم علاقات حياتها على الوجوه الكاملة، وأراها الطريق الواضحة التي تحصل بها على خير الدنيا والآخرة. وهو دائما يحث على التقدم
﴿ أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين١٥٦ أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم ﴾ ( الأنعام : الآيتان ١٥٦-١٥٧ ) هذا قطع لحجة كفار مكة، وإلقام لهم الحجر. يعني : هذا كتاب مبارك أنزلناه بلغتكم الواضحة الفصحى.
أنزلناه﴿ أن تقولوا إنما أنزل الكتاب ﴾ ( أن ) هنا : اختلف البصريون والكوفيون في المقدر قبلها، فكان البصريون يقدرونه مضافا. يعني : أنزلنا عليكم هذا الكتاب بلغتكم كراهة أن تحتجوا حجة باطلة و﴿ أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا ﴾ وكراهة أن تقولوا :﴿ لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم ﴾. والكوفيون يقولون :﴿ كتاب أنزلناه ﴾ لئلا تقولوا كذا أو تقولوا كذا. فهو متعلق ب﴿ أنزلنا ﴾ ف( أن ) متعلقة ب﴿ أنزلنا ﴾، بعضهم يقدر :( أنزلناه كراهة أن تقولو كذا ) وبعضهم يقول :( أنزلناه لئلا تقولوا كذا ). وهذا جار في كل ما يماثله في القرآن، نحو﴿ يبين الله لكم أن تضلوا ﴾( النساء : آية ١٧٦ ) أي : لئلا تضلوا، أو كراهة أن تضلوا. ﴿ إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة ﴾( الحجرات : آية٦ )، كراهة أن تصيبوا، أو : لئلا تصيبوا. وهو كثير في القرآن. وبعض العلماء يقول :﴿ أنزلناه ﴾ : العامل فيه محذوف، لأن ﴿ أنزلنا ﴾ المذكورة حال بينها وبين المعمول أجنبي. والمعنى متقارب، والمعنى : كأنه يقول : يا كفار مكة : أنزلنا هذا الكتاب المبارك بلغتكم وبلسانكم كراهة أن تتعللوا بعلل فاسدة، وأن تقولوا :﴿ إنما أنزل الكتاب على طائفتين ﴾ وهم : اليهود والنصارى. وكتاب اليهود : التوراة، وكتاب النصارى الإنجيل.
﴿ وإن كنا عن دراستهم ﴾ لأن الطائفتين كلاهما جماعة وخلق. فقال :﴿ عن دراستهم ﴾ ولم يقل :" عن دراستهما ".
﴿ غافلين ﴾ وإنما غفلنا لأن لسان هؤلاء أعجمي، ولساننا عربي، ولا نفهم كلامهم، ولا يفهمون كلامنا. فلو أردنا أن نعرف منه أوامر الله ما قدرنا، لأنه ليس بلغتنا ولا بلساننا، ولا نفهم ما يقول أهله، ولا يفهمون ما نقول. يعني : كراهة أن تقولوا هذه الدعوى، وتعتلوا هذا الاعتلال أنزلنا عليكم كتابا سماويا واضحا بلغتكم، لنقطع هذا العذر. أي : أنزلناه لئلا تقولوا. أو : كراهة أن تقولوا :﴿ إنما انزل الكتاب على طائفتين من قلبنا ﴾ اليهود، وهو : التوراة، والنصارى، وهو : الإنجيل.
﴿ وإن كنا ﴾ ( إن ) هي المخففة من الثقيلة. وهي هنا مهملة لا عمل لها.
والللام في قوله :﴿ لغافلين ﴾ لام الفرق، الفارقة بين( إن ) المخففة من الثقيلة، و( إن ) النافية. وكونهم غافلين عنها لا يفهمونها لأنها ليست بلغتهم، ولا يعرفون معانيها، لأنها ليست بلغتهم. يعني : فقد قطعنا هذا العذر، وأنزلنا إليكم كتابا بلسانكم. أو تقولون : لو أنا أنزل علينا الكتاب كما أنزل التوراة على اليهود، أو كتاب كما أنزل الإنجيل على النصارى، لعملنا بذلك الكتاب، وكنا أهدى منهم، ولكنا لنا عذر، وهو أنهم أنزل عليهم كتاب، ونحن لم ينزل علينا كتاب. هذا العذر. ﴿ أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم ﴾ فكأن الله يقول : إن ادعيتم هذه الدعاوي، واعتللتم بهذه العلل، فقد جاءكم كتاب منزل بلسانكم ولغتكم، تعرفون معناه فسمى القرآن ( بينة ) لأن البينة هي الدليل الواضح الذي لا لبس في الحق معه، وسمي الشهود( بينة ) لأنهم يبينون الحق بشهادتهم.
﴿ وهدى ورحمة ﴾ هدى إرشاد للجميع، وهدى توفيق لمن اتبعه. ورحمة يرحم الله به من عمل به من عباده المؤمنين ووفقه لذلك.
ثم إن الله قال :﴿ فمن أظلم ﴾ أي : لا أحد أظلم﴿ ممن كذب بآيات الله ﴾ وقال : هي سحر، شعر، كهانة، أساطير الأوليبن.
﴿ وصدف عنها ﴾ صدف تستعمل استعمالين : صدف تستعمل بمعنى : أعرض. تقول : صدفت عن الأمر، أصدف عنه. بمعنى : أعرضت عنه. ومنه قول الشاعر :
إذا ذكرن كلاما قلن أحسنه *** وهن عن كل سوء يتقى صدف
أي : عن كل سوء معرضات. ومنه قول عبدالله بن رواحة أو غيره :
عجبت للطف الله فينا وقد بدا *** له صدفنا عن كل وحي منزل
أي : إعراضنا وعليه ف( صدف ) لازمة، بمعنى : أعرض وتستعمل( صدف ) متعدية، تقول : صدف زيد عمرا أي : صده عن طريقه، وجعله معرضا عنها.
واختلف العلماء في( صدف ) هنا، هل هي متعدية محذوفة المفعول ؟ وهو قول السدي. وهو الظاهر، لأنه يكون جامعا بين الضلال والإضلال. ﴿ كذب بآيات ﴾ أي : كفر هو بنفسه، وصدف الناس. أي : صد الناس عن الإيمان بها، فهو جامع بين الضلال والإضلال. وعلى هذا القول لو قلنا : إن( صدف ) لازمة، تتكرر مع قوله :﴿ كذب بآيات ﴾ لأن المكذب بآيات الله صادف عنها، فيكون تكرارا. وروي عن ابن عباس أن( صدف ) هنا لازمة. أي : كذب بآياتنا وأعرض عنها، ووجهه : أنه كذب بها بلسانه، وأعرض عنها بجوارحه. كقوله :﴿ فلا صدق ولا صلى٣١ ﴾( القيامة : آية٣١ ) أي : لا صدق بلسانه، ولا صلى بجوارحه.
وقوله :﴿ سنجزي الذين يصدفون ﴾ سنجازي الذين يصدفون. أي : يصدون الناس﴿ عن آياتنا ﴾. بناء على أن صدف متعدية. أو سنجزي الذين يعرضون﴿ عن آياتنا ﴾ بناء على أنها لازمة.
﴿ سوء العذاب ﴾ من إضافة الصفة إلى الموصوف. أي : سنجزيهم العذاب السيء. وهذا يدل على أنها متعدية، لأن﴿ سوء العذاب ﴾ عذاب مضاعف لضلالهم وإضلالهم، كما قال :﴿ الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ﴾ أي : كفروا في أنفسهم، وصدوا الناس عن سبيل الله﴿ زدناهم عذابا فوق العذاب ﴾( النحل : آية٨٨ ) أي : لإضلالهم وضلالهم.
﴿ بما كانوا يصدفون ﴾ وفي هذه الآية بعض الأسئلة المعروفة اللغوية :
أحدها : أنه قال :﴿ أن تقولوا إنما أنزل الكتاب ﴾ فأفرد الكتاب، ثم بين بقوله﴿ على طائفتين ﴾ أنهما كتابان، كيف يفرد الكتاب، وهما كتابان، التوراة والإنجيل ؟ هذا سؤال وارد معروف.
والجواب عنه معروف، وهو أن المفرد إذا كان اسم جنس جاز استعماله مفردا مرادا به الجمع أو التثنية، لأن المراد به الجنس في حالاته الثلاث. ونعني بحالاته الثلاث : أن يكون منكرا، أو معرفا بالألف واللام، أو مضافا. ونحو هذا كثير في القرآن.
فمن أمثلته معرفا قوله هنا :﴿ إنما أنزل الكتاب ﴾ وليس بكتاب واحد. وقوله :﴿ وتؤمنون بالكتاب كله ﴾( آل عمران : آية١١٩ ) أي : بالكتب كلها. ﴿ سيهزم الجمع ويولون الدبر٤٥ ﴾( القمر : آية٤٥ ) أي : الأدبار. ﴿ أولئك يجزون الغرفة ﴾( الفرقان : آية٧٥ )أي : الغرف بدليل :﴿ لهم غرف من فوقها غرف مبينة ﴾( الزمر : آية٢٠ ). وقوله :﴿ وجاء ربك والملك ﴾ أي : والملائكة بدليل قوله :﴿ صفا صفا ﴾ ( الفجر : آية٢٢ ) لأن الملك الواحد لا يكون صفا صفا. ﴿ أو الطفل الذين لم يظهروا ﴾( النور : آية٣١ ) أي : الأطفال. وهو كثير.
ومثاله واللفظ المنكر :﴿ إن المتقين في جنات ونهر٥٤ ﴾( القمر : آية٥٤ ) يعني : وأنهار. بدليل :﴿ فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه ﴾( محمد : آية١٥ ) ﴿ ثم نخرجكم طفلا ﴾( الحج : آية٥ ). أي : أطفالا. ﴿ مستكبرين به سامرا ﴾ ( المؤمنون : آية ٦٧ ) أي : سامرين. ﴿ وإن كنتم جنبا ﴾ ( المائدة : آية٦ ) أي : أجنابا أو جنبين. ﴿ فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا ﴾( النساء : آية٤ )أي : أنفسا. ﴿ والملائكة بعد ذلك ظهير ﴾( التحريم : آية٤ )أي : مظاهرون. وهو كثير في القرآن.
