( مكية، وآياتها خمس و ستون و مائة )
ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ الحمد لله ﴾إعلام بأنه تعالى حقيق بالحمد والثناء، مستوجب لهما، لخلقه السماوات والأرض، على ما هما عليه من بديع الصنع والإحكام. وخلقه الظلمات والنور، أو ظلمات الليل و نور النهار، منفعة للعباد، وآيات للمتفكرين، ودلائل على وحدانيته وقدرته وتدبيره.
﴿ وجعل ﴾أي أحدث وخلق.
﴿ ثم الذين كفروا ﴾ أي ثم الذين كفروا مع قيام هذه الدلائل الظاهرة يسوون بربهم غيره مما لا يقدر على شيء من ذلك، فيكفرون به، أو يجحدون نعمته، فأي شيء أعجب من ذلك وأبعد عن الحق، من العدل بمعنى التسوية. وقوله
﴿ بربهم ﴾متعلق بقوله
﴿ يعدلون ﴾. أو ثم الذين كفروا بربهم يميلون عنه، وينصرفون إلى غيره من خلقه، فيعبدون ما لا يستحق العبادة، من العدول. وقوله
﴿ بربهم ﴾متعلق بقوله
﴿ كفروا ﴾و
﴿ ثم ﴾على المعنيين لاستبعاد وقوع ذلك منهم.
﴿ هو الذي خلقكم ﴾ابتدأ خلقكم من المادة الطينية بخلق أصلكم منها، ثم قدر حدا معينا من الزمان للموت. وأجل آخر مستأثر بعلمه تعالى، لا يعلم وقت حلوله سواه تعالى، وهو وقت البعث للحساب والجزاء. وقيل : الأجل الأول ما بين الخلق والموت، والثاني ما بين الموت والبعث، وهو البرزخ. ﴿ ثم أنتم تمترون ﴾ أي ثم أنتم تشكون في البعث. أو تجادلون فيه. أو تجحدونه مع قيام الدلائل المشاهدة على القدرة عليه، فإن من قدر على إحياء ما لم يشم رائحة الحياة قط، قادر على إحياء ما قارنها مدة، من المرية، وهي الشك و التردد في الأمر. وأصلها من مرى الناقة يمريها، إذا مسح ضرعها للدر، واستعملت في الشك لأنه سبب لاستخراج العلم الذي هو كاللبن الخالص من بين فرث ودم. أو من المراء بمعنى المجادلة. أو من مرى حقه، إذا جحده. و﴿ ثم ﴾ للاستبعاد.
﴿ وهو الله في السماوات وفي الأرض ﴾أي وهو الإله، أو المعبود، أو المدبر فيهما. فقوله :﴿ في السماوات ﴾متعلق بلفظ الجلالة، باعتبار المعنى الوصفي الذين تضمنه. ﴿ يعلم سركم وجهركم ﴾أي أعمال قلوبكم وأعمال جوارحكم. ﴿ ويعلم ما تكسبون ﴾أي ما تستحقونه عليها من ثواب أو عقاب. أو يعلم ما تسرونه وما تجهرون به من أقوالكم وأعمالكم، وما تفعلونه لجلب نفع أو دفع ضر من أعمالكم التي تكتسبونها بقلوبكم وجوارحكم، سرا وعلنا.
﴿ وما تأتيهم من آية ﴾أي وما ننزل إليهم من آيات القرآن، ناطقة ببدائع صنعه، منبئة بجريان أحكام ألوهيته على سائر خلقه، و إحاطة علمه بجميع أحوالهم، وبأنباء اليوم الآخر، إلا أعرضوا عنها، ولم يعتنوا بها، أو كذبوا بها، كما ينبأ عنه قوله تعالى :﴿ فقد كذبوا بالحق لما جاءهم ﴾أي بالقرآن. والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، إذ التكذيب مرتب على الإعراض، بمعنى عدم القبول و الاعتناء به. وقد توعدهم الله على سوء صنيعهم بقوله :﴿ فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون ﴾كما أتى من قبلهم من المكذبين لرسلهم.
﴿ ألم يروا ﴾أي ألم يبصروا، أو ألم يعرفوا. ﴿ كم أهلكنا من قبلهم من قرن ﴾من أمة فعلت مثل ما فعلوا. والقرن : مدة معينة من الزمان. وهو حقيقة في ذلك وفي أهله، على ما اختاره بعض المحققين. والمراد هنا : أهله، ولا حاجة إلى تقدير مضاف. وقيل : هو حقيقة في الأول، واستعماله في الأهل مجاز بالحذف. وأصله من الاقتران بمعنى الاجتماع.
﴿ مكناهم في الأرض ﴾أعطيناهم في أرضهم من القوة والبسطة في الأجسام والأموال ما لم نعط أهل مكة. يقال : مكنته و مكنت له، مثل نصحته ونصحت له، من التمكين، وهو إعطاء المكنة -بفتح الميم وكسر الكاف- أي القوة والشدة. ﴿ مدرارا ﴾غزيرا متتابعا في أوقات الحاجة، رحمة منا وإنعاما، فعاشوا في خصب وسعة. يقال : درت السماء بالمطر تدر وتدر درا ودرورا فهي مدرار، صبته صبا. وأصله من الدر، أي سيلان اللبن وكثرته، ثم استعير للمطر الغزير. ﴿ فأهلكناهم بذنوبهم ﴾أي ومع ذلك التمكين وهذه القوة أهلكناهم بسبب كفرهم. أفلا يعتبر أهل مكة بذلك فلا يستمروا في كفرهم وعنادهم.
﴿ ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس ﴾القرطاس-بتثليث القاف، والكسر أشهر- : ما يكتب فيه. أي ولو نزلنا عليك مكتوبا من عندنا في قرطاس كما اقترحوا فرأوه ولمسوه بأيديهم لقالوا : ما هذا إلا سحر بين ظاهر، إمعانا منهم في الجحود والعناد.
﴿ وقالوا لولا أنزل عليه ملك ﴾أي هلا أنزل على محمد ملك نشاهده معه، ويخبرنا أنه رسول من عند ربه، فيكون معه نذيرا. ﴿ ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ﴾جواب عن اقتراحهم، أي لو أنزلنا عليه ملكا في صورته الحقيقية، وشاهدوه بأعينهم لزهقت أرواحهم من هول ما يشاهدون. ﴿ ثم لا ينظرون ﴾أي لا يمهلون طرفة عين بعد إنزاله ومشاهدتهم له، من النظر. يقال : نظرته وأنظرته، أي أخرته.
﴿ ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا ﴾أي ولو جعلنا النذير-الذي اقترحوا إنزاله معه- ملكا لمثلناه رجلا، لعدم استطاعتهم معاينة الملك على صورته الأصلية. وهذا على فرض عدم الهلاك برؤيته.
﴿ ولبسنا عليهم ما يلبسون ﴾أي ولخلطنا عليهم بتمثيله رجلا ما يخلطون على أنفسهم بأن يقولوا له : إنما أنت بشر مثلنا ولست بملك، من اللبس وهو الخلط، وأصله الستر بالثوب، ومنه اللباس. ويستعمل في المعاني فيقال : لبس الحق بالباطل يلبسه، ستره به. ولبست عليه الأمر، خلطته عليه، وجعلته مشتبها حتى لا يعرف جهته.
﴿ فحاق ﴾أي أحاط بالذين سخروا من الرسل العذاب الذي كانوا يستهزئون به حين يخوفهم الرسل إياه. يقال : حاق به الأمر يحيق حيقا و حيوقا، أحاط به كأحاق به كأحاق. و الحيق : ما يشتمل على الإنسان من مكروه فعله. والسخرية : الاستهزاء و التهكم..
﴿ عاقبة المكذبين ﴾ آخرتهم ونهايتهم. مصدر كالعافية، وهي منتهى الشيء وما يصير إليه.
﴿ كتب على نفسه الرحمة ﴾أوجب على نفسه رحمة عباده، تفضلا منه وإحسانا، فلا يعجل عليهم بالعقوبة حين يستوجبها بما يعملون. ﴿ ليجمعنكم ﴾أي والله ليجمعنكم إلى يوم القيامة للجزاء، فلا يغرنكم هذا الإهمال ؟
﴿ وله ما سكن ﴾أي ولله وحده جميع ما ثبت واستقر فيهما، من السكنى، فيتناول الساكن و المتحرك. وقال ابن جرير : كل ما طلعت عليه الشمس وغربت، فهو من ساكن الليل والنهار. والمراد أنه تعالى هو رب جميع ما وجد في الأرض برا وبحرا.
﴿ أغير الله أتخذ وليا ﴾ناصرا ومعينا، أستنصره وأستعين به على النوائب، فضلا عن أن أتخذه معبودا ؟ من الولاية بمعنى النصرة. ﴿ فاطر السماوات والأرض ﴾مبدعهما على غير مثال يحتذى، من الفطر، وهو الإبداع والإيجاد من غير سبق مثال. وأصله : الشق وفصل شيء عن شيء، ومنه فطر ناب البعير أي طلع. واستعمل فيما ذكر، لاقتضائه التركيب الذي سبيله الشق والتأليف. أو لما فيه من الإخراج من العدم إلى الوجود. ﴿ وهو يطعم ولا يطعم ﴾يرزق ولا يرزق. والمراد أن له تعالى الغنى المطلق، وأن الخلق جميعا محتاجون إليه وجودا وبقاء.
