تفسير سورة الأنعام

البحر المحيط في التفسير
تفسير سورة سورة الأنعام من كتاب البحر المحيط في التفسير .
لمؤلفه أبو حيان الأندلسي . المتوفي سنة 745 هـ
سورة الأنعام
﴿ الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ﴾ هذه السورة مكية كلها.
وقال الكسائي : إلا آيتين نزلتا بالمدينة وهما ﴿ قل من أنزل الكتاب ﴾ وما يرتبط بها.
وقال ابن عباس : نزلت ليلاً بمكة حولها سبعون ألف ملك يجأرون بالتسبيح، إلا ست آيات قل :﴿ تعالوا أتلُ ﴾ ﴿ وما قدروا الله ﴾ ﴿ ومن أظلم ممن افترى ﴾.
﴿ ولو ترى إذ الظالمون ﴾.
﴿ والذين آتيناهم الكتاب يعلمون ﴾.
﴿ والذين آتيناهم الكتاب يعرفونه ﴾، انتهى.
وعنه أيضاً وعن مجاهد والكلبي إلا ثلاث آيات منها نزلت بالمدينة ﴿ قل تعالوا أتلُ ﴾ إلى قوله ﴿ لعلكم تتقون ﴾ وقال قتادة : إلا ﴿ وما قدروا الله حق قدره ﴾ ﴿ وهو الذي أنشأ ﴾، وذكر ابن العربي أن قوله ﴿ قل لا أجد ﴾ نزل بمكة يوم عرفة.
ومناسبة افتتاح هذه السورة لآخر المائدة أنه تعالى لما ذكر ما قالته النصارى في عيسى وأمه من كونهما إلهين من دون الله، وجرت تلك المحاورة وذكر ثواب ما للصادقين، وأعقب ذلك بأن له ملك السموات والأرض وما فيهنّ وأنه قادر على كل شيء، ذكر بأن الحمد له المستغرق جميع المحامد فلا يمكن أن يثبت معه شريك في الإلهية فيحمد، ثم نبه على العلة المقتضية لجميع المحامد والمقتضية، كون ملك السموات والأرض وما فيهنّ له بوصف ﴿ خلق السموات والأرض ﴾ لأن الموجد للشيء المنفرد باختراعه له الاستيلاء والسلطنة عليه، ولما تقدّم قولهم في عيسى وكفرهم بذلك وذكر الصادقين وجزاءهم أعقب ﴿ خلق السموات والأرض ﴾ ﴿ يجعل الظلمات والنور ﴾ فكان ذلك مناسباً للكافر والصادق

سورة الانعام
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١ الى ١١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (٢) وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (٣) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤)
فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٥) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٦) وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (٨) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (٩)
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١١)
الطِّينُ: مَعْرُوفٌ، يُقَالُ: مِنْهُ طَانَ الْكَتَّانَ يَطِينُهُ وَطِنْهُ يَا هَذَا.
425
الْقَرْنُ الْأُمَّةُ الْمُقْتَرِنَةُ فِي مُدَّةٍ مِنَ الزَّمَانِ، وَمِنْهُ خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي وَأَصْلُهُ الِارْتِفَاعُ عَنِ الشَّيْءِ وَمِنْهُ قَرْنُ الْجَبَلِ، فَسُمُّوا بِذَلِكَ لِارْتِفَاعِ السِّنِّ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ قَرَنْتُ الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ جَعَلْتُهُ بِجَانِبِهِ أَوْ مُوَاجِهًا لَهُ، فَسُمُّوا بِذَلِكَ لِكَوْنِ بَعْضِهِمْ يُقْرَنُ بِبَعْضٍ. وَقِيلَ: سُمُّوا بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ جَمَعَهُمْ زَمَانٌ لَهُ مِقْدَارٌ هُوَ أَكْثَرُ مَا يُقْرَنُ فِيهِ أَهْلُ ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الزَّجَّاجِ وَمُدَّةُ الْقَرْنِ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً قَالَهُ: زُرَارَةُ بْنُ أَوْفَى وَإِيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، أَوْ مِائَةُ سَنَةٍ قَالَهُ الْجُمْهُورُ، وَقَدِ احْتَجُّوا لِذَلِكَ
بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ بِشْرٍ: «تَعِيشُ قَرْنًا» فَعَاشَ مِائَةً وَقَالَ: «أَرَأَيْتَكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ فَإِنَّ عَلَى رَأْسِ مِائَةٍ لَا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ الْيَوْمَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أَحَدٌ».
قَالَ ابْنُ عُمَرَ: يؤيد أنها انخرام ذَلِكَ الْقَرْنِ أَوْ ثَمَانُونَ سَنَةً رَوَاهُ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَوْ سَبْعُونَ سَنَةً حَكَاهُ الْفَرَّاءُ أَوْ سِتُّونَ سَنَةً
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: مُعْتَرَكُ الْمَنَايَا مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إِلَى السَّبْعِينَ أَوْ أَرْبَعُونَ قَالَهُ ابْنُ سِيرِينَ، وَرَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ وَكَذَا حَكَاهُ الزَّهْرَاوِيُّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ ثَلَاثُونَ.
رُوِيَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ أَنَّهُ قَالَ: يَرَوْنَ أَنَّ مَا بَيْنَ الْقَرْنَيْنِ ثَلَاثُونَ، وَحَكَاهُ النَّقَّاشُ أَوْ عِشْرُونَ حَكَاهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ أَوْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ عَامًا أَوِ الْمِقْدَارُ الْوَسَطُ فِي أَعْمَارِ أَهْلِ ذَلِكَ الزَّمَانِ وَهَذَا حَسَنٌ، لِأَنَّ الْأُمَمَ السَّالِفَةَ كَانَ فِيهِمْ مَنْ يَعِيشُ أَرْبَعَمِائَةِ عَامٍ وَثَلَاثَمِائَةٍ وَمَا بَقِيَ عَامٌّ وَمَا فَوْقَ ذَلِكَ وَمَا دُونَهُ، وَهَكَذَا الِاخْتِلَافُ الْإِسْلَامِيُّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. كَأَنَّهُ نَظَرَ إِلَى الطَّرَفِ الْأَقْصَى وَالطَّرَفِ الْأَدْنَى، فَمَنْ نَظَرَ إِلَى الْغَايَةِ قَالَ: مِنَ السِّتِّينَ فَمَا فَوْقَهَا إِلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ وَمَنْ نَظَرَ إِلَى الْأَدْنَى قَالَ: عِشْرُونَ وَثَلَاثُونَ وَأَرْبَعُونَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْقَرْنُ أَنْ يَكُونَ وَفَاةُ الْأَشْيَاخِ ثُمَّ وِلَادَةُ الْأَطْفَالِ، وَيَظْهَرُ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ: وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ وَهَذِهِ يُشِيرُ ابْنُ عَطِيَّةَ إِلَى مَنْ حَدَّدَ بِأَرْبَعِينَ فَمَا دُونَهَا طَبَقَاتٌ وَلَيْسَتْ بِقُرُونٍ. وَقِيلَ: الْقَرْنُ الْقَوْمُ الْمُجْتَمِعُونَ، قُلْتُ: السُّنُونَ أَوْ كَثُرَتْ لِقَوْلِهِ: خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي يَعْنِي أَصْحَابَهُ وَقَالَ قُسٌّ:
فِي الذَّاهِبِينَ الْأَوَّلِينَ مِنَ القرن لَنَا بَصَائِرُ
وَقَالَ آخَرُ:
إِذَا ذَهَبَ الْقَوْمُ الَّذِي كُنْتَ فِيهِمْ وَخُلِّفْتَ فِي قَوْمٍ فَأَنْتَ غَرِيبُ
وَقِيلَ: الْقَرْنُ الزَّمَانُ نَفْسُهُ فَيُقَدَّرُ قَوْلُهُ مِنْ قَرْنٍ مِنْ أَهْلِ قَرْنٍ. التَّمَكُّنُ ضِدُّ التَّعَذُّرِ وَالتَّمْكِينُ مِنَ الشَّيْءِ مَا يَصِحُّ بِهِ الْفِعْلُ مِنَ الْآيَاتِ وَالْقُوَى وَهُوَ أَتَمُّ مِنَ الْأَقْدَارِ، لِأَنَّ الْأَقْدَارَ إِعْطَاءُ الْقُدْرَةِ خَاصَّةً وَالْقَادِرُ عَلَى الشَّيْءِ قَدْ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ الْفِعْلُ لِعَدَمِ الْآلَةِ. وَقِيلَ: التَّمْكِينُ مِنَ الشَّيْءِ إِزَالَةُ الْحَائِلِ بَيْنَ الْمُتَمَكِّنِ وَالْمُمْكَنِ مِنْهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَكَّنَ لَهُ فِي الْأَرْضِ
426
جَعَلَ لَهُ مَكَانًا وَنَحْوُهُ أَرْضٌ لَهُ، وَتَمْكِينُهُ فِي الْأَرْضِ إِثْبَاتُهُ فِيهَا. الْمِدْرَارُ الْمُتَتَابِعُ يُقَالُ: مَطَرٌ مِدْرَارٌ وَعَطَاءٌ مِدْرَارٌ وَهُوَ فِي الْمَطَرِ أَكْثَرُ، وَمِدْرَارٌ مِفْعَالٌ مِنَ الدَّرِّ لِلْمُبَالَغَةِ كَمِذْكَارٍ وَمِئْنَاثٍ وَمِهْذَارٍ لِلْكَثِيرِ ذَلِكَ مِنْهُ. الْإِنْشَاءُ: الْخَلْقُ وَالْإِحْدَاثُ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ، وَكُلُّ مَنِ ابْتَدَأَ شَيْئًا فَقَدْ أَنْشَأَهُ، وَالنَّشَأُ الْأَحْدَاثُ وَاحِدُهُمْ نَاشِئٌ كَقَوْلِكَ: خَادِمٌ وَخَدَمٌ. الْقِرْطَاسُ اسْمٌ لِمَا يُكْتَبُ عَلَيْهِ مِنْ رَقِّ وَوَرَقٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، قَالَ الشَّاعِرُ وَهُوَ زُهَيْرٌ:
لَهَا أَخَادِيدُ مِنْ آثَارِ سَاكِنِهَا كَمَا تَرَدَّدَ فِي قِرْطَاسِهِ الْقَلَمُ
وَلَا يُسَمَّى قِرْطَاسًا إِلَّا إِذَا كَانَ مَكْتُوبًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَكْتُوبًا فَهُوَ طرس وكاغذ وَوَرَقٌ، وَكَسْرُ الْقَافِ أَكْثَرُ اسْتِعْمَالًا وَأَشْهَرُ مِنْ ضَمِّهَا وَهُوَ أَعْجَمِيٌّ وَجَمْعُهُ قَرَاطِيسُ. حَاقَ يَحِيقُ حَيْقًا وَحُيُوقًا وَحَيَقَانًا أَيْ: أَحَاطَ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ: وَلَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي الشَّرِّ. قَالَ الشَّاعِرُ:
فَأَوْطَأَ جَرْدَ الْخَيْلِ عُقْرَ دِيَارِهِمْ وَحَاقَ بِهِمْ مِنْ بَأْسِ ضَبِّهِ حَائِقُ
وَقَالَ الْفَرَّاءُ: حَاقَ بِهِ عَادَ عَلَيْهِ وَبَالُ مَكْرِهِ. وَقَالَ النَّضْرُ: وَجَبَ عَلَيْهِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ:
دَارَ. وَقِيلَ: حَلَّ وَنَزَلَ وَمَنْ جَعَلَهُ مُشْتَقًّا مِنَ الْحَوْقِ وَهُوَ مَا اسْتَدَارَ بِالشَّيْءِ فَلَيْسَ قَوْلُهُ بِصَحِيحٍ، لِاخْتِلَافِ الْمَادَّتَيْنِ وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ: أَصْلُهُ حَقَّ فَأُبْدِلَتِ الْقَافُ الْوَاحِدَةُ يَاءً كَمَا قَالُوا: فِي تَظَنَّنْتُ: تَظَنَّيْتُ لِأَنَّهَا دَعْوَى لَا دَلِيلَ عَلَى صِحَّتِهَا. سَخِرَ منه: هزأ به والسخرى وَالِاسْتِهْزَاءُ وَالتَّهَكُّمُ مَعْنَاهَا مُتَقَارِبٌ. عَاقِبَةُ الشَّيْءِ: مُنْتَهَاهُ وَمَا آلَ إِلَيْهِ.
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: إِلَّا آيَتَيْنِ نَزَلَتَا بِالْمَدِينَةِ وَهُمَا قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ «١» وَمَا يَرْتَبِطُ بِهَا.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ لَيْلًا بِمَكَّةَ حَوْلَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ يَجْأَرُونَ بِالتَّسْبِيحِ، إِلَّا سِتَّ آيَاتٍ قُلْ: تَعالَوْا أَتْلُ وَما قَدَرُوا اللَّهَ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى. وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ. وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ. الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ، انْتَهَى.
وَعَنْهُ أَيْضًا وَعَنْ مُجَاهِدٍ وَالْكَلْبِيِّ إِلَّا ثَلَاثَ آيَاتٍ مِنْهَا نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ إِلَى قَوْلِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ وَقَالَ قَتَادَةُ: إِلَّا وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ، وَذَكَرَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ أَنَّ قَوْلِهِ قُلْ لَا أَجِدُ نَزَلَ بِمَكَّةَ يَوْمَ عَرَفَةَ.
وَمُنَاسَبَةُ افْتِتَاحِ هَذِهِ السُّورَةِ لِآخِرِ الْمَائِدَةِ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ مَا قَالَتْهُ النَّصَارَى فِي عِيسَى وأمه
(١) سورة الأنعام: ١/ ٩١.
427
مِنْ كَوْنِهِمَا إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَجَرَتْ تِلْكَ الْمُحَاوَرَةُ وَذَكَرَ ثَوَابَ مَا لِلصَّادِقِينَ، وَأَعْقَبَ ذَلِكَ بِأَنَّ لَهُ مُلْكَ السموات وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، ذَكَرَ بِأَنَّ الْحَمْدَ لَهُ الْمُسْتَغْرِقَ جَمِيعَ الْمَحَامِدِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَثْبُتَ مَعَهُ شريك في الإلهية فَيُحْمَدَ، ثُمَّ نَبَّهَ عَلَى الْعِلَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِجَمِيعِ الْمَحَامِدِ والمقتضية، كون ملك السموات وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ لَهُ بِوَصْفِ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لِأَنَّ الْمُوجِدَ لِلشَّيْءِ الْمُنْفَرِدَ بِاخْتِرَاعِهِ لَهُ الِاسْتِيلَاءُ وَالسَّلْطَنَةُ عَلَيْهِ.
وَلَمَّا تَقَدَّمَ قَوْلُهُمْ فِي عِيسَى وَكُفْرُهُمْ بِذَلِكَ وَذِكْرُ الصَّادِقِينَ وَجَزَاءُهُمْ أَعْقَبَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ جَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ فَكَانَ ذَلِكَ مُنَاسِبًا لِلْكَافِرِ وَالصَّادِقِ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْحَمْدُ لِلَّهِ فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ وَتَفْسِيرُ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ «١» فِي الْبَقَرَةِ وَجَعَلَ هُنَا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَا يَجُوزُ غَيْرُ ذَلِكَ وتأمل لم خصت السموات والأرض بخلق والظلمات والنور بجعل. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ جَعَلَ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ إِذَا كَانَ بِمَعْنَى أَحْدَثَ وَأَنْشَأَ، كَقَوْلِهِ: جَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ وَإِلَى مَفْعُولَيْنِ إِذَا كَانَ بِمَعْنَى صَيَّرَ كَقَوْلِهِ: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً «٢» وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْخَلْقِ وَالْجَعْلِ، أَنَّ الْخَلْقَ فِيهِ مَعْنَى التَّقْدِيرِ وَفِي الْجَعْلِ مَعْنَى التَّصْيِيرِ كَإِنْشَاءٍ مِنْ شَيْءٍ أَوْ تَصْيِيرِ شَيْءٍ شَيْئًا أَوْ نَقْلِهِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ، وَمِنْ ذَلِكَ... وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها «٣» وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ لِأَنَّ الظُّلُمَاتِ مِنَ الْأَجْرَامِ الْمُتَكَاثِفَةِ وَالنُّورَ مِنَ النَّارِ وجعلناكم أَزْوَاجًا أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا انْتَهَى. وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ جَعَلَ بِمَعْنَى صَيَّرَ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُصَيِّرُوهُمْ إِنَاثًا، وَإِنَّمَا قَالَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ: إِنَّهَا بِمَعْنَى سَمَّى وَقَوْلُ الطَّبَرِيِّ جَعَلَ هُنَا هِيَ الَّتِي تَتَصَرَّفُ فِي طَرَفِ الْكَلَامِ كَمَا تَقُولُ: جَعَلْتُ أَفْعَلُ كَذَا فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَجَعْلُ إِظْلَامِهَا وَإِنَارَتِهَا تَخْلِيطٌ، لِأَنَّ تِلْكَ مِنْ أَفْعَالِ الْمُقَارَبَةِ تَدْخُلُ عَلَى الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ وَهَذِهِ الَّتِي فِي الْآيَةِ تَعَدَّتْ إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، فَهُمَا مُتَبَايِنَانِ مَعْنًى وَاسْتِعْمَالًا وَنَاسَبَ عَطْفُ الصِّلَةِ الثَّانِيَةِ بِمُتَعَلِّقِهَا مِنْ جَمْعِ الظُّلُمَاتِ وَإِفْرَادِ النُّورِ عَلَى الصِّلَةِ الأولى المتعلقة بجمع السموات وَإِفْرَادِ الْأَرْضِ، وَتَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَةِ الْكَلَامُ عَلَى جَمْعِ السموات وَإِفْرَادِ الْأَرْضِ وَجَمْعِ الظُّلُمَاتِ وَإِفْرَادِ النُّورِ وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ هُنَا بِ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ فَقَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَالْجُمْهُورُ: اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الشِّرْكُ وَالنِّفَاقُ وَالْكُفْرُ وَالنُّورُ الْإِسْلَامُ وَالْإِيمَانُ وَالنُّبُوَّةُ وَالْيَقِينُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الكفر
(١) سورة البقرة: ٢/ ١٦٤.
(٢) سورة الزخرف: ٤٣/ ١٩.
(٣) سورة الأعراف: ٧/ ١٨٩.
428
وَالْإِيمَانُ، وَهُوَ تَلْخِيصُ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَاسْتَدَلَّ لِهَذَا بِآيَةِ الْبَقَرَةِ. وَقَالَ قَتَادَةُ أَيْضًا: الْجَنَّةُ وَالنَّارُ خَلَقَ الْجَنَّةَ وَأَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ نُورٍ، وَالنَّارَ وَأَرْوَاحَ الْكَافِرِينَ مِنْ ظُلْمَةٍ، فَيَوْمُ الْقِيَامَةِ يُحْكَمُ لِأَرْوَاحِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْجَنَّةِ لِأَنَّهُمْ مِنَ النُّورِ خُلِقُوا، وَلِلْكَافِرِينَ بِالنَّارِ لِأَنَّهُمْ مِنَ الظُّلْمَةِ خُلِقُوا. وَقِيلَ:
الْأَجْسَادُ وَالْأَرْوَاحُ. وَقِيلَ: شَهَوَاتُ النُّفُوسِ وَأَسْرَارُ الْقُلُوبِ. وَقِيلَ: الْجَهْلُ وَالْعِلْمُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمُرَادُ حَقِيقَةُ الظُّلْمَةِ وَالنُّورِ، لِأَنَّ الزَّنَادِقَةَ كَانَتْ تَقُولُ: اللَّهُ يخلق الضوء وعلى شَيْءٍ حَسَنٍ، وَإِبْلِيسُ يَخْلُقُ الظُّلْمَةَ وَكُلَّ شَيْءٍ قَبِيحٍ فَأُنْزِلَتْ رَدًّا عَلَيْهِمْ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: فِيهِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمَا الْأَمْرَانِ الْمَحْسُوسَانِ وَهَذَا هُوَ الْحَقِيقَةُ. وَالثَّانِي مَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ قَبْلُ وَهُوَ مَجَازٌ. وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: يُحْمَلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ. وَالْمَجَازِ مَعًا لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَيْهِمَا انْتَهَى مُلَخَّصًا.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: لَيْسَتِ الظُّلْمَةُ عِبَارَةً عَنْ كَيْفِيَّةٍ وُجُودِيَّةٍ مُضَادَّةٍ لِلنُّورِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إِذَا جَلَسَ اثْنَانِ بِقُرْبِ السِّرَاجِ وَآخَرُ بِالْبُعْدِ مِنْهُ، فَالْبَعِيدُ يَرَى الْقَرِيبَ وَيَرَى ذَلِكَ الْهَوَاءَ صَافِيًا مُضِيئًا وَالْقَرِيبُ لَا يَرَى الْبَعِيدَ. وَيَرَى ذَلِكَ الْهَوَاءَ مُظْلِمًا، فَلَوْ كَانَتِ الظُّلْمَةُ كَيْفِيَّةً وُجُودِيَّةً لَكَانَتْ حَاصِلَةً بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَذَيْنِ الشَّخْصَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، وَحَيْثُ لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ الظُّلْمَةَ لَيْسَتْ كَيْفِيَّةً وُجُودِيَّةً وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ، فَنَقُولُ: عَدَمُ الْمُحْدَثَاتِ مُتَقَدِّمٌ عَلَى وُجُودِهَا فَالظُّلْمَةُ مُتَقَدِّمَةٌ فِي التَّحْقِيقِ عَلَى النُّورِ فَوَجَبَ تَقْدِيمُهَا عَلَيْهِ فِي اللَّفْظِ، وَمِمَّا يُقَوِّي ذَلِكَ مَا
رُوِيَ فِي الْأَخْبَارِ الْإِلَهِيَّةِ أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ الْخَلْقَ فِي ظُلْمَةٍ ثُمَّ رَشَّ عَلَيْهِمْ مِنْ نُورِهِ.
وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ خَلْقَهُ فِي ظُلْمَةٍ ثُمَّ أَلْقَى عَلَيْهِمُ النُّورَ، فَمَنْ أَصَابَهُ يَوْمَئِذٍ مِنْ ذَلِكَ النُّورِ اهْتَدَى وَمَنْ أَخْطَأَ ضل».
انْتَهَى.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ أَبِي الْفَضْلِ: قَوْلُهُ فِي الظُّلْمَةِ خَطَأٌ بَلْ هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ كَيْفِيَّةٍ وُجُودِيَّةٍ مُضَادَّةٍ لِلنُّورِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ وَالْعَدَمُ لَا يُقَالُ فِيهِ جَعَلَ ثُمَّ كَمَا تَقَرَّرَ فِي اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ أَصْلُهَا لِلْمُهْلَةِ فِي الزَّمَانِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
ثُمَّ دَالَّةٌ عَلَى قُبْحِ فِعِلِ الَّذِينَ كَفَرُوا لِأَنَّ الْمَعْنَى: أَنَّ خَلْقَهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَغَيْرَهَا قَدْ تَقَرَّرَ وَآيَاتِهِ قَدْ سَطَعَتْ وَإِنْعَامَهُ بِذَلِكَ قَدْ تَبَيَّنَ، ثُمَّ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ قَدْ عَدَلُوا بِرَبِّهِمْ فَهَذَا كَمَا تَقُولُ: يَا فُلَانُ أَعْطَيْتُكَ وَأَكْرَمْتُكَ وَأَحْسَنْتُ إِلَيْكَ، ثُمَّ تَشْتُمُنِي أَيْ بَعْدَ وُضُوحِ هَذَا كُلِّهِ وَلَوْ وَقَعَ الْعَطْفُ فِي هَذَا وَنَحْوِهِ بِالْوَاوِ، لَمْ يَلْزَمِ التَّوْبِيخُ كَلُزُومِهِ بِ ثُمَّ انْتَهَى.
429
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : فَمَا مَعْنَى ثُمَّ؟ (قُلْتُ) : اسْتِبْعَادُ أَنْ يَعْدِلُوا بِهِ بَعْدَ وُضُوحِ آيَاتِ قُدْرَتِهِ وَكَذَلِكَ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ اسْتِبْعَادُ لِأَنْ تَمْتَرُوا فِيهِ بَعْدَ مَا ثَبَتَ أَنَّهُ مُحْيِيهِمْ وَمُمِيتُهُمْ وَبَاعِثُهُمُ انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ عَطِيَّةَ مِنْ أَنَّ ثُمَّ لِلتَّوْبِيخِ، وَالزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ أَنَّ ثُمَّ لِلِاسْتِبْعَادِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّ ثُمَّ لَمْ تُوضَعْ لِذَلِكَ، وَإِنَّمَا التَّوْبِيخُ أَوِ الِاسْتِبْعَادُ مَفْهُومٌ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ لَا مِنْ مَدْلُولِ، ثُمَّ وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنَ النَّحْوِيِّينَ ذَكَرَ ذَلِكَ بَلْ ثُمَّ هُنَا لِلْمُهْلَةِ فِي الزَّمَانِ وَهِيَ عَاطِفَةٌ جُمْلَةً اسْمِيَّةً عَلَى جُمْلَةٍ اسْمِيَّةٍ، أَخْبَرَ تَعَالَى بِأَنَّ الْحَمْدَ لَهُ وَنَبَّهَ عَلَى الْعِلَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْحَمْدِ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ وَهِيَ خلق السموات وَالْأَرْضِ وَالظُّلُمَاتِ وَالنُّورِ ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ الْكَافِرِينَ بِهِ يَعْدِلُونَ فَلَا يَحْمَدُونَهُ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ (فَإِنْ قُلْتَ) : عَلَامَ عُطِفَ قَوْلِهِ: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا.
(قُلْتُ) : إِمَّا عَلَى قَوْلِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ اللَّهَ حَقِيقٌ بِالْحَمْدِ عَلَى مَا خَلَقَ، لِأَنَّهُ مَا خَلَقَهُ إِلَّا نِعْمَةً ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ فَيَكْفُرُونَ نِعَمَهُ وَإِمَّا عَلَى قَوْلِهِ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ خَلَقَ مَا خَلَقَ، مِمَّا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَحَدٌ سِوَاهُ ثُمَّ هُمْ يَعْدِلُونَ بِهِ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ مِنْهُ انْتَهَى. وَهَذَا الْوَجْهُ الثَّانِي الَّذِي جَوَّزَهُ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُ إِذْ ذَاكَ يَكُونُ مَعْطُوفًا عَلَى الصِّلَةِ وَالْمَعْطُوفُ عَلَى الصِّلَةِ صِلَةٌ، فَلَوْ جَعَلْتَ الْجُمْلَةَ مِنْ قَوْلِهِ: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا صِلَةً لَمْ يَصِحَّ هَذَا التَّرْكِيبُ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا رَابِطٌ يَرْبُطُ الصِّلَةَ بِالْمَوْصُولِ، إِلَّا إِنْ خُرِّجَ عَلَى قَوْلِهِمْ أَبُو سَعِيدٍ الَّذِي رَوَيْتُ عَنِ الْخُدْرِيِّ يُرِيدُ رَوَيْتُ عَنْهُ فَيَكُونُ الظَّاهِرُ قَدْ وَقَعَ مَوْقِعَ الْمُضْمَرِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِهِ يَعْدِلُونَ وَهَذَا مِنَ النُّدُورِ، بِحَيْثُ لَا يُقَاسُ عليه ولا يُحْمَلُ كِتَابُ اللَّهِ عَلَيْهِ مَعَ تَرْجِيحِ حَمْلِهِ عَلَى التَّرْكِيبِ الصَّحِيحِ الْفَصِيحِ، والَّذِينَ كَفَرُوا الظَّاهِرُ فِيهِ الْعُمُومُ فَيَنْدَرِجُ فِيهِ عَبْدَةُ الْأَصْنَامِ وَأَهْلُ الْكِتَابِ، عَبَدَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحَ وَالْيَهُودُ عُزَيْرًا وَاتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَجُوسُ عَبَدُوا النَّارَ وَالْمَانَوِيَّةُ عَبَدُوا النُّورَ، وَمَنْ خَصَّصَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْمَانَوِيَّةِ كَقَتَادَةَ أَوْ بِعَبَدَةِ الْأَصْنَامِ أَوْ بِالْمَجُوسِ حَيْثُ قَالُوا: الْمَوْتُ مِنْ أَهْرَمَنْ وَالْحَيَاةُ مِنَ اللَّهِ، أَوْ بِأَهْلِ الْكِتَابِ كَابْنِ أَبِي أَبْزَى فَلَا يَظْهَرُ لَهُ دَلِيلٌ عَلَى التَّخْصِيصِ وَالْبَاءُ فِي بِرَبِّهِمْ يُحْتَمَلُ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِ يَعْدِلُونَ وَتَكُونُ الْبَاءُ بِمَعْنَى عَنْ أَيْ: يَعْدِلُونَ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ مِمَّا لَا يَخْلُقُ وَلَا يَقْدِرُ، أَوْ يَكُونُ الْمَعْنَى يَعْدِلُونَ بِهِ غَيْرَهُ أَيْ: يُسَوُّونَ بِهِ غَيْرَهُ فِي اتِّخَاذِهِ رَبًّا وَإِلَهًا وَفِي الْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ وَعَدْلُ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ التَّسْوِيَةُ بِهِ، وَفِي الْآيَةِ رَدٌّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ فِي قَوْلِهِمْ: الْخَيْرَ مِنَ اللَّهِ وَالشَّرَّ مِنَ الْإِنْسَانِ فَعَدَلُوا بِهِ غَيْرَهُ فِي الْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ.
430
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ظَاهِرُهُ أَنَّا مَخْلُوقُونَ مِنْ طِينٍ، وَذَكَرَ ذَلِكَ الْمَهْدَوِيُّ وَمَكِّيُّ وَالزَّهْرَاوِيُّ عَنْ فِرْقَةٍ فَالنُّطْفَةُ الَّتِي يُخْلَقُ مِنْهَا الْإِنْسَانُ أَصْلُهَا مِنْ طِينٍ ثُمَّ يَقْلِبُهَا اللَّهُ نُطْفَةً. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا يَتَرَتَّبُ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: يَرْجِعُ بَعْدَ التَّوَلُّدِ وَالِاسْتَحَالَاتِ الْكَثِيرَةِ نُطْفَةً وَذَلِكَ مَرْدُودٌ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ انْتَهَى. وَقَالَ النَّحَّاسُ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ النُّطْفَةُ خَلَقَهَا اللَّهُ مِنْ طِينٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ ثُمَّ قَلَبَهَا حَتَّى كَانَ الْإِنْسَانُ مِنْهَا انْتَهَى.
وَقَدْ رَوَى أَبُو نُعَيْمٍ الْحَافِظُ عَنْ بريد بْنِ مَسْعُودٍ حَدِيثًا فِي الْخَلْقِ آخِرُهُ: «وَيَأْخُذُ التُّرَابَ الَّذِي يُدْفَنُ فِي بُقْعَتِهِ وَيَعْجِنُ بِهِ نُطْفَتَهُ»،
فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ «١» الْآيَةَ.
وَخُرِّجَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلَّا وَقَدْ دَرَّ عَلَيْهِ مِنْ تُرَابِ حُفْرَتِهِ».
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ مَا مُلَخَّصُهُ: وَعِنْدِي فِيهِ وَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ أَنْ الْإِنْسَانَ مَخْلُوقٌ مِنَ الْمَنِيِّ وَمِنْ دَمِ الطَّمْثِ الْمُتَوَلِّدَيْنِ مِنَ الْأَغْذِيَةِ، وَالْأَغْذِيَةُ حَيَوَانِيَّةٌ وَالْقَوْلُ فِي كَيْفِيَّةِ تَوَلُّدِهَا، كَالْقَوْلِ فِي الْإِنْسَانِ أَوْ نَبَاتِيَّةٌ فَثَبَتَ تَوَلُّدُ الْإِنْسَانِ مِنَ النَّبَاتِيَّةِ وَهِيَ مُتَوَلِّدَةٌ مِنَ الطِّينِ فَكُلُّ إِنْسَانٍ مُتَوَلِّدٌ. مِنَ الطِّينِ وَهَذَا الْوَجْهُ أَقْرَبُ إِلَى الصَّوَابِ انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَ أَنَّهُ عِنْدَهُ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى الصَّوَابِ، هُوَ بَسْطُ مَا حَكَاهُ الْمُفَسِّرُونَ عَنْ فِرْقَةٍ. وَقَالَ فِيهِ ابْنُ عَطِيَّةَ: هُوَ مَرْدُودٌ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ يَعْنِي الْقَوْلَ: بِالتَّوَالُدِ وَالِاسْتَحَالَاتِ وَالَّذِي هُوَ مَشْهُورٌ عِنْدَ الْمُفَسِّرِينَ، أَنَّ الْمَخْلُوقَ مِنَ الطِّينِ هُنَا هُوَ آدَمُ. قَالَ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُهُمْ: الْمَعْنَى خُلِقَ آدَمُ مِنْ طِينٍ وَالْبَشَرُ مِنْ آدَمَ فَلِذَلِكَ قَالَ:
خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ
وَذَكَرَ ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «النَّاسُ وَلَدُ آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ».
وَقَالَ بَعْضُ شعراء الجاهلية:
إِلَى عِرْقِ الثَّرَى وَشَجَتْ عروقي وهذا الموت يسلبني شَبَابِي
وَفَسَّرَهُ الشُّرَّاحُ بِأَنَّ عِرْقَ الثَّرَى هُوَ آدَمُ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ التَّأْوِيلُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ إِمَّا فِي خَلَقَكُمْ أَيْ خَلَقَ أَصْلَكُمْ، وَإِمَّا فِي مِنْ طِينٍ أَيْ مِنْ عِرْقِ طِينٍ وَفَرْعِهِ.
ثُمَّ قَضى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ قَضى إِنْ كَانَتْ هُنَا بِمَعْنَى قَدَّرَ وَكَتَبَ، كَانَتْ ثُمَّ هُنَا لِلتَّرْتِيبِ فِي الذِّكْرِ لَا فِي الزَّمَانِ لِأَنَّ ذَلِكَ سَابِقٌ عَلَى خَلْقِنَا، إِذْ هِيَ صِفَةُ ذَاتٍ وَإِنْ كَانَتْ بِمَعْنَى أَظْهَرَ، كَانَتْ لِلتَّرْتِيبِ الزَّمَانِيِّ عَلَى أَصْلِ وَضْعِهَا، لِأَنَّ ذَلِكَ مُتَأَخِّرٌ عَنْ خَلْقِنَا فَهِيَ صِفَةُ فِعْلٍ وَالظَّاهِرُ مِنْ تَنْكِيرِ الْأَجَلَيْنِ أَنَّهُ تَعَالَى أبهم أمرهما. وقال
(١) سورة طه: ٢٠/ ٥٥.
431
الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَخَصِيفٌ وَقَتَادَةُ: الْأَوَّلُ أَجَلُ الدُّنْيَا مِنْ وَقْتِ الْخَلْقِ إِلَى الْمَوْتِ، وَالثَّانِي أَجَلُ الْآخِرَةِ لِأَنَّ الْحَيَاةَ فِي الْآخِرَةِ لَا انْقِضَاءَ لَهَا، وَلَا يَعْلَمُ كَيْفِيَّةَ الْحَالِ فِي هَذَا الْأَجَلِ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْأَوَّلَ هُوَ وَفَاتُهُ بِالنَّوْمِ وَالثَّانِي بِالْمَوْتِ. وَقَالَ أَيْضًا: الْأَوَّلُ أَجَلُ الدُّنْيَا وَالثَّانِي الْآخِرَةُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا: الْأَوَّلُ الْآخِرَةُ. وَالثَّانِي الدُّنْيَا.
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْأَوَّلُ هُوَ فِي وَقْتِ أَخَذَ الْمِيثَاقَ عَلَى بَنِي آدَمَ حِينَ اسْتَخْرَجَهُمْ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ، وَالْمُسَمَّى فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: الْأَوَّلُ أَجَلُ الْمَاضِينَ، وَالثَّانِي أَجَلُ الْبَاقِينَ، وَوَصَفَهُ بِأَنَّهُ مُسَمًّى عِنْدَهُ لِأَنَّهُ تَعَالَى مُخْتَصٌّ بِهِ بِخِلَافِ الْمَاضِينَ، فَإِنَّهُمْ لَمَّا مَاتُوا عُلِمَتْ آجَالُهُمْ. وَقِيلَ: الْأَوَّلُ مَا بَيْنَ أَنْ يُخْلَقَ إِلَى أَنْ يَمُوتَ، وَالثَّانِي مَا بَيْنَ الْمَوْتِ وَالْبَعْثِ، وَهُوَ الْبَرْزَخُ. وَقِيلَ: الْأَوَّلُ مِقْدَارُ مَا انْقَضَى مِنْ عُمْرِ كُلِّ إِنْسَانٍ، وَالثَّانِي مِقْدَارُ مَا بَقِيَ. وَقِيلَ: الْأَوَّلُ أَجَلُ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ، وَالثَّانِي أَجَلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَقِيلَ: الْأَوَّلُ مَا عَلِمْنَاهُ أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالثَّانِي مِنَ الْآخِرَةِ، وَقِيلَ: الْأَوَّلُ مَا عَرَفَ النَّاسُ مِنْ آجَالِ الْأَهِلَّةِ وَالسِّنِينَ وَالْكَوَائِنِ، وَالثَّانِي قِيَامُ السَّاعَةِ. وَقِيلَ: الْأَوَّلُ مِنْ أَوْقَاتِ الْأَهِلَّةِ وَمَا أَشْبَهَهَا، وَالثَّانِي مَوْتُ الْإِنْسَانِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ أَيْضًا قَضى أَجَلًا بِانْقِضَاءِ الدُّنْيَا وَالثَّانِي لِابْتِدَاءِ الْآخِرَةِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: لِكُلِّ أَحَدٍ أَجَلَانِ، فَإِنْ كَانَ تَقِيًّا وَصُوَلًا لِلرَّحِمِ زِيدَ لَهُ مِنْ أَجَلِ الْبَعْثِ فِي أَجَلِ الْعُمْرِ، وَإِنْ كَانَ بِالْعَكْسِ نُقِصَ مِنْ أَجَلِ الْعُمْرِ وَزِيدَ فِي أَجَلِ الْبَعْثِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: لِكُلِّ إِنْسَانٍ أَجَلَانِ الطَّبِيعِيُّ وَالِاخْتَرَامِيُّ.
فَالطَّبِيعِيُّ: هُوَ الَّذِي لَوْ بَقِيَ ذَلِكَ الْمِزَاجُ مَصُونًا عَنِ الْعَوَارِضِ الْخَارِجَةِ لَانْتَهَتْ مُدَّةُ بَقَائِهِ إِلَى الْأَوْقَاتِ الْفَلَكِيَّةِ. وَالِاخْتَرَامِيُّ: هُوَ الَّذِي يَحْصُلُ بِسَبَبِ الْأَسْبَابِ الْخَارِجِيَّةِ كَالْحَرْقِ وَالْغَرَقِ وَلَدْغِ الْحَشَرَاتِ، وَغَيْرِهَا مِنَ الْأُمُورِ الْمُنْفَصِلَةِ، انْتَهَى. وَهَذَا قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ وَهُوَ نَقَلَهُ عَنْهُمْ وَقَالَ: هَذَا قَوْلُ حُكَمَاءِ الْإِسْلَامِ، انْتَهَى وَمَعْنَى مُسَمًّى عِنْدَهُ مَعْلُومٌ عِنْدَهُ أَوْ مَذْكُورٌ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَعِنْدَهُ مَجَازٌ عَنْ عِلْمِهِ وَلَا يُرَادُ بِهِ الْمَكَانُ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : الْمُبْتَدَأُ النَّكِرَةُ إِذَا كَانَ خَبَرُهُ ظرفا وجب تقديمه فلم جَازَ تَقْدِيمُهُ فِي قَوْلِهِ: وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ.
(قُلْتُ) : لِأَنَّهُ تَخْصِيصٌ بِالصِّفَةِ فَقَارَبَ الْمَعْرِفَةَ، كَقَوْلِهِ: وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ «١» انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ مُسَوِّغِ الِابْتِدَاءِ بِالنَّكِرَةِ لِكَوْنِهَا وُصِفَتْ لَا يَتَعَيَّنُ هُنَا
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢٢١.
432
أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُسَوِّغَ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُسَوِّغُ هُوَ التَّفْصِيلَ لِأَنَّ مِنْ مُسَوِّغَاتِ الِابْتِدَاءِ بِالنَّكِرَةِ، أَنْ يَكُونَ الْمَوْضِعُ مَوْضِعَ تَفْصِيلٍ نَحْوَ قَوْلِهِ:
إِذَا مَا بَكَى مِنْ خَلْفِهَا انْحَرَفَتْ لَهُ بِشِقٍّ وَشِقٌّ عِنْدَنَا لَمْ يُحَوَّلِ
وَقَدْ سَبَقَ كَلَامُنَا عَلَى هَذَا الْبَيْتِ وَبَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَنَا فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ، بَلْ يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : الْكَلَامُ السَّائِرُ أَنْ يُقَالَ: عِنْدِي ثَوْبٌ جَيِّدٌ وَلِي عَبْدٌ كَيِّسٌ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
(قُلْتُ) : أَوْجَبَهُ أَنَّ الْمَعْنَى وَأَيُّ أَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ تَعْظِيمًا لِشَأْنِ السَّاعَةِ فَلَمَّا جَرَى فِيهِ هَذَا الْمَعْنَى وَجَبَ التَّقْدِيمُ انْتَهَى. وَهَذَا لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ التَّقْدِيرُ وَأَيُّ أَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ كَانَتْ أَيٌّ صِفَةً لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ وَأَجَلٌ أَيُّ أَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ وَلَا يَجُوزُ حَذْفُ الصِّفَةِ إِذَا كَانَتْ أَيًّا وَلَا حَذْفُ مَوْصُوفِهَا وَإِبْقَاؤُهَا، فَلَوْ قُلْتَ مَرَرْتُ بِأَيِّ رَجُلٍ تُرِيدُ بِرَجُلٍ أَيِّ رَجُلٍ لَمْ يَجُزْ، وتَمْتَرُونَ مَعْنَاهُ تَشُكُّونَ أَوْ تُجَادِلُونَ جِدَالَ الشَّاكِّينَ، وَالتَّمَّارِي الْمُجَادَلَةُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّكِّ قَالَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ. وَالْكَلَامُ فِي ثُمَّ هُنَا كَالْكَلَامِ فِيهَا فِي قَوْلِهِ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ قَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ عَلَى جِهَةِ الْخِطَابِ، هُوَ الْتِفَاتٌ مِنَ الْغَائِبِ الَّذِي هُوَ قَوْلِهِ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَإِنْ كَانَ الْخَلْقُ وَقَضَاءُ الْأَجَلِ لَيْسَ مُخْتَصًّا بِالْكُفَّارِ إِذِ اشْتَرَكَ فِيهِ الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ، لَكِنَّهُ قُصِدَ بِهِ الْكَافِرُ تَنْبِيهًا لَهُ عَلَى أَصْلِ خَلْقِهِ وَقَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ وَقُدْرَتِهِ، وَإِنَّمَا قُلْتُ أَنَّهُ مِنْ بَابِ الِالْتِفَاتِ لِأَنَّ قَوْلَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَنْدَرِجَ فِي هَذَا الْخِطَابِ مِنَ اصْطَفَاهُ اللَّهُ بِالنُّبُوَّةِ وَالْإِيمَانِ.
وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ لَمَّا تَقَدَّمَ مَا يَدُلُّ عَلَى الْقُدْرَةِ التَّامَّةِ وَالِاخْتِيَارِ، ذَكَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى الْعِلْمِ التَّامِّ فَكَانَ فِي التَّنْبِيهِ عَلَى هَذِهِ الْأَوْصَافِ دَلَالَةٌ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى قَادِرًا مُخْتَارًا عَالِمًا بِالْكُلِّيَّاتِ وَالْجُزْئِيَّاتِ وَإِبْطَالًا لِشُبَهِ مُنْكِرِ الْمَعَادِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هُوَ ضَمِيرٌ عَائِدٌ عَلَى مَا عَادَتْ عَلَيْهِ الضَّمَائِرُ قَبْلَهُ، وَهُوَ اللَّهُ وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ قَالَهُ الْكِرْمَانِيُّ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: هُوَ ضَمِيرُ الشَّأْنِ واللَّهُ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَا بَعْدَهُ، وَالْجُمْلَةُ مُفَسِّرَةٌ لِضَمِيرِ الشَّأْنِ وَإِنَّمَا فَرَّ إلى هذه لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ ضَمِيرَ الشَّأْنِ، كَانَ عَائِدًا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَيَصِيرُ التقدير الله واللَّهُ فَيَنْعَقِدُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ مِنَ اسْمَيْنِ مُتَّحِدَيْنِ لَفْظًا وَمَعْنًى لَا نِسْبَةَ بَيْنَهُمَا إِسْنَادِيَّةً، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ فَلِذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ تَأَوَّلَ. أَبُو عَلِيٍّ الْآيَةَ عَلَى
433
أَنَّ الضَّمِيرَ ضَمِيرُ الْأَمْرِ واللَّهُ خَبَرُهُ يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ مُتَعَلِّقٌ بيعلم وَالتَّقْدِيرُ اللَّهُ يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ.
ذَهَبَ الزَّجَّاجُ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ: فِي السَّماواتِ مُتَعَلِّقٌ بِمَا تَضَمَّنَهُ اسْمُ اللَّهِ مِنَ الْمَعَانِي، كَمَا يُقَالُ: أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الْخَلِيفَةُ فِي الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا عِنْدِي أَفْضَلُ الْأَقْوَالِ وَأَكْثَرُهَا إِحْرَازًا لِفَصَاحَةِ اللَّفْظِ وَجَزَالَةِ الْمَعْنَى وَإِيضَاحِهِ أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يدل على خلقه وإيثار قُدْرَتِهِ وَإِحَاطَتِهِ وَاسْتِيلَائِهِ، وَنَحْوَ هَذِهِ الصِّفَاتِ فَجَمَعَ هَذِهِ كُلَّهَا فِي قَوْلِهِ وَهُوَ اللَّهُ أَيِ الَّذِي لَهُ هَذِهِ كُلُّهَا فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ كَأَنَّهُ قَالَ: وَهُوَ الْخَالِقُ الرَّازِقُ وَالْمُحْيِي المحيط في السموات وَفِي الْأَرْضِ كَمَا تَقُولُ: زَيْدٌ السُّلْطَانُ فِي الشَّامِ وَالْعِرَاقِ، فَلَوْ قَصَدْتَ ذَاتَ زَيْدٍ لَقُلْتَ مُحَالًا وَإِذَا كَانَ مَقْصِدُ قَوْلِكَ زَيْدٌ السُّلْطَانُ الْآمِرُ النَّاهِي النَّاقِضُ الْمُبْرِمُ الَّذِي يَعْزِلُ وَيُوَلِّي فِي الشَّامِ وَالْعِرَاقِ، فَأَقَمْتَ السُّلْطَانَ مَقَامَ هَذِهِ كُلِّهَا كَانَ فَصِيحًا صَحِيحًا فَكَذَلِكَ فِي الْآيَةِ أَقَامَ لَفْظَةَ اللَّهُ مَقَامَ تِلْكَ الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ انْتَهَى. وَمَا ذَكَرَهُ الزَّجَّاجُ وَأَوْضَحَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ صَحِيحٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، لَكِنَّ صِنَاعَةَ النَّحْوِ لَا تُسَاعِدُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُمَا زَعَمَا أَنَّ فِي السَّماواتِ مُتَعَلِّقٌ بِلَفْظِ اللَّهُ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الْمَعَانِي وَلَا تَعْمَلُ تِلْكَ الْمَعَانِي جَمِيعُهَا فِي اللَّفْظِ، لِأَنَّهُ لَوْ صُرِّحَ بِهَا جَمِيعِهَا لَمْ تَعْمَلْ فِيهِ بَلِ الْعَمَلُ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ لِوَاحِدٍ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَ فِي السَّماواتِ مُتَعَلِّقًا بِهَا جَمِيعِهَا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، بَلِ الْأَوْلَى أَنْ يَعْمَلَ فِي الْمَجْرُورِ مَا تَضَمَّنَهُ لَفْظُ اللَّهُ مِنْ مَعْنَى الْأُلُوهِيَّةِ وَإِنْ كَانَ لَفْظُ اللَّهُ عَلَمًا لِأَنَّ الظَّرْفَ وَالْمَجْرُورَ قَدْ يَعْمَلُ فِيهِمَا الْعَلَمُ بِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الْمَعْنَى كَمَا قَالَ: أَنَا أَبُو الْمِنْهَالِ بَعْضَ الأحيان. فبعض مَنْصُوبٌ بِمَا تَضَمَّنَهُ أَبُو الْمِنْهَالِ كَأَنَّهُ قَالَ أَنَا الْمَشْهُورُ بَعْضَ الْأَحْيَانِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ نَحْوًا مِنْ هَذَا قَالَ: فِي السَّماواتِ مُتَعَلِّقٌ بِمَعْنَى اسْمِ اللَّهِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَهُوَ الْمَعْبُودُ فِيهِمَا وَمِنْهُ قَوْلُهُ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ «١» أَيْ: وَهُوَ الْمَعْرُوفُ بِالْإِلَهِيَّةِ أَوِ الْمُتَوَحِّدُ بِالْإِلَهِيَّةِ فِيهَا، أَوْ هُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: اللَّهُ فِيهَا لَا يُشْرَكُ فِي هَذَا الِاسْمِ انْتَهَى، فَانْظُرْ تَقَادِيرَهُ كُلَّهَا كَيْفَ قَدَّرَ الْعَامِلَ وَاحِدًا مِنَ الْمَعَانِي لَا جَمِيعِهَا، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ هُوَ عَلَى تَقْدِيرِ صِفَةٍ حُذِفَتْ وَهِيَ مُرَادَةٌ فِي الْمَعْنَى، كَأَنَّهُ قِيلَ: هُوَ اللَّهُ الْمَعْبُودُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ وَقَدَّرَهَا بَعْضُهُمْ وَهُوَ اللَّهُ الْمُدَبِّرُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: وَهُوَ اللَّهُ تَمَّ الْكَلَامُ هُنَا. ثُمَّ اسْتَأْنَفَ مَا بَعْدَهُ وَتَعَلَّقَ الْمَجْرُورُ ب يَعْلَمُ
(١) سورة الزخرف: ٤٣/ ٨٤.
434
وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: وَهُوَ اللَّهُ تام وفِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ مُتَعَلِّقٌ بِمَفْعُولِ يَعْلَمُ وَهُوَ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَالتَّقْدِيرُ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وجهركم في السموات وَفِي الْأَرْضِ، وَهَذَا يَضْعُفُ لِأَنَّ فِيهِ تَقْدِيمَ مَفْعُولِ الْمَصْدَرِ الْمَوْصُولِ عَلَيْهِ وَالْعَجَبُ مِنَ النَّحَّاسِ حَيْثُ قَالَ: هَذَا مِنْ أَحْسَنِ مَا قِيلَ فِيهِ، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: هُوَ ضَمِيرُ الْأَمْرِ وَاللَّهُ مَرْفُوعٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَخَبَرُهُ فِي السَّماواتِ وَالْجُمْلَةُ خَبَرٌ عَنْ ضَمِيرِ الْأَمْرِ وَتَمَّ الْكَلَامُ. ثُمَّ اسْتَأْنَفَ فَقَالَ: وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ أَيْ: وَيَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ نَحْوًا مِنْ هَذَا إِلَّا أَنَّ هُوَ عَائِدٌ عَلَى مَا عَادَتْ عَلَيْهِ الضَّمَائِرُ قَبْلُ وَلَيْسَ ضَمِيرَ الْأَمْرِ. وَقِيلَ: يَتَعَلَّقُ فِي السَّماواتِ بِقَوْلِهِ: تَكْسِبُونَ هَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ مَا مَوْصُولَةٌ بِ تَكْسِبُونَ وَسَوَاءٌ كَانَتْ حَرْفًا مَصْدَرِيًّا أَمِ اسْمًا بِمَعْنَى الَّذِي، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزَ تَقْدِيمُ مَعْمُولِ الصِّلَةِ عَلَى الْمَوْصُولِ. وَقِيلَ فِي السَّماواتِ حَالٌ مِنَ الْمَصْدَرِ الَّذِي هُوَ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ تَقَدَّمَ عَلَى ذِي الْحَالِ وَعَلَى الْعَامِلِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ اللَّهُ وأنه في السموات وَالْأَرْضِ بِمَعْنَى أَنَّهُ عَالِمٌ بِمَا فِيهِمَا، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْهُ كَأَنَّ ذَاتَهُ فِيهَا وَهُوَ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الْمَجْرُورَ بفي لَا يَدُلُّ عَلَى وَصْفٍ خَاصٍّ إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنٍ مُطْلَقٍ وَعَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ يَنْبَنِي إِعْرَابُ هَذِهِ الْآيَةِ، وَإِنَّمَا ذَهَبَ أَهْلُ الْعِلْمِ إِلَى هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ وَالْخُرُوجِ عَنْ ظَاهِرِ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ لِمَا قَامَ عَلَيْهِ دَلِيلُ الْعَقْلِ مِنِ اسْتِحَالَةِ حُلُولِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْأَمَاكِنِ وَمُمَاسَّةِ الْإِجْرَامِ وَمُحَاذَاتِهِ لَهَا وَتَحَيُّزِهِ فِي جِهَةٍ، قَالَ مَعْنَاهُ وَبَعْضَ لَفْظِهِ ابْنُ عَطِيَّةَ وَفِي قَوْلِهِ: يَعْلَمُ سِرَّكُمْ إِلَى آخِرِهِ خَبَرٌ فِي ضِمْنِهِ تَحْذِيرٌ وَزَجْرٌ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: الْمُرَادُ بِالسِّرِّ صِفَاتُ الْقُلُوبِ وَهُوَ الدَّوَاعِي وَالصَّوَارِفُ وَبِالْجَهْرِ أَعْمَالُ الْجَوَارِحِ وَقُدِّمَ السِّرُّ لِأَنَّ ذِكْرَ الْمُؤَثِّرِ فِي الْفِعْلِ هُوَ مَجْمُوعُ الْقُدْرَةِ مَعَ الدَّاعِي، فَالدَّاعِيَةُ الَّتِي هِيَ مِنْ بَابِ السِّرِّ هِيَ الْمُؤَثِّرَةُ فِي أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ الْمُسَمَّاةِ بِالْجَهْرِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْعِلْمَ بِالْعِلَّةِ عِلَّةُ الْعِلْمِ بِالْمَعْلُولِ وَالْعِلَّةُ مُتَقَدِّمَةٌ عَلَى الْمَعْلُولِ وَالْمُقَدَّمُ بِالذَّاتِ يَجِبُ تَقْدِيمُهُ بِحَسَبِ اللفظ، انتهى.
وقال التَّبْرِيزِيُّ: مَعْنَاهُ يَعْلَمُ مَا تُخْفُونَهُ مِنْ أَعْمَالِكُمْ وَنِيَّاتِكُمْ وَمَا تُظْهِرُونَ مِنْ أَعْمَالِكُمْ وَمَا تَكْسِبُونَ، عَامٌّ لِجَمِيعِ الِاعْتِقَادَاتِ وَالْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ وَكَسْبُ كُلِّ إِنْسَانٍ عَمَلُهُ الْمُفْضِي بِهِ إِلَى اجْتِلَابِ نَفْعٍ أَوْ دَفْعِ ضُرٍّ وَلِهَذَا لَا يُوصَفْ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: وَفِي أَوَّلِ كَلَامِهِ شَيْءٌ مِنْ مَعْنَى كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ يَجِبُ حَمْلُ قَوْلِهِ: مَا تَكْسِبُونَ عَلَى مَا يَسْتَحِقُّهُ الْإِنْسَانُ عَلَى فِعْلِهِ مِنْ ثَوَابٍ وَعِقَابٍ، فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُكْتَسَبِ كَمَا يُقَالُ هَذَا
435
الْمَالُ كَسْبُ فُلَانٍ أَيْ مُكْتَسَبُهُ، وَلَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى نَفْسِ الْكَسْبِ وَإِلَّا لَزِمَ عَطْفُ الشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ رَدٌّ عَلَى الْمُعَطِّلَةِ وَالثَّنَوِيَّةِ وَالْحَشَوِيَّةِ وَالْفَلَاسِفَةِ انْتَهَى.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : كَيْفَ مَوْقِعُ قَوْلِهِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ (قُلْتُ) :
إِنْ أَرَادَ الْمُتَوَحِّدُ بِالْإِلَهِيَّةِ كَانَ تَقْرِيرًا لَهُ، لِأَنَّ الَّذِي اسْتَوَى فِي عِلْمِهِ السِّرُّ وَالْعَلَانِيَةُ، هُوَ اللَّهُ وَحْدَهُ وَكَذَلِكَ إِذَا جَعَلْتَ فِي السَّماواتِ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ وَإِلَّا فَهُوَ كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ أَوْ خَبَرٌ ثَالِثٌ، انْتَهَى، وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُجِيزُ أَنْ يَكُونَ لِلْمُبْتَدَأِ أَخْبَارٌ مُتَعَدِّدَةٌ.
وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ مِنْ الْأُولَى زَائِدَةٌ لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ، وَمَعْنَى الزِّيَادَةِ فِيهَا أَنَّ مَا بَعْدَهَا مَعْمُولٌ لِمَا قَبْلَهَا فَاعِلٌ بِقَوْلِهِ تَأْتِيهِمْ فَإِذَا كَانَتِ النَّكِرَةُ بَعْدَهَا مِمَّا لَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي النَّفْيِ الْعَامِّ، كَانَتْ مِنْ لِتَأْكِيدِ الِاسْتِغْرَاقِ نَحْوَ مَا فِي الدَّارِ مِنْ أَحَدٍ، وَإِذَا كَانَتْ مِمَّا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهَا الِاسْتِغْرَاقُ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهَا نَفْيُ الْوَحْدَةِ أَوْ نَفْيُ الْكَمَالِ كَانَتْ مِنْ دَالَّةً عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ نَحْوَ مَا قَامَ مِنْ رَجُلٍ، ومِنْ الثَّانِيَةُ لِلتَّبْعِيضِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَعْنِي وَمَا يَظْهَرُ لَهُمْ قَطُّ دَلِيلٌ مِنَ الْأَدِلَّةِ الَّتِي يَجِبُ فِيهَا النَّظَرُ وَالِاسْتِدْلَالُ وَالِاعْتِبَارُ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ تَارِكِينَ لِلنَّظَرِ، لَا يَلْتَفِتُونَ إِلَيْهِ وَلَا يَرْفَعُونَ بِهِ رَأْسًا لِقِلَّةِ خَوْفِهِمْ وَتَدَبُّرِهِمْ لِلْعَوَاقِبِ انْتَهَى. وَاسْتِعْمَالُ الزَّمَخْشَرِيِّ قَطُّ مَعَ الْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: وَمَا يَظْهَرُ لَهُمْ قَطُّ دَلِيلٌ لَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّ قَطُّ ظَرْفٌ مُخْتَصٌّ بِالْمَاضِي إِلَّا إِنْ كَانَ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: وَمَا يَظْهَرُ وَمَا ظَهَرَ وَلَا حَاجَةَ إِلَى اسْتِعْمَالِ ذَلِكَ. وَقِيلَ: الْآيَةُ هُنَا الْعَلَامَةُ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ وَانْفِرَادِهِ بِالْأُلُوهِيَّةِ. وَقِيلَ: الرِّسَالَةُ. وَقِيلَ: الْمُعْجِزُ الْخَارِقُ. وَقِيلَ: الْقُرْآنُ وَمَعْنَى عَنْها أَيْ: عَنْ قَبُولِهَا أَوْ سَمَاعِهَا، وَالْإِعْرَاضُ ضِدُّ الْإِقْبَالِ وَهُوَ مَجَازٌ إِذْ حَقِيقَتُهُ فِي الْأَجْسَامِ، وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: كانُوا وَمُتَعَلِّقُهَا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ فَيَكُونُ تَأْتِيهِمْ مَاضِي الْمَعْنَى لِقَوْلِهِ: كانُوا أَوْ يَكُونُ كانُوا مُضَارِعٌ الْمَعْنَى لِقَوْلِهِ: تَأْتِيهِمْ وَذُو الْحَالِ هُوَ الضَّمِيرُ فِي تَأْتِيهِمْ، وَلَا يَأْتِي مَاضِيًا إِلَّا بِأَحَدِ شَرْطَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَسْبِقَهُ فِعْلٌ كَمَا فِي هَذَا الْآيَةِ، وَالثَّانِي أَنْ تَدَخُلَ عَلَى ذَلِكَ الْمَاضِي قَدْ نَحْوَ مَا زَيْدٌ إِلَّا قَدْ ضَرَبَ عَمْرًا، وَهَذَا الْتِفَاتٌ وَخُرُوجٌ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا. وَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مَذَمَّةَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ يُعْرِضُونَ عَنْ كُلِّ آيَةٍ تَرِدُ عَلَيْهِمْ، وَلَمَّا تَقَدَّمَ الْكَلَامُ أَوَّلًا فِي التَّوْحِيدِ وَثَانِيًا فِي الْمَعَادِ وَثَالِثًا فِي تَقْرِيرِ هَذَيْنِ الْمَطْلُوبَيْنِ، ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مَا يَتَعَلَّقُ بِتَقْرِيرِ النُّبُوَّةِ وَبَيَّنَ فِيهِ أَنَّهُمْ أَعْرَضُوا عَنْ تَأَمُّلِ الدَّلَائِلِ، وَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ التَّقْلِيدَ بَاطِلٌ وَأَنَّ التَّأَمُّلَ فِي الدَّلَائِلِ وَاجِبٌ وَلِذَلِكَ ذُمُّوا بِإِعْرَاضِهِمْ عَنِ الدَّلَائِلِ.
فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ الْحَقُّ الْقُرْآنُ أَوِ الْإِسْلَامُ أَوْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم أو انشقاق
436
الْقَمَرِ أَوِ الْوَعْدُ أَوِ الْوَعِيدُ، أَقْوَالٌ وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ الْآيَةُ الَّتِي تَأْتِيهِمْ وَكَأَنَّهُ قِيلَ: فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْآيَةِ الَّتِي تَأْتِيهِمْ وَهِيَ الْحَقُّ فَأَقَامَ الظَّاهِرَ مَقَامَ الْمُضْمَرِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ وَصْفِهِ بِالْحَقِّ وَحَقِيقَتُهُ كَوْنُهُ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ فَقَدْ كَذَّبُوا أَنَّ الْفَاءَ لِلتَّعْقِيبِ وَأَنَّ إِعْرَاضَهُمْ عَنِ الْآيَةِ أَعَقَبَهُ التَّكْذِيبُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَقَدْ كَذَّبُوا مَرْدُودٌ عَلَى كَلَامٍ مَحْذُوفٍ كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنْ كَانُوا مُعْرِضِينَ عَنِ الْآيَاتِ. فَقَدْ كَذَّبُوا بِمَا هُوَ أَعْظَمُ آيَةٍ وَأَكْبَرُهَا وَهُوَ الْحَقُّ، لَمَّا جَاءَهُمْ يَعْنِي الْقُرْآنَ الَّذِي تُحُدُّوا بِهِ عَلَى تَبَالُغِهِمْ فِي الْفَصَاحَةِ فَعَجَزُوا عَنْهُ انْتَهَى. وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إِلَى شَرْطٍ مَحْذُوفٍ إِذِ الْكَلَامُ مُنْتَظِمٌ بِدُونِ هَذَا التَّقْدِيرِ.
فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ وَقَعَ مِنْهُمُ الِاسْتِهْزَاءُ، فَيَكُونُ فِي الْكَلَامِ مَعْطُوفٌ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ آخِرُ الْآيَةِ وتقديره واستهزؤوا بِهِ، فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ وَهَذِهِ رُتَبٌ ثَلَاثٌ صَدَرَتْ مِنْ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ، الْإِعْرَاضُ عَنْ تَأَمُّلِ الدَّلَائِلِ ثُمَّ أَعْقَبَ الْإِعْرَاضَ التَّكْذِيبُ، وَهُوَ أَزْيَدُ مِنَ الْإِعْرَاضِ إِذِ الْمُعْرِضُ قَدْ يَكُونُ غَافِلًا عَنِ الشَّيْءِ ثُمَّ أَعْقَبَ التَّكْذِيبَ الِاسْتِهْزَاءُ، وَهُوَ أَزْيَدُ مِنَ التَّكْذِيبِ إِذِ الْمُكَذِّبُ قَدْ لَا يَبْلُغُ إِلَى حَدِّ الِاسْتِهْزَاءِ وَهَذِهِ هِيَ الْمُبَالَغَةُ فِي الْإِنْكَارِ، وَالنَّبَأُ الْخَبَرُ الَّذِي يَعْظُمُ وَقْعُهُ وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ مُضَافٌ أَيْ: فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ مُضْمَنُ أَنْباءُ فَقَالَ قَوْمٌ: الْمُرَادُ مَا عُذِّبُوا بِهِ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْقَتْلِ وَالسَّبْيِ وَالنَّهْبِ وَالْإِجْلَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَخَصَّصَ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ بِيَوْمِ بَدْرٍ. وَقِيلَ: هُوَ عَذَابُ الْآخِرَةِ، وَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ التَّهْدِيدَ وَالزَّجْرَ وَالْوَعِيدَ كَمَا تَقُولُ: اصْنَعْ مَا تَشَاءُ فَسَيَأْتِيكَ الْخَبَرُ، وَعَلَّقَ التَّهْدِيدَ بِالِاسْتِهْزَاءِ دُونَ الْإِعْرَاضِ وَالتَّكْذِيبِ لِتَضَمُّنِهِ إِيَّاهُمَا، إِذْ هُوَ الْغَايَةُ الْقُصْوَى فِي إِنْكَارِ الْحَقِّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهُوَ الْقُرْآنُ أَيْ أَخْبَارُهُ وَأَحْوَالُهُ بِمَعْنَى سيعلمون بأي شيء استهزؤوا وَسَيَظْهَرُ لَهُمْ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَوْضِعُ اسْتِهْزَاءٍ، وَذَلِكَ عِنْدَ إِرْسَالِ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا أَوْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَوْ عِنْدَ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ وَعُلُوِّ كَلِمَتِهِ انْتَهَى. وَهُوَ عَلَى عَادَتِهِ فِي الْإِسْهَابِ وَشَرْحِ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى مِمَّا لَا يَدُلَّانِ عَلَيْهِ، وَجَاءَ هُنَا تَقْيِيدُ الْكَذِبِ بالحق والتنفيس بسوف وَفِي الشُّعَرَاءِ فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ «١» لِأَنَّ الْأَنْعَامَ مُتَقَدِّمَةٌ فِي النُّزُولِ عَلَى الشُّعَرَاءِ، فَاسْتَوْفَى فِيهَا اللَّفْظَ وَحُذِفَ من الشعراء وهو مرادا حَالَةً عَلَى الْأَوَّلِ وَنَاسَبَ الْحَذْفَ الِاخْتِصَارُ فِي حَرْفِ التَّنْفِيسِ، فَجَاءَ بِالسِّينِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا فِي قَوْلِهِ: مَا كانُوا مَوْصُولَةٌ اسْمِيَّةٌ بِمَعْنَى الَّذِي وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ عَائِدٌ عَلَيْهَا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً التَّقْدِيرُ أَنْباءُ كَوْنِهِمْ مُسْتَهْزِئِينَ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الضَّمِيرُ فِي بِهِ عَائِدًا
(١) سورة الشعراء: ٢٦/ ٦.
437
عَلَى الْحَقِّ لَا عَلَى مَا لَا عَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ حَيْثُ زَعَمَ أَنَّ مَا الْمَصْدَرِيَّةَ اسْمٌ لَا حَرْفٌ، وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إِلَى كَوْنِهَا مَصْدَرِيَّةً.
أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ لَمَّا هَدَّدَهُمْ وَأَوْعَدَهُمْ عَلَى إِعْرَاضِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ وَاسْتِهْزَائِهِمْ، أَتْبَعَ ذَلِكَ بِمَا يُجْرَى مَجْرَى الْمَوْعِظَةِ وَالنَّصِيحَةِ، وَحَضَّ عَلَى الِاعْتِبَارِ بِالْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ ويَرَوْا هُنَا بِمَعْنَى يَعْلَمُوا، لِأَنَّهُمْ لَمْ يُبْصِرُوا هَلَاكَ الْقُرُونِ السالفة وكَمْ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ بِ أَهْلَكْنا ويَرَوْا مُعَلَّقَةٌ وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ مفعولها، ومِنْ الْأُولَى لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ ومِنْ الثَّانِيَةُ لِلتَّبْعِيضِ، وَالْمُفْرَدُ بَعْدَهَا وَاقِعٌ مَوْقِعَ الْجَمْعِ وَوَهِمَ الْحَوْفِيُّ فِي جَعْلِهِ مِنْ الثَّانِيَةَ بَدَلًا مِنَ الْأُولَى وَظَاهِرُ الْإِهْلَاكِ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ، كَمَا أَهْلَكَ قَوْمَ نُوحٍ وعادا وثمود غيرهم وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَوِيًّا بِالْمَسْخِ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ، وَالضَّمِيرُ فِي يَرَوْا عَائِدٌ عَلَى مَنْ سَبَقَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ المستهزئين ولَكُمْ خِطَابٌ لَهُمْ فَهُوَ الْتِفَاتٌ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْقُرُونَ الْمُهْلَكَةَ أُعْطُوا مِنَ الْبَسْطَةِ فِي الدُّنْيَا وَالسَّعَةِ فِي الْأَمْوَالِ مَا لَمْ يُعْطَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ حُضُّوا عَلَى الِاعْتِبَارِ بِالْأُمَمِ السَّالِفَةِ وَمَا جَرَى لَهُمْ، وَفِي هَذَا الِالْتِفَاتِ تَعْرِيضٌ بِقِلَّةِ تَمْكِينِ هَؤُلَاءِ وَنَقَصِهِمْ عَنْ أَحْوَالِ مَنْ سَبَقَ، وَمَعَ تَمْكِينِ أُولَئِكَ فِي الْأَرْضِ فَقَدْ حَلَّ بِهِمُ الْهَلَاكُ، فَكَيْفَ لَا يَحِلُّ بِكُمْ عَلَى قِلَّتِكُمْ وَضِيقِ خُطَّتِكُمْ؟ فَالْهَلَاكُ إِلَيْكُمْ أَسْرَعُ مِنَ الْهَلَاكِ إِلَيْهِمْ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْمُخَاطَبَةُ فِي لَكُمْ هِيَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلِجَمِيعِ الْمُعَاصِرِينَ لَهُمْ وَسَائِرِ النَّاسِ كَافَّةً، كَأَنَّهُ قَالَ: مَا لَمْ نُمَكِّنْ يَا أَهْلَ هَذَا الْعَصْرِ لَكُمْ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَدَّرَ مَعْنَى الْقَوْلِ لِهَؤُلَاءِ الْكَفَرَةِ، كَأَنَّهُ قَالَ يَا مُحَمَّدُ قُلْ لَهُمْ أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا «١» الْآيَةَ. وَإِذَا أَخْبَرْتَ أَنَّكَ قُلْتَ لَوْ قِيلَ لَهُ أَوْ أَمَرْتَ أَنْ يُقَالَ لَهُ فَلَكَ فِي فَصِيحِ كَلَامِ الْعَرَبِ أَنْ تَحْكِيَ الْأَلْفَاظَ الْمَقُولَةَ بِعَيْنِهَا، فَتَجِيءُ بِلَفْظِ الْمُخَاطَبَةِ، وَلَكَ أَنْ تَأْتِيَ بِالْمَعْنَى فِي الألفاظ ذكر غَائِبٍ دُونَ مُخَاطَبَةٍ، انْتَهَى.
فَتَقُولُ: قُلْتُ لِزَيْدٍ مَا أَكْرَمَكَ وَقُلْتُ لِزَيْدٍ مَا أَكْرَمَهُ، وَالضَّمِيرُ فِي مَكَّنَّاهُمْ عَائِدٌ عَلَى كَمْ مُرَاعَاةً لِمَعْنَاهَا، لِأَنَّ مَعْنَاهَا جَمْعٌ وَالْمُرَادُ بِهَا الْأُمَمُ. وَأَجَازَ الْحَوْفِيُّ وَأَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَعُودَ عَلَى قَرْنٍ وَذَلِكَ ضَعِيفٌ لِأَنَّ مِنْ قَرْنٍ تَمْيِيزٌ لَكُمْ فَكَمْ هِيَ الْمُحَدَّثُ عَنْهَا بِالْإِهْلَاكِ فَتَكُونُ هِيَ الْمُحَدَّثَ عَنْهَا بِالتَّمْكِينِ، فَمَا بَعْدَهُ إِذْ مِنْ قَرْنٍ جَرَى مَجْرَى التَّبْيِينِ ولم يحدث عنه.
(١) سورة الأنعام: ٦/ ٦.
438
وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ كَمْ هُنَا ظَرْفًا وَأَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا، أَيْ: كَمْ أَزْمِنَةً أَهْلَكْنَا؟
أَوْ كَمْ إِهْلَاكًا أَهْلَكْنَا؟ وَمَفْعُولُ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْنٍ عَلَى زِيَادَةِ مِنْ وَهَذَا الَّذِي أَجَازَهُ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ إِذْ ذَاكَ الْمُفْرَدُ مَوْقِعَ الْجَمْعِ بَلْ تَدُلُّ عَلَى الْمُفْرَدِ، لَوْ قُلْتَ: كَمْ أَزْمَانًا ضَرَبْتُ رَجُلًا أَوْ كَمْ مَرَّةً ضَرَبْتُ رَجُلًا؟ لَمْ يَكُنْ مَدْلُولُهُ مَدْلُولَ رِجَالٍ، لِأَنَّ السُّؤَالَ إِنَّمَا هُوَ عَنْ عَدَدِ الْأَزْمَانِ أَوِ الْمَرَّاتِ الَّتِي ضُرِبَ فِيهَا رَجُلٌ، وَلِأَنَّ هَذَا الْمَوْضِعَ لَيْسَ مِنْ مَوَاضِعِ زِيَادَةِ مِنْ لِأَنَّهَا لَا تُزَادُ إِلَّا فِي الِاسْتِفْهَامِ الْمَحْضِ أَوِ الِاسْتِفْهَامِ الْمُرَادِ بِهِ النَّفْيُ، وَالِاسْتِفْهَامُ هُنَا لَيْسَ مَحْضًا وَلَا يُرَادُ بِهِ النَّفْيُ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ مَكَّنَّاهُمْ جَوَابٌ لِسُؤَالٍ مُقَدَّرٍ كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا كَانَ مِنْ حَالِهِمْ؟ فَقِيلَ:
مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: مَكَّنَّاهُمْ فِي مَوْضِعِ خَبَرٍ صِفَةُ قَرْنٍ وَجُمِعَ عَلَى الْمَعْنَى وَمَا قَالَهُ أَبُو الْبَقَاءِ مُمْكِنٌ، وَمَا فِي قَوْلِهِ: مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ جَوَّزُوا فِي إِعْرَابِهَا أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الَّذِي وَيَكُونَ التَّقْدِيرُ التَّمْكِينَ، الَّذِي لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ فَحُذِفَ الْمَنْعُوتُ وَأُقِيمَ النَّعْتُ مَقَامَهُ، وَيَكُونُ الضَّمِيرُ الْعَائِدُ عَلَى مَا مَحْذُوفًا أَيْ مَا لَمْ نُمَكِّنْهُ لَكُمْ وَهَذَا لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ مَا بِمَعْنَى الَّذِي لَا يَكُونُ نَعْتًا لِلْمَعَارِفِ وَإِنْ كَانَ مَدْلُولُهَا مَدْلُولَ الَّذِي، بَلْ لَفْظُ الَّذِي هُوَ الَّذِي يَكُونُ نَعْتًا لِلْمَعَارِفِ لَوْ قُلْتَ ضَرَبْتُ الضَّرْبَ مَا ضَرَبَ زَيْدٌ تُرِيدُ الَّذِي ضَرَبَ زَيْدٌ لَمْ يَجُزْ، فَلَوْ قُلْتَ: الضَّرْبَ الَّذِي ضَرَبَهُ زَيْدٌ جَازَ وَجَوَّزُوا أَيْضًا أَنْ يَكُونَ نَكِرَةً صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ تَمْكِينًا لَمْ نُمَكِّنْهُ لَكُمْ، وَهَذَا أَيْضًا لَا يَجُوزُ لِأَنَّ مَا النكرة الصفة لَا يَجُوزُ حَذْفُ مَوْصُوفِهَا، لَوْ قُلْتَ: قُمْتُ مَا أَوْ ضَرَبْتُ مَا وَأَنْتَ تُرِيدُ قُمْتُ قِيَامًا مَا وَضَرَبْتُ ضَرْبًا مَا لَمْ يَجُزْ، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ أَجَازَهُمَا الْحَوْفِيُّ وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ مَا مَفْعُولًا به بنمكن عَلَى الْمَعْنَى، لِأَنَّ الْمَعْنَى أَعْطَيْنَاهُمْ مَا لَمْ نُعْطِكُمْ، وَهَذَا الَّذِي أَجَازَهُ تَضْمِينٌ وَالتَّضْمِينُ لَا يَنْقَاسُ، وَأَجَازَ أَيْضًا أَنْ تَكُونَ مَا مَصْدَرِيَّةً وَالزَّمَانُ مَحْذُوفٌ أَيْ مدة مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَيَعْنِي مُدَّةَ انْتِفَاءِ التَّمْكِينِ لَكُمْ، وَأَجَازَ أَيْضًا أَنْ تَكُونَ نَكِرَةً مَوْصُوفَةً بِالْجُمْلَةِ الْمَنْفِيَّةِ بَعْدَهَا أَيْ شَيْئًا لَمْ نُمَكِّنْهُ لَكُمْ، وَحُذِفَ الْعَائِدُ مِنَ الصِّفَةِ عَلَى الْمَوْصُوفِ وَهَذَا أَقْرَبُ إِلَى الصَّوَابِ وَتَعَدَّى مَكَّنَ هُنَا لِلذَّوَاتِ بِنَفْسِهِ وَبِحَرْفِ الْجَرِّ، وَالْأَكْثَرُ تَعْدِيَتُهُ بِاللَّامِ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ «١» إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ «٢» أَوْ لم نُمَكِّنْ لَهُمْ. وَقَالَ أَبُو عبيد مكناهم ومكنا لَهُمْ لُغَتَانِ فَصِيحَتَانِ، كَنَصَحْتُهُ وَنَصَحْتُ لَهُ وَالْإِرْسَالُ وَالْإِنْزَالُ مُتَقَارِبَانِ فِي الْمَعْنَى لِأَنَّ اشْتِقَاقَهُ مِنْ رِسْلِ اللَّبَنِ، وَهُوَ مَا يَنْزِلُ مِنَ الضرع متتابعا
(١) سورة يوسف: ١٢/ ٢١ و ٥٦.
(٢) سورة الكهف: ١٨/ ٨٤. [.....]
439
والسَّماءَ السَّمَاءَ الْمُظِلَّةَ قَالُوا: لِأَنَّ الْمَطَرَ يَنْزِلُ مِنْهَا إِلَى السَّحَابِ، وَيَكُونُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ مَطَرَ السَّماءَ وَيَكُونُ مِدْراراً حَالًا مِنْ ذَلِكَ الْمُضَافِ الْمَحْذُوفِ. وَقِيلَ:
السَّماءَ الْمَطَرَ
وَفِي الْحَدِيثِ: «فِي أَثَرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنَ اللَّيْلِ»
، وَتَقُولُ الْعَرَبُ: مَا زِلْنَا نَطَأُ السَّمَاءَ حَتَّى أَتَيْنَاكُمْ، يُرِيدُونَ الْمَطَرَ وَقَالَ الشَّاعِرُ:
إِذَا نَزَلَ السَّمَاءُ بِأَرْضِ قوم رغيناه وإن كانوا غضبانا
ومِدْراراً عَلَى هَذَا حَالٌ مِنْ نَفْسِ السَّماءَ. وَقِيلَ: السَّماءَ هُنَا السَّحَابَ وَيُوصَفُ بالمدرار، فمدرارا حَالٌ مِنْهُ ومِدْراراً يُوصَفُ بِهِ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ وَهُوَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي اتِّصَالِ الْمَطَرِ ودوامة وقت الحاجة، لا أَنَّهَا تُرْفَعُ لَيْلًا وَنَهَارًا فَتَفْسُدُ قَالَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ.
وَلِأَنَّ هَذِهِ الْأَوْصَافَ إِنَّمَا ذُكِرَتْ لِتَعْدِيدِ النِّعَمِ عَلَيْهِمْ وَمُقَابَلَتِهَا بِالْعِصْيَانِ، وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ كَيْفِيَّةِ جَرَيَانِ الْأَنْهَارِ مِنِ التَّحْتِ فِي أَوَائِلِ البقرة. وقد أعرب مَنْ فَسَّرَ الْأَنْهارَ هُنَا بِالْخَيْلِ كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ: وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي «١» وَإِذَا كَانَ الْفَرَسُ سَرِيعَ الْعَدْوِ وَاسِعَ الْخَطْوِ وُصِفَ بِالْبَحْرِ وَبِالنَّهْرِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى مَكَّنَهُمُ التَّمْكِينَ الْبَالِغَ وَوَسَّعَ عَلَيْهِمُ الرِّزْقَ فَذَكَرَ سَبَبَهُ وَهُوَ تَتَابُعُ الْأَمْطَارِ عَلَى قَدْرِ حَاجَاتِهِمْ وَإِمْسَاكُ الْأَرْضِ ذَلِكَ الْمَاءَ، حَتَّى صَارَتِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَكَثُرَ الْخَصْبُ فَأَذْنَبُوا فَأُهْلِكُوا بِذُنُوبِهِمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الذُّنُوبَ هُنَا هِيَ كُفْرُهُمْ وَتَكْذِيبُهُمْ بِرُسُلِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ، وَالْإِهْلَاكُ هُنَا لَا يُرَادُ بِهِ مُجَرَّدُ الْإِفْنَاءِ وَالْإِمَاتَةِ بَلِ الْمُرَادُ الْإِهْلَاكُ النَّاشِئُ عَنِ الذُّنُوبِ وَالْأَخْذُ بِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا «٢»، لِأَنَّ الْإِهْلَاكَ بِمَعْنَى الْإِمَاتَةِ مُشْتَرِكٌ فِيهِ الصَّالِحُ وَالطَّالِحُ، وَفَائِدَةُ ذِكْرِ إِنْشَاءِ قَرْنٍ آخَرِينَ بَعْدَهُمْ، إِظْهَارُ الْقُدْرَةِ التَّامَّةِ عَلَى إِفْنَاءِ نَاسٍ وَإِنْشَاءِ نَاسٍ فَهُوَ تَعَالَى لَا يَتَعَاظَمُهُ أَنْ يُهْلِكَ قَرْناً وَيُخَرِّبَ بِلَادَهُ وَيُنْشِئَ مَكَانَهُ آخَرَ يُعَمِّرَ بِلَادَهُ وَفِيهِ تَعْرِيضٌ لِلْمُخَاطَبِينَ، بِإِهْلَاكِهِمْ إِذَا عَصَوْا كَمَا أَهْلَكَ مَنْ قَبْلَهُمْ وَوَصَفَ قَرْنًا ب آخَرِينَ وَهُوَ جَمْعٌ حَمْلًا عَلَى مَعْنَى قَرْنٍ، وَكَانَ الْحَمْلُ عَلَى الْمَعْنَى أَفْصَحَ لِأَنَّهَا فَاصِلَةُ رَأْسِ آيَةٍ.
وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ سَبَبُ نُزُولِهَا اقْتِرَاحُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ وَتَعَنُّتُهُ إِذْ
قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا أُؤْمِنُ لَكَ حَتَّى تَصْعَدَ إلى السماء، ثم نزل بِكِتَابٍ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعِزَّةِ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبي أمية يأمرني
(١) سورة الزخرف: ٤٣/ ٥١.
(٢) سورة العنكبوت: ٢٩/ ٤٠.
440
بِتَصْدِيقِكَ. وَمَا أَرَانِي مَعَ هَذَا كُنْتُ أُصَدِّقُكَ. ثُمَّ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ وَقُتِلَ شَهِيدًا بِالطَّائِفِ
وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى تَكْذِيبَهُمْ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ ثُمَّ وَعَظَهُمْ وَذَكَّرَهُمْ بِإِهْلَاكِ الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ بِذُنُوبِهِمْ ذَكَّرَهُمْ مُبَالَغَتَهُمْ فِي التَّكْذِيبِ بِأَنَّهُمْ لَوْ رَأَوْا كَلَامًا مَكْتُوبًا فِي قِرْطاسٍ وَمَعَ رُؤْيَتِهِمْ جَسُّوهُ بِأَيْدِيهِمْ، لَمْ تَزِدْهُمُ الرُّؤْيَةُ وَاللَّمْسُ إِلَّا تَكْذِيبًا وَادَّعَوْا أَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ السِّحْرِ لَا مِنْ بَابِ الْمُعْجِزِ عِنَادًا وَتَعَنُّتًا وَإِنْ كَانَ مَنْ لَهُ أَدْنَى مُسْكَةٍ مِنْ عَقْلٍ لَا يُنَازِعُ فِيمَا أَدْرَكَهُ بِالْبَصَرِ عَنْ قَرِيبٍ وَلَا بِمَا لَمَسَتْهُ يَدُهُ، وَذَكَرَ اللَّمْسَ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى الرُّؤْيَةِ لِئَلَّا يَقُولُوا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا، وَلَمَّا كَانَتِ الْمُعْجِزَاتُ مَرْئِيَّاتٍ وَمَسْمُوعَاتٍ ذَكَرَ الْمَلْمُوسَاتِ مُبَالَغَةً فِي أَنَّهُمْ لَا يَتَوَقَّفُونَ فِي إِنْكَارِ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ كُلِّهَا حَتَّى إِنَّ الْمَلْمُوسَ بِالْيَدِ هُوَ عِنْدَهُمْ مِثْلُ الْمَرْئِيِّ بِالْعَيْنِ وَالْمَسْمُوعِ بِالْأُذُنِ، وَذِكْرُ الْيَدِ هُنَا فَقِيلَ مُبَالَغَةً فِي التَّأْكِيدِ وَلِأَنَّ الْيَدَ أَقْوَى فِي اللَّمْسِ مِنْ غَيْرِهَا مِنَ الْأَعْضَاءِ. وَقِيلَ: النَّاسُ مُنْقَسِمُونَ إِلَى بُصَرَاءَ وَأَضِرَّاءَ، فَذَكَرَ الطَّرِيقَ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الْعِلْمُ لِلْفَرِيقَيْنِ. وَقِيلَ: عَلَّقَهُ بِاللَّمْسِ بِالْيَدِ لِأَنَّهُ أَبْعَدُ عَنِ السِّحْرِ. وَقِيلَ: اللَّمْسُ بِالْيَدِ مُقَدِّمَةُ الْإِبْصَارِ وَلَا يَقَعُ مَعَ التَّزْوِيرِ. وَقِيلَ: اللَّمْسُ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الْفَحْصُ عَنِ الشَّيْءِ وَالْكَشْفُ عَنْهُ، كَمَا قَالَ: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ «١» فَذُكِرَتِ الْيَدُ حَتَّى يُعْلَمَ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ ذَلِكَ اللَّمْسَ، وَجَاءَ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْغَرَضِ يَقْتَضِي انْقِسَامَ النَّاسِ إِلَى مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ، فَالْمُؤْمِنُ يَرَاهُ مِنْ أَعْظَمِ الْمُعْجِزَاتِ وَالْكَافِرُ يَجْعَلُهُ مِنْ بَابِ السِّحْرِ، وَوَصْفُ السِّحْرِ بِ مُبِينٌ إِمَّا لِكَوْنِهِ بَيِّنًا فِي نَفْسِهِ، وَإِمَّا لِكَوْنِهِ أَظْهَرَ غَيْرَهُ.
وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ وَنَوْفَلُ بْنُ خَالِدٍ: يَا مُحَمَّدُ لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَأْتِيَنَا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَعَهُ أَرْبَعَةٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، يَشْهَدُونَ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَأَنَّكَ رَسُولُهُ انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ وَقالُوا اسْتِئْنَافُ إِخْبَارٍ مِنَ اللَّهِ، حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى جَوَابِ لَوْ أَيْ: لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَلَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ فَلَا يَكُونُ إِذْ ذَاكَ هَذَانِ الْقَوْلَانِ الْمُرَتَّبَانِ عَلَى تَقْدِيرِ إِنْزَالِ الْكِتَابِ فِي قِرْطاسٍ وَاقِعِينَ، لِأَنَّ التَّنْزِيلَ لَمْ يَقَعْ وَكَانَ يَكُونُ الْقَوْلُ الثَّانِي غَايَةً فِي التَّعَنُّتِ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ أَبِي الْفَضْلِ قَالَ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ وَلَوْ أَجَبْنَاهُمْ إِلَى مَا سَأَلُوا لَمْ يُؤْمِنُوا وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّهَا فِي كُفَّارِ الْعَرَبِ، وَذَكَرَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهَا فِي أَهْلِ الْكِتَابِ
(١) سورة الجن: ٧٢/ ٨.
441
وَالضَّمِيرُ فِي عَلَيْهِ عَائِدٌ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمَعْنَى مَلَكٌ نُشَاهِدُهُ وَيُخْبِرُنَا عَنِ اللَّهِ تعالى بنبوته وبصدقه، ولَوْلا بِمَعْنَى هَلَّا لِلتَّحْضِيضِ وَهَذَا قَوْلُ مَنْ تَعَنَّتَ وَأَنْكَرَ النُّبُوَّاتِ.
وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ أَيْ وَلَوْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِ مَلَكاً يُشَاهِدُونَهُ لَقَامَتِ الْقِيَامَةُ قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً فَكَذَّبُوهُ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بِعَذَابِهِمْ وَلَمْ يُؤَخَّرُوا حَسَبَ مَا سَلَفَ فِي كُلِّ أُمَّةٍ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: مَعْنَى لَقُضِيَ الْأَمْرُ لَمَاتُوا مِنْ هَوْلِ رؤية الملك في صورته، وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا إِلَى آخِرِهِ فَإِنَّ أَهْلَ التَّأْوِيلِ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا لِيُطِيقُوا رُؤْيَةَ الْمَلَكِ فِي صُورَتِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَالْأَوْلَى فِي لَقُضِيَ الْأَمْرُ أَيْ لَمَاتُوا مِنْ هَوْلِ رُؤْيَتِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَقُضِيَ أَمْرُ إِهْلَاكِهِمْ.
ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ بَعْدَ نُزُولِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ إِمَّا لِأَنَّهُمْ إِذَا عَايَنُوا الْمَلَكَ قَدْ نَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صُورَتِهِ، وَهِيَ أَنَّهُ لَا شَيْءَ أَبْيَنُ مِنْهَا وَأَيْقَنُ، ثُمَّ لَا يُؤْمِنُونَ كَمَا قَالَ وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ إِهْلَاكِهِمْ كَمَا أَهْلَكَ أَصْحَابَ الْمَائِدَةِ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ يَزُولُ الِاخْتِيَارُ الَّذِي هُوَ قَاعِدَةُ التَّكْلِيفِ عِنْدَ نُزُولِ الْمَلَائِكَةِ، فَيَجِبُ إِهْلَاكُهُمْ وَإِمَّا لِأَنَّهُمْ إِذَا شَاهَدُوا مَلَكًا فِي صُورَتِهِ زَهَقَتْ أَرْوَاحُهُمْ مِنْ هَوْلِ مَا يُشَاهِدُونَ انْتَهَى. وَالتَّرْدِيدُ الْأَوَّلُ بِإِمَّا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالثَّالِثُ قَوْلُ تِلْكَ الْفِرْقَةِ، وَقَوْلُهُ: كَمَا أَهْلَكَ أَصْحَابَ الْمَائِدَةِ، لِأَنَّهُمْ عِنْدَهُ كُفَّارٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِمْ فِي أَوَاخِرِ سُورَةِ الْعُقُودِ، وَذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ الْأَوْجُهَ الثَّلَاثَةَ الَّتِي ذَكَرَهَا الزَّمَخْشَرِيُّ بِبَسْطٍ فِيهَا. وَقَالَ التَّبْرِيزِيُّ فِي مَعْنَى لَقُضِيَ الْأَمْرُ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَقَامَتِ الْقِيَامَةُ لِأَنَّ الْغَيْبَ يَصِيرُ عِنْدَهَا شَهَادَةً عِيَانًا. الثَّانِي: الْفَزَعُ مِنْ إِهْلَاكِهِمْ لِأَنَّ السُّنَّةَ الْإِلَهِيَّةَ جَارِيَةٌ فِي إِنْزَالِ الْمَلَائِكَةِ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: الْوَحْيِ أَوِ الْإِهْلَاكِ، وَقَدِ امْتَنَعَ الْأَوَّلُ فَيَتَعَيَّنُ الثَّانِي انْتَهَى. فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ أَيْ بِإِهْلَاكِنَا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَعْنَى ثُمَّ بعد ما بَيَّنَ الْأَمْرَيْنِ قَضَاءَ الْأَمْرِ وَعَدَمَ الْإِنْظَارِ جَعَلَ عَدَمَ الْإِنْظَارِ أَشَدَّ مِنْ قَضَاءِ الْأَمْرِ، لِأَنَّ مُفَاجَأَةَ الشِّدَّةِ أَشَدُّ مِنْ نَفْسِ الشِّدَّةِ انْتَهَى.
وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا أَيْ وَلَجَعَلْنَا الرَّسُولَ مَلَكًا، كَمَا اقْتَرَحُوا، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ مَلَكٌ، وَتَارَةً يَقُولُونَ: مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً، وَمَعْنَى لَجَعَلْناهُ رَجُلًا أَيْ لَصَيَّرْنَاهُ فِي صُورَةِ رَجُلٍ، كَمَا كَانَ جِبْرِيلُ يَنْزِلُ
442
عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَالِبِ الْأَحْوَالِ فِي صُورَةِ دَحْيَةَ، وَتَارَةً ظَهَرَ لَهُ وَلِلصَّحَابَةِ فِي صُورَةِ رَجُلٍ شَدِيدٍ بَيَاضِ الثِّيَابِ شَدِيدِ سَوَادِ الشَّعَرِ لَا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ وَلَا يَعْرِفُهُ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ،
وَفِي الْحَدِيثِ: «وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِيَ الْمَلَكُ رَجُلًا»
، وَكَمَا تَصَوَّرَ جِبْرِيلُ لِمَرْيَمَ بَشَرًا سَوِيًّا وَالْمَلَائِكَةُ أَضْيَافُ إِبْرَاهِيمَ وَأَضْيَافُ لُوطٍ وَمُتَسَوِّرُ وَالْمِحْرَابِ، فَإِنَّهُمْ ظَهَرُوا بِصُورَةِ الْبَشَرِ وَإِنَّمَا كَانَ يَكُونُ بِصُورَةِ رَجُلٍ، لِأَنَّ النَّاسَ لَا طَاقَةَ لَهُمْ عَلَى رُؤْيَةِ الْمَلَكِ فِي صُورَتِهِ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ، وَيُؤَيِّدُهُ هَلَاكُ الَّذِي سَمِعَ صَوْتَ مَلَكٍ فِي السَّحَابِ يَقُولُ: أَقْدِمْ حَيْزُومُ فَمَاتَ لِسَمَاعِ صَوْتِهِ فَكَيْفَ لَوْ رَآهُ فِي خِلْقَتِهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَا يُعَارَضُ هَذَا بِرُؤْيَةِ النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ لِجِبْرِيلَ وَغَيْرِهِ فِي صُوَرِهِمْ، لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أُعْطِيَ قُوَّةً يَعْنِي غَيْرَ قُوَى الْبَشَرِ وَجَاءَ بِلَفْظِ رَجُلٍ رَدًّا عَلَى الْمُخَاطَبِينَ بِهَذَا، إِذْ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ إِنَاثٌ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: لَوْ جَعَلَ اللَّهُ الرَّسُولَ إِلَى الْبَشَرِ مَلَكًا لَفَرُّوا مِنْ مُقَارَبَتِهِ وَمَا أَنِسُوا بِهِ، وَلَدَاخَلَهُمْ مِنَ الرُّعْبِ مِنْ كَلَامِهِ مَا يُلْكِنُهُمْ عَنْ كَلَامِهِ وَيَمْنَعُهُمْ عَنْ سُؤَالِهِ، فَلَا تَعَمُّ الْمَصْلَحَةُ وَلَوْ نَقَلَهُ عَنْ صُورَةِ الْمَلَائِكَةِ إِلَى مِثْلِ صُورَتِهِمْ لَقَالُوا: لَسْتَ مَلَكًا وَإِنَّمَا أَنْتَ بَشَرٌ فَلَا نُؤْمِنُ بِكَ وَعَادُوا إِلَى مِثْلِ حَالِهِمُ انْتَهَى. وَهُوَ جَمْعُ كَلَامِ مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ نُزُولَ الْمَلَائِكَةِ إِلَى الْأَرْضِ وَقَالُوا: هِيَ أَجْسَامٌ لَطِيفَةٌ لَيْسَ فِيهَا مَا يَقْتَضِي انْحِطَاطَهَا وَنُزُولُهَا إِلَى الْأَرْضِ، وَرُدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ أَنْ يُودِعَ أَجْسَامَهَا ثِقَلًا يَكُونُ سَبَبًا لِنُزُولِهَا إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يُزِيلُ ذَلِكَ، فَتَعُودُ إِلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنَ اللَّطَافَةِ وَالْخِفَّةِ فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِارْتِفَاعِهَا انْتَهَى. هَذَا الرَّدُّ وَالَّذِي نَقُولُ إِنَّ الْقُدْرَةَ الْإِلَهِيَّةَ تُنْزِلُ الْخَفِيفَ وَتُصْعِدُ الْكَثِيفَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَجْعَلَ فِي الْخَفِيفِ ثِقَلًا وَفِي الْكَثِيفِ خِفَّةً وَلَيْسَ هَذَا بِالْمُسْتَحِيلِ، فَيَتَكَلَّفُ أَنْ يُودِعَ فِي الْخَفِيفِ ثِقَلًا وَفِي الْكَثِيفِ خِفَّةً، وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى إِمْكَانِ تَمْثِيلِ الْمَلَائِكَةِ بِصُورَةِ الْبَشَرِ وَهُوَ صَحِيحٌ وَاقِعٌ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ.
وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ أَيْ وَلَخَلَطْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَخْلِطُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ حِينَئِذٍ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ إِذَا رَأَوُا الْمَلَكَ فِي صُورَةِ إِنْسَانٍ: هَذَا إِنْسَانٌ وَلَيْسَ بِمَلَكٍ، فَإِنِّي أَسْتَدِلُّ بِأَنِّي جِئْتُ بِالْقُرْآنِ الْمُعْجِزِ وَفِيهِ أَنِّي مَلَكٌ لَا بَشَرٌ كَذَّبُوهُ كَمَا كَذَّبُوا الرُّسُلَ فَخُذِلُوا كَمَا هُمْ مَخْذُولُونَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ حِينَئِذٍ مِثْلَ مَا يَلْبِسُونَ عَلَى أَنَفْسِهِمُ السَّاعَةَ فِي كُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَفِيهِ بَعْضُ تَلْخِيصٍ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
وَلَخَلَطْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَخْلِطُونَ بِهِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَعَفَتِهِمْ، أَيْ: لَفَعَلْنَا لَهُمْ فِي ذَلِكَ تَلَبُّسًا يَطْرُقُ لَهُمْ إِلَى أَنْ يُلَبَّسُوا بِهِ وَذَلِكَ لَا يَحْسُنُ، وَيُحْتَمَلُ الْكَلَامُ مَقْصِدًا آخَرَ أَيْ لَلَبَسْنا
443
نَحْنُ عَلَيْهِمْ كَمَا يَلْبِسُونَ هُمْ عَلَى ضَعَفَتِهِمْ، فَكُنَّا نَنْهَاهُمْ عَنِ التَّلْبِيسِ وَنَفْعَلُهُ نَحْنُ انْتَهَى. وَقَالَ قَوْمٌ: كَانَ يَحْصُلُ التَّلْبِيسُ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ إِنَاثٌ فَلَوْ رَأَوْهُ فِي صُورَةِ رَجُلٍ حَصَلَ التَّلْبِيسُ عَلَيْهِمْ كَمَا حَصَلَ مِنْهُمُ التَّلْبِيسُ عَلَى غَيْرِهِمْ. وَقَالَ قَوْمٌ مِنْهُمُ الضَّحَّاكُ: الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي دِينِهِمْ وَكُتُبِهِمْ حَرَّفُوهَا وَكَذَّبُوا رُسُلَهُمْ، فَالْمَعْنَى فِي اللَّبْسِ زِدْنَاهُمْ ضَلَالًا عَلَى ضَلَالِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَبَسَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا لَبِسُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِتَحْرِيفِ الْكَلَامِ عَنْ مواضعه، وما مَصْدَرِيَّةٌ وَأَضَافَ اللَّبْسَ إِلَيْهِ تَعَالَى عَلَى جِهَةِ الْخَلْقِ، وَإِلَيْهِمْ عَلَى جِهَةِ الِاكْتِسَابِ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ: وَلَبَسْنَا بِلَامٍ وَاحِدَةٍ وَالزُّهْرِيُّ وَلَلَبَسْنا بِتَشْدِيدِ الْبَاءِ.
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ. هَذِهِ تَسْلِيَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا كَانَ يَلْقَى مِنْ قَوْمِهِ وَتَأَسٍّ بِمَنْ سَبَقَ مِنَ الرُّسُلِ وَهُوَ نَظِيرُ وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ لِأَنَّ مَا كَانَ مَشْتَرَكًا مِنْ مَا لَا يَلِيقُ أَهْوَنُ عَلَى النَّفْسِ مِمَّا يَكُونُ فِيهِ الِانْفِرَادُ وَفِي التَّسْلِيَةِ وَالتَّأَسِّي مِنَ التَّخْفِيفِ مَا لَا يَخْفَى.
وَقَالَتِ الْخَنْسَاءُ:
وَلَوْلَا كَثْرَةُ الْبَاكِينَ حَوْلِي عَلَى إِخْوَانِهِمْ لَقَتَلْتُ نَفْسِي
وَمَا يَبْكُونَ مِثْلَ أَخِي وَلَكِنْ أُسَلِّي النَّفْسَ عَنْهُ بِالتَّأَسِّي
وَقَالَ بَعْضُ الْمُوَلِّدِينَ:
وَلَا بُدَّ مِنْ شَكْوَى إِلَى ذِي مُرُوءَةٍ يُوَاسِيكَ أَوْ يُسَلِّيكَ أَوْ يَتَوَجَّعُ
وَلَمَّا كَانَ الْكُفَّارُ لَا يَنْفَعُهُمُ الِاشْتِرَاكُ فِي الْعَذَابِ وَلَا يَتَسَلَّوْنَ بِذَلِكَ، نَفَى ذَلِكَ تَعَالَى عَنْهُمْ فَقَالَ: وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ «١» قِيلَ: كَانَ قَوْمٌ يَقُولُونَ: يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَلَكًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ، فَيَضِيقُ قَلْبُ الرَّسُولِ عِنْدَ سَمَاعِ ذَلِكَ فَسَلَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى بِإِخْبَارِهِ أَنَّهُ قَدْ سَبَقَ لِلرُّسُلِ قَبْلَكَ اسْتِهْزَاءُ قَوْمِهِمْ بِهِمْ لِيَكُونَ سَبَبًا لِلتَّخْفِيفِ عَنِ الْقَلْبِ، وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَحاقَ إِلَى آخِرِهِ، إِخْبَارٌ بِمَا جَرَى لِلْمُسْتَهْزِئِينَ بِالرُّسُلِ قَبْلَكَ وَوَعِيدٌ مُتَيَقِّنٌ لِمَنِ اسْتَهْزَأَ بِالرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَتَثْبِيتٌ لِلرَّسُولِ عَلَى عَدَمِ اكْتِرَاثِهِ بِهِمْ، لِأَنَّ مَآلَهُمْ إِلَى التَّلَفِ وَالْعِقَابِ الشَّدِيدِ الْمُرَتَّبِ عَلَى الِاسْتِهْزَاءِ، وَأَنَّهُ تَعَالَى يَكْفِيهِ شَرَّهُمْ وَإِذَايَتَهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ «٢» وَمَعْنَى
(١) سورة الزخرف: ٤٣/ ٣٩.
(٢) سورة الحجر: ١٥/ ٩٥.
444
سَخِرُوا استهزؤوا إِلَّا أَنَّ اسْتَهْزَأَ تَعَدَّى بالباء وسخر بمن كَمَا قَالَ: إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ «١» وَبِالْبَاءِ تَقُولُ: سَخِرْتُ بِهِ وَتَكَرَّرَ الْفِعْلُ هُنَا لِخِفَّةِ الثُّلَاثِيِّ وَلَمْ يَتَكَرَّرْ فِي وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ فَكَانَ يَكُونُ التَّرْكِيبُ، فَحاقَ بِالَّذِينَ استهزؤوا بِهِمْ لِثِقَلِ اسْتَفْعَلَ، وَالظَّاهِرُ فِي مَا أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الَّذِي وَجَوَّزُوا أَنْ تَكُونَ مَا مَصْدَرِيَّةً، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي مِنْهُمْ عَائِدٌ عَلَى الرُّسُلِ، أَيْ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنَ الرُّسُلِ وَجَوَّزَ الْحَوْفِيُّ وَأَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا عَلَى غَيْرِ الرُّسُلِ. قَالَ الْحَوْفِيُّ: فِي أُمَمِ الرُّسُلِ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: عَلَى الْمُسْتَهْزِئِينَ، وَيَكُونُ مِنْهُمْ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ الْفَاعِلِ فِي سَخِرُوا وَمَا قَالَاهُ وَجَوَّزَاهُ لَيْسَ بِجَيِّدٍ، أَمَّا قَوْلُ الْحَوْفِيِّ فَإِنَّ الضَّمِيرَ يَعُودُ عَلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ، وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي الْبَقَاءِ فَهُوَ أَبْعَدُ لِأَنَّهُ يَصِيرُ الْمَعْنَى: فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا كَائِنِينَ مِنَ الْمُسْتَهْزِئِينَ فَلَا حَاجَةَ لِهَذِهِ الْحَالِ لِأَنَّهَا مَفْهُومَةٌ مِنْ قَوْلِهِ سَخِرُوا وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ بِكَسْرِ دَالِ وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ عَلَى أَصْلِ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ.
وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِالضَّمِّ إِتْبَاعًا وَمُرَاعَاةً لِضَمِّ التَّاءِ إِذِ الْحَاجِزُ بَيْنَهُمَا سَاكِنٌ، وَهُوَ حَاجِزٌ غَيْرُ حَصِينٍ.
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا حَلَّ بِالْمُكَذِّبِينَ الْمُسْتَهْزِئِينَ وَكَانَ الْمُخَاطَبُونَ بِذَلِكَ أُمَّةً أُمَيَّةً، لَمْ تَدْرُسِ الْكُتُبَ وَلَمْ تُجَالِسِ الْعُلَمَاءَ فَلَهَا أَنْ تُظَافِرَ فِي الْإِخْبَارِ بِهَلَاكِ مَنْ أُهْلِكَ بِذُنُوبِهِمْ أُمِرُوا بِالسَّيْرِ فِي الْأَرْضِ، وَالنَّظَرِ فِيمَا حَلَّ بِالْمُكَذِّبِينَ لِيَعْتَبِرُوا بِذَلِكَ وَتَتَظَافَرَ مَعَ الْإِخْبَارِ الصَّادِقِ الْحِسِّ فَلِلرُّؤْيَةِ مِنْ مَزِيدِ الِاعْتِبَارِ مَا لَا يَكُونُ كَمَا قَالَ بَعْضُ الْعَصْرِيِّينَ:
لَطَائِفُ مَعْنًى فِي الْعِيَانِ وَلَمْ تَكُنْ لِتُدْرَكَ إِلَّا بِالتَّزَاوُرِ وَاللُّقَا
وَالظَّاهِرُ أَنَّ السَّيْرَ الْمَأْمُورَ بِهِ، هُوَ الِانْتِقَالُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ وَأَنَّ النَّظَرَ الْمَأْمُورَ بِهِ، هُوَ نَظَرُ الْعَيْنِ وَأَنَّ الْأَرْضَ هِيَ مَا قَرُبَ مِنْ بِلَادِهِمْ مِنْ دِيَارِ الْهَالِكِينَ بِذُنُوبِهِمْ كَأَرْضِ عَادٍ وَمَدْيَنَ وَمَدَائِنَ قَوْمِ لُوطٍ وَثَمُودَ. وَقَالَ قَوْمٌ: السَّيْرُ وَالنَّظَرُ هُنَا لَيْسَا حِسِّيَّيْنِ بَلْ هُمَا جَوَلَانِ الْفِكْرِ وَالْعَقْلِ فِي أَحْوَالِ مَنْ مَضَى مِنَ الْأُمَمِ الَّتِي كَذَّبَتْ رُسُلَهَا، وَلِذَلِكَ قَالَ الْحَسَنُ: سِيرُوا فِي الْأَرْضِ لِقِرَاءَةِ القرآن أي: اقرؤوا الْقُرْآنَ وَانْظُرُوا مَا آلَ إِلَيْهِ أَمْرُ الْمُكَذِّبِينَ، وَاسْتِعَارَةُ السَّيْرِ فِي الْأَرْضِ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِيهِ بُعْدٌ، وَقَالَ قَوْمٌ: الْأَرْضِ هُنَا عَامٌّ، لأن في كل
(١) سورة هود: ١١/ ٣٨.
445
قُطْرٍ مِنْهَا آثَارًا لِهَالِكِينَ وَعِبَرًا لِلنَّاظِرِينَ وَجَاءَ هُنَا خَاصَّةً ثُمَّ انْظُرُوا بِحَرْفِ الْمُهْلَةِ وَفِيمَا سِوَى ذَلِكَ بِالْفَاءِ الَّتِي هِيَ لِلتَّعْقِيبِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فِي الْفَرْقِ جَعَلَ النَّظَرَ مُتَسَبِّبًا عَنِ السَّيْرِ فَكَانَ السَّيْرُ سَبَبًا لِلنَّظَرِ، ثُمَّ قَالَ: فَكَأَنَّهُ قِيلَ: سِيرُوا لِأَجْلِ النَّظَرِ وَلَا تَسِيرُوا سَيْرَ الْغَافِلِينَ، وَهُنَا مَعْنَاهُ إِبَاحَةُ السَّيْرِ فِي الْأَرْضِ لِلتِّجَارَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْمَنَافِعِ، وَإِيجَابِ النَّظَرِ فِي آثَارِ الْهَالِكِينَ وَنَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ بِ ثُمَّ لِتُبَاعُدِ مَا بَيْنَ الْوَاجِبِ وَالْمُبَاحِ، انْتَهَى.
وَمَا ذَكَرَهُ أَوَّلًا مُتَنَاقِضٌ لِأَنَّهُ جَعَلَ النَّظَرَ مُتَسَبِّبًا عَنِ السَّيْرِ، فَكَانَ السَّيْرُ سَبَبًا لِلنَّظَرِ ثُمَّ قَالَ: فَكَأَنَّمَا قِيلَ: سِيرُوا لِأَجْلِ النَّظَرِ فَجُعِلَ السَّيْرُ مَعْلُولًا بِالنَّظَرِ فَالنَّظَرُ سَبَبٌ لَهُ فَتَنَاقَضَا، وَدَعْوَى أَنَّ الْفَاءَ تَكُونُ سَبَبِيَّةً لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا وَإِنَّمَا مَعْنَاهَا التَّعْقِيبُ فَقَطْ وَأَمَّا مِثْلُ ضَرَبْتُ زَيْدًا فَبَكَى، وَزَنَى مَاعِزٌ فَرُجِمَ، فَالتَّسْبِيبُ فُهِمَ مِنْ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ لِأَنَّ الْفَاءَ مَوْضُوعَةٌ لَهُ وَإِنَّمَا يُفِيدُ تَعْقِيبَ الضَّرْبِ بِالْبُكَاءِ وَتَعْقِيبَ الزِّنَا بِالرَّجْمِ فَقَطْ، وَعَلَى تَسْلِيمِ أَنَّ الْفَاءَ تُفِيدُ التَّسْبِيبَ فَلِمَ كَانَ السَّيْرُ هُنَا سَيْرَ إِبَاحَةٍ وَفِي غَيْرِهِ سَيْرَ وَاجِبٍ؟ فَيَحْتَاجُ ذَلِكَ إِلَى فَرْقٍ بَيْنَ هَذَا الْمَوْضِعِ وبين تلك المواضع.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٢ الى ١٣]
قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٢) وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣)
قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى تَصْرِيفَهُ فِيمَنْ أَهْلَكَهُمْ بِذُنُوبِهِمْ، أَمَرَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسُؤَالِهِمْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَقُولُوا إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ لِلَّهِ تَعَالَى فَيَلْزَمُهُمْ بِذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمَالِكُ الْمُهْلِكُ لَهُمْ، وَهَذَا السُّؤَالُ سُؤَالُ تَبْكِيتٍ وَتَقْرِيرٍ ثُمَّ أَمَرَهُ تَعَالَى بِنِسْبَةِ ذَلِكَ لِلَّهِ تَعَالَى لِيَكُونَ أَوَّلَ مَنْ بَادَرَ إِلَى الِاعْتِرَافِ بِذَلِكَ. وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ فَإِذَا لَمْ يُجِيبُوا قُلْ لِلَّهِ وَقَالَ قَوْمٌ: الْمَعْنَى أَنَّهُ أُمِرَ بِالسُّؤَالِ فَكَأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُجِيبُوا سَأَلُوا فَقِيلَ لَهُمْ قُلْ لِلَّهِ وَلِلَّهِ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ التَّقْدِيرُ قُلْ ذَلِكَ أَوْ هُوَ لِلَّهِ. كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ مُوجِدُ الْعَالَمِ الْمُتَصَرِّفُ فِيهِمْ بِمَا يُرِيدُ، وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى نَفَاذِ قُدْرَتِهِ أَرْدَفَهُ بِذِكْرِ رَحْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ إِلَى الْخَلْقِ وَظَاهِرُ كَتَبَ أَنَّهُ بِمَعْنَى سَطَّرَ وَخَطَّ، وَقَالَ بِهِ قوم هنا وله أُرِيدَ حَقِيقَةُ الْكَتْبِ وَالْمَعْنَى أَمَرَ بِالْكَتْبِ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ. وَقِيلَ: كَتَبَ هُنَا بِمَعْنَى وَعَدَ بِهَا فَضْلًا وَكَرَمًا. وَقِيلَ: بِمَعْنَى أَخْبَرَ. وَقِيلَ: أَوْجَبَ إِيجَابَ فَضْلٍ وَكَرَمٍ
446
لَا إِيجَابَ لُزُومٍ. وَقِيلَ: قَضَاهَا وَأَنْفَذَهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْ أَوْجَبَهَا عَلَى ذَاتِهِ فِي هِدَايَتِكُمْ إِلَى مَعْرِفَتِهِ، وَنَصَبَ الْأَدِلَّةَ لَكُمْ عَلَى تَوْحِيدِ مَا أَنْتُمْ مُقِرُّونَ به من خلق السموات والأرض، انتهى. والرَّحْمَةَ هُنَا الظَّاهِرُ أَنَّهَا عَامَّةٌ فَتَعُمُّ الْمُحْسِنَ وَالْمُسِيءَ فِي الدُّنْيَا، وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنِ الِاتِّصَالِ إِلَيْهِمْ وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ وَلَمْ يَذْكُرْ مُتَعَلِّقَ الرَّحْمَةِ لِمَنْ هِيَ فَتَعُمُّ كَمَا ذَكَرْنَا. وَقِيلَ: الْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلْعَهْدِ، فَيُرَادُ بِهَا الرَّحْمَةُ الْوَاحِدَةُ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْمِائَةِ الرَّحْمَةَ الَّتِي خَلَقَهَا وَأَخَّرَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ يَرْحَمُ بِهَا عِبَادَهُ فِي الْآخِرَةِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الرَّحْمَةَ إِمْهَالُ الْكُفَّارِ وَتَعْمِيرُهُمْ لِيَتُوبُوا، فَلَمْ يُعَاجِلْهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ. وَقِيلَ:
الرَّحْمَةَ لِمَنْ آمَنَ وَصَدَّقَ الرُّسُلَ.
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ لَمَّا قَضَى اللَّهُ الْخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابٍ عَلَى نَفْسِهِ، فَهُوَ مَوْضُوعٌ عِنْدَهُ إِنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي.
لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ تَعَالَى رَحِمَ عِبَادَهُ ذَكَرَ الْحَشْرَ وَأَنَّ فِيهِ الْمُجَازَاةَ عَلَى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُقْسَمٌ عَلَيْهَا وَلَا تَعَلُّقَ لَهَا بِمَا قَبْلَهَا مِنْ جِهَةِ الْإِعْرَابِ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى مُتَعَلِّقَةً بِمَا قَبْلَهَا كَمَا ذكرناه. وَحَكَى الْمَهْدَوِيُّ أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ النَّحْوِيِّينَ قَالُوا: إِنَّهَا تَفْسِيرٌ لِلرَّحْمَةِ تَقْدِيرُهُ: أَنْ يَجْمَعَكُمْ، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ الرَّحْمَةَ وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ «١» الْمَعْنَى أَنْ يَسْجُنُوهُ، وَرَدَّ ذَلِكَ ابْنُ عَطِيَّةَ بِأَنَّ النُّونَ الثَّقِيلَةَ تَكُونُ قَدْ دَخَلَتْ فِي الْإِيجَابِ قَالَ: وَإِنَّمَا تَدْخُلُ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَبِاخْتِصَاصٍ مِنَ الْوَاجِبِ فِي الْقَسَمِ، انْتَهَى.
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ لَا يَحْصُرُ مَوَاضِعَ دُخُولِ نُونِ التَّوْكِيدِ، أَلَا تَرَى دُخُولَهَا فِي الشَّرْطِ وَلَيْسَ وَاحِدًا مِمَّا ذَكَرَ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ «٢» وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَبِاخْتِصَاصٍ مِنَ الْوَاجِبِ فِي الْقَسَمِ بِهَذَا لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ بَلْ لَهُ شُرُوطٌ ذُكِرَتْ فِي عِلْمِ النَّحْوِ وَلَهُمْ أَنْ يَقُولُوا صُورَةُ الْجُمْلَةِ صُورَةُ الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ، فَلِذَلِكَ لَحِقَتِ النُّونُ وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى عَلَى خِلَافِ الْقَسَمِ وَيَبْطُلُ مَا ذَكَرُوهُ، أَنَّ الْجُمْلَةَ الْمُقْسَمَ عَلَيْهَا لَا مَوْضِعَ لَهَا وَحْدَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ، فَإِذَا قُلْتَ وَاللَّهِ لَأَضْرِبَنَّ زيدا، فلأضربنّ لَا مَوْضِعَ لَهُ مِنَ الْإِعْرَابِ فَإِذَا قُلْتَ زَيْدٌ وَاللَّهِ لَأَضْرِبَنَّهُ، كَانَتْ جُمْلَةُ الْقَسَمِ وَالْمُقْسَمِ عَلَيْهِ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ وَالْجَمْعُ هُنَا قِيلَ حَقِيقَةٌ أَيْ لَيَجْمَعَنَّكُمْ فِي الْقُبُورِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ إِلى لِلْغَايَةِ وَالْمَعْنَى لَيَحْشُرَنَّكُمْ مُنْتَهِينَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَيَجْمَعَنَّكُمْ فِي الدُّنْيَا يَخْلُقُكُمْ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَقَدْ
(١) سورة يوسف: ١٢/ ٣٥.
(٢) سورة الأعراف: ٧/ ٢٠٠.
447
تَكُونُ إِلى هُنَا بِمَعْنَى اللَّامِ أَيْ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ «١» وَأَبْعَدَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ إِلى بِمَعْنَى فِي أَيْ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَأَبْعَدُ مِنْهُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهَا صِلَةٌ وَالتَّقْدِيرُ لَيَجْمَعَنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي فِيهِ عَائِدٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنِ ارْتَابَ فِي الْحَشْرِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ عَلَى الْجَمْعِ، وَهُوَ الْمَصْدَرُ الْمَفْهُومُ مِنْ قولهم لَيَجْمَعَنَّكُمْ.
الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ اخْتُلِفَ فِي إِعْرَابِ الَّذِينَ فَقَالَ الْأَخْفَشُ: هُوَ بَدَلٌ مِنْ ضَمِيرِ الْخِطَابِ فِي لَيَجْمَعَنَّكُمْ وَرَدَّهُ الْمُبَرِّدُ بِأَنَّ الْبَدَلَ مِنْ ضَمِيرِ الْخِطَابِ لَا يَجُوزُ، كَمَا لَا يَجُوزُ مَرَرْتُ بِكَ زَيْدٌ وَرَدَّ رَدَّ الْمُبَرِّدِ ابْنُ عَطِيَّةَ. فَقَالَ: مَا فِي الْآيَةِ مُخَالِفٌ لِلْمِثَالِ لِأَنَّ الْفَائِدَةَ فِي الْبَدَلِ مُتَرَتِّبَةٌ مِنَ الثَّانِي، وَإِذَا قُلْتَ مَرَرْتُ بِكَ زَيْدٌ فَلَا فَائِدَةَ فِي الثَّانِي، وَقَوْلُهُ: لَيَجْمَعَنَّكُمْ يَصْلُحُ لِمُخَاطَبَةِ النَّاسِ كَافَّةً فَيُفِيدُنَا إِبْدَالُ الَّذِينَ مِنَ الضَّمِيرِ أَنَّهُمْ هُمُ الْمُخْتَصُّونَ بِالْخِطَابِ وَخُصُّوا عَلَى جِهَةِ الْوَعِيدِ، وَيَجِيءُ هَذَا بَدَلَ الْبَعْضِ مِنَ الْكُلِّ، انْتَهَى. وَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي هَذَا الرَّدِّ لَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّهُ إِذَا جَعَلْنَا لَيَجْمَعَنَّكُمْ يَصْلُحُ لِمُخَاطَبَةِ النَّاسِ كَافَّةً كَانَ الَّذِينَ بَدَلَ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ، وَيَحْتَاجُ إِذْ ذَاكَ إِلَى ضَمِيرٍ وَيُقَدَّرُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ مِنْهُمْ وَقَوْلُهُ فَيُفِيدُنَا إِبْدَالُ الَّذِينَ مِنَ الضَّمِيرِ أَنَّهُمْ هُمُ الْمُخْتَصُّونَ بِالْخِطَابِ، وَخُصُّوا عَلَى جِهَةِ الْوَعِيدِ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ بَدَلَ كُلِّ مِنْ كُلٍّ فَتَنَاقَضَ أَوَّلُ كَلَامِهِ مَعَ آخِرِهِ لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ الصَّلَاحِيَّةُ، يَكُونَ بَدَلَ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ وَمِنْ حَيْثُ اخْتِصَاصُ الْخِطَابِ بِهِمْ يَكُونَ بَدَلَ كُلٍّ مِنْ كُلٍّ، وَالْمُبْدَلُ مِنْهُ مُتَكَلِّمٌ أَوْ مُخَاطَبٌ فِي جَوَازِهِ خِلَافٌ مَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ وَالْأَخْفَشِ، أَنَّهُ يَجُوزُ وَمَذْهَبُ جُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَهَذَا إِذَا لَمْ يَكُنِ الْبَدَلُ يُفِيدُ مَعْنَى التَّوْكِيدِ فَإِنَّهُ إِذْ ذَاكَ يَجُوزُ، وَهَذَا كُلُّهُ مُقَرَّرٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الَّذِينَ مَرْفُوعٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ قَوْلُهُ: فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَدَخَلَتِ الْفَاءُ لِمَا تَضَمَّنَ الْمُبْتَدَأُ مِنْ مَعْنَى الشَّرْطِ كَأَنَّهُ قِيلَ: مَنْ يَخْسَرُ نَفْسَهُ فَهُوَ لَا يُؤْمِنُ، وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى الْبَدَلِ جَعَلَ الْفَاءَ عَاطِفَةً جُمْلَةً عَلَى جُمْلَةٍ وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ مَنْصُوبًا عَلَى الذَّمِّ أَيْ: أُرِيدَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ انْتَهَى وَتَقْدِيرُهُ بِأُرِيدَ لَيْسَ بِجَيِّدٍ إِنَّمَا يُقِدِّرُ النُّحَاةُ الْمَنْصُوبَ عَلَى الذم بأذم وَأَبْعَدُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ مَوْضِعَ الَّذِينَ جَرٌّ نَعْتًا لِلْمُكَذِّبِينَ أَوْ بَدَلًا منهم.
(١) سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: ٣/ ٩.
448
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ (فَإِنْ قُلْتَ) : كَيْفَ جُعِلَ عَدَمُ إِيمَانِهِمْ مُسَبَّبًا عَنْ خُسْرِهِمْ وَالْأَمْرُ بِالْعَكْسِ؟ (قُلْتُ) : مَعْنَاهُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي عِلْمِ اللَّهِ لِاخْتِيَارِهِمُ الْكُفْرَ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ انْتَهَى. وَفِيهِ دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ بِقَوْلِهِ: لِاخْتِيَارِهِمُ الْكُفْرَ.
وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَهُ مُلْكُ مَا حَوَى الْمَكَانُ من السموات وَالْأَرْضِ، ذَكَرَ مَا حَوَاهُ الزَّمَانُ مِنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ يَسْتَلْزِمُ الْآخَرَ، لَكِنَّ النَّصَّ عَلَيْهِمَا أَبْلَغُ فِي الْمِلْكِيَّةِ وَقُدِّمَ الْمَكَانُ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الْعُقُولِ وَالْأَفْكَارِ مِنَ الزَّمَانِ وَلَهُ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ، هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ لِلَّهِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ اسْتِئْنَافُ إِخْبَارٍ وَلَيْسَ مُنْدَرِجًا تَحْتَ قوله: قل، وسَكَنَ هُنَا قَالَ السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ: مِنَ السُّكْنَى أَيْ مَا ثَبَتَ وَتَقَرَّرَ، وَلَمْ يَذْكُرِ الزَّمَخْشَرِيُّ غَيْرَهُ. قَالَ: وَتَعَدِّيهِ بِ فِي كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ «١» وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: هُوَ مِنَ السُّكُونِ الْمُقَابِلِ لِلْحَرَكَةِ وَاخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ. فَقِيلَ: ثَمَّ مَعْطُوفٌ مَحْذُوفٌ أَيْ وَمَا تَحَرَّكَ، وَحُذِفَ كَمَا حُذِفَ فِي قَوْلِهِ: تَقِيكُمُ الْحَرَّ «٢» وَالْبَرْدَ وَقِيلَ: لَا مَحْذُوفَ هُنَا وَاقْتَصَرَ عَلَى السَّاكِنِ لِأَنَّ كُلَّ مُتَحَرِّكٍ قَدْ يَسْكُنُ وَلَيْسَ كُلُّ مَا يَسْكُنُ يَتَحَرَّكُ. وَقِيلَ: لِأَنَّ السُّكُونَ أَكْثَرُ وُجُودًا مِنَ الْحَرَكَةِ، وَقَالَ فِي قَوْلِهِ: وَالنَّهارِ لِأَنَّ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ مَا يَسْكُنُ بِالنَّهَارِ وَيَنْتَشِرُ بِاللَّيْلِ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ، وَرَجَّحَ ابْنُ عَطِيَّةَ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ. قَالَ: وَالْمَقْصِدُ فِي الْآيَةِ عُمُومُ كُلِّ شَيْءٍ وَذَلِكَ لَا يَتَرَتَّبُ إِلَّا بِأَنْ يَكُونَ سَكَنَ بِمَعْنَى اسْتَقَرَّ وَثَبَتَ، وَإِلَّا فَالْمُتَحَرِّكُ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمَخْلُوقَاتِ أَكْثَرُ مِنَ السَّوَاكِنِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْفُلْكَ وَالشَّمْسَ والقمر والنجوم السائحة وَالْمَلَائِكَةَ وَأَنْوَاعَ الْحَيَوَانِ مُتَحَرِّكَةٌ، وَاللَّيْلَ وَالنَّهَارَ حَاصِرَانِ لِلزَّمَانِ انْتَهَى. وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ لِأَنَّهُ قَالَ لَا يَتَرَتَّبُ الْعُمُومُ إِلَّا بِأَنْ يَكُونَ سَكَنَ بِمَعْنَى اسْتَقَرَّ وَثَبَتَ، وَلَا يَنْحَصِرُ فِيمَا ذُكِرَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَتَرَتَّبُ الْعُمُومُ عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَهُ مِنَ السُّكُونِ وَجَعَلَ فِي الْكَلَامِ مَعْطُوفًا مَحْذُوفًا أَيْ وَمَا تَحَرَّكَ، وَعَلَى قَوْلِ مَنِ ادَّعَى أَنَّ كُلَّ مَا يَتَحَرَّكُ قَدْ يَسْكُنُ وَلَيْسَ كُلُّ مَا يَسْكُنُ يَتَحَرَّكُ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ يَتَرَتَّبُ مَعَهُ الْعُمُومُ فَلَمْ يَنْحَصِرِ الْعُمُومُ فِيمَا ذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ.
وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ لَمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُ مُحَاوَرَاتِ الْكُفَّارِ الْمُكَذِّبِينَ وَذِكْرُ الْحَشْرِ الَّذِي فِيهِ الْجَزَاءُ، نَاسَبَ ذِكْرُ صِفَةِ السَّمْعِ لِمَا وَقَعَتْ فِيهِ الْمُحَاوَرَةُ وَصِفَةِ الْعِلْمِ لِتَضَمُّنِهَا مَعْنَى الْجَزَاءِ، إِذْ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى الْوَعِيدِ والتهديد.
(١) سورة إبراهيم: ١٤/ ١٣.
(٢) سورة النحل: ١٦/ ٨١.
449

[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٤ الى ٣٢]

قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٤) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (١٦) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١٨)
قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (١٩) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢١) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٢٢) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (٢٣)
انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٥) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٢٦) وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يَا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٧) بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٢٨)
وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٢٩) وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٠) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يَا حَسْرَتَنا عَلى مَا فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ مَا يَزِرُونَ (٣١) وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٣٢)
450
فَطَرَ خَلَقَ وَابْتَدَأَ مِنْ غَيْرِ مِثَالٍ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا كُنْتُ أَعْرِفُ مَعْنَى فَطَرَ حَتَّى أَتَانِي أَعْرَابِيَّانِ يَخْتَصِمَانِ فِي بِئْرٍ فَقَالَ أَحَدُهُمَا: أَنَا فَطَرْتُهَا أَيِ اخْتَرَعْتُهَا وَأَنْشَأْتُهَا، وَفَطَرَ أَيْضًا شَقَّ يُقَالُ فَطَرَ نَابَ الْبَعِيرِ وَمِنْهُ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ؟ وَقَوْلُهُ: ينفطرن مِنْهُ. كَشَفَ الضُّرَّ: أَزَالَهُ، وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا أَزَالَتْ مَا يَسْتُرُهُمَا. الْقَهْرُ: الْغَلَبَةُ وَالْحَمْلُ عَلَى الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ.
الْوَقْرُ: الثِّقَلُ فِي السَّمْعِ يُقَالُ وَقَرَتْ أُذُنُهُ بِفَتْحِ الْقَافِ وَكَسْرِهَا، وَسُمِعَ أُذُنٌ مَوْقُورَةٌ فَالْفِعْلُ عَلَى هَذَا وَقَرَتْ وَالْوَقْرُ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَكَسْرِهَا. أَسَاطِيرُ: جَمْعُ إِسْطَارَةٍ وَهِيَ التُّرَّهَاتُ قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ. وَقِيلَ: أسطورة كأضحوكة. وقيل: واحد أُسْطُورٌ. وَقِيلَ: إِسْطِيرٌ وَإِسْطِيرَةٌ. وَقِيلَ:
جَمْعٌ لَا وَاحِدَ لَهُ مِثْلُ عَبَادِيدَ. وَقِيلَ: جمع الجمع يقال سطر وَسُطُرٌ، فَمَنْ قَالَ: سَطْرٌ جَمَعَهُ فِي الْقَلِيلِ عَلَى أَسْطُرٍ وَفِي الْكَثِيرِ عَلَى سُطُورٍ وَمَنْ قَالَ: سُطُرٌ جَمَعَهُ عَلَى أَسْطَارٍ ثُمَّ جَمَعَ أَسْطَارًا عَلَى أَسَاطِيرَ قَالَهُ يَعْقُوبُ. وَقِيلَ: هُوَ جَمْعُ جَمْعِ الْجَمْعِ، يُقَالُ: سَطْرٌ وَأَسْطُرٌ ثُمَّ أَسْطَارٌ ثُمَّ أَسَاطِيرٌ ذُكِرَ ذَلِكَ عَنِ الزَّجَّاجِ، وَلَيْسَ أَسْطَارٌ جَمْعَ أَسْطُرٍ بَلْ هُمَا جَمْعَا قِلَّةٍ لِسَطْرٍ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقِيلَ هُوَ اسْمُ جَمْعٍ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ كَعَبَادِيدَ وَشَمَاطِيطَ انْتَهَى. وَهَذَا لَا تُسَمِّيهِ النُّحَاةُ اسْمَ جَمْعٍ لِأَنَّهُ عَلَى وَزْنِ الْجُمُوعِ بَلْ يُسَمُّونَهُ جَمْعًا وَإِنْ لَمْ يُلْفَظْ لَهُ بِوَاحِدٍ. نَأَى نَأْيًا بَعُدَ وَتَعْدِيَتُهُ لِمَفْعُولٍ مَنْصُوبٍ بِالْهَمْزَةِ لَا بِالتَّضْعِيفِ، وَكَذَا مَا كَانَ مِثْلُهُ مِمَّا عَيْنُهُ هَمْزَةٌ. وَقَفَ عَلَى كَذَا: حَبَسَ وَمَصْدَرُ الْمُتَعَدِّي وَقْفٌ وَمَصْدَرُ اللَّازِمِ وُقُوفٌ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِالْمَصْدَرِ. الْبَغْتُ وَالْبَغْتَةُ: الْفَجْأَةُ يُقَالُ بَغَتَهَ يَبْغَتُهُ أَيْ فَجَأَهُ يَفْجَأُهُ وَهِيَ مَجِيءُ الشَّيْءِ سُرْعَةً مِنْ غَيْرِ جَعْلِ بَالِكَ إِلَيْهِ وَغَيْرِ عِلْمِكَ بِوَقْتِ مَجِيئِهِ. فَرَّطَ قَصَّرَ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى تَرْكِ التَّقْصِيرِ.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: فَرَّطَ ضَيَّعَ. وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: فَرَطَ سَبَقَ وَالْفَارِطُ السَّابِقُ، وَفَرَطَ خَلَّى السَّبْقَ لِغَيْرِهِ. الْأَوْزَارُ: الْآثَامُ وَالْخَطَايَا وَأَصْلُهُ الثِّقَلُ مِنَ الحمل، وزرته جملته وَأَوْزَارُ الْحَرْبِ أَثْقَالُهَا مِنَ السِّلَاحِ، وَمِنْهُ الْوَزِيرُ لِأَنَّهُ يَحْمِلُ عَنِ السُّلْطَانِ أَثْقَالَ مَا يُسْنَدُ إِلَيْهِ مِنْ تَدْبِيرِ مُلْكِهِ.
اللَّهْوُ: صَرْفُ النَّفْسِ عَنِ الْجِدِّ إِلَى الْهَزْلِ يُقَالُ مِنْهُ لَهَا يَلْهُو وَلُهِيَ عَنْ كَذَا صَرَفَ نَفْسَهُ عَنْهُ، وَالْمَادَّةُ وَاحِدَةٌ انْقَلَبَتِ الْوَاوُ يَاءً لِكَسْرِ مَا قَبْلَهَا نَحْوَ شَقِيٌّ وَرَضِيٌ. قَالَ الْمَهْدَوِيُّ: الَّذِي مَعْنَاهُ الصَّرْفُ لَامُهُ يَاءٌ بِدَلِيلِ قَوْلِهِمْ لَهَيَانِ وَلَامُ الْأَوَّلِ وَاوٌ، انْتَهَى. وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ الْوَاوَ فِي التَّثْنِيَةِ انْقَلَبَتْ يَاءً وَلَيْسَ أَصْلُهَا الْيَاءَ، أَلَا تَرَى إِلَى تَثْنِيَةِ شَجٍ شَجِيَانِ وَهُوَ مِنْ ذَوَاتِ الْوَاوِ مِنَ الشَّجْوِ.
451
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَمَّا تَقَدَّمَ أَنَّهُ تَعَالَى اخترع السموات وَالْأَرْضَ، وَأَنَّهُ مَالِكٌ لِمَا تَضَمَّنَهُ الْمَكَانُ وَالزَّمَانُ أَمَرَ تَعَالَى نَبِيَّهُ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّوْبِيخِ لَهُمْ أَيْ مَنْ هَذِهِ صِفَاتُهُ هُوَ الَّذِي يُتَّخَذُ وَلِيًّا وَنَاصِرًا وَمُعِينًا لَا الْآلِهَةُ الَّتِي لَكُمْ، إِذْ هِيَ لَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ لِأَنَّهَا بَيْنَ جَمَادٍ أَوْ حَيَوَانٍ مَقْهُورٍ، وَدَخَلَتْ هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى الِاسْمِ دُونَ الْفِعْلِ لِأَنَّ الْإِنْكَارَ فِي اتِّخَاذِ غَيْرِ اللَّهِ وَلِيًّا لَا فِي اتِّخَاذِ الْوَلِيِّ كَقَوْلِكَ لِمَنْ ضَرَبَ زَيْدًا وَهُوَ مِمَّنْ لَا يَسْتَحِقُّ الضَّرْبَ بَلْ يَسْتَحِقُّ الْإِكْرَامَ أَزَيْدًا ضَرَبْتَ، تنكر عليه أن كون مثل هذا يضرب ونحو، أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ «١» وآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ «٢» وَقَالَ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ: أُمِرَ أَنْ يَقُولَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ لِلْكَفَرَةِ الَّذِينَ دَعَوْهُ إِلَى عِبَادَةِ أَوْثَانِهِمْ، فَتَجِيءُ الْآيَةُ عَلَى هَذَا جَوَابًا لِكَلَامِهِمُ، انْتَهَى. وَهَذَا يَحْتَاجُ إِلَى سَنَدٍ فِي أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ مَا ذَكَرَهُ وَانْتِصَابُ غَيْرِ عَلَى أَنَّهَا مَفْعُولٌ أَوَّلٌ لا تخذ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فاطِرِ فَوَجَّهَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَالزَّمَخْشَرِيُّ وَنَقَلَهَا الْحَوْفِيُّ عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِلَّهِ، وَخَرَّجَهُ أَبُو الْبَقَاءِ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ وَكَأَنَّهُ رأى أن الفضل بَيْنَ الْمُبْدَلِ مِنْهُ وَالْبَدَلِ أَسْهَلُ مِنَ الْفَصْلِ بَيْنَ الْمَنْعُوتِ وَالنَّعْتِ، إِذِ الْبَدَلُ عَلَى الْمَشْهُورِ هُوَ عَلَى تَكْرَارُ الْعَامِلِ وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ بِرَفْعِ الرَّاءِ عَلَى إِضْمَارِ هُوَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَوْ عَلَى الِابْتِدَاءِ انْتَهَى. وَيُحْتَاجُ إِلَى إِضْمَارِ خَبَرٍ وَلَا دَلِيلَ عَلَى حَذْفِهِ وَقُرِئَ شَاذًّا بِنَصْبِ الرَّاءِ وَخَرَّجَهُ أَبُو الْبَقَاءِ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِوَلِيٍّ عَلَى إِرَادَةِ التَّنْوِينِ أَوْ بَدَلٌ مِنْهُ أَوْ حَالٌ، وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا أَأَجْعَلُ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ غَيْرَ اللَّهِ، انْتَهَى.
وَالْأَحْسَنُ نَصْبُهُ عَلَى الْمَدْحِ. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ فَطَرَ جَعَلَهُ فِعْلًا مَاضِيًا.
وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ أَيْ يَرْزُقُ وَلَا يُرْزَقُ كَقَوْلِهِ: مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ «٣» وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمَنَافِعَ كُلَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَخُصَّ الْإِطْعَامُ مِنْ بَيْنِ أَنْوَاعِ الِانْتِفَاعَاتِ لِمَسِّ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ كَمَا خُصَّ الرِّبَا بِالْأَكْلِ وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ الِانْتِفَاعَ بِالرِّبَا. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَالْأَعْمَشُ وَأَبُو حَيْوَةَ وَعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ وَلا يُطْعَمُ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الْأَكْلِ وَلَا يُشْبِهُ الْمَخْلُوقِينَ. وَقَرَأَ يَمَانُ الْعَمَّانِيُّ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَلا يُطْعَمُ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ مِثْلُ الْأَوَّلِ فَالضَّمِيرُ فِي وَهُوَ يُطْعِمُ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ وَفِي وَلا يُطْعَمُ عَائِدٌ عَلَى الْوَلِيِّ. وَرَوَى ابْنُ الْمَأْمُونِ عَنْ يَعْقُوبَ
(١) سورة الزمر: ٣٩/ ٦٤.
(٢) سورة يونس: ١٠/ ٥٩.
(٣) سورة الذاريات: ٥١/ ٥٧. [.....]
452
وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ عَلَى بِنَاءِ الْأَوَّلِ لِلْمَفْعُولِ وَالثَّانِي لِلْفَاعِلِ وَالضَّمِيرُ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَقَرَأَ الْأَشْهَبُ: وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ على بِنَائِهِمَا لِلْفَاعِلِ وَفُسِّرَ بِأَنَّ مَعْنَاهُ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يَسْتَطْعِمُ، وَحَكَى الْأَزْهَرِيُّ أَطْعَمْتُ بِمَعْنَى اسْتَطْعَمْتُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى وَهُوَ يُطْعِمُ تَارَةً وَلَا يُطْعِمُ أُخْرَى عَلَى حَسَبِ الْمَصَالِحِ، كَقَوْلِكَ هُوَ يُعْطِي وَيَمْنَعُ وَيَبْسُطُ وَيَقْدِرُ وَيُغْنِي وَيُفْقِرُ، وَفِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بِاخْتِلَافِ الْفِعْلَيْنِ تَجْنِيسُ التَّشْكِيلِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الشَّكْلُ فَرْقًا بَيْنَ الْكَلِمَتَيْنِ وَسَمَّاهُ أُسَامَةُ بْنُ مُنْقِذٍ فِي بَدِيعَتِهِ تَجْنِيسَ التَّحْرِيفِ، وَهُوَ بِتَجْنِيسِ التَّشْكِيلِ أَوْلَى.
قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِأَنَّ النَّبِيَّ سَابِقُ أُمَّتِهِ فِي الْإِسْلَامِ كَقَوْلِهِ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ «١» وَكَقَوْلِ مُوسَى سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ «٢» قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْمَعْنَى أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَبِهَذِهِ الشَّرِيعَةِ، وَلَا يَتَضَمَّنُ الْكَلَامِ إِلَّا ذَلِكَ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ هُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ. قَالَ الْحَسَنُ:
مَعْنَاهُ أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ أُمَّتِي. قِيلَ: وَفِي هَذَا الْقَوْلِ نَظَرٌ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ امْتِنَاعٌ عَنِ الْحَقِّ وَعَدَمُ انْقِيَادٍ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا هَذَا عَلَى طَرِيقِ التَّعْرِيضِ عَلَى الْإِسْلَامِ كَمَا يَأْمُرُ الْمَلِكُ رَعِيَّتَهُ بِأَمْرٍ ثُمَّ يُتْبِعُهُ بِقَوْلِهِ أَنَا أَوَّلُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ لِيَحْمِلَهُمْ عَلَى فِعْلِ ذَلِكَ. وَقِيلَ: أَرَادَ الْأَوَّلِيَّةَ فِي الرُّتْبَةِ وَالْفَضِيلَةَ كَمَا
جَاءَ نَحْنُ الْآخِرُونَ الْأَوَّلُونَ وَفِي رِوَايَةٍ السَّابِقُونَ.
وَقِيلَ: أَسْلَمَ أَخْلَصَ وَلَمْ يَعْدِلْ بِاللَّهِ شَيْئًا. وَقِيلَ: اسْتَسْلَمَ. وَقِيلَ: أَرَادَ دُخُولَهُ فِي دِينِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَقَوْلِهِ: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ «٣». وَقِيلَ: أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ يَوْمَ الْمِيثَاقِ فَيَكُونُ سَابِقًا عَلَى الْخَلْقِ كُلِّهِمْ، كَمَا قَالَ: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ «٤».
وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَيْ وَقِيلَ لِي وَالْمَعْنَى أَنَّهُ أُمِرَ بِالْإِسْلَامِ وَنُهِيَ عَنِ الشِّرْكِ، هَكَذَا خَرَّجَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ عَلَى إِضْمَارِ. وَقِيلَ لِي: لِأَنَّهُ لَا يَنْتَظِمُ عَطْفُهُ عَلَى لَفْظِ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ فَيَكُونُ مُنْدَرِجًا تَحْتَ لَفْظِ قُلْ إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ التَّرْكِيبُ وَلَا أَكُونُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وَقِيلَ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَعْمُولِ قُلْ حَمْلًا عَلَى الْمَعْنَى، وَالْمَعْنَى قُلْ إِنِّي قِيلَ لِي كُنْ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ، وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَهُمَا جَمِيعًا مَحْمُولَانِ عَلَى الْقَوْلِ لَكِنْ أَتَى الْأَوَّلُ بِغَيْرِ لَفْظِ الْقَوْلِ، وَفِيهِ مَعْنَاهُ فَحُمِلُ الثَّانِي عَلَى الْمَعْنَى وَقِيلَ هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قُلْ أُمِرَ بِأَنْ يَقُولَ كَذَا وَنُهِيَ عَنْ كَذَا. وَقِيلَ: هُوَ نَهْيٌ عَنْ مُوَالَاةِ المشركين. وقيل:
(١) سورة الأنعام: ٦/ ١٦٣.
(٢) سورة الأعراف: ٧/ ١٤٣.
(٣) سورة الحج: ٢٢/ ٧٨.
(٤) سورة الأحزاب: ٣٣/ ٧.
453
الْخِطَابُ لَهُ لَفْظًا وَالْمُرَادُ أُمَّتُهُ وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ لِقَوْلِهِ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ «١» وَالْعِصْمَةُ تُنَافِي إِمْكَانَ الشِّرْكِ.
قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ الظَّاهِرُ أَنَّ الْخَوْفَ هُنَا عَلَى بَابِهِ وَهُوَ تَوَقُّعُ الْمَكْرُوهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَعْنَى أَخافُ أعلم وعَصَيْتُ عَامَّةٌ فِي أَنْوَاعِ الْمَعَاصِي، وَلَكِنَّهَا هُنَا إِنَّمَا تُشِيرُ إِلَى الشِّرْكِ الَّذِي نُهِيَ عَنْهُ قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَالْخَوْفُ لَيْسَ بِحَاصِلٍ لِعِصْمَتِهِ بَلْ هُوَ مُعَلَّقٌ بِشَرْطٍ هُوَ مُمْتَنِعٌ فِي حَقِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَوَابُهُ مَحْذُوفٌ وَلِذَلِكَ جَاءَ بِصِيغَةِ الْمَاضِي. فَقِيلَ: هُوَ شَرْطٌ مُعْتَرِضٌ لَا مَوْضِعَ لَهُ مِنَ الْإِعْرَابِ كَالِاعْتِرَاضِ بِالْقَسَمِ.
وَقِيلَ: هُوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ كَأَنَّهُ قِيلَ إِنِّي أَخَافُ عَاصِيًا رَبِّي. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: مِثَالُ الْآيَةِ إِنْ كَانَتِ الْخَمْسَةُ زَوْجًا كَانَتْ مُنْقَسِمَةً مُتَسَاوِيَتَيْنِ يَعْنِي أَنَّهُ تَعْلِيقٌ عَلَى مُسْتَحِيلٍ وَالْيَوْمُ الْعَظِيمُ هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ.
مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ قَرَأَ حَمْزَةُ وَأَبُو بَكْرٍ وَالْكِسَائِيُّ مَنْ يُصْرَفْ مَبْنِيًّا للفاعل فمن مَفْعُولٌ مُقَدَّمٌ وَالضَّمِيرُ فِي يُصْرَفْ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ أُبَيٍّ مَنْ يُصْرَفْ اللَّهُ وَفِي عَنْهُ عَائِدٌ عَلَى الْعَذَابِ وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَكِنُّ فِي رَحِمَهُ عَائِدٌ عَلَى الرَّبِّ أَيْ أَيَّ شَخْصٍ يَصْرِفِ اللَّهُ عَنْهُ الْعَذَابَ فَقَدْ رَحِمَهُ الرَّحْمَةَ الْعُظْمَى وَهِيَ النَّجَاةُ مِنَ الْعَذَابِ، وَإِذَا نُجِّيَ مِنَ الْعَذَابِ دَخَلَ الْجَنَّةَ وَيَجُوزُ أَنْ يُعْرَبَ مَنْ مُبْتَدَأً وَالضَّمِيرُ فِي عَنْهُ عَائِدٌ عَلَيْهِ، وَمَفْعُولُ يُصْرَفْ مَحْذُوفٌ اخْتِصَارًا إِذْ قَدْ تَقَدَّمَ فِي الْآيَةِ قَبْلَ التَّقْدِيرِ أي شخص يصرف الله الْعَذَابَ عَنْهُ فَقَدْ رَحِمَهُ، وَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ الِاشْتِغَالِ فَيَكُونَ مَنْ مَنْصُوبًا بِإِضْمَارِ فِعْلٍ يُفَسِّرُهُ مَعْنَى يُصْرَفْ وَيَجُوزُ عَلَى إِعْرَابِ مَنْ مُبْتَدَأً أَنْ يَكُونَ الْمَفْعُولُ مَذْكُورًا، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ عَلَى حَذْفٍ أَيْ هَوْلَ يَوْمِئِذٍ فَيَنْتَصِبُ يَوْمَئِذٍ انْتِصَابَ الْمَفْعُولِ بِهِ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ مَنْ يُصْرَفْ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الصَّارِفَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، فَحُذِفَ لِلْعِلْمِ بِهِ أَوْ لِلْإِيجَازِ إِذْ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الرَّبِّ وَيَجُوزُ فِي هَذَا الْوَجْهِ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي يُصْرَفْ عَائِدًا عَلَى مَنْ وَفِي عَنْهُ عَائِدًا عَلَى الْعَذَابِ أَيْ أَيُّ شَخْصٍ يُصْرَفْ عَنِ الْعَذَابِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي عَنْهُ عائدا على مَنْ والضمير فِي يُصْرَفْ عَائِدًا عَلَى الْعَذَابِ أَيْ أَيُّ شَخْصٍ يصرف العذاب عَنْهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضميران عائدين عَلَى مَنْ وَمَفْعُولُ يُصْرَفْ يَوْمَئِذٍ وَهُوَ مَبْنِيٌّ لِإِضَافَتِهِ إِلَى إِذْ فَهُوَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بيصرف وَالتَّنْوِينُ فِي يَوْمَئِذٍ تَنْوِينُ
(١) سورة الزمر: ٣٩/ ٦٥.
454
عِوَضٍ مِنْ جُمْلَةٍ مَحْذُوفَةٍ يَتَضَمَّنُهَا الْكَلَامُ السَّابِقُ التَّقْدِيرُ يَوْمَ، إِذْ يَكُونُ الْجَزَاءُ إِذْ لَمْ يَتَقَدَّمْ جُمْلَةٌ مُصَرَّحٌ بِهَا يَكُونُ التَّنْوِينُ عِوَضًا عَنْهَا، وَتَكَلَّمَ الْمُعْرِبُونَ فِي التَّرْجِيحِ بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ عَلَى عَادَتِهِمْ فَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ وَأَشَارَ أَبُو عَلِيٍّ إِلَى تَحْسِينِهِ قِرَاءَةَ يُصْرَفْ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ لِتُنَاسِبَ فَقَدْ رَحِمَهُ وَلَمْ يَأْتِ فَقَدْ رُحِمَ وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ وَأُبَيٍّ مَنْ يُصْرَفْ اللَّهُ وَرَجَّحَ الطَّبَرِيُّ قِرَاءَةَ يُصْرَفْ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ قَالَ: لِأَنَّهَا أَقَلُّ إِضْمَارًا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
وَأَمَّا مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَتَخَبَّطَ فِي كِتَابِ الْهِدَايَةِ فِي تَرْجِيحِ الْقِرَاءَةِ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَمَثَّلَ فِي احْتِجَاجِهِ بِأَمْثِلَةٍ فَاسِدَةٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا تَوْجِيهٌ لَفْظِيٌّ يُشِيرُ إِلَى التَّرْجِيحِ تَعَلُّقُهُ خَفِيفٌ، وَأَمَّا الْمَعْنَى فَالْقِرَاءَتَانِ وَاحِدٌ انْتَهَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا غَيْرَ مُرَّةٍ أَنَّا لَا نُرَجِّحُ بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ الْمُتَوَاتِرَتَيْنِ. وَحَكَى أَبُو عَمْرٍو الزَّاهِدُ فِي كِتَابِ الْيَوَاقِيتِ أَنَّ أَبَا الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنِ يَحْيَى ثَعْلَبًا كَانَ لَا يَرَى التَّرْجِيحَ بَيْنَ الْقِرَاءَاتِ السَّبْعِ. وَقَالَ: قَالَ ثَعْلَبٌ مِنْ كَلَامِ نَفْسِهِ إِذَا اخْتَلَفَ الْإِعْرَابُ فِي الْقُرْآنِ عَنِ السَّبْعَةِ، لَمْ أُفَضِّلْ إِعْرَابًا عَلَى إِعْرَابٍ فِي الْقُرْآنِ فَإِذَا خَرَجْتُ إِلَى الْكَلَامِ كَلَامِ النَّاسِ فَضَّلْتُ الْأَقْوَى وَنِعْمَ السَّلَفُ لَنَا، أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى كَانَ عَالِمًا بِالنَّحْوِ وَاللُّغَةِ مُتَدَيِّنًا ثِقَةً.
وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ الْإِشَارَةَ إِلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مَنْ يُصْرَفْ أَيْ وَذَلِكَ الصَّرْفُ هُوَ الظَّفَرُ وَالنَّجَاةُ من الهلكة والْمُبِينُ الْبَيِّنُ فِي نَفْسِهِ أَوِ الْمُبَيِّنُ غَيْرَهُ.
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أَيْ إِنْ يُصِبْكَ وَيَنَلْكَ بِضُرٍّ وَحَقِيقَةُ الْمَسِّ تَلَاقِي جِسْمَيْنِ، وَيَظْهَرُ أَنَّ الْبَاءَ فِي بِضُرٍّ وفي بِخَيْرٍ للتعدية وَإِنْ كَانَ الْفِعْلُ مُتَعَدِيًّا كَأَنَّهُ قِيلَ: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ الضر فَقَدْ مَسَّكَ، وَالتَّعْدِيَةُ بِالْبَاءِ فِي الْفِعْلِ الْمُتَعَدِّي قَلِيلَةٌ وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ «١» وَقَوْلُ الْعَرَبِ: صَكَكْتُ أَحَدَ الْحَجَرَيْنِ بِالْآخَرِ وَالضُّرُّ بِالضَّمِّ سُوءُ الْحَالِ فِي الْجِسْمِ وَغَيْرِهِ، وَبِالْفَتْحِ ضِدُّ النَّفْعِ وَفَسَّرَ السُّدِّيُّ الضُّرَّ هُنَا بِالسَّقَمِ وَالْخَيْرَ بِالْعَافِيَةِ.
وَقِيلَ: الضُّرُّ الْفَقْرُ وَالْخَيْرُ الْغِنَى وَالْأَحْسَنُ الْعُمُومُ فِي الضُّرِّ مِنَ الْمَرَضِ وَالْفَقْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَفِي الْخَيْرِ مِنَ الْغِنَى وَالصِّحَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ،
وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَقَدْ جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ فَلَوْ أَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ جَمِيعًا أَرَادُوا أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَقْضِهِ اللَّهُ لَكَ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ». أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ.
وَالَّذِي يُقَابِلُ الْخَيْرَ هُوَ الشَّرُّ وَنَابَ عَنْهُ هُنَا الضُّرُّ وعدل عن
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢٥١.
455
الشَّرِّ، لِأَنَّ الشَّرَّ أَعَمُّ مِنَ الضُّرِّ فَأْتِي بِلَفْظِ الضُّرِّ الَّذِي هُوَ أَخَصُّ وَبِلَفْظِ الْخَيْرِ الَّذِي هُوَ عَامٌّ مُقَابِلٌ لِعَامٍّ تَغْلِيبًا لِجِهَةِ الرَّحْمَةِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: نَابَ الضُّرُّ هُنَا مَنَابَ الشَّرِّ وَإِنْ كَانَ الشَّرُّ أَعَمَّ مِنْهُ، فَقَابَلَ الْخَيْرَ وَهَذَا مِنَ الْفَصَاحَةِ عُدُولٌ عَنْ قَانُونِ التَّكَلُّفِ والضعة فَإِنَّ بَابَ التَّكَلُّفِ فِي تَرْصِيعِ الْكَلَامِ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ مُقْتَرِنًا بِالَّذِي يَخْتَصُّ بِهِ بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الِاخْتِصَاصِ مُوَافَقَةً أَوْ مُضَاهَاةً، فَمِنْ ذَلِكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى «١» فَجَاءَ بِالْجُوعِ مَعَ الْعُرِيِّ وَبَابُهُ أَنْ يَكُونَ مَعَ الظَّمَأِ وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:
كأني لم أركب جواد اللذة وَلِمَ أَتَبَطَّنْ كَاعِبًا ذَاتَ خِلْخَالِ
وَلَمْ أَسْبَأِ الزِّقَّ الرَّوِيَّ وَلَمْ أَقُلْ لِخَيْلِي كُرِّي كَرَّةً بَعْدَ إِجْفَالِ
انْتَهَى. وَالْجَامِعُ فِي الْآيَةِ بَيْنَ الْجُوعِ وَالْعُرِيِّ هُوَ اشْتِرَاكُهُمَا فِي الْخُلُوِّ فَالْجُوعُ خُلُوُّ الْبَاطِنِ وَالْعُرِيُّ خُلُوُّ الظَّاهِرِ وَبَيْنَ الظَّمَأِ وَالضَّحَاءِ اشْتِرَاكُهُمَا فِي الِاحْتِرَاقِ، فَالظَّمَأُ احْتِرَاقُ الْبَاطِنِ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِمْ بَرَّدَ الْمَاءُ حَرَارَةَ جَوْفِي وَالضَّحَاءُ احْتِرَاقُ الظَّاهِرِ وَالْجَامِعُ فِي الْبَيْتِ الْأَوَّلِ بَيْنَ الرُّكُوبِ لِلَذَّةِ وَهِيَ الصَّيْدُ وَتَبَطُّنِ الْكَاعِبِ اشْتِرَاكُهُمَا فِي لَذَّةِ الِاسْتِعْلَاءِ وَالِاقْتِنَاصِ وَالْقَهْرِ وَالظَّفَرِ بِمِثْلِ هَذَا الرُّكُوبِ، أَلَا تَرَى إِلَى تَسْمِيَتِهِمْ هَنَ الْمَرْأَةِ بِالرَّكْبِ هُوَ فِعْلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ أَيِ مَرْكُوبٍ قَالَ الرَّاجِزُ:
إِنَّ لَهَا لَرَكْبًا إِرْزَبَّا كَأَنَّهُ جَبْهَةُ ذُرَى حُبَّا
وَفِي الْبَيْتِ الثَّانِي بَيْنَ سَبَأِ الْخَمْرِ وَالرُّجُوعِ بَعْدَ الْهَزِيمَةِ اشْتِرَاكُهُمَا فِي الْبَذْلِ، فَشِرَاءُ الْخَمْرِ فِيهِ بَدَلُ الْمَالِ وَالرُّجُوعُ بَعْدَ الِانْهِزَامِ فِيهِ بَذْلُ الرُّوحِ وَمَا أَحْسَنَ تَعَقُّلَ امْرِئِ الْقَيْسِ فِي بَيْتَيْهِ، حَيْثُ انْتَقَلَ مِنَ الْأَدْنَى إِلَى الْأَعْلَى لِأَنَّ الظَّفَرَ بِجِنْسِ الْإِنْسَانِ أَعْلَى وَأَشْرَفُ مِنَ الظَّفَرِ بِغَيْرِ الْجِنْسِ، أَلَا تَرَى أَنَّ تَعَلُّقَ النَّفْسِ بِالْعِشْقِ أَكْثَرُ مِنْ تَعَلُّقِهَا بِالصَّيْدِ وَلِأَنَّ بَذْلَ الرُّوحِ أَعْظَمُ مِنْ بَذْلِ الْمَالِ، وَمُنَاسَبَةُ تَقْدِيمِ مَسِّ الضُّرِّ عَلَى مَسِّ الْخَيْرِ ظَاهِرَةٌ لِاتِّصَالِهِ بِمَا قَبْلَهُ وَهُوَ التَّرْهِيبُ الدَّالُّ عَلَيْهِ قُلْ إِنِّي أَخافُ وَمَا قَبْلَهُ وَجَاءَ جَوَابُ الْأَوَّلِ بِالْحَصْرِ فِي قَوْلِهِ: فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ مُبَالَغَةً فِي الِاسْتِقْلَالِ بِكَشْفِهِ وَجَاءَ جَوَابُ الثَّانِي بِقَوْلِهِ: فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ دَلَالَةٌ عَلَى قُدْرَتِهِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَيَنْدَرِجُ فِيهِ الْمَسُّ بِخَيْرٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَلَوْ قِيلَ: إِنَّ الْجَوَابَ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الْأَوَّلِ عَلَيْهِ لَكَانَ وَجْهًا حَسَنًا وَتَقْدِيرُهُ فَلَا مُوصِلَ لَهُ إِلَيْكَ إِلَّا هُوَ وَالْأَحْسَنُ تَقْدِيرُهُ، فَلَا رَادَّ لَهُ لِلتَّصْرِيحِ بِمَا يُشْبِهُهُ فِي قَوْلِهِ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا راد لفضله ثم
(١) سورة طه: ٢٠/ ١١٨، ١١٩.
456
أَتَى بَعْدُ بِمَا هُوَ شَامِلٌ لِلْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَهُوَ قُدْرَتَهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَفِي قَوْلِهِ: فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ فَلَا كَاشِفَ لَهُ عَنْكَ إِلَّا هُوَ.
وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ لما ذكره تَعَالَى انْفِرَادَهُ بِتَصَرُّفِهِ بِمَا يُرِيدُهُ مِنْ ضُرٍّ وَخَيْرٍ وَقُدْرَتَهُ عَلَى الْأَشْيَاءِ ذَكَرَ قَهْرَهُ وَغَلَبَتَهُ، وَأَنَّ الْعَالَمَ مَقْهُورُونَ مَمْنُوعُونَ مِنْ بُلُوغِ مُرَادِهِمْ بَلْ يَقْسِرُهُمْ وَيُجْبِرُهُمْ عَلَى مَا يُرِيدُهُ هُوَ تعالى وفَوْقَ حَقِيقَةٌ فِي الْمَكَانِ وَأَبْعَدَ مَنْ جَعَلَهَا هُنَا زَائِدَةً، وَأَنَّ التَّقْدِيرَ وَهُوَ الْقَاهِرُ لِعِبَادِهِ وَأَبْعَدُ مِنْ هَذَا قَوْلُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهَا هُنَا حَقِيقَةٌ فِي الْمَكَانِ، وَأَنَّهُ تَعَالَى حَالٌ فِي الْجِهَةِ الَّتِي فَوْقَ الْعَالَمِ إِذْ يَقْتَضِي التَّجْسِيمَ وَأَمَّا الْجُمْهُورُ فَذَكَرُوا أَنَّ الْفَوْقِيَّةَ هُنَا مَجَازٌ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ فَوْقَهُمْ بِالْإِيجَادِ وَالْإِعْدَامِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ مَعْنَاهُ فَوْقَ قَهْرِ عِبَادِهِ بِوُقُوعِ مُرَادِهِ دُونَ مُرَادِهِمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: تَصْوِيرٌ لِلْقَهْرِ وَالْعُلُوِّ وَالْغَلَبَةِ وَالْقُدْرَةِ كَقَوْلِهِ: وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ «١» انْتَهَى.
وَالْعَرَبُ تَسْتَعْمِلُ فَوْقَ إِشَارَةً لِعُلُوِّ الْمَنْزِلَةِ وَشُفُوفِهَا عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الرُّتَبِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ «٢» وَقَوْلُهُ: وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ «٣» وَقَالَ النَّابِغَةُ الْجَعْدِيُّ:
بَلَغْنَا السَّمَاءَ مَجْدًا وَجُودًا وَسُؤْدُدًا وَإِنَّا لِنَرْجُو فَوْقَ ذَلِكَ مَظْهَرَا
يُرِيدُ عُلُوَّ الرُّتْبَةِ وَالْمَنْزِلَةِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: صِفَاتُ الْكَمَالِ مَحْصُورَةٌ فِي الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ فَقَوْلُهُ: وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ إِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ إِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ الْعِلْمِ أَمَّا كَوْنُهُ قَاهِرًا فَلِأَنَّ مَا عَدَاهُ تَعَالَى مُمْكِنُ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ، وَالْمُمْكِنُ لِذَاتِهِ لَا يَتَرَجَّحُ وَجُودُهُ عَلَى عَدَمِهِ وَلَا عَدَمُهُ عَلَى وُجُودِهِ إِلَّا بِتَرْجِيحِهِ تَعَالَى وَإِيجَادِهِ، فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ الَّذِي قَهَرَ الْمُمْكِنَاتِ تَارَةً فِي طُرُقِ تَرْجِيحِ الْوُجُودِ عَلَى الْعَدَمِ وَتَارَةً فِي طُرُقِ تَرْجِيحِ الْعَدَمِ عَلَى الْوُجُودِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ مَا ذَكَرَهُ اللَّهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ «٤» الْآيَةَ. وَالْحَكِيمُ وَالْمُحْكَمُ أَيْ أَفْعَالُهُ مُتْقَنَةٌ آمِنَةٌ مِنْ وُجُوهِ الْخَلَلِ وَالْفَسَادِ لَا بِمَعْنَى الْعَالِمِ، لِأَنَّ الْخَبِيرُ إِشَارَةٌ إِلَى الْعِلْمِ فَيَلْزَمُ التَّكْرَارُ انْتَهَى، وَفِيهِ بَعْضُ اخْتِصَارٍ وَتَلْخِيصٍ. وَقِيلَ: الْحَكِيمُ العالم والْخَبِيرُ أَيْضًا الْعَالِمُ ذَكَرَهُ تَأْكِيدًا وفَوْقَ مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِ إِمَّا مَعْمُولًا لِلْقَاهِرِ أَيِ الْمُسْتَعْلِي فَوْقَ عِبَادِهِ، وَإِمَّا فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهُ خبر ثان لهو أَخْبَرَ عَنْهُ بِشَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الْقَاهِرُ الثَّانِي أَنَّهُ فَوْقَ عِبَادِهِ بِالرُّتْبَةِ وَالْمَنْزِلَةِ وَالشَّرَفِ لَا بِالْجِهَةِ، إِذْ هُوَ الْمُوجِدُ لَهُمْ وَلِلْجِهَةِ غَيْرُ الْمُفْتَقِرِ لِشَيْءٍ مِنْ مخلوقاته
(١) سورة الأعراف: ٧/ ١٢٧.
(٢) سورة الفتح: ٤٨/ ١٠.
(٣) يوسف: ١٢/ ٧٦.
(٤) سورة آل عمران: ٣/ ٢٦.
457
فَالْفَوْقِيَّةُ مُسْتَعَارَةٌ لِلْمَعْنَى مِنْ فَوْقِيَّةِ الْمَكَانِ، وَحَكَى الْمَهْدَوِيُّ أَنَّهُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ كَأَنَّهُ قَالَ: وَهُوَ الْقَاهِرُ غَالِبًا فَوْقَ عِبَادِهِ وَقَالَهُ أَبُو الْبَقَاءِ، وَقَدَّرَهُ مُسْتَعْلِيًا أَوْ غَالِبًا وَأَجَازَ أَنْ يَكُونَ فَوْقَ عِبَادِهِ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بَدَلًا مِنَ الْقَاهِرِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَا مَعْنَاهُ وُرُودُ الْعِبَادِ فِي التَّفْخِيمِ وَالْكَرَامَةِ وَالْعَبِيدِ فِي التَّحْقِيرِ وَالِاسْتِضْعَافِ وَالذَّمِّ، وَذَكَرَ مَوَارِدَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى زَعْمِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ لَهُ هَذَا الْمَعْنَى مَبْسُوطًا مُطَوَّلًا وَرَدَدْنَا عَلَيْهِ.
قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: سَأَلَتْ قُرَيْشٌ شَاهِدًا عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: أَيُّ دَلِيلٍ يَشْهَدُ بِأَنَّ اللَّهَ يَشْهَدُ لَكَ؟ فَقَالَ: هَذَا الْقُرْآنُ تَحَدَّيْتُكُمْ بِهِ فَعَجَزْتُمْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ أَوْ بِمِثْلِ بَعْضِهِ،
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: قَالَ رُؤَسَاءُ مَكَّةَ: يَا مُحَمَّدُ مَا نَرَى أَحَدًا يُصَدِّقُكَ فِيمَا تَقُولُ فِي أَمْرِ الرِّسَالَةِ وَلَقَدْ سَأَلْنَا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى عَنْكَ فَزَعَمُوا أَنْ لَيْسَ لَكَ عِنْدَهُمْ ذِكْرٌ وَلَا صِفَةٌ، فَأَرِنَا مَنْ يَشْهَدُ لَكَ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ كَمَا تَزْعُمُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ.
وَقِيلَ: سَأَلَ الْمُشْرِكُونَ لَمَّا نَزَلَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ الْآيَةَ فَقَالُوا: مَنْ يَشْهَدُ لَكَ عَلَى أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَلَيْكَ وَأَنَّهُ لَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ إِلَّا اللَّهُ؟ فَقَالَ اللَّهُ وَهَذَا الْقُرْآنُ الْمُعْجِزُ
وأَيُّ اسْتِفْهَامٌ وَالْكَلَامُ عَلَى أَقْسَامِ أَيٍّ وَعِلَّةِ إِعْرَابِهَا مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ وشَيْءٍ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَذُكِرَ الْخِلَافُ فِي مَدْلُولِهِ الْحَقِيقِيِّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الشَّيْءُ أَعَمُّ الْعَامِّ لِوُقُوعِهِ عَلَى كُلِّ مَا يَصِحُّ أَنْ يُعْلَمَ وَيُخْبَرَ عَنْهُ فَيَقَعُ عَلَى الْقَدِيمِ وَالْجَوْهَرِ وَالْعَرَضِ وَالْمُحَالِ وَالْمُسْتَقِيمِ، وَلِذَلِكَ صَحَّ أَنْ يُقَالَ فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ شَيْءٌ لَا كَالْأَشْيَاءِ كَأَنَّكَ قُلْتَ مَعْلُومٌ لَا كَسَائِرِ الْمَعْلُومَاتِ وَلَا يَصِحُّ جِسْمٌ لَا كَالْأَجْسَامِ وَأَرَادَ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً فَوَضَعَ شَيْئًا مَكَانَ شَهِيدٌ لِيُبَالِغَ فِي التَّعْمِيمِ انْتَهَى.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَتَتَضَمَّنُ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُقَالُ عَلَيْهِ شَيْءٌ كَمَا يُقَالُ عَلَيْهِ مَوْجُودٌ وَلَكِنْ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وَقَالَ غَيْرُهُمَا هُنَا شَيْءٌ يَقَعُ عَلَى الْقَدِيمِ وَالْمُحْدَثِ وَالْجَوْهَرِ وَالْعَرَضِ وَالْمَعْدُومِ وَالْمَوْجُودِ وَلَمَّا كَانَ هَذَا مُقْتَضَاهُ، جَازَ إِطْلَاقُهُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَاتَّفَقَ الْجُمْهُورُ عَلَى ذَلِكَ وَخَالَفَ الْجَهْمُ وَقَالَ: لَا يُطْلَقُ عَلَى اللَّهِ شَيْءٌ وَيَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى ذَاتًا وَمَوْجُودًا وَإِنَّمَا لَمْ يُطْلَقْ عَلَيْهِ شَيْءٌ لِقَوْلِهِ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ «١» فَيَلْزَمُ مِنْ إِطْلَاقِ شَيْءٍ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ خَالِقًا لِنَفْسِهِ وَهُوَ مُحَالٌ وَلِقَوْلِهِ: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى «٢» وَالِاسْمُ إِنَّمَا يَحْسُنُ لِحُسْنِ مُسَمَّاهُ وَهُوَ أَنْ يَدُلَّ عَلَى صِفَةِ كَمَالٍ وَنَعْتِ جَلَالٍ وَلَفْظُ الشَّيْءِ أَعَمُّ الْأَشْيَاءِ فَيَكُونُ حَاصِلًا فِي أَخَسِّ الْأَشْيَاءِ وَأَرْذَلِهَا، فَلَا يَدُلُّ عَلَى صِفَةِ كَمَالٍ وَلَا نَعْتِ جلال فوجب أن
(١) سورة الأنعام: ٦/ ١٠٢.