ومن أمثلته واللفظ مضاف :﴿ وإن تعدوا نعمة الله ﴾ ( النحل : آية ١٨ )أي : نعم الله. ﴿ فليحذر الذين يخالفون عن أمره ﴾( النور : آية٦٣ ) أي : عن أوامره. ﴿ إن هؤلاء ضيفي ﴾( الحجر : آية٦٨ )أي : أضيافي. وكان سيبويه ( رحمه الله ) في كتابه ألم بهذا الموضع، وقال : إن إطلاق المفرد إذا كان اسم جنس مرادا به الجمع أنه يوجد في كلام العرب بغير كثرة، بقلة. ونحن نرى باستقراء اللغة العربية أنه كثير. وأنشد له سيبويه في كتابه بيتين :
أحدهما قول علقمة بن عبدة التميمي :
بها جيف الحسرى فأما عظامها *** فبيض، وأما جلدها فصليب
أي : فما جلودها فصليبة.
والثاني قول الآخر :
كلوا في بعض بطنكم تعفوا *** فإن زمانكم زمن خميص
أي : بعض بطونكم. ونحن نراه في كلام العرب وأشعارها بكثرة، فمنه قول عقيل بن علفة المري :
وكان بنو فزارة شر عم[ أي : أعمام ] *** وكنت لهم كشر بني الأخينا
وقول عباس بن مرداس السلمي :
فقلنا أسلموا إنا أخوكم *** وقد سلمت من الإحن الصدور
أي : إخوانكم. وقول جرير :
وإذا آباؤنا وأبوك عدوا *** أبان المقرفات من العراب
أي : وآباؤك. وهو كثير في كلام العرب كما بينا.
فبهذا يعلم أن إطلاق الكتاب مرادا به جنس الكتاب الصادق بالتوراة والإنجيل واضح لا إشكال فيه. وهذا معنى قوله :﴿ إنما أنزل اكتاب على طائفتين من قبلنا ﴾ وقوله﴿ أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم ﴾ بين أنهم كذبوا في هذه حيث قال :﴿ وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا٤٢ استكبارا في الأرض ﴾( فاطر : الآيتان ٤٢-٤٣ )وقوله :﴿ وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله ﴾ إلى أن قال :﴿ ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ﴾ وفي الأخرى :﴿ قبلا ﴾ ﴿ وما كانوا ليؤمنونا إلا أن يشاء الله ﴾( الأنعام : الآيات ١٠٩-١١١ )، وبهاتين الآيتين قطع الله حجة كفار قريش.
يقول الله جل وعلا :﴿ هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانهم لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانه خيرا قل انتظروا إنا منتظرون١٥٨ ﴾( الأنعام : آية١٥٨ )، هذا استفهام معناه النفي، والمعنى : أن هؤلاء الكفار، والذين يكذبون بآيات الله ويصدفون عنها، يكذبون ويصدفون الناس عنها، ويحملونهم عن الإعراض عنها، ما ينظرون، أي : ما ينتظرون، لأن معنى قوله :﴿ هل ينظرون ﴾ هي ينتظرون. والعرب تطلق ( نظر ) بمعنى : انتظر، والدليل عليه هنا أنه بينه في آخر الآية فقال :﴿ قل انتظروا إنا منتظرون ﴾ ونظيره من كلام العرب، من إطلاق( نظر )وإرادة :( انتظر ) قول امرئ القيس :
خليلي مرا بي على أم جندب لتقضى لبانات الفؤاد المعذب
فإنكما إن تنظراني ساعة من الدهر تنفعني لدى أم جندب
وقوله :" تنظراني " أي : تنتظراني. يعني : ما ينظر هؤلاء المكذبون إلا إحدى الدواهي العظام الآتية﴿ إلا ان تأتيهم الملائكة ﴾ جمهور المفسرين على أن المراد بإتيان الملائكة : إتيان الملائكة لقبض أرواحهم، لأن ملك الموت الذي يقبض أرواح الناس له أعوان كثيرة يقبضون الروح. قال بعض العلماء : حتى يبلغوها الحلقوم فيأخذها ملك الموت. وقد قال جل وعلا :﴿ توفته رسلنا وهم لا يفرطون ﴾( الأنعام : آية٦١ ) فدل على أنها رسل متعددة أعوان ملك الموت، ولذا أسند التوفي لرسل متعددة﴿ توفته رسلنا وهم لا يفرطون ﴾ وأسنده مرة لملك الموت﴿ قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ﴾( السجدة : آية١١ ) وأسنده مرة لنفسه﴿ الله يتوفى الأنفس حين موتها ﴾ ( الزمر : آية ٤٢ ) وإسناده لنفسه واضح، لأن كل شيء واقع بمشيئته. وإسناده لملك الموت لأنه الملك الموكل بقبض الأرواح. وإسناده لرسل متعددة، لأن لملك الموت أعوانا كثيرة من الملائكة يقبضون معه الأرواح. قال بعض العلماء : ينزعونها إلى الحلقوم فيأخذها هو أي : ملك الموت.
والمعنى : ما ينتظرون إلا أن تأتيهم الملائكة فتقبض أرواحهم على الشقاء والكفر، فيخلدون في النار تخليدا مؤبدا.
﴿ أو يأتي ربك ﴾ أي : يأتيهم الله لفصل الخطاب يوم القيامة، فيعذبهم العذاب الأكبر عندما يأتي ليحاسب الناس على أعمالهم، وإتيان الرب هنا هو معنى قوله جل وعلا :﴿ وجاء ربك والملك صفا صفا٢٢ ﴾( الفجر : آية٢٢ ) وقوله :﴿ هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضي الأمر ﴾( البقرة : آية٢١٠ ).
وهذه الآيات ونحوها من الآيات، كمجيء الرب في هذه الآيات، الذي أخبر به عن نفسه، كنزوله إلى السماء الدنيا في ثلث الليل الآخر يقول :" هل من داع فأستجيب له، هل من مستغفر فأغفر له "، كل هذه من آيات الصافات وأحاديثها أشكلت على آلاف الخلق، وضل فيها ملايين الناس من حذاق النظار، الفحول العلماء، لأن التوفيق بيد الله.
ونحن نحرر لكم هذا المقام تحريرا شافيا واضحا على ضوء نور القرآن العظيم، بحيث يتيقن العاقل أن من مات عليه لقي الله سالما. اعلموا أيها الإخوان أنا نوصيكم وأنفسنا بهذا الذي نقوله لكم في الخروج من هذا المأزق الأكبر، ومزلة الأقدام التي زلت فيها أقدام الآلاف ممن ينتمي للعلم، في آيات الصفات، فمن معطل ناف لها، ومن مشبه مجسم، ومن مغير لها آت بغيرها. والحق الفصل في هذا : هو أن البيان بالقرآن، والله أوضح هذه المسألة إيضاحا شافيا لا لبس في الحق معه، ولكن الله يهدي من يشاء. أما الذين يؤولون صفات الله، ويقولون : لها ظاهر غير مراد، لأنه ظاهر يفهم غير اللائق بالله ! ! فيصرفونها ويأتون بشيء بدل ذلك من عند أنفسهم ! ! فهم كما قال الشافعي( رحمه الله )-لأنهم يقصدون الخير، ولكنهم غلطوا ووقعوا في شر مما فروا منه، وقول الشافعي المذكور- بيته المشهور :
رام نفعا فضر من غير قصد ومن البر ما يكون عقوقا
والمخرج من هذا المأزق : هو الاعتماد على ثلاثة أصول كلها من كتاب الله، فمن لقي الله معتقدا لها ومات عليها لقي الله سالما على المحجة البيضاء، التي كان عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه : ومن أخل بواحد منها دخل في مهواة وبلايا قد لا يتخلص منها. فأوصيكم بهذه الأصول الثلاثة القرآنية، لأنها هي المخرج الإلهي القرآني من هذا المأزق العظيم.
الأول : من هذه الأصول الثلاثة : هو أساس التوحيد، والحجر الأساسي لمعرفة الله معرفة على الوجه الصحيح، وهو تنزيه خالق السماوات والأرض عن مشابهة شيء من خلقه. هذا هو الأصل الأكبر، والحجر الأساسي لمعرفة الله على الوجه الصحيح اللائق، تنزيه خالق السماوات والأرض عن مشابهة شيء من خلقه في صفاتهم، أو ذاوتهم، أو أفعالهم. ومن هم الخلق يا إخوان ؟ من هم الخلق ؟ ! أليسوا أثرا من آثار قدرته وإرادته، وصنعة من صنائعه ؟ وكيف يخطر في ذهن العاقل أن الصنعة تشبه صانعها ؟ لا، وكلا ! ! فمن رزقه الله علم هذا الأساس، وهذا الأصل الأكبر، وأساس العقيدة الصحيحة الذي هو تنزيه خالق السماوات والأرض عن أن يشبه شيئا من خلقه في شيء من صفاتهم، أو ذواتهم، أو أفعالهم فقد رزقه الله أساس التوحيد، وحجره الأساسي. وهذا إذا امتلأ منه قلب المؤمن، وعرف أن صفة الله عندما تسند إلى خالق السماوات والأرض تمتليء القلوب من الإجلال والإعظام والإكبار، وتنزيه صفة الله عن أن تشبه شيئا من صفات خلقه. هذا هو الأصل الأول وهو في ضوء قوله﴿ ليس كمثله شيء ﴾( الشورى : آية١١ ) ﴿ ولم يكن له كفوا أحد٤ ﴾( الإخلاص : آية٤ ) ﴿ فلا تضربوا لله الأمثال ﴾( النحل : آية٧٤ )﴿ هل تعلم له سميا ﴾ ( مريم : آية٦٥ ) أي : مساميا يساميه في المكانة والقوة والفضل. إذا استحكم هذا الأساس في قلب العبد، وكان قلبه طاهرا من أقذار تنجيس التشبيه منزها لله، عالما أن وصف الله أجل وأعظم وأكبر وأنزه من أن يشبه صفة المخلوق/ فإذا استحكم هذا الأصل في قلبه.