﴿ وهو القاهر فوق عباده ﴾أي الغالب لعباده، المقتدر عليهم، الذين لا يعجزه شيء أراده، ولا يستطيع أحد منه خلقه رد تدبيره، والخروج من تحت قهره وتقديره. قال الطبري : القاهر : المتعبد خلقه، العالي عليهم. وإنما قال ﴿ فوق عباده ﴾لأنه تعالى وصف نفسه بقهره إياهم، ومن صفة كل قاهر شيئا أن يكون مستعليا عليه. والمعنى : والله الغالب عباده، المذلل لهم، العالي عليهم بتذليله إياهم، فهو فوقهم بقهره إياهم، وهو دونه. ( راجع المسألة الرابعة من المقدمة في مذهب السلف والخلف في آيات الصفات ).
﴿ أي شيء أكبر شهادة ﴾سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم شاهدا يشهد له بالنبوة، فنزلت الآية. أي أي شيء أعظم شهادة ؟ فإن أجابوا و إلا ف﴿ قل الله شهيد بيني وبينكم ﴾يشهد لي بالحق، وعليكم بباطلكم، مما أنزله من القرآن، وهو أكبر معجزة وأصدق دليل.
﴿ ومن بلغ ﴾أي و أنذر من بلغه القرآن ممن سيوجد إلى القيامة من سائر الأمم. وفي هذا دلالة على عموم الرسالة، وأن أحكام القرآن تعم الثقلين إلى يوم الدين. وفي الحديث( من بلغه القرآن فكأنما شافهته ).
﴿ لم تكن فتنتهم ﴾الفتنة من الفتن، وهو إدخال الذهب النار لتعلم جودته من رداءته، ثم استعمل في معان، كالمعذرة، والاختيار، والكفر والإثم و الضلال، والبلية والمصيبة. أي لم تكن معذرتهم عن كفرهم، أو عاقبة كفرهم، إلا التبري من الشرك والشركاء في ذلك اليوم، فقد كذبوا في الآخرة كما اعتادوا الكذب في الدنيا.
﴿ وجعلنا على قلوبكم أكنة ﴾أي أغطية تمنعهم أن يفقهوا ما يسمعونه من القرآن، ج كنان.
يقال : كن الشيء يكنه ستره. و أكننته : أخفيته. واستكن : استتر. ﴿ وفي آذانهم وقرا ﴾أي وجعلنا في آذانهم صمما وثقلا يمنعهم من استماع القرآن على وجه القبول. يقال : وقرت أذنه-من باب تعب ووعد-صمت وثقل سمعها. والكلام تمثيل لعظم جهلهم بشئون النبي صلى الله عليه وسلم، وفرط نبو قلوبهم وأسماعهم عن فهم القرآن والانتفاع به، وقد خلق فيهم داعية الكفر وعلم أنهم لا يؤمنون، فيستحيل إيمانهم مع ذلك مهما رأوا من الآيات الدالة على صدقه صلى الله عليه وسلم، وهو قوله تعالى :﴿ وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها ﴾. ﴿ أساطير الأولين ﴾أكاذيبهم، أو أقاصيصهم، أو ترهاتهم المسطورة التي لاأصل لها. جمع أسطورة، كأحدوثة وأحاديث. وقيل : جمع لا واحد له، كأبابيل.
﴿ و ينأون عنه ﴾يتباعدون بأنفسهم عن القرآن، أو عن الرسول فلا يؤمنون به إظهارا لغاية نفورهم منه. يقال : نأى ينأى نأيا، أي بعد. و نأيته ونأيت عنه وأنأيته عنه.
﴿ ولو ترى إذ وقفوا على النار ﴾ حبسوا عليها يوم القيامة. يقال : وقفه وقفا، حبسه. و جواب الشرط : لرأيت هولا عظيما.
﴿ بل بدا لهم... ﴾أي بل ظهر لهم في وقوفهم هذا ما كانوا ينكرونه ولا يؤمنون به، وهو نار الآخرة فالمراد من ﴿ ما ﴾ : النار، ومن الإخفاء : الستر بمعنى الإنكار والجحود. ومع ذلك لو ردوا إلى الدنيا لعادوا إلى الكفر والتكذيب، لسوء استعدادهم، وإنهم لكاذبون لا يوفون بما وعدوا به.
﴿ وقفوا على ربهم ﴾ حبسوا على حكم ربهم للحساب والجزاء. و جواب الشرط : لرأيت أمرا عظيما. ﴿ قالوا بلى ﴾أي إنه لحق. و﴿ بلى ﴾ حرف جواب لاستفهام دخل على نفي فتفيد إبطاله، ( راجع آية ٨١ البقرة ص ٣٥ ).
﴿ بغتة ﴾فجأة. والمراد بالساعة : يوم القيامة. و البغت و البغتة : مفاجأة الشيء بسرعة من غير اعتداد به، ولا إلقاء بال إليه. ﴿ يا حسرتنا ﴾الحسرة : شدة الندم على ما فات. ( راجع آية ١٦٧ سورة البقرة ص٥٥ )﴿ يحملون أوزارهم ﴾آثامهم وخطاياهم. جمع وزر، وأصله الحمل الثقيل، وأطلق على الذنب لثقله. والمراد شدة ما يلاقونه من العذاب بسبب ذنوبهم.
﴿ لعب ولهو ﴾اللعب واللهو : كلاهما الاشتغال بما لا يعنى العاقل ولا يهمه، من هوى و طرب، حراما كان أو حلالا. غير أن اللعب ما قصد به تعجيل المسرة والاسترواح به. واللهو : ما شغل من هوى و طرب وإن لم يقصد به ذلك. أي وما طلاب لذات الحياة الدنيا ومسراتها ونعمائها المتنافسون فيها إلا في لعب ولهو، لأنها عما قليل تزول وتضمحل، كما يزول لعب اللاعب ولهو اللاهي، ولا يبقى له أثر، فلا يغتر بها العاقل.
﴿ فإنهم لا يكذبونك ﴾أي في الحقيقة، وإنما يكذبون آيات الله وأنك رسول الله، فلا تحزن مما يقوله هؤلاء الظالمون الجاحدون.
﴿ وإن كان كبر عليك ﴾أي وإن كان قد عظم، وشق على نفسك تكذيبهم و كفرهم و عدم إجابتهم إلى ما اقترحوا، و أخذ منك الحزن على ذلك مأخذه، وأحببت أن تجيبهم إلى ما اقترحوا، فإن كنت تقدر على أن تتخذ سربا في أعماق الأرض، أو مصعدا تصعد به إلى السماء لتأتيهم بآية مما اقترحوا عليك فافعل، وإذا كنت لا تقدر على ذلك فاصبر على شدائدهم وعلى تكذيبهم ومعارضتهم الآيات التي نصبها الله تعالى للناظرين المتأملين، ولو شاء الله أن يجمعه على الهدى لجمعهم، ولكن لم يرد ذلك لعلمه بسوء اختيارهم. ﴿ فلا تكونن من الجاهلين ﴾بدقائق شئونه تعالى التي من عدم تعلق مشيئته بإيمانهم لفساد استعدادهم.
﴿ و الموتى ﴾أي الكفار الذين لا يسمعون ولا يستجيبون﴿ يبعثهم الله ﴾يوم القيامة من قبورهم﴿ ثم إليه يرجعون ﴾لا إلى غيره، فيجازيهم على جحودهم و إصرارهم على الكفر.
﴿ إلا أمم أمثالكم ﴾ طوائف مختلفة أمثالكم في الخلق والموت، والحاجة إلينا في الرزق والتدبير في جميع أمورها، والدلالة على كمال القدرة وبديع الصنعة في تسخيرها وتصريفها بقدرتنا، فكيف تظنون عدم قدرتنا على إنزال ما اقترحتم من الآيات. إن ذلك جهل منكم عظيم. وما ننزل الآيات وما نترك إنزالها إلا على حسب ما تقتضيه الحكمة والمصلحة والمشيئة المبنية عليهما.
﴿ ما فرطنا في الكتاب من شيء ﴾ تركنا في القرآن شيئا مما يحتاج إليه الناس في أمر الدين والدنيا، إما مفصلا و إما مجملا، أو شيئا يحتاج إليه المكلفون من أصول الدين وأحكامه وحكمه، وضروب الهدى التي جاء بها الرسل. وقيل : الكتاب اللوح المحفوظ، من التفريط وهو التقصير. يقال : فرط في الأمر تفريطا، قصر فيه وضيعه وقدم العجز فيه. والجملة معترضة لتقرير مضمون ما قبلها.
﴿ من يشاء الله يضلله ﴾من يرد سبحانه خلق الضلال فيه يخلقه فيه حسب اختياره الناشئ عن استعداده، بحيث لو خلى ونفسه لاختاره.
﴿ أرأيتكم ﴾أي أخبروني عن حالتكم العجيبة ؟ والهمزة للاستفهام، ورأى بمعنى علم، وتتعدى إلى مفعولين، والتاء ضمير الفاعل، وما بعده حرف خطاب يدل على اختلاف المخاطب، أتي به للتأكيد، والمفعول الأول محذوف تقديره : أغير الله تدعونه لكشفه ؟ والمعنى : أرأيتكم عبادتكم الأصنام هل تنفعكم ؟ أو هل تكشف عنكم ضركم ؟ أي أخبروني عن ذلك إن كنتم صادقين في أن أصنامكم آلهة، وأن عبادتكم لها نافعة. وفي استعمال أرأيت بمعنى أخبروني تجوزان : إطلاق الرؤية وإرادة الأخبار، لأن الرؤية سبب له. وجعل الاستفهام بمعنى الأمر بجامع الطلب في كل منهما.