(٢) سورة الأعراف: ٧/ ١٨٠.
458
لَا يَجُوزَ دَعْوَةُ اللَّهِ بِهِ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى، وَلِتَنَاوُلِهِ الْمَعْدُومِ لِقَوْلِهِ وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً «١» فَلَا يُفِيدُ إِطْلَاقُ شَيْءٍ عَلَيْهِ امْتِيَازَ ذَاتِهِ عَلَى سَائِرِ الذَّوَاتِ بِصِفَةٍ مَعْلُومَةٍ وَلَا بِخَاصَّةٍ مُمَيَّزَةٍ، وَلَا يُفِيدُ كَوْنُهُ مُطْلَقًا فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ إِطْلَاقِهِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَذَاتُ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلُ نَفْسِهِ فَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يُسَمَّى بَاسِمِ الشَّيْءِ وَلَا يُقَالُ الْكَافُ زَائِدَةٌ لِأَنَّ جَعْلَ كَلِمَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ عَبَثًا بَاطِلًا لَا يَلِيقُ وَلَا يُصَارُ إِلَيْهِ إِلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ الشَّدِيدَةِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ لَفْظَ شَيْءٍ أَعَمُّ الْأَلْفَاظِ وَمَتَى صَدَقَ الْخَاصُّ صَدَقَ الْعَامُّ فَمَتَى صَدَقَ كَوْنُهُ ذَاتًا حَقِيقَةً وَجَبَ أَنْ يَصْدُقَ كَوْنُهُ شَيْئًا وَاحْتَجَّ الجمهور بهذه الآية وتقريره أَنَّ الْمَعْنَى أَيُّ الْأَشْيَاءِ أَكْبَرُ شَهَادَةً، ثُمَّ جَاءَ فِي الْجَوَابِ قُلِ اللَّهُ وَهَذَا يُوجِبُ إِطْلَاقَ شَيْءٍ عَلَيْهِ وَانْدِرَاجُهُ فِي لَفْظِ شَيْءٍ الْمُرَادِ بِهِ الْعُمُومُ وَلَوْ قُلْتَ أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ فَقِيلَ: جِبْرِيلُ لَمْ يَصِحَّ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْدَرِجْ فِي لَفْظِ النَّاسِ، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ «٢» وَالْمُرَادُ بِوَجْهِهِ ذَاتُهُ وَالْمُسْتَثْنَى يَجِبُ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا تَحْتَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَلِجَهْمٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، وَالدَّلِيلُ الْأَوَّلُ لَمْ يُصَرَّحْ فِيهِ بِالْجَوَابِ الْمُطَابِقِ إِذْ قَوْلُهُ: قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ مُبْتَدَأٌ وخبر ذي جُمْلَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ بِنَفْسِهَا لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِمَا قَبْلَهَا مِنْ جِهَةِ الصِّنَاعَةِ الْإِعْرَابِيَّةِ بَلْ قَوْلُهُ: أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً هُوَ اسْتِفْهَامٌ عَلَى جِهَةِ التَّقْرِيرِ وَالتَّوْقِيفِ. ثُمَّ أَخْبَرَ بِأَنَّ خَالِقَ الْأَشْيَاءِ وَالشُّهُودِ هُوَ الشَّهِيدُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَانْتَظَمَ الْكَلَامُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَالْجُمْلَةُ لَيْسَتْ جَوَابًا صِنَاعِيًّا وَإِنَّمَا يَتِمُّ مَا قَالُوهُ لَوِ اقْتَصَرَ عَلَى قُلِ اللَّهُ، وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ بَعْضُهُمْ فَأَعْرَبَهُ مُبْتَدَأً مَحْذُوفَ الْخَبَرِ لِدَلَالَةِ مَا تَقَدَّمَ عَلَيْهِ وَالتَّقْدِيرُ قُلِ اللَّهُ أَكْبَرُ شَهَادَةً ثُمَّ أَضْمَرَ مُبْتَدَأً يَكُونُ شَهِيدٌ خَبَرًا لَهُ تَقْدِيرُهُ هُوَ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَلَا يَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَى هَذَا، بَلْ هُوَ مَرْجُوحٌ لِكَوْنِهِ أَضْمَرَ فِيهِ آخِرًا وَأَوَّلًا وَالْوَجْهُ الَّذِي قَبْلَهُ لَا إِضْمَارَ فِيهِ مَعَ صِحَّةِ مَعْنَاهُ فَوَجَبَ حَمْلُ الْقُرْآنِ عَلَى الرَّاجِحِ لَا عَلَى الْمَرْجُوحِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ لَهُمْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً فَإِنْ أَجَابُوكَ وَإِلَّا فَقُلْ لَهُمْ: اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ قَالَ لِنَبِيِّهِ: قُلْ لَهُمْ: أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً وَقُلْ لَهُمْ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ أَيْ فِي تَبْلِيغِي وَكَذِبِكُمْ وَكُفْرِكُمْ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذِهِ الْآيَةُ مِثْلُ قَوْلِهِ: قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ «٣» في أن
(١) سورة الكهف: ١٨/ ٢٣. [.....]
(٢) سورة القصص: ٢٨/ ٨٨.
(٣) سورة الأنعام: ٦/ ١٢.
459
اسْتَفْهَمَ عَلَى جِهَةِ التَّوْقِيفِ وَالتَّقْرِيرِ، ثُمَّ بَادَرَ إِلَى الْجَوَابِ إِذْ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ مُدَافَعَةٌ كَمَا تَقُولُ لمن تخاصمه وتتظلم مِنْهُ مَنْ أَقْدَرُ فِي الْبَلَدِ؟ ثُمَّ تُبَادِرُ وَتَقُولُ: السُّلْطَانُ فَهُوَ يَحُولُ بَيْنَنَا، فَتَقْدِيرُ الْآيَةِ:
قُلْ لَهُمْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً هو شهيد بيني وبينكم، انْتَهَى. وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْآيَةُ نَظِيرَ قَوْلِهِ: قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ «١» لِأَنَّ لِلَّهِ يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا وَهُنَا لَا يَتَعَيَّنُ إِذْ يَنْعَقِدُ مِنْ قَوْلِهِ:
قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَأَيْضًا فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ لَفْظُ شَيْءٍ وَقَدْ تَتَوَزَّعُ فِي إِطْلَاقِهِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَفِي تِلْكَ الْآيَةِ لَفْظُ مَنْ وَهُوَ يُطْلَقُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. قِيلَ: مَعْنَى أَكْبَرُ أَعْظَمُ وَأَصَحُّ، لِأَنَّهُ لَا يَجْرِي فِيهَا الْخَطَأُ وَلَا السَّهْوُ وَلَا الْكَذِبُ. وَقِيلَ: مَعْنَاهَا أَفْضَلُ لِأَنَّ مَرَاتِبَ الشَّهَادَاتِ فِي التَّفْضِيلِ تَتَفَاوَتُ بِمَرَاتِبِ الشَّاهِدِينَ وَانْتَصَبَ شَهادَةً عَلَى التَّمْيِيزِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَصِحُّ عَلَى الْمَفْعُولِ بِأَنْ يُحْمَلَ أَكْبَرُ عَلَى التَّشْبِيهِ بِالصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ بِاسْمِ الْفَاعِلِ انْتَهَى.
وَهَذَا كَلَامٌ عَجِيبٌ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ نَصْبُهُ عَلَى المفعول ولأن أفعل من لَا يَتَشَبَّهُ بِالصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ بِاسْمِ الْفَاعِلِ، وَلَا يَجُوزُ فِي أَفْعَلَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ الصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ بِاسْمِ الْفَاعِلِ لِأَنَّ شَرْطَ الصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ بِاسْمِ الْفَاعِلِ أَنْ تُؤَنَّثَ وَتُثَنَّى وَتُجْمَعَ، وَأَفْعَلُ مَنْ لَا يَكُونُ فِيهَا ذَلِكَ وَهَذَا مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ مِنَ النُّحَاةِ فَجَعَلَ ابْنُ عَطِيَّةَ الْمَنْصُوبَ فِي هَذَا مَفْعُولًا وَجَعَلَ أَكْبَرُ مُشَبَّهًا بِالصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ وَجَعَلَ مَنْصُوبَهُ مَفْعُولًا وَهَذَا تَخْلِيطٌ فَاحِشٌ وَلَعَلَّهُ يَكُونُ مِنَ النَّاسِخِ لَا مِنَ الْمُصَنِّفِ، وَمَعْنَى بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ بَيْنَنَا وَلَكِنَّهُ لَمَّا أُضِيفَ إِلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ إِعَادَةِ بَيْنَ وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ فَأَيِّي مَا وَأَيُّكَ كَانَ شَرًّا. وَكِلَايَ وَكِلَاكَ ذَهَبَ أَنَّ مَعْنَاهُ فَأَيُّنَا وَكِلَانَا.
وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ قَرَأَ الْجُمْهُورُ وَأُوحِيَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ والْقُرْآنُ مَرْفُوعٌ بِهِ. وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ وَأَبُو نَهِيكٍ وَابْنُ السَّمَيْقَعِ وَالْجَحْدَرِيُّ وَأُوحِيَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ والْقُرْآنُ مَنْصُوبٌ بِهِ، وَالْمَعْنَى لِأُنْذِرَكُمْ وَلِأُبَشِّرَكُمْ فَحُذِفَ الْمَعْطُوفُ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ أَوِ اقْتَصَرَ عَلَى الْإِنْذَارِ لِأَنَّهُ فِي مَقَامِ تَخْوِيفٍ لِهَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ بِالرِّسَالَةِ الْمُتَّخِذِينَ غَيْرَ اللَّهِ إِلَهًا، وَالظَّاهِرُ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ أَنَّ مَنْ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَطْفًا عَلَى مَفْعُولِ لِأُنْذِرَكُمْ وَالْعَائِدُ عَلَى مَنْ ضَمِيرٌ مَنْصُوبٌ مَحْذُوفٌ وَفَاعِلُ بَلَغَ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى الْقُرْآنُ وَمَنْ بَلَغَهُ هُوَ أَيِ الْقُرْآنُ وَالْخِطَابُ فِي لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ لِأَهْلِ مَكَّةَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: وَمَنْ بَلَغَهُ مِنَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ. وَقِيلَ: مِنَ الثَّقَلَيْنِ. وَقِيلَ: مَنْ بَلَغَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مَنْ بَلَغَهُ الْقُرْآنُ فَكَأَنَّمَا رَأَى مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَفِي الْحَدِيثِ: «مَنْ بَلَغَهُ هَذَا الْقُرْآنُ فَأَنَا نَذِيرُهُ»
وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: الْفَاعِلُ بِ بَلَغَ عَائِدٌ عَلَى مَنْ لَا عَلَى الْقُرْآنُ
(١) سورة الأنعام: ٦/ ١٢.
460
وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ وَالتَّقْدِيرُ وَمَنْ بَلَغَ الْحُلُمَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَنْ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَطْفًا عَلَى الضَّمِيرِ الْمَسْتَكِنِّ فِي لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَجَازَ ذَلِكَ لِلْفَصْلِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الضَّمِيرِ بِضَمِيرِ الْمَفْعُولِ وَبِالْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ أَيْ وَلِيُنْذِرَ بِهِ مَنْ بَلَغَهُ الْقُرْآنُ.
أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى قرئ إِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ بِصُورَةِ الْإِيجَابِ فَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا مَحْضًا وَاحْتُمِلَ الِاسْتِفْهَامُ عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ أَدَاتِهِ وَيُبَيِّنُ ذَلِكَ قِرَاءَةُ الِاسْتِفْهَامِ، فَقُرِئَ بِهَمْزَتَيْنِ مُحَقَّقَتَيْنِ وَبِإِدْخَالِ أَلِفٍ بَيْنَهُمَا وَبِتَسْهِيلِ الثَّانِيَةِ وَبِإِدْخَالِ أَلِفٍ بَيْنَ الْهَمْزَةِ الْأُولَى وَالْهَمْزَةِ الْمُسَهَّلَةِ، رَوَى هَذِهِ الْقِرَاءَةَ الْأَخِيرَةَ الْأَصْمَعِيُّ عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَنَافِعٍ، وَهَذَا الِاسْتِفْهَامُ مَعْنَاهُ التَّقْرِيعُ لَهُمْ وَالتَّوْبِيخُ وَالْإِنْكَارُ عَلَيْهِمْ فَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ لِأَهْلِ مَكَّةَ فَالْآلِهَةُ الْأَصْنَامُ فَإِنَّهُمْ أَصْحَابُ أَوْثَانٍ، وَإِنْ كَانَ لِجَمِيعِ الْمُشْرِكِينَ فَالْآلِهَةُ كُلُّ مَا عَبَدَ غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ وَثَنٍ أَوْ كَوْكَبٍ أَوْ نَارٍ أَوْ آدَمِيٍّ وَأُخْرَى صِفَةٌ لِآلِهَةٍ وَصِفَةُ جَمْعِ مَا لَا يُعْقَلُ كَصِفَةِ الْوَاحِدَةِ الْمُؤَنَّثَةِ، كَقَوْلِهِ: مَآرِبُ أُخْرى والْأَسْماءُ الْحُسْنى «١» وَلَمَّا كَانَتِ الْآلِهَةُ حِجَارَةً وَخَشَبًا أُجْرِيَتْ هَذَا الْمَجْرَى.
قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ أَمَرَهُ تَعَالَى أَنْ يُخْبِرَهُمْ أَنَّهُ لَا يَشْهَدُ شَهَادَتَهُمْ وَأَمَرَهُ ثَانِيًا أَنْ يُفْرِدَ اللَّهَ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ، وَأَنْ يَتَبَرَّأَ مِنْ إِشْرَاكِهِمْ وَمَا أَبْدَعَ هَذَا التَّرْتِيبَ أُمِرَ أَوَّلًا بِأَنْ يُخْبِرَهُمْ بِأَنَّهُ لَا يُوَافِقُهُمْ فِي الشَّهَادَةِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ إِفْرَادُ اللَّهِ بِالْأُلُوهِيَّةِ فَأُمِرَ بِهِ ثَانِيًا لِيَجْتَمِعَ مَعَ انْتِفَاءِ مُوَافَقَتِهِمْ إِثْبَاتُ الْوَحْدَانِيَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ أَخْبَرَ ثَالِثًا بِالتَّبَرُّؤِ مِنْ إِشْرَاكِهِمْ وَهُوَ كَالتَّوْكِيدِ لِمَا قَبْلَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَكُونَ ذَلِكَ دَاخِلًا تَحْتَ الْقَوْلِ وَيُحْتَمَلُ وَهُوَ الظَّاهِرُ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا تَحْتَهُ فَأُمِرَ بِأَنْ يَقُولَ الْجُمْلَتَيْنِ، فَظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّهَا فِي عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ
وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنَ الْيَهُودِ وَأُسْنِدَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ جَاءَ النَّحَّامُ بْنُ زَيْدٍ وَقَرْدَمُ بْنُ كَعْبٍ وَمُجَزِّئُ بْنُ عَمْرٍو فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ مَا تَعْلَمُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا غَيْرَهُ فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ بِذَلِكَ أُمِرْتُ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ فِيهِمْ.
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ تَقَدَّمَ شَرْحُ الْجُمْلَةِ الْأُولَى فِي الْبَقَرَةِ وَشَرْحُ الثَّانِيَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ قَرِيبٍ، وَقَالُوا هُنَا الضَّمِيرُ فِي يَعْرِفُونَهُ عَائِدٌ عَلَى الرَّسُولِ قَالَهُ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَالْجُمْهُورُ، وَمِنْهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، أَوْ عَلَى التَّوْحِيدِ وَذَلِكَ لِقُرْبِ قَوْلِهِ: قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَفِيهِ اسْتِشْهَادٌ عَلَى كَفَرَةِ قُرَيْشٍ وَالْعَرَبِ بِأَهْلِ الْكِتَابِ أَوْ عَلَى القرآن قاله فرقة
(١) سورة الأعراف: ٧/ ١٨٠.
461
لِقَوْلِهِ: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ. وَقِيلَ يَعُودُ عَلَى جَمِيعِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالرَّسُولِ وَالْقُرْآنِ، كَأَنَّهُ ذَكَرَ أَشْيَاءَ ثُمَّ قَالَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَعْرِفُونَهُ أَيْ يَعْرِفُونَ مَا قُلْنَا وَمَا قَصَصْنَا. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى كِتَابِهِمْ أَيْ: يَعْرِفُونَ كِتَابَهُمْ وَفِيهِ ذِكْرُ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ:
يَعُودُ عَلَى الدِّينِ وَالرَّسُولِ فَالْمَعْنَى يَعْرِفُونَ الْإِسْلَامَ أَنَّهُ دِينُ اللَّهِ وَأَنَّ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ والَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ هُنَا لَفْظُهُ عَامٌّ وَيُرَادُ بِهِ الْخَاصُّ، فَإِنَّ هَذَا لَا يَعْرِفُهُ وَلَا يَقْرَبُهُ إِلَّا مَنْ آمَنُ مِنْهُمْ أَوْ مَنْ أَنْصَفَ والْكِتابَ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ وَوُحِّدَ رَدًّا إِلَى الْجِنْسِ. وَقِيلَ:
الْكِتابَ هُنَا الْقُرْآنُ وَالضَّمِيرُ فِي يَعْرِفُونَهُ عَائِدٌ عَلَيْهِ ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ مَا مُلَخَّصُهُ: إِنَّ كَانَ الْمَكْتُوبُ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ خروج نبي في آخر الزَّمَانِ فَقَطْ، فَلَا يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ هُوَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ مُعَيَّنًا زَمَانُهُ وَمَكَانُهُ وَنَسَبُهُ وَحِلْيَتُهُ وَشَكْلُهُ، فَيَكُونُونَ إِذْ ذَاكَ عَالِمِينَ بِهِ بِالضَّرُورَةِ وَلَا يَجُوزُ الْكَذِبُ عَلَى الْجَمْعِ الْعَظِيمِ وَلِأَنَّا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ كِتَابَهُمْ لَمْ يَشْتَمِلْ عَلَى هَذِهِ التَّفَاصِيلِ التَّامَّةِ وَعَلَى هَذَيْنِ التَّقْدِيرَيْنِ، فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ:
يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ، وَأَجَابَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا أَهْلًا لِلنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ وَكَانُوا شَاهَدُوا ظُهُورَ الْمُعْجِزَاتِ عَلَى يَدِ الرَّسُولِ فَعَرَفُوا بِالْمُعْجِزَاتِ كَوْنَهُ رَسُولًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَالْمَقْصُودُ تَشْبِيهُ مَعْرِفَتِهِ بِمَعْرِفَةِ أَبْنَائِهِمْ بِهَذَا الْقَدْرِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ انْتَهَى. وَلَا يَلْزَمُ ذَلِكَ التَّقْسِيمُ الَّذِي ذَكَرَهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَعْرِفُونَهُ بِالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ إِنَّمَا ذَكَرَ يَعْرِفُونَهُ فَجَازَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْمَعْرِفَةُ مُسْنَدَةً إِلَى التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مِنْ أَخْبَارِ أَنْبِيَائِهِمْ وَنُصُوصِهِمْ، فَالتَّفَاصِيلُ عِنْدَهُمْ مِنْ ذَلِكَ لَا مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ فَيَكُونُ مَعْرِفَتُهُمْ إِيَّاهُ مُفَصَّلَةً وَاضِحَةً بِالْأَخْبَارِ لَا بِالنَّظَرِ فِي الْمُعْجِزَاتِ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ وَأَيْضًا فَلَا نُسَلِّمُ لَهُ حَصْرَ التَّقْسِيمِ فِيمَا ذَكَرَهُ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ قِسْمًا آخَرَ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ يَدُلَّانِ عَلَى خُرُوجِ نَبِيٍّ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، وَعَلَى بَعْضِ أَوْصَافِهِ لَا عَلَى جَمِيعِ الْأَوْصَافِ الَّتِي ذُكِرَتْ مِنْ تَعْيِينِ زَمَانٍ وَمَكَانٍ وَنَسَبٍ وَحِلْيَةٍ وَشَكْلٍ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْقِسْمِ حَدِيثُ عُمَرَ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَقَوْلُهُ لَهُ: إِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ عَلَى نَبِيِّهِ بِمَكَّةَ إِنَّكُمْ تَعْرِفُونَهُ كَمَا تَعْرِفُونَ أَبْنَاءَكُمْ فَكَيْفَ هَذِهِ الْمَعْرِفَةُ؟
فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: نَعَمْ أَعْرِفُهُ بِالصِّفَةِ الَّتِي وَصَفَهُ اللَّهُ بِهَا فِي التَّوْرَاةِ؟ فَلَا أَشُكُّ فِيهِ وَأَمَّا ابْنِي فَلَا أَدْرِي مَا أَحْدَثَتْ أُمُّهُ، وَمِمَّا يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ مَعْرِفَتَهُمْ إِيَّاهُ لَا يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَنَدُهَا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ فَقَطْ، أَسْئِلَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ حِينَ اجْتَمَعَ أَوَّلَ اجْتِمَاعِهِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَوَّلُ مَا يأكل أهل الجنة؟ الحديث. فَحِينَ أَخْبَرَهُ بِجَوَابِ تِلْكَ الْأَسْئِلَةِ أَسْلَمَ لِلْوَقْتِ وَعَرَفَ أَنَّهُ الرَّسُولُ الَّذِي نُبِّهَ عَلَيْهِ فِي التَّوْرَاةِ، وَحَدِيثُ زَيْدِ بْنِ سَعْنَةَ حِينَ ذَكَرَ أَنَّهُ عَرَفَ جَمِيعَ أوصافه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ أَنَّ حِلْمَهُ يَسْبِقُ غَضَبَهُ فَجَرَّبَ ذَلِكَ مِنْهُ، فَوَجَدَ هَذِهِ الصِّفَةَ فَأَسْلَمَ. وَأُعْرِبَ الَّذِينَ خَسِرُوا مُبْتَدَأً
462
وَالْخَبَرُ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ والَّذِينَ خَسِرُوا عَلَى هَذَا أَعَمُّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الْجَاحِدِينَ وَمِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَالْخُسْرَانُ الْغَبْنُ
وَرُوِيَ أَنَّ لِكُلِّ عَبْدٍ مَنْزِلًا فِي الْجَنَّةِ وَمَنْزِلًا فِي النَّارِ، فَالْمُؤْمِنُونَ يَنْزِلُونَ مَنَازِلَ أَهْلِ الْكُفْرِ فِي الْجَنَّةِ وَالْكَافِرُونَ يَنْزِلُونَ مَنَازِلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِي النَّارِ، فَالْخَسَارَةُ وَالرِّبْحُ هُنَا
وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ خَسِرُوا نَعْتًا لِقَوْلِهِ: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وفَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ جُمْلَةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةٍ فَيَكُونُ مَسَاقُ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مَسَاقَ الذَّمِّ لَا مَقَامَ الِاسْتِشْهَادِ بِهِمْ عَلَى كُفَّارِ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْعَرَبِ، قَالُوا: لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُسْتَشْهَدَ بِهِمْ وَيُذَمُّوا فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يَصِحُّ ذَلِكَ لِاخْتِلَافِ مَا اسْتُشْهِدَ فِيهِ بِهِمْ وَمَا ذُمُّوا فِيهِ وَأَنَّ الذَّمَّ وَالِاسْتِشْهَادَ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ انْتَهَى. وَيَكُونُ الَّذِينَ خَسِرُوا إِذْ ذَاكَ لَيْسَ عَامًّا إِذِ التَّقْدِيرُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ مِنْهُمْ أَيْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ.
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى وَمَنْ أَظْلَمُ وَالِافْتِرَاءُ الِاخْتِلَافُ، وَالْمَعْنَى لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: جَمَعُوا بَيْنَ أَمْرَيْنِ مُتَنَاقِضَيْنِ فَكَذَبُوا عَلَى اللَّهِ بِمَا لَا حُجَّةَ عَلَيْهِ، وَكَذَّبُوا بِمَا ثَبَتَ بِالْحُجَّةِ الْبَيِّنَةِ وَالْبُرْهَانِ الصَّحِيحِ حَيْثُ قَالُوا: لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا، وَقَالُوا: وَاللَّهِ أُمِرْنَا بِهَا، وَقَالُوا: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ وَهَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ وَنَسَبُوا إِلَيْهِ تَحْرِيمَ السَّوَائِبِ وَالْبَحَائِرِ وَكَذَّبُوا الْقُرْآنَ وَالْمُعْجِزَاتِ وَسَمُّوهَا سِحْرًا وَلَمْ يؤمنوا بالرسول انْتَهَى. وَفِيهِ دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ بِقَوْلِهِ: حَيْثُ قَالُوا: لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مِمَّنِ افْتَرى اخْتَلَقَ وَالْمُكَذِّبُ بِالْآيَاتِ مُفْتَرِي كَذِبٍ وَلَكِنَّهُمَا مِنَ الْكُفْرِ فَلِذَلِكَ نُصَّا مُفَسَّرَيْنِ انْتَهَى. وَمَعْنَى لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ لَا يَظْفَرُونَ بِمَطَالِبِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، بَلْ يَبْقَوْنَ فِي الْحِرْمَانِ وَالْخِذْلَانِ وَنَفَى الْفَلَاحَ عَنِ الظَّالِمِ فَدَخَلَ فِيهِ الْأَظْلَمُ وَالظَّالِمُ غَيْرُ الْأَظْلَمِ وَإِذَا كَانَ هَذَا لَا يُفْلِحُ فَكَيْفَ يُفْلِحُ الْأَظْلَمُ؟
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ قيل: يَوْمَ معمول لا ذكر مَحْذُوفَةٍ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَأَبُو الْبَقَاءِ. وقيل:
لمحذوف مُتَأَخِّرٌ تَقْدِيرُهُ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ كَانَ كَيْتُ وَكَيْتُ فَتُرِكَ لِيَبْقَى عَلَى الْإِبْهَامِ الَّذِي هُوَ أَدْخَلُ فِي التَّخْوِيفِ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقِيلَ: الْعَامِلُ انْظُرْ كَيْفَ كَذَّبُوا يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ.
وَقِيلَ: هُوَ مَفْعُولٌ بِهِ لِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ وَلْيَحْذَرُوا يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ. وَقِيلَ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى ظَرْفٍ مَحْذُوفٍ، وَالْعَامِلُ فِيهِ الْعَامِلُ فِي ذَلِكَ الظَّرْفِ وَالتَّقْدِيرُ أَنَّهُ لا يلفح الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي
463
الدُّنْيَا وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ قَالَهُ الطَّبَرِيُّ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ نَحْشُرُهُمْ ثُمَّ نَقُولُ بِالنُّونِ فِيهِمَا. وَقَرَأَ حُمَيْدٌ وَيَعْقُوبُ فِيهِمَا بِالْيَاءِ.
وَقَرَأَ أَبُو هُرَيْرَةَ نَحْشُرُهُمْ عَائِدٌ عَلَى الَّذِينَ افْتَرَوْا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ، أَوْ كَذَّبُوا بِآيَاتِهِ وَجَاءَ ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا بِمَعْنَى ثُمَّ نَقُولُ لَهُمْ وَلَكِنَّهُ نَبَّهَ عَلَى الْوَصْفِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهِ تَوْبِيخُهُمْ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ عَلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ وَهُمْ مُنْدَرِجُونَ فِي هَذَا الْعُمُومِ ثُمَّ تَفَرَّدَ بِالتَّوْبِيخِ الْمُشْرِكُونَ.
وَقِيلَ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَأَصْنَامِهِمْ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِمْ احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ «١» مِنْ دُونِ اللَّهِ وَعُطِفَ بِ ثُمَّ لِلتَّرَاخِي الْحَاصِلِ بَيْنَ مَقَامَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فِي الْمَوَاقِفِ، فَإِنَّ فِيهِ مَوَاقِفَ بَيْنَ كُلِّ مَوْقِفٍ وَمَوْقِفٍ تَرَاخٍ عَلَى حَسَبِ طُولِ ذَلِكَ اليوم، وأَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ سُؤَالُ تَوْبِيخٍ وَتَقْرِيعٍ وَظَاهِرُ مَدْلُولِ أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ غَيْبَةُ الشُّرَكَاءِ عَنْهُمْ أَيْ تِلْكَ الْأَصْنَامُ قَدِ اضْمَحَلَّتْ فَلَا وُجُودَ لَهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُشَاهِدُوهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ حِينَ لَا يَنْفَعُونَهُمْ وَلَا يَكُونُ مِنْهُمْ مَا رَجَوْا مِنَ الشَّفَاعَةِ فَكَأَنَّهُمْ غُيَّبٌ عَنْهُمْ وَأَنْ يُحَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُمْ فِي وَقْتِ التَّوْبِيخِ لِيَفْقِدُوهُمْ فِي السَّاعَةِ الَّتِي عَلَّقُوا بِهِمُ الرجاء فيها فيروا مكان خِزْيِهِمْ وَحَسْرَتِهِمُ، انْتَهَى. وَالْمَعْنَى أَيْنَ آلِهَتُكُمُ الَّتِي جَعَلْتُمُوهَا شُرَكَاءَ لِلَّهِ؟ وَأُضِيفَ الشُّرَكَاءُ إِلَيْهِمْ لِأَنَّهُ لَا شَرِكَةَ فِي الْحَقِيقَةِ بَيْنَ الْأَصْنَامِ وَبَيْنَ شَيْءٍ، وَإِنَّمَا أُوقِعَ عَلَيْهَا اسْمُ الشَّرِيكِ بِمُجَرَّدِ تَسْمِيَةِ الْكَفَرَةِ فَأُضِيفَتْ إِلَيْهِمْ بِهَذِهِ النِّسْبَةِ وَالزَّعْمُ الْقَوْلُ الْأَمْيَلُ إِلَى الْبَاطِلِ وَالْكَذِبِ فِي أَكْثَرِ الْكَلَامِ، وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُلُّ زَعْمٍ فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ بِمَعْنَى الْكَذِبِ وَإِنَّمَا خَصَّ الْقُرْآنَ لِأَنَّهُ يَنْطَلِقُ عَلَى مُجَرَّدِ الذِّكْرِ وَالْقَوْلِ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
تَقُولُ هَلَكْنَا وإن هَلَكْتَ وَإِنَّمَا عَلَى اللَّهِ أَرْزَاقُ الْعِبَادِ كَمَا زَعَمَ
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَعَلَى هَذَا الْحَدِّ يَقُولُ سِيبَوَيْهِ: زعم الْخَلِيلِ وَلَكِنَّ ذَلِكَ يُسْتَعْمَلُ فِي الشَّيْءِ الْغَرِيبِ الَّذِي تَبْقَى عُهْدَتُهُ عَلَى قَائِلِهِ انْتَهَى. وَحُذِفَ مَفْعُولَا يَزْعُمُونَ اخْتِصَارًا إِذْ دَلَّ مَا قَبْلَهُ عَلَى حَذْفِهِمَا وَالتَّقْدِيرُ تَزْعُمُونَهُمْ شُرَكَاءَ، وَيَحْسُنُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ إِنَّهَا تَشْفَعُ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ تَقَدَّمَ مَدْلُولُ الْفِتْنَةِ وَشُرِحَتْ هُنَا بِحُبِّ الشَّيْءِ وَالْإِعْجَابِ بِهِ كَمَا تَقُولُ: فُتِنْتُ بِزَيْدٍ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمَعْنَى، ثم
(١) سورة الصافات: ٣٧/ ٢٢.
464
لَمْ يَكُنْ حُبُّهُمْ لِلْأَصْنَامِ وَإِعْجَابُهُمْ بِهَا وَاتِّبَاعُهُمْ لَهَا لَمَّا سُئِلُوا عَنْهَا وَوَقَفُوا عَلَى عَجْزِهَا إِلَّا التَّبَرُّؤَ مِنْهَا وَالْإِنْكَارَ لَهَا، وَفِي هَذَا تَوْبِيخٌ لَهُمْ كَمَا تَقُولُ لِرَجُلٍ كَانَ يَدَّعِي مَوَدَّةَ آخَرَ ثُمَّ انْحَرَفَ عَنْهُ وَعَادَاهُ يَا فُلَانُ لَمْ تَكُنْ مَوَدَّتُكَ لِفُلَانٍ إِلَّا أَنْ عَادَيْتَهُ وَبَايَنْتَهُ وَالْمَعْنَى عَلَى ثُمَّ لَمْ تَكُنْ بِمَعْنَى مَوَدَّتِهِمْ وَإِعْجَابِهِمْ بِالْأَصْنَامِ إِلَّا الْبَرَاءَةَ مِنْهُمْ بِالْيَمِينِ الْمُؤَكِّدَةِ لِبَرَاءَتِهِمْ، وَتَكُونُ الْفِتْنَةُ وَاقِعَةً فِي الدُّنْيَا وَشُرِحَتْ أَيْضًا بِالِاخْتِبَارِ وَالْمَعْنَى: ثُمَّ لَمْ يَكُنِ اخْتِبَارُنَا إِيَّاهُمْ إِذِ السُّؤَالُ عَنِ الشركاء وتوقيفهم اختبار لِإِنْكَارِهِمُ الْإِشْرَاكَ وَتَكُونُ الْفِتْنَةُ هُنَا وَاقِعَةً فِي الْقِيَامَةِ، أَيْ: ثُمَّ لَمْ يَكُنْ جَوَابُ اخْتِبَارٍ نَالَهُمْ بِالسُّؤَالِ عَنْ شُرَكَائِهِمْ إِلَّا إِنْكَارَ التَّشْرِيكِ انْتَهَى، مُلَخَّصًا مِنْ كَلَامِ ابْنِ عَطِيَّةَ مَعَ بَعْضِ زِيَادَةٍ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فِتْنَتُهُمْ كُفْرُهُمْ وَالْمَعْنَى ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عَاقِبَةُ كُفْرِهِمُ الَّذِي لَزِمُوهُ أَعْمَارَهُمْ وَقَاتَلُوا عَلَيْهِ وَافْتَخَرُوا بِهِ، وَقَالُوا: دِينُ آبَائِنَا إِلَّا جُحُودَهُ وَالتَّبَرُّؤَ مِنْهُ وَالْحَلِفَ عَلَى الِانْتِفَاءِ مِنَ التَّدَيُّنِ بِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ ثُمَّ لَمْ يَكُنْ جَوَابُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا: فَسُمِّيَ فِتْنَةً لِأَنَّهُ كَذِبٌ انْتَهَى.
وَالشَّرْحُ الْأَوَّلُ مِنْ شَرْحِ ابْنِ عَطِيَّةَ مَعْنَاهُ لِلزَّجَّاجِ وَالْأَوَّلُ مِنْ تَفْسِيرِ الزَّمَخْشَرِيِّ لَفْظُهُ لِلْحَسَنِ، وَمَعْنَاهُ لِابْنِ عَبَّاسٍ وَالثَّانِي لِمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ وَغَيْرِهِ. قَالَ: التَّقْدِيرُ ثُمَّ لَمْ يَكُنْ جَوَابُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَسُمِّيَ هَذَا الْقَوْلُ فِتْنَةً لِكَوْنِهِ افْتِرَاءً وَكَذِبًا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْفِتْنَةُ هُنَا الْإِنْكَارُ أَيْ ثُمَّ لَمْ يَكُنْ إِنْكَارُهُمْ. وَقَالَ قَتَادَةُ: عُذْرُهُمْ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: قَوْلُهُمْ. وَقَالَ عَطَاءٌ وأبو عبيدة: بينتهم وَزَادَ أَبُو عُبَيْدَةَ الَّتِي أَلْزَمَتْهُمُ الْحُجَّةَ وَزَادَتْهُمْ لَائِمَةً. وَقِيلَ: حُجَّتُهُمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ عَلَى المشركين وَأَنَّهُ عَامٌّ فِيمَنْ أَشَرَكَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هَذَا خَاصٌّ بِالْمُنَافِقِينَ جَرَوْا عَلَى عَادَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَقِيلَ: هُمْ قَوْمٌ كَانُوا مُشْرِكِينَ وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُمْ مُشْرِكُونَ فَيَحْلِفُونَ عَلَى اعْتِقَادِهِمْ فِي الدُّنْيَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِالْيَاءِ وَأُبَيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَالْأَعْمَشُ وَمَا كَانَ فِتْنَتُهُمْ، وَطَلْحَةُ وَابْنُ مُطَرِّفٍ ثُمَّ مَا كَانَ وَالِابْنَانِ وَحَفْصٌ فِتْنَتُهُمْ بِالرَّفْعِ وَفِرْقَةٌ ثُمَّ لَمْ يكن بالياء، وفِتْنَتُهُمْ بِالرَّفْعِ وَإِعْرَابُ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ وَاضِحٌ وَالْجَارِي مِنْهَا عَلَى الْأَشْهَرِ قِرَاءَةُ ثُمَّ لَمْ يَكُنْ فِتْنَتُهُمْ بِالْيَاءِ بِالنَّصْبِ، لِأَنَّ أَنْ مَعَ مَا بَعْدَهَا أُجْرِيَتْ فِي التَّعْرِيفِ مَجْرَى الْمُضْمَرِ وَإِذَا اجْتَمَعَ الْأَعْرَفُ وَمَا دُونَهُ فِي التَّعْرِيفِ فَذَكَرُوا أَنَّ الْأَشْهَرَ جَعْلُ الْأَعْرَفِ هُوَ الِاسْمُ وَمَا دُونَهُ هُوَ الْخَبَرُ، وَلِذَلِكَ أَجْمَعَتِ السَّبْعَةُ عَلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا «١» وما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا «٢» وَمَنْ قَرَأَ بِالْيَاءِ وَرَفَعَ الْفِتْنَةَ فَذَكَّرَ الْفِعْلَ لِكَوْنِ تَأْنِيثِ الْفِتْنَةِ مَجَازِيًّا أو
(١) سورة العنكبوت: ٢٩/ ٢٤.
(٢) سورة الجاثية: ٤٥/ ٢٥.
465
لِوُقُوعِهَا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى عَلَى مُذَكَّرٍ، وَالْفِتْنَةُ اسْمُ يَكُنْ وَالْخَبَرُ إِلَّا أَنْ قالُوا جَعَلَ غَيْرَ الْأَعْرَفِ الِاسْمَ وَالْأَعْرَفَ الْخَبَرَ وَمَنْ قَرَأَ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ بِالتَّاءِ وَرَفَعَ الْفِتْنَةَ فَأَنَّثَ لِتَأْنِيثِ الْفِتْنَةِ وَالْإِعْرَابُ كَإِعْرَابِ مَا تَقَدَّمَ قَبْلَهُ، وَمَنْ قَرَأَ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ بِالتَّاءِ فِتْنَتُهُمْ بِالنَّصْبِ فَالْأَحْسَنُ أَنْ يُقَدَّرَ إِلَّا أَنْ قالُوا مُؤَنَّثًا أَيْ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إلا مَقَالَتُهُمْ. وَقِيلَ: سَاغَ ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ كَانَ الْفِتْنَةَ فِي الْمَعْنَى. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها «١» فَأَنَّثَ الْأَمْثَالَ لَمَّا كَانَتِ الْحَسَنَاتِ فِي الْمَعْنَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقُرِئَ تَكُنْ بالتاء وفِتْنَتُهُمْ بالنصب وإنما أنث أَنْ قالُوا لِوُقُوعِ الْخَبَرِ مُؤَنَّثًا كَقَوْلِهِ: مَنْ كَانَتْ أُمَّكَ انْتَهَى. وَتَقَدَّمَ لَنَا أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يُقَدَّرَ أَنْ قالُوا بِمُؤَنَّثٍ أَيْ إِلَّا مَقَالَتُهُمْ. وَكَذَا قَدَّرَهُ الزَّجَّاجُ بِمُؤَنَّثٍ أَيْ مَقَالَتُهُمْ، وَتَخْرِيجُ الزَّمَخْشَرِيِّ مُلَفَّقٌ مِنْ كَلَامِ أَبِي عَلِيٍّ وَأَمَّا مَنْ كَانَتْ أُمَّكَ فَإِنَّهُ حَمَلَ اسْمَ كَانَ عَلَى مَعْنَى مَنْ، لِأَنَّ مَنْ لَهَا لَفْظٌ مُفْرَدٌ وَلَهَا مَعْنًى بِحَسَبِ مَا تُرِيدُ مِنْ إِفْرَادٍ وَتَثْنِيَةٍ وَجَمْعٍ وَتَذْكِيرٍ وَتَأْنِيثٍ وَلَيْسَ الْحَمْلُ عَلَى الْمَعْنَى لِمُرَاعَاةِ الْخَبَرِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجِيءُ حَيْثُ لَا خَبَرَ نَحْوَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ «٢». ونكن مِثْلَ مَنْ يَا ذِئْبُ يَصْطَحِبَانِ. وَمَنْ تَقْنُتْ فِي قِرَاءَةِ التَّاءِ فَلَيْسَتْ تَأْنِيثُ كَانَتْ لِتَأْنِيثِ الْخَبَرِ وَإِنَّمَا هُوَ لِلْحَمْلِ عَلَى مَعْنَى مَنْ حَيْثُ أَرَدْتَ بِهِ الْمُؤَنَّثَ وَكَأَنَّكَ قُلْتَ أَيَّةُ امْرَأَةٍ كَانَتْ أُمَّكَ.
وَقَرَأَ الْأَخَوَانِ وَاللَّهِ رَبِّنا بِنَصْبِ الْبَاءِ عَلَى النِّدَاءِ أَيْ يَا رَبَّنَا، وَأَجَازَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِيهِ النَّصْبَ عَلَى الْمَدْحِ وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ فِيهِ إِضْمَارَ أَعْنِي وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِخَفْضِهَا عَلَى النَّعْتِ، وَأَجَازُوا فِيهِ الْبَدَلَ وَعَطْفَ الْبَيَانِ. وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ وَسَلَّامُ بْنُ مِسْكِينٍ وَاللَّهِ رَبِّنا بِرَفْعِ الِاسْمَيْنِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا عَلَى تَقْدِيمِ وَتَأْخِيرِ أَنَّهُمْ قَالُوا: مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ وَاللَّهِ رَبِّنا وَمَعْنَى مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ جَحَدُوا إِشْرَاكَهُمْ فِي الدُّنْيَا،
رُوِيَ أَنَّهُمْ إِذَا رَأَوْا إِخْرَاجَ مَنْ فِي النَّارِ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ ضَجُّوا فَيُوقَفُونَ وَيُقَالُ لَهُمْ أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمْ؟ فَيُنْكِرُونَ طَمَاعِيَةً مِنْهُمْ أَنْ يُفْعَلَ بِهِمْ مَا فُعِلَ بِأَهْلِ الْإِيمَانِ
وَهَذَا الَّذِي رُوِيَ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ الْآيَةِ، وَهُوَ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا يَتَرَاخَى الْقَوْلُ عَنِ الْحَشْرِ هَذَا التَّرَاخِيَ الْبَعِيدَ مِنْ دُخُولِ الْعُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ النَّارَ وَإِقَامَتِهِمْ فِيهَا مَا شَاءَ اللَّهُ وَإِخْرَاجِهِمْ مِنْهَا، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ يُقَالُ لَهُمْ أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمْ؟ وَأَتَى رَجُلٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ: سَمِعْتُ اللَّهَ يَقُولُ: وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ وَفِي أُخْرَى وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً «٣» فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لِمَا رَأَوْا أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا مُؤْمِنٌ قَالُوا: تَعَالَوْا فَلْنَجْحَدْ وَقَالُوا: مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ فَخَتَمَ اللَّهُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتَكَلَّمَتْ جَوَارِحُهُمْ فَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حديثا.
(١) سورة الأنعام: ٦/ ١٦٠.
(٢) سورة يونس: ١٠/ ٤٢.
(٣) سورة النساء: ٤/ ٤٢.
466
انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ الْخِطَابُ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ السلام والنظر قلبي وكَيْفَ مَنْصُوبٌ بِ كَذَبُوا وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِالنَّظَرِ لأن انْظُرْ معلقة وكَذَبُوا مَاضٍ وَهُوَ فِي أَمْرٍ لَمْ يَقَعْ لَكِنَّهُ حِكَايَةٌ عَنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلَا إِشْكَالَ فِي اسْتِعْمَالِ الْمَاضِي فِيهَا مَوْضِعَ الْمُسْتَقْبَلِ تَحْقِيقًا لِوُقُوعِهِ وَلَا بُدَّ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ (فَإِنْ قُلْتَ) : كَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَكْذِبُوا حِينَ يَطَّلِعُونَ عَلَى حَقَائِقِ الْأُمُورِ عَلَى أَنَّ الْكَذِبَ وَالْجُحُودَ لَا وَجْهَ لِمَنْفَعَتِهِ. (قُلْتُ) : الْمُمْتَحِنُ يَنْطِقُ بِمَا يَنْفَعُهُ وَبِمَا لَا يَنْفَعُهُ مِنْ غَيْرِ تَمْيِيزٍ بَيْنَهُمَا حَيْرَةً وَدَهْشًا، أَلَا تَرَاهُمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ «١» وَقَدْ أَيْقَنُوا بِالْخُلُودِ وَلَمْ يَشُكُّوا فيه وقالوا: يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّهُ لَا يَقْضِي عَلَيْهِمْ، وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ يقول معناه وما كُنَّا مُشْرِكِينَ عِنْدَ أَنْفُسِنَا أَوْ مَا عَلِمْنَا أَنَّا عَلَى خَطَأٍ فِي مُعْتَقَدِنَا، وَحَمْلُ قَوْلِهِ: انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ يَعْنِي فِي الدُّنْيَا فَتَحَمُّلٌ وَتَعَسُّفٌ وَتَحْرِيفٌ لِأَفْصَحِ الْكَلَامِ إِلَى مَا هُوَ عَيٌّ وَإِفْحَامٌ، لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي ذَهَبُوا إِلَيْهِ لَيْسَ هَذَا الْكَلَامُ بِمُتَرْجِمٍ عَنْهُ وَلَا بِمُنْطَبِقٍ عَلَيْهِ، وَهُوَ نَابٍ عَنْهُ أَشَدَّ النُّبُوِّ وَمَا أَدْرِي مَا يَصْنَعُ مَنْ ذَلِكَ تَفْسِيرُهُ بِقَوْلِهِ: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ، أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ «٢» بَعْدَ قَوْلِهِ: وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ
«٣» فَشَبَّهَ كَذِبَهُمْ فِي الْآخِرَةِ بِكَذِبِهِمْ في الدنيا انتهى. وقول الزَّمَخْشَرِيِّ. وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ يَقُولُ فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى أَبِي عَلِيٍّ الْجُبَّائِيِّ وَالْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ وَمَنْ وَافَقَهُمَا أَنَّ أَهْلَ الْقِيَامَةِ لَا يَجُوزُ إِقْدَامُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ واستدلوا بأشياء تؤول إِلَى مَسْأَلَةِ الْقُبْحِ وَالْحُسْنِ، وَبِنَاءُ مَا قَالُوهُ عَلَيْهَا ذَكَرَهَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ فَتُطَالَعُ هُنَاكَ، إِذْ مَسْأَلَةُ التَّقْبِيحِ وَالتَّحْسِينِ خَالَفُوا فِيهَا أَهْلَ السُّنَّةِ وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ، يَقُولُونَ: إِنَّ الْكُفَّارَ يَكْذِبُونَ فِي الْآخِرَةِ وَظَوَاهِرُ الْقُرْآنِ دَالَّةٌ عَلَى ذَلِكَ وَقَدْ خَالَفَ الزَّمَخْشَرِيُّ هُنَا أَصْحَابَهُ الْمُعْتَزِلَةَ وَوَافَقَ أَهْلَ السُّنَّةِ.
وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَا مَصْدَرِيَّةً وَإِلَيْهِ ذَهَبَ ابْنُ عَطِيَّةَ قَالَ: مَعْنَاهُ ذَهَبَ افْتِرَاؤُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَكُفْرُهُمْ بِادِّعَائِهِمْ لِلَّهِ الشُّرَكَاءَ. وَقِيلَ: مِنَ الْيَمِينِ الْفَاجِرَةِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ وَقِيلَ عَزَبَ عَنْهُمُ افْتِرَاؤُهُمْ لِلْحَيْرَةِ الَّتِي لَحِقَتْهُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ
(١) سورة المؤمنون: ٢٣/ ١٠٧.
(٢) سورة المجادلة: ٥٨/ ١٨.
(٣) سورة آل عمران: ٣/ ٧٥.
467
بِمَعْنَى الَّذِي وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ. قَالَ: وَغَابَ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ أُلُوهِيَّتَهُ وَشَفَاعَتَهُ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الْحَسَنِ وَأَبِي عَلِيٍّ قَالَا: لَمْ يُغْنِ عَنْهُمْ شَيْئًا مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنَ الْأَصْنَامِ فِي الدُّنْيَا. وَقِيلَ: هُوَ قَوْلُهُمْ مَا كُنَّا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى «١» فَذَهَبَ عَنْهُمْ حَيْثُ عَلِمُوا أَنْ لَا تَقْرِيبَ مِنْهُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَضَلَّ عُطِفَ عَلَى كذبوا فيدخل في حيّز انْظُرْ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِخْبَارًا مُسْتَأْنَفًا فَلَا يَدْخُلُ فِي حَيِّزِهِ وَلَا يَتَسَلَّطُ النَّظَرُ عَلَيْهِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً.
رَوَى أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ وَالْوَلِيدَ وَالنَّضْرَ وَعُتْبَةَ وَشَيْبَةَ وَأُمِيَّةَ وَأُبَيًّا اسْتَمَعُوا لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا لِلنَّضْرِ: يَا أَبَا قُتَيْلَةَ مَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ فَقَالَ: مَا يَقُولُ إِلَّا أَسَاطِيرَ الْأَوَّلِينَ مِثْلُ مَا أُحَدِّثُكُمْ عَنِ الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ، وَكَانَ صَاحِبَ أَشْعَارٍ جَمَعَ أَقَاصِيصَ فِي دِيَارِ الْعَجَمِ مِثْلَ قِصَّةِ رُسْتُمٍ وَأَسْفِنْدِيَارَ فَكَانَ يُحَدِّثُ قُرَيْشًا فَيَسْتَمِعُونَ لَهُ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: إِنِّي لَأَرَى بَعْضَ مَا يَقُولُ حَقًّا. فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: كَلَّا لَا تُقِرَّ بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا وَقَالَ الْمَوْتُ أَهْوَنُ مِنْ هَذَا، فَنَزَلَتْ
وَالضَّمِيرُ فِي وَمِنْهُمْ عَائِدٌ عَلَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا، وَوَحَّدَ الضَّمِيرَ فِي يَسْتَمِعُ حَمْلًا عَلَى لَفْظِ مَنْ وَجَمَعَهُ فِي عَلى قُلُوبِهِمْ حَمْلًا عَلَى مَعْنَاهَا وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: وَجَعَلْنا مَعْطُوفَةٍ عَلَى الْجُمْلَةِ قَبْلَهَا عَطْفَ فِعْلِيَّةٍ عَلَى اسْمِيَّةٍ فَيَكُونُ إِخْبَارًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ جَعَلَ كَذَا. وَقِيلَ: الْوَاوُ وَاوَ الْحَالِ أَيْ وَقَدْ جَعَلْنَا أَيْ نُنْصِتُ إِلَى سَمَاعِكَ وَهُمْ مِنَ الْغَبَاوَةِ، فِي حَدِّ مَنْ قَلْبُهُ فِي كِنَانٍ وَأُذُنُهُ صَمَّاءُ وَجَعَلَ هُنَا يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى أَلْقَى، فَتَتَعَلَّقَ عَلَى بِهَا وَبِمَعْنَى صَيَّرَ فَتَتَعَلَّقَ بِمَحْذُوفٍ إِذْ هِيَ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى خَلَقَ، فَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ لِأَنَّهَا فِي مَوْضِعِ نَعْتٍ لَوْ تَأَخَّرَتْ، فَلَمَّا تَقَدَّمَتْ صَارَتْ حَالًا وَالْأَكِنَّةُ جَمْعُ كِنَانٍ كَعِنَانٍ وَأَعِنَّةٍ وَالْكِنَانُ الْغِطَاءُ الْجَامِعُ.
قَالَ الشَّاعِرُ:
إِذَا مَا انْتَضَوْهَا فِي الْوَغَى مِنْ أَكِنَّةٍ حَسِبْتَ بُرُوقَ الْغَيْثِ هاجت غيومها
وأَنْ يَفْقَهُوهُ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ مِنْ أَجْلِهِ تَقْدِيرُهُ عِنْدَهُمْ كَرَاهَةَ أَنْ يَفْقَهُوهُ. وَقِيلَ:
الْمَعْنَى أَنْ لَا يَفْقَهُوهُ وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذَيْنِ التَّقْدِيرَيْنِ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ وِقْرًا بِكَسْرِ الْوَاوِ كَأَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ آذانِهِمْ وُقِرَتْ بِالصَّمَمِ كَمَا تُوقَرُ الدَّابَّةُ مِنَ الْحَمْلِ، وَالظَّاهِرُ أن
(١) سورة الزمر: ٣٩/ ٣. [.....]
468
الْغِطَاءَ وَالصَّمَمَ هُنَا لَيْسَا حَقِيقَةً بَلْ ذَلِكَ مِنْ بَابِ اسْتِعَارَةِ الْمَحْسُوسِ لِلْمَعْقُولِ حَتَّى يَسْتَقِرَّ فِي النَّفْسِ، اسْتَعَارَ الْأَكِنَّةَ لِصَرْفِ قُلُوبِهِمْ عَنْ تَدَبُّرِ آيَاتِ اللَّهِ، وَالثِّقَلَ فِي الْأُذُنِ لِتَرْكِهِمُ الْإِصْغَاءَ إِلَى سَمَاعِهِ أَلَا تَرَاهُمْ قَالُوا: لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ «١» فَلَمَّا لَمْ يَتَدَبَّرُوا وَلَمْ يُصْغُوا كَانُوا بِمَنْزِلَةِ مَنْ عَلَى قَلْبِهِ غِطَاءٌ وَفِي أُذُنِهِ وَقْرٌ. وَقَالَ قَوْمٌ: ذَلِكَ حَقِيقَةٌ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ بِهِ كَمُدَاخَلَةِ الشَّيْطَانِ بَاطِنَ الْإِنْسَانِ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ بِهِ، وَنَحَا الْجِبَائِيُّ فِي فَهْمِ هَذِهِ الْآيَةِ مَنْحًى آخَرَ غَيْرَ هَذَا فَقَالَ: كَانُوا يَسْتَمِعُونَ الْقِرَاءَةَ لِيَتَوَصَّلُوا بِسَمَاعِهَا إِلَى مَعْرِفَةِ مكان الرسول بِاللَّيْلِ فَيَقْصِدُوا قَتْلَهُ وَإِيذَاءَهُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ كَانَ اللَّهُ يُلْقِي عَلَى قُلُوبِهِمُ النَّوْمَ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنَ الْأَكِنَّةِ وَتَثْقُلُ أَسْمَاعُهُمْ عَنِ اسْتِمَاعِ تِلْكَ الْقِرَاءَةِ بِسَبَبِ ذَلِكَ النَّوْمِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ:
فِي آذانِهِمْ وَقْراً. وَقِيلَ: إِنَّ الْإِنْسَانَ الَّذِي عَلِمَ اللَّهُ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ وَأَنَّهُ يَمُوتُ عَلَى الْكُفْرِ يَسِمُ اللَّهُ قَلْبَهُ بِعَلَامَةٍ مَخْصُوصَةٍ تَسْتَدِلُّ الْمَلَائِكَةُ بِرُؤْيَتِهَا عَلَى أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَلَا يَبْعُدُ تَسْمِيَةُ تِلْكَ الْعَلَامَةِ بِالْكِنَانِ. وَقِيلَ: لَمَّا أَصَرُّوا عَلَى الْكُفْرِ صَارَ عُدُولُهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ كَالْكِنَانِ الْمَانِعِ عَنِ الْإِيمَانِ فَذَكَرَ تَعَالَى ذَلِكَ كِنَايَةً عَنْ هَذَا الْمَعْنَى. وَقِيلَ: لَمَّا مَنَعَهُمُ الْأَلْطَافَ الَّتِي إِنَّمَا تَصْلُحُ أَنْ يَفْعَلَ بِمَنْ قَدِ اهْتَدَى فَأَخْلَاهُمْ وَفَوَّضَهُمْ إِلَى أَنْفُسِهِمْ لِيَسُوءَ صَنِيعُهُمْ لَمْ يَبْعُدْ أَنْ يُضِيفَ ذَلِكَ إِلَى نَفْسِهِ، فَيَقُولُ: وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً.
وَقِيلَ: يَكُونُ هَذَا الْكَلَامُ وَرَدَ حِكَايَةً لِمَا كَانُوا يَذْكُرُونَهُ مِنْ قَوْلِهِمْ وَقَالُوا: قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا تُعْزَى إِلَى الْجِبَائِيِّ وَهِيَ كُلُّهَا فِرَارٌ مِنْ نِسْبَةِ الْجَعْلِ إِلَى اللَّهِ حَقِيقَةً فَتَأَوَّلُوا ذَلِكَ عَلَى هَذِهِ الْمَجَازَاتِ الْبَعِيدَةِ، وَقَدْ نَحَا الزَّمَخْشَرِيُّ مَنْحَى بَعْضِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ فَقَالَ: الْأَكِنَّةُ عَلَى الْقُلُوبِ وَالْوَقْرُ فِي الْآذَانِ تَمْثِيلُ نُبُوِّ قُلُوبِهِمْ وَمَسَامِعِهِمْ عَنْ قَبُولِهِ وَاعْتِقَادِ صِحَّتِهِ وَوَجْهُ إِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى ذَاتِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَجَعَلْنا لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ أَمْرٌ ثَابِتٌ فِيهِمْ لَا يَزُولُ عَنْهُمْ كَأَنَّهُمْ مَجْبُولُونَ عَلَيْهِ، أَوْ هِيَ حِكَايَةٌ لِمَا كَانُوا يَنْطِقُونَ بِهِ مِنْ قَوْلِهِمْ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ «٢» انْتَهَى. وَهُوَ جَارٍ عَلَى مَذْهَبِ أَصْحَابِهِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَأَمَّا عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ فَنِسْبَةُ الْجَعْلِ إِلَى اللَّهِ حَقِيقَةٌ لَا مَجَازٌ وَهِيَ مَسْأَلَةُ خَلْقِ الْأَعْمَالِ يُبْحَثُ فِيهَا فِي أُصُولِ الدِّينَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذِهِ عِبَارَةٌ عَنْ مَا جَعَلَ اللَّهُ فِي نُفُوسِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ مِنَ الْغِلَظِ وَالْبُعْدِ عَنْ قَبُولِ الْخَيْرِ كَأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا سَامِعِينَ لأقواله.
وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها لَمَّا ذَكَرَ عَدَمَ انْتِفَاعِهِمْ بِعُقُولِهِمْ حَتَّى كَأَنَّ عَلَى
(١) سورة فصلت: ٤١/ ٢٦.
(٢) سورة فصلت: ٤١/ ٥.
469
مَحَالِّهَا أَكِنَّةً وَلَا بِسَمَاعِهِمْ حَتَّى كَأَنَّ فِي آذانِهِمْ وَقْراً انْتَقَلَ إِلَى الْحَاسَّةِ الَّتِي هِيَ أَبْلَغُ مِنْ حَاسَّةِ السَّمَاعِ، فَنَفَى مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى إِدْرَاكِهَا وَهُوَ الْإِيمَانُ وَالرُّؤْيَةُ هُنَا بَصَرِيَّةٌ وَالْآيَةُ كَانْشِقَاقِ الْقَمَرِ وَنَبْعِ الْمَاءِ مِنْ أَصَابِعِهِ، وَحَنِينِ الْجِذْعِ وَانْقِلَابِ الْعَصَا سَيْفًا وَالْمَاءِ الْمِلْحِ عَذْبًا وَتَصْيِيرِ الطَّعَامِ الْقَلِيلِ كَثِيرًا وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُلَّ آيَةٍ كُلَّ دَلِيلٍ وَحُجَّةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا لِأَجْلِ مَا جَعَلَ عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً انْتَهَى. وَمَقْصُودُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ الْإِخْبَارُ عَنِ الْمُبَالَغَةِ التَّامَّةِ وَالْعِنَادِ الْمُفْرِطِ فِي عَدَمِ إِيمَانِهِمْ حَتَّى أَنَّ الشَّيْءَ الْمَرْئِيَّ الدَّالَّ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ حَقِيقَةً لَا يُرَتِّبُونَ عَلَيْهِ مُقْتَضَاهُ، بَلْ يُرَتِّبُونَ عَلَيْهِ ضِدَّ مُقْتَضَاهُ.
حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ يُجادِلُونَكَ أَيْ يُخَاصِمُونَكَ فِي الِاحْتِجَاجِ وَبَلَغَ تَكْذِيبُهُمْ فِي الْآيَاتِ إِلَى الْمُجَادَلَةِ، وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى الْقُرْآنِ وَجَعْلُهُمْ إِيَّاهُ مِنْ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ قَدْحٌ فِي أَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ. قِيلَ:
كَانَ النَّضْرُ يُعَارِضُ الْقُرْآنَ بِأَخْبَارِ إِسْفِنْدِيَارَ وَرُسْتُمٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مُجَادَلَتُهُمْ قَوْلُهُمْ:
تَأْكُلُونَ مَا قَتَلْتُمْ وَلَا تَأْكُلُونَ مَا قَتَلَ اللَّهُ انْتَهَى. وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ وَظَاهِرُ المجادلة أنه فِي الْمَسْمُوعِ الَّذِي هُمْ يَسْتَمِعُونَ إِلَى الرَّسُولِ بِسَبَبِهِ وَهُوَ الْقُرْآنُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ فِي الِاحْتِجَاجِ انْتَهَى. أَمْرُهُمْ إِلَى الْمُجَادَلَةِ وَالِافْتِرَاءِ دُونَ دَلِيلٍ، وَمَجِيءُ الْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ ب إِذا بَعْدَ حَتَّى كَثِيرٌ جِدًّا فِي الْقُرْآنِ، وَأَوَّلُ مَا وَقَعَتْ فِيهِ قَوْلُهُ: وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ «١» وَهِيَ حَرْفُ ابْتِدَاءٍ وَلَيْسَتْ هُنَا جَارَّةً لإذا ولا جملة الشرط جُمْلَةُ الْجَزَاءِ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ حَتَّى الَّتِي هِيَ حَرْفُ ابْتِدَاءٍ أَنْ يَكُونَ بَعْدَهَا الْمُبْتَدَأُ، بَلْ تَكُونُ تَصْلُحُ أَنْ يَقَعَ بَعْدَهَا الْمُبْتَدَأُ أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي نَحْوِ ضَرَبْتُ الْقَوْمَ حَتَّى زَيْدًا ضَرَبْتُهُ أَنَّ حَتَّى فِيهِ حَرْفُ ابْتِدَاءٍ وَإِنْ كَانَ مَا بَعْدَهَا منصوبا وحَتَّى إِذَا وَقَعَتْ بَعْدَهَا إِذا يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الْفَاءِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى إِلَى أَنْ فَيَكُونُ التقدير فإذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ أَوْ يَكُونُ التَّقْدِيرُ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً أَيْ مَنَعْنَاهُمْ مِنْ فَهْمِ الْقُرْآنِ وَتَدَبُّرِهِ؟ إِلَى أَنْ يَقُولُوا: إِنْ هَذَا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ فِي وَقْتِ مَجِيئِهِمْ مُجَادِلِيكَ لِأَنَّ الْغَايَةَ لَا تُؤْخَذُ إِلَّا مِنْ جَوَابِ الشَّرْطِ لَا مِنَ الشَّرْطِ، وَعَلَى هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ يَتَخَرَّجُ جَمِيعُ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى حَتَّى إِذا وَتَرْكِيبُ حَتَّى إِذا لَا بُدَّ أَنْ يَتَقَدَّمَهُ كَلَامٌ ظَاهِرٌ نَحْوَ هَذِهِ الْآيَةِ وَنَحْوَ قَوْلِهِ: فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ: أَقَتَلْتَ، أَوْ كَلَامٌ مُقَدَّرٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ سِيَاقِ الْكَلَامِ، نَحْوَ قَوْلِهِ:
(١) سورة النساء: ٤/ ٦.
470
آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ نَارًا «١» التَّقْدِيرُ فَأَتَوْهُ بِهَا وَوَضَعَهَا بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ حَتَّى إِذا سَاوَى بَيْنَهُمَا قَالَ: انْفُخُوا فَنَفَخَهُ حَتَّى إِذا جَعَلَهُ نَارًا بِأَمْرِهِ وَإِذْنِهِ قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ وَلِهَذَا قَالَ الْفَرَّاءُ حَتَّى إِذا لَا بُدَّ أَنْ يَتَقَدَّمَهَا كَلَامٌ لَفْظًا أَوْ تَقْدِيرًا، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ التَّكْمِيلِ أَحْكَامَ حَتَّى مُسْتَوْفَاةً وَدُخُولَهَا عَلَى الشَّرْطِ، وَمَذْهَبَ الْفَرَّاءِ وَالْكِسَائِيِّ فِي ذَلِكَ وَمَذْهَبَ غَيْرِهِمَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُنَا هِيَ حَتَّى الَّتِي تَقَعُ بَعْدَهَا الْجُمَلُ وَالْجُمْلَةُ قوله: إِذا جاؤُكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا ويُجادِلُونَكَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ انْتَهَى. وَهَذَا مُوَافِقٌ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، ثُمَّ قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجَارَّةَ وَيَكُونَ إِذا جاؤُكَ فِي مَحَلِّ الْجَرِّ بِمَعْنَى حتى وقت مجيئهم ويُجادِلُونَكَ حَالٌ وَقَوْلُهُ: يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا تَفْسِيرٌ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ بَلَغَ تَكْذِيبُهُمُ الْآيَاتِ، إِلَى أَنَّهُمْ يُجَادِلُونَكَ وَيُنَاكِرُونَكَ وَفَسَّرَ مُجَادَلَتَهُمْ بِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنْ هَذَا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ فَيَجْعَلُونَ كَلَامَ اللَّهِ وَأَصْدَقَ الْحَدِيثِ خُرَافَاتٍ وَأَكَاذِيبَ وَهِيَ الْغَايَةُ فِي التَّكْذِيبِ انْتَهَى. وَمَا جَوَّزَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي إِذا بَعْدَ حَتَّى مِنْ كَوْنِهَا مَجْرُورَةً أَوْجَبَهُ ابْنُ مَالِكٍ فِي التَّسْهِيلِ، فَزَعَمَ أَنَّ إِذا تُجَرُّ بِ حَتَّى. قَالَ فِي التَّسْهِيلِ: وَقَدْ تُفَارِقُهَا، يَعْنِي إِذا الظَّرْفِيَّةَ مَفْعُولًا بِهَا وَمَجْرُورَةً بِ حَتَّى أَوْ مُبْتَدَأً وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَجْوِيزِهِ أَنْ تَكُونَ إِذا مَجْرُورَةً بِ حَتَّى، وَابْنُ مَالِكٍ فِي إِيجَابِ ذَلِكَ وَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلًا غَيْرَهُ خَطَأٌ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي كِتَابِ التَّذْيِيلِ فِي شَرْحِ التَّسْهِيلِ، وَقَدْ وُفِّقَ الْحَوْفِيُّ وَأَبُو الْبَقَاءِ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْمُعْرِبِينَ لِلصَّوَابِ فِي ذَلِكَ فَقَالَ هَنَا أبو البقاء حَتَّى إِذا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ لِجَوَابِهَا وَهُوَ يَقُولُ وَلَيْسَ لِحَتَّى هَاهُنَا عَمَلٌ وَإِنَّمَا أَفَادَتْ مَعْنَى الْغَايَةِ، كَمَا لَا تَعْمَلُ فِي الجمل ويُجادِلُونَكَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ الْفَاعِلِ فِي جاؤُكَ وَهُوَ الْعَامِلُ فِي الْحَالِ، يَقُولُ جَوَابُ إِذا وَهُوَ الْعَامِلُ فِي إِذَا انْتَهَى.
وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ
رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ، كَانَ يَنْهَى الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُؤْذُوا الرَّسُولَ وَأَتْبَاعَهُ وَكَانُوا يَدْعُونَهُ إِلَى الْإِسْلَامِ فَاجْتَمَعَتْ قُرَيْشٌ بِأَبِي طَالِبٍ يُرِيدُونَ سُوءًا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ:
وَاللَّهِ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ بِجَمْعِهِمْ حَتَّى أُوَسَّدَ فِي التراب دفينا
(١) سورة الكهف: ١٨/ ٩٦.
471
فَاصْدَعْ بِأَمْرِكَ مَا عَلَيْكَ غَضَاضَةٌ وَأَبْشِرْ وَقَرَّ بِذَاكَ منك ع
يونا وَدَعَوْتَنِي وَزَعَمْتَ أَنَّكَ نَاصِحٌ وَلَقَدْ صَدَقْتَ وَكُنْتَ ثَمَّ أ
مينا وَعَرَضْتَ دِينًا لَا مَحَالَةَ أَنَّهُ مِنْ خَيْرِ أَدْيَانِ الْبَرِيَّةِ
دِينَا لَوْلَا الْمَلَامَةُ أَوْ حَذَارُ مَسَبَّةٍ لَوَجَدْتَنِي سَمْحًا بِذَاكَ مُبِينَا
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ وَالسُّدِّيُّ وَالضَّحَّاكُ: نَزَلَتْ فِي كُفَّارِ مَكَّةَ كَانُوا يَنْهَوْنَ النَّاسَ عن اتباع الرسول وَيَتَبَاعَدُونَ بِأَنْفُسِهِمْ عَنْهُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ الْوَالِبِيِّ
، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: وَهُمْ يَعُودُ عَلَى الْكُفَّارِ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ وَفِي قَوْلِهِ: عَنْهُ يَعُودُ إِلَى الْقُرْآنِ وَهُوَ الَّذِي عَادَ عَلَيْهِ الضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي يَفْقَهُوهُ وَهُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِمْ إِنْ هَذَا وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ وَمُجَاهِدٍ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَنْهَوْنَ غَيْرَهُمْ عَنِ اتِّبَاعِ الْقُرْآنِ وَتَدَبُّرِهِ ويَنْأَوْنَ بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ ذَلِكَ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي عَنْهُ عَائِدٌ عَلَى الرسول إِذْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي قَوْلِهِ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وحَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ فَيَكُونُ ذَلِكَ الْتِفَاتًا وَهُوَ خُرُوجٌ مِنْ خِطَابٍ إِلَى غَيْبَةٍ، وَالضَّمِيرُ فِي وَهُمْ عَائِدٌ عَلَى الْكُفَّارِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُمْ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ جَمَعُوا بَيْنَ تَبَاعُدِهِمْ عَنِ الرَّسُولِ بِأَنْفُسِهِمْ وَنَهْيِ غَيْرِهِمْ عَنِ اتِّبَاعِهِ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا، وَتَقَدَّمَ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ هُوَ أَحَدُ مَا ذُكِرَ فِي سَبَبِ النُّزُولِ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي وَهُمْ عَائِدٌ عَلَى أَبِي طَالِبٍ وَمَنْ وَافَقَهُ عَلَى حِمَايَةِ الرَّسُولِ وَالضَّمِيرُ فِي عَنْهُ عَائِدٌ عَلَى الرَّسُولِ، وَالْمَعْنَى وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ مَنْ يُرِيدُ إِذَايَتَهُ وَيَبْعُدُونَ عَنْهُ بِتَرْكِ إِيمَانِهِمْ بِهِ وَاتِّبَاعِهِمْ لَهُ فَيَفْعَلُونَ الشَّيْءَ وَخِلَافَهُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وأيضا وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَحَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ وَعَطَاءِ بْنِ دِينَارٍ وَمُقَاتِلٍ وَهَذَا الْقَوْلُ أَحَدُ مَا ذُكِرَ فِي سَبَبِ النُّزُولِ وَنِسْبَةُ هَذَا إِلَى أَبِي طَالِبٍ وَتَابِعَيْهِ بِلَفْظِ وَهُمْ الظَّاهِرُ عَوْدُهُ عَلَى جَمَاعَةِ الْكُفَّارِ وَجَمَاعَتُهُمْ لَمْ يَنْهَوْا عَنْ إِذَايَةِ الرَّسُولِ هِيَ نِسْبَةٌ لِكُلِّ الْكُفَّارِ بِمَا صَدَرَ عَنْ بَعْضِهِمْ، فَخَرَجَتِ الْعِبَارَةُ عَنْ فَرِيقٍ مِنْهُمْ بِمَا يَعُمُّ جَمِيعَهُمْ لِأَنَّ التَّوْبِيخَ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ أَشْنَعُ وَأَغْلَظُ حَيْثُ يَنْهَوْنَ عَنْ إِذَايَتِهِ وَيَتَبَاعَدُونَ عَنِ اتِّبَاعِهِ وَهَذَا كَمَا تَقُولُ فِي التَّشْنِيعِ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ سُرَّاقٌ وَمِنْهُمْ زُنَاةٌ وَمِنْهُمْ شَرَبَةُ خَمْرٍ، هَؤُلَاءِ سُرَّاقٌ وَزُنَاةٌ وَشَرَبَةُ خَمْرٍ وَحَقِيقَتُهُ أَنَّ بَعْضَهُمْ يَفْعَلُ ذَا وَبَعْضَهُمْ ذَا وَكَانَ الْمَعْنَى وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْهَى عَنْ إِذَايَتِهِ وَيَبْعُدُ عَنْ هِدَايَتِهِ وَفِي قوله:
يَنْهَوْنَ ويَنْأَوْنَ تَجْنِيسُ التَّصْرِيفِ وَهُوَ أَنْ تَنْفَرِدَ كُلُّ كَلِمَةٍ عَنِ الْأُخْرَى بِحَرْفٍ فَيَنْهَوْنَ انْفَرَدَتْ بَالْهَاءِ وَيَنْأَوْنَ انْفَرَدَتْ بِالْهَمْزَةِ وَمِنْهُ وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ «١» ويفرحون
(١) سورة الكهف: ١٨/ ١٠٤.
472
وَيَمْرَحُونَ وَالْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ، وَفِي كِتَابِ التَّحْبِيرِ سَمَّاهُ تَجْنِيسَ التَّحْرِيفِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْحَرْفُ فَرْقًا بَيْنَ الْكَلِمَتَيْنِ. وَأَنْشَدَ عَلَيْهِ:
إِنْ لَمْ أَشُنَّ عَلَى ابْنِ هِنْدٍ غَارَةً لِنِهَابِ مَالٍ أَوْ ذَهَابِ نُفُوسِ
وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّ تَجْنِيسَ التَّحْرِيفِ، هُوَ أَنْ يَكُونَ الشَّكْلُ فَرْقًا بَيْنَ الْكَلِمَتَيْنِ كَقَوْلِ بَعْضِ الْعَرَبِ: وَقَدْ مَاتَ لَهُ وَلَدٌ اللَّهُمَّ إِنِّي مُسْلِمٌ وَمُسَلِّمٌ. وَقَالَ بَعْضُ الْعَرَبِ: اللَّهَى تفتح اللهى.
وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَيَنَوْنَ بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ وَإِلْقَاءِ حَرَكَتِهَا عَلَى النُّونِ وَهُوَ تَسْهِيلٌ قِيَاسِيٌّ.
وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ قَبْلَ هَذَا مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ أَيْ عَنِ الرَّسُولِ أَوِ الْقُرْآنِ قَاصِدِينَ تَخَلِّي النَّاسِ عَنِ الرَّسُولِ فَيُهْلِكُونَهُ وَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْهَلَاكِ الْمَوْتَ بَلِ الخلود في النار وَإِنْ نَافِيَةٌ بِمَعْنَى مَا وَنَفِيُ الشُّعُورِ عَنْهُمْ بِإِهْلَاكِهِمْ أَنْفُسَهُمْ مَذَمَّةٌ عَظِيمَةٌ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ في نفي العلم إذ الْبَهَائِمُ تَشْعُرُ وَتَحُسُّ فَوَبَالُ مَا رَامُوا حَلَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَلَمْ يَتَعَدَّ إِلَى غَيْرِهِمْ.
وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى حَدِيثَ الْبَعْثِ فِي قَوْلِهِ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ وَاسْتَطْرَدَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى شَيْءٍ مِنْ أَوْصَافِهِمُ الذَّمِيمَةِ فِي الدُّنْيَا، عَادَ إِلَى الْأَوَّلِ وَجَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ وَتَقْدِيرُهُ لَرَأَيْتَ أَمْرًا شَنِيعًا وَهَوْلًا عَظِيمًا وَحُذِفَ جَوَابُ لَوْ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ جَائِزٌ فَصِيحٌ وَمِنْهُ وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ «١» الْآيَةَ. وَقَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَجَدِّكَ لَوْ شَيْءٌ أَتَانَا رَسُولُهُ سِوَاكَ وَلَكِنْ لَمْ نَجِدْ لَكَ مَدْفَعًا
أَيْ لَوْ شَيْءٌ أَتَانَا رَسُولُهُ سِوَاكَ لَدَفَعْنَاهُ وتَرى مُضَارِعٌ مَعْنَاهُ الْمَاضِي أَيْ: وَلَوْ رَأَيْتَ فَإِذْ بَاقِيَةٌ عَلَى كَوْنِهَا ظَرْفًا مَاضِيًا مَعْمُولًا لِتَرَى وَأَبْرَزَ هَذَا فِي صُورَةِ الْمُضِيِّ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَقَعْ بَعْدُ إِجْرَاءٌ لِلْمُحَقَّقِ الْمُنْتَظَرِ مَجْرَى الْوَاقِعِ الْمَاضِي، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الرُّؤْيَةَ هُنَا بَصَرِيَّةٌ وَجَوَّزُوا أَنْ تَكُونَ مِنْ رُؤْيَةِ الْقَلْبِ وَالْمَعْنَى وَلَوْ صَرَفْتَ فِكْرَكَ الصَّحِيحَ إِلَى تَدَبُّرِ حَالِهِمْ لَازْدَدْتَ يَقِينًا أَنَّهُمْ يَكُونُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى أَسْوَأِ حَالٍ، فَيَجْتَمِعُ لِلْمُخَاطَبِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ الْخَبَرُ الصِّدْقُ الصَّرِيحُ وَالنَّظَرُ الصَّحِيحُ وَهُمَا مَدْرَكَانِ مِنْ مَدَارِكِ الْعِلْمِ الْيَقِينِ وَالْمُخَاطَبُ بِ تَرى الرَّسُولُ أَوِ السَّامِعُ، وَمَعْمُولُ تَرى مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ وَلَوْ تَرى حَالَهُمْ إِذْ وُقِفُوا.
(١) سورة الرعد: ١٣/ ٣١.
473
وَقِيلَ: تَرى بَاقِيَةٌ عَلَى الاستقبال وإِذْ مَعْنَاهُ إِذَا فَهُوَ ظَرْفٌ مُسْتَقْبَلٌ فَتَكُونُ لَوْ هُنَا اسْتُعْمِلَتِ اسْتِعْمَالَ إِنِ الشَّرْطِيَّةِ، وَأَلْجَأَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَمْ يَقَعْ بَعْدُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وُقِفُوا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَمَعْنَاهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ حُبِسُوا عَلَى النَّارِ. وَقَالَ ابْنُ السَّائِبِ:
مَعْنَاهُ أُجْلِسُوا عَلَيْهَا وعَلَى بِمَعْنَى فِي أَوْ تَكُونُ عَلَى بَابِهَا وَمَعْنَى جُلُوسِهِمْ، أَنَّ جَهَنَّمَ طَبَقَاتٌ فَإِذَا كَانُوا فِي طَبَقَةٍ كَانَتِ النَّارُ تَحْتَهُمْ فِي الطَّبَقَةِ الْأُخْرَى. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: عُرِضُوا عَلَيْهَا وَمَنْ عُرِضَ عَلَى شَيْءٍ فَقَدْ وُقِفَ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: عَايَنُوهَا وَمَنْ عَايَنَ شَيْئًا وَقَفَ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: عَرَفُوا مِقْدَارَ عَذَابِهَا كَقَوْلِهِمْ: وَقَفْتُ عَلَى مَا عِنْدَ فُلَانٍ أَيْ فَهِمْتُهُ وَتَبَيَّنْتُهُ وَاخْتَارَهُ الزَّجَّاجُ. وَقِيلَ:
جُعِلُوا وُقَّفًا عَلَيْهَا كَالْوُقُوفِ الْمُؤَبَّدَةِ عَلَى سُبُلِهَا ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَقِيلَ: وُقِفُوا بِقُرْبِهَا
وَفِي الْحَدِيثِ: «أَنَّ النَّاسَ يُوقَفُونَ عَلَى مَتْنِ جَهَنَّمَ».
وَقَالَ الطبري: أدخلوها ووقف فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ مُتَعَدِّيَةٌ. وَقَرَأَ ابْنُ السَّمَيْقَعِ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وُقِفُوا مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ مِنْ وَقَفَ اللَّازِمَةِ وَمَصْدَرُ هَذِهِ الْوُقُوفُ وَمَصْدَرُ تِلْكَ الْوَقْفُ، وَقَدْ سُمِعَ فِي الْمُتَعَدِّيَةِ أَوْقَفَ وَهِيَ لُغَةٌ قَلِيلَةٌ وَلَمْ يَحْفَظْهَا أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ قَالَ: لَمْ أَسْمَعْ فِي شَيْءٍ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ أَوْقَفْتُ فُلَانًا إِلَّا أَنِّي لَوْ لَقِيتُ رَجُلًا وَاقِفًا فَقُلْتُ لَهُ: مَا أَوْقَفَكَ هَاهُنَا لَكَانَ عِنْدِي حَسَنًا انْتَهَى. وَإِنَّمَا ذَهَبَ أَبُو عَمْرٍو إِلَى حُسْنِ هَذَا لِأَنَّهُ مَقِيسٌ فِي كُلِّ فِعْلٍ لَازِمٍ أَنْ يُعَدَّى بِالْهَمْزَةِ، نَحْوَ ضَحِكَ زِيدٌ وَأَضْحَكْتُهُ.
فَقالُوا يَا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَحَفْصٌ وَلا نُكَذِّبَ وَنَكُونَ بِالنَّصْبِ فِيهِمَا وَهَذَا النَّصْبُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ هُوَ بِإِضْمَارِ أَنْ بَعْدَ الْوَاوِ فَهُوَ يَنْسَبِكُ مِنْ أَنِ الْمُضْمَرَةِ، وَالْفِعْلِ بَعْدَهَا مَصْدَرٌ مَرْفُوعٌ مَعْطُوفٌ عَلَى مَصْدَرٍ مُتَوَهَّمٍ مُقَدَّرٍ مِنَ الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ وَالتَّقْدِيرُ يَا لَيْتَنا يَكُونُ لَنَا رَدٌّ وَانْتِفَاءُ تَكْذِيبٍ وَكَوْنٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَكَثِيرًا مَا يُوجَدُ فِي كُتُبِ النَّحْوِ أَنَّ هَذِهِ الْوَاوَ الْمَنْصُوبُ بَعْدَهَا هُوَ عَلَى جَوَابِ التَّمَنِّي كَمَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَلَا نُكَذِّبَ وَنَكُونَ بِالنَّصْبِ بِإِضْمَارِ أَنْ عَلَى جَوَابِ التَّمَنِّي وَمَعْنَاهُ إِنْ رُدِدْنَا لَمْ نُكَذِّبْ وَنَكُنْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ انْتَهَى، وَلَيْسَ كَمَا ذَكَرَ فَإِنَّ نَصْبَ الْفِعْلِ بَعْدَ الْوَاوِ لَيْسَ عَلَى جِهَةِ الْجَوَابِ، لِأَنَّ الْوَاوَ لَا تَقَعُ فِي جَوَابِ الشَّرْطِ فَلَا يَنْعَقِدُ مِمَّا قَبْلَهَا وَلَا مِمَّا بَعْدَهَا شَرْطٌ وَجَوَابٌ وَإِنَّمَا هِيَ وَاوُ الْجَمْعِ يُعْطَفُ مَا بَعْدَهَا عَلَى الْمَصْدَرِ الْمُتَوَهَّمِ قَبْلَهَا وَهِيَ وَاوُ الْعَطْفِ يَتَعَيَّنُ مَعَ النَّصْبِ أَحَدُ مَحَامِلِهَا الثَّلَاثَةِ وَهِيَ الْمَعِيَّةُ، وَيُمَيِّزُهَا مِنَ الْفَاءِ، تَقْدِيرُ شَرْطٍ قَبْلَهَا أَوْ حَالٌ مَكَانَهَا وَشُبْهَةُ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا جَوَابٌ أَنَّهَا تَنْصِبُ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي تَنْصِبُ فِيهَا الْفَاءُ فَتَوَهَّمَ أَنَّهَا جَوَابٌ. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: وَالْوَاوُ تَنْصِبُ مَا بعدها في
474
غير الواجب مِنْ حَيْثُ انْتَصَبَ مَا بَعْدَ الْفَاءِ وَالْوَاوِ وَمَعْنَاهَا وَمَعْنَى الْفَاءِ مُخْتَلِفَانِ أَلَا تَرَى.