فالأصل الثاني : هو الإيمان بما وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله، إيمانا مبنيا على أساس هذا التنزيه، لأنه لا يصف الله أعلم بالله من الله﴿ أأنتم أعلم أم الله ﴾ ( البقرة : آية١٤٠ ) ولا يصف الله بعد الله أعلم بالله من رسول الله، الذي قال فيه :﴿ وما ينطق عن الهوى٣ إن هو إلا وحي يوحى ٤ ﴾ ( النجم : الآيتان٣-٤ ) فهذا الذي قلت لكم في هذين الأصلين –ان الأول : تنزيه خالق السماوات والأرض عن مشابهة الخلق. والثاني : الإيمان بما وصف الله به نفسه، أو وصفه به نبيه إيمانا مبنيا على أساس ذلك التنزيه- ما قلته لكم من تلقاء نفسي، ولا رواية عن زيد ولا عمرو، بل في ضوء نور المحكم المنزل، الذي هو آخر الكتب السماوية عهدا بالله، وهذا تعليم رب العالمين، وذلك الإيضاح السماوي في قوله :﴿ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ﴾( الشورى : آية١١ )، فاعلموا أيها الإخوان أن الإتيان بقوله :﴿ وهو السميع البصير ﴾ بعد﴿ ليس كمثله شيء ﴾ فيه سر أعظم، ومغزى أكبر، وتعليم سماوي، ولا يترك في الحق لبسا، لأن السمع والبصر صفتان هما أشد الصفات توغلا في التشبيه، فجميع الحيوانات تسمع وتبصر، ولذا جاء بقوله :﴿ وهو السميع البصير ﴾ بعد قوله :﴿ ليس كمثله شيء ﴾ يعني : لا تتنطع يا عبدي، وتشبه صفتي بصفة مخلوقي، وتنفي عني سمعي وبصري، بدعوى أنك إن أثبت لي السمع والبصر شبهتني بالحمير والآدميين وغيرهم من الحيوانات التي تبصر ! !
لا يا عبدي، أثبت لي سمعي وبصري، ولكن لاحظ في ذلك الإثبات قولي قبله متصلا به :﴿ ليس كمثله شيء ﴾( الشورى : آية١١ ) السمع والبصر على أساس نفي المماثلة.
فأول الآية الكريمة فيه النفي التام للتشبيه والتمثيل، وآخرها فيه الإيمان بالصفات من غير تكييف ولا تعطيل على أساس التنزيه عن التشبيه والتمثيل.
فعلينا أن نعمل بأول الآية. فننزه ربنا، وذلك هو الأساس، فإذا نزهناه عن مشابهة خلقه وحملنا أوصافه في القرآن والسنة على الأوجه الكريمة اللائقة. كان من السهل علينا أن نؤمن بالصفات، لأننا نؤمن بها على أساس التنزيه عن مشابهة الخلق.
فالأصل الأول : وهو أساس التوحيد : تنزيه الله عن مشابهة شيء من خلقه بشيء من صفاتهم، أو ذواتهم، أوأفعالهم.
والأصل الثاني : عدم جحد شيء مما وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله، بل يجب الإيمان بما وصف الله به نفسه، أو وصف به رسوله إيمانا مبنيا على أساس ذلك التنزيه، على غرار :﴿ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ﴾( الشورى : آية١١ )
الأصل الثالث : هو أن نعلم أن العقول مخلوقة واقفة عند حدها، لا تحيط علما بخالقها، فهي عاجزة عن إدراك كيفية الاتصاف بالصفات، والله يقول :﴿ يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما١١٠ ﴾( طه : آية١١٠ ).
فملعوم أن المتكلمين الذين نفوا كثيرا من صفات الله بالأدلة العقلية المفرغة في قوالب أقيسة منطقية قسموا الصفات قسمة سداسية، قالوا : منها صفة نفسية، ومنها صفة معنى، ومنها صفة معنوية، ومنها صفة فعل، ومنها صفة جامعة، كتقسيمهم المعروف.
ونحن نبين لكم أن كل هذه الصفات جاءت الآيات القرآنية بوصف الخالق بها، وبوصف المخلوق بها، والكل من ذلك حق، فالخالق حق، وصفاته حق، والمخلوق حق، وصفاته حق. ولكن صفة المخلوق ملائمة لذات المخلوق، وصفة الخالق لائقة بذات الخالق، وبين صفة الخالق والمخلوق من المنافاة كمثل ما بين ذات الخالق والمخلوق، لا مناسبة ألبتة بين الذات والذات، ولا بين الصفة والصفة.
هذه صفات المعاني السبعة، الذي يقر بها من ينكر أكثر الصفات الوجودية غيرها، وهي عندهم : القدرة، والإرادة، والعلم، والحياة، والسمع، والبصر، والكلام. جاءت في القرآن.
هذا السمع والبصر يقول الله فيه عن نفسه :﴿ إن الله سميع بصير ﴾ ( الحج : آية٧٥ ) في وصف نفسه وصف نفسه بأنه سميع بصير، ووصف بعض خلقه أيضا بالسمع والبصر، قال :﴿ أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا ﴾ ( مريم : آية٣٨ ) وقال :﴿ إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا٢ ﴾( الإنسان : آية٢ ) ولا شك أن لله سمعا وبصرا حقيقيين لائقين بكماله وجلاله، وللمخلوق سمع وبصر حقيقيان مناسبان لعجزه وفنائه وافتقاره، وبين سمع الخالق وبصره، وسمع المخلوق وبصره من المنافاة كمثل ما بين ذات الخالق والمخلوق.
وقال( جل وعلا ) في وصف نفسه بالحياة :﴿ الله لا إله إلا هو الحي القيوم ﴾( البقرة : آية٢٥٥ )، ﴿ وتوكل على الحي الذي لا يموت ﴾ ( الفرقان : آية ٥٨ )، ﴿ هو الحي لا إله إلا هو ﴾( غافر : آية ٦٥ ).
ووصف بعض خلقه بالحياة، قال :﴿ وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يولد حيا١٥ ﴾( مريم : آية١٥ )، ﴿ وجعلنا من الماء كل شيء حي ﴾( الأنبياء : آية ٣٠ )، ﴿ يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ﴾( يونس : آية٣١ ).
فنحن نقطع ان لله حياة عظيمة حقيقية لائقة بكماله وجلاله، وللمخلوقين حياة مناسبة، وعجزهم، وفنائهم، وافتقارهم، وبين الصفة والصفة من المنافاة كمثل ما بين الذات والذات.
ووصف نفسه بالعلم، قال :﴿ والله بكل شيء عليم ﴾( البقرة : آية٢٨٢ )، ﴿ لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه ﴾ ( النساء : آية ١٦٦ )، ﴿ فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين٧ ﴾( الأعراف : آية٧ ). ووصف بعض خلقه بالعلم، قال :﴿ وبشروه بغلام عليم ﴾( الذاريات : آية ٢٨ )، ﴿ وإنه لذو علم لما علمناه ﴾( يوس
﴿ إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا ليست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون١٥٩ ﴾( الأنعام : آية١٥٩ ).
[ قرأ الجمهور ] ( في هذا الموضع وجد مسح في التسجيل وما بين المعقوفتين [ ] زيادة يتم بها الكلام ) غير حمزة والكسائي :﴿ إن الذين فرقوا دينهم ﴾ بتشديد الراء، وعدم ألف بعد الفاء، وقرأه حمزة والكسائي﴿ إن الذين فارقوا دينهم وكانوا شيعا ﴾ أما على قراءة حمزة والكسائي :﴿ فارقوا دينهم ﴾ فالمعنى واضح، لأنهم ارتدوا-والعياذ بالله- عن الدين وفارقوه، وصاروا طوائف كافرة، كل طائفة ملحدة كافرة غير الأخرى. وأما على قراءة الجمهور :﴿ فرقوا دينهم ﴾ فالمراد بتفريقهم الدين : أن كل طائفة تنتحل نحلة تزعم أنها هي الدين. فهي في أهل الأهواء والبدع والضلالات، ويدخل فيهم اليهود والنصارى :﴿ وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء ﴾ ( البقرة : آية١١٣ ) فقد فرقوا دينهم. ومعناه : ان كل طائفة وفرقة انتحلت نحلة تزعم أنها هي الدين الحق، وأن ما سواه باطل، والجميع كله ضلال وبدع وأهواء. كما ذكرنا في الحديث : أن النبي بين هذا التفريق، وأن اليهود افترقوا إلى إحدى وسبعين فرقة، وهذه الإحدى والسبعين فرقت دينها، وجعلته إحدى وسبعين فرقة، كل واحدة تدعي أنها على الحق، وأن غيرها ضال، وافترقت النصارى إلى اثنتين وسبعين فرقة، كل فرقة تزعم أنها على الحق، وأن غريها ضال. وستفترق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، تزعم كل واحدة أنها على الحق. وجميع الفرق في النار إلا فرقة واحدة.