﴿ فأخذناهم ﴾أي فكذبوا رسلهم فانتقمنا منهم ﴿ بالبأساء ﴾وهي الفقر والضيق في المعيشة.
﴿ والضراء ﴾وهي الأسقام و العلل العارضة للأجسام﴿ لعلهم يتضرعون ﴾يتذللون لله تعالى ويتوبون
من كفرهم، من الضراعة، وهي الذلة والهيئة المنبئة عن الانقياد والطاعة. يقال : ضرع الرجل يضرع ضراعة، خضع وذل، فهو ضارع وضرع.
﴿ فتنا بعضهم ببعض ﴾ جعلنا بعضهم فتنة لبعض، أي ابتلاء تظهر به حقائق أنفسهم غير مشوبة بالشوائب التي تلتبس بها عادة. فابتلينا الفقراء بالأغنياء، والأغنياء بالفقراء، وكل فريق بضده.
﴿ فتحنا عليهم أبواب كل شيء ﴾أي من النعم الكثيرة بدل البأساء والضراء، إلزاما للحجة واستدراجا لهم. وفي الحديث :( إذا رأيت الله يعطى العبد في الدنيا و هو مقيم على معاصيه فإنما هو استدراج ). ﴿ مبلسون ﴾آيسون من النجاة والرحمة، من الإبلاس، وهو اليأس والقنوط. يقال : أبلس من رحمة الله أي يئس. أو مكتئبون متحسرون.
﴿ فقطع دابر القوم ﴾أخرهم الذي يدبرهم. و الدابر : التابع من خلف. يقال : دبر القوم يدبرهم دبورا، إذا كان أخرهم في المجيء. والمراد أنهم استؤصلوا بالعذاب استئصالا.
﴿ ثم يصدفون ﴾يعرضون عن الآيات مكذبين. يقال : صدف عن الشيء يصدف صدفا وصدوفا، إذا أعرض عنه. و أصدفه عن كذا : أماله عنه و صرفه. وأصله صدفة الجبل، أي جانبه و منقطعه.
﴿ بغتة أو جهرة ﴾مفاجأة. أو ظاهرا عيانا.
﴿ قل لا أقول لكم ﴾اقترحوا على الرسول صلى الله عليه وسلم أشياء تعجيزا و تعنتا ؟ فنزلت الآية. أي قل لهم لا أدعى أن عندي مقدورات الله فأتصرف فيها كيف أشاء. ولا أنى أعلم الغيب فأخبركم
الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحي إلى قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون، وأنذر به الذين يخافون أن يحشرون إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون، ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداوة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابكم بما سيكون. و لا أنى ملك حتى لا آكل و لا أشرب ولا أتزوج. وما أنا إلا عبد الله يتبع ما أوحاه الله إليه، فكيف تقترحون على ما لا شأن لي به. والخزائن : جمع خزانة، وهي ما يخزن فيه الشيء النفيس. و خزن الشيء : إحرازه حيث لا تناله الأيدي.
﴿ و أنذر به الذين يخافون ﴾خوف بالقرآن الذي أوحي إليك القوم الذين يخافون﴿ أن يحشروا إلى ربهم ﴾غير منصورين ولا مشفوعا لهم. والمراد بهم عصاة المؤمنين. وقيل : المقرون بالبعث، سواء كانوا جازمين بأصله، أو مترددين في شفاعة الأنبياء أو في شفاعة الأصنام. وهو أمر من الله لرسوله بتذكيرهم و إنذارهم. وتنديد بالمشركين الذين لا ينفع فيهم الوعظ والتذكير.
﴿ و لا تطرد الذين يدعون ربهم ﴾ولا تبعد عنك ضعفاء المؤمنين الذين سارعوا إلى الإيمان بك، واستداموا على عبادة ربهم يبتغون بها وجهه الكريم، مثل : سلمان، و بلال، و صهيب، وعمار،
و خباب، أملا في إسلام رؤساء المشركين وسادتهم الذين استنكفوا منهم وقالوا : لو طردت هؤلاء السقاط لجالسناك. بل اجعلهم جلساءك و أخصاءك فهم عند الله أفضل و أزكى، كما قال تعالى :﴿ واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة و العشي يريدون وجهه و لا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا و لا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا ﴾. ولم يقع منه صلى الله عليه وسلم طرد لهم، وإنما لهم بإبعادهم وقت حضور هؤلاء السادة، لمصلحة أخرى، وهي التلطف لهم أملا في إسلامهم. والغداة لغة : كالبكرة، ما بين صلاة الفجر و طلوع الشمس. و العشي : آخر النهار. أو من الزوال إلى الغروب. والمراد بهما هنا جميع الأوقات.
﴿ ما عليك من حسابهم من شيء ﴾لما قال المشركون في حق هؤلاء الضعفاء : إنهم ما قبلوا دينك ولازموك إلا لحاجتهم إلى المأكول والملبوس، قال تعالى إن كان الأمر كما زعموا فما يلزمك إلا
اعتبار الظاهر، وحسابهم على الباطن لا يتعدى إليك، كما أن حسابك لا يتعدى إليهم. وهو كقوله تعالى :﴿ ولا تزر وازرة وزر أخرى ﴾. وقوله﴿ فتطردهم ﴾جواب لقوله﴿ ما عليك من حسابهم من شيء ﴾وقوله﴿ فتكون من الظالمين ﴾جواب لقوله﴿ ولا تطرد ﴾أي فتكون من الذين يضعون الشيء في غير موضعه.
﴿ من عمل منكم سوءا بجهالة ﴾أي وهو جاهل بمقدار ما يستحق عليه من العقاب وما يفوته من الثواب. أو لإيثاره اللذة العاجلة على الآجلة.
﴿ ما عندي ما تستعجلون به ﴾ليس في مقدرتي إنزال العذاب الذي استعجلتموه بقولكم :﴿ فأمطر علينا حجارة من السماء... ﴾ وما الحكم في ذلك إلا لله وحده، يتبع الحق والحكمة فيما يقدره و يحكم به، وهو خير من يفصل بين الحق و الباطل. والاستعجال : المطالبة بالشيء قبل وقته.
﴿ يقص الحق ﴾من قص الأثر : تتبعه.
﴿ وعنده مفاتح الغيب ﴾جمع مفتاح-كمنبر-، وهو آلة الفتح، و تسمى المفتاح. أو جمع مفتاح –كمسجد -، وهو الخزانة التي تحفظ بها الأشياء. والغيب : ما استأثر الله بعلمه. أي وعنده المفاتيح التي يفتح بها الغيب، وهو مجاز عن علمه تعالى جميع المعلومات، ما غاب عنا وما لم يغب، لأن المفاتيح هي التي يتوصل بها إلى ما في الخزائن المستوثق منها بالإغلاق، فمن علم كيف بها ويتوصل إلى ما فيها فهو عالم. أو عنده خزائن الغيب، والمراد بها القدرة الكاملة على كل الممكنات، كما في قوله تعالى :﴿ وإن من شيء إلا عندنا خزائنه ﴾. ﴿ إلا في كتاب مبين ﴾إلا في علمه تعالى المحيط بجميع الأشياء إحاطة الكتاب بما فيه. أو إلا في اللوح المحفوظ الذي خط فيه بقلم القدرة أزلا، ما كان وما سيكون. وهو بدل من﴿ إلا يعلمها ﴾بدل كل على المعنى الأول، واشتمال على الثاني.
﴿ وهو الذي يتوفاكم بالليل ﴾يقبض أرواحكم إذا نمتم ليلا. وأصل التوفي : اخذ الشيء وافيا. ويقال : توفيت الشيء واستوفيت بمعنى، وهو كقوله تعالى :﴿ الله يتوفى الأنفس حين موتها و التي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى ﴾.
﴿ و يعلم ما جرحتم بالنهار ﴾ما كسبتم فيه بجوارحكم من الخير والشر. و الاجتراح : الاكتساب. يقال : جرح- من باب نفع- و اجترح، أي اكتسب بيده أو رجله أو فمه. وتخصيص التوفي بالليل، والجرح بالنهار، باعتبار الغالب و إلا فقد يعكس الأمر.
﴿ وهو القاهر فوق عباده ﴾( راجع آية ١٨ من هذه السورة ص ٢١٨ ). ﴿ ويرسل عليكم حفظة ﴾ملائكة يكتبون أعمالكم ويحفظونها، لتعرض على رؤوس الأشهاد يوم الحساب، وهم الكرام الكاتبون. وذلك من جملة القهر لعبادته.
﴿ تضرعا وخفية ﴾معلنين الضراعة و الذلة، ومسرين في أنفسكم بها.
﴿ أو يلبسكم شيعا ﴾يخلطكم فرقا مختلفة الأهواء، كل فرقة تتبع إماما، تختصمون وتشتبكون في ملاحم القتال. ﴿ وشيعا ﴾جمع شيعة، وهم الأتباع والأنصار. وكل قوم اجتمعوا على أمر فهم شيعة.
﴿ ويذيق بعضكم باس بعض ﴾يسلط بعضكم على بعض بالعذاب والقتل. والبأس : الشدة. وهذا ما ابتلى به الناس في سائر العصور.
﴿ و إذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا ﴾أي استهزاء و طعنا فيها. وأصل الخوض : العبور في الماء.