لَا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ. لَوْ أُدْخِلَتِ الْفَاءُ هُنَا لَأَفْسَدَتِ الْمَعْنَى، وَإِنَّمَا أَرَادَ لَا يَجْتَمِعُ النَّهْيُ وَالْإِتْيَانُ وَتَقُولُ: لا تأكل السمك وتشرب اللَّبَنَ لَوْ أَدْخَلْتَ الْفَاءَ فَسَدَ الْمَعْنَى انْتَهَى كَلَامُ سِيبَوَيْهِ مُلَخَّصًا. وَبِلَفْظِهِ وَيُوَضِّحُ لَكَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِجَوَابٍ انْفِرَادُ الْفَاءِ دُونَهَا بِأَنَّهَا إِذَا حُذِفَتِ انْجَزَمَ الْفِعْلُ بَعْدَهَا بِمَا قَبْلَهَا لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الشَّرْطِ، إِلَّا إِذَا نَصَبَتْ بَعْدَ النَّفْيِ وَسَقَطَتِ الْفَاءُ فَلَا يَنْجَزِمُ وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَالْأَفْعَالُ الثَّلَاثَةُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى مُتَمَنَّاةٌ عَلَى سَبِيلِ الْجَمْعِ بَيْنَهَا لَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مُتَمَنًّى وَحْدَهُ إِذِ التَّقْدِيرُ كَمَا قُلْنَا يَا لَيْتَنَا يَكُونُ لَنَا رَدٌّ مَعَ انْتِفَاءِ التَّكْذِيبِ وَكَوْنٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ فِي رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ عَمَّارٍ عَنْ أَصْحَابِهِ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ وَلا نُكَذِّبَ بِالرَّفْعِ وَنَكُونَ بِالنَّصْبِ وَيَتَوَجَّهُ ذَلِكَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ انْتَهَى. وَكَانَ قَدْ قَدَّمَ أَنَّ رَفْعَ وَلَا نُكَذِّبَ وَنَكُونَ فِي قِرَاءَةِ بَاقِي السَّبْعَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: الْعَطْفُ عَلَى نُرَدُّ فَيَكُونَانِ دَاخِلَيْنِ فِي التَّمَنِّي. وَالثَّانِي الِاسْتِئْنَافُ وَالْقَطْعُ، فَهَذَانِ الْوَجْهَانِ يَسُوغَانِ فِي رَفْعِ وَلا نُكَذِّبَ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ فَلَا نُكَذِّبَ بِالْفَاءِ وَفِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ فَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا أَبَدًا وَنَكُونَ. وَحَكَى أَبُو عَمْرٍو أَنَّ فِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ وَنَحْنُ نَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَجَوَّزُوا فِي رَفْعِ وَلا نُكَذِّبَ ونَكُونَ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ فَتَلَخَّصَ فِي الرَّفْعِ ثلاثة أوجه.
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى نُرَدُّ فَيَكُونَ انْتِفَاءُ التَّكْذِيبِ وَالْكَوْنِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ دَاخِلَيْنِ فِي التَّمَنِّي أَيْ وَلَيْتَنَا لَا نُكَذِّبُ، وَلَيْتَنَا نَكُونُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَيَكُونُ هَذَا الرَّفْعُ مُسَاوِيًا فِي هَذَا الْوَجْهِ لِلنَّصْبِ لِأَنَّ فِي كِلَيْهِمَا الْعَطْفَ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ جِهَتَاهُ، فَفِي النَّصْبِ عَلَى مَصْدَرٍ مِنَ الرَّدِّ مُتَوَهَّمٍ وَفِي الرَّفْعِ عَلَى نَفْسِ الْفِعْلِ. (فَإِنْ قُلْتَ) : التَّمَنِّي إِنْشَاءٌ وَالْإِنْشَاءُ لَا يَدْخُلُهُ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ فَكَيْفَ جَاءَ قَوْلُهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ وظاهره أن الله أكذبهم في تمنيهم فالجواب مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ إِخْبَارًا مِنَ اللَّهِ أَنَّ سَجِيَّةَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ هِيَ الْكَذِبُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ حِكَايَةً وَإِخْبَارًا عَنْ حَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا لَا تَعَلُّقَ بِهِ بِمُتَعَلِّقِ التَّمَنِّي. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا التَّمَنِّيَ قَدْ تَضَمَّنَ مَعْنَى الْخَبَرِ وَالْعِدَّةِ فَإِذَا كَانَتْ سَجِيَّةُ الْإِنْسَانِ شَيْئًا ثُمَّ تَمَنَّى مَا يُخَالِفُ السَّجِيَّةَ وَمَا هُوَ بَعِيدٌ أَنْ يَقَعَ مِنْهَا، صَحَّ أَنْ يُكَذَّبَ عَلَى تَجَوُّزٍ نَحْوَ لَيْتَ اللَّهَ يَرْزُقُنِي مَالًا فَأُحْسِنَ إِلَيْكَ وَأُكَافِئَكَ عَلَى صَنِيعِكَ، فَهَذَا مُتَمَنٍّ فِي مَعْنَى الْوَاعِدِ وَالْمُخْبِرِ فَإِذَا رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا وَلَمْ يُحْسِنْ إِلَى صَاحِبِهِ وَلَمْ يُكَافِئْهُ كَذَبَ وَكَانَ تَمَنِّيهِ فِي حُكْمِ مَنْ قَالَ: إِنْ رَزَقَنِي اللَّهُ مَالًا كَافَأْتُكَ عَلَى إِحْسَانِكَ، وَنَحْوَ قَوْلِ رَجُلٍ شِرِّيرٍ بَعِيدٍ مِنْ أَفْعَالِ الطَّاعَاتِ: لَيْتَنِي أَحُجُّ
475
وَأُجَاهِدُ وَأَقُومُ اللَّيْلَ، فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لِهَذَا عَلَى تَجَوُّزٍ كَذَبْتَ أَيْ أَنْتَ لَا تَصْلُحُ لِفِعْلِ الْخَيْرِ وَلَا يَصْلُحُ لَكَ.
وَالثَّانِي مِنْ وُجُوهِ الرَّفْعِ أَنْ يَكُونَ رَفْعُ وَلَا نُكَذِّبَ ونَكُونَ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ فَأَخْبَرُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ بِهَذَا فَيَكُونُ مُنْدَرِجًا تَحْتَ الْقَوْلِ أَيْ قَالُوا: يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَقَالُوا: نَحْنُ لَا نُكَذِّبُ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَأَخْبَرُوا أَنَّهُمْ يَصْدُرُ عَنْهُمْ ذَلِكَ عَلَى كُلِّ حَالٍ. فَيَصِحُّ عَلَى هَذَا تَكْذِيبُهُمْ فِي هَذَا الْإِخْبَارِ وَرَجَّحَ سِيبَوَيْهِ هَذَا الْوَجْهَ وَشَبَّهَهُ بِقَوْلِهِ: دَعْنِي وَلَا أَعُودُ، بِمَعْنَى وَأَنَا لَا أَعُودُ تَرَكَتْنِي أَوْ لَمْ تَتْرُكْنِي.
وَالثَّالِثُ مِنْ وُجُوهِ الرَّفْعِ: أَنْ يَكُونَ وَلَا نُكَذِّبَ ونَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، التَّقْدِيرُ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ غَيْرَ مُكَذِّبِينَ وَكَائِنِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَيَكُونُ دَاخِلًا قَيْدًا فِي الرَّدِّ الْمُتَمَنَّى وَصَاحِبُ الْحَالِ هُوَ الضَّمِيرُ الْمُسْتَكِنُّ فِي نُرَدُّ وَيُجَابُ عَنْ قَوْلِهِ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ بِالْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ ذُكِرَا فِي إِعْرَابِ وَلا نُكَذِّبَ ونَكُونَ إِذَا كَانَا مَعْطُوفَيْنِ عَلَى نُرَدُّ. وَحُكِيَ أَنَّ بَعْضَ الْقُرَّاءِ قَرَأَ وَلا نُكَذِّبَ بِالنَّصْبِ وَنَكُونَ بِالرَّفْعِ فَالنَّصْبُ عَطْفٌ عَلَى مَصْدَرٍ مُتَوَهَّمٍ وَالرَّفْعُ فِي وَنَكُونَ عَطْفٌ عَلَى نُرَدُّ أَوْ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ أَيْ وَنَحْنُ نَكُونُ وَتُضُعِّفَ فِيهِ الْحَالُ لِأَنَّهُ مُضَارِعٌ مُثْبَتٌ فَلَا يَكُونُ حَالًا بِالْوَاوِ إِلَّا عَلَى تَأْوِيلِ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ نَحْوَ نَجَوْتُ، وَأَرْهَنُهُمْ مَالِكًا وَأَنَا أَرْهَنُهُمْ مَالِكًا وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ تَمَنَّوُا الرَّدَّ مِنَ الْآخِرَةِ إِلَى الدُّنْيَا. وَحَكَى الطَّبَرِيُّ تَأْوِيلًا فِي الرَّدِّ وَهُوَ أَنَّهُمْ تَمَنَّوْا أَنْ يُرَدُّوا مِنْ عَذَابِ النَّارِ إِلَى الْوُقُوفِ عَلَى النَّارِ الَّتِي وُقِفُوا عَلَيْهَا فَالْمَعْنَى: يَا لَيْتَنَا نُوقَفُ هَذَا الْوُقُوفَ غَيْرَ مُكَذِّبِينَ بِآيَاتِ رَبِّنَا كَائِنِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: وَيُضَعَّفُ هَذَا التَّأْوِيلُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ ويبطله، وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَلَا يَصِحُّ أَيْضًا التَّكْذِيبُ فِي هَذَا التَّمَنِّي لِأَنَّهُ تَمَنِّي مَا قَدْ مَضَى، وَإِنَّمَا يَصِحُّ التَّكْذِيبُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ قَبْلَ هَذَا عَلَى تَجَوُّزٍ فِي تَمَنِّي الْمُسْتَقْبَلَاتِ انْتَهَى.
وَأَوْرَدَ بَعْضُهُمْ هُنَا سُؤَالًا فَقَالَ: فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَتَمَنَّوْنَ الرَّدَّ مَعَ عِلْمِهِمْ بِتَعَذُّرِ حُصُولِهِ، وَأَجَابَ بِقَوْلِهِ: قُلْنَا لَعَلَّهُمْ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ الرَّدَّ لَا يَحْصُلُ، وَالثَّانِي: أَنَّ الْعِلْمَ بِعَدَمِ الرَّدِّ لَا يَمْنَعُ مِنَ الْإِرَادَةِ كَقَوْلِهِ: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ «١» وأَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ «٢». انْتَهَى. وَلَا يَرِدُ هَذَا السؤال لأن التَّمَنِّي هُنَا عَلَى الْمُمْتَنِعِ وَهُوَ أَحَدُ قِسْمَيْ مَا يَكُونُ التَّمَنِّي لَهُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ يَا فِي قَوْلِهِ يَا لَيْتَ حَرْفُ تَنْبِيهِ لَا حَرْفُ نِدَاءٍ وَالْمُنَادَى مَحْذُوفٌ لِأَنَّ فِي هَذَا حَذْفَ جُمْلَةِ النِّدَاءِ وَحَذْفَ مُتَعَلِّقِهِ رَأْسًا وَذَلِكَ إِجْحَافٌ كَثِيرٌ.
(١) سورة المائدة: ٥/ ٣٧.
(٢) سورة الأعراف: ٧/ ٥٠.
476
بَلْ بَدا لَهُمْ مَا كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ بَلْ هُنَا لِلْإِضْرَابِ وَالِانْتِقَالِ مِنْ شَيْءٍ إِلَى شَيْءٍ مِنْ غَيْرِ إِبْطَالٍ لِمَا سَبَقَ، وَهَكَذَا يَجِيءُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى إِذَا كَانَ مَا بَعْدَهَا مِنْ إِخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى لَا عَلَى سَبِيلِ الْحِكَايَةِ عَنْ قَوْمٍ، تَكُونُ بَلْ فِيهِ لِلْإِضْرَابِ كَقَوْلِهِ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ «١» وَمَعْنَى بَدا ظَهَرَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: بَلْ هُنَا اسْتِدْرَاكٌ وَإِيجَابُ نَفْيٍ كَقَوْلِهِمْ: مَا قَامَ زَيْدٌ بَلْ قَامَ عَمْرٌو انْتَهَى. وَلَا أَدْرِي مَا النَّفْيُ الَّذِي سَبَقَ حَتَّى تُوجِبَهُ بَلْ. وَقَالَ غَيْرُهُ: بَلْ رَدٌّ لِمَا تَمَنَّوْهُ أَيْ لَيْسَ الْأَمْرُ عَلَى مَا قَالُوهُ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا ذَلِكَ رَغْبَةً فِي الْإِيمَانِ بَلْ قَالُوهُ إِشْفَاقًا مِنَ الْعَذَابِ وَطَمَعًا فِي الرَّحْمَةِ انْتَهَى. وَلَا أَدْرِي مَا هَذَا الْكَلَامُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي لَهُمْ عَائِدٌ عَلَى مَنْ عَادَ عَلَيْهِ فِي وُقِفُوا. قَالَ أَبُو رَوْقٍ:
وَهُمْ جَمِيعُ الْكَافِرِينَ يَجْمَعُهُمُ اللَّهُ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الْآيَةَ فَيَقُولُونَ وَاللَّهِ رَبِّنا الْآيَةَ، فَتَنْطِقُ جَوَارِحُهُمْ وَتَشْهَدُ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يُشْرِكُونَ فِي الدُّنْيَا وَبِمَا كَتَمُوا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ بَلْ بَدا لَهُمْ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مِنْ قَبْلُ رَاجِعًا إِلَى الْآخِرَةِ أَيْ مِنْ قَبْلِ بُدُوِّهِ فِي الْآخِرَةِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: يَظْهَرُ مَا كانُوا يُخْفُونَ مِنْ شِرْكِهِمْ. وقال ابن عباس: هم الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَوْ سُئِلُوا فِي الدُّنْيَا هَلْ تُعَاقَبُونَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ؟ قالوا: لاثم ظَهَرَ لَهُمْ عُقُوبَةُ شِرْكِهِمْ فِي الْآخِرَةِ فَذَلِكَ قَوْلُهُ بَلْ بَدا لَهُمْ. وَقِيلَ: كُفَّارُ مَكَّةَ ظَهَرَ لَهُمْ مَا أَخْفَوْهُ مِنْ أَمْرِ الْبَعْثِ بِقَوْلِهِمْ: إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ بَعْدَ الْمَوْتِ «٢» وَقِيلَ: الْمُنَافِقُونَ كَانُوا يُخْفُونَ الْكُفْرَ فَظَهَرَ لَهُمْ وَبَالُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: الْكُفَّارُ الَّذِينَ كَانُوا إِذَا وَعَظَهُمُ الرَّسُولُ خَافُوا وَأَخْفَوْا ذَلِكَ الْخَوْفَ لِئَلَّا يَشْعُرَ بِهِمْ أَتْبَاعُهُمْ فَيَظْهَرُ ذَلِكَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَسَائِرُ الْكُفَّارِ وَيَكُونُ الَّذِي يُخْفُونَهُ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَحْوَالَهُ وَالْمَعْنَى بَدَا لَهُمْ صِدْقُكَ فِي النُّبُوَّةِ وَتَحْذِيرُكَ مِنْ عِقَابِ اللَّهِ، وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ فِي لَهُمْ ويُخْفُونَ عَائِدٌ عَلَى جِنْسٍ وَاحِدٍ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ مُخْتَلِفٌ أَيْ بَدَا لِلْأَتْبَاعِ مَا كَانَ الرُّؤَسَاءُ يُخْفُونَهُ عَنْهُمْ مِنَ الْفَسَادِ، وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ نَحْوُ هَذَا. وَقِيلَ: بَدَا لِمُشْرِكِي الْعَرَبِ مَا كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يُخْفُونَهُ عَنْهُمْ مِنَ الْبَعْثِ، وَأَمْرِ النَّارِ لِأَنَّهُ سَبَقَ ذِكْرُ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي قَوْلِهِ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ «٣» يَعْرِفُونَهُ. وَقِيلَ: بَلْ بَدا لَهُمْ أَيْ لِبَعْضِهِمْ مَا كَانَ يُخْفِيهِ عَنْهُ بَعْضُهُمْ، فَأَطْلَقَ كُلًّا عَلَى بَعْضٍ مَجَازًا. وَقَالَ الزَّهْرَاوِيُّ: وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُ الْآيَةِ الْإِخْبَارَ عَنْ هَوْلِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ ظَهَرَتْ لهم مستوراتهم في
(١) سورة الأنبياء: ٢١/ ٥.
(٢) سورة المؤمنون: ٢٣/ ٣٧.
(٣) سورة القصص: ٢٨/ ٥٢.
477
الدُّنْيَا مِنْ مَعَاصٍ وَغَيْرِهَا، فَكَيْفَ الظَّنُّ عَلَى هَذَا بِمَا كَانُوا يُعْلِنُونَ بِهِ مِنْ كُفْرٍ وَنَحْوِهِ، وَيُنْظَرُ إِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي تَعْظِيمِ شَأْنِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ «١». وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَا كانُوا يُخْفُونَ مِنَ النَّاسِ مِنْ قَبَائِحِهِمْ وَفَضَائِحِهِمْ فِي صُحُفِهِمْ وَشَهَادَةِ جَوَارِحِهِمْ عَلَيْهِمْ، فَلِذَلِكَ تَمَنَّوْا مَا تَمَنَّوْا ضجرا لا أَنَّهُمْ عَازِمُونَ عَلَى أَنَّهُمْ لَوْ رُدُّوا لَآمَنُوا انْتَهَى.
وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ أَيْ وَلَوْ رُدُّوا إِلَى الدُّنْيَا بَعْدَ وُقُوفِهِمْ عَلَى النَّارِ وَتَمَنِّيهِمُ الرَّدَّ، لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ مِنَ الْكُفْرِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْمَعَاصِي انْتَهَى. فَأَدْرَجَ الْفُسَّاقَ الَّذِينَ لَمْ يَتُوبُوا فِي الْمَوْقُوفِينَ عَلَى النَّارِ الْمُتَمَنِّينَ الرَّدَّ عَلَى مَذْهَبِهِ الِاعْتِزَالِيِّ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ إِخْبَارٌ عَنْ أَمْرٍ لَا يَكُونُ كَيْفَ كَانَ يُؤْخَذُ وَهَذَا النَّوْعُ مِمَّا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ، فَإِنْ أَعْلَمَ بِشَيْءٍ مِنْهُ عُلِمَ وَإِلَّا لَمْ يُتَكَلَّمْ فِيهِ. قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيِّ: لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ مِنَ الشِّرْكِ لِعِلْمِ اللَّهِ فِيهِمْ وَإِرَادَتِهِ أَنْ لَا يُؤْمِنُوا فِي الدُّنْيَا، وَقَدْ عَايَنَ إِبْلِيسُ مَا عَايَنَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ ثُمَّ عَانَدَ. وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: هَذِهِ الْآيَةُ مِنَ الْأَدِلَّةِ الظَّاهِرَةِ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ عَلَى فَسَادِ قَوْلِهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْ قَوْمٍ جَرَى عَلَيْهِمْ قَضَاؤُهُ فِي الْأَزَلِ بِالشِّرْكِ ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُمْ لَوْ شَاهَدُوا النَّارَ وَالْعَذَابَ ثُمَّ سَأَلُوا الرَّجْعَةَ وَرُدُّوا إِلَى الدُّنْيَا لَعَادُوا إِلَى الشِّرْكِ وَذَلِكَ لِلْقَضَاءِ السَّابِقِ فِيهِمْ، وَإِلَّا فَالْعَاقِلُ لَا يَرْتَابُ فِيمَا شَاهَدَ انتهى. وأورد هنا سؤال وَأَظُنُّهُ لِلْمُعْتَزِلَةِ وَهُوَ كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ وَلَوْ رُدُّوا إِلَى الدُّنْيَا لَعَادُوا إِلَى الْكُفْرِ بِاللَّهِ وَإِلَى مَعْصِيَتِهِ وَقَدْ عَرَفُوا اللَّهَ بِالضَّرُورَةِ وَشَاهَدُوا أَنْوَاعَ الْعِقَابِ؟ وَأَجَابَ الْقَاضِي: بِأَنَّ التَّقْدِيرَ وَلَوْ رُدُّوا إِلَى حَالَةِ التَّكْلِيفِ وَإِنَّمَا يَحْصُلُ الرَّدُّ إِلَى هَذِهِ الْحَالَةِ لَوْ لَمْ يَحْصُلْ فِي الْقِيَامَةِ مَعْرِفَةُ اللَّهِ بِالضَّرُورَةِ وَمُشَاهَدَةُ الْأَهْوَالِ وَعَذَابُ جَهَنَّمَ فَهَذَا الشَّرْطُ يَكُونُ مُضْمَرًا فِي الْآيَةِ لَا مَحَالَةَ، وَضُعِّفَ جَوَابُ الْقَاضِي بِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْآيَةِ غُلُوُّهُمْ فِي الْإِصْرَارِ عَلَى الْكُفْرِ وَعَدَمِ الرَّغْبَةِ فِي الْإِيمَانِ، وَلَوْ قَدَّرْنَا عَدَمَ مَعْرِفَةِ اللَّهِ فِي الْقِيَامَةِ وَعَدَمَ مُشَاهَدَةِ الْأَهْوَالِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَمْ يَكُنْ فِي إِصْرَارِ الْقَوْمِ عَلَى كُفْرِهِمْ مَزِيدُ تَعَجُّبٍ، لِأَنَّ إِصْرَارَهُمْ عَلَى الْكُفْرِ يَجْرِي مَجْرَى إِصْرَارِ سَائِرِ الْكُفَّارِ عَلَى الْكُفْرِ فِي الدُّنْيَا، فَعَلِمْنَا أَنَّ الشَّرْطَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُهُ الْبَتَّةَ انْتَهَى. وَإِنَّمَا الْمَعْنَى وَلَوْ رُدُّوا وَقَدْ عَرَفُوا اللَّهَ بِالضَّرُورَةِ وَعَايَنُوا الْعَذَابَ وَهُمْ مُسْتَحْضِرُونَ، ذَلِكَ ذَاكِرُونَ لَهُ لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ مِنَ الْكُفْرِ. وَقَرَأَ إِبْرَاهِيمُ وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشُ وَلَوْ رُدُّوا بِكَسْرِ الرَّاءِ عَلَى نَقْلِ حَرَكَةِ الدَّالِ مِنْ ردد إلى الراء.
(١) سورة الطارق: ٨٦/ ٩.
478
وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَهَلِ التَّكْذِيبُ رَاجِعٌ إِلَى مَا تَضَمَّنَتْهُ جُمْلَةُ التَّمَنِّي مِنَ الْوَعْدِ بِالْإِيمَانِ أَوْ ذَلِكَ إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عن عادتهم ودينهم وَمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْكَذِبِ فِي مُخَاطَبَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَكُونُ ذَلِكَ مُنْقَطِعًا عَمَّا قَبْلَهُ مِنَ الْكَلَامِ.
وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقالُوا عَطْفٌ عَلَى لَعادُوا أَيْ لَوْ رُدُّوا لَكَفَرُوا وَلَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا كَمَا كَانُوا يَقُولُونَ قَبْلَ مُعَايَنَةِ الْقِيَامَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُعْطَفَ عَلَى قَوْلِهِ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ عَلَى مَعْنَى وَإِنَّهُمْ لَقَوْمٌ كَاذِبُونَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَهُمُ الذين قالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَكَفَى بِهِ دَلِيلًا عَلَى كَذِبِهِمُ انْتَهَى.
وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ الَّذِي قَدَّمَهُ مِنْ كَوْنِهِ دَاخِلًا فِي جَوَابِ لَوْ هُوَ قَوْلُ ابْنُ زَيْدٍ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
وَتَوْقِيفُ اللَّهِ لَهُمْ فِي الْآيَةِ بَعْدَهَا عَلَى الْبَعْثِ وَالْإِشَارَةِ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ رَدٌّ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ انْتَهَى. وَلَا يَرُدُّهُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ لِاخْتِلَافِ الْمَوْطِنَيْنِ لِأَنَّ إِقْرَارَهُمْ بِحَقِّيَةِ الْبَعْثِ هُوَ فِي الْآخِرَةِ، وَإِنْكَارَهُمْ ذَلِكَ هُوَ فِي الدُّنْيَا عَلَى تَقْدِيرِ عَوْدِهِمْ وَهُوَ إِنْكَارُ عِنَادٍ فَإِقْرَارُهُمْ بِهِ فِي الْآخِرَةِ لَا يُنَافِي إِنْكَارَهُمْ لَهُ فِي الدُّنْيَا عَلَى تَقْدِيرِ الْعَوْدِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ «١» وَقَوْلِ أَبِي جَهْلٍ. وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقٌّ مَا مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ بِهِ أَبَدًا هَذَا وَذَلِكَ فِي مَوْطِنٍ وَاحِدٍ وَهِيَ الدُّنْيَا، وَالْقَوْلُ الثَّانِي الَّذِي ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ هُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ كَلَامًا مُنْقَطِعًا عَمَّا قَبْلَهُ، وَقَالُوا: إِخْبَارٌ عَنْ مَا صَدَرَ مِنْهُمْ فِي حَالَةِ الدُّنْيَا. قَالَ مُقَاتِلٌ: لَمَّا أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُفَّارَ مَكَّةَ بِالْبَعْثِ قَالُوا هَذَا وَمَعْنَى الْآيَةِ إِنْكَارُ الْحَشْرِ وَالْمَعَادِ وَبَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الذي كانوا يخفونه هُوَ الْحَشْرُ، وَالْمَعَادُ عَلَى بَعْضِ أَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ الْمُتَقَدِّمَةِ وإن هُنَا نَافِيَةٌ وَلَمْ يَكْتَفُوا بِالْإِخْبَارِ عَنِ الْمَحْصُورِ فَيَقُولُوا هِيَ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا حَتَّى أَتَوْا بِالنَّفْيِ وَالْحَصْرِ، أَيْ لَا حَيَاةَ إِلَّا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَقَطْ وَهِيَ ضَمِيرُ الْحَيَاةِ وَفَسَّرَهُ الْخَبَرُ بَعْدَهُ وَالتَّقْدِيرُ وَمَا الْحَيَاةُ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا، هَكَذَا قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يَتَقَدَّمُ الضَّمِيرُ وَلَا يُنْوَى بِهِ التَّأْخِيرُ إِذَا جُعِلَ الظَّاهِرُ خَبَرًا لِلْمُبْتَدَأِ الْمُضْمَرِ وَعَدَّهُ مَعَ الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ برب نَحْوَ رُبَّهُ رَجُلًا أَكْرَمْتَ والمرفوع بنعم عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ نَحْوَ نعم رجلا زَيْدٌ أَوْ بِأَوَّلِ الْمُتَنَازِعَيْنِ عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ نَحْوَ ضَرَبَانِي وَضَرَبْتُ الزَّيْدَيْنِ، أَوْ أُبْدِلَ مِنْهُ الْمُفَسَّرُ عَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ نَحْوَ مَرَرْتُ بِهِ زِيدٍ قَالَ: أَوْ جُعِلَ خَبَرَهُ وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ: إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا التقدير إن
(١) سورة النمل: ٢٧/ ١٤.
479
الْحَيَاةُ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا، فَإِظْهَارُ الْخَبَرِ يَدُلُّ عَلَيْهَا وَيُبَيِّنُهَا وَلَمْ يَذْكُرْ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا هَذَا الْقِسْمَ أَوْ كَانَ ضَمِيرَ الشَّأْنِ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ وَضَمِيرَ الْمَجْهُولِ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ نَحْوَ هَذَا زِيدٌ قَائِمٌ خِلَافًا لِابْنِ الطَّرَاوَةِ فِي إِنْكَارِ هَذَا الْقِسْمِ وَتَوْضِيحُ هَذِهِ الْمُضْمَرَاتِ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ النَّحْوِ وَالدُّنْيَا صِفَةٌ لِقَوْلِهِ: حَياتُنَا وَلَمْ يُؤْتَ بِهَا عَلَى أنه صِفَةٌ تُزِيلُ اشْتِرَاكًا عَارِضًا فِي مَعْرِفَةٍ لِأَنَّهُمْ لَا يُقِرُّونَ بِأَنَّ ثَمَّ حَيَاةً غَيْرُ دُنْيَا، بَلْ ذَلِكَ وَصْفٌ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ إِذْ لَا حَيَاةَ عِنْدَهُمْ إِلَّا هَذِهِ الْحَيَاةُ.
وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ لَمَّا دَلَّ الْكَلَامُ عَلَى نَفْيِ الْبَعْثِ بِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الْحَصْرِ صَرَّحُوا بِالنَّفْيِ الْمَحْضِ الدَّالِّ عَلَى عَدَمِ الْبَعْثِ بِالْمَنْطُوقِ، وَأَكَّدُوا ذَلِكَ بِالْبَاءِ الدَّاخِلَةِ فِي الْخَبَرِ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْإِنْكَارِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ فِي إِنْكَارِ الْبَعْثِ.
وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا جَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ كَمَا حُذِفَ فِي قَوْلِهِ وَلَوْ تَرى أَوَّلًا وَذَلِكَ مَجَازٌ عَنِ الْحَبْسِ والتوبيخ والسؤال كما يوقف الْعَبْدُ الْجَانِي بَيْنَ يَدَيْ سَيِّدِهِ لِيُعَاقِبَهُ وَقَدْ تَعَلَّقَ بَعْضُ الْمُشَبِّهَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وقال:
ظَاهِرُهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ فِي حَيِّزٍ وَمَكَانٍ لِأَنَّ أَهْلَ الْقِيَامَةِ يَقِفُونَ عِنْدَهُ وَبِالْقُرْبِ مِنْهُ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ بِحَيْثُ يَحْضُرُ فِي مَكَانٍ تَارَةً وَيَغِيبُ عَنْهُ أُخْرَى. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ:
وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِمْ وَاقِفِينَ عَلَى اللَّهِ كَمَا يَقِفُ أَحَدُنَا عَلَى الْأَرْضِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ مُسْتَعْلِيًا عَلَى ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا وَأَنَّهُ بَاطِلٌ بِالِاتِّفَاقِ فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَى التأويل، فيكون المراد وُقِفُوا عَلَى مَا وَعَدَهُمْ رَبُّهُمْ مِنْ عَذَابِ الْكَافِرِينَ وَثَوَابِ الْمُؤْمِنِينَ وَعَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ، أَوْ يَكُونُ الْمُرَادُ وُقُوفَ الْمَعْرِفَةِ انْتَهَى.
وَهَذَانِ التَّأْوِيلَانِ ذَكَرَهُمَا الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: عَلَى حُكْمِهِ وَأَمْرِهِ انْتَهَى. وَقِيلَ:
عَلَى مَسْأَلَةِ رَبِّهِمْ إِيَّاهُمْ عَنْ أعمالهم. وقيل: المسألة مَلَائِكَةِ رَبِّهِمْ. وَقِيلَ: عَلَى حِسَابِ رَبِّهِمْ قَالَ: أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ الظَّاهِرُ أَنَّ الْفَاعِلَ بَقَالَ هُوَ اللَّهُ فَيَكُونُ السُّؤَالُ مِنْهُ تَعَالَى لَهُمْ. وَقِيلَ: السُّؤَالُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَكَأَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى مَنْ وَقَفَهُمْ عَلَى اللَّهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَيْ قَالَ: ومن وَقَفَهُمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ قَالَ: مَرْدُودٌ عَلَى قول قَائِلٌ قَالَ مَاذَا قَالَ لَهُمْ رَبُّهُمْ إِذْ وَقَفُوا عَلَيْهِ؟ فَقِيلَ: أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ وهذا تعبير مِنَ اللَّهِ لَهُمْ عَلَى التَّكْذِيبِ وَقَوْلِهِمْ لَمَّا كَانُوا يَسْمَعُونَ مِنْ حَدِيثِ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ مَا هُوَ بِحَقٍّ وَمَا هُوَ إِلَّا بَاطِلٌ انْتَهَى.
وَيُحْتَمَلُ عِنْدِي أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ حَالِيَّةً التَّقْدِيرُ إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قَائِلًا لَهُمْ أَلَيْسَ هَذَا
480
بِالْحَقِ
وَالْإِشَارَةُ بِهَذَا إِلَى الْبَعْثِ وَمُتَعَلِّقَاتِهِ. وَقَالَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ: أَلَيْسَ هَذَا الْعَذَابُ بِالْحَقِّ وَكَأَنَّهُ لَاحَظَ قَوْلَهُ قَالَ: فَذُوقُوا الْعَذابَ قالُوا بَلى وَرَبِّنا تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى بَلى وَأَكَّدُوا جَوَابَهُمْ بِالْيَمِينِ فِي قَوْلِهِمْ وَرَبِّنا وَهُوَ إِقْرَارٌ بِالْإِيمَانِ حَيْثُ لَا يَنْفَعُ وَنَاسَبَ التَّوْكِيدُ بِقَوْلِهِمْ وَرَبِّنا صَدْرَ الْآيَةِ فِي وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ وَفِي ذِكْرِ الرَّبِّ تِذْكَارٌ لَهُمْ فِي أَنَّهُ كَانَ يُرَبِّيهِمْ وَيُصْلِحُ حَالَهُمْ، إِذَا كَانَ سَيِّدُهُمْ وَهُمْ عَبِيدُهُ، لَكِنَّهُمْ عَصَوْهُ وَخَالَفُوا أَمْرَهُ.
قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ أَيْ بِكَفْرِكُمْ بِالْعَذَابِ وَالْبَاءُ سَبَبِيَّةٌ فَقِيلَ مُتَعَلِّقُ الْكُفْرِ الْبَعْثُ أَيْ بِكُفْرِكُمْ بِالْبَعْثِ. وَقِيلَ: مُتَعَلِّقُهُ الْعَذَابُ أَيْ بِكُفْرِكُمْ بِالْعَذَابِ وَالذَّوْقُ فِي الْعَذَابِ اسْتِعَارَةٌ بَلِيغَةٌ وَالْمَعْنَى بَاشِرُوهُ مُبَاشَرَةَ الذَّائِقِ إِذْ هِيَ أَشَدُّ الْمُبَاشَرَاتِ.
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يَا حَسْرَتَنا عَلى مَا فَرَّطْنا فِيها هَذَا اسْتِئْنَافُ إِخْبَارٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ أَحْوَالِ مُنْكِرِي الْبَعْثِ وَخُسْرَانِهِمْ أَنَّهُمُ اسْتَعَاضُوا الْكُفْرَ عَنِ الْإِيمَانِ فَصَارَ ذَلِكَ شَبِيهًا بِحَالَةِ الْبَائِعِ الَّذِي أَخَذَ وَأَعْطَى وَكَانَ مَا أَخَذَ مِنَ الْكُفْرِ سَبَبًا لِهَلَاكِهِ وَمَا أَعْطَاهُ مِنَ الْإِيمَانِ سَبَبًا لِنَجَاتِهِ، فَأَشْبَهَ الْخَاسِرَ فِي صَفْقَتِهِ الْعَادِمَ الرِّبْحَ وَرَأْسَ مَالِهِ، وَمَعْنَى بِلِقاءِ اللَّهِ بُلُوغُ الْآخِرَةِ وَمَا يَكُونُ فِيهَا مِنَ الْجَزَاءِ وَرُجُوعُهُمْ إِلَى أَحْكَامِ اللَّهِ فِيهَا وحَتَّى غَايَةٌ لِتَكْذِيبِهِمْ لَا لِخُسْرَانِهِمْ، لِأَنَّ الْخُسْرَانَ لَا غَايَةَ لَهُ وَالتَّكْذِيبَ مُغَيًّا بِالْحَسْرَةِ لِأَنَّهُ لَا يَزَالُ بِهِمُ التَّكْذِيبُ إِلَى قَوْلِهِمْ يَا حَسْرَتَنا وَقْتَ مَجِيءِ السَّاعَةِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى حَتَّى إِذا فِي قَوْلِهِ: حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ وَمَعْنَى بِلِقاءِ اللَّهِ بِلِقَاءِ جَزَائِهِ وَالْإِضَافَةُ تَفْخِيمٌ وَتَعْظِيمٌ لِشَأْنِ الْجَزَاءِ وَهُوَ نَظِيرُ:
«لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ»،
أَيْ لَقِيَ جَزَاءَهُ وَمَنْ أَثْبَتَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فِي جِهَةٍ اسْتَدَلَّ بِهَذَا، وَقَالَ: اللِّقَاءُ حقيقة والسَّاعَةُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ سُمِّيَ سَاعَةً لِسُرْعَةِ انْقِضَاءِ الْحِسَابِ فِيهَا لِلْجَزَاءِ لِقَوْلِهِ: أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ «١» قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَأُدْخِلَ عَلَيْهَا تَعْرِيفُ الْعَهْدِ دُونَ تَقَدُّمِ ذِكْرٍ لِشُهْرَتِهَا وَاسْتِقْرَارِهَا فِي النُّفُوسِ وَذَيَاعِ ذِكْرِهَا، وَأَيْضًا فَقَدْ تَضَمَّنَهَا قَوْلُهُ بِلِقاءِ اللَّهِ انْتَهَى. ثُمَّ غَلَبَ اسْتِعْمَالُ السَّاعَةُ عَلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَصَارَتِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِيهَا لِلْغَلَبَةِ كَهِيَ فِي الْبَيْتِ لِلْكَعْبَةِ وَالنَّجْمِ لِلثُّرَيَّا.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ (فَإِنْ قُلْتَ) : إِنَّمَا يَتَحَسَّرُونَ عِنْدَ مَوْتِهِمْ (قُلْتُ) : لَمَّا كَانَ الموت
(١) سورة طه: ٢٠/ ١٠٤. [.....]
481
وُقُوعًا فِي أَحْوَالِ الْآخِرَةِ وَمُقَدِّمَاتِهَا، جُعِلَ مِنْ جِنْسِ السَّاعَةِ وَسُمِّي بِاسْمِهَا وَلِذَلِكَ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم: «من مَاتَ فَقَدْ قَامَتْ قِيَامَتُهُ».
وَجُعِلَ فِي مَجِيءِ السَّاعَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ لِسُرْعَتِهِ فَالْوَاقِعُ بِغَيْرِ فَتْرَةٍ انْتَهَى. وَإِطْلَاقُ السَّاعَةُ على وقت الموت مَجَازٌ، وَيُمْكِنُ حَمْلُ السَّاعَةِ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَحَسُّرِهِمْ وَقْتَ الْمَوْتِ أَنَّهُمْ لَا يَتَحَسَّرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، بَلِ الظَّاهِرُ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ: وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ إِذْ هَذَا حَالٌ من قولهم: قالُوا يَا حَسْرَتَنا عَلى مَا فَرَّطْنا فِيها وَهِيَ حَالُ مُقَارَنَةٍ، وَإِذَا حَمَلْنَا الساعة على وقت الموت كَانَتْ حَالًا مُقَدَّرَةً وَمَجِيءُ الْقُدْرَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُقَارَنَةِ قَلِيلٌ، فَيَكُونُ التَّكْذِيبُ مُتَّصِلًا بِهِمْ مُغَيًّا بِالْحَسْرَةِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِذْ مُكْثُهُمْ فِي الْبَرْزَخِ عَلَى اعْتِقَادِ أَمْثَلِهِمْ طَرِيقَةً يَوْمٌ وَاحِدٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً «١» فَلَمَّا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ زَالَ التَّكْذِيبُ وَشَاهَدُوا مَا أَخْبَرَتْهُمْ بِهِ الرُّسُلُ عِيَانًا فَقَالُوا يَا حَسْرَتَنا.
وَجَوَّزُوا فِي انْتِصَابِ بَغْتَةً أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ من السَّاعَةُ أَيْ بَاغِتَةً أَوْ مِنْ مَفْعُولِ جَاءَتْهُمْ أَيْ مَبْغُوتِينَ أَوْ مَصْدَرًا لَجَاءَ مِنْ غَيْرِ لَفْظِهِ كَأَنَّهُ قِيلَ حَتَّى إِذَا بَغَتَتْهُمُ الساعة بغتة، أو مصدر الفعل مَحْذُوفٍ أَيْ تَبْغَتُهُمْ بَغْتَةً وَنَادَوُا الْحَسْرَةَ وَإِنْ كَانَتْ لَا تُجِيبُ عَلَى طَرِيقِ التَّعْظِيمِ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَكَأَنَّ الَّذِي يُنَادِي الْحَسْرَةَ أَوِ الْعَجَبَ أَوِ السُّرُورَ أَوِ الْوَيْلَ يَقُولُ: اقْرُبِي أَوِ احْضُرِي فَهَذَا أَوَانُكِ وَزَمَنُكَ وَفِي ذَلِكَ تَعْظِيمٌ لِلْأَمْرِ عَلَى نَفْسِ الْمُتَكَلِّمِ وَعَلَى سامعه إن كَانَ ثَمَّ سَامِعٌ وَهَذَا التَّعْظِيمُ عَلَى النَّفْسِ وَالسَّامِعِ هُوَ الْمَقْصُودُ أَيْضًا فِي نِدَاءِ الْجَمَادَاتِ كَقَوْلِكَ يَا دَارُ يَا رَبْعُ وَفِي نِدَاءِ مَا لَا يَعْقِلُ كقولهم: يا جمل، وفَرَّطْنا قَصَّرْنَا وَالتَّفْرِيطُ التَّقْصِيرُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى تَرْكِهِ، وَالضَّمِيرُ فِي فِيها عَائِدٌ عَلَى السَّاعَةُ أَيْ فِي التَّقْدُمَةِ لَهَا قَالَهُ الْحَسَنُ، أَوِ الصَّفْقَةِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا ذِكْرُ الْخَسَارَةِ قَالَهُ الطَّبَرِيُّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الضَّمِيرُ لِلْحَيَاةِ الدُّنْيَا جِيءَ بِضَمِيرِهَا وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهَا ذِكْرٌ لِكَوْنِهَا مَعْلُومَةً، أَوِ السَّاعَةِ عَلَى مَعْنَى قَصَّرْنَا فِي شَأْنِهَا وَفِي الْإِيمَانِ بِهَا كَمَا تَقُولُ: فَرَّطْتُ فِي فُلَانٍ وَمِنْهُ فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ «٢» انْتَهَى. وَكَوْنُهُ عَائِدًا عَلَى الدُّنْيَا وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَدَلَّ الْعَقْلُ عَلَى أَنَّ مَوْضِعَ التَّقْصِيرِ لَيْسَ إِلَّا الدُّنْيَا فَحَسُنَ عَوْدُهُ عَلَيْهَا لِهَذَا الْمَعْنَى وَأَوْرَدَ ابْنُ عَطِيَّةَ هَذَا الْقَوْلَ احْتِمَالًا فَقَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ عَلَى الدُّنْيَا، إِذِ الْمَعْنَى يَقْتَضِيهَا وَتَجِيءُ الظَّرْفِيَّةُ أَمْكَنَ بِمَنْزِلَةِ زَيْدٌ فِي الدَّارِ انْتَهَى، وَعَوْدُهُ عَلَى السَّاعَةُ قَوْلُ الْحَسَنِ وَالْمَعْنَى فِي إِعْدَادِ الزَّادِ وَالْأُهْبَةِ لَهَا. وَقِيلَ: يَعُودُ الضَّمِيرُ عَلَى ما وهي اسم موصول وعاد على لمعنى أَيْ يَا حَسْرَتَنا عَلَى الْأَعْمَالِ وَالطَّاعَاتِ الَّتِي فَرَّطْنَا فيها، وما في الأوجه التي
(١) سورة طه: ٢٠/ ١٠٤.
(٢) سورة الزمر: ٣٩/ ٥٦.
482
سَبَقَتْ مَصْدَرِيَّةٌ التَّقْدِيرُ عَلَى تَفْرِيطِنَا فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي السَّاعَةِ أَوْ فِي الصَّفْقَةِ عَلَى التَّقْدِيرِ الَّذِي تَقَدَّمَ، وَالظَّاهِرُ عَوْدُهُ عَلَى السَّاعَةِ وَأَبْعَدَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى مَنَازِلِهِمْ فِي الْجَنَّةِ إِذَا رَأَوْا مَنَازِلَهُمْ فِيهَا لَوْ كَانُوا آمَنُوا.
وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ الْأَوْزَارُ الْخَطَايَا وَالْآثَامُ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْحَمْلَ حَقِيقَةٌ وَهُوَ قَوْلُ عُمَيْرِ بْنِ هَانِئٍ وَعَمْرِو بن قيس الملائي وَالسُّدِّيِّ
وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ، وَمَا ذَكَرَهُ مَحْصُولُهُ أَنَّ عَمَلَهُ يُمَثَّلُ فِي صُورَةِ رَجُلٍ قَبِيحِ الْوَجْهِ وَالصُّورَةِ خَبِيثِ الرِّيحِ فَيَسْأَلُهُ فَيَقُولُ: أَنَا عملك طال ما رَكِبْتَنِي فِي الدُّنْيَا فَأَنَا الْيَوْمَ أَرْكَبُكَ فَيَرْكَبُهُ وَيَتَخَطَّى بِهِ رِقَابَ النَّاسِ وَيَسُوقُهُ حَتَّى يُدْخِلَهُ النَّارَ، وَرَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا الْمَعْنَى وَاللَّفْظُ مُخْتَلِفٌ.
وَقِيلَ: هُوَ مَجَازٌ عُبِّرَ بحل الْوِزْرِ عَنْ مَا يَجِدُهُ مِنَ الْمَشَقَّةِ وَالْآلَامِ بِسَبَبِ ذُنُوبِهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يُقَاسُونَ عقاب ذنوبهم مقاساة تثقل عَلَيْهِمْ وَهَذَا الْقَوْلُ بَدَأَ بِهِ ابْنُ عَطِيَّةَ وَلَمْ يَذْكُرِ الزَّمَخْشَرِيُّ غَيْرَهُ قَالَ كَقَوْلِهِ: فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ «١» لِأَنَّهُ اعْتِيدَ حَمْلُ الْأَثْقَالِ عَلَى الظُّهُورِ كَمَا أُلِّفَ الْكَسْبُ بِالْأَيْدِي وَالْوَاوُ فِي وَهُمْ وَاوُ الْحَالِ وَأَتَتِ الْجُمْلَةُ مُصَدَّرَةً بِالضَّمِيرِ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي النِّسْبَةِ إِذْ صَارَ ذُو الْحَالِ مَذْكُورًا مَرَّتَيْنِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَخُصَّ الظَّهْرُ لِأَنَّهُ غَالِبًا مَوْضِعُ اعْتِيَادِ الْحَمْلِ وَلِأَنَّهُ يُشْعِرُ بِالْمُبَالَغَةِ فِي ثِقَلِ الْمَحْمُولِ إِذْ يُطِيقُ مِنَ الْحَمْلِ الثَّقِيلِ مَا لَا تُطِيقُهُ الرَّأْسُ وَلَا الْكَاهِلُ، كَمَا قَالَ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ «٢» لِأَنَّ اللَّمْسَ أَغْلَبُ مَا يَكُونُ بِالْيَدِ وَلِأَنَّهَا أَقْوَى فِي الْإِدْرَاكِ.
أَلا ساءَ مَا يَزِرُونَ ساءَ هُنَا تَحْتَمِلُ وُجُوهًا ثَلَاثَةً. أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ الْمُتَعَدِّيَةَ الْمُتَصَرِّفَةَ وَوَزْنُهَا فَعَلَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالْمَعْنَى أَلَا سَاءَهُمْ مَا يَزِرُونَ، وَتَحْتَمِلُ مَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً بِمَعْنَى الَّذِي، فَتَكُونَ فَاعِلَةً وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَا مَصْدَرِيَّةً فَيَنْسَبِكَ مِنْهَا ما بَعْدَهَا مَصْدَرٌ هُوَ الْفَاعِلُ أَيْ أَلَا سَاءَهُمْ وِزْرُهُمْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا حُوِّلَتْ إِلَى فَعُلَ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَأُشْرِبَتْ مَعْنَى التَّعَجُّبِ وَالْمَعْنَى أَلَا مَا أَسْوَأَ الَّذِي يَزِرُونَهُ أَوْ مَا أَسْوَأَ وِزْرَهُمْ عَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ فِي مَا. وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا أَيْضًا حُوِّلَتْ إِلَى فَعُلَ بِضَمِّ الْعَيْنِ، وَأُرِيدَ بِهَا الْمُبَالَغَةُ فِي الذَّمِّ فَتَكُونُ مُسَاوِيَةً لبئس فِي الْمَعْنَى وَالْأَحْكَامِ، وَيَكُونُ إِطْلَاقُ الَّذِي سَبَقَ فِي مَا فِي قَوْلِهِ: بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ «٣» جَارِيًا فِيهَا هُنَا، وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا الْوَجْهِ وَالْوَجْهِ الَّذِي قَبْلَهُ أَنَّ الَّذِي قَبْلَهُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ مَا يُشْتَرَطُ فِي فَاعِلِ بِئْسَ مِنَ الْأَحْكَامِ وَلَا هُوَ
(١) سورة الشورى: ٤٢/ ٣٠.
(٢) سورة الأنعام: ٦/ ٧.
(٣) سورة البقرة: ٢/ ٩٠.
483
جُمْلَةً مُنْعَقِدَةً مِنْ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ، إِنَّمَا هُوَ مُنْعَقِدٌ مِنْ فِعْلٍ وَفَاعِلٍ وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ وَالْأَوَّلِ أَنَّ فِي الْأَوَّلِ الْفِعْلُ مُتَعَدٍّ وَفِي هَذَيْنِ قَاصِرٌ، وَأَنَّ الْكَلَامَ فِيهِ خَبَرٌ وَهُوَ فِي هَذَيْنِ إِنْشَاءٌ وجعل الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ بَابِ بِئْسَ فَقَطْ فَقَالَ: ساءَ مَا يَزِرُونَ بِئْسَ شَيْئًا يَزِرُونَ وِزْرَهُمْ كَقَوْلِهِ:
ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ «١»، وَذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ هَذَا الْوَجْهَ احْتِمَالًا أَخِيرًا وَبَدَأَ بِأَنَّ ساءَ مُتَعَدِّيَةٌ وما فَاعِلٌ كَمَا تَقُولُ سَاءَ فِي هَذَا الْأَمْرِ وَأَنَّ الْكَلَامَ خَبَرٌ مُجَرَّدٌ. قَالَ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
رَضِيتَ خُطَّةَ خَسْفٍ غَيْرَ طَائِلَةٍ فَسَاءَ هَذَا رِضًا يَا قَيْسَ عيلانا
وَلَا يَتَعَيَّنُ مَا قَالَ فِي الْبَيْتِ مِنْ أَنَّ الْكَلَامَ فِيهِ خَبَرٌ مُجَرَّدٌ بَلْ يَحْتَمِلُ قَوْلُهُ: فَسَاءَ هَذَا رِضًا الْأَوْجُهَ الثَّلَاثَةَ وَافْتُتِحَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ بِ أَلا تَنْبِيهًا وَإِشَارَةً لِسُوءِ مُرْتَكَبِهِمْ فَأَلَا تَدُلُّ عَلَى الْإِشَارَةِ بِمَا يَأْتِي بَعْدَهَا كَقَوْلِهِ: أَلَا فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ «٢» أَلَا لَا يَجْهَلَنْ أَحَدٌ عَلَيْنَا.
وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ لَمَّا ذَكَرَ قَوْلَهُمْ وَقَالُوا: إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا ذَكَرَ مَصِيرَهَا وَأَنَّ مُنْتَهَى أَمْرِهَا أَنَّهَا فَانِيَةٌ مُنْقَضِيَةٌ عَنْ قَرِيبٍ، فَصَارَتْ شَبِيهَةً بِاللَّهْوِ وَاللَّعِبِ إِذْ هُمَا لَا يَدُومَانِ وَلَا طَائِلَ لَهُمَا كَمَا أَنَّهَا لَا طَائِلَ لَهَا، فَاللَّهْوُ وَاللَّعِبُ اشْتِغَالٌ بِمَا لَا غِنَى بِهِ وَلَا مَنْفَعَةَ كَذَلِكَ هِيَ الدُّنْيَا بِخِلَافِ الِاشْتِغَالِ بِأَعْمَالِ الْآخِرَةِ فَإِنَّهَا الَّتِي تُعْقِبُ الْمَنَافِعَ وَالْخَيْرَاتِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: فِي الْكَلَامِ حَذَفٌ التَّقْدِيرُ وَمَا أَهْلُ الْحَيَاةِ إِلَّا أَهْلُ لَعِبٍ وَلَهْوٍ. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ وَمَا أَعْمَالُ الْحَيَاةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذِهِ حَيَاةُ الْكَافِرِ لِأَنَّهُ يُزْجِيهَا فِي غُرُورٍ وَبَاطِلٍ، وَأَمَّا حَيَاةُ الْمُؤْمِنِ فَتُطْوَى عَلَى أَعْمَالٍ صَالِحَةٍ فَلَا تَكُونُ لَعِبًا وَلَهْوًا
وَفِي الْحَدِيثِ: «مَا أَنَا مِنَ الدَّدِ وَلَا الدَّدُ مِنِّي»
، وَالدَّدُ اللَّعِبُ وَاللَّعِبُ وَاللَّهْوُ قِيلَ: هُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَكُرِّرَ تَأْكِيدًا لِذَمِّ الدُّنْيَا. وَقَالَ الرُّمَّانِيُّ: اللَّعِبُ عَمَلٌ يَشْغَلُ عَمَّا يُنْتَفَعُ بِهِ إِلَى مَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ، وَاللَّهْوُ صَرْفُ النَّفْسِ عَنِ الْجِدِّ إِلَى الْهَزْلِ يُقَالُ: لُهِيتُ عَنْهُ أَيْ صَرَفْتُ نَفْسِي عَنْهُ وَرَدَّ عَلَيْهِ الْمَهْدَوِيُّ، فَقَالَ: هَذَا فِيهِ ضَعْفٌ وَبُعْدٌ لِأَنَّ الَّذِي مَعْنَاهُ الصَّرْفُ لَامُهُ يَاءٌ بِدَلِيلِ قَوْلِهِمْ: لَهَيَانِ وَلَامُ الْأَوَّلِ وَاوٌ انْتَهَى. وَهَذَا التَّضْعِيفُ لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ فَعِلَ مِنْ ذَوَاتِ الْوَاوِ تَنْقَلِبُ فِيهِ الْوَاوُ يَاءً كَمَا تَقُولُ: شَقِيَ فُلَانٌ وَهُوَ مِنَ الشِّقْوَةِ فَكَذَلِكَ لَهِيَ، أَصْلُهُ لَهِوَ مِنْ ذَوَاتِ الْوَاوِ فَانْقَلَبَتِ الْوَاوُ يَاءً لِكَسْرَةِ مَا قَبْلَهَا فَقَالُوا: لَهِيَ كَمَا قَالُوا: حَلِيَ بِعَيْنِي وَهُوَ مِنَ الْحَلْوِ وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِقَوْلِهِمْ فِي التَّثْنِيَةِ لَهَيَانِ فَفَاسِدٌ لِأَنَّ التثنية
(١) سورة الأعراف: ٧/ ١٧٧.
(٢) سورة هود: ١١/ ٥.
484
هِيَ كَالْفِعْلِ تَنْقَلِبُ فِيهِ الْوَاوُ يَاءً لِأَنَّ مَبْنَاهَا عَلَى الْمُفْرَدِ وَهِيَ تَنْقَلِبُ فِي الْمُفْرَدِ فِي قَوْلِهِمْ: لَهٍ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ لَهِيَ كَمَا قَالُوا: شَجَّ وَهُوَ مِنَ الشَّجْوِ، وَقَالُوا فِي تَثْنِيَتِهِ: شَجَيَانِ بِالْيَاءِ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ شَيْءٍ مِنْ هَذَا فِي الْمُفْرَدَاتِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحْدَهُ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ عَلَى الْإِضَافَةِ، وَقَالُوا: هُوَ كَقَوْلِهِمْ: مَسْجِدُ الْجَامِعِ فَقِيلَ هُوَ مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى صِفَتِهِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ:
هِيَ إِضَافَةُ الشَّيْءِ إِلَى نَفْسِهِ كَقَوْلِكَ: بَارِحَةُ الْأُولَى وَيَوْمُ الْخَمِيسِ وَحَقُّ الْيَقِينِ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ عِنْدَ اخْتِلَافِ اللَّفْظَيْنِ انْتَهَى. وَقِيلَ: مِنْ حَذْفِ الْمَوْصُوفِ وَإِقَامَةِ الصِّفَةِ مَقَامَهُ أَيْ وَلَدَارُ الْحَيَاةِ الْآخِرَةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَهَذَا قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ، وَحَسُنَ ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ قَدِ اسْتُعْمِلَتِ اسْتِعْمَالَ الْأَسْمَاءِ فَوَلِيَتِ الْعَوَامِلَ كَقَوْلِهِ وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى «١» وَقَوْلِهِ وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى «٢». وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ بِتَعْرِيفِ الدَّارِ بأل وَرَفْعِ الْآخِرَةُ نَعْتًا لَهَا وخَيْرٌ هُنَا أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ وَحَسُنَ حَذْفُ الْمُفَضَّلِ عَلَيْهِ لِوُقُوعِهِ خَبَرًا وَالتَّقْدِيرُ مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَقِيلَ: خَيْرٌ هُنَا لَيْسَتْ لِلتَّفْضِيلِ وَإِنَّمَا هِيَ كَقَوْلِهِ:
أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا «٣» إِذْ لَا اشْتِرَاكَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ فِي أَصْلِ الْخَيْرِ، فَيَزِيدُ الْمُؤْمِنُ عَلَيْهِ بَلْ هَذَا مُخْتَصٌّ بِالْمُؤْمِنِ. وَالدَّارُ الْآخِرَةُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ الْجَنَّةُ. وَقِيلَ ذَلِكَ مَجَازٌ عُبِّرَ بِهِ عَنِ الْإِقَامَةِ فِي النَّعِيمِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
لِلَّهِ أَيَّامُ نَجِدٍ وَالنَّعِيمُ بِهَا قَدْ كَانَ دَارًا لَنَا أَكْرِمْ بِهِ دَارَا
وَمَعْنَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ يَتَّقُونَ الشِّرْكَ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ الْفَاسِقَ وَلَوْ قَدَّرْنَا دُخُولَهُ النَّارَ فَإِنَّهُ بَعْدُ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ فَتَصِيرُ الدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرًا لَهُ مِنْ دَارِ الدُّنْيَا، وَذُكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى الْكُفْرَ وَالْمَعَاصِيَ وَقَالَ فِي الْمُنْتَخَبِ نَحْوَهُ قَالَ: بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ هَذِهِ الْخَيْرِيَّةَ إِنَّمَا تَحْصُلُ لِمَنْ كَانَ مِنَ الْمُتَّقِينَ الْمَعَاصِيَ والكبائر، فأما الكافرون والفاسقون فَلَا لِأَنَّ الدُّنْيَا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ خَيْرٌ مِنَ الْآخِرَةِ انْتَهَى، وَهُوَ أَشْبَهُ بِكَلَامِ الْمُعْتَزِلَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَوْلُهُ:
لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا سِوَى أَعْمَالِ الْمُتَّقِينَ لَهْوٌ وَلَعِبٌ، انْتَهَى. وَقَدْ أَبْدَى الْفَخْرُ الرَّازِيُّ الْخَيْرِيَّةَ هُنَا فَقَالَ: خَيْرَاتُ الدُّنْيَا خَسِيسَةٌ وَخَيْرَاتُ الْآخِرَةِ شَرِيفَةٌ، وَبَيَانُهُ أَنَّ خَيْرَاتِ لدنيا لَيْسَتْ إِلَّا قَضَاءَ الشَّهْوَتَيْنِ وَهُوَ فِي نِهَايَةِ الْخَسَاسَةِ، بِدَلِيلِ مُشَارَكَةِ الْحَيَوَانَاتِ الْخَسِيسَةِ فِي ذَلِكَ وَزِيَادَةِ بَعْضِهَا عَلَى الْإِنْسَانِ فِي ذَلِكَ كَالْجَمَلِ فِي كَثْرَةِ الْأَكْلِ والديك في كثرة
(١) سورة الليل: ٩٢/ ١٣.
(٢) سورة الضحى: ٩٣/ ٤.
(٣) سورة الفرقان: ٢٥/ ٢٤.
485
الْوِقَاعِ وَالذِّئْبِ فِي الْقُوَّةِ عَلَى الْفَسَادِ وَالتَّمْزِيقِ، وَالْعَقْرَبِ فِي قُوَّةِ الْإِيلَامِ وَبِدَلِيلِ أَنَّ الْإِكْثَارَ مِنْ ذَلِكَ لَا يُوجِبُ شَرَفًا بَلِ الْمُكْثِرُ مِنْ ذَلِكَ مَمْقُوتٌ مُسْتَقْذَرٌ مُسْتَحْقَرٌ يُوصَفُ بِأَنَّهُ بَهِيمَةٌ، وَبِدَلِيلِ عَدَمِ الِافْتِخَارِ بِهَذِهِ الْأَحْوَالِ بَلِ الْعُقَلَاءُ يُخْفُونَهَا وَيَخْتَفُونَ عِنْدَ فِعَالِهَا وَيُكَنُّونَ عَنْهَا وَلَا يُصَرِّحُونَ بِهَا إِلَّا عِنْدَ الشَّتْمِ بِهَا، وَبِأَنَّ حَقِيقَةَ اللَّذَّاتِ دفع آلام وَبِسُرْعَةِ انْقِضَائِهَا فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ خَسَاسَةُ هَذِهِ اللَّذَّاتِ، وَأَمَّا السَّعَادَاتُ الرُّوحَانِيَّةُ فَسَعَادَاتٌ عَالِيَةٌ شَرِيفَةٌ بَاقِيَةٌ مُقَدَّسَةٌ وَذَلِكَ أَنَّ جَمِيعَ الْخَلْقِ إِذَا تَخَيَّلُوا فِي إِنْسَانٍ كَثْرَةَ الْعِلْمِ وَشِدَّةَ الِانْقِبَاضِ عَنِ اللَّذَّاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ، فَإِنَّهُمْ بِالطَّبْعِ يُعَظِّمُونَهُ وَيَخْدِمُونَهُ وَيَعُدُّونَ أَنْفُسَهُمْ عَبِيدًا لَهُ وَأَشْقِيَاءَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، وَلَوْ فَرَضْنَا تَشَارُكَ خَيْرَاتِ الدُّنْيَا وَخَيْرَاتِ الْآخِرَةِ فِي التَّفْضِيلِ لَكَانَتْ خَيْرَاتُ الْآخِرَةِ أَفْضَلَ، لِأَنَّ الْوُصُولَ إِلَيْهَا مَعْلُومٌ قَطْعًا وَخَيْرَاتُ الدُّنْيَا لَيْسَتْ مَعْلُومَةً بَلْ وَلَا مَظْنُونَةً، فَكَمْ مِنْ سُلْطَانٍ قَاهِرٍ بُكْرَةَ يَوْمٍ أَمْسَى تَحْتَ التُّرَابِ آخِرَهُ وَكَمْ مُصْبِحٍ أَمِيرًا عَظِيمًا أَمْسَى أَسِيرًا حَقِيرَا؟ وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّهُ وَجَدَ بَعْدَ سُرُورِ يَوْمٍ يَوْمًا آخَرَ، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي هَلْ يَنْتَفِعُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بِمَا جَمَعَ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالطَّيِّبَاتِ وَاللَّذَّاتِ؟ بِخِلَافِ مُوجِبِ السَّعَادَاتِ الْأُخْرَوِيَّةِ فَإِنَّهُ يُقْطَعُ أَنَّهُ يَنْتَفِعُ بِهَا فِي الْآخِرَةِ وَهَبْ أَنَّهُ انْتَفَعَ بِهَا، فَلَيْسَ ذَلِكَ الِانْتِفَاعُ خَالِيًا مِنْ شَوَائِبِ الْمَكْرُوهَاتِ وَالْمُحْزِنَاتِ وَهَبْ أَنَّهُ انْتَفَعَ فِي الْغَدِ فَإِنَّهَا تنقضي ويحزم عِنْدَ انْقِضَائِهَا، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
أَشَدُّ الْغَمِّ عِنْدِي فِي سُرُورٍ تَيَقَّنَ عَنْهُ صَاحِبُهُ انتقالا
فثبت بما ذكر أن خيرات الدنيا موصوفة بهذه العيوب، وخيرات الآخرة مبرأة عنها فوجب القطع بأن الآخرة أفضل وأكمل وأبقى انتهى ما لخص من كلامه مع اختلاف بعض ألفاظ وهي شبيهة بكلام أهل الفلسفة، لأن السعادات الأخروية عندهم هي روحانية فقط واعتقاد المسلمين أنها لذات جسمانية وروحانية، وأيضا ففي كلامه انتقاد من حيث إن بعض الأوصاف التي حقرها هو جعلها الله في بعض من اصطفاه من خلقه فلا تكون تلك الصفة إلا شريفة لا كما قاله هو من أنها صفة خسيسة. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وحفص أَفَلا تَعْقِلُونَ بالتاء خطاب مواجهة لِمَنْ كَانَ بِحَضْرَةِ الرَّسُولِ من منكري البعث. وقرأ الباقون بالياء عودا على ما قبل لأنها أسماء غائبة والمعنى أفلا تعقلون أن الآخرة خير من الدّنيا.
وقيل: أفلا يعقلون أن الأمر هكذا فيزهدوا في الدّنيا.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٣٣ الى ٣٥]
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (٣٣) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (٣٤) وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٥)
486
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ وَقَالَ النَّقَّاشُ: نَزَلَتْ فِي الْحَارِثِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ فَإِنَّهُ كَانَ يُكَذِّبُ فِي الْعَلَانِيَةِ وَيُصَدِّقُ فِي السِّرِّ وَيَقُولُ: نَخَافُ أَنْ تَتَخَطَّفَنَا الْعَرَبُ وَنَحْنُ أَكَلَةُ رَأَسٍ، وَقَالَ غَيْرُهُ: رُوِيَ أَنَّ الْأَخْنَسَ بْنَ شريف قَالَ لِأَبِي جَهْلٍ. يَا أَبَا الْحَكَمِ أَخْبِرْنِي عَنْ مُحَمَّدٍ أَصَادِقٌ هُوَ أَمْ كَاذِبٌ؟ فَإِنَّهُ لَيْسَ عِنْدَنَا أَحَدٌ غَيْرَنَا فَقَالَ لَهُ: وَاللَّهِ إِنَّ مُحَمَّدًا لَصَادِقٌ وَمَا كَذَبَ قَطُّ، وَلَكِنْ إِذَا ذَهَبَ بَنُو قُصَيٍّ بِاللِّوَاءِ وَالسِّقَايَةِ وَالْحِجَابَةِ وَالنُّبُوَّةِ فَمَاذَا يَكُونُ لِسَائِرِ قُرَيْشٍ فَنَزَلَتْ. قَدْ حَرْفُ تَوَقُّعٍ إِذَا دَخَلَتْ عَلَى مُسْتَقْبَلِ الزَّمَانِ كَانَ التَّوَقُّعُ مِنَ الْمُتَكَلِّمِ كَقَوْلِكَ: قَدْ يَنْزِلُ الْمَطَرُ فِي شَهْرِ كَذَا وَإِذَا كَانَ مَاضِيًا أَوْ فِعْلَ حَالٍ بِمَعْنَى الْمُضِيِّ فَالتَّوَقُّعُ كَانَ عِنْدَ السَّامِعِ، وَأَمَّا الْمُتَكَلِّمُ فَهُوَ مُوجِبُ مَا أَخْبَرَ بِهِ وَعَبَّرَ هُنَا بِالْمُضَارِعِ إِذِ الْمُرَادُ الِاتِّصَافُ بِالْعِلْمِ وَاسْتِمْرَارُهُ وَلَمْ يُلْحَظْ فِيهِ الزَّمَانُ كَقَوْلِهِمْ: هُوَ يُعْطِي وَيَمْنَعُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَالتَّبْرِيزِيُّ:
قَدْ نَعْلَمُ بِمَعْنَى رُبَّمَا الَّذِي تَجِيءُ لِزِيَادَةِ الْفِعْلِ وَكَثْرَتِهِ نَحْوَ قَوْلِهِ: وَلَكِنَّهُ قَدْ يُهْلِكُ الْمَالَ نَائِلُهُ انْتَهَى. وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ قَدْ تَأْتِي لِلتَّكْثِيرِ فِي الْفِعْلِ وَالزِّيَادَةِ قَوْلٌ غَيْرُ مَشْهُورٍ لِلنُّحَاةِ وَإِنْ كَانَ قَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ مُسْتَدِلًّا بِقَوْلِ الشَّاعِرِ:
قَدْ أَتْرُكُ الْقِرْنَ مُصْفَرًّا أَنَامِلُهُ كَأَنَّ أَثْوَابَهُ مُجَّتْ بِفِرْصَادِ
وَبِقَوْلِهِ:
أَخِي ثِقَةٍ لَا يُتْلِفُ الْخَمْرُ مَالَهُ وَلَكِنَّهُ قَدْ يُهْلِكُ الْمَالَ نَائِلُهُ
وَالَّذِي نَقُولُهُ: إِنَّ التَّكْثِيرَ لَمْ يُفْهَمْ مِنْ قَدْ وَإِنَّمَا يُفْهَمُ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ لِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ الْفَخْرُ وَالْمَدْحُ بِقَتْلِ قَرْنٍ وَاحِدٍ وَلَا بِالْكَرَمِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَإِنَّمَا يَحْصُلَانِ بِكَثْرَةِ وُقُوعِ ذَلِكَ وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ قَدْ تَكُونُ لِلتَّكْثِيرِ فِي الْفِعْلِ وَزِيَادَتِهِ لَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ، فِي قَوْلِهِ: قَدْ نَعْلَمُ لِأَنَّ عِلْمَهُ تَعَالَى لَا يُمْكِنُ فِيهِ الزِّيَادَةُ وَالتَّكْثِيرُ، وَقَوْلُهُ: بِمَعْنَى رُبَّمَا الَّتِي تَجِيءُ لِزِيَادَةِ الْفِعْلِ وَكَثْرَتِهِ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّ رُبَّ لِلتَّقْلِيلِ لَا لِلتَّكْثِيرِ وَمَا الدَّاخِلَةُ عَلَيْهَا هِيَ مُهَيِّئَةٌ لِأَنْ يليها الفعل وما الْمُهَيِّئَةُ لَا تُزِيلُ الْكَلِمَةَ عَنْ مَدْلُولِهَا، أَلَا تَرَى أَنَّهَا فِي كَأَنَّمَا يَقُومُ زَيْدٌ وَلَعَلَّمَا يَخْرُجُ
487
بَكْرٌ لَمْ تُزِلْ كَأَنَّ عَنِ التَّشْبِيهِ وَلَا لَعَلَّ عَنِ التَّرَجِّي. قَالَ بَعْضُ أصحابنا: فذكر بِمَا فِي التَّقْلِيلِ وَالصَّرْفِ إِلَى مَعْنَى الْمُضِيِّ يَعْنِي إِذَا دَخَلَتْ عَلَى الْمُضَارِعِ قَالَ: هَذَا ظَاهِرُ قَوْلِ سِيبَوَيْهِ، فَإِنْ خَلَتْ مِنْ مَعْنَى التَّقْلِيلِ خَلَتْ غَالِبًا مِنَ الصَّرْفِ إِلَى مَعْنَى الْمُضِيِّ وَتَكُونُ حِينَئِذٍ لِلتَّحْقِيقِ وَالتَّوْكِيدِ نَحْوَ قَوْلِهِ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ وَقَوْلِهِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ «١» وَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
وَقَدْ تُدْرِكُ الْإِنْسَانَ رَحْمَةُ رَبِّهِ وَلَوْ كَانَ تَحْتَ الْأَرْضِ سَبْعِينَ وَادِيًا
وَقَدْ تَخْلُو مِنَ التَّقْلِيلِ وَهِيَ صَارِفَةٌ لِمَعْنَى المضي نحو قول: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ «٢» انْتَهَى.
وَقَالَ مَكِّيٌّ: قَدْ هُنَا وَشِبْهُهُ تَأْتِي لِتَأْكِيدِ الشيء وإيجابه وتصديقه ونَعْلَمُ بِمَعْنَى عَلِمْنَا. وَقَالَ ابْنُ أَبِي الْفَضْلِ فِي رَيِّ الظَّمْآنِ: كَلِمَةُ قَدْ تَأْتِي لِلتَّوَقُّعِ وَتَأْتِي لِلتَّقْرِيبِ مِنَ الْحَالِ وَتَأْتِي لِلتَّقْلِيلِ انْتَهَى، نَحْوَ قَوْلِهِمْ: إِنَّ الْكَذُوبَ قَدْ يُصَدَّقُ وَإِنَّ الْجَبَانَ قَدْ يَشْجُعُ وَالضَّمِيرُ فِي إِنَّهُ ضَمِيرُ الشَّأْنِ، وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهُ مُفَسِّرَةٌ لَهُ فِي مَوْضِعِ خَبَرِ إِنَّ وَلَا يَقَعُ هُنَا اسْمُ الْفَاعِلِ عَلَى تَقْدِيرِ رَفْعِهِ مَا بَعْدَهُ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ مَوْقِعَ الْمُضَارِعِ لِمَا يَلْزَمُ مِنْ وُقُوعِ خَبَرِ ضَمِيرِ الشَّأْنِ مُفْرَدًا وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ يَحْزُنْكَ رُبَاعِيًّا وَثُلَاثِيًّا فِي آخِرِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ وَتَوْجِيهُ ذَلِكَ فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا والَّذِي يَقُولُونَ مَعْنَاهُ مِمَّا يُنَافِي مَا أَنْتَ عَلَيْهِ. قَالَ الْحَسَنُ: كَانُوا يَقُولُونَ إِنَّهُ سَاحِرٌ وَشَاعِرٌ وَكَاهِنٌ وَمَجْنُونٌ. وَقِيلَ: كَانُوا يُصَرِّحُونَ بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَلَا يَقْبَلُونَ دِينَهُ. وَقِيلَ: كَانُوا يَنْسُبُونَهُ إِلَى الْكَذِبِ وَالِافْتِعَالِ. وَقِيلَ: كَانَ بَعْضُ كُفَّارِ قُرَيْشٍ يَقُولُ لَهُ: رَئْيٌ مِنَ الْجِنِّ يُخْبِرُهُ بِمَا يُخْبِرُ بِهِ.
وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَنَافِعٌ وَالْكِسَائِيُّ بِتَخْفِيفِ يُكَذِّبُونَكَ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ وَابْنُ عَبَّاسٍ بِالتَّشْدِيدِ. فَقِيلَ: هُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ نَحْوَ كَثُرَ وَأَكْثَرَ. وَقِيلَ: بَيْنَهُمَا فَرْقٌ حَكَى الْكِسَائِيُّ أَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: كَذَّبْتُ الرَّجُلَ إِذْ نَسَبْتَ إِلَيْهِ الْكَذِبَ وَأَكْذَبْتُهُ إِذَا نَسَبْتَ الْكَذِبَ إِلَى مَا جَاءَ بِهِ دُونَ أَنْ تَنْسُبَهُ إِلَيْهِ وَتَقُولُ الْعَرَبُ أَيْضًا: أَكْذَبْتُ الرَّجُلَ إِذَا وَجَدْتَهُ كَذَّابًا كَمَا تَقُولُ: أَحَمَدْتُ الرَّجُلَ إِذَا وَجَدْتَهُ مَحْمُودًا فَعَلَى الْقَوْلِ بِالْفَرْقِ يَكُونُ مَعْنَى التَّخْفِيفِ لَا يَجِدُونَكَ كَاذِبًا أَوْ لَا يَنْسُبُونَ الْكَذِبَ إِلَيْكَ، وَعَلَى مَعْنَى التَّشْدِيدِ يَكُونُ إِمَّا خَبَرًا مَحْضًا عَنْ عَدَمِ تَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُ وَيَكُونُ مِنْ نِسْبَةِ ذَلِكَ إِلَى كُلِّهِمْ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ وَالْمُرَادُ بِهِ بَعْضُهُمْ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ قَطْعًا أَنَّ بَعْضَهُمْ كَانَ يُكَذِّبُهُ، وَيُكَذِّبُ مَا جَاءَ بِهِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ نَفْيُ التَّكْذِيبِ لِانْتِفَاءِ مَا يترتب عليه من
(١) سورة الصف: ٦١/ ٥.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ١٤٤.
488
الْمَضَارِّ فَكَأَنَّهُ قِيلَ لَا يُكَذِّبُونَكَ تَكْذِيبًا يَضُرُّكَ لِأَنَّكَ لَسْتَ بِكَاذِبٍ فَتَكْذِيبُهُمْ كَلَا تَكْذِيبٍ.
وَقَالَ فِي الْمُنْتَخَبِ: لَا يُرَادُ بِقَوْلِهِ: لَا يُكَذِّبُونَكَ خُصُوصِيَّةُ تَكْذِيبِهِ هُوَ، بَلِ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ يُنْكِرُونَ دَلَالَةَ الْمُعْجِزَةِ عَلَى الصِّدْقِ مُطْلَقًا فَالْمَعْنَى لَا يُكَذِّبُونَكَ عَلَى التَّعْيِينِ بَلْ يُكَذِّبُونَ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: لَا يُكَذِّبُونَكَ بِحُجَّةٍ وَإِنَّمَا هُوَ تَكْذِيبُ عِنَادٍ وَبُهْتٍ. وَقَالَ نَاجِيَةُ بْنُ كَعْبٍ: لَا يَقُولُونَ إِنَّكَ كَاذِبٌ لِعِلْمِهِمْ بِصِدْقِكَ وَلَكِنْ يُكَذِّبُونَ مَا جِئْتَ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ السَّائِبِ وَمُقَاتِلٌ: لَا يُكَذِّبُونَكَ فِي السِّرِّ، وَلَكِنْ يُكَذِّبُونَكَ فِي الْعَلَانِيَةِ عَدَاوَةً. وَقَالَ: لَا يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يَقُولُوا لَكَ فِيمَا أَنْبَأْتَ بِهِ مِمَّا فِي كُتُبِهِمْ كَذَبْتَ ذَكَرَهُ الزَّجَّاجُ وَرَجَّحَ قِرَاءَةَ عَلِيٍّ بِالتَّخْفِيفِ بَعْضُهُمْ، وَلَا ترجيح بين المتواترتين. قال الزمخشري: والمعنى أن تَكْذِيبَكَ أَمْرٌ رَاجِعٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّكَ رَسُولُهُ الْمُصَدَّقُ بِالْمُعْجِزَاتِ فَهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ فِي الْحَقِيقَةِ وَإِنَّمَا يُكَذِّبُونَ اللَّهَ بِجَحُودِ آيَاتِهِ فَانْتَهِ عَنْ حُزْنِكَ لِنَفْسِكَ وَأَنَّهُمْ كَذَّبُوكَ وَأَنْتَ صَادِقٌ، وَلَيَشْغَلْكَ عَنْ ذَلِكَ مَا هُوَ أَهَمُّ وَهُوَ اسْتِعْظَامُكَ لِجُحُودِ آيَاتِ اللَّهِ وَالِاسْتِهَانَةِ بِكِتَابِهِ وَنَحْوُهُ قَوْلُ السَّيِّدِ لِغُلَامِهِ إِذَا أَهَانَهُ بَعْضُ النَّاسِ إِنَّهُمْ لَمْ يُهِينُوكَ وَإِنَّمَا أَهَانُونِي وَفِي هَذِهِ الطَّرِيقَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ «١»
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَمَّى الْأَمِينَ فَعَرَفُوا أَنَّهُ لَا يَكْذِبُ فِي شَيْءٍ وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا يَجْحَدُونَ، فَكَانَ أَبُو جَهْلٍ يَقُولُ: مَا نُكَذِّبُكَ وَإِنَّكَ عِنْدَنَا لَمُصَدَّقٌ وَإِنَّمَا نُكَذِّبُ مَا جِئْتَنَا بِهِ
انْتَهَى. وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: فَلَا تَحْزَنْ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ، وَأُقِيمَ الظَّاهِرُ مَقَامَ الْمُضْمَرِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ عِلَّةَ الْجَحُودِ هِيَ الظُّلْمُ وَهِيَ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ فِي الِاعْتِدَاءِ، أَيْ وَلَكِنَّهُمْ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ.
وَآيَاتُهُ قَالَ السُّدِّيُّ: مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ ابْنُ السَّائِبِ: مُحَمَّدٌ وَالْقُرْآنُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ:
الْقُرْآنُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: آيَاتُ اللَّهِ علاماته وشواهد نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وَالْجُحُودُ إِنْكَارُ الشَّيْءِ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ وَهُوَ ضِدُّ الْإِقْرَارِ، فَإِنْ كَانَتْ نَزَلَتْ فِي الْكَافِرِينَ مُطْلَقًا فَيَكُونُ فِي الْجُحُودِ تَجَوُّزٌ إِذْ كُلُّهُمْ لَيْسَ كُفْرُهُ بَعْدَ مَعْرِفَةٍ وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا أَنْكَرُوا نُبُوَّتَهُ وَرَامُوا تَكْذِيبَهُ بِالدَّعْوَى الْبَاطِلَةِ عَبَّرَ عَنْ إِنْكَارِهِمْ بِأَقْبَحِ وُجُوهِ الْإِنْكَارِ وَهُوَ الْجَحْدُ تَغْلِيظًا عَلَيْهِمْ وَتَقْبِيحًا لِفِعْلِهِمْ، إِذْ مُعْجِزَاتُهُ وَآيَاتُهُ نَيِّرَةٌ يَلْزَمُ كُلُّ مَفْطُورٍ أَنْ يقربها وَيَعْلَمَهَا وَإِنْ كَانَتْ نَزَلَتْ فِي الْمُعَانِدِينَ تَرَتَّبَ الْجُحُودُ حَقِيقَةً وَكُفْرُ الْعِنَادِ يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَوَاهِرُ الْقُرْآنِ وَهُوَ وَاقِعٌ أَيْضًا كَقِصَّةِ أَبِي جَهْلٍ مَعَ الْأَخْنَسِ بْنِ شَرِيقٍ
(١) سورة الفتح: ٤٨/ ١٠.
489
وَقِصَّةِ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ، وَقَوْلِهِ: مَا كُنْتُ لِأُومِنَ بِنَبِيٍّ لَمْ يَكُنْ مِنْ ثَقِيفٍ، وَمَنَعَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ جَوَازَ كُفْرِ الْعِنَادِ، لِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ تَقْتَضِي الْإِيمَانَ وَالْجَحْدَ يَقْتَضِي الْكُفْرَ، فَامْتَنَعَ اجْتِمَاعُهُمَا، وَتَأَوَّلُوا ظَوَاهِرَ الْقُرْآنِ فَقَالُوا: فِي قَوْلِهِ: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ «١» أَنَّهَا فِي أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ الَّتِي بَدَّلُوهَا كَآيَةِ الرَّجْمِ وَنَحْوِهَا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَكُفْرُ الْعِنَادِ مِنَ الْعَارِفِ بِاللَّهِ وَبِالنُّبُوَّةِ بِعِيدٌ انْتَهَى. وَالتَّأْوِيلَاتُ فِي نَفْيِ التَّكْذِيبِ إِنَّمَا هُوَ عَنِ اعْتِقَادَاتِهِمْ أَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَقْوَالِهِمْ فَأَقْوَالُهُمْ مُكَذِّبَةٌ إِمَّا لَهُ وَإِمَّا لِمَا جَاءَ بِهِ.
وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا قَالَ الضَّحَّاكُ وَابْنُ جُرَيْجٍ: عَزَّى اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَعَلَى قَوْلِهِمَا يكون هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كُذِّبَ وَهُوَ مُنَافٍ لِقَوْلِهِ: فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَزَوَالُ الْمُنَافَاةِ بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ التَّأْوِيلَاتِ كَقَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّ قَوْلَهُ: لَا يُكَذِّبُونَكَ لَيْسَ هُوَ مِنْ نَفْيِ تَكْذِيبِهِ حَقِيقَةً. قَالَ: وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ قَوْلِكَ لِغُلَامِكَ: مَا أَهَانُوكَ وَلَكِنْ أَهَانُونِي وَجَاءَ قَوْلُهُ: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ «٢» تَسْلِيَةٌ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمَّا سَلَّاهُ تَعَالَى بِأَنَّهُمْ بِتَكْذِيبِكَ إِنَّمَا كَذَّبُوا اللَّهَ تَعَالَى سَلَّاهُ ثَانِيًا بِأَنَّ عَادَةَ أَتْبَاعِ الرُّسُلِ قَبْلَكَ تَكْذِيبُ رُسُلِهِمْ، وَأَنَّ الرُّسُلَ صَبَرُوا فَتَأَسَّ بِهِمْ فِي الصَّبْرِ، وَمَا فِي قَوْلِهِ: مَا كُذِّبُوا مَصْدَرِيَّةٌ أَيْ فَصَبَرُوا عَلَى تَكْذِيبِهِمْ وَالْمَعْنَى فَتَأَسَّ بِهِمْ فِي الصَّبْرِ عَلَى التَّكْذِيبِ وَالْأَذَى حَتَّى يَأْتِيَكَ النَّصْرُ وَالظَّفَرُ كَمَا أَتَاهُمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَصَبَرُوا عَلى مَا كُذِّبُوا رَجَاءَ ثَوَابِي وَأُوذُوا حَتَّى نُشِرُوا بِالْمَنَاشِيرِ وَحُرِّقُوا بِالنَّارِ، حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا بِتَعْذِيبِ مَنْ يُكَذِّبُهُمُ انْتَهَى. وَيَحْتَمِلُ وَأُوذُوا أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ: كُذِّبَتْ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى قوله فَصَبَرُوا وَيَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى كُذِّبُوا وَيَكُونَ التَّقْدِيرُ فَصَبَرُوا عَلَى تَكْذِيبِهِمْ وَإِيذَائِهِمْ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ أَنَّهُ قَرَأَ وَأُذُوا بِغَيْرِ وَاوٍ بَعْدَ الْهَمْزَةِ جَعَلَهُ ثُلَاثِيًّا لَا رُبَاعِيًّا مِنْ أَذَيْتُ فُلَانًا لَا مِنْ آذَيْتُ، وَفِي قَوْلِهِ: نَصْرُنا الْتِفَاتٌ إِذْ قَبْلَهُ بِآيَاتِ اللَّهِ وَبَلَاغَةُ هَذَا الِالْتِفَاتِ أَنَّهُ أَضَافَ النَّصْرَ إِلَى الضَّمِيرِ الْمُشْعِرِ بِالْعَظَمَةِ الْمُتَنَزِّلِ فِيهِ الْوَاحِدُ مَنْزِلَةَ الْجَمْعِ وَالنَّصْرُ مَصْدَرٌ أُضِيفَ إِلَى الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ أَيْ نَصْرُنَا إِيَّاهُمْ عَلَى مُكَذِّبِيهِمْ وَمُؤْذِيهِمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْغَايَةَ هُنَا الصَّبْرُ وَالْإِيذَاءُ لِظَاهِرِ عَطْفِ وَأُوذُوا عَلَى فَصَبَرُوا وَإِنْ كَانَ مَعْطُوفًا عَلَى كُذِّبُوا فَتَكُونُ الْغَايَةُ لِلصَّبْرِ أَوْ مَعْطُوفًا عَلَى كُذِّبَتْ فَغَايَةٌ لَهُ وَلِلتَّكْذِيبِ أو للإيذاء فقط.