وعلامة هذه الفرقة الواحدة : هي الخالية من البدع والأهواء والمبتدعات بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، المخالفة لشرعه، بل هي التي تمشي على الجادة والمحجة البيضاء، التي كان عليها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. هذه الفرقة هي الناجية : وهي المسماة بأهل السنة والجماعة، وإن كانوا قليلا، لأن أكثر الأرض على الضلال، أكثر من في الأرض ضلال في النار، والذين هم على الهدى وأهل الجنة قلة جدا. وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أن نصيب الجنة من الألف واحد، ونصيب النار من الألف تسع وتسعون وتسعمائة. وهذا ثابت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم، ولما شق هذا على أصحابه أخبرهم بكثرة المشركين، وأن هناك قبيلتين قد تكون الألف منهم، والواحد منكم : يأجوج ومأجوج. ويأجوج ومأجوج من العلامات العشر التي ذكرها مسلم لم نذكرها، وهذه الفرق كلها في النار، ونصيب الجنة واحد من الألف لكثرة الكفار، والله يقول :﴿ وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك ﴾( الأنعام : آية١١٦ )﴿ وما كان أكثرهم مؤمنين ﴾( الشعراء : آية٨ )، ﴿ ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين٧١ ﴾ ( الصافات : آية٧١ )﴿ وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين١٠٣ ﴾( يوسف : آية١٠٣ ) فالأكثرية أهل النار، وهي التي منها هذه البدع والأهواء والفرق الضالة الزائغة عن هدي النبي صلى الله عليه وسلم، والهدى لا يخفى :
الحق أبلج لا تزيغ سبيله والحق يعرفه أولو الألباب
لأن من هو على هدي النبي صلى الله عليه وسلم لا يخفى على أحد، لأنه خال من الابتداع، والدعاوى الكاذبة، والتضليلات، والتخريفات، والتهريجات الزائفة، بل هو على صراط مستقيم، عامل بهدي رسول الله، عارف أوامر القرآن ونواهيه، عالم بسنة رسول الله وبأحكامها، متبع ما جاء عن الله، مؤتمر بأوامر الله، منزجر عما زجر الله عنه، على المحجة البيضاء، سالم من الدعاوى الخرافية، والضلالات المبتدعة التي لم يعرق لها عهد في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه. فالفرقة الناجية : هي التي كانت على ما عليه النبي وأصحابه من العقيدة الصحيحة، وامتثال أوامر الله، واجتناب نواهيه على الوجه الصحيح الكامل، فالصحابة( رضي الله عنهم ) لم يدعوا شيئا مما يدعيه المضللون من أنهم يرون النبي يقظة، ويجتمعون به دائما ! ! لم يقولوا شيئا من ذلك لصدقهم وعدالتهم. هذا أمير المسلمين في زمانه : عثمان بن عفان، أعز فتى في قريش، وهو أمير المؤمنين. والإسلام في شدة قوته، ولما امر النبي صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب أن يذهب بالهدايا إلى مكة لما حاصروهم في الحديبية قال له : أنا لا أستطيع، لأن بني عدي لا يمكن أن يمنعوني من قريش، ولكن أدلك على رجل أعز مني، وهو عثمان بن عفان. فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم لعزته ومكانته في قريش، وأرسل معه الهدايا وتلقاه بنو عمه يقولون :
أقبل وأدبر ولا تخف أحدا بنو سعيد أعزة الحرم
وهو بهذه العزة في قريش، وهو أمير المؤمنين، وصهر رسول الله على ابنتيه، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، ذبح في داره ظلما، والحجرة النبوية بجنبه، لم يأته النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يحل لهم المشكلة، وهي عائشة( رضي الله عنها ) ذهبت إلى العراق، ووقعت قصة الجمل، والنبي صلى اله عليه وسلم معها في الحجرة، لم تستطع أن تلقاه، ولم تأخذ رأيه : هل تفعل ؟ بل قد ندمت كل الندم على ما صدر منها. ولما نزلت مسألة العول : ماتت امرأة وتركت زوجها وأختيها في خلافة عمر بن الخطاب، فقال عمر : إن أعطيت الزوج النصف لم يبق ثلثان، وإن أعطيت الأختين الثلثين لم يبق نصف، فماذا أفعل ؟ وأسفوا كل الأسف على أنهم لم يسألوا النبي صلى الله عليه وسلم، فما قال أحد منهم : إنهم يسألونه، لأن صلوات الله وسلامه عليه أرسله الله لمهمة وقد بلغها على اكمل الوجوه وأتمها وأحسنها وأنصحها، ثم تركها محجة بيضاء ليلها كنهارها، ثم اختاره الله إلى ما عنده من الكرامة، ونقله إلى الرفيق الأعلى صلوات الله وسلامه عليه.
والشاهد أن الذين هم على هدي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه سالمون من الدعاوى الكاذبة، والخرافات المضللة، بل هم على صراط مستقيم، وهدي واضح لا دعاوى فيه ولا تضليل ولا تهريج، يقتفون آثار النبي صلى الله عليه وسلم بالعمل بكتابه وسنته، ومجالسهم كأن على رؤوسهم الطير فيها. فمن كان على هديه صلى الله عليه وسلم في الأعمال والأقوال والأفعال والسمت والعقيدة فهو الفرقة الناجية، وغيره هي الفرق الضالة المضلة التي فرقت دينها وجعلته شيعا.
وقوله :﴿ وكانوا شيعا ﴾ الشيع جمع شيعة، وكل قوم تشيعوا واجتمعوا على نصرة رجل، أو على نحلة ينتحلونها فهم شيعة، سواء كانت في الخير أو في الشر، ومنه قوله في نوح :﴿ وإن من شيعته لإبراهيم٨٣ ﴾ ( الصافات : آية٨٣ )أي : من جماعته الذين هم على دينه وهديه، ومنه قول الكميت، وهو من الشيعة الذين يتشيعون لآل النبي صلى الله عليه وسلم :
ومالي إلا آل أحمد شيعة ومالي إلا مذهب الحق مذهب
﴿ شيعا ﴾ أي : فرقا مختلفة، كل فرقة تنصر صاحب بدعة مثلا، أو رأس ضلالة يشيعونه وينصرونه.
﴿ لست منهم في شيء ﴾ معناه : أنت بريء منهم، وهم برآؤا منك، لست على دينهم وليسوا على دينك. والعرب إذا كان الإنسان بريئا من الإنسان يقولون : لست منك ولست مني. ومنه قول نابغة ذبيان :
إذا ما رمت في أسد فجورا فإني لست منك ولست مني
يعني : أنا بريء منك، وأنت بريء مني.
ثم قال :﴿ إنما أمرهم إلى الله ﴾ إنما أمرهم ومصيرهم إلى ربهم، فالله هو الذي حكم عليهم في دار الدنيا بذلك الشقاء والخذلان وطمس البصيرة، وهو الذي يجازيهم يوم القيامة على ما كان منهم، وذلك معنى قوله :﴿ إنما أمرهم إلى الله ﴾.
﴿ ثم ينبئهم ﴾ يوم القيامة. أي : يخبرهم إذا جاؤوه بالذي كانوا يعملونه في الدنيا، فيجدون كل ما عملوه في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، ويقال للإنسان :﴿ اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا١٤ ﴾ ( الإسراء : آية١٤ )، فيجد الإنسان كل ما قدم وأخر﴿ يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه ﴾( آل عمران : آية٣٠ ) وهذا معنى قوله :﴿ إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون ﴾ والمراد بالتنبئة هنا ليس مجرد الإخبار، ينبؤهم ليقروا ويعترفوا فيعلمون أنه إنما عاقبهم على عدل وليس ظلم، والنبأ في لغة العرب أخص من مطلق الخبر، لأن كل نبأ خبر، وليس كل خبر نبأ، لأن العرب لا تطلق النبأ إلا على الخبر الذي له شان وخطب، فيقولون : جاءنا نبأ الجيوش، ونبأ الأمير، وخبر الجيوش، وخبر الأمير. أما لو قال قائل : تلقينا اليوم نبأ عن حمار الحجام. فإن هذا لا يكون من كلام العرب، / لأن حمار الحجام لا اهمية له، وإطلاق النبأ عليه وضع للنبأ في غير موضعه، فاللائق أن يقول : خبر حمار الحجام، لأن النبأ لا يطلق إلا على ما له شأن، وكون التنبئة هنا لها شأن لعظمة الله بإحصائه إياها، وأنه لا يعزب عنه مثقال ذرة، ولعظمة الخطب عليهم، كما قالوا :﴿ ياويلنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا ﴾( الكهف : آية٤٩ ).
يقول الله جل وعلا :﴿ من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون١٦٠ ﴾( الأنعام : آية١٦٠ ).
لما أمر الله الخلق بسلوك صراطه المستقيم، ونهاهم عن اتباع السبل لئلا تتفرق بهم عن سبيله، ثم بين أن بعضا منهم لم يمتثلوا ذلك، بل اتبعوا السبل فتفرقت بهم عن سبيله في قوله :﴿ إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا ﴾ ( الأنعام : آية١٥٩ ) بين أنه( جل وعلا ) بالنسبة إلى من عصاه فاتبع تلك السبل الضالة، وبالنسبة إلى من أطاعه فاتبع الصراط المستقيم، أن معاملته للمحسنين في غاية الإكرام والتمام والكمال، وللمسيئين في غاية الإنصاف، والعدالة، فقال :﴿ من جاء بالحسنة ﴾ يعني : من جاء يوم القيامة بالخصلة الحسنة التي كان يعملها في دار الدنيا، فقول بعض أهل العلم هي :" لا إله إلا الله ) " كالتمثيل، لأن المراد بالحسنة : كل خصلة ترضي الله ( جل وعلا )، سواء كانت( لاإله إلا الله ) أو غيرها من العقائد، وأفعال الجوارح، وأعمال القلوب، كل من جاء إلى الله يوم القيامة بالخصلة الحسنة من طاعة الله من جميع خصلة ترضي الله( جل وعلا )، فالله( جل وعلا ) يضاعفه على أقل التقديرات عشر أمثالها، أي : فله عشر حسنات،
كل حسنة مثلها، فأقل المضاعفة للمحسنين عشرة. ثم إنه بين في بعض المواضع أنه يضاعف إلى سبعمائة، وفي بعضها أنه يضاعف حسب مشيئته بحيث لا يعلمه إلا هو حيث قال في المضاعفة إلى سبعمائة :﴿ مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة ﴾ فجاءت الحبة بسبعمائة حبة، وهي مضاعفة الحسنة بسبعمائة.