ثم استعير للأخذ في الحديث فقيل : تخاوضوا في الحديث، أي أخذوا فيه. و أكثر ما يستعمل الخوض فيما كان على وجه اللعب والعبث. والخطاب لكل من يتأتى مخاطبته. أو للرسول والمراد أمته.
﴿ وذكر به أن تبسل نفس ﴾أي وذكر الناس بالقرآن أو بالحساب مخافة أن تسلم نفس إلى الهلاك، أو تحبتس أو ترتهن أو تفتضح، أو تحرم الثواب بسبب كفرها و ذنوبها، من البسل بمعنى المنع بالقهر، أو التحريم، أو الحبس والرهن، أو الاستسلام. ومنه : أسد باسل، لمنعه فريسته من الإفلات. وشراب بسيل، أي متروك. وهذا بسيل عليك، أي محرم. ﴿ وإن تعدل كل عدل ﴾وإن تفتد تلك النفس بكل فداء لا يقبل منها ما تفتدي به. والعدل : الفداء، وهو كقوله تعالى :﴿ عن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به ﴾. ﴿ أبسلوا بما كسبوا ﴾أسلموا إلى الهلاك، أو بأحد المعاني السابقة للابسال، بسبب أعمالهم القبيحة. ﴿ حميم ﴾ماء بالغ نهاية الحرارة، يتجرجر في بطونهم، و تتقطع به أمعاءهم.
﴿ ونرد على أعقابنا ﴾أي نرجع إلى الشوك الذي كنا فيه. يقال لمن رد عن حاجته ولم يظفر بها : قد رد على عقبيه، مثل : رجع القهقري. ﴿ كالذي استهوته الشياطين ﴾أي أترد إلى الشرك ردا مثل الذي ذهبت به المردة فألقته في المهامه والقفار، تائها ضالا عن الجادة لا يدري ما يصنع، له رفقة تدعوه إلى الطريق المستقيم قائلة له : إئتنا، فلا يجيبهم. والكلام من باب التمثيل.
﴿ ويوم يقول كن فيكون قوله الحق ﴾أي و قضاؤه المعروف بالحقية كائن، حين يقول سبحانه لشيء من الأشياء﴿ كن فيكون ﴾ذلك الشيء ويحدث. و﴿ يوم ﴾خبر مقدم و﴿ قوله ﴾مبتدأ مؤخرو﴿ الحق ﴾صفته. ﴿ في الصور ﴾هو قرن ينفخ فيه الملك نفخة الصعق والموت، ونفخة البعث والنشوز، والله أعلم بحقيقته. أي واستقر الملك لله تعالى وحده في ذلك اليوم، فلا ملك لسواه﴿ والأمر يومئذ لله ﴾
﴿ آزر ﴾لقب لأبي إبراهيم عليه السلام المسمى تاريخ، أو هو اسم آخر له. ﴿ أتتخذ أصناما آلهة ﴾جمع صنم، وهو التمثال والوثن بمعنى، وهو الذي يتخذ من حجر أو خشب أو معدن على صورة إنسان. أي تتخذها آلهة تعبدها من دون الله الذي خلقك ورزقك. و هي لا تنفع ولا تضر، ولا تستحق الألوهية، بل هي مما تصنعون بأيديكم.
﴿ وكذلك نرى إبراهيم ملكوت ﴾أي كما أريناه الحق في خلاف ما عليه قومه من الشرك نريه ربوبيته تعالى، و مالكيته للسماوات والأرض. والملكوت : الملك العظيم، مصدر زيدت فيه الواو والتاء للمبالغة في الصفة، كالرحموت من الرحمة. وهو مختص بملكه تعالى، كما ذكره الراغب.
﴿ جن عليه الليل ﴾ستره الليل وتغشاه بظلمته، وأصل الجن : الستر عن الحاسة. يقال : جنه الليل و جن عليه يجن جنا و جنونا، وأجنه و أجن عليه إجنانا، ومنه الجن والجنة – بالكسر-والجنة –بالضم- و هي ما يتقى به المحارب ضرب قرنه، والجنة-بالفتح- وهي البستان الذي يستر بأشجاره الأرض. ﴿ قال هذا ربي ﴾قال هذا على سبيل الفرض و إرخاء العنان، مجازاة مع عباد الأصنام والكواكب، ليكر عليه بالإبطال، ويثبت أن الرب لا يجوز عليه التغيير والانتقال، وكذا يقال فيما بعده.
﴿ فلما اقل ﴾غاب وغرب. يقال : أفل الشيء يأفل ويأفل أفلا وأفولا، غاب. ﴿ قال لا أحب الآفلين ﴾أي لا أعبد الأرباب أو لا أحب عبادة المنتقلين من حال إلى حال، ومن مكان إلى مكان.
﴿ رأى القمر بازغا ﴾مبتدئا في الطلوع منتشر الضوء، من البزوغ وهو الطلوع و الظهور. يقال : بزغ الناب بزوغا إذا طلع.
﴿ للذي فطر السماوات والأرض ﴾أي للذي أوجدهما و أنشأهما على غير مثال سابق. ﴿ حنيفا ﴾مائلا عن الأديان الباطلة، والعقائد الزائغة كلها إلى الدين الحق.
﴿ إلا أن يشاء ربي شيئا ﴾أي إلا وقت مشيئة ربي شيئا من المكروه يصيبني من جهتها.
والاستثناء متصل بتقدير الوقت.
﴿ سلطانا ﴾حجة وبرهانا. ﴿ فأي الفريقين أحق بالأمن ﴾أي فأي الفريقين حقيق بالأمن من عذاب الله يوم القيامة : ألذي عبد من بيده النفع والضر، أم الذي عبد ما لا يضر ولا ينفع لا دليل ولا برهان ؟
﴿ ولم يلبسوا إيمانهم بظلم ﴾لم يخالطوا إيمانهم بشرك، كما يفعل المشركون حيث يزعمون أنهم مؤمنون بالله، وأن عبادتهم لغيره من تتمات إيمانهم وأحكامه، لكونها لأجل التقريب و الشفاعة.
﴿ و إلياس ﴾هو من أسباط هارون أخي موسى بن عمران عليهم السلام.
﴿ لحبط عنهم ﴾أي لبطل و سقط عنهم. يقال : حبط العمل- كسمع وضرب-حبطا و حبوطا، بطل وهدر.
﴿ والحكم ﴾أي القضاء بين الناس بالحق. أو الحكمة، وهي علم الكتاب ومعرفة ما فيه من الأحكام. أو الإصابة في القول و العمل. ﴿ فإن يكفر بها ﴾أي بهذه الثلاثة﴿ هؤلاء ﴾أي أهل مكة﴿ فقد وكلنا بها ﴾أي أعددنا و وفقنا للإيمان بها والقيام بحقوقها﴿ قوما ليسوا بها كافرين ﴾وهو أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم.
﴿ فبهداهم اقتده ﴾أي بطريقهم من الإيمان بالله و توحيده و أصول الذين اقتد، دون فروع الشرائع القابلة للنسخ فإنهم يختلفون فيها، فلا يمكن الإقتداء بهم فيها. والهاء للسكت.
﴿ و ما قدروا الله حق قدره ﴾ما عظموا الله حق تعظيمه. أو ما عرفوه سبحانه حق معرفته، أي معرفته الحق في اللطف بعباده و الرحمة بهم، ولم يراعوا حقوقه تعالى في ذلك، بل أخلوا بها إخلالا عظيما، إذ أنكروا بعثة الرسل و إنزال الكتب. ومارادهم بذلك : الطعن في رسالته صلى الله عليه وسلم يقال : قدره يقدره-من باب نصر-عظمه. وأصل القدر : معرفة المقدار بالسير والحزر. يقال : قدر الشيء يقدره، إذا سبره وحزره ليعرف مقداره، ثم استعمل في معرفة الشيء على أتم الوجوه، حتى صار حقيقة فيه.
﴿ تجعلونه قراطيس ﴾أي أوراقا مكتوبة مفرقة لتتمكنوا من إبداء ما تريدون إبداءه منها، وإخفاء الكثير منها، ومنه نعوت محمد صلى الله عليه وسلم و آية الرجم. والقرطاس : ما يكتب فيه.
﴿ قل الله ﴾أي قل : الله تعالى أنزله. أو أنزله الله، إن لم يجيبونك بأنه تعالى هو الذي أنزل التوبة.
﴿ أم القرى ﴾مكة والمراد أهلها، وسميت بذلك لأنها قبلة أهل القرى و محجهم. ﴿ و من حولها ﴾من أهل المشارق و المغارب، لعموم بعثته صلى الله عليه وسلم للناس كافة.
﴿ في غمرات الموت ﴾شدائده و سكراته. جمع غمرة، وهي الشدة. و أصلها الشيء الذي يغمر الأشياء فيغطيها. يقال : غمره الماء-كنصر-إذا علاه وستره، ثم استعمل في الشدائد و المكاره.
﴿ أخرجوا أنفسكم ﴾أي قائلين لهم أخرجوا أرواحكم. وهو كناية عن العنف في السياق و الإلحاح، والتشديد في الإزهاق من غير تنفيس و إمهال. و جواب﴿ لو ﴾مقدر، أي لرأيت أمرا فظيعا هائلا.
﴿ عذاب الهون ﴾أي الهوان والذل.
﴿ و تركتم ما خولناكم ﴾أي ما أعطيناكم وملكناكم في الدنيا من الأولاد و الأموال والخدم، وجئتمونا فرادى و الخول : ما أعطاه الله من النعم. يقال : خوله الشيء تخويلا، ملكه إياه ومكنه منه و منه التخول بمعنى التعهد.