(١) سورة النمل: ٢٧/ ١٤. [.....]
(٢) سورة آل عمران: ٣/ ١٨٤.
490
وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ لِمَوَاعِيدِ اللَّهِ وَلَمْ يَذْكُرِ الزَّمَخْشَرِيُّ غَيْرَهُ قَالَ: لِمَوَاعِيدِهِ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ «١».
وَقَالَ الزَّجَّاجُ لِمَا أَخْبَرَ بِهِ وَمَا أَمَرَ بِهِ وَالْإِخْبَارُ وَالْأَوَامِرُ مِنْ كَلِمَاتِ اللَّهِ، وَاقْتَصَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ عَلَى بَعْضِ مَا قَالَ الزَّجَّاجُ فَقَالَ: وَلَا رَادَّ لِأَوَامِرِهِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لِحُكُومَاتِهِ وَأَقْضِيَتِهِ، كَقَوْلِهِ وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ «٢» أَيْ وَجَبَ مَا قَضَاهُ عَلَيْهِمْ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى تَبْدِيلِ كَلِمَاتِ اللَّهِ وَإِنْ زَخْرَفَ وَاجْتَهَدَ، لِأَنَّهُ تَعَالَى صَانَهُ بِرَصِينِ اللَّفْظِ وَقَوِيمِ الْمَعْنَى أَنْ يُخْلَطَ بِكَلَامِ أَهْلِ الزَّيْغِ. وَقِيلَ: اللَّفْظُ خَبَرٌ وَالْمَعْنَى عَلَى النَّهْيِ أَيْ لَا يُبَدِّلُ أَحَدٌ كَلِمَاتِ اللَّهِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ لَا رَيْبَ فِيهِ «٣» أَيْ لَا يَرْتَابُونَ فِيهِ عَلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ.
وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ هَذَا فِيهِ تَأْكِيدُ تَثْبِيتٍ لِمَا تَقَدَّمَ الْإِخْبَارُ بِهِ مِنْ تَكْذِيبِ أَتْبَاعِ الرُّسُلِ لِلرُّسُلِ وَإِيذَائِهِمْ وَصَبْرِهِمْ إِلَى أَنْ جَاءَ النَّصْرُ لَهُمْ عليهم والفاعل بجاء.
قَالَ الْفَارِسِيُّ: هُوَ مِنْ نَبَأِ وَمِنْ زَائِدَةٌ أَيْ وَلَقَدْ جَاءَكَ نَبَأُ الْمُرْسَلِينَ، وَيَضْعُفُ هَذَا لِزِيَادَةِ مَنْ فِي الْوَاجِبِ. وَقِيلَ: مَعْرِفَةٌ وَهَذَا لَا يَجُوزُ إِلَّا عَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ، وَلِأَنَّ الْمَعْنَى لَيْسَ عَلَى الْعُمُومِ بَلْ إِنَّمَا جَاءَ بَعْضُ نبأهم لا أنباؤهم، لِقَوْلِهِ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ «٤». وَقَالَ الرُّمَّانِيُّ: فَاعِلُ جَاءَكَ مُضْمَرٌ تَقْدِيرُهُ: وَلَقَدْ جَاءَكَ نَبَأٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الصَّوَابُ عِنْدِي أَنْ يُقَدَّرَ جَلَاءً أَوْ بيان، وَتَمَامُ هَذَا الْقَوْلِ وَالَّذِي قَبْلَهُ أَنَّ التَّقْدِيرَ: وَلَقَدْ جَاءَ هُوَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ أَيْ نَبَأٌ أَوْ بَيَانٌ، فَيَكُونُ الْفَاعِلُ مُضْمَرًا يُفَسَّرُ بِنَبَأٍ أَوْ بَيَانٍ لَا مَحْذُوفًا لِأَنَّ الْفَاعِلَ لَا يُحْذَفُ وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ الفاعل مضمر تَقْدِيرُهُ هُوَ، وَيَدُلُّ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى مِنَ الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ أَيْ وَلَقَدْ جَاءَكَ هَذَا الْخَبَرُ مِنْ تَكْذِيبِ أَتْبَاعِ الرُّسُلِ لِلرُّسُلِ وَالصَّبْرِ وَالْإِيذَاءِ إِلَى أَنْ نُصِرُوا، وَأَنَّ هَذَا الْإِخْبَارَ هُوَ بَعْضُ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ الَّذِينَ يُتَأَسَّى بِهِمْ ومِنْ نَبَإِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَذُو الْحَالِ ذَلِكَ الْمُضْمَرُ وَالْعَامِلُ فِيهَا وَفِيهِ جاءَكَ فَلَا يَكُونُ الْمَعْنَى عَلَى هَذَا وَلَقَدْ جَاءَكَ نَبَأٌ أَوْ بَيَانٌ إِلَّا أَنْ يُرَادَ بِالنَّبَأِ وَالْبَيَانِ هَذَا النَّبَأُ السَّابِقُ أَوِ الْبَيَانُ السَّابِقُ، وَأَمَّا الزَّمَخْشَرِيُّ فَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِفَاعِلِ جَاءَ بَلْ قال: لَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ بَعْضُ أَنْبَائِهِمْ وَقَصَصِهِمْ، وَهُوَ تَفْسِيرُ مَعْنًى لَا تفسير إِعْرَابٍ لِأَنَّ مِنْ لَا تَكُونُ فَاعِلَةً.
وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ
(١) سورة الصافات: ٣٧/ ١٧١، ١٧٢.
(٢) سورة الزمر: ٣٩/ ٧١.
(٣) سورة البقرة: ٢/ ٢.
(٤) سورة غافر: ٤٠/ ٧٨.
491
كَبُرَ أَيْ عَظُمَ وَشَقَّ إِعْرَاضُهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ وَالتَّصْدِيقِ بِمَا جِئْتَ بِهِ، وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَبُرَ عَلَيْهِ إِعْرَاضُهُمْ لَكِنْ جَاءَ الشَّرْطُ مُعْتَبَرًا فِيهِ التَّبْيِينُ وَالظُّهُورُ، وَهُوَ مُسْتَقْبَلٌ، وَعُطِفَ عَلَيْهِ الشَّرْطُ الَّذِي لَمْ يَقَعْ، وَهُوَ قَوْلُهُ: فَإِنِ اسْتَطَعْتَ وَلَيْسَ مَقْصُودًا وَحْدَهُ بِالْجَوَابِ فَمَجْمُوعُ الشَّرْطَيْنِ بِتَأْوِيلِ الْأَوَّلِ لَمْ يَقَعْ بَلِ الْمَجْمُوعُ مُسْتَقْبَلٌ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ أَحَدِهِمَا بانفراده واقع وَنَظِيرُهُ إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ «١» وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ «٢» وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ أَحَدُهُمَا، لَكِنَّ الْمَعْنَى أَنْ يَتَبَيَّنَ وَيَظْهَرَ كَوْنُهُ قُدَّ مِنْ كَذَا وَكَذَا يَتَأَوَّلُ مَا يَجِيءُ مِنْ دُخُولِ إِنْ الشَّرْطِيَّةِ عَلَى صِيغَةِ كَانَ عَلَى مَذْهَبِ جُمْهُورِ النُّحَاةِ خِلَافًا لِأَبِي الْعَبَّاسِ الْمُبَرِّدِ فَإِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ إِنْ إِذَا دَخَلَتْ عَلَى كَانَ بَقِيَتْ عَلَى مُضِيِّهَا بِلَا تَأْوِيلٍ وَالنَّفَقُ السِّرْبُ فِي دَاخِلِ الْأَرْضِ الَّذِي يُتَوَارَى فِيهِ. وَقَرَأَ نبيج الْغَنَوِيُّ أَنْ تَبْتَغِيَ نَافِقًا فِي الْأَرْضِ وَالنَّافِقَاءُ مَمْدُودٌ وَهُوَ أَحَدُ مَخَارِجِ جُحْرِ الْيَرْبُوعِ وَذَلِكَ أَنَّ الْيَرْبُوعَ يَخْرُجُ مِنْ بَاطِنِ الْأَرْضِ إِلَى وَجْهِهَا وَيُرِقُّ مَا واجه الأرض ويجعل للحجر بَابَيْنِ أَحَدُهُمَا النَّافِقَاءُ وَالْآخَرُ الْقَاصِعَاءُ، فَإِذَا رَابَهُ أَمْرٌ مِنْ أَحَدِهِمَا دَفَعَ ذَلِكَ الْوَجْهَ الَّذِي أَرَّقَهُ مِنْ أَحَدِهِمَا وَخَرَجَ مِنْهُ. وَقِيلَ: لِجُحْرِهِ ثَلَاثَةُ أَبْوَابٍ، قَالَ السُّدِّيُّ: السُّلَّمُ الْمِصْعَدُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الدَّرَجُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: السَّبَبُ وَالْمِرْقَاةُ، تَقُولُ الْعَرَبُ: اتَّخِذْنِي سُلَّمًا لِحَاجَتِكَ أَيْ سَبَبًا. وَمِنْهُ قَوْلُ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ:
وَلَا لَكُمَا مَنْجًى مِنَ الْأَرْضِ فَابْغِيَا بِهِ نَفَقًا أَوْ في السموات سُلَّمَا
وَقَالَ الزَّجَّاجُ: السُّلَّمُ مِنَ السَّلَامَةِ وَهُوَ الشَّيْءُ الَّذِي يُسَلِّمُكَ إِلَى مِصْعَدِكَ، وَالسُّلَّمُ الَّذِي يُصْعَدُ عَلَيْهِ وَيُرْتَقَى وَهُوَ مُذَكَّرٌ. وَحَكَى الْفَرَّاءُ فِيهِ التَّأْنِيثَ، قَالَ بَعْضُهُمْ: تَأْنِيثُهُ عَلَى مَعْنَى الْمِرْقَاةِ لَا بِالْوَضْعِ كَمَا أُنِّثَ، الصَّوْتُ بِمَعْنَى الصَّيْحَةِ وَالِاسْتِغَاثَةِ فِي قَوْلِهِ: سَائِلْ بَنِي أَسَدٍ مَا هَذِهِ الصَّوْتُ. وَمَعْنَى الْآيَةِ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ يَعْنِي أَنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ، وَالْمُرَادُ بَيَانُ حِرْصِهِ عَلَى إِسْلَامِ قَوْمِهِ وَتَهَالُكِهِ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ لَوِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ مِنْ تَحْتِ الْأَرْضِ أَوْ مِنْ فَوْقِ السَّمَاءِ لَأَتَى بِهَا رَجَاءَ إِيمَانِهِمْ. وَقِيلَ: كَانُوا يَقْتَرِحُونَ الْآيَاتِ فَكَانَ يَوَدُّ أَنْ يُجَابُوا إِلَيْهَا لِتَمَادِي حِرْصِهِ عَلَى إِيمَانِهِمْ، فَقِيلَ لَهُ: إِنِ اسْتَطَعْتَ كَذَا فَافْعَلْ دَلَالَةً عَلَى أَنَّهُ بَلَغَ مِنْ حِرْصِهِ أَنَّهُ لَوِ اسْتَطَاعَ ذَلِكَ لَفَعَلَهُ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ بِمَا اقْتَرَحُوا لَعَلَّهُمْ يُؤْمِنُونَ انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ أَنَّ الْآيَةَ هِيَ غَيْرُ ابْتِغَاءِ النَّفَقِ فِي الْأَرْضِ أَوِ السُّلَّمِ فِي السَّمَاءِ، وَأَنَّ الْمَعْنَى: أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ فَتَدْخُلَ فِيهِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَصْعَدَ عَلَيْهِ إِلَيْهَا فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ غَيْرَ الدُّخُولِ فِي السِّرْبِ وَالصُّعُودِ إِلَى السَّمَاءِ مِمَّا يُرْجَى إيمانهم بسببها أو
(١) سورة يوسف: ١٢/ ٢٦.
(٢) سورة يوسف: ١٢/ ٢٧.
492
مِمَّا اقْتَرَحُوهُ رَجَاءَ إِيمَانِهِمْ، وَتِلْكَ الْآيَةُ مِنْ إِحْدَى الْجِهَتَيْنِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَوْلُهُ تَعَالَى:
وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ إِلْزَامُ الْحُجَّةِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَقْسِيمُ الْأَحْوَالِ عَلَيْهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ أَنْ لَا وَجْهَ إِلَّا الصَّبْرُ وَالْمُضِيُّ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْمَعْنَى إِنْ كُنْتَ تُعَظِّمُ تَكْذِيبَهُمْ وَكُفْرَهُمْ عَلَى نَفْسِكَ وَتَلْتَزِمُ الْحُزْنَ عَلَيْهِ فَإِنْ كُنْتَ تَقْدِرُ عَلَى دُخُولِ سِرْبٍ فِي أَعْمَاقِ الْأَرْضِ أَوْ عَلَى ارْتِقَاءِ سُلَّمٍ فِي السَّمَاءِ، فَدُونَكَ وَشَأْنَكَ بِهِ أَيْ إِنَّكَ لَا تَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ هَذَا، وَلَا بُدَّ مِنَ الْتِزَامِ الصَّبْرِ وَاحْتِمَالِ الْمَشَقَّةِ وَمُعَارَضَتِهِمْ بِالْآيَاتِ الَّتِي نَصَبَهَا اللَّهُ لِلنَّاظِرِينَ الْمُتَأَمِّلِينَ إِذْ هُوَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَمْ يُرِدْ أَنْ يَجْمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَنْصِبَ مِنَ الْآيَاتِ مَا يَهْتَدِي بِالنَّظَرِ فِيهِ قَوْمٌ بِحَقِّ مِلْكِهِ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ أَيْ فِي أَنْ تَأْسَفَ وَتَحْزَنَ عَلَى أَمْرٍ أَرَادَهُ اللَّهُ وَأَمْضَاهُ وَعَلِمَ الْمَصْلَحَةَ فِيهِ انْتَهَى.
وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ الَّتِي يَأْتِي بِهَا هِيَ نَفْسُ الْفِعْلِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يكون ابتغاء النفق في الأرض أَوِ السُّلَّمِ فِي السَّمَاءِ هُوَ الْإِتْيَانُ بِالْآيَةِ كَأَنَّهُ قِيلَ: لَوِ اسْتَطَعْتَ النُّفُوذَ إِلَى مَا تَحْتَ الْأَرْضِ أَوِ التَّرَقِّيَ فِي السَّمَاءِ لَعَلَّ ذَلِكَ يَكُونُ آيَةً لَكَ يُؤْمِنُونَ بِهَا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ بِعَلَامَةٍ وَيُرِيدُ: إِمَّا فِي فِعْلِكَ ذَلِكَ أَيْ تَكُونُ الْآيَةُ نَفْسَ دُخُولِكَ فِي الْأَرْضِ وَارْتِقَائِكَ فِي السَّمَاءِ وَإِمَّا فِي أَنْ تَأْتِيَهُمْ بِالْآيَةِ مِنْ إِحْدَى الْجِهَتَيْنِ انتهى. وما جوزاه مِنْ ذَلِكَ لَا يَظْهَرُ مِنْ دَلَالَةِ اللَّفْظِ إِذْ لَوْ كَانَ ذَلِكَ كَمَا جَوَّزَاهُ لَكَانَ التَّرْكِيبُ فَتَأْتِيَهُمْ بِذَلِكَ آيَةً وَأَيْضًا فَأَيُّ آيَةٍ فِي دُخُولِ سِرْبٍ فِي الْأَرْضِ، وَأَمَّا الرُّقِيُّ فِي السَّمَاءِ فَيَكُونُ آيَةً. وَقِيلَ قَوْلُهُ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِمْ وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً «١» وَقَوْلُهُ: أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِمْ: أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ «٢» وَكَانَ فِيهَا ضَمِيرُ الشَّأْنِ، وَالْجُمْلَةُ المصدرة بكبر عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فِي مَوْضِعِ خَبَرِ كَانَ وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ خَبَرَ كَانَ وَأَخَوَاتِهَا يَكُونُ مَاضِيًا وَلَا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى تَقْدِيرِ قَدْ، لِكَثْرَةِ مَا وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ قَدْ ظَاهِرَةً أَوْ مُقَدَّرَةً وَخِلَافًا لمن حصر ذلك بكان دُونَ أَخَوَاتِهَا، وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ اسْمُهَا إِعْرَاضُهُمْ فَلَا يكون مرفوعا بكبر كَمَا فِي الْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَكَبُرَ فِيهِ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى الْإِعْرَاضِ وَهُوَ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ خِلَافٍ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ وَتَقْدِيرُهُ فَافْعَلْ كَمَا تَقُولُ: إِنْ شِئْتَ تَقُومُ بِنَا إِلَى فُلَانٍ نَزُورُهُ، أَيْ فَافْعَلْ وَلِذَلِكَ جَاءَ فِعْلُ الشَّرْطِ بِصِيغَةِ الْمَاضِي أَوِ الْمُضَارِعِ المنفيّ بلم لِأَنَّهُ مَاضٍ، وَلَا يَكُونُ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ إِلَّا فِي الشعر.
(١) سورة الإسراء: ١٧/ ٩٠.
(٢) سورة الإسراء: ١٧/ ٩٣.
493
وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى أَيْ إِمَّا يَخْلُقُ ذَلِكَ فِي قُلُوبِهِمْ أَوَّلًا فَلَا يَضِلُّ أَحَدٌ وَإِمَّا يَخْلُقُهُ فِيهِمْ بَعْدَ ضَلَالِهِمْ، وَدَلَّ هَذَا التَّعْلِيقُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى مَا شَاءَ مِنْهُمْ جَمِيعَهُمُ الْهُدَى، بَلْ أَرَادَ إِبْقَاءَ الْكَافِرِ عَلَى كُفْرِهِ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: وَيُقَرِّرُ هَذَا الظَّاهِرُ أَنَّ قُدْرَةَ الْكَافِرِ عَلَى الْكُفْرِ إِنْ لَمْ تَكُنْ صَالِحَةً لِلْإِيمَانِ، فَالْقُدْرَةُ عَلَى الْكُفْرِ مُسْتَلْزِمَةٌ لَهُ غَيْرُ صَالِحَةٍ لِلْإِيمَانِ فَخَالِقُ تِلْكَ الْقُدْرَةِ يَكُونُ قَدْ أَرَادَ الْكُفْرَ لَا مَحَالَةَ، وَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً له كما صالحة لِلْكُفْرِ اسْتَوَتْ نِسْبَةُ الْقُدْرَةِ إِلَيْهِمَا فَامْتَنَعَ التَّرْجِيحُ إِلَّا الدَّاعِيَةُ مُرَجِّحَةٌ، وَلَيْسَتْ مِنَ الْعَبْدِ وَإِلَّا وَقَعَ التَّسَلْسُلُ، فَثَبَتَ أَنَّ خَالِقَ تِلْكَ الدَّاعِيَةِ هُوَ اللَّهُ وَثَبَتَ أَنَّ مَجْمُوعَ الدَّاعِيَةِ الصَّالِحَةِ تُوجِبُ الْفِعْلَ وَثَبَتَ أَنَّ خَالِقَ مَجْمُوعِ تِلْكَ الدَّاعِيَةِ الْمُسْتَلْزِمَةِ لِذَلِكَ الْكُفْرِ مُرِيدٌ لِذَلِكَ الْكُفْرِ غَيْرَ مُرِيدٍ لِذَلِكَ الْإِيمَانِ، فَهَذَا الْبُرْهَانُ الْيَقِينِيُّ قَوَّى ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ، وَلَا بَيَانَ أَقْوَى مِنْ تَطَابُقِ الْبُرْهَانِ مَعَ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذِهِ الْآيَةُ تَرُدُّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ الْمُفَوِّضَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّ الْقُدْرَةَ لَا تَقْتَضِي أَنْ يُؤْمِنَ الْكَافِرُ وَأَنَّ مَا يَأْتِيهِ الْإِنْسَانُ مِنْ جَمِيعِ أَفْعَالِهِ لَا خَلْقَ فِيهِ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ قَوْلِهِمْ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى بِآيَةٍ مُلْجِئَةٍ، وَلَكِنَّهُ لَا يَفْعَلُ لِخُرُوجِهِ عَنِ الْحِكْمَةِ انْتَهَى، وَهَذَا قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ.
وَقَالَ الْقَاضِي: وَالْإِلْجَاءُ أَنْ يُعْلِمَهُمْ أَنَّهُمْ لَوْ حَاوَلُوا غَيْرَ الْإِيمَانِ لَمَنَعَهُمْ مِنْهُ، وَحِينَئِذٍ يَمْتَنِعُونَ مِنْ فِعْلِ شَيْءٍ غَيْرِ الْإِيمَانِ، وَهُوَ تَعَالَى إِنَّمَا تَرَكَ فِعْلَ هَذَا الْإِلْجَاءِ لِأَنَّ ذَلِكَ يُزِيلُ تَكْلِيفَهُمْ، فَيَكُونُ مَا وَقَعَ مِنْهُمْ كَأَنْ لَمْ يَقَعْ، وَإِنَّمَا أَرَادَ تَعَالَى أَنْ يَنْتَفِعُوا بِمَا يَخْتَارُونَهُ مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ جِهَةِ الْوَصْلَةِ بِهِ إِلَى الثَّوَابِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا اخْتِيَارًا، وَأَجَابَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ بِأَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ مِنْهُمُ الْإِقْدَامَ عَلَى الْإِيمَانِ حَالَ كَوْنِ الدَّاعِي إِلَى الْإِيمَانِ وَإِلَى الْكُفْرِ بِالسَّوِيَّةِ، أَوْ حَالَ حُصُولِ هَذَا الرُّجْحَانِ، وَالْأَوَّلُ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِتَحْصِيلِ الرُّجْحَانِ حَالَ حُصُولِ الِاسْتِوَاءِ تَكْلِيفٌ بِالْجَمْعِ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَالطَّرَفُ الرَّاجِحُ يَكُونُ وَاجِبَ الْوُقُوعِ، وَالطَّرَفُ الْمَرْجُوحُ يَكُونُ مُمْتَنِعَ الْوُقُوعِ، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْسَامِ تُنَافِي مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْمِكْنَةِ وَالِاخْتِيَارَاتِ، فَسَقَطَ قَوْلُهُمْ بِالْكُلِّيَّةِ.
494
فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ تَقَدَّمَ قَوْلُ ابْنِ عَطِيَّةَ فِي أَنْ تَأْسَفَ وَتَحْزَنَ عَلَى أَمْرٍ أَرَادَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَمْضَاهُ، وَعَلِمَ الْمَصْلَحَةَ فيه.
وقال أيضا: ومِنَ الْجاهِلِينَ يُحْتَمَلُ فِي أَنْ لَا تَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى وَيُحْتَمَلُ فِي أَنْ تَهْتَمَّ بِوُجُودِ كُفْرِهِمُ الَّذِي قَدَّرَهُ اللَّهُ وَأَرَادَهُ، وَتَذْهَبَ بِكَ نَفْسُكَ إِلَى مَا لَمْ يُقَدِّرِ اللَّهُ، انْتَهَى. وَضُعِّفَ الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ كَمَالِ ذَاتِهِ وَتَوَفُّرِ مَعْلُومَاتِهِ وَعَظِيمِ اطِّلَاعِهِ عَلَى مَا يَلِيقُ بِقُدْرَةِ الْحَقِّ جَلَّ جَلَالُهُ، وَاسْتِيلَائِهِ عَلَى جَمِيعِ مَقْدُورَاتِهِ، لَا يَنْبَغِي أَنْ يُوصَفَ بِأَنَّهُ جَاهِلٌ بِأَنَّهُ تَعَالَى لَوْ شَاءَ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى، لِأَنَّ هَذَا مِنْ قَبِيلِ الدِّينِ وَالْعَقَائِدِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَاهِلًا بِهَا، وَكَأَنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ قَدْ فَسَّرَ قَوْلَهُ: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى بِأَنْ تَأْتِيَهُمْ آيَةٌ ملجئة، ولكنه لا يفعل لِخُرُوجِهِ عَنِ الْحِكْمَةِ فَقَالَ فِي قَوْلِهِ: فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ مِنَ الَّذِينَ يَجْهَلُونَ ذَلِكَ وَيَرُومُونَ مَا هُوَ خِلَافُهُ.
وَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى الْإِتْيَانِ بِالْآيَةِ الْمُلْجِئَةِ إِلَى الْإِيمَانِ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الْإِلْجَاءِ.
وَقِيلَ: لَا تَجْهَلْ أَنَّهُ يُؤْمِنُ بِكَ بَعْضُهُمْ وَيَكْفُرُ بَعْضُهُمْ، وَضُعِّفَ بِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِمَّا يَجْهَلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقِيلَ لَا تَكُونَنَّ مِمَّنْ لَا صَبْرَ لَهُ لِأَنَّ قِلَّةَ الصَّبْرِ مِنْ أَخْلَاقِ الْجَاهِلِينَ، وَضُعِّفَ بِأَنَّهُ تَعَالَى قَدْ أَمَرَهُ بِالصَّبْرِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ وَمَعَ أَمْرِ اللَّهِ لَهُ بِالصَّبْرِ وَبَيَانِ أَنَّهُ خَيْرٌ يَبْعُدُ أَنْ يُوصَفَ بَعْدَ صَبْرِهِ بِقِلَّةِ الصَّبْرِ.
وَقِيلَ: لَا يَشْتَدُّ حُزْنُكَ لِأَجْلِ كُفْرِهِمْ فَتُقَارِبَ حَالَ الْجَاهِلِ بِأَحْكَامِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ، وَقَدْ صُرِّحَ بِهَذَا فِي قَوْلِهِ: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ «١» وَقَالَ قَوْمٌ: جَازَ هَذَا الْخِطَابُ لِأَنَّهُ لِقُرْبِهِ مِنَ اللَّهِ وَمَكَانَتِهِ عِنْدَهُ كَانَ ذَلِكَ حَمْلًا عَلَيْهِ كَمَا يَحْمِلُ الْعَاقِلُ عَلَى قَرِيبِهِ فَوْقَ مَا يَحْمِلُهُ عَلَى الْأَجَانِبِ، خَشْيَةً عَلَيْهِ مِنْ تَخْصِيصِ الْإِذْلَالِ.
وَقَالَ مَكِّيٌّ وَالْمَهْدَوِيُّ: الْخِطَابُ لَهُ وَالْمُرَادُ بِهِ أُمَّتُهُ، وَتَمَّمَ هَذَا الْقَوْلَ بِأَنَّهُ كَانَ يُحْزِنُهُ إِصْرَارُ بَعْضِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ وَحِرْمَانُهُمْ ثَمَرَاتِ الْإِيمَانِ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا ضَعِيفٌ لَا يَقْتَضِيهِ اللَّفْظُ انْتَهَى.
وَقِيلَ: الرَّسُولُ مَعْصُومٌ مِنَ الْجَهْلِ وَالشَّكِّ بِلَا خِلَافٍ، وَلَكِنَّ الْعِصْمَةَ لَا تَمْنَعُ
(١) سورة فاطر: ٣٥/ ٨٠.
495
الِامْتِحَانَ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، أَوْ لِأَنَّ ضِيقَ صَدْرِهِ وَكَثْرَةَ حُزْنِهِ مِنَ الْجِبِلَّاتِ الْبَشَرِيَّةِ، وَهِيَ لَا تَرْفَعُهَا الْعِصْمَةُ بِدَلِيلِ:
«اللَّهُمَّ إِنِّي بَشَرٌ وَإِنِّي أَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ الْبَشَرُ»
الْحَدِيثَ.
وَقَوْلِهِ: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ فَإِذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُونِي»
انْتَهَى.
وَالَّذِي أَخْتَارُهُ أَنَّ هَذَا الْخِطَابَ لَيْسَ لِلرَّسُولِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَهَذَا إِخْبَارٌ وَعَقْدٌ كُلِّيٌّ أَنَّهُ لَا يَقَعُ فِي الْوُجُودِ إِلَّا مَا شَاءَ وُقُوعَهُ، وَلَا يَخْتَصُّ هَذَا الْإِخْبَارُ بِهَذَا الْخِطَابِ بِالرَّسُولِ بَلِ الرَّسُولُ عَالِمٌ بِمَضْمُونِ هَذَا الْإِخْبَارِ، فَإِنَّمَا ذَلِكَ لِلسَّامِعِ فَالْخِطَابُ وَالنَّهْيُ فِي فَلا تَكُونَنَّ لِلسَّامِعِ دُونَ الرَّسُولِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ أَيُّهَا السَّامِعُ الَّذِي لَا يَعْلَمُ أَنَّ مَا وَقَعَ فِي الْوُجُودِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ جَمْعَهُمْ عَلَى الْهُدَى لَجَمَعَهُمْ عَلَيْهِ، فَلَا تَكُونُنَّ أَيُّهَا السَّامِعُ مِنَ الْجَاهِلِينَ بِأَنَّ مَا شَاءَ اللَّهُ إِيقَاعَهُ وَقَعَ، وَأَنَّ الْكَائِنَاتِ معذوقة بإرادته.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٣٦ الى ٥٢]
إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٣٦) وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٣٧) وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ مَا فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٩) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٠)
بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (٤١) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (٤٢) فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (٤٣) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (٤٤) فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٥)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (٤٦) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (٤٧) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٤٨) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٤٩) قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (٥٠)
وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٥١) وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (٥٢)
496
التَّضَرُّعُ: تَفَعُّلٌ مِنَ الضَّرَاعَةِ وَهِيَ الذِّلَّةُ، يُقَالُ: ضَرَعَ يَضْرَعُ ضَرَاعَةً، قَالَ الشَّاعِرُ:
لِيَبْكِ يَزِيدَ ضَارِعٌ لِخُصُومَةٍ وَمُخْتَبِطٌ مِمَّا تُطِيحُ الطَّوَائِحُ
أَيْ ذَلِيلٌ ضَعِيفٌ. صَدَفَ عَنِ الشَّيْءِ أَعْرَضَ عَنْهُ صَدْفًا وَصُدُوفًا، وَصَادَفْتُهُ لَقِيتُهُ عَنْ إِعْرَاضٍ عَنْ جِهَتِهِ قَالَ ابْنُ الرِّقَاعِ:
إِذَا ذَكَرْنَ حَدِيثًا قُلْنَ أَحْسَنَهُ وَهُنَّ عَنْ كُلِّ سُوءٍ يُتَّقَى صُدُفُ
صُدُفٌ جَمْعُ صَدُوفٍ، كَصَبُورٍ وَصُبُرٍ. وَقِيلَ: صَدَفٌ مَالٌ مَأْخُوذٌ مِنَ الصَّدَفِ فِي الْبَعِيرِ، وَهُوَ أَنْ يَمِيلَ خُفُّهُ مِنَ الْيَدِ إِلَى الرِّجْلِ مِنَ الْجَانِبِ الْوَحْشِيِّ، وَالصَّدَفَةُ وَاحِدَةُ الصَّدَفِ وَهِيَ الْمَحَارَةُ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا الدُّرُّ. قَالَ الشَّاعِرُ:
وَزَادَهَا عَجَبًا أَنْ رُحْتُ فِي سَمَكٍ وَمَا دُرْتُ دَوَرَانَ الدُّرِّ فِي الصَّدَفِ
الْخَزَانَةُ مَا يُحْفَظُ فِيهِ الشَّيْءُ مَخَافَةَ أَنْ يُنَالَ، وَمِنْهُ
«فَإِنَّمَا يَخْزُنُ لهم ضروع مواشيهم أطعمتهم أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تُؤْتَى مَشْرَبَتُهُ فَتُكْسِرَ خَزَانَتُهُ»
وَهِيَ بِفَتْحِ الْخَاءِ. وَقَالَ الشَّاعِرِ:
497
إِذَا الْمَرْءُ لَمْ يُخْزِنْ عَلَيْهِ لِسَانَهُ فَلَيْسَ عَلَى شَيْءٍ سِوَاهُ بِخَزَّانِ
الطَّرْدُ الْإِبْعَادُ بِإِهَانَةٍ وَالطَّرِيدُ الْمَطْرُودُ، وَبَنُو مَطْرُودٍ وَبَنُو طِرَادٍ فَخْذَانِ مِنْ إِيَادٍ.
إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ لِلْإِيمَانِ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ سَمَاعَ قَبُولٍ وَإِصْغَاءٍ كَمَا قَالَ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ «١» وَيَسْتَجِيبُ بِمَعْنَى يُجِيبُ. وَفَرَّقَ الرُّمَّانِيُّ بَيْنَ أجاب واستجاب بِأَنِ اسْتَجَابَ فِيهِ قَبُولٌ لِمَا دُعِيَ إِلَيْهِ. قَالَ: فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ «٢» فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ «٣» وَلَيْسَ كَذَلِكَ أَجَابَ لِأَنَّهُ قَدْ يُجِيبُ بِالْمُخَالَفَةِ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ يَعْنِي أَنَّ الَّذِينَ تَحْرِصُ عَلَى أَنْ يُصَدِّقُوكَ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتَى الَّذِينَ لَا يَسْمَعُونَ، وَإِنَّمَا يَسْتَجِيبُ مَنْ يَسْمَعُ كَقَوْلِهِ إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتى «٤».
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ هَذَا مِنَ النَّمَطِ الْمُتَقَدِّمِ فِي التَّسْلِيَةِ، أَيْ لَا تَحْفُلُ بِمَنْ أَعْرَضَ فَإِنَّمَا يَسْتَجِيبُ لِدَاعِي الْإِيمَانِ الَّذِينَ يَفْهَمُونَ الْآيَاتِ وَيَتَلَقَّوْنَ الْبَرَاهِينَ بِالْقَبُولِ فَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ بِيَسْمَعُونَ. إِذْ هُوَ طَرِيقُ الْعِلْمِ بِالنُّبُوَّةِ وَالْآيَاتِ الْمُعْجِزَةِ. وَهَذِهِ لَفْظَةٌ تَسْتَعْمِلُهَا الصُّوفِيَّةُ إِذَا بَلَغَتِ الْمَوْعِظَةُ مِنْ أَحَدٍ مَبْلَغًا شَافِيًا قَالُوا اسْتَمَعَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ الظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ جُمْلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ مِنْ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَوْتَ هُنَا وَالْبَعْثَ حَقِيقَةٌ وَذَلِكَ إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّ الْمَوْتَى عَلَى الْعُمُومِ مِنْ مُسْتَجِيبٍ وَغَيْرِ مُسْتَجِيبٍ، يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ فَيُجَازِيهِمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ وَجَاءَ لَفْظُ الْمَوْتَى عَامًّا لِإِشْعَارِ مَا قَبْلَهُ بِالْعُمُومِ فِي قَوْلِهِ إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ إِذِ الْحَصْرُ يُشْعِرُ بِالْقِسْمِ الْآخَرِ وَهُوَ أَنَّ مَنْ لَا يَسْمَعُ سَمَاعَ قَبُولٍ، لَا يَسْتَجِيبُ لِلْإِيمَانِ وَهُمُ الْكُفَّارُ. وَصَارَ فِي الْإِخْبَارِ عَنِ الْجَمِيعِ بِالْبَعْثِ وَالرُّجُوعِ إِلَى جَزَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ شَدِيدٌ لِمَنْ لَمْ يَسْتَجِبْ وَتَظَافَرَتْ أَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ قَوْلَهُ وَالْمَوْتَى يُرَادُ بِهِ الْكُفَّارُ. سُمُّوا بِالْمَوْتَى كَمَا سُمُّوا بِالصُّمِّ وَالْبُكْمِ وَالْعُمْيِ وَتَشْبِيهُ الْكَافِرِ بِالْمَيِّتِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْمَيِّتَ جَسَدُهُ خَالٍ عَنِ الرُّوحِ، فَيَظْهَرُ مِنْهُ النَّتَنُ وَالصَّدِيدُ وَالْقَيْحُ وَأَنْوَاعُ الْعُفُونَاتِ. وَأَصْلَحُ أَحْوَالِهِ دَفْنُهُ تَحْتَ التُّرَابِ. وَالْكَافِرُ رُوحُهُ خَالِيَةٌ عَنِ الْعَقْلِ فَيَظْهَرُ مِنْهُ جَهْلُهُ بِاللَّهِ تَعَالَى وَمُخَالَفَاتُهُ لِأَمْرِهِ وَعَدَمُ قَبُولِهِ لِمُعْجِزَاتِ الرُّسُلِ، وَإِذَا كَانَتْ رُوحُهُ خَالِيَةً مِنَ الْعَقْلِ كَانَ مَجْنُونًا فَأَحْسَنُ أَحْوَالِهِ أَنْ يُقَيَّدَ وَيُحْبَسَ. فَالْعَقْلُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الرُّوحِ كَالرُّوحِ بِالنِّسْبَةِ إلى الجسد.
(١) سورة ق: ٥٠/ ٣٧.
(٢) سورة آل عمران: ٣/ ١٩٥.
(٣) سورة الأنبياء: ٢١/ ٨٨.
(٤) سورة الروم: ٣٠/ ٥٢. [.....]
498
وَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِالْمَوْتَى هُنَا الْكُفَّارَ فَقِيلَ الْبَعْثُ يُرَادُ بِهِ حَقِيقَتُهُ مِنَ الْحَشْرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالرُّجُوعُ هُوَ رُجُوعُهُمْ إِلَى سَطْوَتِهِ وَعِقَابِهِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ.
وَعَلَى هَذَا تَكُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُتَضَمِّنَةً الْوَعِيدَ لِلْكُفَّارِ. وَقِيلَ الْمَوْتُ وَالْبَعْثُ حَقِيقَةٌ وَالْجُمْلَةُ مَثَلٌ لِقُدْرَتِهِ عَلَى إِلْجَائِهِمْ إِلَى الِاسْتِجَابَةِ بِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَبْعَثُ الْمَوْتَى مِنَ الْقُبُورِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ لِلْجَزَاءِ، فَكَانَ قَادِرًا عَلَى هَؤُلَاءِ الْمَوْتَى بِالْكُفْرِ أَنْ يُحْيِيَهُمْ بِالْإِيمَانِ وَأَنْتَ لَا تَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقِيلَ الْمَوْتُ وَالْبَعْثُ مَجَازَانِ اسْتُعِيرَ الْمَوْتُ لِلْكُفْرِ وَالْبَعْثُ لِلْإِيمَانِ.
فَقِيلَ الْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ أَيْ وَالْمَوْتَى بِالْكُفْرِ يُحْيِيهِمُ اللَّهُ بِالْإِيمَانِ.
وَقِيلَ لَيْسَ جُمْلَةً بَلِ الْمَوْتى مَعْطُوفٌ عَلَى الَّذِينَ يَسْمَعُونَ، ويَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ. وَالْمَعْنَى إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ سَمَاعَ قَبُولٍ، فَيُؤْمِنُونَ بِأَوَّلِ وَهْلَةٍ وَالْكُفَّارُ حَتَّى يُرْشِدَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى وَيُوَفِّقَهُمْ لِلْإِيمَانِ، فَلَا تَتَأَسَّفْ أَنْتَ وَلَا تَسْتَعْجِلْ مَا لَمْ يُقَدَّرْ.
وَقُرِئَ ثُمَّ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ مِنْ رَجَعَ اللَّازِمِ.
وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ نَزَلَتْ فِي رُؤَسَاءِ قُرَيْشٍ سَأَلُوا الرَّسُولَ آيَةً تَعَنُّتًا مِنْهُمْ، وَإِلَّا فَقَدْ جَاءَهُمْ بِآيَاتٍ كَثِيرَةٍ فِيهَا مُقْنِعٌ
انْتَهَى.
وَالضَّمِيرُ فِي وَقالُوا عَائِدٌ عَلَى الْكُفَّارِ، ولولا تَحْضِيضٌ بِمَعْنَى هَلَّا.
قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً أَيْ مَهْمَا سَأَلْتُمُوهُ مِنْ إِنْزَالِ آيَةٍ اللَّهُ قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ.
كَمَا أَنْزَلَ الْآيَاتِ السَّابِقَةَ فَلَا فَرْقَ فِي تَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ بِالْآيَاتِ الْمُقْتَرَحَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّعَنُّتِ وَالْآيَاتِ الَّتِي لَمْ تُقْتَرَحْ وَقَدِ اقْتَرَحْتُمْ آيَاتٍ كَانْشِقَاقِ الْقَمَرِ فَلَمْ تُجْدِ عَلَيْكُمْ وَلَا أَثَّرَتْ فِيكُمْ، وَقُلْتُمْ هَذَا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ وَلَمْ تَعْتَدُّوا بِمَا أُنْزِلَ مَعَ كَثْرَتِهِ حَتَّى كَأَنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ شَيْءٌ مِنَ الْآيَاتِ، لِأَنَّ دَأْبَكُمُ الْعِنَادُ فِي آيَاتِ اللَّهِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ عَلَى أَنَّ ينزل آية يضطرهم إِلَى الْإِيمَانِ كَنَتْقِ الْجَبَلِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَوْ آيَةً إِنْ يَجْحَدُوهَا جَاءَهُمُ الْعَذَابُ.
وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ تِلْكَ الآية وإن صارفا من الْحِكْمَةِ صَرْفُهُ عَنْ إِنْزَالِهَا.
499
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهَا لَوْ أُنْزِلَتْ وَلَمْ يُؤْمِنُوا لَعُوجِلُوا بِالْعَذَابِ، وَيُحْتَمَلُ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا جَعَلَ الْمَصْلَحَةَ فِي آيَاتٍ مُعَرَّضَةٍ لِلنَّظَرِ وَالتَّأَمُّلِ لِيَهْتَدِيَ قَوْمٌ وَيَضِلَّ آخَرُونَ انْتَهَى. وَالَّذِي يَظْهَرُ لَا يَعْلَمُونَ نَفَى عَنْهُمُ الْعِلْمَ حَيْثُ فَرَّقُوا بَيْنَ تَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ بِالْآيَاتِ الَّتِي نَزَلَتْ وَبَيْنَ تَعَلُّقِهَا بِالْآيَاتِ الْمُقْتَرَحَةِ وَتُعَلِّقُ الْقُدْرَةِ بِهِمَا سَوَاءٌ لِاجْتِمَاعِ الْمُقْتَرَحِ وَغَيْرِ الْمُقْتَرَحِ فِي الْإِمْكَانِ، فَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَاتِ وَلَمْ يَقْنَعْ بِمَا وَرَدَ مِنْهَا فَهُوَ لَا شَكَّ جَاهِلٌ.
وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ وَمَوْضِعُ الِاحْتِجَاجِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ اللَّهَ رَكَّبَ فِي الْمُشْرِكِينَ عُقُولًا وَجَعَلَ لَهُمْ أَفْهَامًا أَلْزَمَهُمْ بِهَا أَنْ يَتَدَبَّرُوا أَمْرَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا جَعَلَ لِلدَّوَابِّ وَالطَّيْرِ أَفْهَامًا يَعْرِفُ بِهَا بَعْضُهَا إِشَارَةَ بَعْضٍ، وَهَدَى الذَّكَرَ مِنْهَا لِإِتْيَانِ الْأُنْثَى، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى نَفَاذِ قُدْرَةِ الْمُرَكِّبِ ذَلِكَ فِيهَا.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْمَعْنَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ التَّنْبِيهُ عَلَى آيَاتِ اللَّهِ الْمَوْجُودَةِ فِي أَنْوَاعِ مَخْلُوقَاتِهِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا الْغَرَضُ فِي ذِكْرِ ذَلِكَ؟ قُلْتُ: الدَّلَالَةُ عَلَى عِظَمِ قُدْرَتِهِ وَلُطْفِ عِلْمِهِ وَسَعَةِ سُلْطَانِهِ وَتَدْبِيرِهِ تِلْكَ الْخَلَائِقَ الْمُتَفَاوِتَةَ الْأَجْنَاسِ الْمُتَكَاثِرَةَ الْأَصْنَافِ، وَهُوَ لِمَا لَهَا وَمَا عَلَيْهَا مُهَيْمِنٌ عَلَى أَحْوَالِهَا لَا يَشْغَلُهُ شَأْنٌ عَنْ شَأْنٍ، وَأَنَّ الْمُكَلَّفِينَ لَيْسُوا مَخْصُوصِينَ بِذَلِكَ دُونَ مَنْ عَدَاهُمْ مِنْ سَائِرِ الْحَيَوَانِ انْتَهَى.
وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْ هَؤُلَاءِ قَوْلَهُمْ لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ وَلَمْ يَعْتَبِرُوا مَا نَزَلَ مِنَ الْآيَاتِ وَأُجِيبُوا بِأَنَّ الْقُدْرَةَ صَالِحَةٌ لِإِنْزَالِ آيَةٍ وَهِيَ الَّتِي اقْتَرَحْتُمُوهَا وَنُبِّهُوا عَلَى جَهْلِهِمْ حَيْثُ فَرَّقُوا بَيْنَ آيَةٍ وَآيَةٍ أُخْبِرُوا أَنَّهُمْ أَنْفُسَهُمْ وَجَمِيعَ الْحَيَوَانِ غَيْرَهُمْ مُتَمَاثِلُونَ فِي تَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ بِالْجَمِيعِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ خَلْقِ مَنْ كُلِّفَ وَمَا لَمْ يُكَلَّفْ فِي تَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ بِهِمَا وَإِبْرَازِهِمَا مِنْ صَرْفِ الْعَدَمِ إِلَى صَرْفِ الْوُجُودِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ الْقُدْرَةُ تَعَلَّقَتْ بِالْآيَاتِ كُلِّهَا مُقْتَرَحِهَا وَغَيْرِ مُقْتَرَحِهَا كَمَا تَعَلَّقَتْ بِخَلْقِكُمْ وَخَلْقِ سَائِرِ الْحَيَوَانِ، فَالْإِمْكَانُ هُوَ الْجَامِعُ بَيْنَ كُلِّ ذَلِكَ وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ يَعْنِي فِي تَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ بِإِيجَادِهَا كَتَعَلُّقِهَا بِإِيجَادِكُمْ. وَكَذَلِكَ الْآيَاتُ. وَفِي ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْآيَاتِ الْوَارِدَةَ عَلَى أَيْدِي الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ قَدْ تَكُونُ بِاخْتِرَاعِ أَعْيَانٍ، كَالْمَاءِ الَّذِي نَبَعَ مِنْ بَيْنِ الْأَصَابِعِ وَالطَّعَامِ الَّذِي تَكَثَّرَ مِنْ قَلِيلٍ، كَمَا أَنَّ الْمَخْلُوقَاتِ هِيَ أَعْيَانٌ مُخْتَرَعَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَكَأَنَّ النِّسْبَةَ بِمُمَاثَلَةِ الْحَيَوَانِ
500
لِلْإِنْسَانِ دُونَ ذِكْرِ الْجَمَادِ وَدُونَ ذِكْرِ مَا يَعُمُّهَا من حيث قسوة الْمُمَاثَلَةِ فِي الشُّعُورِ بِالْأَشْيَاءِ وَالِاهْتِدَاءِ إِلَى كَثِيرٍ مِنَ الْمَصَالِحِ بِخِلَافِ الْجَمَادِ، وَإِنْ كَانَتِ الْقُدْرَةُ مُتَعَلِّقَةً بِجَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ وَدَابَّةٌ تَقَدَّمَ شَرْحُهَا، وَهِيَ هُنَا فِي سِيَاقِ النفي مصحوبة بمن الَّتِي تُفِيدُ اسْتِغْرَاقَ الْجِنْسِ، فَهِيَ عَامَّةٌ تَشْمَلُ كُلَّ مَا يَدُبُّ فَيَنْدَرِجُ فِيهَا الطَّائِرُ، فَذِكْرُ الطَّائِرِ بَعْدَ ذِكْرِ الدَّابَّةِ تَخْصِيصٌ بَعْدَ تَعْمِيمٍ وَذِكْرُ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ وَصَارَ مِنْ بَابِ التَّجْرِيدُ كَقَوْلِهِ: وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ «١» بَعْدَ ذِكْرِ الْمَلَائِكَةِ. وَإِنَّمَا جُرِّدَ الطَّائِرُ لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ فِي الْوُجُودِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْحَيَوَانِ أَبْلَغُ فِي الْقُدْرَةِ وَأَدَلُّ عَلَى عِظَمِهَا مِنْ تَصَرُّفِ غَيْرِهِ مِنَ الْحَيَوَانِ فِي الْأَرْضِ، إِذِ الْأَرْضُ جِسْمٌ كَثِيفٌ يُمْكِنُ تَصَرُّفُ الْأَجْرَامِ عَلَيْهَا، وَالْهَوَاءُ جِسْمٌ لَطِيفٌ لَا يُمْكِنُ عَادَةً تَصَرُّفُ الْأَجْرَامِ الْكَثِيفَةِ فِيهَا إِلَّا بِبَاهِرِ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ «٢» وَجَاءَ قَوْلُهُ فِي الْأَرْضِ إِشَارَةً إِلَى تَعْمِيمِ جَمِيعِ الْأَمَاكِنِ لَمَّا كَانَ لَفْظُ مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ الْمُتَصَرِّفُ أَتَى بِالْمُتَصَرَّفِ فِيهِ عَامًّا وهو الْأَرْضِ، ويشمل الْأَرْضُ الْبَرَّ وَالْبَحْرَ، وَيَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ وَلا طائِرٍ لِأَنَّهُ لَا طَائِرَ إِلَّا يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ، وَلِيَرْفَعَ الْمَجَازِ الَّذِي كَانَ يَحْتَمِلُهُ قَوْلُهُ وَلا طائِرٍ لَوِ اقْتُصِرَ عَلَيْهِ، أَلَا تَرَى إِلَى اسْتِعَارَةِ الطَّائِرِ لِلْعَمَلِ فِي قَوْلِهِ: وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ «٣» وَقَوْلِهِمْ:
«طَارَ لِفُلَانٍ كَذَا فِي الْقِسْمَةِ» أَيْ سَهْمُهُ، و «طائر السَّعْدِ وَالنَّحْسِ» وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى تَصَوُّرِ هَيْئَتِهِ عَلَى حَالَةِ الطَّيَرَانِ وَاسْتِحْضَارٌ لِمُشَاهَدَةِ هَذَا الْفِعْلِ الْغَرِيبِ. وَجَاءَ الْوَصْفُ بِلَفْظِ «يَطِيرُ» لِأَنَّهُ مُشْعِرٌ بِالدَّيْمُومَةِ وَالْغَلَبَةِ، لِأَنَّ أَكْثَرَ أَحْوَالِ الطَّائِرِ كَوْنُهُ يَطِيرُ، وَقَلَّ مَا يَسْكُنُ، حَتَّى أَنَّ الْمَحْبُوسَ مِنْهَا يَكْثُرُ وُلُوعُهُ بِالطَّيَرَانِ فِي الْمَكَانِ الَّذِي حُبِسَ فِيهِ مِنْ قَفَصٍ وَغَيْرِهِ.
وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَلا طائِرٍ بِالرَّفْعِ، عَطْفًا عَلَى مَوْضِعِ دَابَّةٍ. وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ فِي الْأَرْضِ فِي مَوْضِعِ رَفْعِ صِفَةٍ عَلَى مَوْضِعِ دَابَّةٍ، وَكَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ يَطِيرُ وَيَتَعَيَّنُ ذَلِكَ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ أَبِي عَبْلَةَ، وَالْبَاءُ فِي بِجَناحَيْهِ لِلِاسْتِعَانَةِ كَقَوْلِهِ: «كَتَبْتُ بالقلم» وإِلَّا أُمَمٌ هُوَ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ الَّذِي هُوَ مِنْ دَابَّةٍ وَلا طائِرٍ وَجُمِعَ الْخَبَرُ وَإِنْ كَانَ الْمُبْتَدَأُ مُفْرَدًا حَمْلًا عَلَى الْمَعْنَى لِأَنَّ الْمُفْرَدَ هُنَا لِلِاسْتِغْرَاقِ وَالْمِثْلِيَّةُ هُنَا.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَمْثَالُكُمْ مَكْتُوبَةٌ أَرْزَاقُهَا وَآجَالُهَا وَأَعْمَالُهَا كَمَا كُتِبَتْ أَرْزَاقُكُمْ وَآجَالُكُمْ وأعمالكم انتهى.
(١) سورة البقرة: ٢/ ٩٨.
(٢) سورة النحل: ١٦/ ٧٩.
(٣) سورة الإسراء: ١٧/ ١٣.
501
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ مُمَاثِلَةٌ لِلنَّاسِ فِي الْخَلْقِ وَالرِّزْقِ وَالْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ وَالْحَشْرِ.
وَقَالَ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَاخْتِيَارُ الزَّجَّاجِ الْمُمَاثَلَةَ فِي أَنَّهَا تُجَازَى بِأَعْمَالِهَا وَتُحَاسَبُ وَيَقْتَصُّ لِبَعْضِهَا مِنْ بَعْضٍ، عَلَى مَا رُوِيَ فِي الْأَحَادِيثِ.
وَقَالَ مَكِّيٌّ فِي أَنَّهَا تَعْرِفُ اللَّهَ تَعَالَى وَتَعْبُدُهُ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ، قَالَ مَعْنَاهُ إِلَّا أَجْنَاسٌ يَعْرِفُونَ اللَّهَ وَيَعْبُدُونَهُ. وَنَقَلَهُ الْوَاحِدِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمُمَاثَلَةَ حَصَلَتْ مِنْ حَيْثُ أَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ اللَّهَ وَيُوَحِّدُونَهُ وَيَحْمَدُونَهُ وَيُسَبِّحُونَهُ. وَإِلَيْهِ ذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مُحْتَجِّينَ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ «١» وَبِقَوْلِهِ فِي صِفَةِ الْحَيَوَانِ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ «٢» وَبِمَا بِهِ خَاطَبَ النَّمْلَ وَخَاطَبَ الْهُدْهُدَ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي قَوْلِ مَكِّيٍّ وَهَذَا قَوْلُ خَلَفٍ انْتَهَى.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْمُمَاثَلَةُ فِي كَوْنِهَا أُمَمًا لَا غَيْرَ. كَمَا تُرِيدُ بِقَوْلِكَ:
مَرَرْتُ بِرَجُلٍ مِثْلِكَ أَيْ أي أَنَّهُ رَجُلٌ. وَيَصِحُّ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَوْصَافِ إِلَّا أَنَّ الْفَائِدَةَ فِي هَذِهِ أَنْ تَكُونَ الْمُمَاثَلَةُ فِي أَوْصَافٍ غَيْرِ كَوْنِهَا أمما.
وقال مُجَاهِدٌ إِلَّا أَصْنَافٌ مُصَنَّفَةٌ.
وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْمُمَاثَلَةُ وَقَعَتْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ بَنِي آدَمَ مِنْ قِبَلِ أَنَّ بَعْضَهُمْ يَفْقَهُ عَنْ بَعْضٍ.
وَقَالَ ابْنُ عِيسَى أَمْثَالُكُمْ فِي الْحَاجَةِ إِلَى مُدَبِّرٍ يُدَبِّرُهُمْ فِيمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنْ قُوتٍ يَقُوتُهُمْ وَإِلَى لِبَاسٍ يسترهم، وإلى كنّ يُوَارِيهِمْ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّهُ قَالَ: أُبْهِمَتْ عُقُولُ الْبُهْمِ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا عَنْ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: الْإِلَهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَطَلَبِ الرِّزْقِ، وَمَعْرِفَةِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَتَهَيُّؤِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ.
وَقِيلَ الْمُمَاثَلَةُ فِي كَوْنِهَا جَمَاعَاتٍ مَخْلُوقَةً يُشْبِهُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَيَأْنَسُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ وَتَتَوَالَدُ كَالْإِنْسِ.
وَرَوَى أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ أَنَّهُ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ وَقَالَ مَا فِي الْأَرْضِ آدَمِيٌّ إِلَّا وَفِيهِ شَبَهٌ مِنْ بَعْضِ الْبَهَائِمِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُقْدِمُ إِقْدَامَ الْأَسَدِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْدُو عَدْوَ
(١) سورة الإسراء: ١٧/ ٤٤.
(٢) سورة النور: ٢٤/ ٤١.
502
الذِّئْبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْبَحُ نُبَاحَ الْكِلَابِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَطَوَّسُ كَفِعْلِ الطَّاوُوسِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَشْرَهَ شَرَهَ الْخِنْزِيرِ.
وَفِي رِوَايَةٍ مِنْهُمْ مَنْ يُشْبِهُ الْخِنْزِيرَ إِذَا أُلْقِيَ إِلَيْهِ الطَّعَامُ الطَّيِّبُ تَرَكَهُ وَإِذَا قَامَ الرَّجُلُ مِنْ رَجِيعِهِ وَلَغَ فِيهِ. وَكَذَلِكَ تَجِدُ مِنَ الْآدَمِيِّينَ مَنْ لَوْ سَمِعَ خَمْسِينَ حِكْمَةً لَمْ يَحْفَظْ مِنْهَا وَاحِدَةً. فَإِنْ أَخْطَأَتْ وَاحِدَةٌ حَفِظَهَا ولم يجلس مجلسا إلا رَوَاهَا عَنْكَ مَا فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ أَيْ مَا تَرَكْنَا وَمَا أَغْفَلْنَا وَالْكِتَابُ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ. وَالْمَعْنَى وَمَا أَغْفَلْنَا فِيهِ مِنْ شَيْءٍ لَمْ نَكْتُبْهُ وَلَمْ نُثْبِتْ مَا وَجَبَ أَنْ يُثْبَتَ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَلَمْ يَذْكُرْ غَيْرَهُ، أَوِ الْقُرْآنُ وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ سِيَاقُ الْآيَةِ وَالْمَعْنَى وَبَدَأَ بِهِ عَنِ ابْنِ عَطِيَّةَ وَذَكَرَ اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ: مِنْ شَيْءٍ عَلَى عُمُومِهِ، وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يَكُونُ مِنَ الْعَامِّ الَّذِي يُرَادُ بِهِ الْخَاصُّ فَالْمَعْنَى مِنْ شَيْءٍ عَلَى عُمُومِهِ، وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يَكُونُ مِنَ الْعَامِّ الَّذِي يُرَادُ بِهِ الْخَاصُّ فَالْمَعْنَى مِنْ شَيْءٍ يَدْعُو إِلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَتَكَالِيفِهِ، وَكَثِيرًا مَا يَسْتَدِلُّ بَعْضُ الظَّاهِرِيَّةِ بِقَوْلِهِ:
مَا فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْكِتَابَ تَضَمَّنَ الْأَحْكَامَ التَّكْلِيفِيَّةَ كُلَّهَا، وَالتَّفْرِيطُ التَّقْصِيرُ فَحَقُّهُ أَنْ يتعدى بفي كَقَوْلِهِ عَلى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ «١» وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَيَكُونُ قَدْ ضَمِنَ مَا أَغْفَلْنَا وَمَا تَرَكْنَا وَيَكُونُ مِنْ شَيْءٍ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ بِهِ ومِنْ زَائِدَةٌ، وَالْمَعْنَى: مَا تَرَكْنَا وَمَا أَغْفَلْنَا فِي الْكِتَابِ شَيْئًا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ دَلَائِلِ الْإِلَهِيَّةِ وَالتَّكَالِيفِ، وَيَبْعُدُ جَعْلُ مِنْ هُنَا تَبْعِيضِيَّةً وَأَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ بَعْضَ شَيْءٍ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمُكَلَّفُ، وَإِنْ قَالَهُ بَعْضُهُمْ. وَجَعَلَ أَبُو الْبَقَاءِ هُنَا مِنْ شَيْءٍ وَاقِعًا مَوْقِعَ الْمَصْدَرِ، أَيْ تَفْرِيطًا. قَالَ: وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ لَا يَبْقَى فِي الْآيَةِ حُجَّةٌ لِمَنْ ظَنَّ أَنَّ الْكِتَابَ يَحْتَوِي عَلَى ذِكْرِ كُلِّ شَيْءٍ تَصْرِيحًا وَنَظِيرُ ذَلِكَ لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا أَيْ ضَرَرًا انْتَهَى. وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّهُ لَا يَبْقَى عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ حُجَّةٌ لِمَنْ ذَكَرَ لَيْسَ كَمَا ذَكَرَ لِأَنَّهُ إِذَا تَسَلَّطَ النَّفْيُ عَلَى الْمَصْدَرِ كَانَ الْمَصْدَرُ مَنْفِيًّا عَلَى جِهَةِ الْعُمُومِ، وَيَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ هَذَا الْعُمُومِ نَفْيُ أَنْوَاعِ الْمَصْدَرِ وَنَوْعِ مُشَخَّصَاتِهِ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ لَا قِيَامَ فَهَذَا نَفْيٌ عَامٌّ فَيَنْتَفِي مِنْهُ جميع أنواع القيام ومشخصاته كَقِيَامِ زَيْدٍ وَقِيَامِ عَمْرٍو وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَإِذَا نُفِيَ التَّفْرِيطُ عَلَى طَرِيقَةِ الْعُمُومِ كَانَ ذَلِكَ نَفْيًا لِجَمِيعِ أَنْوَاعِ التَّفْرِيطِ وَمُشَخَّصَاتِهِ وَمُتَعَلِّقَاتِهِ، فَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْكِتَابَ يَحْتَوِي عَلَى ذِكْرِ كُلِّ شَيْءٍ. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ وَعَلْقَمَةُ مَا فَرَّطْنا بتخفيف الرَّاءِ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ. وَقَالَ النَّقَّاشُ: مَعْنَى فَرَّطْنا مُخَفَّفَةً، أَخَّرْنَا كَمَا قَالُوا: فَرَطَ اللَّهُ عَنْكَ الْمَرَضَ أَيْ أزاله.
(١) سورة الزمر: ٣٩/ ٥٦.
503
ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ الظَّاهِرُ فِي الضَّمِيرِ أَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَهُوَ الْأُمَمُ كُلُّهَا مِنَ الطَّيْرِ وَالدَّوَابِّ. وَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ عَائِدٌ عَلَى الْكُفَّارِ لَا عَلَى أُمَمٍ وَمَا تَخَلَّلَ بَيْنَهُمَا كَلَامٌ مُعْتَرِضٌ وَإِقَامَةٌ وَحُجَجٌ وَيُرَجِّحُ هَذَا الْقَوْلَ كَوْنُهُ جَاءَ بِهِمْ وَبِالْوَاوِ الَّتِي هِيَ لِلْعُقَلَاءِ، وَلَوْ كَانَ عَائِدًا عَلَى أُمَمِ الطَّيْرِ وَالدَّوَابِّ لَكَانَ التَّرْكِيبُ ثُمَّ إِلَيَّ رَبِّهَا تُحْشَرُ وَيُجَابُ عَنْ هَذَا بِأَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ مُمْتَثِلَةً ما أَرَادَ اللَّهُ مِنْهَا، أُجْرِيَتْ مَجْرَى الْعُقَلَاءِ وَأَصْلُ الْحَشْرِ الْجَمْعُ وَمِنْهُ فَحَشَرَ فَنَادَى وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الْبَعْثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، فَتُحْشَرُ الْبَهَائِمُ وَالدَّوَابُّ وَالطَّيْرُ وَفِي ذَلِكَ حَدِيثٌ يَرْوِيهِ يَزِيدُ بْنُ الْأَصَمِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: يَحْشُرُ اللَّهُ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْبَهَائِمَ وَالدَّوَابَّ وَالطَّيْرَ وَكُلَّ شَيْءٍ، فَيَبْلُغُ مِنْ عَدْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَئِذٍ أَنْ يأخذ لِلْجَمَّاءِ مِنَ الْقَرْنَاءِ ثُمَّ يَقُولَ: كُونِي تُرَابًا فذلك قوله تعالى: يَقُولُ الْكافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً
«١». وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ فِي آخَرِينَ: حَشْرُ الدَّوَابِّ مَوْتُهَا لِأَنَّ الدَّوَابَّ لَا تَكْلِيفَ عَلَيْهَا وَلَا تَرْجُو ثَوَابًا وَلَا تَخَافُ عِقَابًا وَلَا تَفْهَمُ خِطَابًا انْتَهَى. وَمَنْ ذَهَبَ هَذَا الْمَذْهَبَ تَأَوَّلَ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى مَعْنَى التَّمْثِيلِ فِي الْحِسَابِ وَالْقَصَّاصِ حَتَّى يَفْهَمَ كُلُّ مُكَلَّفٍ أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ وَلَا مَحِيصَ وَأَنَّهُ الْعَدْلُ الْمَحْضُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْقَوْلُ فِي الْأَحَادِيثِ الْمُتَضَمِّنَةِ أَنَّ اللَّهَ يَقْتَصُّ لِلْجَمَّاءِ مِنَ الْقَرْنَاءِ، أَنَّهَا كِنَايَةٌ عَنِ الْعَدْلِ وَلَيْسَتْ بِحَقِيقَةِ قَوْلِ مَرْذُولٍ يَنْحُو إِلَى الْقَوْلِ بِالرُّمُوزِ وَنَحْوِهَا انتهى.
وقال ابن فورك: الْقَوْلُ بِحَشْرِهَا مَعَ بَنِي آدَمَ أَظْهَرُ انْتَهَى. وَعَلَى الْقَوْلِ بِحَشْرِ الْبَهَائِمِ مَعَ النَّاسِ اخْتَلَفُوا فِي الْمَعْنَى الَّذِي تُحْشَرُ لِأَجْلِهِ، فَذَهَبَ أَهْلُ السُّنَّةِ أَنَّهَا لِإِظْهَارِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْإِعَادَةِ وَفِي ذَلِكَ تَخْجِيلٌ لِمَنْ أَنْكَرَ ذلك فقال: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ «٢» وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: يَحْشُرُ اللَّهُ الْبَهَائِمَ وَالطَّيْرَ لِإِيصَالِ الْأَعْوَاضِ إِلَيْهَا وكذلك قال الزمخشري، فيعوضها وَيُنْصِفُ بَعْضَهَا مِنْ بَعْضٍ كَمَا
رُوِيَ أَنَّهُ يَأْخُذُ لِلْجَمَّاءِ مِنَ الْقُرَنَاءِ
انْتَهَى. وَطَوَّلَ الْمُعْتَزِلَةُ فِي إِيصَالِ التَّعْوِيضِ عَنْ آلَامِ الْبَهَائِمِ وَضَرَرِهَا وَأَنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى.
وَفَرَّعُوا فُرُوعًا وَاخْتَلَفُوا فِي الْعِوَضِ أَهْوَ مُنْقَطِعٌ أَمْ دَائِمٌ؟ فَذَهَبَ الْقَاضِي وَأَكْثَرُ مُعْتَزِلَةِ الْبَصْرَةِ إِلَى أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ فَبَعْدَ تَوْفِيَةِ الْعِوَضِ يَجْعَلُهَا تُرَابًا، وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَلْخِيُّ: يَجِبُ كَوْنُ الْعِوَضِ دَائِمًا. وَقِيلَ: تَدْخُلُ الْبَهَائِمُ الْجَنَّةَ وَتُعَوَّضُ عَنْ مَا نَالَهَا مِنَ الْآلَامِ وَكُلُّ مَا قَالَتْهُ الْمُعْتَزِلَةُ مَبْنَاهُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَجِبُ عَلَيْهِ إِيصَالُ الْأَعْوَاضِ إِلَى الْبَهَائِمِ عَنِ الْآلَامِ الَّتِي حَصَلَتْ لَهَا فِي الدُّنْيَا، وَمَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ الْإِيجَابَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ.
(١) سورة النبإ: ٧٨/ ٤٠.
(٢) سورة يس: ٣٦/ ٧٨.
504
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ قَالَ النَّقَّاشُ: نَزَلَتْ فِي بَنِي عَبْدِ الدَّارِ ثُمَّ انْسَحَبَتْ عَلَى سِوَاهُمُ انْتَهَى. وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ لَمَّا تَقَدَّمَ قَوْلُهُ: إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ أَخْبَرَ أَنَّ الْمُكَذِّبِينَ بِالْآيَاتِ صُمٌّ لَا يَسْمَعُونَ مَنْ يُنَبِّهُهُمْ، فَلَا يَسْتَجِيبُ أَحَدٌ مِنْهُمْ وَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ: وَما مِنْ دَابَّةٍ الْآيَةَ مُنَبِّهًا عَلَى عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَطِيفِ صُنْعِهِ وَبَدِيعِ خَلْقِهِ، ذَكَرَ أَنَّ الْمُكَذِّبَ بِآيَاتِهِ هُوَ أَصَمُّ عَنْ سَمَاعِ الْحَقِّ أَبْكَمُ عَنِ النُّطْقِ بِهِ، وَالْآيَاتُ هُنَا الْقُرْآنُ أَوْ مَا ظَهَرَ عَلَى يَدَيْ الرسول مِنَ الْمُعْجِزَاتِ أَوِ الدَّلَائِلِ وَالْحُجَجِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ وَالْإِخْبَارُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ اسْتِعَارَةٌ عَنْ عَدَمِ الِانْتِفَاعِ الذِّهْنِيِّ بِهَذِهِ الْحَوَاسِّ لَا أَنَّهُمْ صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ حَقِيقَةً وَجَاءَ قَوْلُهُ: فِي الظُّلُماتِ كِنَايَةً عَنْ عَمَى الْبَصِيرَةِ، فَهُوَ يَنْظُرُ كَقَوْلِهِ: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ «١» لَكِنَّ قَوْلَهُ: فِي الظُّلُماتِ أَبْلَغُ مِنْ قَوْلِهِ: عُمْيٌ إِذْ جُعِلَتْ ظَرْفًا لَهُمْ وَجُمِعَتْ لِاخْتِلَافِ جِهَاتِ الْكُفْرِ، كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ «٢» عَلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ وَفِي قَوْلِهِ: يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ «٣». وَقَالَ الْجِبَائِيُّ: الْإِخْبَارُ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ حَقِيقَةٌ وَذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَجْعَلُهُمْ صُمًّا وَبُكْمًا فِي الظُّلُمَاتِ يُضِلُّهُمْ بِذَلِكَ عَنِ الْجَنَّةِ وَيُصَيِّرُهُمْ إِلَى النَّارِ، وَيُعَضِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ «٤» الْآيَةَ. وَقَالَ الْكَعْبِيُّ: صُمٌّ وَبُكْمٌ مَحْمُولٌ عَلَى الشَّتْمِ وَالْإِهَانَةِ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا كَذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ انْتَهَى.
والظُّلُماتِ ظُلُمَاتُ الْكُفْرِ أَوْ حُجُبٌ تُضْرَبُ عَلَى الْقَلْبِ فَيُظْلِمُ وَتَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نُورِ الْإِيمَانِ، أَوْ ظُلُمَاتُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمِنْهُ قِيلَ: ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا أَوِ الشَّدَائِدُ لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تُعَبِّرُ عَنِ الشِّدَّةِ بِالظُّلْمَةِ يَقُولُونَ يَوْمٌ مظلمة إِذَا لَقُوا فِيهِ شِدَّةً وَمِنْهُ قَوْلُهُ:
بَنِي أَسَدٍ هَلْ تَعْلَمُونَ بَلَاءَنَا إِذَا كَانَ يَوْمٌ ذُو كَوَاكِبَ مُظْلِمُ
أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: رَابِعُهَا قَالَهُ اللَّيْثُ. مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ مَفْعُولُ يَشَأِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ إِضْلَالَهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ هِدَايَتَهُ يَجْعَلْهُ وَلَا يَجُوزُ فِي مَنْ فِيهِمَا أَنْ يَكُونَ مفعولا بيشأ لِلتَّعَانُدِ الْحَاصِلِ بَيْنَ الْمَشِيئَتَيْنِ، (فَإِنْ قُلْتَ) : يَكُونُ مَفْعُولًا بيشأ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ تَقْدِيرُهُ إِضْلَالُ مَنْ يَشَاءُ اللَّهُ وهداية من
(١) سورة البقرة: ٢/ ١٨، ١٧١.
(٢) سورة الأنعام: ٦/ ١.
(٣) سورة البقرة: ٢/ ٢٥٧.
(٤) سورة الإسراء: ١٧/ ٩٧.
505
يَشَاءُ اللَّهُ، فَحُذِفَ وَأُقِيمَ مَنْ مَقَامَهُ وَدَلَّ فِعْلُ الْجَوَابِ عَلَى هَذَا الْمَفْعُولِ. فَالْجَوَابُ: أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ أَبَا الْحَسَنِ الْأَخْفَشَ حَكَى عَنِ الْعَرَبِ أَنَّ اسْمَ الشَّرْطِ غَيْرَ الظَّرْفِ وَالْمُضَافَ إِلَى اسْمَ الشَّرْطِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي الْجَوَابِ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى اسْمِ الشَّرْطِ أَوِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَالضَّمِيرُ فِي يُضْلِلْهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَائِدًا عَلَى إِضْلَالٍ الْمَحْذُوفِ أَوْ عَلَى مَنْ لَا جَائِزٌ أَنْ يَعُودَ عَلَى إِضْلَالٍ فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ «١» إِذِ الْهَاءُ تَعُودُ عَلَى ذِي الْمَحْذُوفَةِ مِنْ قَوْلِهِ: أَوْ كَظُلُمَاتٍ إِذِ التَّقْدِيرُ أَوْ كَذِي ظُلُمَاتٍ لِأَنَّهُ يَصِيرُ التَّقْدِيرُ إِضْلَالَ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ أَيْ يُضْلِلُ الْإِضْلَالَ وَهَذَا لَا يَصِحُّ وَلَا جَائِزٌ أَنْ يَعُودَ عَلَى مَنِ الشَّرْطِيَّةِ لِأَنَّهُ إِذْ ذَاكَ تَخْلُو الْجُمْلَةُ الْجَزَائِيَّةُ مِنْ ضَمِيرٍ يَعُودُ عَلَى الْمُضَافِ إِلَى اسْمِ الشَّرْطِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ.
(فَإِنْ قُلْتَ) : يَكُونُ التَّقْدِيرُ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ بِالْإِضْلَالِ فَيَكُونُ عَلَى هَذَا مَفْعُولًا مُقَدَّمًا لِأَنَّ شَاءَ بِمَعْنَى أَرَادَ وَيُقَالُ أَرَادَهُ اللَّهُ بِكَذَا. قَالَ الشَّاعِرُ:
أرادت عرار بالهوان ومن يرد عرار العمرى بِالْهَوَانِ فَقَدْ ظَلَمْ
فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ لَا يُحْفَظُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ تَعْدِيَةُ شَاءَ بِالْبَاءِ لَا يُحْفَظُ شَاءَ اللَّهُ بِكَذَا وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الشَّيْءِ فِي مَعْنَى الشَّيْءِ أَنْ يُعَدَّى تَعْدِيَتَهُ، بَلْ قَدْ يَخْتَلِفُ تَعْدِيَةُ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ بِاخْتِلَافِ مُتَعَلِّقِهِ أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ: دَخَلْتُ الدَّارَ وَدَخَلْتُ فِي غِمَارِ النَّاسِ، وَلَا يَجُوزُ دَخَلْتُ غِمَارَ النَّاسِ فَإِذَا كَانَ هَذَا وَارِدًا فِي الْفِعْلِ الْوَاحِدِ فَلَأَنْ يَكُونَ فِي الْفِعْلَيْنِ أَحْرَى، وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَإِعْرَابُ مَنْ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا وَهُوَ الْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً جُمْلَةُ الشَّرْطِ خَبَرُهُ وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ مُتَأَخِّرٍ عَنْهُ يُفَسِّرُهُ فِعْلُ الشَّرْطِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَتَكُونَ الْمَسْأَلَةُ مِنْ بَابِ الِاشْتِغَالِ التَّقْدِيرُ مَنْ يُشْقِ اللَّهُ يَشَأْ إِضْلَالَهُ وَمَنْ يُسْعِدْ يَشَأْ هِدَايَتَهُ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الْهَادِي وَهُوَ الْمُضِلُّ، وَأَنَّ ذَلِكَ مَعْذُوقٌ بِمَشِيئَتِهِ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَقَدْ تَأَوَّلَتِ الْمُعْتَزِلَةُ هَذِهِ الْآيَةَ كَمَا تَأَوَّلُوا غَيْرَهَا فَقَالُوا: مَعْنَى يُضْلِلْهُ يَخْذُلُهُ وَيَخْبِلُهُ وَضَلَالُهُ لَمْ يَلْطُفْ بِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ اللُّطْفِ، وَمَعْنَى يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ يَلْطُفُ بِهِ لِأَنَّ اللُّطْفَ يَجْرِي عَلَيْهِ وَهَذَا عَلَى قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ. وَقَالَ غَيْرُهُ: يُضْلِلْهُ عن طريق الجنة ويَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ هُوَ الصِّرَاطُ الَّذِي يَسْلُكُهُ الْمُؤْمِنُونَ إِلَى الْجَنَّةِ، قَالُوا: وَقَدْ
(١) سورة النور: ٢٤/ ٤٠.
506
ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَشَاءُ هَذَا الضَّلَالَ إِلَّا لِمَنْ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ كَمَا لَا يَشَاءُ الْهُدَى إِلَّا لِلْمُؤْمِنِينَ.
قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ هَذَا ابْتِدَاءُ احْتِجَاجٍ على الكفار الذين يَجْعَلُونَ لِلَّهِ شُرَكَاءَ. قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: أَرَأَيْتَكُمْ كَلِمَةُ اسْتِفْهَامٍ وَتَعَجُّبٍ وَلَيْسَ لَهَا نَظِيرٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْمَعْنَى: أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ خِفْتُمْ عَذَابَ اللَّهِ أَوْ خِفْتُمْ هَلَاكًا أَوْ خِفْتُمُ السَّاعَةَ أَتَدْعُونَ أصنامكم وتلجئون إِلَيْهَا فِي كَشْفِ ذَلِكَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِي قَوْلِكُمْ إِنَّهَا آلِهَةٌ بَلْ تَدْعُونَ اللَّهَ الْخَالِقَ الرَّازِقَ فَيَكْشِفُ مَا خِفْتُمُوهُ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ أَصْنَامَكُمْ أَيْ تَتْرُكُونَهُمْ؟ فَعَبَّرَ عَنِ التَّرْكِ بِأَعْظَمِ وُجُوهِهِ الَّذِي هُوَ مَعَ التَّرْكِ ذُهُولٌ وَإِغْفَالٌ، فَكَيْفَ يُجْعَلُ إِلَهًا مَنْ هَذِهِ حَالُهُ فِي الشَّدَائِدِ؟ وأَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَتَاكُمْ خَوْفُهُ وَأَمَارَاتُهُ وَأَوَائِلُهُ مِثْلُ الْجَدْبِ وَالْبَأْسَاءِ وَالْأَمْرَاضِ الَّتِي يُخَافُ مِنْهَا الْهَلَاكُ كَالْقُولَنْجِ وَيَدْعُو إِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ أَنَّا لَوْ قَدَّرْنَا إِتْيَانَ الْعَذَابِ وَحُلُولَهُ لَمْ يَتَرَتَّبْ أَنْ يَقُولَ بَعْدَ ذَلِكَ: فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ لِأَنَّ مَا قَدْ صَحَّ حُلُولُهُ وَمَضَى لَا يَصِحُّ كَشْفُهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِالسَّاعَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ سَاعَةَ مَوْتِ الْإِنْسَانِ انْتَهَى. وَلَا يُضْطَرُّ إِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ الَّذِي ذَكَرَهُ بَلْ إِذَا حَلَّ بِالْإِنْسَانِ الْعَذَابُ وَاسْتَمَرَّ عَلَيْهِ لَا يَدْعُو إِلَّا اللَّهَ وَقَوْلُهُ: لِأَنَّ مَا صَحَّ حُلُولُهُ وَمَضَى لَا يَصِحُّ كَشْفُهُ لَيْسَ كَمَا ذَكَرَ، لِأَنَّ الْعَذَابَ الَّذِي يَحِلُّ بِالْإِنْسَانِ هُوَ جِنْسٌ مِنْهُ مَا مَرَّ وَانْقَضَى فَذَلِكَ لَا يَصِحُّ كَشْفُهُ وَمِنْهُ مَا هُوَ مُلْتَبِسٌ بِالْإِنْسَانِ فِي الْحَالِ فَيَصِحُّ كَشْفُهُ وَإِزَالَتُهُ بِقَطْعِ اللَّهِ ذَلِكَ عَنِ الْإِنْسَانِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ تُنْظِرُ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ «١» فَمَا انْقَضَى مِنَ الضُّرِّ الَّذِي مَسَّهُ لَا يَصِحُّ كَشْفُهُ، وَمَا هُوَ مُلْتَبِسٌ بِهِ كَشَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَالضُّرُّ جِنْسٌ كَمَا أَنَّ الْعَذَابَ هُنَا جِنْسٌ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: عَذَابُ اللَّهِ هُوَ الْعَذَابُ الَّذِي كَانَ يَأْتِي الْأُمَمَ الْخَالِيَةَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ الْمَوْتُ وَيَعْنِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ مُقَدِّمَاتِهِ مِنَ الشَّدَائِدِ وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ السَّاعَةُ هِيَ الْقِيَامَةُ وأ رأيت الْهَمْزَةُ فِيهَا لِلِاسْتِفْهَامِ فَإِنْ كَانَتِ الْبَصَرِيَّةَ أَوِ الَّتِي لِإِصَابَةِ الرُّؤْيَةِ أَوِ الْعِلْمِيَّةَ الْبَاقِيَةَ عَلَى بَابِهَا لَمْ يَجُزْ فِيهَا إِلَّا تَحْقِيقُ الْهَمْزَةِ أَوْ تَسْهِيلُهَا بَيْنَ بَيْنَ وَلَا يَجُوزُ حَذْفُهَا، وَتَخْتَلِفُ التَّاءُ بِاخْتِلَافِ الْمُخَاطَبِ وَلَا يَجُوزُ إِلْحَاقُ الْكَافِ بِهَا وَإِنْ كَانَتِ الْعِلْمِيَّةَ الَّتِي هِيَ بِمَعْنَى أَخْبَرَنِي جَازَ أَنْ تُحَقَّقَ الْهَمْزَةُ، وَبِهِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ فِي أَرَأَيْتَكُمْ وأرأيتم وأ رأيت وَجَازَ أَنْ تُسَهَّلَ بَيْنَ بين وبه
(١) سورة يونس: ١٠/ ١٢. [.....]
507
قَرَأَ نَافِعٌ وَرُوِيَ عَنْهُ إِبْدَالُهَا أَلِفًا مَحْضَةً وَيَطُولُ مَدُّهَا لِسُكُونِهَا وَسُكُونِ مَا بَعْدَهَا، وَهَذَا الْبَدَلُ ضَعِيفٌ عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ إِلَّا أَنَّهُ قَدْ سُمِعَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ حَكَاهُ قُطْرُبُ وَغَيْرُهُ وَجَازَ حَذْفُهَا وَبِهِ قَرَأَ الْكِسَائِيُّ وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. قَالَ الرَّاجِزُ:
أَرَيْتَ إِنْ جَاءَتْ بِهِ أُمْلُودَا بَلْ قَدْ زَعَمَ الْفَرَّاءُ أَنَّهَا لُغَةُ أَكْثَرِ الْعَرَبِ، قَالَ الْفَرَّاءُ: لِلْعَرَبِ فِي أَرَأَيْتَ لُغَتَانِ وَمَعْنَيَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ تَسْأَلَ الرَّجُلَ أَرَأَيْتَ زَيْدًا أَيْ بِعَيْنِكَ فَهَذِهِ مَهْمُوزَةٌ، وَثَانِيهِمَا أَنْ تَقُولَ: أَرَأَيْتَ وَأَنْتَ تقول أخبرني فهاهنا تَتْرُكُ الْهَمْزَةَ إِنْ شِئْتَ وَهُوَ أَكْثَرُ كَلَامِ الْعَرَبِ تُومِئُ إِلَى تَرْكِ الْهَمْزَةِ لِلْفَرْقِ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ انْتَهَى. وَإِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى أَخْبِرْنِي جَازَ أَنْ تَخْتَلِفَ التَّاءُ بِاخْتِلَافِ الْمُخَاطَبِ وَجَازَ أَنْ تَتَّصِلَ بِهَا الْكَافُ مُشْعِرَةً بِاخْتِلَافِ الْمُخَاطَبِ، وَتَبْقَى التَّاءُ مَفْتُوحَةً كَحَالِهَا لِلْوَاحِدِ الْمُذَكَّرِ وَمَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّ التَّاءَ هِيَ الْفَاعِلُ وَمَا لَحِقَهَا حَرْفٌ يَدُلُّ عَلَى اخْتِلَافِ الْمُخَاطَبِ وَأَغْنَى اخْتِلَافُهُ عَنِ اخْتِلَافِ التَّاءِ وَمَذْهَبُ الْكِسَائِيِّ أَنَّ الْفَاعِلَ هُوَ التَّاءُ وَأَنَّ أَدَاةَ الْخِطَابِ اللَّاحِقَةَ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ، وَمَذْهَبُ الْفَرَّاءِ أَنَّ التَّاءَ هِيَ حَرْفُ خِطَابٍ كَهِيَ فِي أَنْتَ وَأَنَّ أَدَاةَ الْخِطَابِ بَعْدَهُ هِيَ فِي مَوْضِعِ الْفَاعِلِ، اسْتُعِيرَتْ ضَمَائِرُ النَّصْبِ لِلرَّفْعِ وَالْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْمَذَاهِبِ إِبْدَالًا وَتَصْحِيحًا مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ، وكون أرأيت وأ رأيتك بِمَعْنَى أَخْبِرْنِي نَصَّ عَلَيْهِ سِيبَوَيْهِ وَالْأَخْفَشُ وَالْفَرَّاءُ وَالْفَارِسِيُّ وَابْنُ كَيْسَانَ وَغَيْرُهُمْ. وَذَلِكَ تفسير معنى لا تفسير إِعْرَابٍ قَالُوا: فَتَقُولُ الْعَرَبُ أَرَأَيْتَ زَيْدًا مَا صَنَعَ فَالْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ مُلْتَزَمٌ فِيهِ النَّصْبُ، وَلَا يَجُوزُ فِيهِ الرَّفْعُ عَلَى اعْتِبَارِ تَعْلِيقِ أَرَأَيْتَ وَهُوَ جَائِزٌ فِي عَلِمْتَ وَرَأَيْتَ الْبَاقِيَةِ عَلَى مَعْنَى عَلِمْتَ الْمُجَرَّدَةِ مِنْ مَعْنَى أَخْبِرْنِي لِأَنَّ أَخْبِرْنِي لَا تُعَلَّقُ، فَكَذَلِكَ مَا كَانَ بِمَعْنَاهَا وَالْجُمْلَةُ الِاسْتِفْهَامِيَّةُ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي. قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَتَقُولُ أَرَأَيْتَكَ زَيْدًا أَبُو مَنْ هُوَ وأ رأيتك عَمْرًا أَعِنْدَكَ هُوَ أَمْ عِنْدَ فُلَانٍ لَا يَحْسُنُ فِيهِ إِلَّا النَّصْبُ فِي زَيْدٍ أَلَا تَرَى أَنَّكَ لَوْ قُلْتَ أَرَأَيْتَ أَبُو من أنت وأ رأيت أَزَيْدٌ ثَمَّ أَمْ فُلَانٌ، لَمْ يَحْسُنْ لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى أَخْبِرْنِي عَنْ زَيْدٍ. ثُمَّ قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَصَارَ الِاسْتِفْهَامُ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي وَقَدِ اعْتَرَضَ كَثِيرٌ مِنَ النُّحَاةِ عَلَى سِيبَوَيْهِ وَخَالَفُوهُ، وَقَالُوا: كَثِيرًا مَا تُعَلَّقُ أَرَأَيْتَ وَفِي الْقُرْآنِ مِنْ ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْهُ قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى «١» أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى أَلَمْ يَعْلَمْ «٢». وَقَالَ الشَّاعِرُ:
أَرَأَيْتَ إِنْ جَاءَتْ بِهِ أُمْلُودًا مُرَجَّلًا ويلبس البرودا
(١) سورة العلق: ٩٦/ ٩.