ثم قال :﴿ والله يضاعف لمن يشاء ﴾ ( البقرة : آية٢٦١ ) أي : يضاعف لمن يشاء من الأضعاف ما شاء، فأقل المضاعفة عشر حسنات، إلى سبعمائة، إلى ما شاء الله. فتوضع الحسنة في الميزان بعشر حسنات.
ثم قال :﴿ ومن جاء بالسيئة ﴾ أي بالخصلة السيئة التي تسوء صاحبها إذا رآها في صحيفته يوم القيامة﴿ فلا يجزى إلا مثلها ﴾ فجزاء السيئة سيئة واحدة مثلها، وجزاء الحسنة على أقل التقديرات عشرة أمثال، فمن غلبت آحاده عشراته فلا خير فيه، ولا يهلك على الله إلا هالك، لأن هذه الحنيفة السمحة التي جاء بها سيد ولد آدم ( عليه الصلاة والسلام ) هيأ الله فيها طريق الجنة ويسرها تيسيرا عجيبا، رفع فيها الأثقال والآصار والتكاليف، من شق عليه السفر فليفطر، وليقصر الصلاة، ومن لم يقدر على الصلاة قائما صلى قاعدا، وهكذا في أنواع التخفيف، فمع هذا فالحسنة تكتب له بعشر حسنات، كل حسنة مثلها. والسيئة إنما تكتب عليه سيئة واحدة مثلها. ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه، بل قد تكون حسنة، إن كان تركه لها لأجل ابتغاء مرضاة الله، فهذه الآيات من أعظم المبشرات للمسلمين، لأن جميع حسناتهم عند الوزن الذي قال الله :﴿ والوزن يومئذ الحق ﴾( الأعراف : آية٨ ) إذا كانت حسنتك تضاعف عشر مرات، وسيئتك إنما تجازى بسيئة واحدة مثلها، ففي هذا أعظم البشارة للمسلمين، وعليهم أن يكثروا من الحسنات. ومن الحكم العظيمة، وجوامع الكلم، قوله صلى الله عليه وسلم :" أتبع السيئة الحسنة تمحها " يعني : إن صدرت منك سيئة فأتبعها بحسنة، لأن السيئة تجعل في كفة الميزان سيئة واحدة، وتجعل الحسنة في الكفة الأخرى عشر حسنات فيثقل وزنها عليها.
وهذا معنى قوله :﴿ من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ﴾( الأنعام : آية١٦٠ ) أصل الحسنة : هي الصفة المشبهة من حسن، فهو حسن، والأنثى حسنة. وقد جرت عادة العرب بأن يجعلوا لفظ الحسنة والصالحة كأنهما اسما جنس للخصلة الطيبة، والفعلة الكريمة، حتى كادوا يتناسلون الوصفية فيهما، ومنه هنا :﴿ من جاء بالحسنة ﴾ أي : بالخصلة الحسنة، فحسنها هو كونها ترضي الله( جل وعلا )، وتطابق ما أمر به ونهى عنه. وقد وعد الثواب عليها، وكذلك قال :﴿ وعملوا الصالحات ﴾( البقرة : آية٢٥ ) فالصالحة كالحسنة، أي : هي الخصلة التي هي صالحة، لأن الله أمر بها، ووعد فاعلها الخير. وهذا معروف في كلام العرب. أما في الحسنة فمشهور، وأما في الصالحة فمعروف في كلام العرب، ومنه قول الحطيئة :
كيف الهجاء وما تنفك صالحة من آل لأم بظهر الغيب تأتيني
أي خصلة طيبة. وقول أبي العاص بن الربيع في زوجه زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم :
بنت الأمين جزاها الله صالحة وكل بعل سيثني بالذي علما
وسئل أعرابي عن الحب ما هو ؟ فقال :
الحب مشغلة عن كل صالحة وسكرة الحب تنفي سكرة الوسن
فالصالحة، والحسنة، والسيئة كأنها أسماء أجناس، ثنتان للخصلة الطيبة، وواحدة للخصلة الخبيثة.
وأصل السيئة :( سيوئة ) ووزنها بالميزان الصرفي :( فيعلة )ف( ياء ) ( الفيعلة ) زائدة. اجتمعت هي والواو التي في مكان العين، لأن أصلها من ( سوأ ) فمادة الكلمة : فاؤها سين، وعينها واو، ولامها همز، ( سوأ ). فقيل في السيئة :( سيوئة ) على وزن ( فيعلة ) اجتمعت ياء( الفيعلة ) الزائدة، والواو التي في محل العين سكنت إحداهما قبل الأخرة سكونا غير عارض، فأبدلت الواو ياء على القاعدة التصريفية المشهورة، فقي :( سيئة ) فالياء الأولى الزائدة، والثانية مبدلة من الواو التي في محل غير الكلمة.
والسيئة : هي الخصلة التي تسوء صاحبها ان رآها في صحيفته يوم القيامة. ﴿ وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ﴾( آل عمران : آية٣٠ ).
﴿ فلا يجزى إلا مثلها ﴾ ومن هنا تعرفون أن ما يجرب على ألسنة العامة : أن السيئات تضاعف في مكة كما تضاعف الحسنات، أن ذلك الإطلاق لا يجوز، لأن مضاعفة السيئات ممنوعة قطعا، لأن الله يقول :﴿ ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها ﴾ وهو نص صريح قرآني في أن السيئات لا تضاعف، ولكن السيئة في حرم مكة مثلا تعظم، لأن السيئة تعظم بحسب عظم الزمان والمكان، فإذا عظمت السيئة عظم جزاؤها، لأن الجزاء بحسب الذنب، إذا عظم الذنب عظم الجزاء، وإذا صغر الذنب صغر الجزاء. فهو من عظم الذنب، وعظم الجزاء تبعا لعظم الذنب، لا من المضاعفة، لأن السيئات لا تضاعف، ولكنها تعظم وتكون أكبر في زمان من زمان، وفي محل من محل، ولذا قال في حرم مكة :﴿ ومن يرد فيه بإلحاد بظلم من عذاب أليم ﴾ ( الحج : آية٢٥ ) وقال في الأشهر الحرم :﴿ منها أربعة حرم ﴾ ثم قال :﴿ ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم ﴾( التوبة : آية٣٦ ) مع أن ظلم النفس في غيرهن حرام.
وهذا معنى قوله :﴿ ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون ﴾ أي : والجميع لا يظلمون، فلا يزاد في سيئات المسيء، ولا ينقص من حسنات المحسن، بل حسنات المحسن تزاد، وسيئات المزيد إما أن يعفى عنها أو يتجاوز، وإن عومل بها عومل بوزرها فقط عدلا وإنصافا.
﴿ قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين١٦١ ﴾( الأنعام : آية١٦١ ).
﴿ قل إنني هداني ربي ﴾قرأه الجمهور :﴿ قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ﴾ وفتح اثنان من السبعة، وهم الكوفيون الثلاث : عاصم، وحمزة، والكسائي، والشامي-وهو ابن عامر- :﴿ دينا قيما ﴾ بكسر القاف وفتح الياء مخففة. وقرأ الحرميان، أعني : نافعا وابن كثير، والبصري- وهو أبو عمرو- قرؤوا :﴿ دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا ﴾.
وقرأ جمهور القراء ما عدا هشاما عن ابن عامر :﴿ إبراهيم ﴾ بكسر الهاء ممدودة بياء، وقرأ هشام عن ابن عامر :﴿ إبراهام حنيفا ﴾ بفتح الهاء ومدها بألف، وهما لغتان في إبراهيم صحيحتان، وقراءتان سبعيتان صحيحتان.
لما بين الله انقسام الخلق إلى مهتد وضال، ومفرقين دينهم شيعا ومهتدين، أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يصرح على رؤوس الأشهاد أنه لم يتبع السبل الزائغة، ولا الطرق الضالة، وأنه على الهدي المستقيم، والمحجة البيضاء التي هداه إليها ربه، قل يا نبي الله :﴿ إنني هداني ربي ﴾ أي : أرشدني ودلني ووفقني للعمل﴿ إلى صراط مستقيم ﴾. الصراط في لغة العرب : الطريق الواضح، ومنه قول جرير :
أمير المؤمنين على صراط *** إذا اعوج المراد مستقيم
والمراد الذي لا اعوجاج فيه، طرف بيد المسلمين، وطرفه الآخر في الجنة.
وقوله :﴿ دينا ﴾ أعربوه أعاريب مختلفة، أجودها، أنه بدل محل من قوله :﴿ إلى صراط مستقيم ﴾ لأنه مجرور في محل نصب. والأصل :( هداني ربي صراطا مستقيا ) لأن( هدى ) تتعدى إلى المفعول الثاني بنفسها دون حرف الجر، كقوله :﴿ وهديناهما الصراط المستقيم١١٨ ﴾( الصافات : آية١١٨ ) ﴿ اهدنا الصراط المستقيم٦ ﴾( الفاتحة : آية٦ ) ﴿ ويهديكم صراطا مستقيا ﴾( الفتح : آية٢٠ ) وقد يتعدى ب( إلى ) كقوله هنا. ﴿ هداني ربي إلى صراط مستقيم ﴾ وقد يتعدى ب( اللام ) إلى المفعول الثاني، كقوله :﴿ إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ﴾( الإسراء : آية٩ ) فهو وإن جر ب( اللام ) أو ب( إلى ) فهو في محل نصب، لأن الفعل يتعدى إليه بنفسه، ومعروف أن مراعاة المحل في الإعراب أمر معروف :
وجر ما يتبع ما جر ومن *** راعى في الاتباع المحل فحسن
كما قال ابن مالك في الخلاصة. فقوله :﴿ هداني ربي إلى صراط ﴾ مجرور في محل نصب، إذ( هداني ) تتعدى إلى المفعول الثاني بنفسها، فكأنه قال :( هداني صراطا مستقيما دينا قيما ) ف( الدين ) بدل من( الصراط المستقيم ) وهو بدل محل، لأنه منصوب أبدل من مجرور، لكن المجرور في محل نصب.