﴿ لقد تقطع بينكم ﴾لقد تقطع الاتصال الذي كان بينكم في الدنيا واضمحل، ففاعل ﴿ تقطع ﴾ضمير يعود على الاتصال المدلول عليه بلفظ﴿ شركاء ﴾و﴿ بينكم ﴾منصوب على الظرفية، وقرء بالرفع، أي لقد تقطع وصلكم. و﴿ بين ﴾مصدر يستعمل في الوصل وفي الفراق بالاشتراك، كالجون للأسود والأبيض، والمراد هنا الأول.
﴿ إن الله فالق الحب والنوى ﴾شروع في ذكر دلائل كمال القدرة والعلم والحكمة، بعد تقرير دلائل التوحيد و النبوة. و﴿ فالق ﴾أي شاق، يشق الحبة اليابسة كالحنطة فيخرج منها النبات الأخضر النامي. ويشق النواة اليابسة فيخرج منها النخلة والشجرة النامية. ﴿ يخرج الحي من الميت ﴾أي يخرج ما ينمو من الحيوان والنبات مما لا ينمو، كالنطفة والحبة ﴿ ومخرج الميت من الحي ﴾أي كالنطفة والبيضة من الحيوان. وهو معطوف على ﴿ فالق ﴾. ﴿ فأنى تؤفكون ﴾فكيف تصرفون عن عبادته، وتشركون به ما لا يقدر على شيء من فعله( آية ٧٥ المائدة ص ٢٠٢ ).
﴿ فالق الإصباح ﴾الإصباح : مصدر سمي به الصبح، أي شاق ظلمة الصبح –وهي الغبش و آخر الليل الذي يلي الفجر المستطيل الكاذب-عن بياض النهار، فيضيء الوجود ويضمحل الظلام، ويذهب الليل بسواده و يجيء النهار بضيائه. ﴿ و جعل الليل سكنا ﴾يسكن إليه من يتعب بالنهار و يستأنس به لاسترواحه فيه. ﴿ و الشمس و القمر حسبانا ﴾أي بجريان في الفلك بحساب مقدر معلوم، لا يتغيروا لا يضطرب حتى ينتهيا إلى أقصى منازلهما، بحيث تتم الشمس دورتها في سنة، ويتم القمر دروته في شهر، وبذلك تنتظم المصالح المتعلقة بالفصول الأربعة وغيرها. والحسبان : مصدر حسبت المال حسبا –من باب قبل- أحصيته عددا.
﴿ أنشأكم من نفس واحدة ﴾من آدم عليه السلام. وهو تذكير بنعمة أخرى، فإن رجوع الناس جميعا إلى أصل واحد أدعى إلى التواد والتراحم. ﴿ فمستقر و مستودع ﴾فلكم موضع استقرار في الأرحام، وموضع استيداع في الأصلاب. وقرء﴿ مستقر ﴾بكسر القاف، أي فمنكم مستقر في الأرحام.
﴿ فأخرجنا منه خضرا ﴾أي أخرجنا من النبات الذي لا ساق له نباتا عضا أخضر، وهو ما تشعب من أصل النبات الخارج من الحبة. وخضر بمعنى أخضر، اسم فاعل. يقال : خضر الزرع- من باب فرح-و اخضر، فهو خضر وأخضر. ﴿ نخرج منه حبا متراكبا ﴾أي سنابل فيها الحب يركب بعضه بعضا. كما في الحنطة والشعير و سائر الحبوب. يقال : ركبه-كسمعه-ركوبا ومركبا، علاه، كارتكبه.
﴿ ومن النخل من طلعها قنوان دانية ﴾ومن طلع النخل قنوان دانية. والطلع : أول ما يبدو ويخرج من ثمر النخل كالكيزان. وقشره يسمى الكفرى، وما في داخله يسمى الإغريض لبياضه. والقنوان : العراجين، جمع قنو وهو العذق، وهو للتمر بمنزلة العنقود للعنب. و ﴿ دانية ﴾أي متدلية، أو قريبة من يد المتناول. ﴿ و جنات من أعناب ﴾عطف على ﴿ نبات ﴾أي و أخرجنا به جنات كائنة من أعناب. ﴿ مشتبها وغير متشابه ﴾أي بعضه متشابه، وبعضه غير متشابه في الهيئة و اللون والطعم وغير ذلك، مما يدل على كمال قدرة الصانع، كما قال تعالى :﴿ يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل. { و ينعه ﴾أي و انظروا إلى حال نضجه و إدراك نظر استدلال و استبصار، كيف يعدو شيئا قويا بعد الضعف، جامعا لمنافع شتى. مصدر ينعت الثمرة كأينعت، تينع و تينع ينعا و ينعا و ينوعا، إذا نضجت.
﴿ و جعلوا لله شركاء الجن ﴾شروع في بيان جحودهم معاملة خالقهم، بعد أن من عليهم بالإيجاد و بما يحتاجون إليه في المعاش. أي و جعلوا الجن شركاء لله تعالى في الألوهية و العبادة، و قد خلقهم من العدم، فكيف يجعل المخلوق شريكا للخالق ؟.. والمراد بهم الملائكة حيث عبدوهم و قالوا : هن بنات الله، و أطلق عليهم جن لاستتارهم. أو المراد الشياطين، حيث أطاعوهم في عبادة غير الله تعالى من الأصنام و الطواغيت. ﴿ و خرقوا له بنين.. ﴾واختلقوا وافتروا له سبحانه بنين وبنات. يقال : خرق الكذب يخرقه، صنعه. ، وأصل الخرق : قطع الشيء على سبيل الفساد من غير تدبر وتفكر، و ذلك كما افترى بعض أهل الكتاب أن عزيرا ابن الله، و أن المسيح ابن الله. فالمشركين واليهود والنصارى سواء في الافتراء على الله بغير علم، سبحانه تعالى عما يصفون.
﴿ لا تدركه الأبصار ﴾لا تحيط بعظمته و جلاله على ما هو عليه أبصار الخلائق في الدنيا و الآخرة، أو لا تدركه الأبصار إدراك إحاطة بكنهه و حقيقته، فإن ذلك محال. و الإدراك بهذا المعنى أخص من الرؤية التي هي مجرد المعاينة، فنفيه لا يقتضى نفي الرؤية، إذا نفى الأخص لا يستلزم نفي الأعم. فأنت ترى القمر و لا تدرك حقيقته، و لذلك أثبت أهل السنة رؤية المؤمنين له تعالى في الآخرة، كما قال تعالى :﴿ وجوه يومئذ ناضرة. إلى ربها ناظرة ﴾. و ذهب بعض السلف على أن الآية مخصوصة بالدنيا. ﴿ و هو يدرك الأبصار ﴾أي وهو يدرك القوة التي تدرك بها المبصرات و يحيط بها علما، إذ هو خالق القوى و الحواس.
﴿ قد جاءكم بصائر ﴾هي آيات القرآن و حججه التي يهتدون بها إلى الخلق، جمع بصيرة، و هي للقلب بمنزلة البصر للعين، فهي النور الذي يبصر به القلب، كما أن البصر هو النور الذي تبصر به العين و إطلاق البصائر على هذه الآيات من إطلاق اسم المسبب على السبب. ﴿ وما أنا عليكم بحفيظ ﴾برقيب أحصي عليكم أعمالكم، وإنما الله هو الذي يحصيها عليكم و يجازيكم عليها.
﴿ وكذلك نصرف الآيات ﴾أي وكما فصلنا الآيات الدالة على التوحيد في هذه السورة تفصيلا بديعا محكما، نفصل الآيات و نبينها في كل موطن لتلزمهم الحجة﴿ وليقولوا درست ﴾أي قرأت الكتب على أهل الكتاب، ثم جئتنا تزعم أنه من عند الله. يقال : درس الكتاب، إذا أكثر قراءته وذلله للحفظ. وأصله من درس الحنطة يدرسها درسا و دراسا، إذا داسها، كأن التالي يدوس الكلام فيخف على لسانه. وقرئ﴿ داست ﴾أي قارأت أهل الكتاب، من المدارسة بين الاثنين، أي قرأت عليهم وقرءوا عليك.
﴿ وأعرض عن المشركين ﴾لا تعتد بأقوالهم الباطلة، التي من جملتها ما حكي عنهم آنفا، ولا تبال بها.
﴿ ولا تسبوا الذين... ﴾السب : الشتم الوجيع، و ذكر المساوئ لمجرد التحقير و الإهانة. والعدو : الاعتداء و التجاوز عن الحق إلى الباطل، نهوا عن سب الأوثان و لعنها قبل الأمر بالقتال- كما قاله الزجاج و ابن الأنبارى – ثم نسخ بآية القتال حين قوى المسلمون.
﴿ وأقسموا بالله جهد أيمانهم ﴾أبلغ ما في وسعهم في تغليظ الحلف( ٢١و ٥٣ المائدة ). ﴿ قل إنما الآيات عند الله ﴾أعلمهم بأن مرجع الآيات كلها إلى حكمه تعالى خاصة، يقضى فيها حسب مشيئة المبنية على الحكم البالغة، لا قدرة لأحد عليها، فكيف أتصدى لاستدعاء إنزالها، وأمرها لله وحده.