(٢) سورة العلق: ٩٦/ ١٣.
508
أَقَائِلُنَّ أَحْضَرُوا الشُّهُودَا وَذَهَبَ ابْنُ كَيْسَانَ إِلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ الِاسْتِفْهَامِيَّةَ فِي أَرَأَيْتَ زَيْدًا مَا صَنَعَ بَدَلٌ مِنْ أَرَأَيْتَ، وَزَعَمَ أَبُو الْحَسَنِ أَنَّ أَرَأَيْتَكَ إِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى أَخْبِرْنِي فلابد بَعْدَهَا مِنَ الِاسْمِ الْمُسْتَخْبَرِ عَنْهُ وَتَلْزَمُ الْجُمْلَةُ الَّتِي بَعْدَهُ الِاسْتِفْهَامَ، لِأَنَّ أَخْبِرْنِي مُوَافِقٌ لِمَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ وَزَعَمَ أَيْضًا أَنَّهَا تَخْرُجُ عَنْ بَابِهَا بِالْكُلِّيَّةِ وَتُضَمَّنُ مَعْنَى أَمَا أَوْ تَنَبَّهْ وَجَعَلَ مِنْ ذَلِكَ قَوْلَهُ تعالى: قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ «١» وَقَدْ أَمْعَنَّا الْكَلَامَ عَلَى أَرَأَيْتَ وَمَسَائِلُهَا فِي كِتَابِنَا الْمُسَمَّى بِالتَّذْيِيلِ فِي شَرْحِ التَّسْهِيلِ وَجَمَعْنَا فِيهِ مَا لَا يُوجَدُ مَجْمُوعًا فِي كِتَابٍ فَيُوقَفُ عَلَيْهِ فِيهِ، وَنَحْنُ نَتَكَلَّمُ عَلَى كُلِّ مَكَانٍ تَقَعُ فِيهِ أَرَأَيْتَ فِي الْقُرْآنِ بِخُصُوصِيَّتِهِ. فَنَقُولُ الَّذِي نَخْتَارُهُ أَنَّهَا بَاقِيَةٌ عَلَى حُكْمِهَا مِنَ التَّعَدِّي إِلَى اثْنَيْنِ فَالْأَوَّلُ مَنْصُوبٌ وَالَّذِي لَمْ نَجِدْهُ بِالِاسْتِقْرَاءِ إِلَّا جُمْلَةً اسْتِفْهَامِيَّةً أَوْ قَسَمِيَّةً، فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَنَقُولُ: الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَحْذُوفٌ وَالْمَسْأَلَةُ مِنْ بَابِ التَّنَازُعِ تَنَازَعَ أَرَأَيْتَكُمْ وَالشَّرْطُ عَلَى عَذَابِ اللَّهِ فَأُعْمِلَ الثَّانِي وَهُوَ أَتاكُمْ فَارْتَفَعَ عَذَابُ بِهِ، وَلَوْ أُعْمِلَ الْأَوَّلُ لَكَانَ التَّرْكِيبُ عَذَابَ بِالنَّصْبِ وَنَظِيرُهُ اضْرِبْ إِنْ جَاءَكَ زَيْدٌ عَلَى إِعْمَالِ جَاءَكَ، وَلَوْ نُصِبَ لَجَازَ وَكَانَ مِنْ إِعْمَالِ الْأَوَّلِ وَأَمَّا الْمَفْعُولُ الثَّانِي فَهِيَ الْجُمْلَةُ الِاسْتِفْهَامِيَّةُ مِنْ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ وَالرَّابِطُ لِهَذِهِ الْجُمْلَةِ بِالْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ لِكَشْفِهِ وَالْمَعْنَى: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ عَذَابَ اللَّهِ إِنْ أَتَاكُمْ أَوِ السَّاعَةَ إِنْ أَتَتْكُمْ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ لِكَشْفِهِ أَوْ كشف نوازلها، وَزَعَمَ أَبُو الْحَسَنِ أَنَّ أَرَأَيْتَكُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِمَعْنَى أَمَّا.
قَالَ وَتَكُونُ أَبَدًا بَعْدَ الشَّرْطِ وَظُرُوفِ الزَّمَانِ وَالتَّقْدِيرُ أَمَّا إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ وَالِاسْتِفْهَامُ جَوَابُ أَرَأَيْتَ لَا جَوَابَ الشَّرْطِ وَهَذَا إِخْرَاجٌ لِأَرَأَيْتَ عَنْ مَدْلُولِهَا بِالْكُلِّيَّةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا تَخْرِيجَهَا عَلَى مَا اسْتَقَرَّ فِيهَا فَلَا نَحْتَاجُ إِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ الْبَعِيدِ، وَعَلَى مَا زَعَمَ أَبُو الْحَسَنِ لَا يَكُونُ لِأَرَأَيْتَ مَفْعُولَانِ وَلَا مَفْعُولٌ وَاحِدٌ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ مَفْعُولَ أَرَأَيْتَكُمْ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ تَقْدِيرُهُ أَرَأَيْتَكُمْ عِبَادَتَكُمُ الْأَصْنَامَ هَلْ تَنْفَعُكُمْ عِنْدَ مَجِيءِ السَّاعَةِ؟ وَدَلَّ عَلَيْهِ قوله: أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ. وَقَالَ آخَرُونَ لَا تَحْتَاجُ هُنَا إِلَى جَوَابِ مَفْعُولٍ لِأَنَّ الشَّرْطَ وَجَوَابَهُ قَدْ حَصَّلَا مَعْنَى الْمَفْعُولِ وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ ضَعِيفَانِ، وَأَمَّا جَوَابُ الشَّرْطِ فَذَهَبَ الْحَوْفِيُّ إِلَى أَنَّ جَوَابَهُ أَرَأَيْتَكُمْ قُدِّمَ لِدُخُولِ أَلِفِ الِاسْتِفْهَامِ عَلَيْهِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا، وإنما يجوز
(١) سورة الكهف: ١٨/ ٦٣.
509
تَقْدِيمَ جَوَابِ الشَّرْطِ عَلَيْهِ فِي مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ وَأَبِي زَيْدٍ وَالْمُبَرِّدِ وَذَهَبَ غَيْرُهُ إِلَى أَنَّهُ مَحْذُوفٌ فَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فَقَالَ: إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ مَنْ تَدْعُونَ؟
وَإِصْلَاحُهُ بِدُخُولِ الْفَاءِ أَيْ فَمَنْ تَدْعُونَ؟ لِأَنَّ الْجُمْلَةَ الِاسْتِفْهَامِيَّةَ إِذَا وَقَعَتْ جَوَابًا لِلشَّرْطِ فلابد فِيهَا مِنَ الْفَاءِ؟ وَقَدَّرَهُ غَيْرُهُ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ دَعَوْتُمُ اللَّهَ وَدَلَّ عَلَيْهِ الِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ الشَّرْطُ بِقَوْلِهِ: أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ كَأَنَّهُ قِيلَ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ انْتَهَى. فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ الشَّرْطُ بِقَوْلِهِ: أَغَيْرَ اللَّهِ لِأَنَّهُ لَوْ تَعَلَّقَ بِهِ لَكَانَ جَوَابًا لِلشَّرْطِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِلشَّرْطِ لِأَنَّ جَوَابَ الشَّرْطِ إِذَا كَانَ اسْتِفْهَامًا بِالْحَرْفِ لَا يَكُونُ إلا بهل مُقَدَّمًا عَلَيْهَا الْفَاءُ نَحْوَ إِنْ قَامَ زَيْدٌ فَهَلْ تُكْرِمُهُ؟ وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْهَمْزَةِ لَا تَتَقَدَّمُ الْفَاءُ عَلَى الْهَمْزَةِ وَلَا تَتَأَخَّرُ عَنْهَا، فَلَا يَجُوزُ إِنْ قَامَ زَيْدٌ فَأَتُكْرِمُهُ ولا أفتكرمه ولا أتكرمه، بَلْ إِذَا جَاءَ الِاسْتِفْهَامُ جَوَابًا لِلشَّرْطِ لَمْ يَكُنْ إِلَّا بِمَا يَصِحُّ وُقُوعُهُ بَعْدَ الْفَاءِ لَا قَبْلَهَا هَكَذَا نَقَلَهُ الْأَخْفَشُ عَنِ الْعَرَبِ، وَلَا يَجُوزُ أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ لِأَنَّا قَدْ قَرَّرْنَا أَنَّ أَرَأَيْتَكَ مُتَعَدٍّ إِلَى اثْنَيْنِ أَحَدُهُمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَحْذُوفٌ وَأَنَّهُ مِنْ بَابِ التَّنَازُعِ وَالْآخَرُ وَقَعَتِ الْجُمْلَةُ الِاسْتِفْهَامِيَّةُ مَوْقِعَهُ فَلَوْ جَعَلْتَهَا جَوَابًا لِلشَّرْطِ لَبَقِيَتْ أَرَأَيْتَكُمْ مُتَعَدِّيَةً إِلَى وَاحِدٍ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَأَيْضًا الْتِزَامُ الْعَرَبِ فِي الشَّرْطِ الْجَائِي بَعْدَ أَرَأَيْتَ مُضِيَّ الْفِعْلِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ جَوَابَ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ، لِأَنَّهُ لَا يُحْذَفُ جَوَابُ الشَّرْطِ إِلَّا عِنْدَ مُضِيِّ فِعْلِهِ قَالَ تَعَالَى: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً «١» قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ «٢» أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ «٣» أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى أَلَمْ يَعْلَمْ «٤» إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَقَالَ الشَّاعِرُ:
أَرَأَيْتَ إِنْ جَاءَتْ بِهِ أُمْلُودَا وَأَيْضًا فَمَجِيءُ الْجُمَلِ الِاسْتِفْهَامِيَّةِ مُصَدَّرَةً بِهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ جَوَابَ الشَّرْطِ، إِذْ لَا يَصِحُّ وُقُوعُهَا جَوَابًا لِلشَّرْطِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : إِنْ عُلِّقَتِ الشرطية يعني بقوله: غَيْرَ اللَّهِ فَمَا تَصْنَعُ بِقَوْلِهِ: فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ مَعَ قَوْلِهِ: أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ وقوارع الساعة
(١) سورة يونس: ١٠/ ٥٠.
(٢) سورة القصص: ٢٨/ ٧١.
(٣) سورة الشعراء: ٢٦/ ٢٠٥.
(٤) سورة العلق: ٩٦/ ١٣.
510
لَا تُكْشَفُ عَنِ الْمُشْرِكِينَ. (قُلْتُ) : قَدِ اشْتَرَطَ فِي الْكَشْفِ الْمَشِيئَةَ وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنْ شَاءَ إِيذَانًا بِأَنَّهُ إِنْ فَعَلَ كَانَ لَهُ وَجْهٌ مِنَ الْحِكْمَةِ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ لِوَجْهٍ آخَرَ مِنَ الْحِكْمَةِ أَرْجَحَ مِنْهُ انْتَهَى. وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ الشَّرْطُ بِقَوْلِهِ أَغَيْرَ اللَّهِ وَقَدِ اسْتَدَلَّ لِلْفَاعِلِ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَتُلُخِّصَ فِي جَوَابِ الشَّرْطِ أَقْوَالٌ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ مَذْكُورٌ وَهُوَ أَرَأَيْتَكُمْ الْمُتَقَدِّمُ وَالْآخَرُ أَنَّهُ مَذْكُورٌ وَهُوَ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ مَنْ تَدْعُونَ.
وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ دَعَوْتُمُ اللَّهَ، هَذَا مَا وَجَدْنَاهُ مَنْقُولًا وَالَّذِي نَذْهَبُ إِلَيْهِ غَيْرُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَحْذُوفًا لِدَلَالَةِ أَرَأَيْتَكُمْ عَلَيْهِ وَتَقْدِيرُهُ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ فَأَخْبِرُونِي عَنْهُ أَتَدْعُونَ غَيْرَ اللَّهِ لِكَشْفِهِ، كَمَا تَقُولُ: أَخْبِرْنِي عَنْ زَيْدٍ إِنْ جَاءَكَ مَا تَصْنَعُ بِهِ؟
التَّقْدِيرُ إِنْ جَاءَكَ فَأَخْبِرْنِي فَحُذِفَ الْجَوَابُ لِدَلَالَةِ أَخْبِرْنِي عَلَيْهِ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ أَنْتَ ظَالِمٌ إِنْ فَعَلْتَ التَّقْدِيرُ فَأَنْتَ ظَالِمٌ فَحُذِفَ فَأَنْتَ ظَالِمٌ وَهُوَ جَوَابُ الشَّرْطِ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ، وَهَذَا التَّقْدِيرُ الَّذِي قَدَّرْنَاهُ هُوَ الَّذِي تَقْتَضِيهِ قَوَاعِدُ العربية وغَيْرَ اللَّهِ عَنَى بِهِ الْأَصْنَامَ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا، وَتَقْدِيمُ الْمَفْعُولِ هُنَا بَعْدَ الْهَمْزَةِ يَدُلُّ عَلَى الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ دُعَاءَ الْأَصْنَامِ إِذْ لَا يُنْكَرُ الدُّعَاءُ إِنَّمَا يُنْكَرُ أَنَّ الْأَصْنَامَ تُدْعَى كَمَا تَقُولُ: أَزَيْدًا تَضْرِبُ لَا تُنْكِرُ الضَّرْبَ وَلَكِنْ تُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ مَحَلُّهُ زَيْدًا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بَكَّتَهُمْ بِقَوْلِهِ: أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ بِمَعْنَى أَتَخُصُّونَ آلِهَتَكُمْ بِالدَّعْوَةِ فِيمَا هُوَ عَادَتُكُمْ إِذَا أَصَابَكُمْ ضُرٌّ أَمْ تَدْعُونَ اللَّهَ دُونَهَا؟ انْتَهَى. وَقَدَّرَهُ بِمَعْنَى أَتَخُصُّونَ لِأَنَّ عِنْدَهُ تَقْدِيمَ الْمَفْعُولِ مُؤْذِنٌ بِالتَّخْصِيصِ وَالْحَصْرِ، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا فِيمَا سَبَقَ فِي ذَلِكَ وَأَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْحَصْرِ وَالتَّخْصِيصِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْبَيَانِ مِنْ بَابِ اسْتِدْرَاجِ الْمُخَاطَبِ وَهُوَ أَنْ يُلِينَ الْخِطَابَ وَيَمْزُجَهُ بِنَوْعٍ مِنَ التَّلَطُّفِ وَالتَّعَطُّفِ حَتَّى يُوقِعَ الْمُخَاطَبَ فِي أَمْرٍ يَعْتَرِفُ بِهِ فَتَقُومَ الْحُجَّةُ عَلَيْهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى خَاطَبَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ بِلِينٍ مِنَ الْقَوْلِ وَذَكَرَ لَهُمْ أَمْرًا لَا يُنَازِعُونَ فِيهِ وَهُوَ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا مَسَّهُمُ الضُّرُّ دَعَوُا اللَّهَ لَا غَيْرَهُ وَجَوَابُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِي دَعْوَاكُمْ أَنَّ غَيْرَ اللَّهِ إِلَهٌ فَهَلْ تَدْعُونَهُ لِكَشْفِ مَا يَحِلُّ بِكُمْ مِنَ الْعَذَابِ؟.
بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ إِيَّاهُ ضَمِيرُ
511
نَصْبٍ مُنْفَصِلٌ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ «١» مُسْتَوْفًى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هُنَا إِيَّاهُ اسْمٌ مُضْمَرٌ أُجْرِي مَجْرَى الْمُظْهَرَاتِ فِي أَنَّهُ يُضَافُ أَبَدًا انْتَهَى، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِمَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ، لِأَنَّ مَذْهَبَ سِيبَوَيْهِ أَنَّ مَا اتَّصَلَ بِإِيَّا مِنْ دَلِيلِ تَكَلُّمٍ أَوْ خِطَابٍ أَوْ غَيْبَةٍ وَهُوَ حَرْفٌ لَا اسْمٌ أُضِيفَ إِلَيْهِ إِيَّا لِأَنَّ الْمُضْمَرَ عِنْدَهُ لَا يُضَافُ لِأَنَّهُ أَعْرَفُ الْمَعَارِفِ، فَلَوْ أُضِيفَ لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ تَنَكُّرُهُ حَتَّى يُضَافَ وَيَصِيرَ إِذْ ذَاكَ مَعْرِفَةً بِالْإِضَافَةِ لَا يَكُونُ مُضْمَرًا وَهَذَا فَاسِدٌ، وَمَجِيئُهُ هُنَا مُقَدَّمًا عَلَى فِعْلِهِ دَلِيلٌ عَلَى الِاعْتِنَاءِ بِذِكْرِ الْمَفْعُولِ وَعِنْدَ الزَّمَخْشَرِيِّ أَنَّ تَقْدِيمَهُ دَلِيلٌ عَلَى الْحَصْرِ وَالِاخْتِصَاصِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: بَلْ تَخُصُّونَهُ بِالدُّعَاءِ دُونَ الْآلِهَةِ، وَالِاخْتِصَاصُ عِنْدَنَا وَالْحَصْرُ فُهِمَ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ لَا مِنْ تَقْدِيمِ الْمَفْعُولِ على العامل وبَلْ هُنَا لِلْإِضْرَابِ وَالِانْتِقَالِ مِنْ شَيْءٍ إِلَى شَيْءٍ مِنْ غَيْرِ إِبْطَالٍ لِمَا تَضَمَّنَهُ الْكَلَامُ السَّابِقُ مِنْ مَعْنَى النَّفْيِ لِأَنَّ مَعْنَى الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ النَّفْيُ وَتَقْدِيرُهَا مَا تَدْعُونَ أَصْنَامَكُمْ لِكَشْفِ الْعَذَابِ وَهَذَا كَلَامٌ حَقٌّ لَا يُمْكِنُ فِيهِ الْإِضْرَابُ يَعْنِي الإبطال، وَمَا مِنْ قَوْلِهِ مَا تَدْعُونَ الْأَظْهَرُ أَنَّهَا مَوْصُولَةٌ أَيْ فَيَكْشِفُ الَّذِي تَدْعُونَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَصِحُّ أَنْ تَكُونَ ظَرْفِيَّةً انْتَهَى. وَيَكُونَ مَفْعُولُ يَكْشِفُ مَحْذُوفًا أَيْ فَيَكْشِفُ الْعَذَابَ مُدَّةَ دُعَائِكُمْ أَيْ مَا دُمْتُمْ دَاعِيهِ وَهَذَا فِيهِ حَذْفُ الْمَفْعُولِ وَخُرُوجٌ عَنِ الظَّاهِرِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ، وَيُضْعِفُهُ وَصْلُ مَا الظَّرْفِيَّةُ بِالْمُضَارِعِ وَهُوَ قَلِيلٌ جِدًّا إِنَّمَا بَابُهَا أَنْ تُوصَلَ بِالْمَاضِي تَقُولُ أَلَّا أُكَلِّمَكَ مَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ وَلِذَلِكَ عِلَّةُ، أَمَّا ذُكِرَتْ فِي عِلْمِ النَّحْوِ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَصِحُّ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً عَلَى حَذْفٍ فِي الْكَلَامِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: وهو مثل وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ «٢» انْتَهَى. وَيَكُونُ تَقْدِيرُ الْمَحْذُوفِ فَيَكْشِفُ مُوجِبَ دُعَائِكُمْ وَهُوَ الْعَذَابُ، وَهَذِهِ دَعْوَى مَحْذُوفٍ غَيْرِ مُتَعَيِّنٍ وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ وَالضَّمِيرُ فِي إِلَيْهِ عَائِدٌ عَلَى مَا الْمَوْصُولَةِ أَيْ إِلَى كَشْفِهِ وَدَعَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مُتَعَلِّقِ الدعاء يتعدى بإلى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ «٣» الْآيَةَ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
وَإِنْ دَعَوْتَ إِلَى جُلَّى وَمَكْرُمَةٍ يَوْمًا سَرَاةَ كِرَامِ النَّاسِ فَادْعِينَا
وَتَتَعَدَّى بِاللَّامِ أَيْضًا قَالَ الشَّاعِرُ:
وَإِنْ أُدْعَ لِلْجُلَّى أَكُنْ من حماتها
(١) سورة الفاتحة: ١/ ٥.
(٢) سورة يوسف: ١٢/ ٨٢.
(٣) سورة النور: ٢٤/ ٥١.
512
وَقَالَ آخَرُ:
دَعَوْتُ لِمَا نَابَنِي مِسْوَرًا وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالضَّمِيرُ فِي إِلَيْهِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ إِلَى اللَّهِ بِتَقْدِيرِ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ انْتَهَى. وَهَذَا لَيْسَ بِجَيِّدٍ لِأَنَّ دَعَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مُجِيبِ الدُّعَاءِ إِنَّمَا يَتَعَدَّى لِمَفْعُولٍ بِهِ دُونَ حَرْفِ جَرٍّ قَالَ تَعَالَى: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ «١» أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ «٢» وَمِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ دَعَوْتُ اللَّهَ سَمِيعًا وَلَا تَقُولُ بِهَذَا الْمَعْنَى دَعَوْتُ إِلَى اللَّهِ بمعنى دعوت اللَّهِ إِلَّا أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُصَحَّحَ كَلَامُهُ بِدَعْوَى التَّضْمِينِ ضَمَّنَ يَدْعُونَ مَعْنَى يلجؤون، كَأَنَّهُ قِيلَ فَيَكْشِفُ مَا يلجؤون فِيهِ بِالدُّعَاءِ إِلَى اللَّهِ لَكِنَّ التَّضْمِينَ لَيْسَ بِقِيَاسٍ ولا يضار إِلَيْهِ إِلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ، ولا ضرورة عنا تدعو إليه وعذق تَعَالَى الْكَشْفَ بِمَشِيئَتِهِ فَإِنْ شَاءَ أَنْ يَتَفَضَّلَ بِالْكَشْفِ فَعَلَ وَإِنْ لَمْ يَشَأْ لَمْ يَفْعَلْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنْ شَاءَ إِنْ أَرَادَ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَمْ تَكُنْ مَفْسَدَةً انْتَهَى. وَفِي قَوْلِهِ: وَلَمْ تَكُنْ مَفْسَدَةً دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ النِّسْيَانُ حَقِيقَةٌ وَالذُّهُولُ وَالْغَفْلَةُ عَنِ الْأَصْنَامِ لِأَنَّ الشَّخْصَ إِذَا دَهَمَهُ مَا لَا طَاقَةَ لَهُ بِدَفْعِهِ تَجَرَّدَ خَاطِرُهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا مِنَ اللَّهِ الْكَاشِفِ لِذَاكَ الداهم، فيكاد يصير كالملجأ إِلَى التَّعَلُّقِ بِاللَّهِ وَالذُّهُولِ عَنْ مَنْ سِوَاهُ فَلَا يَذْكُرُ غَيْرَ اللَّهِ الْقَادِرِ عَلَى كَشْفِ مَا دَهَمَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ وَتَكْرَهُونَ آلِهَتَكُمْ وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: تَتْرُكُونَهُمْ وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ هَذَا وَسَبَقَهُ إِلَيْهِ الزَّجَّاجُ فَقَالَ: تَتْرُكُونَهُمْ لِعِلْمِكُمْ أَنَّهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ لَا يَضُرُّونَ وَلَا يَنْفَعُونَ. وَقَالَ النَّحَّاسُ: هو مثل قوله لَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ «٣». وَقِيلَ: يُعْرِضُونَ إِعْرَاضَ النَّاسِي لِلْيَأْسِ مِنَ النجاة من قبله، وما مَوْصُولَةٌ أَيْ وَتَنْسَوْنَ الَّذِي تُشْرِكُونَ. وَقِيلَ: مَا مَصْدَرِيَّةٌ أَيْ وَتَنْسَوْنَ إِشْرَاكَكُمْ وَمَعْنَى هَذِهِ الْجُمَلِ بَلْ لَا مَلْجَأَ لَكُمْ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى وَأَصْنَامُكُمْ مُطْرَحَةٌ مَنْسِيَّةٌ قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ.
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ هَذَا تَسْلِيَةٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّ عَادَةَ الْأُمَمِ مَعَ رُسُلِهِمُ التَّكْذِيبُ وَالْمُبَالَغَةُ فِي قَسْوَةِ الْقُلُوبِ حَتَّى هُمْ إِذَا أُخِذُوا بِالْبَلَايَا لَا يَتَذَلَّلُونَ لِلَّهِ وَلَا يَسْأَلُونَهُ كَشْفَهَا، وَهَؤُلَاءِ الْأُمَمُ الَّذِينَ بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِمُ الرُّسُلَ أَبْلَغُ انْحِرَافًا وَأَشَدُّ شَكِيمَةً وَأَجْلَدُ مِنَ الَّذِينَ بُعِثَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ
(١) سورة غافر: ٤٠/ ٦٠.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ١٨٦.
(٣) سورة طه: ٢٠/ ١١٥.
513
خَاطَبَهُمْ تَعَالَى بِقَوْلِهِ قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ الْآيَةَ. وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ عِنْدَ الْأَزَمَاتِ لَا يَدْعُونَ لِكَشْفِهَا إِلَّا اللَّهَ تَعَالَى، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ التَّقْدِيرُ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا الرُّسُلَ إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَكَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالتَّرَجِّي هُنَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْبَشَرِ أَيْ لَوْ رَأَى أَحَدٌ مَا حَلَّ بِهِمْ لَرَجَا تَضَرُّعَهُمْ وَابْتِهَالَهُمْ إِلَى اللَّهِ فِي كَشْفِهِ، وَالْأَخْذُ الْإِمْسَاكُ بِقُوَّةٍ وَبَطْشٍ وَقَهْرٍ وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ عَنْ مُتَابَعَةِ الْعُقُوبَةِ وَالْمُلَازَمَةِ وَالْمَعْنَى لَعَاقَبْنَاهُمْ فِي الدُّنْيَا.
فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا لَوْلَا هُنَا حَرْفُ تَحْضِيضٍ يَلِيهَا الْفِعْلُ ظَاهِرًا أَوْ مُضْمَرًا ويفصل بَيْنَهُمَا بِمَعْمُولِ الْفِعْلِ مِنْ مَفْعُولٍ بِهِ وَظَرْفٍ كَهَذِهِ الآية، فصل بين فَلَوْلا وتَضَرَّعُوا بِإِذْ وَهِيَ مَعْمُولَةٌ لَتَضَرَّعُوا، وَالتَّحْضِيضُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ تَضَرُّعُهُمْ حِينَ جَاءَ الْبَأْسُ فَمَعْنَاهُ إِظْهَارُ مُعَاتَبَةِ مُذْنِبٍ غَائِبٍ وَإِظْهَارُ سُوءِ فِعْلِهِ لِيَتَحَسَّرَ عَلَيْهِ الْمُخَاطَبُ وَإِسْنَادُ الْمَجِيءِ إِلَى الْبَأْسِ مَجَازٌ عَنْ وُصُولِهِ إِلَيْهِمْ وَالْمُرَادُ أَوَائِلُ الْبَأْسِ وَعَلَامَاتُهُ.
وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ أَيْ صَلُبَتْ وَصَبَرَتْ عَلَى مُلَاقَاةِ الْعَذَابِ لِمَا أَرَادَ اللَّهُ مِنْ كُفْرِهِمْ، وَوُقُوعُ لكِنْ هَنَا حَسَنٌ لِأَنَّ الْمَعْنَى انْتِفَاءُ التَّذَلُّلِ عِنْدَ مَجِيءِ الْبَأْسِ وَوُجُودِ الْقَسْوَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْعُتُوِّ وَالتَّعَزُّزِ فَوَقَعَتْ لكِنْ بَيْنَ ضِدَّيْنِ وَهُمَا اللِّينُ وَالْقَسْوَةُ، وَكَذَا إِنْ كَانَتِ الْقَسْوَةُ عِبَارَةً عَنِ الْكُفْرِ فَعَبَّرَ بِالسَّبَبِ عَنِ الْمُسَبَّبِ وَالضَّرَاعَةُ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِيمَانِ فَعَبَّرَ بِالسَّبَبِ عَنِ الْمُسَبَّبِ كَانَتْ أَيْضًا وَاقِعَةً بَيْنَ ضِدَّيْنِ تَقُولُ: قَسَا قَلْبُهُ فَكَفَرَ وَآمَنَ فَتَضَرَّعَ.
وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ دَاخِلَةً تَحْتَ الِاسْتِدْرَاكِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ اسْتِئْنَافَ إِخْبَارٍ، وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ فَيَكُونُ الْحَامِلُ عَلَى تَرْكِ التَّضَرُّعِ قَسْوَةَ قُلُوبِهِمْ وَإِعْجَابَهُمْ بِأَعْمَالِهِمُ الَّتِي كَانَ الشَّيْطَانُ سَبَبًا فِي تَحْسِينِهَا لَهُمْ.
فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ أَيْ فَلَمَّا تَرَكُوا الِاتِّعَاظَ وَالِازْدِجَارَ بِمَا ذُكِّرُوا بِهِ مِنَ الْبَأْسِ اسْتَدْرَجْنَاهُمْ بِتَيْسِيرِ مَطَالِبِهِمُ الدُّنْيَوِيَّةِ وَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ:
فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ إِذْ يَقْتَضِي شُمُولَ الْخَيْرَاتِ وَبُلُوغَ الطَّلَبَاتِ.
حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً مَعْنَى هَذِهِ الْجُمَلِ مَعْنَى قَوْلِهِ وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً «١»
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا رَأَيْتُمُ اللَّهَ تَعَالَى يعطي العباد ما يشاؤون عَلَى مَعَاصِيهِمْ فَإِنَّمَا ذَلِكَ اسْتِدْرَاجٌ مِنْهُ لَهُمْ»
ثُمَّ تَلَا فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ الآية،
(١) سورة آل عمران: ٣/ ١٧٨. [.....]
514
وَالْأَبْوَابُ اسْتِعَارَةٌ عَنِ الْأَسْبَابِ الَّتِي هَيَّأَهَا اللَّهُ لَهُمْ الْمُقْتَضِيَةِ لِبَسْطِ الرِّزْقِ عَلَيْهِمْ وَالْإِبْهَامُ فِي هَذَا الْعُمُومِ لِتَهْوِيلِ مَا فُتِحَ عَلَيْهِمْ وَتَعْظِيمِهِ وَغَيَّا الْفَتْحَ بِفَرَحِهِمْ بِمَا أُوتُوا وَتَرَتَّبَ عَلَى فَرَحِهِمْ أَخْذُهُمْ بَغْتَةً أَيْ إِهْلَاكُهُمْ فَجْأَةً وَهُوَ أَشَدُّ الْإِهْلَاكِ إِذْ لَمْ يَتَقَدَّمْ شُعُورٌ بِهِ فَتَتَوَطَّنَ النَّفْسُ عَلَى لِقَائِهِ، ابْتَلَاهُمْ أَوَّلًا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ فَلَمْ يَتَّعِظُوا ثُمَّ نَقَلَهُمْ إِلَى مَا أَوْجَبَ سُرُورَهُمْ مِنْ إِسْبَاغِ النِّعَمِ عَلَيْهِمْ فَلَمْ يَجِدْ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ وَلَا قَصَدُوا الشُّكْرَ وَلَا أَصْغَوْا إِلَى إِنَابَةٍ بَلْ لَمْ يَحْصُلُوا إِلَّا عَلَى فَرَحٍ بِمَا أَسْبَغَ عَلَيْهِمْ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ النَّضْرِ الْحَارِثِيُّ: أُمْهِلَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ عِشْرِينَ سَنَةً.
فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ أَيْ باهتون بائسون لا يخبرون جَوَابًا. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ فَتَّحْنَا بِتَشْدِيدِ التَّاءِ وَالتَّشْدِيدُ لِتَكْثِيرِ الْفِعْلِ وَإِذَا هِيَ الْفُجَائِيَّةُ وَهِيَ حَرْفٌ عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ وَظَرْفُ مَكَانٍ، وَنُسِبَ إِلَى سِيبَوَيْهِ وَظَرْفُ زَمَانٍ وَهُوَ مَذْهَبُ الرِّيَاشِيِّ وَالْعَامِلُ فِيهَا إِذَا قُلْنَا بِظَرْفِيَّتِهَا هُوَ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ أَيْ، فَفِي ذَلِكَ الْمَكَانِ هُمْ مُبْلِسُونَ أَيْ مَكَانِ إِقَامَتِهِمْ وَذَلِكَ الزَّمَانِ هُمْ مُبْلِسُونَ وَأَصْلُ الْإِبْلَاسِ الْإِطْرَاقُ لِحُلُولِ نِقْمَةٍ أَوْ زَوَالِ نِعْمَةٍ. قَالَ الْحَسَنُ:
مُكْتَئِبُونَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: هَالِكُونَ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ وَقُطْرُبٌ: خَاشِعُونَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
مُتَحَيِّرُونَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مُتَحَسِّرُونَ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: السَّاكِتُ عِنْدَ انْقِطَاعِ الْحُجَّةِ.
فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا عِبَارَةٌ عَنِ اسْتِئْصَالِهِمْ بِالْهَلَاكِ وَالْمَعْنَى: فَقُطِعَ دَابِرُهُمْ وَنَبَّهَ عَلَى سَبَبِ الِاسْتِئْصَالِ بِذِكْرِ الْوَصْفِ الَّذِي هُوَ الظُّلْمُ، وَهُوَ هُنَا الْكُفْرُ وَالدَّابِرُ التَّابِعُ لِلشَّيْءِ مِنْ خَلْفِهِ يُقَالُ: دَبَرَ الْوَالِدَ الْوَلَدُ يَدْبُرُهُ، وَفُلَانٌ دَبَرَ الْقَوْمَ دُبُورًا وَدَبَرًا إِذَا كَانَ آخِرَهُمْ. وَقَالَ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ:
فَاسْتُؤْصِلُوا بِعَذَابٍ خَصَّ دَابِرَهُمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ صَرْفًا وَلَا انْتَصَرُوا
قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: دابِرُ الْقَوْمِ آخِرُهُمُ الَّذِي يَدْبُرُهُمْ. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: الدَّابِرُ الْأَصْلُ يُقَالُ: قَطَعَ اللَّهُ دَابِرَهُ أَيْ أَذْهَبَ أَصْلَهُ، وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ فَقُطِعَ دابِرُ بِفَتْحِ الْقَافِ وَالطَّاءِ وَالرَّاءِ أَيْ فَقَطَعَ اللَّهُ وَهُوَ الْتِفَاتٌ إِذْ فِيهِ الْخُرُوجُ مِنْ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ إِلَى ضَمِيرِ الْغَائِبِ.
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِيذَانٌ بِوُجُوبِ الْحَمْدِ لِلَّهِ عِنْدَ هَلَاكِ الظَّلَمَةِ وَأَنَّهُ مِنْ أَجَلِّ النِّعَمِ وَأَجْزَلِ الْقِسَمِ انْتَهَى. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَرْسَلَ الرُّسُلَ إِلَى هَؤُلَاءِ الْأُمَمِ كَذَّبُوهُمْ وَآذَوْهُمْ فَابْتَلَاهُمُ اللَّهُ تَارَةً بِالْبَلَاءِ، وَتَارَةً بِالرَّخَاءِ فَلَمْ يُؤْمِنُوا فَأَهْلَكَهُمْ وَاسْتَرَاحَ الرُّسُلُ مِنْ شَرِّهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ وَصَارَ ذَلِكَ نِعْمَةً فِي حَقِّ الرُّسُلِ إِذْ أَنْجَزَ اللَّهُ وَعْدَهُ عَلَى لِسَانِهِمْ بِهَلَاكِ الْمُكَذِّبِينَ فَنَاسَبَ هَذَا الْفِعْلَ كُلَّهُ الختم بالحمدلة.
515
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ لَمَّا ذَكَرَ أَوَّلًا تَهْدِيدَهُمْ بِإِتْيَانِ الْعَذَابِ أَوِ السَّاعَةِ كَانَ ذَلِكَ أَعْظَمَ مِنْ هَذَا التَّهْدِيدِ، فَأَكَّدَ خِطَابَ الضَّمِيرِ بِحَرْفِ الْخِطَابِ فَقِيلَ أَرَأَيْتَكُمْ وَلَمَّا كَانَ هَذَا التَّهْدِيدُ أَخَفَّ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يُؤَكَّدْ بِهِ، بَلِ اكْتُفِيَ بِخِطَابِ الضَّمِيرِ فَقِيلَ أَرَأَيْتُمْ وَفِي تِلْكَ وَهَذِهِ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهُ الْمُتَصَرِّفُ فِي الْعَالَمِ الْكَاشِفُ لِلْعَذَابِ وَالرَّادُّ لِمَا شَاءَ بَعْدَ الذَّهَابِ، وَأَنَّ آلِهَتَهُمْ لَا تُغْنِي عَنْهُمْ شَيْئًا وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ أَنَّهُ ذَهَابُ الْحَاسَّةِ السَّمْعِيَّةِ وَالْبَصَرِيَّةِ فَيَكُونُ أَخْذًا حَقِيقِيًّا. وَقِيلَ: هُوَ أَخْذٌ مَعْنَوِيٌّ وَالْمُرَادُ إِذْهَابُ نُورِ الْبَصَرِ بِحَيْثُ يَحْصُلُ الْعَمَى، وَإِذْهَابُ سَمْعِ الْأُذُنِ بِحَيْثُ يَحْصُلُ الصَّمَمُ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى إِفْرَادِ السَّمْعِ وَجَمْعِ الْأَبْصَارِ وَعَلَى الْخَتْمِ عَلَى الْقُلُوبِ فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. وَمَفْعُولُ أَرَأَيْتُمْ الْأَوَّلُ مَحْذُوفٌ وَالتَّقْدِيرُ قُلْ أَرَأَيْتُمْ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ إِنْ أَخَذَهَا اللَّهُ، وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي هُوَ الْجُمْلَةُ الِاسْتِفْهَامِيَّةُ كَمَا تَقُولُ: أَرَأَيْتُكَ زَيْدًا مَا يَصْنَعُ وَقَدْ قَرَّرْنَا أَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْإِعْمَالِ أَعْمَلَ الثَّانِيَ وَحَذَفَ مِنَ الْأَوَّلِ وَأَوْضَحْنَا كَيْفِيَّةَ ذَلِكَ فِي الْآيَةِ قَبْلَ هَذِهِ، وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ أَفْرَدَهُ إِجْرَاءً لَهُ مَجْرَى اسْمِ الْإِشَارَةِ كَأَنَّهُ قِيلَ تَأْتِيكُمْ بِذَلِكَ أَوْ يَكُونُ التَّقْدِيرُ بِمَا أَخَذَ وَخَتَمَ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى السَّمْعِ بِالتَّصْرِيحِ وَتَدْخُلُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ. وَقِيلَ: هُوَ عَائِدٌ عَلَى الْهُدَى الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى لِأَنَّ أَخْذَ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْخَتْمَ عَلَى الْقُلُوبِ سَبَبُ الضَّلَالِ وسد لطرق الهداية، ومَنْ إِلهٌ اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ تَوْقِيفُهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ سِوَاهُ فَالتَّعَلُّقُ بِغَيْرِهِ لَا يَنْفَعُ. قَالَ الْحَوْفِيُّ: وَحَرْفُ الشَّرْطِ وَمَا اتَّصَلَ بِهِ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ وَالْعَامِلُ فِي الْحَالِ أَرَأَيْتُمْ كَقَوْلِهِ: اضْرِبْهُ إِنْ خَرَجَ أَيْ خَارِجًا، وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَا تَقَدَّمَ مِمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ انْتَهَى، وَهَذَا الْإِعْرَابُ تَخْلِيطٌ.
انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ رَوَى أَبُو قُرَّةَ الْمُسَيِّبِيُّ عَنْ نَافِعٍ بِهُ انْظُرْ بِضَمِّ الراء وَهِيَ قِرَاءَةُ الْأَعْرَجِ، وَانْظُرْ خِطَابٌ لِلسَّامِعِ وَتَصْرِيفُ الْآيَاتِ قَالَ مُقَاتِلٌ:
نُخَوِّفُهُمْ بِأَخْذِ الْأَسْمَاعِ وَالْأَبْصَارِ وَالْقُلُوبِ وَبِمَا صُنِعَ بِالْأُمَمِ السَّالِفَةِ. وَقَالَ ابْنُ فُورَكٍ:
تَصْرِيفُهَا مَرَّةٌ تَأْتِي بِالنِّقْمَةِ وَمَرَّةٌ تَأْتِي بِالنِّعْمَةِ وَمَرَّةٌ بِالتَّرْغِيبِ وَمَرَّةٌ بالترهيب. وقيل: تتابع لهم الحجج وتضرب لَهُمُ الْأَمْثَالَ. وَقِيلَ: نُوَجِّهُهَا إِلَى الْإِنْشَاءِ وَالْإِفْنَاءِ وَالْإِهْلَاكِ. وَقِيلَ: الْآيَاتُ عَلَى صِحَّةِ تَوْحِيدِهِ وَصِدْقِ نَبِيِّهِ وَالصَّدْفُ وَالصُّدُوفُ الْإِعْرَاضُ وَالنُّفُورُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وقتادة وَمُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ: يَصْدِفُونَ يُعْرِضُونَ وَلَا يَعْتَبِرُونَ. وَقَرَأَ بَعْضُ الْقُرَّاءِ كَيْفَ نَصْرِفُ مِنْ صَرَفَ ثُلَاثِيًّا.
516
قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ هَذَا تَهْدِيدٌ ثَالِثٌ فَالْأَوَّلُ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: الْعَذَابُ وَالسَّاعَةُ، وَالثَّانِي: بِالْأَخْذِ وَالْخَتْمِ، وَالثَّالِثُ:
بِالْعَذَابِ فَقَطْ. قِيلَ: بَغْتَةً فَجْأَةً لَا يَتَقَدَّمُ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وجهرة تَبْدُو لَكُمْ مَخَايِلُهُ ثُمَّ يَنْزِلُ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: بَغْتَةً ليلا وجَهْرَةً نَهَارًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: بَغْتَةً فجأة آمنين وجَهْرَةً وَهُمْ يَنْظُرُونَ، وَلَمَّا كَانَتِ الْبَغْتَةُ تَضَمَّنَتْ مَعْنَى الْخِفْيَةِ صَحَّ مُقَابَلَتُهَا لِلْجَهْرَةِ وَبُدِئَ بِهَا لِأَنَّهَا أَرْدَعُ مِنَ الْجَهْرَةِ، وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ هَلْ يُهْلَكُ مَعْنَاهَا النَّفْيُ أَيْ مَا يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ وَلِذَلِكَ دَخَلَتْ إِلَّا وَهِيَ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِأَرَأَيْتَكُمْ وَالرَّابِطُ مَحْذُوفٌ أَيْ هَلْ يُهْلَكُ بِهِ؟ وَالْأَوَّلُ مِنْ مَفْعُولَيْ أَرَأَيْتَكُمْ مَحْذُوفٌ مِنْ بَابِ الْإِعْمَالِ لِمَا قَرَّرْنَاهُ، وَلَمَّا كَانَ التَّهْدِيدُ شَدِيدًا جَمَعَ فِيهِ بَيْنَ أَدَاتَيِ الْخِطَابِ وَالْخِطَابُ لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ وَالْعَرَبِ وَفِي ذِكْرِ الظُّلْمِ تَنْبِيهٌ عَلَى عِلَّةِ الْإِهْلَاكِ وَالْمَعْنَى هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا أَنْتُمْ لِظُلْمِكُمْ؟ وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ:
هَلْ يُهْلَكُ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ.
وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ أَيْ مُبَشِّرِينَ بِالثَّوَابِ وَمُنْذِرِينَ بِالْعِقَابِ وَانْتَصَبَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ عَلَى الْحَالِ وَفِيهِمَا مَعْنَى الْعِلِّيَّةِ، أَيْ أَرْسَلْنَاهُمْ لِلتَّبْشِيرِ وَالْإِنْذَارِ لَا لِأَنْ تُقْتَرَحَ عَلَيْهِمُ الْآيَاتُ بعد وضوح ما جاؤوا بِهِ وَتَبْيِينِ صِحَّتِهِ.
فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ أَيْ مَنْ صَدَّقَ بِقَلْبِهِ وَأَصْلَحَ فِي عَمَلِهِ.
فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ جَعَلَ الْعَذابُ مَاسًّا كَأَنَّهُ ذُو حَيَاةٍ يَفْعَلُ بِهِمْ مَا شَاءَ مِنَ الْآلَامِ. وَقَرَأَ عَلْقَمَةُ:
نُمِسُّهُمُ الْعَذَابَ بِالنُّونِ مِنْ أَمَسَّ وَأَدْغَمَ الْأَعْمَشُ الْعَذَابَ بِمَا كَأَبِي عَمْرٍو. وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشُ يَفْسُقُونَ بِكَسْرِ السِّينِ.
قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحى إِلَيَّ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْ لَا أَدَّعِي مَا يُسْتَبْعَدُ فِي الْعُقُولِ أَنْ يَكُونَ لِبَشَرٍ مِنْ مِلْكِ خَزَائِنِ اللَّهِ وَهِيَ قَسْمُهُ بَيْنَ الْخَلْقِ وَأَرْزَاقُهُ وَعِلْمِ الْغَيْبِ، وَأَنِّي مِنَ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ هُمْ أَشْرَفُ جِنْسٍ خَلَقَهُ اللَّهُ وَأَفْضَلُهُ وَأَقْرَبُهُ مَنْزِلَةً مِنْهُ، أَيْ لَمْ أَدَّعِ الْأُلُوهِيَّةَ وَلَا الْمَلَكِيَّةَ لِأَنَّهُ لَيْسَ بَعْدَ الْإِلَهِيَّةِ مَنْزِلَةٌ أَرْفَعُ مِنْ مَنْزِلَةِ الْمَلَائِكَةِ حَتَّى تَسْتَبْعِدُونَ دَعْوَايَ وَتَسْتَنْكِرُونَهَا، وَإِنَّمَا أَدَّعِي مَا كَانَ مِثْلُهُ لِكَثِيرٍ مِنَ الْبَشَرِ وَهُوَ النُّبُوَّةُ، انْتَهَى. وَمَا قَالَهُ: مِنْ أَنَّ الْمَعْنَى إِنِّي أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي لست بإله فأنصف بِصِفَاتِهِ مِنْ كَيْنُونَةِ خَزَائِنِهِ عِنْدِي وَعِلْمِ الْغَيْبِ، وَهُوَ قَوْلُ الطَّبَرِيِّ، وَالْأَظْهَرُ
517
أَنَّهُ يُرِيدُ أَنَّهُ بَشَرٌ لَا شَيْءَ عِنْدَهُ مِنْ خَزَائِنِ اللَّهِ وَلَا مِنْ قُدْرَتِهِ وَلَا يَعْلَمُ شَيْئًا مِمَّا غَابَ عَنْهُ قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَأَمَّا قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي الْمَلَائِكَةِ هُمْ أَشْرَفُ جِنْسٍ خَلَقَهُ اللَّهُ وَأَفْضَلُهُ وَأَقْرَبُهُ مَنْزِلَةً فَهُوَ جَارٍ عَلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ مِنْ أَنَّ الْمَلَكَ أَفْضَلُ خَلْقِ اللَّهِ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْجُبَّائِيُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ أَفْضَلُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ قَالَ: لِأَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ لَا أَدَّعِي مَنْزِلَةً فَوْقَ مَنْزِلَتِي فَلَوْلَا أَنَّ الْمَلَكَ أَفْضَلُ لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ. قَالَ الْقَاضِي: إِنْ كَانَ الْغَرَضُ مِمَّا نَفَى طَرِيقَةَ التَّوَاضُعِ فَالْأَقْرَبُ أَنْ يَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْمَلَكَ أَفْضَلُ وَإِنْ كَانَ نَفْيُ قُدْرَتِهِ عَنْ أَفْعَالٍ لَا يَقْوَى عَلَيْهَا إِلَّا الْمَلَائِكَةُ لَمْ يَدُلَّ عَلَى كَوْنِهِمْ أَفْضَلَ انْتَهَى.
وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ: لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ
«١». وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
وَتُعْطِي قُوَّةُ اللَّفْظِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْمَلَكَ أَفْضَلُ مِنَ الْبَشَرِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِلَازِمٍ مِنْ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَإِنَّمَا الَّذِي يَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّ الْمَلَكَ أَعْظَمُ مَوْقِعًا فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَقْرَبُ إِلَى اللَّهِ وَالتَّفْضِيلُ يُعْطِيهِ الْمَعْنَى عَطَاءً خَفِيًّا وَهُوَ ظَاهِرٌ مِنْ آيَاتٍ أُخَرَ وَهِيَ مَسْأَلَةُ خِلَافٍ، وما يُوحى يُرِيدُ بِهِ الْقُرْآنَ وَسَائِرَ مَا يَأْتِي بِهِ الْمَلَكُ أَيْ فِي ذَلِكَ عِبَرٌ وَآيَاتٌ لِمَنْ تَأَمَّلَ وَنَظَرَ انْتَهَى. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: خَزائِنُ اللَّهِ مَقْدُورَاتُهُ مِنْ إِغْنَاءِ الْفَقِيرِ وَإِفْقَارِ الْغَنِيِّ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الرَّحْمَةُ وَالْعَذَابُ. وَقِيلَ: آيَاتُهُ. وَقِيلَ: مَجْمُوعُ هَذَا لِقَوْلِهِ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ «٢».
قِيلَ: وَهَذِهِ الثَّلَاثُ جَوَابٌ لِمَا سَأَلَهُ الْمُشْرِكُونَ، فَالْأَوَّلُ جَوَابٌ لِقَوْلِهِمْ: إِنْ كُنْتَ رَسُولًا فَاسْأَلِ اللَّهَ حَتَّى يُوَسِّعَ عَلَيْنَا خَزَائِنَ الدُّنْيَا، وَالثَّانِي: جَوَابٌ لِقَوْلِهِمْ إِنْ كُنْتَ رَسُولًا فَأَخْبِرْنَا بِمَا يَقَعُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنَ الْمَصَالِحِ وَالْمَضَارِّ فَنَسْتَعِدَّ لِتَحْصِيلِ تِلْكَ وَدَفْعِ هَذِهِ، وَالثَّالِثُ:
جواب قولهم: مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ؟ انْتَهَى.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ (فَإِنْ قُلْتَ) : أَعْلَمُ الْغَيْبَ مَا مَحَلُّهُ مِنَ الْإِعْرَابِ؟ قُلْتُ: النَّصْبُ عَطْفًا عَلَى مَحَلِّ قَوْلِهِ: خَزائِنُ اللَّهِ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَقُولِ كَأَنَّهُ قَالَ: لَا أَقُولُ لَكُمْ هَذَا الْقَوْلَ وَلَا هَذَا الْقَوْلَ انْتَهَى. وَلَا يَتَعَيَّنُ مَا قَالَهُ، بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى لَا أَقُولُ لَا مَعْمُولٌ لَهُ فَهُوَ أُمِرَ أَنْ يُخْبِرَ عَنْ نَفْسِهِ بِهَذِهِ الْجُمَلِ الثَّلَاثِ فَهِيَ مَعْمُولَةٌ لِلْأَمْرِ الَّذِي هُوَ قُلْ وَغَايَرَ فِي مُتَعَلِّقِ النَّفْيِ فَنَفَى قَوْلَهُ: عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَقَوْلَهُ: إِنِّي مَلَكٌ وَنَفَى عِلْمَ الْغَيْبِ وَلَمْ يَأْتِ التَّرْكِيبُ. وَلَا أَقُولُ: إِنِّي أَعْلَمُ الْغَيْبَ لِأَنَّ كَوْنَهُ لَيْسَ عِنْدَهُ خَزائِنُ اللَّهِ مِنْ أَرْزَاقِ الْعِبَادِ وَقَسْمِهِمْ مَعْلُومٌ ذَلِكَ لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ فَنَفَى ادِّعَاءَهُ ذَلِكَ وَكَوْنَهُ بِصُورَةِ الْبَشَرِ معلوم
(١) سورة النساء: ٤/ ١٦٦.
(٢) سورة الحجر: ١٥/ ٢١.
518
أَيْضًا لِمَعْرِفَتِهِمْ بِوِلَادَتِهِ وَنَشْأَتِهِ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، فَنَفَى أَيْضًا ادِّعَاءَهُ ذَلِكَ وَلَمْ يَنْفِهِمَا مَنْ أَصِلِهِمَا لِأَنَّ انْتِفَاءَ ذَلِكَ مِنْ أَصْلِهِ مَعْلُومٌ عِنْدَهُمْ، فَنَفَى أَنْ يُكَابِرَهُمْ فِي ادِّعَاءِ شَيْءٍ يَعْلَمُونَ خِلَافَهُ قَطْعًا. وَلَمَّا كَانَ عِلْمُ الْغَيْبِ أَمْرًا يُمْكِنُ أَنْ يَظْهَرَ عَلَى لِسَانِ الْبَشَرِ بَلْ قَدْ يَدَّعِيهِ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ كَالْكُهَّانِ وَضُرَّابِ الرَّمْلِ وَالْمُنَجِّمِينَ، وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَخْبَرَ بِأَشْيَاءَ مِنَ الْمُغَيَّبَاتِ وَطَابَقَتْ مَا أَخْبَرَ بِهِ نَفَى عِلْمَ الْغَيْبِ مِنْ أَصْلِهِ فَقَالَ: وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ تَنْصِيصًا عَلَى مَحْضِ الْعُبُودِيَّةِ وَالِافْتِقَارِ. وَأَنَّ مَا صَدَرَ عَنْهُ مِنْ إِخْبَارٍ بِغَيْبٍ إِنَّمَا هُوَ مِنَ الْوَحْيِ الْوَارِدِ عَلَيْهِ لَا مِنْ ذَاتِ نَفْسِهِ، فَقَالَ: إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحى إِلَيَّ كَمَا قَالَ فِيمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ «١» وَكَمَا أُثِرَ
عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ «لَا أَعْلَمُ مَا وَرَاءَ هَذَا الْجِدَارِ إِلَّا أَنْ يُعْلِمَنِي رَبِّي»
، وَجَاءَ هَذَا النَّفْيُ عَلَى سَبِيلِ التَّرَقِّي فنفى أولا ما يتعلق بِهِ رَغَبَاتُ النَّاسِ أَجْمَعِينَ مِنَ الْأَرْزَاقِ الَّتِي هِيَ قِوَامُ الْحَيَاةِ الْجُسْمَانِيَّةِ، ثُمَّ نفى ثانيا ما يتعلق بِهِ وَتَتَشَوَّفُ إِلَيْهِ النُّفُوسُ الْفَاضِلَةُ مِنْ مَعْرِفَةِ مَا يَجْهَلُونَ وَتَعَرُّفِ مَا يَقَعُ مِنَ الْكَوَائِنِ ثُمَّ نَفَى ثَالِثًا مَا هُوَ مُخْتَصٌّ بِذَاتِهِ مِنْ صِفَةِ الْمَلَائِكَةِ الَّتِي هِيَ مُبَايِنَةٌ لِصِفَةِ الْبَشَرِيَّةِ فَتَرَقَّى فِي النَّفْيِ مِنْ عَامٍّ إِلَى خَاصٍّ إِلَى أَخَصَّ، ثُمَّ حَصَرَ مَا هُوَ عَلَيْهِ فِي أَحْوَالِهِ كُلِّهَا بِقَوْلِهِ: إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحى إِلَيَّ أَيْ أَنَا مُتَّبِعٌ مَا أَوْحَى اللَّهُ غَيْرُ شَارِعٍ شَيْئًا مِنْ جِهَتِي، وَظَاهِرُهُ حُجَّةٌ لِنُفَاةِ الْقِيَاسِ.
قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَيْ لَا يَسْتَوِي النَّاظِرُ الْمُفَكِّرُ فِي الْآيَاتِ وَالْمُعْرِضُ الْكَافِرُ الَّذِي يُهْمِلُ النَّظَرَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْكَافِرُ وَالْمُؤْمِنُ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ:
الضَّالُّ وَالْمُهْتَدِي. وَقِيلَ: الْجَاهِلُ وَالْعَالِمُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَثَلٌ لِلضُّلَّالِ وَالْمُهْتَدِينَ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَثَلًا لِمَنِ اتَّبَعَ مَا يُوحَى إِلَيْهِ وَمَنْ لَمْ يَتَّبِعْ أَوْ لِمَنِ ادَّعَى الْمُسْتَقِيمَ، وَهُوَ النُّبُوَّةُ وَالْمُحَالَ وَهُوَ الْأُلُوهِيَّةُ وَالْمَلَكِيَّةُ.
أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ هَذَا عَرْضٌ وَتَحْضِيضٌ مَعْنَاهُ الْأَمْرُ أَيْ فَفَكِّرُوا وَلَا تَكُونُوا ضَالِّينَ أَشْبَاهَ الْعُمْيِ أَوْ فكروا فتعلمون، أي لَا أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ أَوْ فَتَعْلَمُونَ أَنِّي لَا أَدَّعِي مَا لَا يَلِيقُ بِالْبَشَرِ.
وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَمَّا أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيْهِ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُنْذِرَ بِهِ فَقَالَ: وَأَنْذِرْ بِهِ أَيْ بِمَا أُوحِيَ إِلَيْكَ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى اللَّهِ أَيْ بِعَذَابِ اللَّهِ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الْحَشْرِ وَهُوَ مَأْمُورٌ بِإِنْذَارِ الْخَلَائِقِ كُلِّهِمْ وَإِنَّمَا خَصَّ بِالْإِنْذَارِ هُنَا مَنْ خَافَ الْحَشْرَ لِأَنَّهُ مَظِنَّةُ الْإِيمَانِ، وَكَأَنَّهُ قِيلَ: الْكَفَرَةُ الْمُعْرِضُونَ دَعْهُمْ ورأيهم وأنذر
(١) سورة الأعراف: ٧/ ١٨٨.
519
بِالْقُرْآنِ مَنْ يُرْجَى إِيمَانُهُ. وَرَوَى أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْمَوَالِي مِنْهُمْ بِلَالٌ وَصُهَيْبٌ وَخَبَّابٌ وَعَمَّارٌ وَمِهْجَعٌ وَسَلْمَانُ وَعَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ وَسَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ عُمُومُ مَنْ خَافَ الْحَشْرَ وَآمَنَ بِالْبَعْثِ مِنْ مُسْلِمٍ وَيَهُودِيٍّ وَنَصْرَانِيٍّ فَلَا يَتَخَصَّصُ بِالْمُسْلِمِينَ الْمُقِرِّينَ بِالْبَعْثِ إِلَّا أَنَّهُمْ مُفَرِّطُونَ فِي الْعَمَلِ فَيُنْذِرُهُمْ بِمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ، أَيْ يَدْخُلُونَ فِي زُمْرَةِ أَهْلِ التَّقْوَى وَلَا بِأَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا بِنَاسٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ عُلِمَ مِنْ حَالِهِمْ أَنَّهُمْ يَخَافُونَ إِذَا سَمِعُوا بِحَدِيثِ الْبَعْثِ أَنْ يَكُونَ حَقًّا فَيَهْلَكُوا، فَهُمْ مِمَّنْ يُرْجَى أَنْ يَنْجَعَ فِيهِمُ الْإِنْذَارُ دُونَ الْمُتَمَرِّدِينَ مِنْهُمْ ويَخافُونَ بَاقٍ عَلَى حَقِيقَتِهِ أَيْ يَخَافُونَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْحَشْرِ مِنْ مُؤَاخَذَتِهِمْ بِذُنُوبِهِمْ، وَأَمَّا الْحَشْرُ فَمُتَحَقِّقٌ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: يَخافُونَ هُنَا يَعْلَمُونَ وَمَعْنَى إِلى رَبِّهِمْ أَيْ إِلَى جَزَاءِ رَبِّهِمْ أَيْ مَوْعُودِهِ وَقَدْ تَعَلَّقَ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْمُجَسِّمَةُ بِأَنَّ اللَّهَ فِي حَيِّزٍ وَمَكَانٍ مُخْتَصٍّ وَجِهَةٍ مُعَيَّنَةٍ لِأَنَّ كَلِمَةَ إِلَى لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ.
لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ يُحْشَرُوا بِمَعْنَى يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا غَيْرَ مَنْصُورِينَ وَلَا مَشْفُوعًا لَهُمْ وَلَا بُدَّ مِنْ هَذِهِ الْحَالِ، لِأَنَّ كُلًّا مَحْشُورٌ فَالْخَوْفُ إِنَّمَا هُوَ الْحَشْرُ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِنْ جَعَلْنَاهُ دَاخِلًا فِي الْخَوْفِ كَانَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَيْ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا فِي حَالِ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ وَلَا شَفِيعَ فَهِيَ مُخْتَصَّةٌ بِالْمُؤْمِنِينَ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى يَزْعُمُونَ أَنَّ لَهُمْ شُفَعَاءَ وَأَنَّهُمْ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَنَحْوُ هَذَا مِنَ الْأَبَاطِيلِ وَإِنْ جَعَلْنَاهُ إِخْبَارًا مِنَ اللَّهِ عَنْ صِفَةِ الْحَالِ يَوْمَئِذٍ فَهِيَ عَامَّةٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ.
لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ تَرْجِئَةٌ لِحُصُولِ تَقْوَاهُمْ إِذَا حَصَلَ الْإِنْذَارُ.
وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ قَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ: نَزَلَتْ فِينَا سِتَّةً فِيَّ وَفِي ابْنِ مَسْعُودٍ وَصُهَيْبٍ وَعَمَّارٍ وَالْمِقْدَادِ وَبِلَالٍ قَالَتْ قُرَيْشٌ: إِنَّا لَا نَرْضَى أَنْ نَكُونَ لِهَؤُلَاءِ تَبَعًا فَاطْرُدْهُمْ عَنْكَ فَنَزَلَتْ.
وَقَالَ خَبَّابُ بْنُ الْأَرَتِّ: فِينَا نَزَلَتْ كُنَّا ضُعَفَاءَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُنَا بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ مَا يَنْفَعُنَا، فَقَالَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ وَعُيَيْنَةُ بْنُ حُصَيْنٍ: إِنَّا مِنْ أَشْرَافِ قَوْمِنَا وَإِنَّا نَكْرَهُ أَنْ يَرَوْنَا مَعَهُمْ فَاطْرُدْهُمْ إِذَا جَالَسْنَاكَ فَنَزَلَتْ، فَأَتَيْنَاهُ وَهُوَ يَقُولُ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ فَدَنَوْنَا مِنْهُ حَتَّى وَضَعْنَا رُكَبَنَا عَلَى رُكْبَتِهِ وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ، لِأَنَّ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ وَهَؤُلَاءِ الْأَشْرَافُ لَمْ يُنْذَرُوا إِلَّا بِالْمَدِينَةِ.
520
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ خَبَّابٍ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَقُومَ قَامَ وَتَرَكَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ «١» الْآيَةَ. فَكَانَ يَقْعُدُ مَعَنَا فَإِذَا بَلَغَ الْوَقْتَ الَّذِي يَقُومُ فِيهِ قُمْنَا وَتَرَكْنَاهُ حَتَّى يَقُومَ.
وَرَوَى الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ نَاسًا مِنَ الْأَشْرَافِ قَالُوا: نُؤْمِنُ بِكَ وَإِذَا صَلَّيْنَا خَلْفَكَ فَأَخِّرْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ مَعَكَ فَيُصَلُّوا خَلْفَنَا فَيَكُونُ الطَّرْدُ تَأَخُّرَهُمْ مِنَ الصَّفِّ لَا طَرْدَهُمْ مِنَ الْمَجْلِسِ.
وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْأَسْبَابُ بِزِيَادَةٍ وَنَقْصٍ وَمَضْمُونُهَا أَنَّ نَاسًا مِنْ أَشْرَافِ الْعَرَبِ سَأَلُوا مِنَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَرْدَ فُقَرَاءِ الْمُؤْمِنِينَ عَنْهُ فَنَزَلَتْ
، وَلَمَّا أَمَرَ تَعَالَى بِإِنْذَارِ غَيْرِ الْمُتَّقِينَ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَرْدَفَ ذَلِكَ بِتَقْرِيبِ الْمُتَّقِينَ وَإِكْرَامِهِمْ وَنَهَاهُ عَنْ طَرْدِهِمْ وَوَصَفَهُمْ بِمُوَافَقَةِ ظَاهِرِهِمْ لِبَاطِنِهِمْ مِنْ دُعَاءِ رَبِّهِمْ وَخُلُوصِ نِيَّاتِهِمْ، وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:
يَدْعُونَ رَبَّهُمْ يَسْأَلُونَهُ وَيَلْجَأُونَ إِلَيْهِ وَيَقْصِدُونَهُ بِالدُّعَاءِ وَالرَّغْبَةِ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ كِنَايَةٌ عَنِ الزَّمَانِ الدَّائِمِ وَلَا يُرَادُ بِهِمَا خُصُوصُ زَمَانِهِمَا كَمَا تَقُولُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا تُرِيدُ فِي كُلِّ حَالٍ فَكَنَّى بِالْغَدَاةِ عَنِ النَّهَارِ وَبِالْعَشِيِّ عَنِ اللَّيْلِ، أَوْ خَصَّهُمَا بِالذِّكْرِ لِأَنَّ الشُّغْلَ فِيهِمَا غَالِبٌ عَلَى النَّاسِ وَمَنْ كَانَ فِي هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ يَغْلِبُ عَلَيْهِ ذِكْرُ اللَّهِ وَدُعَاؤُهُ كَانَ فِي وَقْتِ الْفَرَاغِ أَغْلَبَ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالدُّعَاءِ الصَّلَاةُ الْمَكْتُوبَةُ. فَقَالَ الْحَسَنُ وَمُقَاتِلٌ: هِيَ الصَّلَاةُ بِمَكَّةَ الَّتِي كَانَتْ مَرَّتَيْنِ فِي الْيَوْمِ بُكْرَةً وَعَشِيًّا. وَقَالَ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ: فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ هِيَ صَلَاةُ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ ومجاهد فِي رِوَايَةٍ وَإِبْرَاهِيمُ: هِيَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ. وَقَالَ بَعْضُ الْقُصَّاصِ: إِنَّهُ الِاجْتِمَاعُ إِلَيْهِمْ غَدْوَةً وَعَشِيًّا فَأَنْكَرَ ذَلِكَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي عَمْرَةَ وَغَيْرُهُمَا، وقالوا: إلا الْآيَةُ فِي الصَّلَوَاتِ فِي الْجَمَاعَةِ.
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: هِيَ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ وَتَعَلُّمُهُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْعِبَادَةُ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ فِي رِوَايَةٍ:
ذِكْرُ اللَّهِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: دُعَاءُ اللَّهِ تَعَالَى بِالتَّوْحِيدِ وَالْإِخْلَاصِ وَعِبَادَتُهُ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالْغَداةِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَمَالِكُ بْنُ دِينَارٍ وَالْحَسَنُ وَنَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ وَأَبُو رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيُّ بِالْغُدْوَةِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَيْضًا بِالْغُدُوِّ بِغَيْرِ هَاءٍ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: بِالْغُدْوَاتِ وَالْعَشِيَّاتِ بِالْأَلِفِ فِيهِمَا عَلَى الْجَمْعِ، وَالْمَشْهُورُ فِي غُدْوَةَ أَنَّهَا مُعَرَّفَةٌ بِالْعَلَمِيَّةِ مَمْنُوعَةُ الصَّرْفِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: سَمِعْتُ أَبَا الْجَرَّاحِ يَقُولُ: مَا رَأَيْتُ كَغَدْوَةَ قَطُّ يُرِيدُ غَدَاةَ يَوْمِهِ، قَالَ: أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَرَبَ لَا تُضِيفُهَا فَكَذَا لَا تَدْخُلُهَا الْأَلِفُ وَاللَّامُ إِنَّمَا يَقُولُونَ: جِئْتُكَ غَدَاةَ الْخَمِيسِ انْتَهَى. وَحَكَى سِيبَوَيْهِ وَالْخَلِيلُ أَنَّ بَعْضَهُمْ يُنَكِّرُهَا فَيَقُولُ: رَأَيْتُهُ غَدْوَةً بِالتَّنْوِينِ وَعَلَى هَذِهِ اللُّغَةِ قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ وَتَكُونُ إِذْ ذاك كفينة.
(١) سورة الكهف: ١٨/ ٢٨.
521
حَكَى أَبُو زَيْدٍ: لَقِيتُهُ فَيْنَةَ غَيْرَ مَصْرُوفٍ وَلَقِيتُهُ الْفَيْنَةَ بَعْدَ الْفَيْنَةِ أَيِ الْحِينَ بَعْدَ الْحِينِ وَلَمَّا خَفِيَتْ هَذِهِ اللُّغَةُ عَلَى أَبِي عُبَيْدٍ أَسَاءَ الظَّنَّ بِمَنْ قَرَأَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ فَقَالَ: إِنَّمَا نَرَى ابْنَ عَامِرٍ وَالسُّلَمِيَّ قَرَآ تِلْكَ الْقِرَاءَةَ اتِّبَاعًا لِلْخَطِّ وَلَيْسَ فِي إِثْبَاتِ الْوَاوِ فِي الْكِتَابِ دَلِيلٌ عَلَى الْقِرَاءَةِ بِهَا، لِأَنَّهُمْ كَتَبُوا الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ بِالْوَاوِ وَلَفْظُهُمَا عَلَى تَرْكِهَا وَكَذَلِكَ الْغَدَاةُ عَلَى هَذَا وَجَدْنَا الْعَرَبَ انْتَهَى. وَهَذَا مِنْ أَبِي عُبَيْدٍ جَهْلٌ بِهَذِهِ اللُّغَةِ الَّتِي حَكَاهَا سِيبَوَيْهِ وَالْخَلِيلُ وَقَرَأَ بِهَا هَؤُلَاءِ الْجَمَاعَةُ وَكَيْفَ يُظَنُّ بِهَؤُلَاءِ الْجَمَاعَةِ الْقُرَّاءِ أنهم إنما قرؤوا بِهَا لِأَنَّهَا مَكْتُوبَةٌ فِي الْمُصْحَفِ بِالْوَاوِ وَالْقِرَاءَةُ إِنَّمَا هِيَ سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ وَأَيْضًا فَابْنُ عَامِرٍ عَرَبِيٌّ صَرِيحٌ كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَ أَنْ يُوجَدَ اللَّحْنُ لِأَنَّهُ قَرَأَ الْقُرْآنَ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَنَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ أَحَدُ الْعَرَبِ الْأَئِمَّةِ فِي النَّحْوِ، وَهُوَ مِمَّنْ أَخَذَ عِلْمَ النَّحْوِ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيِّ مُسْتَنْبِطِ عِلْمِ النَّحْوِ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ مِنَ الْفَصَاحَةِ بِحَيْثُ يُسْتَشْهَدُ بِكَلَامِهِ فَكَيْفَ يُظَنُّ بِهَؤُلَاءِ أَنَّهُمْ لَحَنُوا؟ انْتَهَى.
وَاغْتَرُّوا بِخَطِّ الْمُصْحَفِ وَلَكِنْ أَبُو عُبَيْدَةَ جَهِلَ هَذِهِ اللُّغَةَ وَجَهِلَ نَقْلَ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فَتَجَاسَرَ عَلَى رَدِّهَا عَفَا اللَّهُ عَنْهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْعَشِيَّ مُرَادِفٌ لِلْعَشِيَّةِ أَلَا تَرَى قَوْلَهُ: إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ «١». وَقِيلَ: هُوَ جَمْعُ عَشِيَّةٍ وَمَعْنَى يُرِيدُونَ وَجْهَهُ يُخْلِصُونَ نِيَّاتِهِمْ لَهُ فِي عِبَادَتِهِمْ وَيُعَبَّرُ عَنْ ذَاتِ الشَّيْءِ وَحَقِيقَتِهِ بِالْوَجْهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَطْلُبُونَ ثَوَابَ اللَّهِ وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ: وَجْهَهُ مَنْ أَثْبَتَ الْأَعْضَاءِ لِلَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا.
مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ قَالَ الْحَسَنُ وَالْجُمْهُورُ: الْحِسَابُ هُنَا حِسَابُ الْأَعْمَالِ. وَقِيلَ: حِسَابُ الْأَرْزَاقِ أَيْ لَا تَرْزُقُهُمْ وَلَا يَرْزُقُونَكَ حَكَاهُ الطَّبَرِيُّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَقَوْلِهِ: إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي «٢» وَذَلِكَ أَنَّهُمْ طَعَنُوا فِي دِينِهِمْ وَإِخْلَاصِهِمْ فَقَالَ: مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ بَعْدَ شَهَادَتِهِ لَهُمْ بِالْإِخْلَاصِ وَبِإِرَادَةِ وَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَعْمَالِهِمْ وَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا يَقُولُونَ عِنْدَ اللَّهِ، فَمَا يَلْزَمُكَ إِلَّا اعْتِبَارُ الظَّاهِرِ وَالِاتِّسَامُ بِسِيرَةِ الْمُتَّقِينَ وَإِنْ كَانَ لَهُمْ بَاطِنٌ غَيْرُ مَرْضِيٍّ فَحِسَابُهُمْ عَلَيْهِمْ لَازِمٌ لَهُمْ لَا يَتَعَدَّاهُمْ إِلَيْكَ، كَمَا أَنَّ حِسَابَكَ عَلَيْكَ لَا يَتَعَدَّاكَ إِلَيْهِمْ كَقَوْلِهِ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى «٣» انْتَهَى. وَلَا يُمْكِنُ مَا ذَكَرَهُ مِنَ التَّرْدِيدِ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ إِلَى آخِرِهِ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ بِأَنَّهُمْ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَإِخْبَارُ الله
(١) سورة ص: ٣٨/ ٣١.
(٢) سورة الشعراء: ٢٦/ ١١٣.
(٣) سورة الأنعام: ٦/ ١٦٤.
522
تَعَالَى هُوَ الصِّدْقُ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ فَلَا يُقَالُ فِيهِمْ وَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا يَقُولُونَ وَإِنْ كان لهم باطن غير مَرَضِيٍّ لِأَنَّهُ فَرْضٌ مُخَالِفٌ لِمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنَ خُلُوصِ بَوَاطِنِهِمْ ونياتهم له تَعَالَى.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : مَا كَفَى قَوْلُهُ: مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى ضُمَّ إِلَيْهِ ما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ (قُلْتُ) : قَدْ جُعِلَتِ الْجُمْلَتَانِ بِمَنْزِلَةِ جُمْلَةٍ وَاحِدَةٍ وَقَصْدُهُمَا مُؤَدَّى وَاحِدٌ وَهُوَ الْمَعْنِيُّ فِي قَوْلِهِ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَلَا يَسْتَقِلُّ بِهَذَا الْمَعْنَى إِلَّا الْجُمْلَتَانِ جَمِيعًا كَأَنَّهُ قِيلَ: لَا تُؤَاخَذُ أَنْتَ وَلَا هُمْ بِحِسَابِ صَاحِبِهِ انْتَهَى.
وَقَوْلُهُ: كَأَنَّهُ قِيلَ لَا تُؤَاخَذُ أَنْتَ وَلَا هُمْ بِحِسَابِ صَاحِبِهِ تَرْكِيبٌ غَيْرُ عَرَبِيٍّ، لَا يَجُوزُ عَوْدُ الضَّمِيرِ هُنَا غَائِبًا وَلَا مُخَاطَبًا لِأَنَّهُ إِنْ أُعِيدَ غَائِبًا فَلَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ اسْمٌ مُفْرَدٌ غَائِبٌ يَعُودُ عَلَيْهِ، إِنَّمَا يَتَقَدَّمُ قوله: ولاهم وَلَا يُمْكِنُ الْعَوْدُ إِلَيْهِ عَلَى اعْتِقَادِ الِاسْتِغْنَاءِ بِالْمُفْرَدِ عَنِ الْجَمْعِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ التَّرْكِيبُ بِحِسَابِ صَاحِبِهِمْ وَإِنْ أُعِيدَ مُخَاطِبًا فَلَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ مُخَاطَبٌ يَعُودُ عَلَيْهِ إِنَّمَا تَقَدَّمَ قَوْلُهُ: لَا تُؤَاخَذُ أَنْتَ، وَلَا يُمْكِنُ الْعَوْدُ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ مُخَاطَبٌ فَلَا يَعُودُ عَلَيْهِ غَائِبًا وَلَوْ أَبْرَزْتَهُ مُخَاطَبًا لَمْ يَصِحَّ التَّرْكِيبُ أَيْضًا وَإِصْلَاحُ هَذَا التَّرْكِيبِ أَنْ يُقَالَ: لَا يُؤَاخَذُ كُلُّ وَاحِدٍ منك وَلَا مِنْهُمْ بِحِسَابِ صَاحِبِهِ أَوْ لَا تُؤَاخَذُ أَنْتَ بِحِسَابِهِمْ وَلَا هُمْ بِحِسَابِكَ، أَوْ لَا تُؤَاخَذُ أَنْتَ وَلَا هُمْ بِحِسَابِكُمْ فَتُغَلِّبُ الخطاب على الغيبة كَمَا تَقُولُ أَنْتَ وَزَيْدٌ تَضْرِبَانِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمَائِرَ كُلَّهَا عَائِدَةٌ عَلَى الَّذِينَ يَدْعُونَ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي مِنْ حِسابِهِمْ وَفِي عَلَيْهِمْ عَائِدٌ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَتَكُونُ الْجُمْلَتَانِ اعْتِرَاضًا بَيْنَ النَّهْيِ وَجَوَابِهِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
وَالْمَعْنَى لَا يُؤَاخَذُونَ بِحِسَابِكَ وَلَا أَنْتَ بِحِسَابِهِمْ حَتَّى يَهُمَّكَ إِيمَانُهُمْ وَيُحَرِّكَكَ الْحِرْصُ عَلَيْهِ إِلَى أَنْ تَطْرُدَ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي حِسابِهِمْ وعَلَيْهِمْ لِلْكُفَّارِ الَّذِينَ أَرَادُوا طَرْدَ الْمُؤْمِنِينَ أَيْ مَا عَلَيْكَ مِنْهُمْ آمَنُوا وَلَا كَفَرُوا فَتَطْرُدَ هَؤُلَاءِ رَعْيًا بِذَلِكَ، وَالضَّمِيرُ فِي تَطْرُدَهُمْ عَائِدٌ عَلَى الضَّعَفَةِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ أَنَّ مَا بَعْدَ الْفَاءِ أَبَدًا سَبَبُ مَا قَبْلَهَا وَذَلِكَ لَا يَبِينُ إِذَا كَانَتِ الضَّمَائِرُ كُلُّهَا لِلْمُؤْمِنِينَ. وَحَكَى الطَّبَرِيُّ أَنَّ الْحِسَابَ هُنَا إِنَّمَا هُوَ فِي رِزْقِ الدُّنْيَا أَيْ لَا تَرْزُقُهُمْ وَلَا يَرْزُقُونَكَ، قَالَ: فَعَلَى هَذَا تَجِيءُ الضَّمَائِرُ كُلُّهَا لِلْمُؤْمِنِينَ انْتَهَى.
ومِنْ فِي مِنْ حِسابِهِمْ وَفِي مِنْ حِسابِكَ مُبَعِّضَةٌ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ فِي مِنْ حِسابِهِمْ وَذُو الْحَالِ هُوَ مِنْ شَيْءٍ لِأَنَّهُ لَوْ تَأَخَّرَ مِنْ حِسَابِهِمْ لَكَانَ فِي مَوْضِعِ النَّعْتِ لِشَيْءٍ فَلَمَّا تَقَدَّمَ انْتَصَبَ عَلَى الحال وعَلَيْكَ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ لِمَا إِنْ كَانَتْ حِجَازِيَّةً، وَأَجَزْنَا تَوَسُّطَ خَبَرِهَا إِذَا كَانَتْ ظَرْفًا أَوْ مَجْرُورًا وَفِي مَوْضِعِ خَبَرِ
523
الْمُبْتَدَإِ إِنْ لَمْ نُجِزْ ذَلِكَ أَوِ اعْتَقَدْنَا أَنَّ مَا تَمِيمِيَّةٌ وَأَمَّا فِي مِنْ حِسابِكَ فَقِيلَ: هُوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ وَيَضْعُفُ ذَلِكَ بِأَنَّ الْحَالَ إِذَا كَانَ الْعَامِلُ فِيهَا مَعْنَى الْفِعْلِ لَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُهَا عَلَيْهِ خُصُوصًا إِذَا تَقَدَّمَتْ عَلَى الْعَامِلِ وَعَلَى ذِي الْحَالِ. وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ مِنْ حِسابِكَ وعَلَيْهِمْ. صِفَةً لِشَيْءٍ تَقَدَّمَتْ عَلَيْهِ فَانْتَصَبَ عَلَى الْحَالِ وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ عَلَيْهِمْ هُوَ مَحَطُّ الْفَائِدَةِ فَتَرَجَّحَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْخَبَرَ وَيَكُونُ مِنْ حِسابِكَ عَلَى هَذَا تنبيا لَا حَالًا وَلَا خَبَرًا وَانْظُرْ إِلَى حُسْنِ اعْتِنَائِهِ تعالى بِنَبِيِّهِ وَتَشْرِيفِهِ بِخِطَابِهِ حَيْثُ بَدَأَ بِهِ فِي الْجُمْلَتَيْنِ مَعًا فَقَالَ: مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ قَالَ: وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَقَدَّمَ خِطَابُهُ فِي الْجُمْلَتَيْنِ وَكَانَ مُقْتَضَى التَّرْكِيبِ الْأَوَّلِ لَوْ لُوحِظَ أَنْ يَكُونَ التَّرْكِيبُ الثَّانِي وَمَا عَلَيْهِمْ مِنْ حِسَابِكَ مِنْ شَيْءٍ لَكِنَّهُ قَدَّمَ خِطَابَ الرَّسُولِ وَأَمْرَهُ تَشْرِيفًا لَهُ عَلَيْهِمْ وَاعْتِنَاءً بِمُخَاطَبَتِهِ وَفِي هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ رَدُّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَلَيْسَ الَّذِي حَلَّلْتَهُ بِمُحَلَّلٍ وَلَيْسَ الَّذِي حَرَّمْتَهُ بِمُحَرَّمِ
فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ الظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: فَتَطْرُدَهُمْ جَوَابٌ لِقَوْلِهِ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ يكون النَّصْبُ هُنَا عَلَى أَحَدِ معنى النَّصْبِ فِي قَوْلِكَ: مَا تَأْتِينَا فَتُحَدِّثَنَا لِأَنَّ أَحَدَ معنى هَذَا مَا تَأْتِينَا مُحَدِّثًا إِنَّمَا تَأْتِي وَلَا تُحَدِّثُ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَصِحُّ فِي الْآيَةِ وَالْمَعْنَى الثَّانِي مَا تَأْتِينَا فَكَيْفَ تُحَدِّثُنَا؟ أَيْ لَا يَقَعُ هَذَا فَكَيْفَ يَقَعُ هَذَا وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي يَصِحُّ فِي الْآيَةِ أَنْ لَا يَكُونَ حِسَابُهُمْ عَلَيْكَ فَيَكُونَ وَقْعُ الطَّرْدِ، وَأَطْلَقُوا جَوَابَ أَنْ يَكُونَ فَتَطْرُدَهُمْ جَوَابًا لِلنَّفْيِ وَلَمْ يُبَيِّنُوا كَيْفِيَّةَ وُقُوعِهِ جَوَابًا وَالظَّاهِرُ فِي قَوْلِهِ: فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى فَتَطْرُدَهُمْ وَالْمَعْنَى الْإِخْبَارُ بِانْتِفَاءِ حِسَابِهِمْ وَانْتِفَاءِ الطَّرْدِ وَالظُّلْمِ الْمُتَسَبِّبِ عَنِ الطَّرْدِ، وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ فَتَكُونَ جَوَابًا لِلنَّهْيِ فِي قَوْلِهِ:
وَلا تَطْرُدِ كَقَوْلِهِ: لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ «١» وَتَكُونُ الْجُمْلَتَانِ وَجَوَابُ الْأَوْلَى اعْتِرَاضًا بَيْنَ النَّهْيِ وَجَوَابِهِ، وَمَعْنَى مِنَ الظَّالِمِينَ مِنَ الَّذِينَ يَضَعُونَ الشَّيْءَ فِي غير مواضعه.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٥٣ الى ٥٨]
وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (٥٣) وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٤) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (٥٥) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (٥٦) قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ (٥٧)
قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (٥٨)
(١) سورة طه: ٢٠/ ٦١
.