وأعربه بعضهم حالا من ( الصراط ) أي : إلى صراط مستقيم في حال كون ذلك الصراط المستقيم دينا قيما. والنكرة إذا نعتت أو خصصت جاز مجيء الحال متأخرة منها.
وبعضهم قال : هو منصوب ب( هداني ) بتضمينها معنى( عرفني ). ولا يخلو من بعد، وفيه أعاريب غير هذا أظهرها ما ذكرنا.
﴿ هداني ربي ﴾ أي : أرشدني ووفقني إلى طريق واضح لا اعوجاج فيه.
﴿ دينا قيما ﴾ على قراءة :﴿ قيما ﴾ فهو الصفة المشبهة من : قام، يقوم، فهو قيم، بمعنى : استقام، يستقيم، فهو مستقيم. والعرب تطلق ( قام ) وتريد : استقام، ومنه :﴿ ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة ﴾ أي : مستقيمة على دين الحق﴿ يتلون آيات الله آناء الليل ﴾( آل عمرا : آية ١١٣ ). فالقيم هو الصفة المشبهة من : قام، يقوم، بمعنى : استقام، يستقيم، فهو كالتوكيد لما قبله.
وقال بعضهم : هذا الدين( قيم ) معناه : أن اتباعه يقوم بشؤون الدين، وينظم علاقاتها ومصالحها في الدنيا والآخرة، من قولهم : فلان قيم على أهله، أي : قائم بمصالحهم وشؤونهم، ودين الإسلام جامع بين الوصفين، هو قيم يعني بأحوال الدنيا والآخرة، لأن متبعه يصلح له جميع أموره من جميع الجهات في دنياه وأخراه.
وعلى أنه( فيعل ) من قام بمعنى : استقام، فهو أيضا في غاية الاستقامة، وهو كالتوكيد لما قبله.
أما على قراءة عاصم، وحمزة، والكسائي، وابن عامر :﴿ دينا قيما ﴾ فالقيم هنا مصدر قليل، كقولهم : كبر كبرا، وعظم عظما، وشبع شبعا، وقام قيما. فهو مصدر بمعنى( القيام ) نعت به. و( قام ) التي مصدرها( قيما ) هنا من ( قام ) التي بمعنى( استقام )، فهو راجع في المعنى إلى الأول، إلا أنه من النعت بالمصدر، والعرب إذا نعتت بالمصدر كقولهم : رجل كرم، وفلان عدل. لأن العدل مصدر، إذا نعتت بالمصدر فقيل هو على حذف مضاف. أي : ذو قيم. أي : استقامة. زيد كرم. أي : ذو كرم. أو كأنهم بالغو فيه حتى جعلوه عين القيم، بمعنى الاستقامة. وكأنهم بالغوا في كرم زيد حتى جعلوه عين الكرم.
الثاني : أن المصدر المنكر يؤول بالوصف، فيرجع معنى المصدر معنى( قيما )، الذي هو الصفة المشبهة من ( قام ). فيرجع معنى الأقوال إلى شيء واحد، لأن النعت بالمصدر معناه : ذو قيم. أي : استقامة. أو هو استقامة بعينه، كأنه لشدة استقامته سمي( استقامة )لشدة استقامته. أو لأنه مصدر أريد به الوصف، فيكون( قيما ) بمعنى : قيما. هذه الأقوال الثلاثة معروفة في النعت بالمصدر، كما قال في الخلاصة :
ونعتوا بمصدر كثيرا *** فالتزموا الإفراد والتذكيرا
فعلى قراءة( قيما ) فهو من النعت بالمصدر، فالقيم : مصدر كالشبع، والصغر، والكبر. وعلى قراءة من قرأ ﴿ قيما ﴾ فالأمر واضح.
وقوله :﴿ ملة إبراهيم ﴾ هذه بدل من الدين، لأن الدين القيم هو ملة إبراهيم، والملة : الشريعة والطريقة. قال بعض العلماء : اشتقاقها من ( الإملال )، و( الإملال ) بلامين، وهو ما يسمونه الإملاء-بالهمزة- أن تلقي على الكاتب جملة فيكتبها، ثم تملي عليه جملة أخرى فيكتبها. ومنه قوله :﴿ فليملل وليه بالعدل ﴾( البقرة : آية٢٨٢ )﴿ وليملل الذي عليه الحق ﴾ ( البقرة : آية٢٨٢ ) معنى أنه يملل، أي : يلقي على الكاتب جمل عقد المداينة حتى يكتبها. أبدلوا اللام الأخيرة همزة، فجعلوه إملاء. وأصله( إملال ) قالوا : لأن الملة وهي الشريعة، تنزل جملا جملا جملا حتى تتم كما وقع في ديننا. فرضت الصلاة أولا قبل الهجرة، ثم فرضت الزكاة والصيام في عام اثنين من الهجرة، وفرض الحج في عام تسع على أصح الأقوال، شيئا بعد شيء حتى تتم.
وقوله :﴿ إبراهيم ﴾ هو نبي الله إبراهيم، الذي جعله الله للناس إماما، وشهد له شهادته بالوفاء﴿ وإبراهيم الذي وفى٣٧ ﴾( النجم : آية٣٧ ) ﴿ وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما ﴾( البقرة : آية١٢٤ ) وقال لنبينا :﴿ ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم ﴾( النحل : آية١٢٣ ) وقيل له هنا :﴿ قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ﴾ ثم بين أنه ملة إبراهيم.
وهنا سؤال معروف، وهو أن يطلب طالب العلم : دلت هذه الآيات على أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يتبع ملة إبراهيم، والمتبوع أفضل من التابع، فإذا قد يكون إبراهيم أفضل من النبي صلى الله عليه وسلم، حيث أمر باتباعه ؟
والتحقيق أن النبي صلى الله عليه وسلم سيد الخلق، وأفضل البشر، وأفضل من خلق الله، وأفضل من إبراهيم، ومن عامة الرسل، وسيظهر فضله على الرسل يوم القيامة، وقد ظهر ذلك فيما مضى، لأنه( صلوات الله وسلامه عليه ) ليلة الإسراء لما اجتمع بالرسل- أرواحهم مجسدة بصور أجسادهم- وخاطبوه وكلمهم، ارتفع حتى بلغ مقاما أعلى من مقاماتهم، ولما نزل إلى الأرض، في بيت المقدس، في محل مبعث الرسل وديارهم صار إماما للجميع بإشارة من جبريل. فتبين أنه سيدهم في السماوات والملأ الأعلى، وسيدهم في الأرض( صلوات الله وسلامه عليه ).
والجواب عن هذا : أن أمره باتباع إبراهيم مما يدل على أفضليته عليه، لأن كل ما كان عند إبراهيم من الشرائع التي وفاها وحاز بها الفضل يأمر هو باتباعها، فيساويه فيها، ثم يزاد بتشاريع وأمور عظيمة لم تنزل على إبراهيم ولم تكن في شرعه، فيأخذ ما عنده ثم يزيد عليه، ومن هنا يتبين الفضل، وأن أمره باتباع الرسل في هذه السورة الكريمة سورة الأنعام الذي قدمناه في قوله :﴿ أولئك الذي هدى الله فبهداهم اقتده ﴾( الأنعام : آية٩٠ ) أنه يقتدى عندهم ولم يعطوها، فيظهر فضله على الجميع( صلوات الله وسلامه عليه ).
وقوله جل وعلا :﴿ ملة إبراهيم حنيفا ﴾﴿ حنيفا ﴾ هنا حال من إبراهيم، والمعروف أن الحال لا تكون من المضاف إليه إلا إذا كان المضاف هو عامل الحال، أو كان المضاف كأنه جزء من المضاف إليه كما هنا، أو شبه الجزء، بدليل أنه لو حذف لما ضر، لو قلت مثلا : دينا قيما ملة إبراهيم. لو قلت : اتبعوا إبراهيم. لكفى عن : اتبعوا ملة إبراهيم.
والحنيف في لغة العرب : أصله الذي به حنف، وأصل الحنف في لغة العرب : هو أن يميل الدم الأيمن إلى جهة القدم الأيسر، والقدم الأيسر إلى جهة القدم الأيمن، فيكون في كلتا الرجلين اعوجاج، كل منهما تعوج إلى الأخرى. فيقال للرجل : أحنف. وللمرأة : حنفاء. وكان الأحنف بن قيس سيد تميم كذلك، وفيه سمي الأحنف، وكانت أمه ترقصه وهو صبي، وهي تقول :
والله لولا حنف برجله *** ما كان في فتيانكم من مثله
هذا أصل الحنف، وصار أكثر ما يستعمل الحنف في الميل عن الأديان الباطلة إلى الدين المستقيم. فالحنيف : المائل عن كل دين باطل لا يرضي الله إلى الدين المستقيم الذي يرضي الله. فهذا معنى كون إبراهيم ﴿ حنيفا ﴾ أي : مائلا صادا عن جميع الأديان الباطلة إلى الدين المستقيم الذي يرضي الله جل وعلا.