﴿ وما يشعركم ﴾أي و ما يدريكم أيها المؤمنون الراغبون في إنزالها طمعا في إسلامهم ﴿ أنها إذا جاءت لا يؤمنون ﴾. أي أنا أعلم أنهم لا يؤمنون وأنتم لا تعلمون ذلك، و لذا توقعتم إيمانهم، ورغبتم في نزولها. فالاستفهام في معنى النفي، وهو إخبار عنهم بعدم العلم لا إنكار عليهم. وقيل :﴿ أن ﴾-بالفتح-بمعنى لعل، أي و ما يدريكم حالهم عند مجيء الآيات، لعلها إذا جاءت لا يؤمنون، فما لكم تتمنون مجيئها.
﴿ ونذرهم في طغيانهم ﴾وندعهم في تجاوزهم الحد في العصيان يترددون متحيزين( آية ١٥ البقرة ص ١٨ ).
﴿ ولو أننا نزلنا ﴾ولو أننا آتيناهم ما اقترحوا فنزلنا إليهم الملائكة، وأحيينا لهم الموتى يشهدون عيانا بصدقك، و زدنا على ذلك فجمعنا لهم جميع الخلائق مقابلة و معاينة حتى يواجهوهم، يشهدون لك بالرسالة، أو كفلاء بصدقك-ما استقام لهم الإيمان، لسوء استعدادهم وفساد فطرهم. و الحشر : الجمع، وفعله من باب قتل. و﴿ قبلا ﴾-بضمتين-بمعنى مواجهة و معاينة. تقول : لقيته قبلا و مقابلة وقبيلا، أي مواجهة، بمعنى قبلا في القراءة الأخرى. وقيل : جمع قبيل بمعنى كفيل، أو بمعنى جماعة جماعة، أو صنفا صنفا.
﴿ شياطين الإنس و الجن ﴾مردة النوعين. و الشيطان : كل عات متمرد من الإنس والجن. أي جعلنا لكل نبي أعداء من شياطين الإنس و الجن، يسر بعضهم إلى بعض ما يفتنون به المؤمنين الصالحين، ويزينون لهم الباطل و المعاصي ليغروهم و يخدعون. و زخرف القول : باطله الذي زين و موه بالكذب. و أصل الزخرف : الزينة المزوقة، و منه قيل الذهب : زخرف، ولكل شيء حسن مموه زخرف. و الغرور : الخداع و الأخذ على غرة.
﴿ و لتصغى إليه ﴾و لتميل إلى هذا الزخرف الباطل قلوب الكافرين. معطوف على ﴿ غرورا ﴾المنصوب على أنه مفعول له. و أصل الصغو : الميل. يقال : صغا يصغو و صغوا، وصغى يصغى و صغيا، مال. و أصغى إليه : مال بسمعه. وأصغى الإناء : أماله.
﴿ و ليقترفوا ﴾وليكتسبوا من الأعمال الخبيثة ما هم مكتسبون. وأصل القرف و الاقتراف : قشر اللحاء عن الشجر، و الجلدة عن الجرح. واستعير الاقتراف للاكتساب مطلقا، ولكنه في الإساءة أكثر، فيقال : قرفته بكذا، إذا عبته به و اتهمته. قال أبو حيان : ترتيب هذه المفاعيل في غاية الفصاحة، لأنه أولا يكون الخداع فيكون الميل فيكون الرضا فيكون الاقتراف، فكل واحد مسبب عما قبله.
﴿ فلا تكونن من الممترين ﴾أي من الشاكين في أن أهل الكتاب يعلمون أن القرآن منزل من عند ربك بالحق. وقيل : الخطاب لكل من يتأتى منه الامتراء. أو للرسول صلى الله عليه وسلم و المقصود أمته.
﴿ وتمت كلمة ربك ﴾أي كمل كلامه تعالى- وهو القرآن- وبلغ الغاية، صادقا في أخباره، عادلا في أحكامه. ﴿ لا مبدل لكلماته ﴾لا مغير لها بخلف في الأخبار، أو نقض في الأحكام، أو تحريف أو تبديل، وهذا ضمان من الله تعالى لكتابه بالحفظ.
﴿ و إن تطع أكثر من في الأرض ﴾الخطاب له صلى الله عليه وسلم ولأمته. وقيل له، و المراد أمته. ﴿ و إن هم إلا يخرصون ﴾أي يكذبون، أي أن شأنهم الكذب، فهم مستمرون عليه مع ما هم عليه من اتباع الظن في شأن خالقهم، و من ذلك تحريم الحلال و تحليل الحرام. وأصل الخرص : القول بالظن. يقال : خرصت النخل خرصا-من باب قتل-حرزت ثمره وقدرته بالظن و التخمين. واستعمل في الكذب لما يداخله من الظنون الكاذبة، فيقال : خرص في قوله-كنصر-أي كذب.
﴿ فكلوا مما ذكر اسم الله عليه ﴾لما قال المشركون : أتأكلون ما قتلتم و لا تأكلون ما قتل ربكم. نزلت الآية. والخطاب للمسلمين، أي كلوا مما ذكر على ذبحه اسم الله خاصة، دون ما ذكر عليه اسم غيره كالأوثان، أو ما ذبح على النصب، أو اسم مع اسمه تعالى، أو مات حتف أنفه، كما قال تعالى :﴿ ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ﴾.
﴿ وقد فصل لكم ما حرم عليكم ﴾وقد بين لكم ما حرمه عليكم من المطعومات، إلا ما دعتكم إليه الضرورة بوحي غير متلو. أو بقوله تعالى :﴿ قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما ﴾. والتأخر في التلاوة لا يوجب التأخر في النزول.
﴿ و ذروا ظاهر الإثم ﴾اترك جميع المعاصي سرها و علانيتها، أو ما كان منها بالجوارح و كان بالقلوب.
﴿ ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ﴾نهوا عن أكل الميتات بأنواعها، و ما أهل به لغير الله من ذبائح المشركين، وما ذبح على النصب ونحوه، وما ذكر عليه اسم مع اسمه تعالى.
أما ذبائح المسلمين و ذبائح أهل الكتاب إذا ذكروا عليها اسم الله فحلال. وتقدم الخلاف في ذبائح أهل الكتاب إذا ذكروا عليها اسم عزير أو المسيح في تفسير آيتي البقرة والمائدة.
﴿ وإنه لفسق ﴾وإن أكل ذلك لخروج عن طاعة الله. وقد اختلف الأئمة في ذبيحة المسلم إذا لم يذكر اسم الله عليها، فذهب قوم إلى تحريمها، سواء تركها عمدا أو سهوا. و ذهب قوم إلى حلها مطلقا. وآخرون إلى حلها إن تركت التسمية سهوا، و إلى حرمتها إن تركت عمدا. و المذاهب و الأدلة مبسوطة في الفقه.
﴿ أو من كان ميتا فأحييناه ﴾أي أأنتم مثلهم، ومن كان ميتا فأعطيناه الحياة و جعلنا له نورا عظيما يمشي به فيما بين الناس آمنا، كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها. وهو تمثيل للمؤمن والكافر لتنفير المسلمين عن طاعة المشركين، فمثل المؤمن المهتدي كمن كان ميتا هالكا فأحياه الله، وأعطاه نورا يستضيء به في مصالحه، ويهتدي به إلى طرقه، و مثل الكافر الضال كمن هو منغمس في الظلمات لا خلاص له منها فهو على الدوام متحير لا يهتدي، فكيف يستويان ؟ والنور : هو القران أو الإسلام. و الظلمات : ظلمة الكفر، وظلمة الجهل، وظلمة عمى البصيرة، وهو كقوله تعالى :﴿ وما يستوي الأعمى و البصير. ولا الظلمات و لا النور. و لا الظل و لا الحرور. و ما يستوي الأحياء و لا الأموات ﴾.
﴿ و كذلك جعلنا في كل قرية ﴾أي و كما جعلنا في قريتك رؤساء ودعاة إلى الكفر وإلى عداوتك جعلنا في كل قرية من قرى الرسل من قبلك رؤساء من المجرمين مثلهم، ليمكروا فيها و يتجبروا على الناس، ثم كانت العاقبة للرسل. و الأكابر : جمع أكبر، وهم الرؤساء والعظماء. والمجرمون : جمع مجرم، من أجرم إذا اكتسب أمرا مكروها، ومنه الجرم و الجريمة، للذنب و الإثم.
﴿ صغار ﴾ذل و هوان بعد استكبارهم. يقال : صغر يصغر صغرا و صغارا فهو صاغر، إذا ذل وهان.
﴿ فمن يرد الله أن يهديه... ﴾أي فمن يرد الله أن يهديه للإسلام، ويوفقه له يوسع صدره لقبوله، ويسهله له بفضله وإحسانه. و من يرد أن يضله يصير صدره ضيقا متزايد الضيق، لا منفذ فيه للإسلام، كأنما إذا دعا إليه قد كلف الصعود إلى السماء و هو لا يستطيعه بحال. وشرح الصدر : توسعته. يقال : شرح الله صدره فانشرح، أي وسعه فاتسع. والحرج : مصدر حرج صدره حرجا فهو حرج، أي ضاق ضيقا شديدا : وصف به الضيق للمبالغة، كأنه نفس الضيق. و أصل الحرج : مجتمع الشيء، و يقال للغيضة الملتفة الأشجار التي يصعب دخولها : حرجة. و﴿ يصعد ﴾أي يتصعد، بمعنى يتكلف الصعود فلا يستطيعه.
﴿ كذلك يجعل الله الرجس.. ﴾أي مثل جعل صدره ضيقا حرجا بجعل الله العذاب على الكافرين.
و أصل الرجس : النتن والقذر. أو المأثم، أو العمل المؤدى إلى العذاب. ( آية ٩٠ المائدة ص ٢٠٥ ).