﴿ وما كان من المشركين ﴾ نفي هذا الكون الماضي، بأن الله نفى عن إبراهيم الشرك في الكون الماضي، معناه : أنه لم يقع منه كون الشرك فيما مضى أبدا. وهذا حق لا شك فيه، والآيات الدالة عليه كثيرة، كقوله :﴿ ثم أوحينا إليك أن اتبع مله إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين١٢٣ ﴾( النحل : آية١٢٣ ) وهذا يكثر في القرآن-نفي كون الشرك الماضي عن إبراهيم- وبهذه الآيات وأمثالها في القرآن من تبرئة إبراهيم من شرك ماض أبدا، وقوله :﴿ ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل ﴾( الأنبياء : آية٥١ ) تعلمون أنه غلط كبار من كبار العلماء، منهم كبير المفسرين أبو جعفر بن جرير الطبري، والروايات المروية عن ابن عباس وغيره من أجلاء علماء التابعين، أنها كلها غلط لا شط فيه، وذلك لأنهم زعموا أن قول إبراهيم المتقدم في الأنعام :﴿ فلما جن عليه الليل رآى كوكبا قال هذا ربي ﴾( الأنعام : آية٧٦ ) زعموا أنه كان يظن أنه ربه وقت قوله ذلك. ولو كان يظن ربوبية الكوكب لكان من أشد المشركين شركا، والله ينفي عنه الشرك في الكون الماضي، فدل قوله :﴿ وما كان من المشركين ﴾ في آيات كثيرة، وقوله، ﴿ ولقد آتينا إبراهيم رشده ﴾ ( الأنبياء : آية٥١ ) أن قوله في الكوكب :﴿ فلما جن عليه الليل رآى كوكبا قال هذا ربي ﴾ أنه ما كان يظن ربوبية الكوكب أبدا، إذ لو كان يظنها لكان سبق عليه شرك ماض، وظن ربوبية غير الله هو أكبر أنواع الشرك وأكفرها، والله يقول :﴿ وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون ﴾( يونس : آية٦٦ ) فقول ابن جرير : إن إبراهيم كان يظن ربوبية الكوكب أولا، وروايته لهذا عن ابن عباس وجماعة غلط فاحش لا شك فيه، لأن الله يقول عن إبراهيم :﴿ وما كان من المشركين ﴾ ونفي الشرك في الكون الماضي يدل على الاستغراق، لأنه من المعروف عند العلماء أن الفعل قسمان : فعل حقيقي، وفعل صناعي.
أما الفعل الحقيقي فهو ا
﴿ قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين١٦٢ لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين١٦٣ ﴾( الأنعام : الآيتان ١٦٢-١٦٣ ).
قرأ هذا الحرف عامة القراء غير نافع﴿ قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين١٦٢ لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين١٦٣ ﴾ بفتح ياء﴿ ومحياي ﴾ وسكون ياء﴿ ومماتي ﴾، وقصر ألف﴿ وأنا ﴾ وعدم مدها. وقرأ نافع وحده دون عامة القراء :﴿ قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ﴾ بخلاف عن ورش فيه، واتفاق عن قالون :﴿ ومماتي لله رب العالمين ﴾ بفتح ياء﴿ ومماتي ﴾، وقرأ- مثلا- :﴿ وأنا أول المسلمين ﴾ وهي لغة تميم مد لفظة ﴿ وأنا ﴾ وقرأه عامة القراء غير نافع : وأنا أول المسلمين } بلا مد﴿ وأنا ﴾.
والمعنى : قل لهم يا نبي الله إن جميع عباداتي منصرفة إلى من خلقني لا أشرك فيها غيره معه، فأنا موحد صرفا، مخلص لربي في عبادتي﴿ إن صلاتي ﴾ إذا صليت﴿ ونسكي ﴾ أكثر العلماء على أن النسك هنا معناه : النحر في الضحايا والهدايا. ونحري إذا نحرت﴿ لله رب العالمين ﴾، كقوله :﴿ فصل لربك وانحر٢ ﴾( الكوثر : آية٢ ) وعلى هذا فالنسك خاص بالذبح. والمعنى : أنه لا ينحر لغير الله، ولا يذكر على الذبيحة اسم غير الله، كما لا يصلى لغير الله، كما أوضحناه في قوله :﴿ ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ﴾.
وقال بعض العلماء :﴿ ونسكي ﴾ معناه : جميع عباداتي، لأن التنسك : التعبد، و( النسك ) يطلق على جميع العبادات، ويدخل فيه دخولا أوليا : النحر والتقرب بالدم، لأن التقرب في الدماء في الضحايا والهدايا من أعظم القرب إلى الله، وصرفه لغير الله صرف لحقوق الخالق إلى المخلوق، وذلك معروف ما فيه. فعلى أن( النسك ) خصوص الذبح فالآية كقوله :﴿ قصل لربك وانحر٢ ﴾ فخص هاتين العبادتين وغيرهما من العبادة مثلهما. وعلى أن النسك جميع العبادة فقد شمل الذبح وغيره. وهذا معنى قوله :﴿ إن صلاتي ونسكي ﴾.
﴿ ومحياي ومماتي ﴾ اختلف العلماء في معنى قوله :﴿ ومحياي ومماتي ﴾ قال بعض العلماء : إن الذي يستحق مني أن أخصه بصلاتي وبنحري وبجميع عباداتي هو الذي بيده روحي، يملك موتي ويملك حياتي، إن شاء أماتني وإن شاء أحياني، فالذي يملك إحيائي وإماتتي هو ربي ومعبودي الذي يحق لي أن أخلص له حقه في عبادته. وقال بعض العلماء :﴿ ومحياي ﴾ هو ما قدمت في حياتي من جميع الأعمال الصالحة مخلصا فيه لله وحده.
﴿ ومماتي ﴾ قيل : هو ما أوصيت أن يفعل بعد مماتي من إجراء قربات وصدقات تجرى علي، كل ذلك مخلص فيه لله. أو﴿ ومماتي ﴾ أي : ما جاءني عليه الموت من الأعمال الصالحات التي أدركني الموت وأنا مقيم عليها، كما قال نبي الله يعقوب :﴿ فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون ﴾( البقرة : آية١٣٢ ) كل ذلك مخلص فيه ( لله جل وعلا ) وحده لا أشرك معه غيره.
وهذا تعليم لنا أننا نخلص[ عبادة ] ( في هذا الموضع ذهب بعض التسجيل، وما بين المعقوفتين[ ] زيادة يتم بها الكلام )/خالقنا له( جل وعلا ) ولا نشرك معه في غيره، لأنه أغنى الشركاء عن الشرك، ولا يقبل من أحد أشرك معه غيره، وكل شيء يغفره إن شاء إلا الإشراك به﴿ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ﴾( النساء : آية٤٨ ) وهذا معنى قوله :﴿ قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين١٦٢لا شريك له ﴾ في شيء من ذلك، لا شريك يصلى له غيره، ولا شريك ينحر ويتقرب إليه بالنحر غيره، ولا شريك يحيي ويميت غيره، ولا شريك يقام على الأعمال لرضاه مخلصا له في الحياة غيره، ولا شريك يوصا بالأعمال الصالحة بعد الممات يراد بها رضي شريك غيره، بل هو وحده الذي له الإخلاص في جميع ذلك كله، ثم قال :﴿ وبذلك ﴾ الذي ذكرت لكم من إخلاص العبادة لله طول أيام الحياة، وما يوصى به بعد الممات، وما يموت عليه الإنسان من الأعمال، إخلاص التوحيد والقرب لله في ذلك وحده﴿ وبذلك أمرت ﴾ هكذا أمرني ربي، وأنا عبد مأمور، وقد أمرني بالإخلاص له في جميع عباداتي.
فعلينا أن نعلم هذا الذي أمر به سيدنا صلى الله عليه وسلم من تحقيق العبودية لله، وإخلاص حقوق الله لله، وتحقيق معنى( لا إله إلا الله ) علينا أن نتبع فيه نبينا صلى الله عليه وسلم.
ثم قال :﴿ وأنا أول المسلمين ﴾، قوله :﴿ وأنا أول المسلمين ﴾ أي : أول المسلمين من هذه الأمة، لأنه هو الذي دعاها إلى الإسلام، فهو أول من أسلم، لأنه نزل عليه الوحي فآمن به ثم قام يدعو الناس إليه، أي : من هذه الأمة لا من جميع الناس.
أما المسلمون قبله من الأمم الأخرى فهم كثير جدا، وكل الأنبياء قبله مسلمون، وهذا نبي الله إبراهيم يقول الله فيه :﴿ إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين١٣١ ﴾( البقرة : آية١٣١ ) وهذا نبي الله نوح يقول :﴿ فإذا توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين ٧٢ ﴾( يونس : آية٧٢ ) وهذا نبي الله يوسف يقول :﴿ رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض أنت ولي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين١٠١ ﴾( يوسف : آية١٠١ ) والله يقول :﴿ يحكم بها النبيون الذين أسلموا ﴾( المائدة : آية٤٤ ) وأمثال هذا في القرآن كثيرة، فالمسلمون قبله كثير، ودين الإسلام قبله منتشر في شرائع الرسل. ومعنى﴿ وأنا أول المسلمين ﴾ أي : من هذه الأمة التي بعثني الله بشيرا ونذيرا إليها.
﴿ قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون١٦٤ ﴾( الأنعام : آية١٦٤ ).
﴿ قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء ﴾ يقول علماء التفسير : إن سبب نزول هذه الآية الكريمة من سورة الأنعام : أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : اعبد معنا آلهتنا مرة ونعبد معك إلهك مرات أخرى، فأمره الله أن ينكر عليهم هذا القول، ويقول لهم :﴿ قل أغير الله أبغي ربا ﴾ والمعنى : أأبغي ربا غير الله حتى أعبد صنما وأتخذه ربا ؟ لا يمكن أن يكون هذا مني. ﴿ وهو رب كل شيء ﴾ يعني : لا أبغي ربا غير الرب الذي هو الرب الحقيقي، الذي هو رب كل شيء، أي : خالق كل شيء، ومدبر شؤون كل شيء، إليه المرجع والمآب، هو وحده الذي هو ربي، لأن غيره مخلوق مربوب مملوك له( جل وعلا ). وهذا معنى قوله :﴿ أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء ﴾ وإنما قدم المفعول لأن محل الإنكار منصب على غيرية الله، واتخاد الربوبية إنكاره منصب على غيرية الله، ولذا قدم غير الله لأنه محل مصب الإنكار، والحال هو- أي : الله-﴿ رب كل شيء ﴾ فالذين تدعونني أن أعبدهم هم مخلوقون لله، ومربوبون له، فهو رب كل شيء، ومعبود كل شيء، فهو المعبود وحده، فلا أعبد غيره، ولا أتخذ غيره ربا.
ثم قال :﴿ ولا تكسب كل نفس إلا عليها ﴾ والمعنى : لا تكسب كل نفس إلا عليها. ﴿ كل نفس ﴾ يعني لا تكتسب ذنبا إلا على نفسها. وأنا إن عبدتم أنتم الأصنام فضرر ذلكم عليكم، وإنما يضرني لم كنت وافقتكم، ولذا قال :﴿ ولا تزر وازرة وزر أخرى ﴾ العرب تقول : وزر الذنب. إذا تحمله، أي : ولا تحمل نفس وازرة، أي : مذنبة متحملة الآثام، لا تحمل وزر ذنب نفس أخرى، بل كل نفس عليها ذنبها، وهذا كالتأكيد لقوله :﴿ ولا تكسب كل نفس إلا عليها ﴾ وهذا بين، ولو كانت أقرب الأنفس إلى النفس لا تحمل عنها من وزرها شيئا، كما يأتي في قوله :﴿ ولا تزر وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى ﴾( فاطر : آية١٨ ) وكان بعض العلماء يقول : سبب نزول هذه الآيات : أنهم لما دعوا النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن يعبد معهم آلهتهم مرة ويعبدون معه إلهه مرات، وقنطهم من ذلك، وأمره الله أن يقول :﴿ قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء ﴾ قالوا له : أنت وأصحابك اتبعوا سبيلنا واعبدوا معبوداتنا ونحن نتحمل عنكم جميع الآثام، ونضمن لكم خير الدنيا والآخرة، فكل ما يهمكم في ذممنا وعلينا، كما قال : إنهم قالوا :﴿ اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء إنهم لكاذبون١٢ وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم ﴾( العنكبوت : للآيتان١٢-١٣ ) أي : أثقال ضلالهم، وأثقال إضلالهم، ولذا قال هنا :﴿ ولا تكسب كل نفس إلا عليها ﴾ فكسبنا وآثامنا لا تكون عليكم، ولا يمكن أن تتحملوها لو أطعناكم﴿ ولا تزر وازرة وزر أخرى ﴾أي : لا تحمل نفس مذنبة- يعني- ذنب نفس أخرى، بل كل وعمله، والله لا يأخذ أحدا بعمل غيره، فالكل مؤاخذ بما عمل.
وهذه الآيات فيها موعظة عظيمة، وسؤال.
أما الموعظة العظيمة : فهي أن يعلم الإنسان أن حركاته في الدنيا وسكناته أن ما فيها من نفع فهو عائد إلى خصوص نفسه، وما فيها من ضر فهو عائد إلى خصوص نفسه، فليجتهد الإنسان وقت إمكان الفرصة أن يسلم نفسه من البلايا، وأن يكسبها الخيرات. فحركات الإنسان في دار الدنيا إنما ينبني بها بيته الذي إليه مصيره الأخير، وهو إما غرفة من غرف الجنة أو سجن من سجون النار، فعلى كل مكلف أن يتأمل في نور القرآن في الحياة الدنيا في صحته وفراغه، ويعلم أن حركاته من أقواله وأفعاله ونياته وقصوده إنما يبني بها مقره الأخير النهائي : إما غرفة من غرف الجنة، وإما سجن من سجون النار.
الثاني : أن يقال : في هذه الآية سؤال : لأن الله نص فيها أنه لا يؤاخذ أحدا بفعل أحد آخر، وقد جاءت مسألتان وقعت فيهما المؤاخدة بفعل الغير :
إحداهما : تحمل العاقلة للدية، فقد يقتل رجل إنسانا خطأ فتجعل الدية على عاقلة ذلك الرجل، فيكلفون بغرم لا ناقة لهم فيه ولا جمل. فهذه الأنفس قد أخذت بذنب نفس أخرى وهي لا ذنب لها فيه.
الثاني : ما ثبت في الصحيح عن عبد الله بن عمر( رضي الله عنهما ) قال :" إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه ". وهذا كأنه عذب بفعل غيره، والحديث ثابت في الصحيح، وتكذيب عائشة لابن عمر في هذا الحديث، -توهيمها له، وأنه غلط نظرا لهذه الآيات-غلط منها هي( رضي الله عنه )، والصواب مع ابن عمر، لأنه حافظ سمع من النبي صلى الله عليه وسلم غير شاك ولا متوهم.
فهذان سؤالان : لم وجبت الدية على العاقلة، وهي من فعل غيرها ؟ ولم عذب الميت ببكاء أهله وهو من فعل غيره ؟
والعلماء أجابوا عن هذا بأجوبة، قالوا : أما العاقلة : فإن الإنسان القاتل خطأ لا ذنب عليه، لأنه لا يقصد شيئا ولا مؤاخذة عليه عند الله إجماعا، لأن الله يقول :﴿ وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم ﴾( الأحزاب : آية٥ ) ويقول :﴿ وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ﴾ ( النساء : آية٩٢ ) والكفارة التي وجبت عليه قال بعض العلماء : إنما هي مؤاخذة لعدم شدة التحفظ والتحرز أولا والتسبب في عدم وقوع الخطأ، أما بعد وقوع الخطأ فلا إثم فيه قطعا. قالوا : هذا رجل مسلم لزمته دية، وهو لم يقصد سوءا، ولم يقصد بها ذنبا ولا جريمة، فالله( جل وعلا ) أمر عاقلته من أهل ديوانه-ممن يقول بالديوان-أو من عصبته- ممن يقصرها على العصبة –أمرهم أن يساعدوه، وخالق السماوات والأرض يدبر على البعض من البعض، ويأمر البعض بمساعدة البعض، إكراما وجريا على مكارم الأخلاق، كما أمر بأن تؤخذ الزكاة من أغنيائنا وترد على فقرائنا، فهذه إعانة محض، ومكارم أخلاق جاء القرآن بها معاونة لذلك الإنسان، كما أوجب الزكاة مساعدة للفقير، وما جرى مجرى ذلك.
أما حديث ابن عمر فللعلماء عنه أجوبة كثيرة، منها : أنهم حملوه على الميت الذي أوصاهم أن يبكوا عليه. أي : عرف أنهم إذا مات يبكون عليه، ولم ينههم. وكانت هذه عادة العرب. ويوضح قول طرفة بن العبد في معلقته :
فإن مت فانعيني بما أنا أهله وشقي على الجيب يا ابنة معبد
فهذا إذا شقت عليه الجيب وبكت عليه فلا إشكال في تعذيبه ببكائها، لأنه أمره بها في الدنيا، وهو من فعله. وكذلك من علم أنه إذا مات يفعلونه ولم ينههم، فهو متسبب بعدم نهيهم.
وقال بعض العلماء : تعذيبه ببكاء أهله أن أهله إذا بكوا عليه أن الله يطلعه على ذلك ويأسف ويحزن من حزن أهله. إلى غير ذلك من الأقوال، وأظهرها الأول. وهذا معنى قوله :﴿ ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم ﴾ المرجع هنا : مصدر ميمي، بمعنى : الرجوع، والمصدر الميمي إذا لم يكن من مادة واوية الفاء يكون قياسه ( مفعل ) بفتح العين، فالقياس أن يكون( المرجع ) بفتح الجيم، ولكن هذا سماع مانع للقياس، فهو مصدر ميمي على ( مفعل ) سماعا لا قياسا، ومعناه : إليه رجوعكم يوم القيامة﴿ فينبئكم ﴾ أي : يخبركم إخبار مجازاة﴿ بما كنتم فيه تختلفون ﴾ بالذي كنتم تختلفون فيه. يعني : أهؤلاء الذين كانوا شيعا وفرقوا دينهم واتبعوا الأهواء والضلالات، وهؤلاء الذين كانوا على الصراط المستقيم، مرجعهم جميعا إلى الله، فيخبرهم بالحقيقة، ويبين لهم الضال من المهتد، ويعاملهم بحسب ما كانوا عليه من هدى وضلال، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه.
﴿ وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم١٦٥ ﴾( الأنعام : آية١٦٥ ).
﴿ وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ﴾ قال بعض العلماء : هذه منة تخلص أمة محمد صلى الله عليه وسلم﴿ وهو ﴾ أي : الله﴿ الذي جعلكم ﴾ يا أمة محمد خلفاء الأرض، لأنه لا يأتي نبي بعد نبيكم، ولا شرع بعد شرعكم، فيكون الحكم في الأرض تبعا لشرعه، بل شرعكم ودينكم هو الباقي الخالد في الأرض، المحكم في جميع من في الأرض، في دمائهم، وأموالهم، وأديانهم، وأعراضهم، وفروجهم، فأنتم خير الأمم، وأنتم خلفاء الأرض، لا يأتي شرع ينسخ شرعكم، ولا نبي بعد نبيكم، فأنتم خلفاء الأرض إلى يوم القيامة، وإن شرعكم باق، ونبيكم لا نبي بعده، ودينكم باق إلى يوم القيامة. وعلى هذا فالمنة على أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وهذا الامتنان يقتضي أن تعطوا الخلافة في الأرض حقها، وتقتفوا آثار الرسول صلى الله عليه وسلم، وتخلفوه خلافة حقا، فترضوا الله بأن تنفذوا أوامره في أرضه، وتضعوا العدالة في أرضه، وتجعلوا المحكم في الدنيا نظامه الذي شرع، وتجعلوا كلمته هي العليا، وتستعدوا بكل قوة حتى تجعلوا كلمة الذين كفروا السفلى، فعلى هذا القول فهو منة على هذه الأمة. وقال بعض العلماء :(....... ) ( ملحوظة : انقطع التسجيل بعد هذا الموضع ).
Icon