﴿ وهو وليهم.. ﴾متولى إيصال الخير إليهم. مواليهم أو ناصرهم، بسبب أعمالهم الصالحة.
﴿ يا معشر الجن.. ﴾ المعشر : الجماعة أمرهم واحد. والمراد هنا : الشياطين، أي و يقال لهم في ذلك اليوم : قد أكثرتم من إغوائكم الإنس و إضلالكم إياهم. أو أكثرتم منهم بأن جعلتموهم أتباعكم.
﴿ ربنا استمتع بعضنا ببعض ﴾أي انتفع الإنس بالجن، حيث دلوهم على المفاسد وما يوصل إليها.
و الجن بالأنس، حيث أطاعوهم و انقادوا إليهم فصاروا كالأتباع لهم. والمراد بهم الكفار.
﴿ إلا ما شاء الله ﴾الأرجح أن المراد بهذا الاستثناء و بنظائره في آيات أخر- المبالغة في الخلود. أي أنه لا ينتفى في وقت ما إلا وقت مشيئته تعالى، وهو تعالى لا يشاء ذلك، فقد أخبر أن هؤلاء الكفار لا يخرجون من النار أبدا. وفي إيراد المعنى في هذه الصورة بيان أن مرد الأمور كلها إلى مشيئته تعالى، وأن خلودهم إنما كان بمحض المشيئة، ولو شاء الله عدمه لم يخلدوا. وفيه تنكيل آخر بهم، وهو إبقاؤهم في حيرة دائمة وتردد، بين الطمع في الخروج و اليأس منه.
﴿ ذلك أن لم يكن ربك ﴾أي إتيان الرسل و إنذارهم ثابت، لأنه لم يكن ربك مهلك أهل القرى بسبب أي ظلم فعلوه قبل أن ينبهوا إلى بطلانه و ينهوا عنه، قال تعالى :﴿ وإن من أمة إلا خلا فيها نذير ﴾وقال :﴿ وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ﴾.
﴿ وما أنتم بمعجزين ﴾أي بجاعليه عاجزا عنكم، غير قادر على إدراككم، من أعجزه بمعنى جعله عاجزا. أو بفائتين العذاب، من أعجزه الأمر، إذا فاته.
﴿ اعملوا على مكانتكم ﴾أي على غاية تمكنكم من أمركم، وأقصى استطاعتكم. مصدر مكن- ككرم-مكانة، إذا تمكن أبلغ التمكن. و الأمر للتهديد و الوعيد.
﴿ وجعلوا لله مما ذرأ ﴾شروع في ذكر أحكام لهم فاسدة درجوا عليها في الجاهلية، فقد كانوا يجعلون من زروعهم و أنعامهم و سائر أموالهم نصيبا لله، ونصيبا لأوثانهم، فيشركونها في أموالهم. فما كان الله أزكى بدلوه بما للأوثان، وإذا رأوا ما جعلوه للأوثان أزكى تركوه لها، فنزلت الآية. و﴿ ذرأ ﴾بمعنى خلق. يقال : ذرأ الله الخلق يذرؤهم ذرءا، أي خلقهم و أوجدهم. وقيل : الذرء الخلق على وجه الاختراع.
﴿ وكذلك زين... ﴾أي و مثل ذلك التزيين في قسمة الأموال بين الله و الأوثان، زين لهم شركاؤهم من الشياطين أو السدنة قبل بناتهم خشية العيلة أو العار، فأطاعوهم فيما أمروا به من المعصية. وسموا شركاء لأنهم أشركوهم مع الله في أموالهم أو في الطاعة لهم. ﴿ ليردوهم ﴾ليهلكوهم بالإغواء، من الردى
وهو الهلاك. يقال : ردى-كرضى-هلك. ﴿ وليلبسوا عليهم دينهم ﴾ليخلصوا عليهم ما كانوا عليه من دين إسماعيل عليه السلام حتى زلوا عنه إلى الشرك، من اللبس، وهو الخلط بين الأشياء التي يشبه بعضها بعضا( آية ٩ من هذه السورة ص٢١٦ ).
﴿ هذه أنعام وحرث حجر ﴾أي ما جعلوه لآلهتهم أنعام و حرث محجورة أي ممنوعة محرمة لا يطعمها إلا الرجال دون النساء، وأنعام حرمت ظهورها فلا تركب ولا يحمل عليها، وهي البحائر و السوائب و الوصائل و الحوامي، و أنعام ذبحت للأصنام فيذكرون عليها عند الذبح أسماء أصنامهم دون اسم الله تعالى.
﴿ ما في بطون هذه الأنعام.. ﴾أرادوا أجنة البحائر و السوائب المحرمة، فزعموا أن ما ولد منها حيا فهو حلال للرجال و محرم على النساء، وما ولد ميتا اشترك في أكله الرجال و النساء. و هذا نوع آخر من جهالتهم.
﴿ وهو الذي أنشأ جنات ﴾أي الله عز شأنه هو الذي أبدع هذه الجنات والثمار و الزروع، المختلفة الأنواع و الأشكال والروائح و الطعوم و الألوان، التي ينتفع بها الإنسان والحيوان، وليس لأحد من خلقه في ذلك شركة أو تأثير، فكيف يشركون معه غيره ؟ أو يتصرفون فيما خلقه لهم بالتحليل و التحريم ؟ و القسمة بين الله و آلهتهم الباطلة افتراء على الله ؟ ﴿ معروشا ﴾وهي ما انبسط على وجه الأرض و انتشر، مما يحتاج إلى أن يتخذ له عريش يحمل عليه، كالكرم والبطيخ والقرع، جمع معروش. والعرش : عيدان تصنع كهيئة السقف فتمسكه. ﴿ وغير معروشات ﴾و هو ما قام على ساق و استغنى باستوائه وقوة ساقه عن التعريش، كالنخل والشجر. ﴿ مختلفا أكله ﴾أي ثمره الذي يؤكل منه، في الهيئة و الطعم. ﴿ متشابها وغير متشابه ﴾أي متشابها في المنظر، وغير متشابه في المطعم. أو متشابها بعض أفرادهما في اللون أو الطعم أو الهيئة، وغير متشابه في بعضها. ﴿ وآتوا حقه يوم حصاده ﴾أدوا زكاته المفروضة يوم قطعه و جذاذه. وهذه الآية مدنية و إن كانت السورة مكية.
﴿ ومن الأنعام حمولة ﴾أي وأنشأ لكم من الأنعام حمولة، وهي الكبار الصالحة للحمل ﴿ وفرشا ﴾وهي صغارها الدانية من الأرض، مثل الفرش المفروش عليها. ﴿ ولا تتبعوا خطوات الشيطان ﴾لا تسلكوا طرقه في التحريم و التحليل، كأهل الجاهلية افتراء على الله. جمع خطوة، وأصلها ما بين قدمى الماشي. أريد بها ما ذكر مجازا.
﴿ ثمانية أزواج ﴾بدل من ﴿ حمولة وفرشا ﴾أي ثمانية أصناف : أربعة ذكور من الإبل والبقر و الضأن و المعز. وأربعة إناث كذلك خلقها الله لتنتفعوا بها أكلا و ركوبا وحملا وحلبا وغير ذلك، ولم يحرم شيئا منها ولا من أولادها، فمن الافتراء على الله تحريم ما لم يحرمه.
﴿ قل لا أجد فيما أوحي إلي... ﴾قل لهم : قد تتبعت ما أوحي إلي إلى الآن فلم أجد من المطاعم المحرمة إلا هذه الأربعة، وليس فيها ما زعتم من المحرمات، كالبحائر و السوائب و نحوها. والحصر حقيقي بالنسبة لما نزل تحريمه. وقد وردت السنة بعد نزول هذه الآية بتحريم لحوم الحمر الأهلية، وكل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير. وقيل : الحصر إضافي بالنسبة لما زعموه من تحريم البحائر والسوائب، أي إنما حرم هذه الأربعة دون ما يزعمون من ذلك، فلا ينافي تحريم غيرها مما ذكر. ﴿ على طاعم يطعمه ﴾أي على أي آكل يأكله﴿ فإنه رجس ﴾أي فإن لحم الخنزير نتن قدر. أو نجس أو خبيث مخبث. ﴿ أو فسقا ﴾عطف على ﴿ لحم ﴾. وسمي فسقا لتوغله في الخروج عن الطاعة. ﴿ أهل لغير الله به ﴾أي ذبح على غير اسم الله تعالى﴿ فمن اضطر ﴾( آية ١٧٣ البقرة ص ٥٧، ٣ المائدة ص ١٨٤ ).
﴿ و على الذين هادوا ﴾حرم الله على اليهود خاصة أشياء أخرى غير هذه الأربعة بسبب بغيهم، فحرم عليهم ﴿ كل ذي ظفر ﴾لحما وشحما. و هو ما لم يكن مشقوق الأصابع من بهيمة أو طير، ويدخل فيه الإبل و النعام والبط والإوز. وحرم عليهم من شحوم البقر والغنم شحم الكليتين، والشحم الذي على الكرش. وأحل لهم :
١ ) الشحم العالق بظهورهما، وقيل : العالق بالظهر والجنب من داخل بطونهما.
٢ ) ما حملته الحوايا من الشحوم وهي المباعر، أو المصارين، جمع حاوية أو حوية أو حاوياء. ، وهي ماتحوي من الأمعاء أي تجمع واستدار.
٣ ) ما اختلط بعظم، وهو شحم الألية المتصل بالعصعص في الضأن.
﴿ و لا يرد بأسه ﴾ عذابه ونقمته، إذا جاء وقتهما المقدر في علمه سبحانه.
﴿ لو شاء الله ما أشركنا ﴾احتج المشركون لما ارتكبوا من الشرك و تحريم ما حرموه، بأنه واقع بمشيئة الله تعالى. و زعموا أنه ما دام كذلك فهو مرضى عنده، فرد الله عليهم بأنه لو كان مرضيا عنده لما أذاق أسلافهم المكذبين الذين قالوا لرسلهم الداعين إلى التوحيد مثل قولهم-عذابه ونقمه، ولما دمر عليهم و أدال عليهم رسله. و بأنه لا حجة لهم على ما زعموا، و ما يتبعون فيه إلا الاعتقاد الفاسد، والكذب الفاضح. كيف وقد بعث رسله جميعا إلى الخلق، بالدعوة إلى التوحيد، والتنديد بالشرك، وإنذار المشركين، وتخويفهم عذاب الله وبأسه الشديد. وهو نظير قوله تعالى :﴿ وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن و لا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم ﴾وقوله تعالى :﴿ وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن علم إن هم إلا يخرصون ﴾.
وقوله تعالى :﴿ إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر ﴾. ﴿ تخرصون ﴾تكذبون على الله فيما ادعيتموه( آية ١١٢ من هذه السورة ص ٢٣٩ ).
﴿ فلو شاء الله لهداكم أجمعين ﴾فهو تعالى يهدي من هدي، ويضل من ضل، و كل من الهدى و الضلال واقع مشيئته تعالى، ولكنه لا يرضى لعباده الكفر، ولا يأمر بالفحشاء، ولذلك أرسل الرسل، و أنزل الكتب بأوامره و نواهيه :﴿ مبشرين و منذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ﴾.
﴿ هلم شهادكم ﴾أحضروهم للشهادة لكم. ﴿ هلم ﴾كلمة دعوة إلى الشيء، وهي اسم فعل بمعنى أقبل، إذا كان لازما، و بمعنى احضر وائت، إذا كان متعديا كما هنا يستوي فيه الواحد والمثنى والجمع، و المذكر والمؤنث في لغة الحجازيين.
﴿ هم بربهم يعدلون ﴾يجعلون له عديلا من مخلوقاته( آية ١ من هذه السورة ص ٢١٤ ).
﴿ تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ﴾أخبركم بما نهاكم عنه ربكم، وبما أمركم به يقينا لا ظنا ولاكذبا كما زعمتم. والأصل في كلمة ( تعال ) أن يقولها من كان في مكان عال لمن هو أسفل منه،
ثم اتسع فيها حتى عمت. و المذكور في الآيتين خمسة محرمات بصيغ النهي، وخمسة واجبات بصيغ الأمر و هي أحكام لا تختلف باختلاف الأمم و العصور. و﴿ أن ﴾في قوله :﴿ ألا تشركوا ﴾ تفسيرية.
﴿ بالوالدين إحسانا ﴾أي و أحسنوا بهما إحسانا. ﴿ ولا تقتلوا أولادكم ﴾نهوا عما كانوا يفعلونه من وأد البنات. ﴿ من إملاق ﴾أو من خشيته. و الإملاق : الفقر، مصدر أملق الرجل إملاقا، إذا افتقر و احتاج. ﴿ ولا تقربوا الفواحش ﴾كبائر المعاصي علنيها و سرها. جمع فاحشة، وهو كقوله تعالى :﴿ و ذروا ظاهر الإثم و باطنه ﴾. و قوله تعالى :﴿ قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن ﴾. ﴿ ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ﴾الذي وجب قتلها شرعا، كردة أو قصاص أو زنا يوجب الرجم، أو منع الزكاة أو ترك الصلاة.
حتى يبلغ أشده }أي احفظوه حتى يبلغ الحكم فإذا بلغه فادفعوه إليه. والأشد : قوة الإنسان وشدته واشتعال حرارته، من الشدة بمعنى القوة و الارتفاع. يقال : شد النهار إذا ارتفع. وهو مفرد جاء بصيغة الجمع. أو جمع لا واحد له. أو جمع شدة، كأنعم و نعمة.
﴿ وأوفوا الكيل ﴾أمر بإقامة العدل في التعامل. وإيفاء الكيل والوزن بالعدل : إتمامهما بحيث يعطى صاحب الحق حقه من غير نقصان ولا بخس، و يأخذ صاحب الحق حقه من غير طلب الزيادة. والكيل والوزن : مصدر أريد بهما ما يكال و ما يوزن به، كالعيش ما يعاش به. أو المكيل.
والموزون. ﴿ وإذا قلتم فاعدلوا ﴾و إذا قلتم في حكم أو شهادة أو رواية و نحو ذلك، فاصدقوا فيه وقولوا الحق. ﴿ و بعهد الله أوفوا ﴾أي أوفوا بما عهد إليكم من هذه الأمور المعدودة، أو أي عهد كان.
﴿ وأن هذا صراطي ﴾أي ولأن هذا –أي المذكور في هاتين الآيتين أو في هذه السورة بأسرها-ديني و طريقي الذي لا اعوجاج فيه فاتبعوه واعملوا به، ولا تتبعوا الطرق الضالة المخالفة له.
﴿ لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون ﴾لعلهم يصدقون بالبعث والجزاء. ﴿ وهذا كتاب ﴾إشارة إلى القرآن﴿ أن تقولوا ﴾أي أنزلنا إليكم القرآن. كراهة أن تقولوا. أو لئلا تقولوا يوم القيامة لو لم ينزله. ﴿ إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا ﴾والخطاب لأهل مكة.
﴿ وصدف عنها ﴾أعرض عنها غير مفكر فيها أو صرف الناس عنها. يقال : صدف عنه- من بابي ضرب و جلس-أعرض. وصدف فلانا و أصدفه عن كذا، صرفه و أماله عنه.
﴿ هل ينظرون ﴾ما ينتظر مشركوا مكة بعد تكذيبهم بالآيات إلا أن تأتيهم ملائكة الموت لقبض أرواحهم﴿ أو يأتي ربك ﴾أي في ظلل من الغمام كما أخبر. أو يأتي أمره بقتلهم، كما فسره ابن عباس. أو بعذابهم، كما فسره الحسن﴿ أو يأتي بعض آيات ربك ﴾أي بعض أشراط الساعة. وفسر في الحديث بطلوع الشمس من مغربها. فمن آمن من شرك أو تاب من معصية عند ظهور بعض الآيات لا يقبل منه، لأنه رجوع اضطراري. كما لو أرسل الله عذابا على قوم فآمنوا أو تابوا، فإنه لا ينفعهم ذلك لمعاينتهم الأهوال و لشدائد التي تضطرهم إلى الإيمان والتوبة. فقوله :﴿ لا ينفع نفسا ﴾كافرة أو مؤمنة ﴿ إيمانها ﴾أي و لا توبتها من المعاصي﴿ لم تكن آمنت من قبل ﴾صفة راجعة إلى الأولى. ﴿ أو كسبت في إيمانها خيرا ﴾راجعة إلى الثانية. والآية وعيد للمكذبين، ويئيس من إيمان مشركي مكة. وتمثيل لحالهم بحال من ينتظر ذلك.
﴿ إن الذين فرقوا دينهم ﴾ : هم المشركون تفرقوا شيعا، فمنهم عبدة الملائكة، ومنهم عبدة الأصنام. وقيل : هم اليهود والنصارى، تفرقوا فرقا يكفر بعضهم بعضا. وقيل : هم أهل الأهواء والبدع من هذه الأمة، تفرقوا شيعا و اختلفوا ضلالا. واختار الطبري التعميم، وهو الأولى.
فكل من فارق دين الإسلام مشركا كان أو يهوديا أو نصرانيا، أو مبتدعا ضالا كالفرق المعروفة التي خلعت ربقة الإسلام، ومنها فرق البهائية والقاديانية والإسماعلية الباطنية- فمحمد صلى الله عليه و سلم بريء منه.
﴿ دينا قيما ﴾مستقيما. والقيم والقيم لغتان بمعنى واحد، و قرئ بهما. ﴿ حنيفا ﴾مائلا عن الأديان الباطلة إلى الدين الحق( راجع آية ١٣٥ البقرة ص ٤٨ ).
﴿ ونسكي ﴾أي عبادتي كلها و تقربي إليه تعالى. وهو من عطف العام على الخاص. وقيل : المراد به ذبائح الحج والعمرة، واختاره الطبري.
﴿ ولا تكسب كل نفس.. ﴾ لا تجترح نفس إثما إلا عليها من حيث عقابه، فلا يؤاخذ سواها به. و كل ذي إثم فهو المعاقب بإثمه، والمأخوذ بذنبه. ﴿ و لا تزر وازرة ﴾ولا تحمل نفس آثمة و لا غير آثمة إثم نفس أخرى حتى تخلص هذه الثانية من وزرها، وإنما تحمل الآثمة إثم ذنبها الذي فعلته بالمباشرة أو التسبب فتعاقب هي عليه، من الوزر، وهو الإثم والثقل. و قيد في الآية بالوازرة موافقة لسبب النزول.
﴿ وهو الذي جعلكم خلائف ﴾أي خلائف من القرون الماضية، فأورثكم أرضهم لتخلفوها فيها و تعمروها بعدهم. جمع خليفة. وكل من جاء بعد من مضى فهو خليفة، لأنه يخلفه. والله أعلم.