524
وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا الْكَافُ لِلتَّشْبِيهِ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ وَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى فُتُونٍ سَابِقٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ أُمَمِ رُسُلٍ وَإِرْسَالِهِمْ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، وَتَقْسِيمِ أُمَمِهِمْ إِلَى مُؤْمِنٍ وَمُكَذِّبٍ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ أَتْبَاعَ الرُّسُلِ مُخْتَلِفُونَ وَوَاقِعٌ فِيهِمُ الْفُتُونُ لَا مَحَالَةَ كَمَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ فَشَبَّهَ تَعَالَى ابْتِلَاءَ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَاخْتِبَارَهَا بِابْتِلَاءِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ أَيْ حَالُ هَذِهِ الْأُمَّةِ حَالُ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ فِي فُتُونِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ وَالْفُتُونُ بِالْغِنَى وَالْفَقْرِ أَوْ بِالشَّرَفِ وَالْوَضَاعَةِ وَالْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمِثْلُ ذَلِكَ الْفَتْنِ الْعَظِيمِ فَتْنُ بَعْضِ النَّاسِ بِبَعْضٍ أَيِ ابْتَلَيْنَاهُمْ بِهِ وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَقُولُونَ لِلْمُسْلِمِينَ أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَيْ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِالتَّوْفِيقِ لِإِصَابَةِ الْحَقِّ وَلِمَا يُسْعِدُهُمْ عِنْدَهُ مِنْ دُونِنَا وَنَحْنُ الْمُقَدَّمُونَ وَالرُّؤَسَاءُ وَهُمُ الْعَبِيدُ وَالْفُقَرَاءُ إِنْكَارًا لِأَنْ يَكُونَ أَمْثَالُهُمْ عَلَى الْحَقِّ وَمَمْنُونًا عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا بِالْخَيْرِ نحوا أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا «١» لَوْ كانَ خَيْراً مَا سَبَقُونا إِلَيْهِ «٢» وَمَعْنَى فَتَنَّاهُمْ لِيَقُولُوا ذَلِكَ خِذْلَانُهُمْ فَافْتَتَنُوا حَتَّى كَانَ افْتِتَانُهُمْ سَبَبًا لِهَذَا الْقَوْلِ لِأَنَّهُ لَا يَقُولُ مِثْلَ قَوْلِهِمْ هَذَا إِلَّا مَخْذُولٌ مُتَقَوِّلٌ انْتَهَى. وَآخِرُ كَلَامِهِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُعْتَزِلَةِ مِنْ تَأْوِيلِ الْفِتْنَةِ الَّتِي نَسَبَهَا تَعَالَى إِلَيْهِ بالخذلان لأن جَرْيًا عَلَى عَادَتِهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ابْتِلَاءُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْمُشْرِكِينَ هُوَ مَا يَلْقَوْنَ مِنْهُمْ مِنَ الْأَذَى، وَابْتِلَاءُ الْمُشْرِكِينَ بِالْمُؤْمِنِينَ هُوَ أَنْ يَرَى الرَّجُلُ الشَّرِيفُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَوْمًا لَا شَرَفَ لَهُمْ قَدْ عَظَّمَهُمْ هَذَا الدِّينُ وَجَعَلَ لَهُمْ عِنْدَ نبيهم قدرا
(١) سورة القمر: ٥٤/ ٥٢.
(٢) سورة الأحقاف: ٤٦/ ١١.
525
وَمَنْزِلَةً، وَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى من ذُكِرَ مِنْ ظُلْمِهِمْ أَنْ تَطْرُدَ الضَّعَفَةَ انْتَهَى. وَلَا يَنْتَظِمُ هَذَا التَّشْبِيهُ إِذْ يَصِيرُ التَّقْدِيرُ وَمِثْلُ ذَلِكَ أَيْ طَلَبِ الطَّرْدِ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِي يَتَبَادَرُ إِلَيْهِ الذِّهْنُ إِنَّكَ إِذَا قُلْتَ: ضَرَبْتُ مِثْلَ ذَلِكَ إِنَّمَا يُفْهَمُ مِنْهُ مِثْلَ ذَلِكَ الضَّرْبِ لَا أَنَّهُ تَقَعُ الْمُمَاثَلَةُ فِي غَيْرِهِ وَاللَّامُ فِي لِيَقُولُوا الظَّاهِرُ أَنَّهَا لَامُ كَيْ أَيْ هَذَا الِابْتِلَاءُ لِكَيْ يَقُولُوا: هَذِهِ الْمَقَالَةَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِفْهَامِ لِأَنْفُسِهِمْ وَالْمُنَاجَاةِ لَهَا، وَيَصِيرُ الْمَعْنَى ابْتَلَيْنَا أَشْرَافَ الْكُفَّارِ بِضُعَفَاءِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَتَعَجَّبُوا فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ ذَلِكَ وَيَكُونَ سَبَبًا لِلنَّظَرِ لِمَنْ هُدِيَ وَمَنْ أَثْبَتَ أَنَّ اللَّامَ تَكُونُ لِلصَّيْرُورَةِ، جَوَّزَ هُنَا أَنْ تَكُونَ لِلصَّيْرُورَةِ وَيَكُونَ قَوْلُهُمْ عَلَى سَبِيلِ الاستحقاق وَهَؤُلاءِ إشارة إلى المؤمنين ومَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَيْ بِزَعْمِهِمْ أَنَّ دِينَهُمْ مِنْهُ تَعَالَى.
أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ هَذَا اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ التَّقْرِيرُ وَالرَّدُّ عَلَى أُولَئِكَ الْقَائِلِينَ أَيِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يَشْكُرُ فَيَضَعُ فِيهِ هِدَايَتَهُ دُونَ مَنْ يَكْفُرُ فَلَا يَهْدِيهِ، وَجَاءَ لَفْظُ الشُّكْرِ هُنَا فِي غَايَةٍ مِنَ الْحُسْنِ إِذْ تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِمْ: أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَيْ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ فَنَاسَبَ ذِكْرُ الْإِنْعَامِ لَفْظَ الشُّكْرِ؟ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِهَؤُلَاءِ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِمُ الشَّاكِرِينَ لِنَعْمَائِهِ وَتَضَمَّنَ الْعِلْمُ مَعْنَى الثَّوَابِ وَالْجَزَاءِ لَهُمْ عَلَى شُكْرِهِمْ فَلَيْسُوا مَوْضِعَ اسْتِخْفَافِكُمْ وَلَا اسْتِعْجَابِكُمْ.
وَقِيلَ: بِالشَّاكِرِينَ مَنْ مَنَّ عَلَيْهِمْ بِالْإِيمَانِ دُونَ الرُّؤَسَاءِ الَّذِينَ عَلِمَ مِنْهُمُ الْكُفْرَ. وَقِيلَ: مَنْ يَشْكُرُ عَلَى الْإِسْلَامِ إِذَا هَدَيْتُهُ. وَقِيلَ: بِمَنْ يُوَفَّقُ لِلْإِيمَانِ كَبِلَالٍ وَمَنْ دُونَهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يَقَعُ مِنْهُ الْإِيمَانُ وَالشُّكْرُ فَيُوَفِّقُهُ لِلْإِيمَانِ وَبِمَنْ يُصَمِّمُ عَلَى كُفْرِهِ فَيَخْذُلُهُ وَيَمْنَعُهُ التَّوْفِيقَ انْتَهَى. وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ.
وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ الْجُمْهُورُ
أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ نَهَى اللَّهُ عَنْ طَرْدِهِمْ فَكَانَ إِذَا رَآهُمْ بَدَأَهُمْ بِالسَّلَامِ وَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي أُمَّتِي مَنْ أَبْدَأُهُمْ بِالسَّلَامِ.
وَقِيلَ: الَّذِينَ صَوَّبُوا رَأْيَ أَبِي طَالِبٍ فِي طَرْدِ الضَّعَفَةِ.
وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: قَالَ قَوْمٌ: قَدْ أَصَبْنَا ذُنُوبًا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا فَأَعْرَضَ عَنْهُمْ فَنَزَلَتْ.
وَقِيلَ:
نَزَلَتْ فِي عُمَرَ حِينَ أَشَارَ بِإِجَابَةِ الْكَفَرَةِ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهَا مَفْسَدَةٌ، وَعَلَى هَذِهِ الْأَسْبَابِ يَكُونُ تَفْسِيرُ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ فَإِنْ كَانَ عَنَى بِهِمُ السِّتَّةَ الَّذِينَ نَهَى عَنْ طَرْدِهِمْ فَيَكُونُ مِنْ بَابِ الْعَامِّ أُرِيدَ بِهِ الْخَاصُّ وَيَكُونُ قَوْلُهُ سَلامٌ عَلَيْكُمْ أَمْرًا بِإِكْرَامِهِمْ وَتَنْبِيهًا عَلَى خُصُوصِيَّةِ تَشْرِيفِهِمْ بِهَذَا النَّوْعِ مِنَ الْإِكْرَامِ وَإِنْ كَانَ عَنَى عُمَرَ حِينَ اعْتَذَرَ وَاسْتَغْفَرَ وَقَالَ: مَا أَرَدْتُ بِذَلِكَ إِلَّا الْخَيْرَ كَانَ مِنْ إِطْلَاقِ الْجَمْعِ عَلَى الْوَاحِدِ الْمُعَظَّمِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ لَا بِالسِّتَّةِ وَلَا بِغَيْرِهِمْ وَإِنَّهَا اسْتِئْنَافُ إِخْبَارٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بَعْدَ تَقَصِّي خَبَرِ
526
أُولَئِكَ الَّذِينَ نَهَى عَنْ طَرْدِهِمْ وَلَوْ كَانُوا إِيَّاهُمْ لَكَانَ التَّرْكِيبُ الْأَحْسَنُ، وَإِذَا جاؤوك وَالْآيَاتُ هُنَا آيَاتُ الْقُرْآنِ وَعَلَامَاتُ النُّبُوَّةِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: آيَاتُ اللَّهِ آيَاتُ وُجُودِهِ وَآيَاتُ صِفَاتِ جَلَالِهِ وَإِكْرَامِهِ وَكِبْرِيَائِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ وَمَا سِوَى اللَّهِ لَا نِهَايَةَ لَهُ، وَلَا سَبِيلَ لِلْعُقُولِ إِلَى الْوُقُوفِ عَلَيْهِ عَلَى التَّفْصِيلِ التَّامِّ إِلَّا أَنَّ الْمُمْكِنَ هُوَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَى بَعْضِ الْآيَاتِ ثُمَّ يُؤْمِنَ بِالْبَقِيَّةِ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ ثُمَّ يَكُونُ مُدَّةَ حَيَّاتِهِ كَالسَّابِحِ فِي تِلْكَ الْبِحَارِ وَكَالسَّائِحِ فِي تِلْكَ الْقِفَارِ، وَلَمَّا كَانَ لَا نِهَايَةَ لَهَا فَكَذَلِكَ، لَا نِهَايَةَ فِي تَرَقِّي الْعَبْدِ فِي مَعَارِجِ تِلْكَ الْآيَاتِ وَهَذَا مَشْرَعٌ جُمْلِيٌّ لَا نِهَايَةَ لِتَفَاصِيلِهِ، ثُمَّ إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا كَانَ مَوْصُوفًا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ فَعِنْدَهَا أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَقُولَ لَهُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ فَيَكُونُ هَذَا التَّسْلِيمُ بِشَارَةً بِحُصُولِ الْكَرَامَةِ عَقِيبَ تِلْكَ السَّلَامَةِ وَالنَّجَاةِ مِنْ بَحْرِ عَالَمِ الظُّلُمَاتِ وَمَرْكَزِ الْجُسْمَانِيَّاتِ وَمَعْدِنِ الْآفَاتِ وَالْمَخَافَاتِ وَمَوْضِعِ التَّغْيِيرَاتِ وَالتَّبْدِيلَاتِ، وَأَمَّا الْكَرَامَةُ بِالْوُصُولِ إِلَى الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ الْمُجَرَّدَاتِ الْمُقَدَّسَاتِ وَالْوُصُولِ إِلَى فُسْحَةِ عَالَمِ الْأَنْوَارِ وَالتَّرَقِّي إِلَى مَعَارِجِ سُرَادِقَاتِ الْجَلَالِ انْتَهَى كَلَامُهُ وَهُوَ تَكْثِيرٌ لَا طَائِلَ تَحْتَهُ طَافِحٌ بِإِشَارَاتِ أَهْلِ الْفَلْسَفَةِ بَعِيدٌ مِنْ مَنَاهِجِ الْمُتَشَرِّعِينَ وَعَنْ مَنَاحِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ شَيْءٌ حَتَّى فِي غَيْرِ مَظَانِّهِ وَلِلَّهِ دَرُّ الْقَائِلِ يُغْرِي مَنْصُورَ الْمُوَحِّدِينَ بِأَهْلِ الْفَلْسَفَةِ مِنْ قَصِيدَةٍ:
وَحَرِّقْ كُتْبَهُمْ شَرْقًا وَغَرْبًا فَفِيهَا كَامِنٌ شَرُّ الْعُلُومِ
يَدُبُّ إِلَى الْعَقَائِدِ مِنْ أَذَاهَا سُمُومٌ وَالْعَقَائِدُ كَالْجُسُومِ
وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: السَّلَامُ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَجَمْعُهُ سَلَامَةٌ وَمَصْدَرٌ وَاسْمُ شَجَرٍ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَصْدَرٌ لِسَلَّمَ تَسْلِيمًا وَسَلَامًا كَالسَّرَاحِ مِنْ سَرَّحَ وَالْأَدَاءِ مِنْ أَدَّى. وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَالْحَسَنُ: أُمِرَ بِابْتِدَاءِ السَّلَامِ عَلَيْهِمْ تَشْرِيفًا لَهُمْ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: أُمِرَ بِإِبْلَاغِ السَّلَامِ عَلَيْهِمْ مِنَ اللَّهِ، وَقِيلَ: مَعْنَى السَّلَامِ هُنَا الدُّعَاءُ مِنَ الْآفَاتِ. وَقَالَ أَبُو الْهَيْثَمِ: السَّلَامُ وَالتَّحِيَّةُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَمَعْنَى السَّلَامِ عَلَيْكُمْ حَيَّاكُمُ اللَّهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ أُمِرَ بِتَبْلِيغِ سَلَامِ اللَّهِ إِلَيْهِمْ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أُمِرَ بِأَنْ يَبْدَأَهُمْ بِالسَّلَامِ إِكْرَامًا لَهُمْ وَتَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِمْ انْتَهَى. وَتَرْدِيدُهُ إِمَّا وَإِمَّا الْأَوَّلُ قَوْلُ ابْنِ زَيْدٍ، وَالثَّانِي قَوْلُ عِكْرِمَةَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَفْظُهُ لَفْظُ الْخَبَرِ وَهُوَ فِي مَعْنَى الدُّعَاءِ وَهَذَا مِنَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي جَازَ فِيهَا الِابْتِدَاءُ بِالنَّكِرَةِ إِذْ قَدْ تَخَصَّصَتْ انْتَهَى. وَالتَّخْصِيصُ الَّذِي يَعْنِيهِ النُّحَاةُ فِي النَّكِرَةِ الَّتِي يُبْتَدَأُ بِهَا هُوَ أَنْ يتخصص بِالْوَصْفِ أَوِ الْعَمَلِ أَوِ الإضافة، وسلام لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ التَّخْصِيصَاتِ وَقَدْ رَامَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ أَنْ يَجْعَلَ جَوَازَ الِابْتِدَاءِ بِالنَّكِرَةِ رَاجِعًا إِلَى التَّخْصِيصِ وَالتَّعْمِيمِ وَالَّذِي
527
يَظْهَرُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ عَطِيَّةَ أَنَّهُ يَعْنِي بِقَوْلِهِ إِذْ قَدْ تَخَصَّصَتْ أَيِ اسْتُعْمِلَتْ، فِي الدُّعَاءِ فَلَمْ تَبْقَ النَّكِرَةُ عَلَى مُطْلَقِ مَدْلُولِهَا الْوَصْفِيِّ إِذْ قَدِ اسْتُعْمِلَتْ يُرَادُ بِهَا أَحَدُ مَا تَحْتَمِلُهُ النَّكِرَةُ.
كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَيْ أَوْجَبَهَا وَالْبَارِئُ تَعَالَى لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ عَقْلًا إِلَّا إِذَا أَعْلَمَنَا أَنَّهُ حَتَمَ بِشَيْءٍ فَذَلِكَ الشَّيْءُ وَاجِبٌ. وَقِيلَ: كَتَبَ وَعَدَ وَالْكَتْبُ هُنَا فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ. وَقِيلَ: فِي كِتَابٍ غَيْرِهِ،
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ «أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَتَبَ كِتَابًا فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي»
، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مَأْمُورٌ بِقَوْلِهَا تَبْشِيرًا لَهُمْ بِسَعَةِ رَحْمَةِ اللَّهِ وَتَفْرِيحًا لِقُلُوبِهِمْ.
أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ السُّوءُ: قِيلَ: الشِّرْكُ. وَقِيلَ الْمَعَاصِي، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ عَمَلِ السُّوءِ بِجَهَالَةٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ «١» فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ.
ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ أَيْ مِنْ بَعْدِ عَمَلِ السُّوءِ وَأَصْلَحَ شَرَطَ اسْتِدَامَةَ الْإِصْلَاحِ فِي الشَّيْءِ الَّذِي تَابَ مِنْهُ. قَرَأَ عَاصِمٌ وَابْنُ عَامِرٍ أَنَّهُ بِفَتْحِ الْهَمْزَتَيْنِ فَالْأُولَى بَدَلٌ مِنَ الرَّحْمَةِ وَالثَّانِيَةُ خبر مبتدأ محذوف تقديره فَأَمْرُهُ أَنَّهُ أَيْ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لَهُ، وَوَهِمَ النَّحَّاسُ فَزَعَمَ أَنَّ قَوْلَهُ فَأَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى أَنَّهُ وَتَكْرِيرٌ لَهَا لِطُولِ الْكَلَامِ وَهَذَا كَمَا ذَكَرْنَاهُ وَهْمٌ، لِأَنَّ مَنْ مُبْتَدَأٌ سَوَاءٌ كَانَ مَوْصُولًا أَوْ شَرْطًا فَإِنْ كَانَ مَوْصُولًا بَقِيَ بِلَا خَبَرٍ وَإِنْ كَانَ شَرْطًا بَقِيَ بِلَا جَوَابٍ. وَقِيلَ: أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفُ الْخَبَرِ تَقْدِيرُهُ عَلَيْهِ أَنَّهُ مِنْ عَمِلَ.
وَقِيلَ: فَإِنَّهُ بَدَلٌ مِنْ أَنَّهُ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ لِدُخُولِ الْفَاءِ فِيهِ وَلِخُلُوِّ مَنْ مِنْ خَبَرٍ أَوْ جَوَابٍ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَالْأَخَوَانِ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ فِيهِمَا الْأُولَى عَلَى جِهَةِ التَّفْسِيرِ لِلرَّحْمَةِ وَالثَّانِيَةُ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ أَوِ الْجَوَابِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ بِفَتْحِ الْأُولَى عَلَى الْوَجْهَيْنِ السَّابِقَيْنِ وَكَسْرِ الثَّانِيَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَيْضًا، وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ بِكَسْرِ الْأُولَى وَفَتْحِ الثَّانِيَةِ حَكَاهَا الزَّهْرَاوِيُّ عَنِ الْأَعْرَجِ.
وَحَكَى سِيبَوَيْهِ عَنْهُ مِثْلَ قِرَاءَةِ نَافِعٍ. وَقَالَ الدَّانِي: قِرَاءَةُ الْأَعْرَجِ ضِدُّ قراءة نافع وبِجَهالَةٍ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ أَيْ وَهُوَ جَاهِلٌ وَمَا أَحْسَنَ مَسَاقَ هَذَا الْمَقُولِ أَمَرَهُ أَوَّلًا أَنْ يَقُولَ لِلْمُؤْمِنِينَ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ فَبَدَأَ أَوَّلًا بِالسَّلَامَةِ وَالْأَمْنِ لِمَنْ آمَنَ ثُمَّ خَاطَبَهُمْ ثَانِيًا بِوُجُوبِ الرَّحْمَةِ وَأَسْنَدَ الْكِتَابَةَ إِلَى رَبِّهِمْ أَيْ كَتَبَ النَّاظِرُ لَكُمْ فِي مَصَالِحِكُمْ وَالَّذِي يُرَبِّيكُمْ وَيَمْلِكُكُمُ الرَّحْمَةَ فَهَذَا تَبْشِيرٌ بِعُمُومِ الرَّحْمَةِ، ثُمَّ أَبْدَلَ مِنْهَا شَيْئًا خَاصًّا وَهُوَ غُفْرَانُهُ وَرَحْمَتُهُ لِمَنْ تَابَ وَأَصْلَحَ،
(١) سورة النساء: ٤/ ١٧.
528
وَلَوْ ذَهَبَ ذَاهِبٌ إِلَى أَنَّ الرَّحْمَةَ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ وَأَنَّ أَنَّهُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ لكتب أَيْ لِأَجْلِ رَحْمَتِهِ إِيَّاكُمْ لَمْ يُبْعِدْ وَلَكِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الرَّحْمَةَ مَفْعُولُ كَتَبَ وَاسْتَدَلَّ الْمُعْتَزِلَةُ بِقَوْلِهِ:
كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ «١» أَنَّهُ لَا يَخْلُقُ الْكُفْرَ فِي الْكَافِرِ لِأَنَّ الرَّحْمَةَ تُنَافِي ذَلِكَ وَتُنَافِي تَعْذِيبَهُ أَبَدَ الْآبَادِ.
وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ الْكَافُ لِلتَّشْبِيهِ وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى التَّفْصِيلِ الْوَاقِعِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَيْ وَمِثْلُ ذَلِكَ التَّفْصِيلِ الْبَيِّنِ نُفَصِّلُ آيَاتِ الْقُرْآنِ وَنُلَخِّصُهَا فِي صِفَةِ أَحْوَالِ الْمُجْرِمِينَ مَنْ هُوَ مَطْبُوعٌ عَلَى قَلْبِهِ لَا يُرْجَى إِسْلَامُهُ وَمَنْ تَرَى فِيهِ أَمَارَةَ الْقَبُولِ وَهُوَ الَّذِي يَخَافُ إِذَا سَمِعَ ذِكْرَ الْقِيَامَةِ وَمَنْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَحْفَظُ حُدُودَهُ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى كَمَا فَصَّلْنَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ دليل عَلَى صِحَّةِ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ نُفَصِّلُ لَكَ دَلِيلَنَا وَحُجَجَنَا فِي تَقْرِيرِ كُلِّ حَقٍّ يُنْكِرُهُ أَهْلُ الْبَاطِلِ. وَقِيلَ: إِشَارَةٌ إِلَى التَّفْصِيلِ لِلْأُمَمِ السَّابِقَةِ وَمِثْلُ ذَلِكَ التَّفْصِيلِ لِمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ نُفَصِّلُ لَكُمْ. وَقَالَ التِّبْرِيزِيُّ:
مَعْنَاهُ كَمَا بَيَّنَّا لِلشَّاكِرِينَ وَالْكَافِرِينَ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: تَفْصِيلُهَا إِتْيَانُهَا مُتَفَرِّقَةً شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ.
وَقَالَ تَاجُ الْقُرَّاءِ: الْفَصْلُ بَوْنُ مَا بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ وَالتَّفْصِيلُ التَّبْيِينُ بَيْنَ الْمَعَانِي الْمُلْتَبِسَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَكَذلِكَ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ النَّهْيِ عَنْ طَرْدِ الْمُؤْمِنِينَ وَبَيَانِ فَسَادِ مَنْزَعِ الْمُعَارِضِينَ لِذَلِكَ، وَتَفْصِيلُ الْآيَاتِ تَبْيِينُهَا وَشَرْحُهَا وَإِظْهَارُهَا انْتَهَى. وَاسْتَبَانَ يَكُونُ لَازِمًا وَمُتَعَدِّيًا وَتَمِيمٌ وَأَهْلُ نَجْدٍ يُذَكِّرُونَ السَّبِيلَ وَأَهْلُ الْحِجَازِ يُؤَنِّثُونَهَا.
وَقَرَأَ الْعَرَبِيَّانِ وَابْنُ كَثِيرٍ وَحَفْصٌ وَلِتَسْتَبِينَ بِالتَّاءِ سَبِيلُ بِالرَّفْعِ. وَقَرَأَ الْأَخَوَانِ وَأَبُو بَكْرٍ وَلِيَسْتَبِينَ بِالْيَاءِ سَبِيلُ بِالرَّفْعِ فَاسْتَبَانَ هُنَا لَازِمَةٌ أَيْ وَلِتَظْهَرَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَلِتَسْتَبِينَ بِتَاءِ الْخِطَابِ سَبِيلُ بِالنَّصْبِ فَاسْتَبَانَ هُنَا مُتَعَدِّيَةٌ. فَقِيلَ: هُوَ خِطَابٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ لَهُ ظَاهِرًا وَالْمُرَادُ أُمَّتُهُ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ اسْتَبَانَهَا وَخُصَّ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنِ اسْتِبَانَتِهَا اسْتِبَانَةُ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ أَوْ يَكُونُ عَلَى حَذْفِ مَعْطُوفٍ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ التَّقْدِيرُ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ. وَقِيلَ: خُصَّ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ أَثَارُوا مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَقْوَالِ وَهُمْ أَهَمُّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِأَنَّهَا آيَاتُ رَدٍّ عَلَيْهِمْ، وَظَاهِرُ الْمُجْرِمِينَ الْعُمُومُ وَتَأَوَّلَهُ ابْنُ زَيْدٍ عَلَى أنه عنى بالمجرمين الآمرون بِطَرْدِ الضَّعَفَةِ وَاللَّامُ فِي وَلِتَسْتَبِينَ مُتَعَلِّقَةٌ بِفِعْلٍ مُتَأَخِّرٍ أَيْ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ فَصَّلْنَاهَا لكم أو قبلها
(١) سورة الأنعام: ٦/ ٥٤.
529
عِلَّةٌ مَحْذُوفَةٌ وَهُوَ قَوْلُ الْكُوفِيِّينَ التَّقْدِيرُ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ ولتستبين. وقال الزمخشري: لنستوضح سَبِيلَهُمْ فَتُعَامِلَ كُلًّا مِنْهُمْ بِمَا يَجِبُ أَنْ يُعَامَلَ بِهِ فَصَّلْنَا ذَلِكَ التَّفْصِيلَ.
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَمَرَهُ تَعَالَى أَنْ يُجَاهِرَهُمْ بِالتَّبَرِّي مِنْ عِبَادَتِهِمْ غَيْرَ اللَّهِ، وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى تَفْصِيلَ الْآيَاتِ لِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُبْطِلِ مِنَ الْمُحِقِّ نَهَاهُ عَنْ سُلُوكِ سَبِيلِهِمْ وَمَعْنَى نُهِيتُ زُجِرْتُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بِمَا رَكَّبَ فِيَّ مِنْ أَدِلَّةِ الْعَقْلِ وَبِمَا أُوتِيتُ مِنْ أَدِلَّةِ السمع والذين يدعون هم الْأَصْنَامُ، عَبَّرَ عَنْهَا بِالَّذِينِ عَلَى زَعْمِ الْكُفَّارِ حِينَ أَنْزَلُوهَا مَنْزِلَةَ مَنْ يَعْقِلُ وتَدْعُونَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَاهُ تَعْبُدُونَ. وَقِيلَ: تُسَمُّونَهُمْ آلِهَةً مِنْ دَعَوْتُ وَلَدِي زَيْدًا سَمَّيْتُهُ. وَقِيلَ: تَدْعُونَ فِي أُمُورِكُمْ وَحَوَائِجِكُمْ وَفِي قَوْلِهِ: تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ اسْتِجْهَالٌ لَهُمْ وَوَصْفٌ بِالِاقْتِحَامِ فِيمَا كَانُوا مِنْهُ عَلَى غَيْرِ بَصِيرَةٍ، وَلَفْظَةُ نُهِيتُ أبلغ من النفي بلا أَعْبُدَ إِذْ فِيهِ وُرُودُ تَكْلِيفٍ.
قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ أَيْ مَا تَمِيلُ إِلَيْهِ أَنْفُسُكُمْ مِنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ وَلَمَّا كَانَتْ أَصْنَامُهُمْ مُخْتَلِفَةً كَانَ لِكُلِّ عَابِدِ صَنَمُ هَوًى يَخُصُّهُ فَلِذَلِكَ جُمِعَ، وأَهْواءَكُمْ عَامٌّ وَغَالِبُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ الْخَيْرِ وَيَعُمُّ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ وَمَا أُمِرُوا بِهِ مِنْ طَرْدِ الْمُؤْمِنِينَ الضُّعَفَاءِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ بِحَقٍّ وَهِيَ أَعَمُّ مِنَ الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ وَأَنَصُّ عَلَى مُخَالَفَتِهِمْ، وَفِي قَوْلِهِ أَهْواءَكُمْ تَنْبِيهٌ عَلَى السَّبَبِ الَّذِي حَصَلَ مِنْهُ الضَّلَالُ وَتَنْبِيهٌ لِمَنْ أَرَادَ اتِّبَاعَ الْحَقِّ وَمُجَانَبَةَ الْبَاطِلِ كَمَا قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ:
وَآفَةُ الْعَقْلِ الْهَوَى فَمَنْ عَلَا عَلَى هَوَاهُ عَقْلُهُ فَقَدْ نَجَا
قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ الْمَعْنَى إِنِ اتَّبَعْتُ أَهْوَاءَكُمْ ضَلَلْتُ وَمَا اهْتَدَيْتُ وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ مُؤَكِّدَةٌ لِقَوْلِهِ قَدْ ضَلَلْتُ وَجَاءَتْ تِلْكَ فِعْلِيَّةً لِتَدُلَّ عَلَى التَّجَدُّدِ وَهَذِهِ اسْمِيَّةٌ لِتَدُلَّ عَلَى الثُّبُوتِ فَحَصَلَ نَفْيُ تَجَدُّدِ الضَّلَالِ وَثُبُوتِهِ وَجَاءَتْ رَأْسَ آيَةٍ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ وَابْنُ وَثَّابٍ وَطَلْحَةُ ضَلَلْتُ بِكَسْرِ فَتْحَةِ اللَّامِ وَهِيَ لُغَةٌ، وَفِي التَّحْرِيرِ قَرَأَ يَحْيَى وَابْنُ أبي ليلى هنا في السَّجْدَةِ فِي أَئِذَا صَلَلْنَا بِالصَّادِّ غَيْرَ مُعْجَمَةٍ وَيُقَالُ صَلَّ اللَّحْمُ أَنْتَنَ وَيُرْوَى ضللنا أي دفنا في الضلة وَهِيَ الْأَرْضُ الصُّلْبَةُ رَوَاهُ أَبُو الْعَبَّاسِ عَنْ مُجَاهِدِ بْنِ الْفُرَاتِ فِي كِتَابِ الشواذ له. قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي أَيْ عَلَى شَرِيعَةٍ وَاضِحَةٍ وَمِلَّةٍ صَحِيحَةٍ. وَقِيلَ: الْبَيِّنَةُ هِيَ الْمُعْجِزَةُ الَّتِي تُبَيِّنُ صِدْقِي وَهِيَ الْقُرْآنُ، قَالُوا:
530
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ التَّاءُ فِي بَيِّنَةٍ لِلْمُبَالَغَةِ وَالْمَعْنَى عَلَى أَمْرٍ بَيِّنٍ لَمَّا نَفَى أَنْ يَكُونَ مُتَّبِعًا لِلْهَوَى نَبَّهَ عَلَى مَا يَجِبُ اتِّبَاعُهُ وَهُوَ الْأَمْرُ الْوَاضِحُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَكَذَّبْتُمْ بِهِ إِخْبَارٌ مِنْهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِهِ وَالظَّاهِرُ عَوْدِ الضَّمِيرِ عَلَى اللَّهِ أَيْ وَكَذَّبْتُمْ بِاللَّهِ. وَقِيلَ: عَائِدٌ عَلَى بَيِّنَةٍ لِأَنَّ مَعْنَاهُ عَلَى أَمْرٍ بَيِّنٍ. وَقِيلَ: عَلَى الْبَيَانِ الدَّالِّ عَلَيْهِ بَيِّنَةٍ.
وَقِيلَ: عَلَى الْقُرْآنِ.
مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ الَّذِي اسْتَعْجَلُوا بِهِ قِيلَ الْآيَاتُ الْمُقْتَرَحَةُ قَالَهُ الزَّجَّاجُ.
وَقِيلَ: الْعَذَابُ وَرُجِّحَ بِأَنَّ الِاسْتِعْجَالَ لَمْ يَأْتِ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا لِلْعَذَابِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَسْتَعْجِلُوا بِالْآيَاتِ الْمُقْتَرَحَةِ وَبِأَنَّ لَفْظَ وَكَذَّبْتُمْ بِهِ يَتَضَمَّنُ أَنَّكُمْ وَاقَعْتُمْ مَا أَنْتُمْ تَسْتَحِقُّونَ بِهِ الْعَذَابَ إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ لِي. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَعْنِي الْعَذَابَ الَّذِي اسْتَعْجَلُوهُ فِي قَوْلِهِمْ: فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ «١».
إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَيِ الْحُكْمُ لِلَّهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَهُوَ الْفَصْلُ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ بِإِيجَابِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ. وَقِيلَ: الْقَضَاءُ بِإِنْزَالِ الْعَذَابِ وَفِيهِ التَّفْوِيضُ الْعَامُّ لِلَّهِ تَعَالَى. يَقْضِي الْحَقَّ هِيَ قِرَاءَةُ الْعَرَبِيَّيْنِ وَالْأَخَوَيْنِ أَيْ يَقْضِي الْقَضَاءَ الْحَقَّ فِي كُلِّ مَا يَقْضِي فِيهِ مِنْ تَأْخِيرٍ أَوْ تَعْجِيلٍ، وَضَمَّنَ بَعْضُهُمْ يَقْضِي مَعْنَى يُنْفِذُ فَعَدَّاهُ إِلَى مَفْعُولٍ بِهِ. وَقِيلَ:
يَقْضِي بِمَعْنَى يَصْنَعُ أَيْ كُلُّ مَا يَصْنَعُهُ فَهُوَ حَقٌّ قَالَ الْهُذَلِيُّ:
وَعَلَيْهِمَا مَسْدُودَتَانِ قَضَاهُمَا دَاوُدُ أَوْ صَنِعُ السَّوَابِغَ تُبَّعُ
أَيْ صَنَعَهُمَا وَقِيلَ حُذِفَ الْبَاءُ وَالْأَصْلُ بِالْحَقِّ، وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ وَأُبَيٍّ وَابْنِ وَثَّابٍ وَالنَّخَعِيِّ وَطَلْحَةَ وَالْأَعْمَشِ يقضي بالحق بياء الجر وسقطت الباء خَطًّا لِسُقُوطِهَا لَفْظًا لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ جُبَيْرٍ يَقْضِي بِالْحَقِّ.
وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ أَسْرَعُ الْفَاصِلِينَ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَرَمِيَّانِ وَعَاصِمٌ يَقُصُّ الْحَقَّ مِنْ قَصَّ الْحَدِيثَ كَقَوْلِهِ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ «٢» أَوْ مِنْ قَّصَ الْأَثَرَ أَيِ اتَّبَعَهُ. وَحُكِيَ أَنَّ أَبَا عَمْرِو بْنَ الْعَلَاءِ سُئِلَ أَهْوَ يَقُصُّ الْحَقَّ أَوْ يَقْضِي الْحَقَّ؟ فَقَالَ: لَوْ كَانَ يَقُصُّ لَقَالَ وَهُوَ خَيْرُ الْقَاصِّينَ أَقَرَأَ أَحَدٌ بِهَذَا وَحَيْثُ قَالَ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ فَإِنَّمَا يَكُونُ الْفَصْلُ فِي الْقَضَاءِ انْتَهَى. وَلَمْ يَبْلُغْ أَبَا عَمْرٍو أَنَّهُ قُرِئَ بِهَا وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: أَقَرَأَ بِهَا أَحَدٌ وَلَا يَلْزَمُ مَا قَالَ، فَقَدْ جَاءَ الْفَصْلُ فِي القول قال
(١) سورة الأنفال: ٨/ ٣٢.
(٢) سورة يوسف: ١٢/ ٣. [.....]
531
تَعَالَى: إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ «١» وَقَالَ: أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ «٢»، وَقَالَ: نُفَصِّلُ الْآياتِ «٣» فَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذِكْرِ الْفَاصِلِينَ أَنْ يَكُونَ مُعَيِّنًا ليقضي وخَيْرُ هُنَا أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ عَلَى بَابِهَا. وَقِيلَ: لَيْسَتْ عَلَى بَابِهَا لِأَنَّ قَضَاءَهُ تَعَالَى لَا يُشْبِهُ قَضَاءً وَلَا يَفْصِلُ كَفَصْلِهِ أَحَدٌ وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا بَابِهَا.
قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ أَيْ لَوْ كَانَ فِي قُدْرَتِي الْوُصُولُ إِلَى مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ مِنِ اقْتِرَاحِ الْآيَاتِ أَوْ مِنْ حُلُولِ الْعَذَابِ لَبَادَرْتُ إِلَيْهِ وَوَقَعَ الِانْفِصَالُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ. وَرُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ أَيْ لَقَامَتِ الْقِيَامَةُ وَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ مِنْ أَنَّ الْمَعْنَى لَذُبِحَ الْمَوْتُ لَا يَصِحُّ وَلَا لَهُ هُنَا مَعْنًى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ لأهلكنكم عَاجِلًا غَضَبًا لِرَبِّي وَامْتِعَاضًا مِنْ تَكْذِيبِكُمْ بِهِ وَلَتَخَلَّصْتُ مِنْكُمْ سَرِيعًا انْتَهَى. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ لَمْ أمهلكم ساعة ولأهلكنكم. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ الظَّاهِرُ أَنَّ الْمَعْنَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِكُمْ فَوُضِعَ الظَّاهِرُ الْمُشْعِرُ بِوَصْفِهِمْ بِالظُّلْمِ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ وَمَعْنَى أَعْلَمُ بِهِمْ أَيْ بِمُجَازَاتِهِمْ فَفِيهِ وَعِيدٌ وَتَهْدِيدٌ. وَقِيلَ: بِتَوْقِيتِ عِقَابِهِمْ وَقِيلَ: بما آل أَمْرِهِمْ مِنْ هِدَايَةِ بَعْضٍ وَاسْتِمْرَارِ بَعْضٍ.
وَقِيلَ: بِمَنْ يَنْبَغِي أَنْ يُؤْخَذَ وَبِمَنْ يُمْهَلُ. وَقِيلَ: بِمَا تَقْتَضِيهِ الحكمة من عذابهم.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٥٩ الى ٧٣]
وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٥٩) وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٦٠) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (٦١) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ (٦٢) قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٣)
قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٦٤) قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (٦٥) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (٦٦) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٦٧) وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٦٨)
وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٦٩) وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠) قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٧١) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٢) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (٧٣)
(١) سورة الطارق: ٨٦/ ١٣.
(٢) سورة هود: ١١/ ١.
(٣) سورة الأنعام: ٦/ ٥٥ وغيرها.
532
السُّقُوطُ: الْوُقُوعُ مِنْ عُلُوٍّ. الْوَرَقَةُ: وَاحِدَةُ الْوَرَقِ مِنَ النَّبَاتِ وَالْكَاغِدِ وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ.
الرَّطْبُ وَالْيَابِسُ مَعْرُوفَانِ يُقَالُ رَطْبٌ فَهُوَ رَطِبٌ وَرَطِيبٌ وَيَبِسٌ وَيَبِيسٌ، وَشَذَّ فِيهِ يَبِسٌ بِحَذْفِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْبَاءِ. الْكَرْبُ الْغَمُّ يَأْخُذُ بالنفس كربت الرَّجُلُ فَهُوَ مَكْرُوبٌ. قَالَ الشَّاعِرُ:
وَمَكْرُوبٌ كَشَفْتُ الْكَرْبَ عَنْهُ بِطَعْنَةِ فَيْصَلٍ لَمَّا دَعَانِي
الشِّيعَةُ: الْفِرْقَةُ تَتْبَعُ الْأُخْرَى وَيُجْمَعُ عَلَى أَشْيَاعٍ، وَشَيَّعْتُ فُلَانًا اتَّبَعْتُهُ وَتَقُولُ: الْعَرَبُ
533
شَاعَكُمُ السَّلَامُ أَيِ اتَّبَعَكُمْ وأشاعكم الله السلم أَيْ أَتْبَعَكُمْ. الْإِبْسَالُ: تَسْلِيمُ الْمَرْءِ نَفْسَهُ لِلْهَلَاكِ وَيُقَالُ أَبْسَلْتُ وَلَدِي أَرْهَنْتُهُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
وَإِبْسَالِي بُنَيَّ بِغَيْرِ جُرْمٍ بَعَوْنَاهُ وَلَا بِدَمٍ مُرَاقٍ
بَعَوْنَاهُ جَنَيْنَاهُ وَالْبَعْوُ الْجِنَايَةُ. الْحَمِيمُ: الْمَاءُ الْحَارُّ. الْحَيْرَةُ: التَّرَدُّدُ فِي الْأَمْرِ لَا يَهْتَدِي إِلَى مَخْرَجٍ مِنْهُ وَمِنْهُ تَحَيَّرَ الْمَاءُ فِي الْغَيْمِ يُقَالُ حَارَ يَحَارُ حَيْرَةً وَحَيْرًا وَحَيَرَانًا وَحَيْرُورَةً. الصُّورُ: جَمْعُ صُورَةٍ وَالصُّورُ الْقَرْنُ بِلُغَةِ أَهْلِ الْيَمَنِ. قَالَ:
نَحْنُ نَطَحْنَاهُمْ غَدَاةَ الْجَمْعَيْنِ بِالشَّامِخَاتِ فِي غُبَارَ النَّقْعَيْنِ
نَطْحًا شَدِيدًا لَا كَنَطْحِ الصُّورَيْنِ وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ لَمَّا قَالَ تَعَالَى: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ وقال هو أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ بَعْدَ قَوْلِهِ مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ انْتَقَلَ مِنْ خَاصٍّ إِلَى عَامٍّ وَهُوَ عِلْمُ اللَّهِ بِجَمِيعِ الأمور الغيبية، واستعارة لِلْقُدْرَةِ عَلَيْهَا الْمَفَاتِحَ لَمَّا كَانَتْ سَبَبًا لِلْوُصُولِ إِلَى الشَّيْءِ فَانْدَرَجَ فِي هَذَا الْعَامِّ مَا اسْتَعْجَلُوا وُقُوعَهُ وَغَيْرُهُ. وَالْمَفَاتِحُ جَمْعُ مِفْتَحٍ بكسر الميم وهي الآية الَّتِي يُفْتَحُ بِهَا مَا أُغْلِقَ. قَالَ الزَّهْرَاوِيُّ: وَمِفْتَحٌ أَفْصَحُ مِنْ مِفْتَاحٍ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ مِفْتَاحٍ لِأَنَّهُ يَجُوزُ فِي مِثْلِ هَذَا أَنْ لَا يُؤْتَى فِيهِ بِالْيَاءِ قَالُوا: مَصَابِحُ ومحارب وقراقر في جميع مِصْبَاحٍ وَقُرْقُورٍ. وَقَرَأَ ابْنُ السميفع: مَفَاتِيحُ بِالْيَاءِ وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ مِفْتَاحُ الْغَيْبِ عَلَى التَّوْحِيدِ.
وَقِيلَ: جَمْعُ مَفْتَحٍ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَيَكُونُ لِلْمَكَانِ أَيْ أَمَاكِنُ الْغَيْبِ وَمَوَاضِعُهَا يَفْتَحُ عَنِ الْمُغَيَّبَاتِ وَيُؤَيِّدُهُ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ إِنَّهَا خَزَائِنُ الْمَطَرِ وَالنَّبَاتِ وَنُزُولِ الْعَذَابِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ: خَزَائِنُ الْغَيْبِ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «مَفَاتِحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ»
، إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ «١» إِلَى آخِرِ السُّورَةِ. وَقِيلَ: مَفاتِحُ الْغَيْبِ الْأُمُورُ الَّتِي يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى الْغَائِبِ فَتُعْلَمُ حَقِيقَتُهُ مِنْ قَوْلِكَ: فَتَحْتُ عَلَى الْإِمَامِ إِذَا عَرَّفْتَهُ مَا نَسِيَ. وَقَالَ أَبُو مَسْعُودٍ: أُوتِيَ نَبِيُّكُمْ كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا مَفَاتِحَ الْغَيْبِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِنَّهَا خَزَائِنُ غيب السموات وَالْأَرْضِ مِنَ الْأَقْدَارِ وَالْأَرْزَاقِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: مَا غَابَ مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَمَا تَصِيرُ إِلَيْهِ الْأُمُورُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْوَصْلَةُ إِلَى عِلْمِ الْغَيْبِ إِذَا اسْتُعْلِمَ.
وَقِيلَ: عَوَاقِبُ الْأَعْمَارِ وَخَوَاتِيمُ الْأَعْمَالِ. وَقِيلَ: مَا لَمْ يَكُنْ هَلْ يَكُونُ أَمْ لَا يَكُونُ؟ وَمَا يَكُونُ كَيْفَ يَكُونُ وَمَا لَا يَكُونُ إِنْ كَانَ كَيْفَ يَكُونُ؟ ولا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ حَصَرَ أنه لا يعلم
(١) سورة لقمان: ٣١/ ٣٤.
534
تِلْكَ الْمَفَاتِحَ وَلَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا غَيْرُهُ تَعَالَى، وَلَقَدْ يَظْهَرُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُنْتَسِبَةِ إِلَى الصُّوفِ أَشْيَاءُ مِنِ ادِّعَاءِ عِلْمِ الْمُغَيَّبَاتِ وَالِاطِّلَاعِ عَلَى عِلْمِ عَوَاقِبِ أَتْبَاعِهِمْ وَأَنَّهُمْ مَعَهُمْ فِي الْجَنَّةِ مَقْطُوعٌ لَهُمْ وَلِأَتْبَاعِهِمْ بِهَا يخبرون بذلك على رؤوس الْمَنَابِرِ وَلَا يُنْكِرُ ذَلِكَ أَحَدٌ هَذَا مَعَ خُلُوِّهِمْ عَنِ الْعُلُومِ يُوهِمُونَ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَمَنْ زَعَمَ أَنْ مُحَمَّدًا يُخْبِرُ بِمَا يَكُونُ فِي غَدٍ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ «١» وَقَدْ كَثُرَتْ هَذِهِ الدَّعَاوَى وَالْخُرَافَاتُ فِي دِيَارِ مِصْرَ وَقَامَ بِهَا نَاسٌ صِبْيَانُ الْعُقُولِ يُسَمَّوْنَ بِالشُّيُوخِ عَجَزُوا عَنْ مَدَارِكِ الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ وَأَعْيَاهُمْ طِلَابُ الْعُلُومِ:
فَارْتَمَوْا يَدَّعُونَ أَمْرًا عَظِيمًا لَمْ يَكُنْ لِلْخَلِيلِ لَا وَالْكَلِيمِ
بَيْنَمَا الْمَرْءُ مِنْهُمُ فِي انْسِفَالٍ أَبْصَرَ اللَّوْحَ مَا بِهِ مِنْ رُقُومِ
فَجَنَى الْعِلْمَ مِنْهُ غَضًّا طَرِيًّا وَدَرَى مَا يَكُونُ قَبْلَ الْهُجُومِ
إِنَّ عَقْلِي لَفِي عِقَالٍ إِذَا مَا أَنَا صَدَّقْتُ بِافْتِرَاءٍ عَظِيمِ
وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ لَمَّا كَانَ ذِكْرُهُ تَعَالَى مَفاتِحُ الْغَيْبِ أَمْرًا مَعْقُولًا أَخْبَرَ تَعَالَى بِاسْتِئْثَارِهِ بِعِلْمِهِ وَاخْتِصَاصِهِ بِهِ ذَكَرَ تَعَلُّقَ عِلْمِهِ بِهَذَا الْمَحْسُوسِ عَلَى سَبِيلِ الْعُمُومِ ثُمَّ ذَكَرَ عِلْمَهُ بِالْوَرَقَةِ وَالْحَبَّةِ وَالرَّطْبِ وَالْيَابِسِ عَلَى سَبِيلِ الْخُصُوصِ، فَتَحَصَّلَ إِخْبَارُهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ عَالِمٌ بِالْكُلِّيَّاتِ وَالْجُزْئِيَّاتِ مُسْتَأْثِرٌ بِعِلْمِهِ وَمَا نَعْلَمُهُ نَحْنُ وَقَدَّمَ الْبَرِّ لِكَثْرَةِ مُشَاهَدَتِنَا لِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْمُدُنِ وَالْقُرَى وَالْمَفَاوِزِ وَالْجِبَالِ وَالْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ وَالْمَعَادِنِ أَوْ عَلَى سَبِيلِ التَّرَقِّي إِلَى مَا هُوَ أَعْجَبُ فِي الْجُمْلَةِ، لِأَنَّ مَا فِيهِ مِنَ أَجْنَاسِ الْحَيَوَانَاتِ أَعْجَبُ وَطُولُهُ وَعَرْضُهُ أَعْظَمُ وَالْبَرُّ مُقَابِلُ الْبَحْرِ. وَقِيلَ: الْبَرِّ الْقِفَارُ وَالْبَحْرِ الْمَعْرُوفُ فَالْمَعْنَى وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ مِنْ نَبَاتٍ وَدَوَابَّ وَأَحْجَارٍ وَأَمْدَارٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَمَا فِي الْبَحْرِ مِنْ حَيَوَانٍ وَجَوَاهِرَ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْبَرِّ الْأَرْضُ الْقِفَارُ الَّتِي لَا يَكُونُ فِيهَا الْمَاءُ وَالْبَحْرِ كُلُّ قَرْيَةٍ وَمَوْضِعٍ فِيهِ الْمَاءُ. وَقِيلَ: لَمْ يُرِدْ ظَاهِرَ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ عِلْمَهُ تَعَالَى مُحِيطٌ بِنَا وَبِمَا أُعِدَّ لِمَصَالِحِنَا مِنْ مَنَافِعِهِمَا وَخُصَّا بِالذِّكْرِ لأنهما أعظم مخلوق يجاوزنا.
وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها مِنْ زَائِدَةٌ لِاسْتِغْرَاقِ جِنْسِ الْوَرَقَةِ ويَعْلَمُها
(١) سورة النمل: ٢٧/ ٦٥.
535
مُطْلَقًا قَبْلَ السُّقُوطِ وَمَعَهُ وَبَعْدَهُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: يَعْلَمُها سَاقِطَةً وَثَابِتَةً كَمَا تَقُولُ: مَا يَجِيئُكَ أَحَدٌ إِلَّا وَأَنَا أَعْرِفُهُ لَيْسَ تَأْوِيلُهُ فِي حَالِ مَجِيئِهِ فَقَطْ. وَقِيلَ: يَعْلَمُ مَتَى تَسْقُطُ وَأَيْنَ تَسْقُطُ وَكَمْ تَدُورُ فِي الْهَوَاءِ. وَقِيلَ: يَعْلَمُهَا كَيْفَ انْقَلَبَتْ ظَهْرًا لِبَطْنٍ إِلَى أَنْ وَقَعَتْ عَلَى الأرض، ويَعْلَمُها فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ وَرَقَةٍ وَهِيَ حَالٌ مِنَ النَّكِرَةِ. كَمَا تَقُولُ: مَا جَاءَ أَحَدٌ إِلَّا رَاكِبًا.
وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ قِيلَ: تَحْتَ الْأَرْضِ السَّابِعَةِ. وَقِيلَ: تَحْتَ التُّرَابِ.
وَقِيلَ: الْحَبُّ الَّذِي يُزْرَعُ يُخْفِيهَا الزُّرَّاعُ تَحْتَ الْأَرْضِ. وَقِيلَ: تَحْتَ الصَّخْرَةِ فِي أَسْفَلِ الْأَرَضِينَ. وَقِيلَ: وَلَا حَبَّةٍ إِلَّا يَعْلَمُ مَتَى تَنْبُتُ وَمَنْ يَأْكُلُهَا، وَانْظُرْ إِلَى حُسْنِ تَرْتِيبِ هَذِهِ الْمَعْلُومَاتِ بَدَأَ أَوَّلًا بِأَمْرٍ مَعْقُولٍ لَا نُدْرِكُهُ نَحْنُ بِالْحِسِّ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ ثُمَّ ثَانِيًا بِأَمْرٍ نُدْرِكُ كَثِيرًا مِنْهُ بالحس وهو يَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَفِيهِ عُمُومٌ ثُمَّ ثَالِثًا بجزأين لَطِيفَيْنِ أَحَدُهُمَا عُلْوِيٌّ وَهُوَ سُقُوطُ وَرَقَةٍ مِنْ عُلُوٍّ إِلَى أَسْفَلَ، وَالثَّانِي سُفْلِيٌّ وَهُوَ اخْتِفَاءُ حَبَّةٍ فِي بَطْنِ الْأَرْضِ. وَدَلَّتْ هَذِهِ الْجُمَلُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِالْكُلِّيَّاتِ وَالْجُزْئِيَّاتِ وَفِيهَا رَدٌّ عَلَى الْفَلَاسِفَةِ فِي زَعْمِهِمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ الْجُزْئِيَّاتِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَعْلَمُ الْكُلِّيَّاتِ وَلَا الْجُزْئِيَّاتِ حَتَّى هُوَ لَا يَعْلَمُ ذَاتَهُ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ.
وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ الرَّطْبُ وَالْيَابِسُ وَصْفَانِ مَعْرُوفَانِ وَالْمُرَادُ الْعُمُومُ فِي الْمُتَّصِفِ بِهِمَا، وَقَدْ مَثَّلَ الْمُفَسِّرُونَ ذَلِكَ بِمَثَلٍ. فَقِيلَ: مَا يَنْبُتُ وَمَا لَا يَنْبُتُ.
وَقِيلَ: لِسَانُ الْمُؤْمِنِ وَلِسَانُ الْكَافِرِ. وَقِيلَ: الْعَيْنُ الْبَاكِيَةُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَالْعَيْنُ الْجَامِدَةُ لِلْقَسْوَةِ، وَأَمَّا مَا
حَكَاهُ النَّقَّاشُ عَنْ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ أَنَّ الْوَرَقَةَ هِيَ السَّقْطُ مِنْ أَوْلَادِ بَنِي آدَمَ وَالْحَبَّةَ يُرَادُ بِهَا الَّذِي لَيْسَ بِسَقْطٍ، وَالرَّطْبَ الْمُرَادُ بِهِ الْحَيُّ وَالْيَابِسَ يُرَادُ بِهِ الْمَيِّتُ
فَلَا يَصِحُّ عَنْ جَعْفَرٍ وَهُوَ مِنْ تَفْسِيرِ الْبَاطِنِيَّةِ لَعَنَهُمُ اللَّهُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ فِي كِتابٍ مُبِينٍ: هُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: كِنَايَةٌ عَنْ عِلْمِ اللَّهِ الْمُتَيَقَّنِ وَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ جَارٍ مَجْرَى التَّوْكِيدِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَلَا حَبَّةٍ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ مِنْ وَرَقَةٍ وَالِاسْتِثْنَاءُ الْأَوَّلُ مُنْسَحِبٌ عَلَيْهَا كَمَا تَقُولُ: مَا جَاءَنِي مِنْ رَجُلٍ إِلَّا أَكْرَمْتُهُ وَلَا امْرَأَةٍ، فَالْمَعْنَى إِلَّا أَكْرَمْتُهَا وَلَكِنَّهُ لَمَّا طَالَ الْكَلَامُ أُعِيدَ الِاسْتِثْنَاءُ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ وَحَسَّنَهُ كَوْنُهُ فَاصِلَةَ رَأْسِ آيَةٍ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَابْنُ السميفع وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ بِالرَّفْعِ فِيهِمَا وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَا مَعْطُوفَيْنِ عَلَى مَوْضِعِ مِنْ وَرَقَةٍ وَيُحْتَمَلُ الرَّفْعُ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَخَبَرُهُ إِلَّا فِي كِتابٍ
536
مُبِينٍ.
وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ اسْتِئْثَارَهُ بِالْعِلْمِ التَّامِّ لِلْكُلِّيَّاتِ وَالْجُزْئِيَّاتِ ذَكَرَ اسْتِئْثَارَهُ بِالْقُدْرَةِ التَّامَّةِ تَنْبِيهًا عَلَى مَا تَخْتَصُّ بِهِ الْإِلَهِيَّةُ وَذَكَرَ شَيْئًا مَحْسُوسًا قَاهِرًا لِلْأَنَامِ وَهُوَ التَّوَفِّي بِاللَّيْلِ وَالْبَعْثُ بِالنَّهَارِ وَكِلَاهُمَا لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ فِيهِ قُدْرَةٌ، بَلْ هُوَ أَمْرٌ يُوقِعُهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْإِنْسَانِ وَالتَّوَفِّي عِبَارَةٌ فِي الْعُرْفِ عَنِ الْمَوْتِ وَهُنَا الْمَعْنَى بِهِ النَّوْمُ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ لِلْعَلَاقَةِ الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَوْتِ وَهِيَ زَوَالُ إِحْسَاسِهِ وَمَعْرِفَتِهِ وَفِكْرِهِ. وَلَمَّا كَانَ التَّوَفِّي الْمُرَادُ بِهِ النَّوْمُ سَبَبًا لِلرَّاحَةِ أَسْنَدَهُ تَعَالَى إِلَيْهِ وَمَا كَانَ بِمَعْنَى الْمَوْتِ مُؤْلِمًا قَالَ: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ «١» وتَوَفَّتْهُ رُسُلُنا تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ «٢»، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْخِطَابَ عَامٌّ لِكُلِّ سَامِعٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْخِطَابُ لِلْكَفَرَةِ وَخُصَّ اللَّيْلُ بِالنَّوْمِ وَالْبَعْثُ بِالنَّهَارِ وَإِنْ كَانَ قَدْ يُنَامُ بِالنَّهَارِ وَيُبْعَثُ بِاللَّيْلِ حَمْلًا عَلَى الْغَالِبِ، وَمَعْنَى جَرَحْتُمْ كَسَبْتُمْ وَمِنْهُ جَوَارِحُ الطَّيْرِ أَيْ كَوَاسِبُهَا وَاجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ اكْتَسَبُوهَا وَالْمُرَادُ مِنْهَا أَعْمَالُ الْجَوَارِحِ وَمِنْهُ قِيلَ لِلْأَعْضَاءِ جَوَارِحُ. قَالَ ابْنُ عطية: ويحتمل أن يكون مِنَ الْجَرْحِ كَأَنَّ الذَّنْبَ جُرْحٌ فِي الدِّينِ وَالْعَرَبُ تَقُولُ: وَجُرْحُ اللِّسَانِ كَجُرْحِ الْيَدِ. وَقَالَ مَكِّيٌّ: أَصْلُ الِاجْتِرَاحِ عَمَلُ الرَّجُلِ بِجَارِحَةٍ مِنْ جَوَارِحِهِ يَدِهِ أَوْ رِجْلِهِ ثُمَّ كَثُرَ حَتَّى قِيلَ لِكُلِّ مُكْتَسِبٍ مُجْتَرِحٌ وَجَارِحٌ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: مَا جَرَحْتُمْ الْعُمُومُ فِي الْمُكْتَسَبِ خَيْرًا كَانَ أَوْ شَرًّا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَا كَسَبْتُمْ مِنَ الْآثَامِ انْتَهَى، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وقال قَتَادَةُ: مَا عَمِلْتُمْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَا كَسَبْتُمْ وَالْبَعْثُ هُنَا هُوَ التَّنَبُّهُ مِنَ النَّوْمِ وَالضَّمِيرُ فِي فِيهِ عَائِدٌ على بِالنَّهارِ قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ، عَادَ عَلَيْهِ لَفْظًا وَالْمَعْنَى فِي يَوْمٍ آخَرَ كَمَا تَقُولُ: عِنْدِي دِرْهَمٌ وَنِصْفُهُ وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ يَعُودُ عَلَى التَّوَفِّي أَيْ يُوقِظُكُمْ فِي التَّوَفِّي أَيْ فِي خِلَالِهِ وَتَضَاعِيفِهِ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى اللَّيْلِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ مِنَ الْقُبُورِ فِي شَأْنِ ذَلِكَ الَّذِي قَطَعْتُمْ بِهِ أَعْمَارَكُمْ مِنَ النَّوْمِ بِاللَّيْلِ وَكَسْبِ الْآثَامِ بِالنَّهَارِ، وَمِنْ أَجْلِهِ، كَقَوْلِكَ: فِيمَ دَعَوْتَنِي فَتَقُولُ: فِي أَمْرِ كَذَا انْتَهَى.
وَحَمْلُهُ عَلَى الْبَعْثِ مِنَ الْقُبُورِ يَنْبُو عَنْهُ قَوْلُهُ: لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى لِأَنَّ الْمَعْنَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُ تَعَالَى يُحْيِيهِمْ فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ مِنَ النَّوْمِ وَالْيَقَظَةِ لِيَسْتَوْفُوا مَا قُدِّرَ لَهُمْ مِنْ الآجال والأعمار الْمَكْتُوبَةِ، وَقَضَاءُ الْأَجَلِ فَصْلُ مُدَّةِ الْعُمُرِ مِنْ غَيْرِهَا وَمُسَمًّى فِي عِلْمِ اللَّهِ أو في
(١) سورة السجدة: ٣٢/ ١١.
(٢) سورة النحل: ١٦/ ٢٨، ٣٢.
537
اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ أَوْ عِنْدَ تَكَامُلِ الْخَلْقِ وَنَفْخِ الرُّوحِ، فَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ الْمَلَكَ يَقُولُ عِنْدَ كَمَالِ ذَلِكَ. فَمَا الرِّزْقُ فَمَا الْأَجَلُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُوَ الْأَجَلُ الَّذِي سَمَّاهُ وَضَرَبَهُ لِبَعْثِ الْمَوْتَى وَجَزَائِهِمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ هُوَ الْمَرْجِعُ إِلَى مَوْقِفِ الْحِسَابِ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فِي لَيْلِكُمْ وَنَهَارِكُمْ انْتَهَى. وَقَالَ غَيْرُهُ: كَابْنِ جُبَيْرٍ: مَرْجِعُكُمْ بِالْمَوْتِ الْحَقِيقِيِّ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى النَّوْمَ وَالْيَقَظَةَ كَانَ ذَلِكَ تَنْبِيهًا عَلَى الْمَوْتِ وَالْبَعْثِ وَأَنَّ حُكْمَهُمَا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ تَعَالَى وَاحِدٌ فَكَمَا أَنَامَ وَأَيْقَظَ يُمِيتُ وَيُحْيِي. وَقَرَأَ طَلْحَةُ وَأَبُو رَجَاءٍ لِيَقْضِيَ أَجَلًا مُسَمًّى بَنَى الْفِعْلَ لِلْفَاعِلِ وَنَصَبَ أَجَلًا أَيْ لِيُتِمَّ اللَّهُ آجَالَهُمْ كَقَوْلِهِ: فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ «١» وفي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ الْمَحْذُوفُ ضَمِيرَهُ أَوْ ضَمِيرَهُمْ.
وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي تَفْسِيرِ وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ. قَالَ هُنَا ابْنُ عَطِيَّةَ: الْقاهِرُ إِنْ أَخَذَ صِفَةَ فِعْلٍ أَيْ مُظْهِرُ الْقَهْرِ بِالصَّوَاعِقِ وَالرِّيَاحِ وَالْعَذَابِ، فَيَصِحُّ أَنَّ تُجْعَلَ فَوْقَ ظَرْفِيَّةً لِلْجِهَةِ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ إِنَّمَا تَعَاهُدُهَا لِلْعِبَادِ مِنْ فَوْقِهِمْ وَإِنْ أَخَذَ الْقاهِرُ صِفَةَ ذَاتٍ بِمَعْنَى الْقُدْرَةِ وَالِاسْتِيلَاءِ فَفَوْقَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْجِهَةِ وَإِنَّمَا هُوَ لِعُلُوِّ الْقَدْرِ وَالشَّأْنِ، كَمَا تَقُولُ: الْيَاقُوتُ فَوْقَ الْحَدِيدِ انْتَهَى. وَظَاهِرُ وَيُرْسِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى وَهُوَ الْقاهِرُ عَطْفَ جُمْلَةٍ فِعْلِيَّةٍ عَلَى جُمْلَةٍ اسْمِيَّةٍ وَهِيَ مِنْ آثَارِ الْقَهْرِ. وَجَوَّزَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى قَوْلِهِ: يَتَوَفَّاكُمْ وَمَا بَعْدَهُ مِنَ الْأَفْعَالِ وَأَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى الْقاهِرُ التَّقْدِيرُ وَهُوَ الَّذِي يَقْهَرُ وَيُرْسِلُ، وَأَنْ يَكُونَ حَالًا عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ أَيْ وَهُوَ يُرْسِلُ وَذُو الْحَالِ إِمَّا الضَّمِيرُ فِي الْقاهِرُ وَإِمَّا الضَّمِيرُ فِي الظَّرْفِ وَهَذَا أضعف هذه الأعاريب، وَعَلَيْكُمْ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِيُرْسِلُ كَقَوْلِهِ: يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ «٢» وَلَفْظَةُ عَلَى مُشْعِرَةٌ بِالْعُلُوِّ وَالِاسْتِعْلَاءِ لِتَمَكُّنِهِمْ مِنَّا جُعِلُوا كَأَنَّ ذَلِكَ عَلَيْنَا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بحفظة أَيْ وَيُرْسِلُ حَفَظَةً عَلَيْكُمْ أَيْ يَحْفَظُونَ عَلَيْكُمْ أَعْمَالَكُمْ، كَمَا قَالَ:
وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ «٣» كَمَا تَقُولُ: حَفِظْتُ عَلَيْكَ مَا تَعْمَلُ. وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ حَالًا لِأَنَّهُ لو يتأخر لَكَانَ صِفَةً أَيْ حَفَظَةً كَائِنَةً عَلَيْكُمْ أَيْ مُسْتَوْلِينَ عليكم وحَفَظَةً جَمْعُ حَافِظٍ وَهُوَ جَمْعٌ مُنْقَاسٌ لِفَاعِلٍ وَصْفًا مُذَكَّرًا صَحِيحَ اللَّامِ عَاقِلًا وَقَلَّ فِيمَا لَا يَعْقِلُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
أَيْ مَلَائِكَةً حَافِظِينَ لِأَعْمَالِكُمْ وَهُمُ الْكِرَامُ الْكَاتِبُونَ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: المراد بذلك
(١) سورة القصص: ٢٨/ ٢٩.
(٢) سورة الرحمن: ٥٥/ ٣٥.
(٣) سورة الانفطار: ٨٢/ ١٠.
538
الْمَلَائِكَةُ الْمُوَكَّلُونَ بِكَتْبِ الْأَعْمَالِ انْتَهَى. وَمَا قَالَاهُ هُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَظَاهِرُ الْجَمْعِ أَنَّهُ مُقَابِلُ الْجَمْعِ وَلَمْ تَتَعَرَّضِ الْآيَةُ لِعَدَدِ مَا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ وَلَا لِمَا يَحْفَظُونَ عَلَيْهِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَلَكَانِ مَعَ كُلِّ إِنْسَانٍ أَحَدُهُمَا عَنْ يَمِينِهِ لِلْحَسَنَاتِ، وَالْآخَرُ عَنْ شِمَالِهِ لِلسَّيِّئَاتِ وَإِذَا عَمِلَ سَيِّئَةً قَالَ مَنْ عَلَى الْيَمِينِ: انْتَظِرْهُ لَعَلَّهُ يَتُوبُ مِنْهَا فَإِنْ لَمْ يَتُبْ كُتِبَتْ عَلَيْهِ. وَقِيلَ:
مَلَكَانِ بِاللَّيْلِ وَمَلَكَانِ بِالنَّهَارِ أَحَدُهُمَا يَكْتُبُ الْخَيْرَ وَالْآخَرُ يَكْتُبُ الشَّرَّ، فَإِذَا مَشَى كَانَ أَحَدُهُمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَالْآخَرُ وَرَاءَهُ وَإِذَا جَلَسَ فَأَحَدُهُمَا عَنْ يَمِينِهِ وَالْآخَرُ عَنْ شِمَالِهِ. وَقِيلَ:
خَمْسَةٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ اثْنَانِ بِاللَّيْلِ وَاثْنَانِ بِالنَّهَارِ، وَوَاحِدٌ لَا يُفَارِقُهُ لَيْلًا وَلَا نَهَارًا وَالْمَكْتُوبُ الْحَسَنَةُ وَالسَّيِّئَةُ. وَقِيلَ: الطَّاعَاتُ وَالْمَعَاصِي وَالْمُبَاحَاتُ. وَقِيلَ: لَا يَطَّلِعُونَ إِلَّا عَلَى الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ لِقَوْلِهِ: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ «١» وَلِقَوْلِهِ: يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ «٢» وَأَمَّا أَعْمَالُ الْقُلُوبِ فَعِلْمُهُ لِلَّهِ تَعَالَى. وَقِيلَ: يَطَّلِعُونَ عَلَيْهَا عَلَى الْإِجْمَالِ لَا عَلَى التَّفْصِيلِ فَإِذَا عَقَدَ سَيِّئَةً خَرَجَتْ مِنْ فِيهِ رِيحٌ خَبِيثَةٌ أَوْ حَسَنَةً خَرَجَتْ رِيحٌ طَيِّبَةٌ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ (فَإِنْ قُلْتَ) : اللَّهُ غَنِيٌّ بِعِلْمِهِ عَنْ كَتْبِ الْكَتَبَةِ فَمَا فَائِدَتُهَا؟ (قُلْتُ) :
فِيهَا لُطْفٌ لِلْعِبَادِ لِأَنَّهُمْ إِذَا عَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ رَقِيبٌ عَلَيْهِمْ، وَالْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ أَشْرَفُ خَلْقِهِ مُوَكَّلُونَ بِهِمْ يَحْفَظُونَ عَلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ وَيَكْتُبُونَهَا فِي صَحَائِفَ تُعْرَضُ عَلَى رؤوس الْأَشْهَادِ فِي مَوَاقِفِ الْقِيَامَةِ، كَانَ ذَلِكَ أَزْجَرَ لَهُمْ عَنِ الْقَبِيحِ وَأَبْعَدَ مِنَ السُّوءِ انْتَهَى. وَقَوْلُهُ:
وَالْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ هُمْ أَشْرَفُ خَلْقِهِ هُوَ جَارٍ عَلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ فِي الْمَلَائِكَةِ، وَلَا تَتَعَيَّنُ هَذِهِ الْفَائِدَةُ إِذْ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْفَائِدَةُ فِيهَا أَنْ تُوزَنَ صَحَائِفُ الْأَعْمَالِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِأَنَّ وَزْنَ الْأَعْمَالِ بِمُجَرَّدِهَا لَا يُمْكِنُ، وَهَذِهِ الْفَائِدَةُ جَارِيَةٌ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَتَأَوَّلُوا الْوَزْنَ وَالْمِيزَانَ وَلَا يُشْعِرُ قَوْلُهُ: حَفَظَةً أَنَّ ذَلِكَ الْحِفْظَ بِالْكِتَابَةِ كَمَا فَسَّرُوا بَلْ قَدْ قِيلَ: هُمُ الْمَلَائِكَةُ الذي
قَالَ فِيهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَتَعَاقَبُ فِيكُمْ مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ» قَالَهُ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ.
وَقِيلَ: يَحْفَظُونَ الْإِنْسَانَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى يَأْتِيَ أَجْلُهُ.
حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا أَيْ أَسْبَابُ الْمَوْتِ تَوَفَّتْهُ قَبَضَتْ رُوحَهُ رُسُلُنا جَاءَ جَمْعًا. فَقِيلَ: عَنَى بِهِ مَلَكَ الْمَوْتِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَطْلَقَ عَلَيْهِ الْجَمْعَ تَعْظِيمًا. وَقِيلَ: مَلَكُ الْمَوْتِ وَأَعْوَانُهُ وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ رُسُلُنا عَيْنُ الْحَفَظَةِ يَحْفَظُونَهُمْ مُدَّةَ الْحَيَاةِ، وَعِنْدَ مَجِيءِ أَسْبَابِ الْمَوْتِ يَتَوَفَّوْنَهُمْ وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ قَوْلِهِ:
(١) سورة ق: ٥٠/ ١٨.
(٢) سورة الانفطار: ٨٢/ ١٢.
539
اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها «١» وَبَيْنَ قَوْلِهِ: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ «٢» وَبَيْنَ قَوْلِهِ: تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا لِأَنَّ نِسْبَةِ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالْحَقِيقَةِ وَلِغَيْرِهِ بِالْمُبَاشَرَةِ، وَلِمَلَكِ الْمَوْتِ لِأَنَّهُ هُوَ الْآمِرُ لِأَعْوَانِهِ وَلَهُ وَلَهُمْ بِكَوْنِهِمْ هُمُ الْمُتَوَلُّونَ قَبْضَ الْأَرْوَاحِ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ جُعِلَتِ الْأَرْضُ لَهُ كَالطَّسْتِ يَتَنَاوَلُ مِنْهُ مَنْ يَتَنَاوَلُهُ وَمَا مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ إِلَّا وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ فِي كُلِّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ: تَوَفَّاهُ بِأَلِفٍ مُمَالَةٍ وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ فِعْلٌ مَاضٍ كَتَوَفَّتْهُ إِلَّا أَنَّهُ ذُكِّرَ عَلَى مَعْنَى الْجَمْعِ، وَمَنْ قَرَأَ تَوَفَّتْهُ أَنَّثَ عَلَى مَعْنَى الْجَمَاعَةِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُضَارِعًا وَأَصْلُهُ تَتَوَفَّاهُ فَحُذِفَتْ إِحْدَى التَّاءَيْنِ عَلَى الْخِلَافِ فِي تَعْيِينِ الْمَحْذُوفَةِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ يَتَوَفَّاهُ بِزِيَادَةِ يَاءِ الْمُضَارَعَةِ عَلَى التَّذْكِيرِ.
وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ وَالْعَامِلُ فِيهَا تَوَفَّتْهُ أَوِ اسْتِئْنَافِيَّةٌ أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ فِي شَيْءٍ مِمَّا أُمِرُوا بِهِ مِنَ الْحِفْظِ وَالتَّوَفِّي وَمَعْنَاهُ: لَا يُقَصِّرُونَ. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ وَعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ لَا يُفَرِّطُونَ بِالتَّخْفِيفِ أَيْ لَا يُجَاوِزُونَ الْحَدَّ فِيمَا أُمِرُوا بِهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَالتَّفْرِيطُ التَّوَلِّي وَالتَّأَخُّرُ عَنِ الْحَدِّ وَالْإِفْرَاطُ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ أَيْ لَا يُنْقَصُونَ مِمَّا أُمِرُوا بِهِ وَلَا يَزِيدُونَ فِيهِ انْتَهَى، وَهُوَ مَعْنَى كَلَامِ ابْنِ جِنِّيٍّ. وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: يُفَرِّطُونَ لَا يَدَعُونَ أَحَدًا يَفْرُطُ عَنْهُمْ أَيْ يَسْبِقُهُمْ وَيَفُوتُهُمْ. وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ قِرَاءَةُ التَّخْفِيفِ مَعْنَاهَا لَا يَتَقَدَّمُونَ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ وَهَذَا لَا يَصِحُّ إِلَّا إِذَا نُقِلَ أَنَّ أَفْرَطَ بِمَعْنَى فَرَّطَ أَيْ تَقَدَّمَ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: إِذَا احْتُضِرَ الْمَيِّتُ احْتَضَرَهُ خَمْسُمِائَةِ مَلِكٍ يَقْبِضُونَ رُوحَهُ فَيَعْرُجُونَ بِهَا.
ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ الظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ عَلَى الْعِبَادِ، وَجَاءَ عَلَيْكُمْ عَلَى سَبِيلِ الِالْتِفَاتِ لِمَا فِي الْخِطَابِ مِنَ تَقْرِيبِ الْمَوْعِظَةِ مِنَ السَّامِعِينَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ فِي رُدُّوا عَلَى أَحَدِكُمْ عَلَى الْمَعْنَى لِأَنَّهُ لَا يُرِيدُ بِ أَحَدَكُمُ ظَاهِرَهُ مِنَ الْإِفْرَادِ إِنَّمَا مَعْنَاهُ الْجَمْعُ وَكَأَنَّهُ قِيلَ: حَتَّى إِذَا جَاءَكُمُ الْمَوْتُ، وَقُرِئَ رُدُّوا بِكَسْرِ الرَّاءِ نُقِلَ حَرَكَةُ الدَّالِ الَّتِي أُدْغِمَتْ إِلَى الرَّاءِ وَالرَّادُّ الْمُحَذَّرُ مِنَ اللَّهِ أَوْ بِالْبَعْثِ فِي الْآخِرَةِ أَوِ الْمَلَائِكَةُ رَدَّتْهُمْ بِالْمَوْتِ إِلَى اللَّهِ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى رُسُلُنا أَيِ الْمَلَائِكَةُ يَمُوتُونَ كَمَا يَمُوتُ بَنُو آدَمَ وَيُرَدُّونَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَعَوْدُهُ عَلَى الْعِبَادِ أَظْهَرُ ومَوْلاهُمُ لَفْظٌ عَامٌّ لِأَنْوَاعِ الْوَلَايَةِ الَّتِي تَكُونُ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ عَبِيدِهِ مِنَ الْمُلْكِ وَالنُّصْرَةِ وَالرِّزْقِ وَالْمُحَاسَبَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَفِي الْإِضَافَةِ إِشْعَارٌ بِرَحْمَتِهِ لَهُمْ وَظَاهِرُ الْإِخْبَارِ بِالرَّدِّ إِلَى اللَّهِ أَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الْبَعْثُ وَالرُّجُوعُ إِلَى حُكْمِ اللَّهِ وَجَزَائِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ آخِرُ الْآيَةِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: صَرِيحُ الْآيَةِ يَدُلُّ على
(١) سورة الزمر: ٣٩/ ٤٢.
(٢) سورة السجدة: ٣٢/ ١١. [.....]
540
حُصُولِ الْمَوْتِ لِلْعَبْدِ وَرَدِّهِ إِلَى اللَّهِ وَالْمَيِّتُ مَعَ كَوْنِهِ مَيِّتًا لَا يُمْكِنُ أَنْ يُرَدَّ إِلَى اللَّهِ بَلِ الْمَرْدُودُ هُوَ النَّفْسُ وَالرُّوحُ وَهُنَا مَوْتٌ وَحَيَاةٌ، فَالْمَوْتُ نَصِيبُ الْبَدَنِ وَالْحَيَاةُ نَصِيبُ النَّفْسِ وَالرُّوحِ فَثَبَتَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَيْسَ إِلَّا النَّفْسُ وَالرُّوحُ وَلَيْسَ عِبَارَةً عَنْ مُجَرَّدِ هَذِهِ الْبِنْيَةِ وَفِي قَوْلِهِ: رُدُّوا إِلَى اللَّهِ إِشْعَارٌ بِكَوْنِ الرُّوحِ مَوْجُودَةً قَبْلَ الْبَدَنِ لِأَنَّ الرَّدَّ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ إِلَى حَضْرَةِ الْجَلَالِ إِنَّمَا يَكُونُ إِذَا كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ التَّعَلُّقِ بِالْبَدَنِ وَنَظِيرُهُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ «١» إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً «٢» وَجَاءَ
فِي الْحَدِيثِ: «خُلِقَتِ الْأَرْوَاحُ قَبْلَ الْأَجْسَادِ بِأَلْفَيْ عَامٍ».
وَحُجَّةُ الْفَلَاسِفَةِ عَلَى كَوْنِ النُّفُوسِ غَيْرَ مَوْجُودَةٍ قَبْلَ وُجُودِ الْبَدَنِ ضَعِيفَةٌ وَبَيَّنَّا ضَعْفَهَا فِي الْكُتُبِ الْعَقْلِيَّةِ انْتَهَى كَلَامُهُ وَفِيهِ بَعْضُ تَلْخِيصٍ. وَقَالَ أَيْضًا: إِلَى اللَّهِ يُشْعِرُ بِالْجِهَةِ وَهُوَ بَاطِلٌ فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى أَنَّهُمْ رُدُّوا إِلَى حَيْثُ لَا مَالِكَ وَلَا حَاكِمَ سِوَاهُ انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الرَّدَّ هُوَ بِالْبَعْثِ يوم القيامة إلا مَا أَرَادَهُ الرَّازِيُّ وَوَصْفُهُ تَعَالَى بِالْحَقِّ مَعْنَاهُ الْعَدْلُ الَّذِي لَيْسَ بِبَاطِلٍ وَلَا مَجَازٍ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ:
كَانُوا فِي الدُّنْيَا تَحْتَ تَصَرُّفَاتِ الْمَوَالِي الْبَاطِلَةِ وَهِيَ النَّفْسُ وَالشَّهْوَةُ وَالْغَضَبُ كَمَا قَالَ تَعَالَى:
أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ «٣» فَلَمَّا مَاتَ تَخَلَّصَ مِنْ تَصَرُّفَاتِ الْمَوَالِي الْبَاطِلَةِ وَانْتَقَلَ إِلَى تَصَرُّفِ الْمَوْلَى الْحَقِّ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَتَفْسِيرُهُ خَارِجٌ عَنْ مَنَاحِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَمَقَاصِدِهَا وَهُوَ فِي أَكْثَرِهِ شَبِيهٌ بِكَلَامِ الَّذِينَ يُسَمُّونَ أَنْفُسَهُمْ حُكَمَاءَ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالْأَعْمَشُ الْحَقِّ بِالنَّصْبِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ صِفَةٌ قُطِعَتْ فَانْتَصَبَتْ عَلَى الْمَدْحِ وَجَوَّزَ نَصْبَهُ عَلَى الْمَصْدَرِ تَقْدِيرُهُ الرَّدَّ الْحَقَّ.
أَلا لَهُ الْحُكْمُ تَنْبِيهٌ مِنْهُ تَعَالَى عِبَادَهُ بِأَنَّ جَمِيعَ أَنْوَاعِ التَّصَرُّفَاتِ لَهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَلا لَهُ الْحُكْمُ يَوْمَئِذٍ لَا حُكْمَ فِيهِ لِغَيْرِهِ.
وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي سُرْعَةِ حِسَابِهِ تَعَالَى فِي قَوْلُهُ: وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ «٤».
قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ لَمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ دَلَائِلَ عَلَى أُلُوهِيَّتِهِ تَعَالَى مِنَ الْعِلْمِ التَّامِّ وَالْقُدْرَةِ الْكَامِلَةِ ذَكَرَ نَوْعًا مِنْ أَثَرِهِمَا وَهُوَ الْإِنْجَاءُ مِنَ الشَّدَائِدِ وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ يُرَادُ بِهِ التَّقْرِيرُ وَالْإِنْكَارُ وَالتَّوْبِيخُ وَالتَّوْقِيفُ عَلَى سُوءِ مُعْتَقَدِهِمْ عِنْدَ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَتَرْكِ الَّذِي يُنَجِّي مِنَ الشَّدَائِدِ وَيُلْجَأُ إِلَيْهِ فِي كَشْفِهَا. قِيلَ: وَأُرِيدَ حَقِيقَةُ الظَّلَمَةِ وَجُمِعَتْ بِاعْتِبَارِ مَوَادِّهَا فَفِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ظُلْمَةُ اللَّيْلِ وَظُلْمَةُ السَّحَابِ وَظُلْمَةُ الصَّوَاعِقِ، وَفِي الْبَرِّ أَيْضًا ظُلْمَةُ الغبار
(١) سورة الفجر: ٨٩/ ٢٨.
(٢) سورة المائدة: ٥/ ٤٨ وغيرها.
(٣) سورة الفرقان: ٢٥/ ٤٣، والجاثية: ٤٥/ ٢٣.
(٤) سورة البقرة: ٢/ ٢٠٢، والنور: ٢٤/ ٣٩.
541
وَظُلْمَةُ الْغَيْمِ وَظُلْمَةُ الرِّيحِ، وَفِي الْبَحْرِ أَيْضًا ظُلْمَةُ الْأَمْوَاجِ وَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ التَّقْدِيرُ مَهَالِكُ ظُلْمَةِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَخَاوِفُهَا وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الظُّلُمَاتِ مَجَازٌ عَنْ شَدَائِدِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَخَاوِفِهِمَا وَأَهْوَالِهِمَا، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: يَوْمٌ أَسْوَدُ وَيَوْمٌ مُظْلِمٌ وَيَوْمٌ ذُو كَوَاكِبَ كَأَنَّهُ لِإِظْلَامِهِ وَغَيْبُوبَةِ شَمْسِهِ بَدَتْ فِيهِ الْكَوَاكِبُ وَيَعْنُونَ بِهِ أَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ شَدِيدٌ عَلَيْهِمْ. قَالَ قَتَادَةُ وَالزَّجَّاجُ: مِنْ كُرَبِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ. وَحَكَى الطَّبَرِيُّ: ضَلَالَ الطَّرِيقِ فِي الظُّلُمَاتِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ مَا يُشْفُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْخَسْفِ فِي الْبَرِّ وَالْغَرَقِ فِي الْبَحْرِ بِذُنُوبِهِمْ فَإِذَا دَعَوْا وَتَضَرَّعُوا كَشَفَ اللَّهُ عَنْهُمُ الْخَسْفَ وَالْغَرَقَ فَنَجَوْا مِنْ ظُلُمَاتِهَا انْتَهَى.
تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً أَيْ تُنَادُونَهُ مُظْهِرِي الْحَاجَةِ إِلَيْهِ وَمُخْفِيهَا وَالتَّضَرُّعُ وَصْفٌ بَادٍ عَلَى الْإِنْسَانِ وَالْخُفْيَةُ الْإِخْفَاءُ. وقال الحسن: تضرعا وعلانية خُفْيَةً أَيْ نِيَّةً وَانْتَصَبَا على المصدر، وتَدْعُونَهُ حَالٌ وَيُقَالُ: خُفْيَةً بِضَمِّ الْخَاءِ وَهِيَ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ وَبِكَسْرِهَا وَهِيَ قِرَاءَةُ أَبِي بَكْرٍ. وقرأ الأعمش وَخُفْيَةً مِنَ الْخَوْفِ. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ مَنْ يُنَجِّيكُمْ قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ بِالتَّشْدِيدِ فِيهِمَا، وَحُمَيْدُ بْنُ قَيْسٍ وَيَعْقُوبُ وَعَلِيُّ بْنُ نَصْرٍ عَنْ أَبِي عَمْرٍو بِالتَّخْفِيفِ فِيهِمَا وَالْحَرَمِيَّانِ وَالْعَرَبِيَّانِ بِالتَّشْدِيدِ فِي مَنْ يُنَجِّيكُمْ وَالتَّخْفِيفِ فِي قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ جَمَعُوا بَيْنَ التَّعْدِيَةِ بِالْهَمْزَةِ وَالتَّضْعِيفِ، كَقَوْلِهِ: فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ «١».
لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ هَذِهِ إِشَارَةٌ إِلَى الظُّلُمَاتِ وَالْمَعْنَى قَائِلِينَ لئن أنجانا لَمَّا دَعَوْهُ، أَقْسَمُوا أَنَّهُمْ يَشْكُرُونَهُ عَلَى كَشْفِ هَذِهِ الشَّدَائِدِ وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا قَبْلَ الْوُقُوعِ فِي هَذِهِ الشَّدَائِدِ شَاكِرِينَ لِأَنْعُمِهِ. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ لَئِنْ أَنْجانا عَلَى الْغَائِبِ وَأَمَالَهُ الْأَخَوَانِ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ عَلَى الْخِطَابِ.
قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ الضَّمِيرَ فِي مِنْها عَائِدٌ عَلَى مَا أُشِيرَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ مِنْ هذِهِ ومن كُلِّ مَعْطُوفٌ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ أُعِيدَ مَعَهُ الْخَافِضُ وَأَمَرَهُ تَعَالَى بِالْمُسَابَقَةِ إِلَى الجواب ليكون هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْبَقَ إِلَى الْخَيْرِ وَإِلَى الِاعْتِرَافِ بِالْحَقِّ ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ تَعَالَى يُنَجِّي مِنْ هَذِهِ الشَّدَائِدِ الَّتِي حَضَرَتْهُمْ وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ فَعَمَّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ ثُمَّ ذَكَرَ قَبِيحَ مَا يَأْتُونَ بَعْدَ ذَلِكَ وَبَعْدَ إِقْرَارِهِمْ بِالدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ وَوَعْدِهِمْ إِيَّاهُ بِالشُّكْرِ مِنْ إِشْرَاكِهِمْ مَعَهُ فِي الْعِبَادَةِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَعَطَفَ بِ ثُمَّ لِلْمُهْلَةِ التي تبين قبح
(١) سورة الطارق: ٨٦/ ١٧.
542
فِعْلِهِمْ أَيْ ثُمَّ بَعْدَ مَعْرِفَتِكُمْ بِهَذَا كُلِّهِ وَتَحَقُّقِهِ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ انْتَهَى. وَقِيلَ: مَعْنَى تُشْرِكُونَ تَعُودُونَ إِلَى مَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْإِشْرَاكِ وَعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَلَا يَخْفَى مَا فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ مِنَ التَّقْبِيحِ عَلَيْهِمْ إِذْ وُوجِهُوا بِقَوْلِهِ: ثُمَّ أَنْتُمْ كَقَوْلِهِ: ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ بَعْدَ قَوْلِهِ وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ «١» وإذا كَانَ الْخَبَرُ تُشْرِكُونَ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ الْمُشْعِرِ بِالِاسْتِمْرَارِ وَالتَّجَدُّدِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كَمَا كَانُوا عَلَيْهِ فِيمَا مَضَى.
قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ هَذَا إِخْبَارٌ يَتَضَمَّنُ الْوَعِيدَ، وَالْأَظْهَرُ مَنْ نَسَقِ الْآيَاتِ أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْكُفَّارِ وَهُوَ مَذْهَبُ الطَّبَرِيِّ. وَقَالَ أُبَيٌّ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَجَمَاعَةٌ: هِيَ خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ. قَالَ أُبَيٌّ: هُنَّ أَرْبَعٌ: عَذَابٌ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَضَتِ اثنتان قبل وَفَاةِ الرَّسُولِ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً لُبِسُوا شِيَعًا وَأُذِيقَ بَعْضُهُمْ بِأْسَ بَعْضٍ، وَثِنْتَانِ وَاقِعَتَانِ لَا مَحَالَةَ الْخَسْفُ وَالرَّجْمُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: بَعْضُهَا لِلْكُفَّارِ بَعْثُ الْعَذَابَ مِنْ فَوْقُ وَمِنْ تَحْتُ وَسَائِرُهَا لِلْمُؤْمِنِينَ، انْتَهَى.
وَحِينَ نَزَلَتِ اسْتَعَاذَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ فِي الثَّالِثَةِ: «هَذِهِ أَهْوَنُ أَوْ هَذِهِ أَيْسَرُ»
وَاحْتَجَّ بِهَذَا مَنْ قَالَ هِيَ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَعَوَّذَ لِأُمَّتِهِ مِمَّا وُعِدَ بِهِ الْكُفَّارُ وَهَوَّنَ الثَّالِثَةَ لِأَنَّهَا فِي الْمَعْنَى هِيَ الَّتِي دَعَا فِيهَا فَمُنِعَ كَمَا فِي حَدِيثِ الْمُوَطَّأِ وَغَيْرِهِ. وَالظَّاهِرُ مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ الْحَقِيقَةُ كَالصَّوَاعِقِ وَكَمَا أَمْطَرَ عَلَى قَوْمِ لُوطٍ وَأَصْحَابِ الْفِيلِ الْحِجَارَةَ وَأَرْسَلَ عَلَى قَوْمِ نُوحٍ الطُّوفَانَ، كَقَوْلِهِ: فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ «٢» وَكَالزَّلَازِلِ وَنَبْعِ الْمَاءِ الْمُهْلِكِ وَكَمَا خُسِفَ بِقَارُونَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ وَابْنِ جُبَيْرٍ: الرَّجْمُ وَالْخَسْفُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِنْ فَوْقِكُمْ وُلَاةُ الْجَوْرِ ومِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ سَفَلَةُ السُّوءِ وَخِدْمَتُهُ. وَقِيلَ: حَبْسُ الْمَطَرِ وَالنَّبَاتِ. وَقِيلَ: مِنْ فَوْقِكُمْ خِذْلَانُ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ والآذان واللسان ومِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ خِذْلَانُ الْفَرْجِ وَالرِّجْلِ إِلَى الْمَعَاصِي انْتَهَى، وَهَذَا وَالَّذِي قَبْلَهُ مَجَازٌ بَعِيدٌ.
أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً أَيْ يَخْلِطَكُمْ فِرَقًا مُخْتَلِفِينَ عَلَى أَهْوَاءٍ شَتَّى كُلُّ فِرْقَةٍ مِنْكُمْ مُشَايِعَةٌ لِإِمَامٍ وَمَعْنَى خَلْطِهِمْ إِنْشَابُ الْقِتَالِ بَيْنَهُمْ فَيَخْتَلِطُوا وَيَشْتَبِكُوا فِي مَلَاحِمِ الْقِتَالِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
وَكَتِيبَةٌ لَبَّسْتُهَا بِكَتِيبَةٍ حَتَّى إِذَا الْتَبَسَتْ نَفَضْتُ لَهَا يَدِي
فَتَرَكْتُهُمْ تَقِصُّ الرِّمَاحُ ظُهُورَهُمْ مَا بَيْنَ مُنْعَفِرٍ وآخر مسند
(١) سورة البقرة: ٢/ ٨٤.
(٢) سورة القمر: ٥٤/ ١١.
543
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: تَثْبُتُ فِيكُمُ الْأَهْوَاءُ الْمُخْتَلِفَةُ فَتَصِيرُونَ فِرَقًا. وَقِيلَ: الْمَعْنَى يَقْوَى عَدُوُّكُمْ حَتَّى يُخَالِطُوكُمْ. وَقَرَأَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَدَنِيُّ يَلْبِسَكُمْ بِضَمِّ الْيَاءِ مِنَ اللُّبْسِ اسْتِعَارَةً مِنَ اللِّبَاسِ فَعَلَى فَتْحِ الْيَاءِ يَكُونُ شِيَعاً حَالًا. وَقِيلَ: مَصْدَرٌ وَالْعَامِلُ فِيهِ يَلْبِسَكُمْ مِنْ غَيْرِ لَفْظِهِ انْتَهَى. وَيُحْتَاجُ فِي كَوْنِهِ مَصْدَرًا إِلَى نَقْلٍ مِنَ اللُّغَةِ وَعَلَى ضَمِّ الْيَاءِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ أَوْ يُلْبِسَكُمُ الْفِتْنَةَ شِيَعًا وَيَكُونُ شِيَعاً حَالًا، وَحُذِفَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي شِيَعًا كَأَنَّ الناس يلبسهم بَعْضُهُمْ بَعْضًا كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
لَبِسْتُ أُنَاسًا فَأَفْنَيْتُهُمْ وَغَادَرْتُ بَعْدَ أُنَاسٍ أُنَاسًا
وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنِ الْخُلْطَةِ وَالْمُعَايَشَةِ.
وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ الْبَأْسُ الشِّدَّةُ مِنْ قتل وغيره والإذاقة والإنالة والإصابة هي مَنْ أَقْوَى حَوَاسِّ الِاخْتِبَارِ وَكَثُرَ اسْتِعْمَالِهَا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَفِي الْقُرْآنِ قَالَ تَعَالَى:
ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ «١». وَقَالَ الشَّاعِرُ:
أَذَقْنَاهُمْ كُؤُوسَ الْمَوْتِ صِرْفًا وَذَاقُوا مِنْ أَسِنَّتِنَا كُؤُوسًا
وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: وَنُذِيقَ بِالنُّونِ وَهِيَ نُونُ عَظَمَةِ الْوَاحِدِ وَهِيَ الْتِفَاتٌ فأيدته نِسْبَةِ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ عَلَى سَبِيلِ الْعَظَمَةِ وَالْقُدْرَةِ الْقَاهِرَةِ.
انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ هَذَا اسْتِرْجَاعٌ لَهُمْ وَلَفْظَةُ تَعَجُّبٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم والمعنى إنا نسألك فِي مَجِيءِ الْآيَاتِ أَنْوَاعًا رَجَاءَ أَنْ يَفْقَهُوا وَيَفْهَمُوا عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ فِي اخْتِلَافِ الْآيَاتِ مَا يقتضي الفهم إن عزبت آية لم تعزب أُخْرَى.
وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قَالَ السُّدِّيُّ: بِهِ عَائِدٌ عَلَى الْقُرْآنِ الَّذِي فِيهِ جَاءَ تَصْرِيفُ الْآيَاتِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بِهِ رَاجِعٌ إِلَى الْعَذَابِ وَهُوَ الْحَقُّ أَيْ لَا بُدَّ أَنْ يَنْزِلَ بِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أن يَعُودَ عَلَى الْوَعِيدِ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ الْآيَةُ وَنَحَا إِلَيْهِ الطَّبَرِيُّ.
وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا لِقُرْبِ مُخَاطَبَتِهِ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْكَافِ انْتَهَى. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: وَكَذَّبَتْ بِهِ قَوْمُكُ بِالتَّاءِ، كَمَا قَالَ: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ «٢» وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَهُوَ الْحَقُّ جُمْلَةُ اسْتِئْنَافٍ لَا حَالٌ.
قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ أَيْ لَسْتُ بِقَائِمٍ عَلَيْكُمْ لِإِكْرَاهِكُمْ عَلَى التوحيد. وقيل:
(١) سورة القمر: ٥٤/ ٤٨.
(٢) سورة الشعراء: ٢٦/ ١٠٥.
544
بِوَكِيلٍ بِمُسَلَّطٍ وَقِيلَ: لَا أَقْدِرُ عَلَى مَنْعِكُمْ مِنَ التَّكْذِيبِ إِجْبَارًا إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا كَانَ قَبْلَ نُزُولِ الْجِهَادِ وَالْأَمْرِ بِالْقِتَالِ ثُمَّ نُسِخَ. وَقِيلَ: لَا نَسْخَ فِي هَذَا إِذْ هُوَ خَبَرٌ وَالنَّسْخُ فِيهِ مُتَوَجِّهٌ لِأَنَّ اللَّازِمَ مِنَ اللَّفْظِ لَسْتُ الْآنَ وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ.
لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ أَيْ لِكُلِّ أَجَلٍ شَيْءٌ ينبأ بِهِ يَعْنِي مِنْ إِنْبَائِهِ بأنهم يعذبون وإبعادهم بِهِ وَقْتَ اسْتِقْرَارٍ وَحُصُولٍ لَا بُدَّ مِنْهُ. وَقِيلَ: لِكُلِّ عَمَلٍ جَزَاءٌ وَلَيْسَ هَذَا بِالظَّاهِرِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: اسْتَقَرَّ نَبَأُ الْقُرْآنِ بِمَا كَانَ يَعِدُهُمْ مِنَ الْعَذَابِ يَوْمَ بَدْرٍ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: مِنْهُ فِي الدُّنْيَا يَوْمَ بَدْرٍ وَفِي الْآخِرَةِ جَهَنَّمُ. وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مُبَالَغَةٌ فِي التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ فَيَجُوزُ أَنْ يكون تهديد بِعَذَابِ الْآخِرَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَهْدِيدًا بِالْحَرْبِ وَأَخْذِهِمْ بِالْإِيمَانِ عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ وَالِاسْتِيلَاءِ.
وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ هَذَا خِطَابٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَدْخُلُ فِيهِ الْمُؤْمِنُونَ لِأَنَّ عِلَّةَ النَّهْيِ وَهُوَ سَمَاعُ الْخَوْضِ فِي آيَاتِ اللَّهِ يَشْمَلُهُ وَإِيَّاهُمْ. وَقِيلَ: هو خاص بتوحيده لِأَنَّ قِيَامَهُ عَنْهُمْ كَانَ يشق عليهم وَفِرَاقَهُ عَلَى مُغَاضِبِهِ وَالْمُؤْمِنُونَ عِنْدَهُمْ لَيْسُوا كَهُوَ. وَقِيلَ: خِطَابٌ لِلسَّامِعِ والَّذِينَ يَخُوضُونَ الْمُشْرِكُونَ أَوِ الْيَهُودُ أَوْ أَصْحَابُ الْأَهْوَاءِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ، ورَأَيْتَ هُنَا بَصَرِيَّةٌ وَلِذَلِكَ تَعَدَّتْ إِلَى وَاحِدٍ وَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ حَالٍ مَحْذُوفَةٍ أَيْ وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا وَهُمْ خَائِضُونَ فِيهَا أَيْ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ مُلْتَبِسِينَ بِهَذِهِ الْحَالَةِ. وَقِيلَ: رَأَيْتَ عِلْمِيَّةٌ لِأَنَّ الْخَوْضَ فِي الْآيَاتِ لَيْسَ مِمَّا يُدْرَكُ بِحَاسَّةِ الْبَصَرِ وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ حَذْفُ الْمَفْعُولِ الثَّانِي مِنْ بَابِ عَلِمْتُ فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا خَائِضِينَ فِيهَا وَحَذْفُهُ اقْتِصَارًا لَا يَجُوزُ وَحَذْفُهُ اخْتِصَارًا عَزِيزٌ جِدًّا حَتَّى أَنَّ بَعْضَ النَّحْوِيِّينَ مَنَعَهُ وَالْخَوْضُ فِي الْآيَاتِ كِنَايَةٌ عَنْ الِاسْتِهْزَاءِ بِهَا وَالطَّعْنِ فِيهَا. وَكَانَتْ قُرَيْشٌ فِي أَنْدِيَتِهَا تَفْعَلُ ذَلِكَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ أَيْ لَا تُجَالِسْهُمْ وَقُمْ عَنْهُمْ وَلَيْسَ إِعْرَاضًا بِالْقَلْبِ وَحْدَهُ بَيَّنَهُ وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ «١»، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ الْمُفَسِّرِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ قَوْلَهُ: وَقَدْ نَزَّلَ عليكم في الكتاب: أن الَّذِي نَزَلَ فِي الْكِتَابِ هُوَ قَوْلُهُ: وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ الآية وحَتَّى يَخُوضُوا غاية الإعراض عَنْهُمْ أَيْ فَلَا بَأْسَ أَنْ تُجَالِسَهُمْ وَالضَّمِيرُ فِي غَيْرِهِ قَالَ الْحَوْفِيُّ عَائِدٌ إِلَى الْخَوْضِ كَمَا قَالَ الشاعر:
(١) النساء: ٤/ ١٤٠.
545
إِذَا نَهَى السَّفِيهَ جَرَى إليه وخالف والسفيه إلى خِلَافِ
أَيْ جَرَى إِلَى السَّفَهِ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: إِنَّمَا ذَكَرَ الْهَاءَ لِأَنَّهُ أَعَادَهَا عَلَى مَعْنَى الْآيَاتِ وَلِأَنَّهَا حَدِيثٌ وَقَوْلُ:
وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أَيْ إِنْ شَغَلَكَ بِوَسْوَسَتِهِ حَتَّى تَنْسَى النَّهْيَ عَنْ مُجَالَسَتِهِمْ فَلَا تَقْعُدْ مَعَهُمْ بَعْدَ الذِّكْرَى أَيْ ذِكْرِكَ النَّهْيَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ وَإِنْ كَانَ الشَّيْطَانُ يُنْسِيكَ قَبْلَ النَّهْيِ قُبْحَ مُجَالَسَةِ الْمُسْتَهْزِئِينَ لِأَنَّهَا مِمَّا تُنْكِرُهُ الْعُقُولُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى أَيْ بَعْدَ أَنْ ذَكَّرْنَاكَ قُبْحَهَا وَنَبَّهْنَاكَ عَلَيْهِ مَعَهُمْ انْتَهَى. وَهُوَ خِلَافُ ظَاهِرِ الشَّرْطِ لِأَنَّهُ قَدْ نُهِيَ عَنِ الْقُعُودِ مَعَهُمْ قَبْلُ ثُمَّ عُطِفَ عَلَى الشَّرْطِ السَّابِقِ هَذَا الشَّرْطُ فَكُلُّهُ مُسْتَقْبَلٌ وَمَا أَحْسَنَ مَجِيءَ الشرط الأول بإذا الَّتِي هِيَ لِلْمُحَقَّقِ لِأَنَّ كَوْنَهُمْ يَخُوضُونَ فِي الْآيَاتِ مُحَقَّقٌ وَمَجِيءُ الشَّرْطِ الثَّانِي بأن لِأَنَّ إِنْ لِغَيْرِ الْمُحَقَّقِ وَجَاءَ مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ تَنْبِيهًا عَلَى عِلَّةِ الْخَوْضِ فِي الْآيَاتِ وَالطَّعْنِ فِيهَا وَأَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ ظُلْمُهُمْ وَهُوَ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ وَوَضْعُ الْأَشْيَاءِ غَيْرَ مَوَاضِعَهَا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَأَمَّا شَرْطٌ وَيَلْزَمُهَا النُّونُ الثَّقِيلَةُ فِي الْأَغْلَبِ وَقَدْ لَا تَلْزَمُ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
إِمَّا يُصِبْكَ عَدُوٌّ فِي مُنَاوَأَةٍ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَمْثِلَةِ انْتَهَى. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا خِلَافٌ، ذَهَبَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ إِلَى أَنَّهَا إِذَا زِيدَتْ بَعْدَ إِنْ مَا لَزِمَتْ نُونُ التَّوْكِيدِ وَلَا يَجُوزُ حَذْفُهَا إِلَّا ضَرُورَةً وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهَا لَا تَلْزَمُ وَأَنَّهُ يَجُوزُ فِي الْكَلَامِ وَتَقْيِيدُهُ الثَّقِيلَةَ لَيْسَ بِجَيِّدٍ بَلِ الصَّوَابُ النُّونُ الْمُؤَكَّدَةُ سَوَاءٌ كَانَتْ ثَقِيلَةً أَمْ خَفِيفَةً وَكَأَنَّهُ نَظَرَ إِلَى مَوَارِدِهَا فِي الْقُرْآنِ وَكَوْنِهَا لَمْ تَجِئْ فِيهَا بَعْدَ إِمَّا إِلَّا الثَّقِيلَةُ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ يُنْسِيَنَّكَ مُشَدَّدًا عَدَّاهُ بِالتَّضْعِيفِ وَعَدَّاهُ الْجُمْهُورُ بِالْهَمْزَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَدْ ذَكَرَ الْقِرَاءَتَيْنِ إِلَّا أَنَّ التَّشْدِيدَ أَكْثَرُ مُبَالَغَةً انْتَهَى. وَلَيْسَ كَمَا ذَكَرَ لَا فَرْقَ بَيْنَ تَضْعِيفِ التَّعْدِيَةِ وَالْهَمْزَةِ وَمَفْعُولُ يُنْسِيَنَّكَ الثَّانِي مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ نَهْيَنَا إِيَّاكَ عَنِ الْقُعُودِ مَعَهُمْ وَالذِّكْرَى مَصْدَرُ ذَكَرَ جَاءَ عَلَى فُعْلَى وَأَلِفُهُ لِلتَّأْنِيثِ وَلَمْ يَجِئْ مَصْدَرٌ عَلَى فُعْلَى غَيْرُهُ.
وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ الَّذِينَ يَتَّقُونَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَالضَّمِيرُ فِي حِسابِهِمْ عَائِدٌ عَلَى الْمُسْتَهْزِئِينَ الْخَائِضِينَ فِي الْآيَاتِ. وَرُوِيَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ قَالُوا: لَمَّا نَزَلَتْ فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ «١» لَا يُمْكِنُنَا طَوَافٌ وَلَا عِبَادَةٌ فِي الحرم فنزلت
(١) سورة النساء: ٤/ ١٤٠.
546
وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَأُبِيحَ لَهُمْ قَدْرُ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ التَّصَرُّفِ بَيْنَهُمْ فِي الْعِبَادَةِ وَنَحْوِهَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ حُكْمَ الرَّسُولِ مُوَافِقٌ لِحُكْمِ غَيْرِهِ لِانْدِرَاجِهِ فِي قَوْلِهِ: وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ أُمِرَ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ حَتَّى إِنْ عَرَضَ نِسْيَانٌ وَذَكَرَ فَلَا تَقْعُدْ مَعَهُمْ.
وَقِيلَ: لِلْمُتَّقِينَ وَهُوَ رَأْسُهُمْ أَيْ مَا عَلَيْكُمْ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ.
وَلكِنْ ذِكْرى أَيْ وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ أَنْ تُذَكِّرُوهُمْ ذِكْرَى إِذَا سَمِعْتُمُوهُمْ يَخُوضُونَ بِأَنْ تَقُومُوا عَنْهُمْ وَتُظْهِرُوا كَرَاهَةَ فِعْلِهِمْ وَتَعِظُوهُمْ.
لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَيْ لَعَلَّهُمْ يَجْتَنِبُونَ الْخَوْضَ فِي الْآيَاتِ حَيَاءً مِنْكُمْ وَرَغْبَةً فِي مُجَالَسَتِكُمْ قَالَهُ مُقَاتِلٌ، أَوْ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ الْوَعِيدَ بِتَذْكِيرِكُمْ إِيَّاهُمْ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ وَلَا تَقْرَبُوهُمْ حَتَّى لَا تَسْمَعُوا اسْتِهْزَاءَهُمْ وَخَوْضَهُمْ، وَلَيْسَ نَهْيُكُمْ عَنِ الْقُعُودِ لِأَنَّ عَلَيْكُمْ شَيْئًا مِنْ حِسَابِهِمْ وَإِنَّمَا هُوَ ذِكْرَى لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيْ تَثْبُتُونَ عَلَى تَقْوَاكُمْ وَتَزْدَادُونَهَا، فَالضَّمِيرُ فِي لَعَلَّهُمْ عَائِدٌ عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ وَمَنْ قَالَ الْخِطَابُ فِي وَإِذا رَأَيْتَ خَاصٌّ بِالرَّسُولِ قَالَ الَّذِينَ يَتَّقُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ دُونَهُ وَمَعْنَاهَا الْإِبَاحَةُ لَهُمْ دُونَهُ كَأَنَّهُ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ لَا تَقْعُدْ مَعَهُمْ وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ مِنْ حِسَابِهِمْ فَإِنْ قَعَدُوا فَلْيُذَكِّرُوهُمْ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ اللَّهَ فِي تَرْكِ مَا هُمْ عَلَيْهِ. وَقَالَ هَذَا الْقَائِلُ: هَذِهِ الْإِبَاحَةُ الَّتِي اقْتَضَتْهَا هَذِهِ الْآيَةُ نَسَخَتْهَا آيَةُ النساء وذكرى يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ أَيْ وَلَكِنْ تُذَكِّرُونَهُمْ، وَمَنْ قَالَ الْإِبَاحَةُ كَانَتْ بِسَبَبِ الْعِبَادَاتِ قَالَ نَسَخَ ذَلِكَ آيَةُ النِّسَاءِ أو ذكروهم وَفِي مَوْضِعِ رَفْعٍ أَيْ وَلَكِنْ عَلَيْهِمْ ذِكْرَى وَقَدَّرَهُ بَعْضُهُمْ وَلَكِنْ هُوَ ذِكْرَى أَيِ الْوَاجِبُ ذِكْرَى.
وَقِيلَ: هَذَا ذِكْرَى أَيِ النَّهْيُ ذِكْرَى. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى مَحَلِّ مِنْ شَيْءٍ كَقَوْلِكَ: مَا فِي الدَّارِ مِنْ أَحَدٍ وَلَكِنْ زَيْدٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ: مِنْ حِسابِهِمْ يَأْبَى ذَلِكَ انْتَهَى. كَأَنَّهُ تَخَيَّلَ أَنَّ فِي الْعَطْفِ يَلْزَمُ الْقَيْدُ الَّذِي فِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَهُوَ مِنْ حِسَابِهِمْ لِأَنَّهُ قَيْدٌ فِي شَيْءٍ فَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ عَطْفِ الْمُفْرَدَاتِ عَطْفًا عَلَى مِنْ شَيْءٍ عَلَى الْمَوْضِعِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ التَّقْدِيرُ عِنْدَهُ ولكِنْ ذِكْرى مِنْ حِسَابِهِمْ وَلَيْسَ الْمَعْنَى عَلَى هَذَا وَهَذَا الَّذِي تَخَيَّلَهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ لَا يلزم في العطف بو لكن مَا ذَكَرَ تَقُولُ: مَا عِنْدَنَا رَجُلُ سُوءٍ وَلَكِنْ رَجُلُ صِدْقٍ وَمَا عِنْدَنَا رَجُلٌ مِنْ تَمِيمٍ وَلَكِنْ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ، وَمَا قَامَ مِنْ رَجُلٍ عَالِمٍ وَلَكِنْ رَجُلٍ جَاهِلٍ فَعَلَى هَذَا الَّذِي قَرَّرْنَاهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَبِيلِ عَطْفِ الْجُمَلِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ عَطْفِ الْمُفْرَدَاتِ وَالْعَطْفُ إِنَّمَا هُوَ لِلْوَاوِ وَدَخَلَتْ لكِنْ لِلِاسْتِدْرَاكِ. قَالَ ابْنُ
547
عَطِيَّةَ: وَيَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَمْتَثِلَ حُكْمَ هَذِهِ الْآيَةِ مَعَ الْمُلْحِدِينَ وَأَهْلِ الْجَدَلِ وَالْخَوْضِ فِيهِ.
وَحَكَى الطَّبَرِيُّ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا تُجَالِسُوا أَهْلَ الْخُصُومَاتِ فَإِنَّهُمُ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً هَذَا أَمْرٌ بِتَرْكِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ لِقِلَّةِ أَتْبَاعِ الْإِسْلَامِ حِينَئِذٍ. قَالَ قَتَادَةُ: ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ بِالْقِتَالِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِنَّمَا هُوَ أَمْرُ تَهْدِيدٍ وَوَعِيدٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً «١» وَلَا نَسْخَ فِيهَا لِأَنَّهَا مُتَضَمِّنَةٌ خَبَرًا وَهُوَ التَّهْدِيدُ وَدِينُهُمْ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ الْبَحَائِرِ وَالسَّوَائِبِ والجوامي وَالْوَصَائِلِ وَعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَالطَّوَافِ حَوْلَ الْبَيْتِ عُرَاةً يُصَفِّرُونَ وَيُصَفِّقُونَ أَوِ الَّذِي كُلِّفُوهُ وَدُعُوا إِلَيْهِ وَهُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ لَعِباً وَلَهْواً حَيْثُ سخروا به واستهزؤوا، أَوْ عِبَادَتَهَمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُسْتَغْرِقِينَ فِي اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالْعَزْفِ وَالرَّقْصِ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ عِبَادَةٌ إِلَّا ذَلِكَ أَقْوَالٌ ثَلَاثَةٌ. وَانْتَصَبَ لَعِباً وَلَهْواً عَلَى المفعول الثاني لاتخذوا. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: الْأَقْرَبُ أَنَّ الْمُحَقِّقَ فِي الدِّينِ هُوَ الَّذِي يَنْصُرُ الدِّينَ لِأَجْلِ أَنَّهُ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ حَقٌّ وَصِدْقٌ وَصَوَابٌ، وَأَمَّا الَّذِينَ يَنْصُرُونَهُ لِيَتَوَسَّلُوا بِهِ إِلَى أَخْذِ الْمَنَاصِبِ وَالرِّئَاسَةِ وَغَلَبَةِ الْخَصْمِ وَجَمْعِ الْأَمْوَالِ فَهُمْ نَصَرُوا الدِّينَ لِلدُّنْيَا وَقَدْ حَكَمَ اللَّهُ عَلَى الدُّنْيَا فِي سَائِرِ الْآيَاتِ بِأَنَّهَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ، فَالْآيَةُ إِشَارَةٌ إِلَى مَنْ يَتَوَسَّلُ بِدِينِهِ إِلَى دُنْيَاهُ وَأَكْثَرُ الْخَلْقِ مَوْصُوفُونَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ انْتَهَى، وَفِيهِ بَعْضُ تَلْخِيصٍ وَظَاهِرُ تَفْسِيرِهِ يَقْتَضِي أَنَّ اتَّخَذُوا هُنَا مُتَعَدِّيَةٌ إِلَى وَاحِدٍ وَأَنَّ انْتِصَابَ لَعِباً وَلَهْواً عَلَى الْمَفْعُولِ مِنْ أَجْلِهِ فَيَصِيرُ الْمَعْنَى اكْتَسَبُوا دِينَهُمْ وَعَمِلُوهُ وَأَظْهَرُوا اللَّعِبَ وَاللَّهْوَ أَيْ لِلدُّنْيَا وَاكْتِسَابِهَا وَيَظْهَرُ مِنْ بَعْضِ كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ وَابْنِ عَطِيَّةَ أَنْ لَعِباً وَلَهْواً هُوَ الْمَفْعُولُ الأول لاتخذوا ودِينَهُمْ هُوَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْ دِينَهُمُ الَّذِي كَانَ يَجِبُ أَنْ يَأْخُذُوا بِهِ لَعِباً وَلَهْواً وَذَلِكَ أَنَّ عِبَادَتَهُمْ وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ تَحْرِيمِ الْبَحَائِرِ وَالسَّوَائِبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ بَابِ اللَّعِبِ وَاتِّبَاعِ هَوَى النَّفْسِ وَالْعَمَلِ بِالشَّهْوَةِ، وَمِنْ جِنْسِ الْهَزْلِ دُونَ الْجَدِّ وَاتَّخَذُوا مَا هُوَ لَعِبٌ وَلَهْوٌ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَغَيْرِهَا دِينًا لَهُمْ وَاتَّخَذُوا دِينَهُمُ الَّذِي كُلِّفُوهُ وَدُعُوا إليه هو دِينُ الْإِسْلَامِ لَعِباً وَلَهْواً حيث سخروا به واستهزؤوا انْتَهَى. فَظَاهِرُ تَقْدِيرِهِ الثَّانِي هُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ عَنْهُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَأَضَافَ الدِّينَ إِلَيْهِمْ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُمْ جَعَلُوا اللَّهْوَ وَاللَّعِبَ دِينًا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى اتَّخَذُوا دِينَهُمْ الَّذِي كان ينبغي لهم
(١) سورة المدثر: ٧٤/ ١١.
548
لَعِباً وَلَهْواً انْتَهَى. فَتَفْسِيرُهُ الْأَوَّلُ هُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ عَنْهُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقِيلَ: جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا يُعَظِّمُونَهُ وَيُصَلُّونَ فِيهِ وَيُعَمِّرُونَهُ بِذِكْرِ اللَّهِ وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَأَهْلِ الْكِتَابِ اتَّخَذُوا عِيدَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً غَيْرَ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُمُ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ عِيدَهُمْ كَمَا شَرَعَهُ اللَّهُ وَمَعْنَى ذَرْهُمْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَلَا تُبَالِ بِتَكْذِيبِهِمْ وَاسْتِهْزَائِهِمْ وَلَا تَشْغَلْ قَلْبَكَ بِهِمْ انْتَهَى.
وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى الصلة وَأَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافَ إِخْبَارٍ أَيْ خَدَعَتْهُمُ الْغُرُورُ وَهِيَ الْأَطْمَاعُ فِيمَا لَا يُتَحَصَّلُ فَاغْتَرُّوا بِنِعَمِ اللَّهِ وَرِزْقِهِ وَإِمْهَالِهِ إِيَّاهُمْ. وَقِيلَ: غَرَّتْهُمْ بِتَكْذِيبِهِمْ بِالْبَعْثِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: لِأَجْلِ اسْتِيلَاءِ حُبِّ الدُّنْيَا أَعْرَضُوا عَنْ حَقِيقَةِ الدِّينِ وَاقْتَصَرُوا عَلَى تَزْيِينِ الظَّوَاهِرِ لِيَتَوَصَّلُوا بِهَا إِلَى حُطَامِ الدُّنْيَا انْتَهَى. وَقِيلَ: غَرَّتْهُمُ مِنَ الْغَرِّ بِفَتْحِ الْغَيْنِ أَيْ مَلَأَتْ أَفْوَاهَهُمْ وَأَشْبَعَتْهُمْ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَلَمَّا الْتَقَيْنَا بِالْحُلَيْبَةِ غَرَّنِي بِمَعْرُوفِهِ حَتَّى خَرَجْتُ أَفُوقُ
وَمِنْهُ غَرَّ الطَّائِرُ فَرْخَهُ.
وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ الضَّمِيرُ فِي بِهِ عَائِدٌ عَلَى الْقُرْآنِ أَوْ عَلَى الَّذِينَ أَوْ عَلَى حِسابِهِمْ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَوْلَاهَا الْأَوَّلُ كَقَوْلِهِ: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ «١» وتُبْسَلَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تُفْضَحُ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ: تُسْلَمُ. وَقَالَ قَتَادَةُ:
تُحْبَسُ وَتُرْتَهَنُ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ وَابْنُ زَيْدٍ وَالْأَخْفَشُ: تُجْزَى. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: تُحْرَقُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ أَيْضًا: يؤخذ. وقال مؤرخ: تُعَذَّبُ. وَقِيلَ يُحَرَّمُ عَلَيْهَا النَّجَاةُ وَدُخُولُ الْجَنَّةِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: اسْتَحْسَنَ بَعْضُ شُيُوخِنَا قَوْلَ مَنْ قَالَ: تُسْلَمُ بِعَمَلِهَا لَا تَقْدِرُ عَلَى التَّخَلُّصِ لِأَنَّهُ يُقَالُ: اسْتَبْسَلَ لِلْمَوْتِ أَيْ رَأَى ما لا يقدر على دَفْعِهِ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ تُبْسَلَ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ مِنْ أَجْلِهِ وَقَدَّرُوا كَرَاهَةَ أَنْ تُبْسَلَ وَمَخَافَةَ أَنْ تُبْسَلَ وَلِئَلَّا تُبْسَلَ وَيَجُوزُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ جَرٌّ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ الضَّمِيرِ، وَالضَّمِيرُ مُفَسَّرٌ بِالْبَدَلِ وَأُضْمِرَ الْإِبْسَالُ لِمَا فِي الْإِضْمَارِ مِنَ التَّفْخِيمِ كَمَا أُضْمِرَ الْأَمْرُ وَالشَّأْنُ وَفُسِّرَ بِالْبَدَلِ وَهُوَ الْإِبْسَالُ فَالتَّقْدِيرُ وَذَكِّرْ بِارْتِهَانِ النُّفُوسِ وَحَبْسِهَا بِمَا كَسَبَتْ كَمَا قَالُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ الرَّؤُوفِ الرَّحِيمِ وَقَدْ أَجَازَ ذَلِكَ سِيبَوَيْهِ قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ ضَرَبْتُ وَضَرَبُونِي قَوْمَكَ نَصَبْتَ إِلَّا فِي قَوْلِ مَنْ
(١) سورة ق: ٥٠/ ٤٥.
549
قَالَ: أَكَلُونِي الْبَرَاغِيثُ أَوْ يَحْمِلُهُ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الْمُضْمَرِ وَقَالَ أَيْضًا: فَإِنْ قُلْتَ ضَرَبَنِي وَضَرَبْتُهُمْ قَوْمُكَ رَفَعْتَ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ إِلَّا أَنْ تَجْعَلَ هَاهُنَا الْبَدَلَ كَمَا جَعَلْتَهُ فِي الرفع انتهى. وَقَدْ رُوِيَ قَوْلُهُ:
تُنُخِّلَ فَاسْتَاكَتْ بِهِ عُودِ إِسْحَلِ بِجَرِّ عُودٍ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ وَالْمَعْنَى أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ تَارِكَةٌ لِلْإِيمَانِ بِمَا كَسَبَتْ مِنَ الْكُفْرِ أَوْ بِكَسْبِهَا السَّيِّئِ. لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ أَيْ من دون عَذَابِ اللَّهِ.
وَلِيٌّ فَيَنْصُرُهَا.
وَلا شَفِيعٌ فَيَدْفَعُ عَنْهَا بِمَسْأَلَتِهِ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ صِفَةٌ أَوْ حَالٌ أَوْ مُسْتَأْنَفَةٌ إخبار وهو الأظهر ومِنْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ زَائِدَةً انْتَهَى، وَهُوَ ضَعِيفٌ.
وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْها أَيْ وَإِنْ تُفْدِ كُلَّ فِدَاءٍ وَالْعَدْلُ الْفِدْيَةُ لِأَنَّ الْفَادِيَ يَعْدِلُ الْفِدَاءَ بِمِثْلِهِ، وَنُقِلَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ أَنَّ الْمَعْنِيَّ بِالْعَدْلِ هُنَا ضِدُّ الْجَوْرِ وَهُوَ الْقِسْطُ أَيْ وَإِنْ تُقْسِطْ كُلَّ قِسْطٍ بِالتَّوْحِيدِ وَالِانْقِيَادِ بَعْدَ الْعِنَادِ وَضَعَّفَ هَذَا الْقَوْلَ الطَّبَرِيُّ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ تَوْبَةَ الْكَافِرِ مَقْبُولَةٌ، وَلَا يَلْزَمُ هَذَا لِأَنَّهُ إِخْبَارٌ عَنْ حَالِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهِيَ حَالُ مُعَايَنَةٍ وَإِلْجَاءٍ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ، قَالُوا: وَانْتَصَبَ كُلَّ عَدْلٍ على المصدر ويؤخذ الضَّمِيرُ فِيهِ عَائِدٌ عَلَى الْمَعْدُولِ بِهِ الْمَفْهُومِ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ وَلَا يَعُودُ عَلَى الْمَصْدَرِ لِأَنَّهُ لَا يُسْنَدُ إِلَيْهِ الْأَخْذُ وَأَمَّا فِي لَا يُؤْخَذْ مِنْها عدل فَمَعْنَى الْمُفْدَى بِهِ فَيَصِحُّ إِسْنَادُهُ إِلَيْهِ وَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ كُلَّ عَدْلٍ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ أَيْ وَإِنْ تَعْدِلْ بِذَاتِهَا كُلَّ أَيْ كُلَّ مَا تُفْدِي بِهِ لَا يُؤْخَذْ مِنْها وَيَكُونُ الضَّمِيرُ عَلَى هَذَا عَائِدًا عَلَى كُلَّ عَدْلٍ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ لَا عَلَى سَبِيلِ إِمْكَانِ وُقُوعِهَا.
أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا الظَّاهِرُ أَنَّهُ يَعُودُ عَلَى الَّذِينَ اتَّخَذُوا وَقَالَهُ الْحَوْفِيُّ وَتَبِعَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أُولئِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْجِنْسِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ.
لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ الْأَظْهَرُ أَنَّهَا جُمْلَةُ اسْتِئْنَافِ
550
إِخْبَارٍ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ حالا وشراب فَعَالٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ كَطَعَامٍ بِمَعْنَى مَطْعُومٍ وَلَا يَنْقَاسُ فِعَالٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، لَا يُقَالُ: ضِرَابٌ وَلَا قِتَالٌ بِمَعْنَى مَضْرُوبٍ وَلَا مَقْتُولٍ.
قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ أَيْ مِنْ دُونِ اللَّهِ النَّافِعِ الضَّارِّ الْمُبْدِعِ لِلْأَشْيَاءِ الْقَادِرِ ما لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَنْفَعَ وَلَا يَضُرَّ إِذْ هِيَ أَصْنَامٌ خَشَبٌ وَحِجَارَةٌ وَغَيْرُ ذَلِكَ وَنُرَدُّ إِلَى الشِّرْكِ عَلى أَعْقابِنا أَيْ رَدَّ الْقَهْقَرَى إِلَى وَرَاءٍ وَهِيَ الْمِشْيَةُ الدَّنِيَّةُ بَعْدَ هِدَايَةِ اللَّهِ إِيَّانَا إِلَى طَرِيقِ الْحَقِّ وَإِلَى الْمِشْيَةِ السُّجُحِ الرَّفِيعَةِ وَنُرَدُّ معطوف على أَنَدْعُوا أَيْ أَيَكُونُ هَذَا وَهَذَا اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى الْإِنْكَارِ أَيْ لَا يَقَعُ شَيْءٌ مِنْ هَذَا وَجَوَّزَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ فِيهِ لِلْحَالِ أَيْ وَنَحْنُ نُرَدُّ أَيْ أَيَكُونُ هَذَا الْأَمْرُ فِي هَذِهِ الْحَالِ وَهَذَا فِيهِ ضَعْفٌ لِإِضْمَارِ الْمُبْتَدَأِ وَلِأَنَّهَا تَكُونُ حَالًا مُؤَكِّدَةً، وَاسْتُعْمِلَ الْمَثَلُ بِهَا فِيمَنْ رَجَعَ مِنْ خَيْرٍ إِلَى شَرٍّ. قَالَ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ: الرَّدُّ عَلَى الْعَقِبِ يُسْتَعْمَلُ فِيمَنْ أَمَّلَ أَمْرًا فَخَابَ.
كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَالَّذِي ذَهَبَ بِهِ مَرَدَةُ الْجِنِّ وَالْغِيلَانُ فِي الْأَرْضِ فِي الْمَهْمَهِ حَيْرَانَ تَائِهًا ضَالًّا عَنِ الْجَادَّةِ لَا يَدْرِي كَيْفَ يَصْنَعُ لَهُ أَيْ لِهَذَا الْمُسْتَهْوَى أَصْحَابٌ رُفْقَةٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى أَيْ إِلَى أَنْ يَهْدُوهُ الطَّرِيقَ الْمُسْتَوِيَ، أَوْ سُمِّيَ الطَّرِيقُ الْمُسْتَقِيمُ بِالْهُدَى يَقُولُونَ لَهُ:
ائْتِنا وَقَدِ اعْتَسَفَ الْمَهْمَهَ تَابِعًا لِلْجِنِّ لَا يُجِيبُهُمْ وَلَا يَأْتِيهِمْ وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى مَا تَزْعُمُهُ الْعَرَبُ وَتَعْتَقِدُهُ مِنْ أَنَّ الْجِنَّ تَسْتَهْوِي الْإِنْسَانَ وَالْغِيلَانَ تَسْتَوْلِي عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ: الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ «١» فَشُبِّهَ بِهِ الضَّالُّ عَنْ طَرِيقِ الْإِسْلَامِ التَّابِعُ لِخُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَالْمُسْلِمُونَ يَدْعُونَهُ إِلَيْهِ فَلَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِمْ انْتَهَى. وَأَصْلُ كَلَامِهِ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَكِنَّهُ طَوَّلَهُ وَجَوَّدَهُ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَثَلُ عَابِدِ الصَّنَمِ مَثَلُ مَنْ دَعَاهُ الْغُولُ فَيَتْبَعُهُ فَيُصْبِحُ وَقَدْ أَلْقَتْهُ فِي مَهْمَهٍ وَمَهْلَكَةٍ فَهُوَ حَائِرٌ فِي تِلْكَ الْمَهَامِهِ وَحَمَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ اسْتَهْوَتْهُ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْهَوَى الَّذِي هُوَ الْمَوَدَّةُ وَالْمَيْلُ كَأَنَّهُ قِيلَ كَالَّذِي أَمَالَتْهُ الشَّيَاطِينُ عَنِ الطَّرِيقِ الْوَاضِحِ إِلَى الْمَهْمَهِ الْقَفْرِ وَحَمَلَهُ غَيْرُهُ كَأَبِي عَلِيٍّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ الْهُوِيِّ أَيْ أَلْقَتْهُ فِي هُوَّةٍ، وَيَكُونُ اسْتَفْعَلَ بِمَعْنَى أَفْعَلَ نَحْوَ اسْتَزَلَّ وَأَزَلَّ تَقُولُ الْعَرَبُ: هَوَى الرَّجُلُ وَأَهْوَاهُ غَيْرُهُ وَاسْتَهْوَاهُ طَلَبَ مِنْهُ أَنْ يَهْوِيَ هَوَى وَيَهْوِي شَيْئًا وَالْهُوِيُّ السُّقُوطُ مِنْ عُلُوٍّ إِلَى سفل. قال الشاعر:
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢٧٥. [.....]
551
هَوَى ابْنِي مِنْ ذُرَى شَرَفٍ فَزَلَّتْ رِجْلُهُ وَيَدُهْ
وَيُسْتَعْمَلُ الْهُوِيُّ أَيْضًا فِي رُكُوبِ الرَّأْسِ فِي النُّزُوعِ إِلَى الشَّيْءِ وَمِنْهُ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ «١». وَقَالَ:
تَهْوِي إِلَى مَكَّةَ تَبْغِي الْهُدَى مَا مُؤْمِنُو الْجِنِّ كَكُفَّارِهَا
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: هَذَا الْمَثَلُ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِي يَهْوِي مِنَ الْمَكَانِ الْعَالِي إِلَى الْوَهْدَةِ الْعَمِيقَةِ يَهْوِي إِلَيْهَا مَعَ الِاسْتِدَارَةِ عَلَى نَفْسِهِ، لِأَنَّ الْحَجَرَ كَانَ حَالَ نُزُولِهِ مِنَ الْأَعْلَى إِلَى الْأَسْفَلِ يَنْزِلُ عَلَى الِاسْتِدَارَةِ وَذَلِكَ يُوجِبُ كَمَالَ التَّرَدُّدِ وَالتَّحَيُّرِ، فَعِنْدَ نُزُولِهِ مِنَ الْأَعْلَى إِلَى الْأَسْفَلِ لَا يَعْرِفُ أَنَّهُ يَسْقُطُ على موضع يَزْدَادُ بَلَاؤُهُ بِسَبَبِ سُقُوطِهِ عَلَيْهِ أَوْ يَقِلُّ، وَلَا تَجِدُ لِلْحَائِرِ الْخَائِفِ أَكْمَلَ وَلَا أَحْسَنَ مِنْ هَذَا الْمَثَلِ انْتَهَى. وَهُوَ كَلَامُ تَكْثِيرٌ لَا طَائِلَ تَحْتَهُ وَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ قَوْلَهُ: لَهُ أَصْحابٌ أَيْ لَهُ رُفْقَةٌ وَجَعَلَ مُقَابِلَهُمْ فِي صُورَةِ التَّشْبِيهِ الْمُسْلِمِينَ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى فَلَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِمْ وَهُوَ تَأْوِيلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ، وَجَعَلَهُمْ غَيْرُهُ لَهُ أَصْحابٌ مِنَ الشَّيَاطِينِ الدُّعَاةِ أَوْ لَا يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى بِزَعْمِهِمْ وَبِمَا يُوهِمُونَهُ فَشَبَّهَ بِالْأَصْحَابِ هُنَا الْكَفَرَةَ الَّذِينَ يُثَبِّتُونَ مَنِ ارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ عَلَى الِارْتِدَادِ.
وَرُوِيَ هَذَا التَّأْوِيلُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَحَكَى مَكِّيٌّ وَغَيْرُهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ هُوَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَبِالْأَصْحَابِ أَبُوهُ وَأُمُّهُ،
وَذَكَرَ أَهْلُ السِّيَرِ أَنَّهُ فِيهِ نَزَلَتْ هَذِهِ الآية دعا إياه أَبَا بَكْرٍ إِلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَكَانَ أَكْبَرَ وَلَدِ أَبِي بَكْرٍ وَشَقِيقَ عَائِشَةَ أُمُّهُمَا أُمُّ رُومَانَ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ غَنْمٍ الْكِنَانِيَّةُ وَشَهِدَ بَدْرًا وَأُحُدًا مَعَ قَوْمِهِ كَافِرًا وَدَعَا إِلَى الْبِرَازِ فَقَامَ إِلَيْهِ أَبُوهُ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِيُبَارِزَهُ فَذَكَرَ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ قَالَ: «مَتِّعْنِي بِنَفْسِكَ» ثُمَّ أَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ وَصَحِبَ الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي هُدْنَةِ الْحُدَيْبِيَةِ وَكَانَ اسْمُهُ عَبْدَ الْكَعْبَةِ فَسَمَّاهُ الرسول صلى الله عليه وَسَلَّمَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ
، وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ عَائِشَةَ سَمِعَتْ قول من قال: إن قَوْلَهُ: وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما «٢» أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ فَقَالَتْ:
كَذَبُوا وَاللَّهِ مَا نَزَلَ فِينَا مِنَ الْقُرْآنِ شَيْءٌ إِلَّا بَرَاءَتِي.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ (فَإِنْ قُلْتَ) : إِذَا كَانَ هَذَا وَارِدًا فِي شَأْنِ أَبِي بَكْرٍ فَكَيْفَ قِيلَ لِلرَّسُولِ: قُلْ أَنَدْعُوا. قُلْتُ: لِلِاتِّحَادِ الَّذِي كَانَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ وخصوصا بينه وبن الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ انْتَهَى. وَهَذَا السُّؤَالُ إِنَّمَا يَرِدُ إِذَا صَحَّ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي
(١) سورة ابراهيم: ١٤/ ٣٧.
(٢) سورة الأحقاف: ٤٦/ ١٧.
552
بَكْرٍ وَابْنِهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَلَنْ يَصِحَّ، وَمَوْضِعُ كَالَّذِي نصب قيل: عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أَيْ رَدًّا مِثْلَ رَدِّ الَّذِي وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَكُونَ حَالًا أَيْ كائنين كالذي والذي ظَاهِرُهُ أَنَّهُ مُفْرَدٌ وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مَعْنَى الْجَمْعِ أَيْ كَالْفَرِيقِ الَّذِي وَقَرَأَ حَمْزَةُ اسْتَهْوَاهُ بِأَلِفٍ مُمَالَةٍ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ وَالْأَعْمَشُ وَطَلْحَةُ: اسْتَهْوَتْهُ الشَّيْطَانُ بِالتَّاءِ وَإِفْرَادِ الشَّيْطَانِ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ:
أَنَّهَا كَذَلِكَ فِي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ انتهى. والذي نَقَلُوا لَنَا الْقِرَاءَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ إِنَّمَا نَقَلُوهُ الشَّيَاطِينُ جَمْعًا. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: الشَّيَاطُونُ وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ وَقَدْ لَحَنَ فِي ذَلِكَ. وَقَدْ قِيلَ:
هُوَ شَاذٌّ قَبِيحٌ وَظَاهِرُ قَوْلِهِ فِي الْأَرْضِ أَنْ يَكُونَ متعلقا باستهوته. وَقِيلَ: حَالٌ مِنْ مَفْعُولِ اسْتَهْوَتْهُ أَيْ كَائِنًا فِي الْأَرْضِ. وَقِيلَ: مِنْ حَيْرانَ. وَقِيلَ: مِنْ ضَمِيرِ حَيْرانَ وحَيْرانَ لَا يَنْصَرِفُ وَمُؤَنَّثُهُ حَيْرَى وحَيْرانَ حَالٌ مِنْ مَفْعُولِ اسْتَهْوَتْهُ. وَقِيلَ: حَالٌ مِنَ الَّذِي وَالْعَامِلُ فِيهِ الرَّدُّ الْمُقَدَّرُ وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ لَهُ أَصْحابٌ حَالِيَّةٌ أَوْ صِفَةٌ لحيران أو مستأنفة وإِلَى الْهُدَى متعلق بيدعونه وَأْتِنَا مِنَ الْإِتْيَانِ. وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ أَتَيْنَا فِعْلًا مَاضِيًا لَا أَمْرًا فَإِلَى الْهُدَى مُتَعَلِّقٌ بِهِ.
قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى مَنْ قَالَ: إِنَّ لَهُ أَصْحَابٌ يَعْنِي بِهِ الشَّيَاطِينَ وَإِنَّ قَوْلَهُ إِلَى الْهُدَى بِزَعْمِهِمْ كَانَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ رَدًّا عَلَيْهِمْ أَيْ لَيْسَ مَا زَعَمْتُمْ هُدًى بَلْ هُوَ كُفْرٌ وَإِنَّمَا الْهُدَى هُدَى اللَّهِ وَهُوَ الْإِيمَانُ وَمَنْ قَالَ: إِنَّ قَوْلَهُ أَصْحابٌ مَثَلٌ لِلْمُؤْمِنِينَ الدَّاعِينَ إِلَى الْهُدَى الَّذِي هُوَ الْإِيمَانُ، كَانَتْ إِخْبَارًا بِأَنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ مِنْ شَاءَ لَا أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ دُعَائِهِمْ إِلَى الْهُدَى وُقُوعُ الْهِدَايَةِ بَلْ ذَلِكَ بِيَدِ اللَّهِ مَنْ هَدَاهُ اهْتَدَى.
وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ الظَّاهِرُ أَنَّ اللَّامَ لَامُ كَيْ وَمَفْعُولُ أُمِرْنا الثَّانِي مَحْذُوفٌ وَقَدَّرُوهُ وَأُمِرْنا بِالْإِخْلَاصِ لِكَيْ نَنْقَادَ وَنَسْتَسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ وَالْجُمْلَةُ دَاخِلَةٌ فِي الْمَقُولِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُوَ تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ فَمَعْنَى أُمِرْنا قِيلَ لَنَا: أَسْلِمُوا لِأَجْلِ أَنْ نُسْلِمَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ أَنَّ لِنُسْلِمَ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ وَإِنْ قَوْلَكَ: أُمِرْتُ لِأَقُومَ وَأُمِرْتُ أَنْ أَقُومَ يَجْرِيَانِ سَوَاءً وَمِثْلُهُ قَوْلُ الشَّاعِرُ:
أُرِيدُ لِأَنْسَى ذِكْرَهَا فَكَأَنَّمَا تَمَثَّلُ لِي لَيْلَى بِكُلِّ سَبِيلِ
إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَمْثِلَةِ انْتَهَى. فَعَلَى ظَاهِرِ كَلَامِهِ تكون اللام زائدة وكون أَنْ نُسْلِمَ هُوَ مُتَعَلَّقُ أُمِرْنا عَلَى جِهَةِ أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ بَعْدَ إِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ. وَقِيلَ: اللَّامُ بِمَعْنَى
553
الْبَاءِ كَأَنَّهُ قِيلَ وَأُمِرْنا بِأَنْ نُسْلِمَ وَمَجِيءُ اللَّامِ بِمَعْنَى الْبَاءِ قَوْلٌ غَرِيبٌ، وَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ سِيبَوَيْهِ لَيْسَ كَمَا ذَكَرَ بَلْ ذَلِكَ مَذْهَبُ الْكِسَائِيِّ وَالْفَرَّاءِ زَعَمَا أَنَّ لَامَ كَيْ تَقَعُ فِي مَوْضِعِ أَنْ فِي أَرَدْتُ وَأَمَرْتُ، قَالَ تَعَالَى: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ «١» يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا «٢» أَيْ أَنْ يُطْفِئُوا إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ «٣» أُرِيدُ لِأَنْسَى ذِكْرَهَا وَرَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمَا أَبُو إِسْحَاقَ، وَذَهَبَ سِيبَوَيْهِ وَأَصْحَابُهُ إِلَى أَنَّ اللَّامَ هُنَا تَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ وَأَنَّ الْفِعْلَ قَبْلَهَا يُرَادُ بِهِ الْمَصْدَرُ وَالْمَعْنَى الْإِرَادَةُ لِلْبَيَانِ وَالْأَمْرُ لِلْإِسْلَامِ فَهُمَا مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ فَتَحَصَّلَ فِي هَذِهِ اللَّامِ أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا أَنَّهَا زَائِدَةٌ، وَالثَّانِي أَنَّهَا بِمَعْنَى كَيْ لِلتَّعْلِيلِ إِمَّا لِنَفْسِ الْفِعْلِ وَإِمَّا لِنَفْسِ الْمَصْدَرِ الْمَسْبُوكِ مِنَ الْفِعْلِ، وَالثَّالِثُ أَنَّهَا لَامُ كَيْ أُجْرِيَتْ مَجْرَى أَنْ، وَالرَّابِعُ أَنَّهَا بِمَعْنَى الْبَاءِ وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ التَّكْمِيلِ وَجَاءَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ مَالِكُ الْعَالَمِ كُلِّهِ مَعْبُودِهِمْ مِنَ الْأَصْنَامِ وَغَيْرِهَا.
وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ أَنْ هُنَا مَصْدَرِيَّةٌ وَاخْتُلِفَ فِي مَا عُطِفَ عَلَيْهِ، قَالَ الزَّجَّاجُ هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: لِنُسْلِمَ تَقْدِيرُهُ لِأَنْ نُسْلِمَ وأَنْ أَقِيمُوا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
واللفظ يمانعه لأنّ لِنُسْلِمَ معرب وأَقِيمُوا مَبْنِيٌّ وَعَطْفُ الْمَبْنِيِّ عَلَى الْمُعْرَبِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْعَطْفَ يَقْتَضِي التَّشْرِيكَ فِي الْعَامِلِ انْتَهَى، وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّهُ لَا يُعْطَفُ الْمَبْنِيُّ عَلَى الْمُعْرَبِ وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ لَيْسَ كَمَا ذَكَرَ، بَلْ ذَلِكَ جَائِزٌ نَحْوَ قَامَ زَيْدٌ وَهَذَا، وَقَالَ تَعَالَى:
يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ «٤» غَايَةُ مَا فِي هَذَا أَنَّ الْعَامِلَ إِذَا وَجَدَ الْمُعْرَبَ أَثَّرَ فِيهِ وَإِذَا وَجَدَ الْمَبْنِيَّ لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ وَيَجُوزُ إِنْ قَامَ زَيْدٌ وَيَقْصِدْنِي أُحْسِنْ إليه، بجزم يقصدني فإن لَمْ تُؤَثِّرْ فِي قَامَ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ وَأَثَّرَتْ فِي يَقْصِدُنِي لِأَنَّهُ مُعْرَبٌ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُجْعَلَ الْعَطْفُ فِي إِنْ وَحْدَهَا وَذَلِكَ قَلِقٌ وَإِنَّمَا يَتَخَرَّجُ عَلَى أَنْ يُقَدَّرَ قَوْلُهُ: أَنْ أَقِيمُوا بِمَعْنَى وَلْيُقِمْ ثُمَّ خَرَجَتْ بِلَفْظِ الْأَمْرِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ جَزَالَةِ اللَّفْظِ فَجَازَ الْعَطْفُ عَلَى أَنْ نُلْغِيَ حُكْمَ اللَّفْظِ وَنُعَوِّلَ عَلَى الْمَعْنَى، وَيُشْبِهُ هَذَا مِنْ جِهَةِ مَا حَكَاهُ يُونُسُ عَنِ الْعَرَبِ: ادْخُلُوا الْأَوَّلُ فَالْأَوَّلُ وَإِلَّا فَلَيْسَ يَجُوزُ إِلَّا ادْخُلُوا الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ بِالنَّصْبِ انْتَهَى، وَهَذَا الَّذِي اسْتَدْرَكَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ بِقَوْلِهِ اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ إِلَى آخِرِهِ هُوَ الَّذِي أَرَادَهُ الزَّجَّاجُ بِعَيْنِهِ وَهُوَ أَنَّ أَنْ أَقِيمُوا مَعْطُوفٌ عَلَى أَنْ نُسْلِمَ وأنّ كلاهما عِلَّةٌ لِلْمَأْمُورِ بِهِ الْمَحْذُوفِ وَإِنَّمَا قَلِقَ عِنْدَ ابْنِ عطية لأنه
(١) سورة النساء: ٤/ ٢٦.
(٢) سورة الصف: ٦١/ ٨.
(٣) سورة الأحزاب: ٣٣/ ٣٣.
(٤) سورة هود: ١١/ ٩٨.
554
أَرَادَ بَقَاءَ أَنْ أَقِيمُوا على معتاها مِنْ مَوْضُوعِ الْأَمْرِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ أَنْ إِذَا دَخَلَتْ عَلَى فِعْلِ الْأَمْرِ وَكَانَتِ الْمَصْدَرِيَّةَ انْسَبَكَ مِنْهَا وَمِنَ الْأَمْرِ مَصْدَرٌ، وَإِذَا انْسَبَكَ مِنْهُمَا مَصْدَرٌ زَالَ مِنْهَا مَعْنَى الْأَمْرِ، وَقَدْ أَجَازَ النَّحْوِيُّونَ سِيبَوَيْهِ وَغَيْرُهُ أَنْ تُوصَلَ أَنْ الْمَصْدَرِيَّةُ النَّاصِبَةُ لِلْمُضَارِعِ بِالْمَاضِي وَبِالْأَمْرِ، قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَتَقُولُ: كَتَبْتُ إِلَيْهِ بِأَنْ قُمْ، أَيْ بِالْقِيَامِ فَإِذَا كَانَ الْحُكْمُ كَذَا كَانَ قَوْلُهُ: لِنُسْلِمَ وَأَنْ أَقِيمُوا فِي تَقْدِيرِ لِلْإِسْلَامِ، وَلِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَأَمَّا تَشْبِيهُ ابْنِ عَطِيَّةَ بِقَوْلِهِ: ادْخُلُوا الْأَوَّلُ فَالْأَوَّلُ بِالرَّفْعِ فَلَيْسَ يُشْبِهُهُ لِأَنَّ ادْخُلُوا لَا يُمْكِنُ لَوْ أُزِيلَ عَنْهُ الضَّمِيرُ أَنْ يَتَسَلَّطَ عَلَى مَا بَعْدَهُ، بِخِلَافِ أَنْ فَإِنَّهَا تُوصَلُ بِالْأَمْرِ فَإِذًا لَا شَبَهَ بَيْنَهُمَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ (فَإِنْ قُلْتَ) : على عُطِفَ قَوْلُهُ: وَأَنْ أَقِيمُوا (قُلْتُ) : عَلَى مَوْضِعِ لِنُسْلِمَ كَأَنَّهُ قِيلَ وَأُمِرْنَا أَنْ نُسْلِمَ وَأَنْ أَقِيمُوا انْتَهَى وَظَاهِرُ هَذَا التَّقْدِيرِ أَنَّ نُسْلِمَ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِقَوْلِهِ:
وَأُمِرْنا وَعُطِفَ عَلَيْهِ وَأَنْ أَقِيمُوا فَتَكُونُ اللَّامُ عَلَى هَذَا زَائِدَةً، وَكَانَ قَدْ قَدَّمَ قَبْلَ هَذَا أَنَّ اللَّامَ تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ فَتَنَاقَضَ كَلَامُهُ لِأَنَّ مَا يَكُونُ عِلَّةً يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ لِنُسْلِمَ أَنَّهُ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ وَأُمِرْنَا لِأَنْ نُسْلِمَ وَلِأَنْ أَقِيمُوا أَيْ لِلْإِسْلَامِ وَلِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ انْتَهَى، وَهَذَا قَوْلُ الزَّجَّاجِ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ هَذَا الْقَوْلُ مُغَايِرًا لِقَوْلِهِ الْأَوَّلِ لَاتَّحَدَ قَوْلَاهُ وَذَلِكَ خُلْفٌ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ:
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَأَنْ أَقِيمُوا مَعْطُوفًا عَلَى ائْتِنا. وَقِيلَ: معطوف على قوله: إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَالتَّقْدِيرُ قُلْ أَنْ أَقِيمُوا وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ ضَعِيفَانِ جِدًّا، وَلَا يَقْتَضِيهِمَا نَظْمُ الْكَلَامِ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يَتَّجِهُ أَنْ يَكُونَ بِتَأْوِيلِ وَإِقَامَةِ فَهُوَ عَطْفٌ عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُقَدَّرِ فِي أُمِرْنَا انْتَهَى. وَكَانَ قَدْ قَدَّرَ: وَأُمِرْنَا بِالْإِخْلَاصِ أَوْ بِالْإِيمَانِ لِأَنْ نُسْلِمَ وَهَذَا قَوْلٌ لَا بَأْسَ بِهِ وَهُوَ أَقْرَبُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ قَبْلَهُ إِذْ لَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِأُمِرْنَا وَيَجُوزُ حَذْفُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ لِفَهْمِ الْمَعْنَى تَقُولُ: أَضَرَبْتَ زَيْدًا فَتُجِيبُ نَعَمْ وَعَمْرًا التَّقْدِيرُ ضَرَبْتُهُ وَعَمْرًا وَقَدْ أَجَازَ الْفَرَّاءُ جَاءَنِي الَّذِي وَزَيْدٌ قَائِمَانِ التَّقْدِيرُ جَاءَنِي الَّذِي هُوَ وَزَيْدٌ قَائِمَانِ فَحَذَفَ هُوَ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ والضمير المنصوب في واتقوا عَائِدٌ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ جُمْلَةٌ خَبَرِيَّةٌ تَتَضَمَّنُ التَّنْبِيهَ وَالتَّخْوِيفَ لِمَنْ تَرَكَ امْتِثَالِ مَا أُمِرَ بِهِ مِنَ الْإِسْلَامِ وَالصَّلَاةِ وَاتِّقَاءِ اللَّهِ، وَإِنَّمَا تَظْهَرُ ثَمَرَاتُ فِعْلِ هَذِهِ الْأَعْمَالِ وَحَسَرَاتُ تَرْكِهَا يَوْمَ الْحَشْرِ وَالْقِيَامَةِ.
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ إِلَى جَزَائِهِ يَحْشُرُ
555
الْعَالَمَ وَهُوَ مُنْتَهَى مَا يؤول إِلَيْهِ أَمْرُهُمْ ذَكَرَ مُبْتَدَأَ وُجُودِ الْعَالَمِ وَاخْتِرَاعِهِ لَهُ بِالْحَقِّ أَيْ بِمَا هُوَ حَقٌّ لَا عَبَثَ فِيهِ وَلَا هُوَ بَاطِلٌ أَيْ لَمْ يَخْلُقْهُمَا بَاطِلًا وَلَا عَبَثًا بَلْ صَدَرَا عَنْ حِكْمَةٍ وَصَوَابٍ وَلِيُسْتَدَلَّ بِهِمَا عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ إِذْ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتُ الْعَظِيمَةُ الظَّاهِرُ عَلَيْهَا سِمَاتُ الْحُدُوثِ لَا بُدَّ لَهَا مَنْ مُحْدِثٍ وَاحِدٍ عَالِمٍ قَادِرٍ مُرِيدٍ سُبْحَانَهُ جَلَّ وَعَلَا. وَقِيلَ: مَعْنَى بِالْحَقِّ بِكَلَامِهِ فِي قَوْلِهِ لِلْمَخْلُوقَاتِ كُنْ وَفِي قَوْلِهِ: ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً «١» وَالْمُرَادُ فِي هَذَا وَنَحْوِهِ إِنَّمَا هُوَ إِظْهَارُ انْفِعَالِ مَا يُرِيدُ تَعَالَى أَنْ يَفْعَلَهُ وَإِبْرَازُهُ لِلْوُجُودِ بِسُرْعَةٍ وَتَنْزِيلُهُ مَنْزِلَةَ مَا يُؤْمَرُ فَيَمْتَثِلُ.
وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ جَوَّزُوا فِي يَوْمَ أَنْ يَكُونَ مَعْمُولًا لِمَفْعُولِ فِعْلٍ مَحْذُوفٍ وَقَدَّرُوهُ وَاذْكُرِ الْإِعَادَةَ يَوْمَ يَقُولُ: كُنْ أَيْ يَوْمَ يَقُولُ لِلْأَجْسَادِ كُنْ مُعَادَةً وَيَتِمُّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: كُنْ، ثُمَّ أَخْبَرَ بِأَنَّهُ يَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ الَّذِي كَانَ فِي الدُّنْيَا إِخْبَارًا بِالْإِعَادَةِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ فاعلا بفيكون أَوْ يَتِمُّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: كُنْ فَيَكُونُ وَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ مُبْتَدَأً وَخَبَرًا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ يَوْمَ يَقُولُ مَعْطُوفٌ عَلَى الضَّمِيرِ مِنْ قَوْلِهِ وَاتَّقُوهُ أَيْ وَاتَّقُوا عِقَابَهُ وَالشَّدَائِدَ وَيَوْمَ فَيَكُونُ انْتِصَابُهُ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ لَا ظَرْفٌ. وَقِيلَ: وَيَوْمَ مَعْطُوفٌ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَالْعَامِلُ فِيهِ خَلَقَ، وَقِيلَ: الْعَامِلُ اذْكُرْ أَوْ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ بِالْحَقِّ إِذْ هُوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ وَيَكُونُ يَقُولُ بِمَعْنَى الْمَاضِي كَأَنَّهُ قَالَ وَهُوَ الذي خلق السموات وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ قَالَ لَهَا كُنْ وَيَتِمُّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ فَيَكُونُ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ مُبْتَدَأً وَخَبَرًا أَوْ يَتِمُّ عِنْدَ كُنْ وَيَبْتَدِئُ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ أَيْ يَظْهَرُ مَا يَظْهَرُ وفاعل يكون قَوْلُهُ والْحَقُّ صفة وفَيَكُونُ تَامَّةٌ وَهَذِهِ الْأَعَارِيبُ كُلُّهَا بَعِيدَةٌ يَنْبُو عَنْهَا التَّرْكِيبُ وَأَقْرَبُ مَا قِيلَ مَا قاله الزمخشري وهو أن قَوْلُهُ الْحَقُّ مُبْتَدَأٌ والْحَقُّ صفة له ويَوْمَ يَقُولُ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ فَيَتَعَلَّقُ بِمُسْتَقِرٍ كَمَا تَقُولُ يَوْمَ الْجُمْعَةِ الْقِتَالُ وَالْيَوْمُ بِمَعْنَى الْحِينِ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ خَلَقَ السموات وَالْأَرْضَ قَائِمًا بِالْحَقِّ وَالْحِكْمَةِ وَحِينَ يَقُولُ لِلشَّيْءِ مِنَ الْأَشْيَاءِ كُنْ فَيَكُونُ ذَلِكَ الشَّيْءُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَالْحِكْمَةُ أَيْ لَا يَكُونُ شَيْءٌ من السموات وَالْأَرْضِ وَسَائِرِ الْمُكَوَّنَاتِ إِلَّا عَنْ حِكْمَةٍ وَصَوَابٍ، وَجَوَّزَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَجْهًا آخَرَ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ الْحَقُّ فَاعِلًا بِقَوْلِهِ فَيَكُونُ فَانْتِصَابُ يَوْمَ بِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بِالْحَقِّ كَأَنَّهُ قِيلَ: كُنْ يَوْمَ بِالْحَقِّ وَهَذَا إِعْرَابٌ مُتَكَلَّفٌ.
وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ قِيلَ يَوْمَ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ وَيَوْمَ يَقُولُ، وَقِيلَ:
(١) سورة فصلت: ٤١/ ١١.
556
مَنْصُوبٌ بِالْمُلْكِ وَتَخْصِيصُهُ بِذَلِكَ الْيَوْمِ كَتَخْصِيصِهِ بِقَوْلِهِ: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ «١» وَبِقَوْلِهِ:
وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ «٢» وَفَائِدَتُهُ الْإِخْبَارُ بِانْفِرَادِهِ بِالْمُلْكِ حِينَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُدَّعَى فِيهِ مُلْكٌ، وَقِيلَ هُوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ وَذُو الْحَالِ الْمُلْكُ وَالْعَامِلُ لَهُ، وَقِيلَ هُوَ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ لِقَوْلِهِ: قَوْلُهُ الْحَقُّ أَيْ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ، وَقِيلَ ظَرْفٌ لقوله تُحْشَرُونَ أو ليقول أو لعالم الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ فِي الصُّورِ وَحَكَاهَا عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ عَنْ عِيَاضٍ وَيُؤَيِّدُ تَأْوِيلَ مَنْ تَأَوَّلَهُ أَنَّ الصُّوَرَ جَمْعُ صُورَةٍ كَثُومَةٍ وَثُوَمٍ وَالظَّاهِرُ أَنَّ ثَمَّ نَفْخًا حَقِيقَةً، وَقِيلَ: هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ قِيَامِ السَّاعَةِ وَنَفَادِ الدُّنْيَا وَاسْتَعَارَهُ. وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ الْوَارِثِ عَنْ أَبِي عَمْرٍو نَنْفُخُ بِنُونِ الْعَظَمَةِ.
عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَيْ هُوَ عَالِمٌ أَوْ مُبْتَدَأٌ عَلَى تَقْدِيرِ مَنِ النَّافِخُ أَوْ فَاعِلٌ بيقول أو بينفخ مَحْذُوفَةٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ يُنْفَخُ نَحْوَ رِجَالٌ بَعْدَ قَوْلِهِ: يسبح بفتح الباء وشركاؤهم بَعْدَ زُيِّنَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَرَفْعِ قَتْلُ وَنَحْوَ ضَارِعٌ لِخُصُومَةٍ بَعْدَ لِيُبْكِ يَزِيدٌ التَّقْدِيرُ يُسَبِّحُ لَهُ رِجَالٌ وَزَيَّنَهُ شُرَكَاؤُهُمْ وَيُبْكِيهِ ضَارِعٌ أَوْ نَعْتٌ لِلَّذِي أَقْوَالٌ أَجْوَدُهَا الْأَوَّلُ والْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ يَعُمَّانِ جَمِيعَ الْمَوْجُودَاتِ، وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ عالِمُ بِالْخَفْضِ وَوُجِّهَ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي لَهُ أَوْ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَوْ نَعْتٌ لِلضَّمِيرِ فِي لَهُ، وَالْأَجْوَدُ الْأَوَّلُ لِبُعْدِ الْمُبْدَلِ مِنْهُ فِي الثَّانِي وَكَوْنِ الضَّمِيرِ الْغَائِبِ يُوصَفُ وَلَيْسَ مَذْهَبَ الْجُمْهُورِ إِنَّمَا أَجَازَهُ الْكِسَائِيُّ وَحْدَهُ.
وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ لَمَّا ذَكَرَ خَلْقَ الْخَلْقِ وَسُرْعَةَ إِيجَادِهِ لِمَا يَشَاءُ وَتَضَمُّنَ الْبَعْثِ إِفْنَاءَهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ نَاسَبَ ذِكْرَ الْوَصْفِ بِالْحَكِيمِ وَلَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ نَاسَبَ ذِكْرَ الْوَصْفِ بِالْخَبِيرِ إِذْ هِيَ صِفَةٌ تَدُلُّ عَلَى عِلْمِ مَا لَطُفَ إدراكه من الأشياء.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٧٤ الى ٩٤]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٧٤) وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (٧٥) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (٧٦) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (٧٧) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٧٨)
إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٧٩) وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٨٠) وَكَيْفَ أَخافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨١) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٨٢) وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٨٣)
وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٤) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٥) وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (٨٦) وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٨٧) ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٨)
أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (٨٩) أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ (٩٠) وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (٩١) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩٢) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (٩٣)
وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٩٤)
(١) سورة غافر: ٤٠/ ١٦.
(٢) سورة الانفطار: ٨٢/ ١٩.
557
آزَرَ اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ عَلَمٌ مَمْنُوعُ الصَّرْفِ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالْعُجْمَةِ الشَّخْصِيَّةِ. الصَّنَمُ الْوَثَنُ يُقَالُ إِنَّهُ مُعْرَبٌ شَمِرٌ وَالصَّنَمُ: خُبْثُ الرَّائِحَةِ وَالصَّنَمُ: الْعَبْدُ الْقَوِيُّ وَصَنَمَ صَوَّرَ وَصَوَّرَ بنو فلان نوقهم اعزروها. جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ وَأَجَنَّ أَظْلَمَ هَذَا تَفْسِيرُ الْمَعْنَى وَهُوَ بِمَعْنَى سَتَرَ مُتَعَدِّيًا، قَالَ الشَّاعِرُ:
وَمَاءً وَرَدْتُ قُبَيْلَ الْكَرَى وَقَدْ جَنَّهُ السَّدَفُ الْأَدْهَمُ
وَالِاخْتِيَارُ جَنَّ اللَّيْلُ وَأَجَنَّهُ وَمَصْدَرُ جَنَّ جُنُونٌ وَجَنَانٌ وَجَنَّ الْكَوْكَبُ وَالْكَوْكَبَةُ النَّجْمُ وَهُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ مَعَانٍ كَثِيرَةٍ وَيُقَالُ كَوْكَبٌ تَوَقَّدَ، وَقَالَ الصَّاغَانِيُّ: حَقُّ لَفْظِ كَوْكَبٍ أَنْ يذكر في تركيب وك ب عِنْدَ حُذَّاقِ النَّحْوِيِّينَ فَإِنَّهَا صَدَرَتْ بِكَافٍ زَائِدَةٍ عِنْدَهُمْ إِلَّا أَنَّ الْجَوْهَرِيَّ أَوْرَدَهَا فِي تَرْكِيبِ ك وك ب وَلَعَلَّهُ تَبِعَ فِيهِ اللَّيْثَ فَإِنَّهُ ذَكَرَهُ فِي الرُّبَاعِيِّ ذَاهِبًا إِلَى أَنَّ الْوَاوَ أَصْلِيَّةٌ انْتَهَى. وَلَيْتَ شِعْرِي مَنْ حُذَّاقُ النَّحْوِيِّينَ الَّذِينَ تَكُونُ الْكَافُ عِنْدَهُمْ مِنْ حُرُوفِ الزِّيَادَةِ فَضْلًا عَنْ زِيَادَتِهَا فِي أَوَّلِ كَلِمَةٍ، فَأَمَّا قَوْلُهُمْ هِنْدِيُّ وَهِنْدُكِيٌّ فِي مَعْنًى وَاحِدٍ وَهُوَ الْمَنْسُوبُ إِلَى الْهِنْدِ قَالَ الشَّاعِرُ:
وَمَقْرُونَةٌ دُهْمٌ وَكُمْتٌ كَأَنَّهَا طَمَاطِمُ يُوفُونَ الْوِفَازَ هَنَادِكَ
فَخَرَّجَهُ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّ الْكَافَ لَيْسَتْ زَائِدَةً لِأَنَّهُ لَمْ تَثْبُتْ زِيَادَتُهَا فِي مَوْضِعٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ فَيُحْمَلُ هَذَا عَلَيْهِ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ سَبَطَ وَسَبْطَرَ، وَالَّذِي أَخْرَجَهُ عَلَيْهِ أَنَّ مَنْ تَكَلَّمَ بِهَذَا مِنَ الْعَرَبِ إِنْ كَانَ تَكَلَّمَ بِهِ فَإِنَّمَا سَرَى إِلَيْهِ مِنْ لُغَةِ الْحَبَشِ لِقُرْبِ الْعَرَبِ مِنَ الْحَبَشِ
559
وَدُخُولِ كَثِيرٍ مِنْ لُغَةِ بَعْضِهِمْ فِي لُغَةِ بَعْضٍ، وَالْحَبَشَةُ إِذَا نَسَبَتْ أَلْحَقَتْ آخِرَ مَا تَنْسُبُ إِلَيْهِ كَافًا مَكْسُورَةً مَشُوبَةً بَعْدَهَا يَاءٌ يَقُولُونَ فِي النَّسَبِ إِلَى قِنْدِيٍّ قِنْدِكِيٌّ وَإِلَى شَوَاءٍ: شَوَكِيٌّ وَإِلَى الْفَرَسِ: الْفَرَسْكِيُّ وَرُبَّمَا أَبْدَلَتْ تَاءً مَكْسُورَةً قَالُوا فِي النَّسَبِ إِلَى جَبْرَى: جَبَرْتِيٌّ، وَقَدْ تَكَلَّمْتُ عَلَى كَيْفِيَّةِ نِسْبَةِ الْحَبَشِ فِي كِتَابِنَا الْمُتَرْجَمِ عَنْ هَذِهِ اللُّغَةِ الْمُسَمَّى بِجَلَاءِ الْغَبَشِ عَنْ لِسَانِ الْحَبَشِ، وَكَثِيرًا مَا تَتَوَافَقُ اللُّغَتَانِ لُغَةُ الْعَرَبِ وَلُغَةُ الْحَبَشِ فِي أَلْفَاظٍ وَفِي قواعد من التراكيب نحوية كَحُرُوفِ الْمُضَارَعَةِ وَتَاءِ التَّأْنِيثِ وَهَمْزَةِ التَّعْدِيَةِ. أَفَلَ يَأْفُلُ أُفُولًا غَابَ.
وَقِيلَ: ذَهَبَ وَهَذَا اخْتِلَافٌ فِي عِبَارَةٍ. وَقَالَ ذُو الرُّمَّةِ:
مَصَابِيحُ لَيْسَتْ بِاللَّوَاتِي يَقُودُهَا نُجُومٌ وَلَا بِالْآفِلَاتِ الدَّوَالِكِ
الْقَمَرُ مَعْرُوفٌ يُسَمَّى بِذَلِكَ لِبَيَاضِهِ وَالْأَقْمَرُ الْأَبْيَضُ وَلَيْلَةٌ قَمْرَاءُ مُضِيئَةٌ قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ.
الْبُزُوغُ أَوَّلُ الطُّلُوعِ بَزَغَ يَبْزُغُ. اقْتَدَى بِهِ اتَّبَعَهُ وَجَعَلَهُ قُدْوَةً لَهُ أَيْ مُتَّبِعًا. الْغَمْرَةُ الشِّدَّةُ الْمُذْهِلَةُ وَأَصْلُهَا فِي غَمْرَةِ الْمَاءِ وَهِيَ مَا يُغَطِّي الشَّيْءَ. قَالَ الشَّاعِرُ:
وَلَا يُنْجِي مِنَ الْغَمَرَاتِ إِلَّا بَرَاكَاءُ الْقِتَالِ أَوِ الْفِرَارُ
وَيُجْمَعُ عَلَى فُعَلٍ كَنَوْبَةٍ وَنُوَبٍ قَالَ الشَّاعِرُ:
وَحَانَ لِتَالِكَ الْغَمْرِ انْحِسَارُ فُرَادَى: الْأَلِفُ فِيهِ لِلتَّأْنِيثِ وَمَعْنَاهَا فَرْدًا فَرْدًا، وَيُقَالُ فِيهِ فُرَادٌ مُنَوَّنًا عَلَى وَزْنِ فُعَالٍ وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ وَفُرَادٌ غَيْرُ مَصْرُوفٍ كَآحَادٍ وَثُلَاثٍ وَحَكَاهُ أَبُو مُعَاذٍ، قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: مَنْ صَرَفَهُ جَعَلَهُ جَمْعًا مِثْلَ تُؤَامٍ وَرُخَالٍ وَهُوَ جَمْعٌ قَلِيلٌ، قِيلَ: وَفُرَادَى جَمْعُ فَرَدٍ بِفَتْحِ الرَّاءِ. وَقِيلَ:
بِسُكُونِهَا، قال الشاعر:
يرى النعراق الزرق تَحْتَ لِبَانِهِ فُرَادَى وَمَثْنَى أَصْعَقَتْهَا صَوَاهِلُهْ
وَقِيلَ: جَمْعُ فَرِيدٍ كَرَدِيفٍ وَرُدَافَى وَيُقَالُ رَجُلٌ أَفْرَدَ وَامْرَأَةٌ فَرْدَى إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا أَخٌ وَفَرَّدَ الرَّجُلُ يُفَرِّدُ فُرُودًا إِذَا انْفَرَدَ فَهُوَ فَارِدٌ. خَوَّلَهُ: أَعْطَاهُ وَمَلَّكَهُ وَأَصْلُهُ تَمْلِيكُ الْخَوْلِ كَمَا تَقُولُ مَوَّلْتُهُ مَلَّكْتُهُ الْمَالَ. الْبَيْنُ: الْفِرَاقُ. قِيلَ: وَيَنْطَلِقُ عَلَى الْوَصْلِ فَيَكُونُ مُشْتَرَكًا. قال الشاعر:
فو الله لَوْلَا الْبَيْنُ لَمْ يَكُنِ الْهَوَى وَلَوْلَا الْهَوَى مَا حَنَّ لِلْبَيْنِ آلِفُهْ
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ.
560
لَمَّا ذُكِرَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا «١» نَاسِبَ ذِكْرُ هَذِهِ الْآيَةِ هُنَا وَكَانَ التَّذْكَارُ بِقِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ أَبِيهِ وَقَوْمِهِ أَنْسَبَ لِرُجُوعِ الْعَرَبِ إِلَيْهِ إِذْ هُوَ جَدُّهُمُ الْأَعْلَى فَذُكِّرُوا بِأَنَّ إِنْكَارَ هَذَا النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْكُمْ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ هُوَ مِثْلُ إِنْكَارِ جَدِّكُمْ إِبْرَاهِيمَ عَلَى أَبِيهِ وَقَوْمِهِ عِبَادَتَهَا وَفِي ذَلِكَ التَّنْبِيهُ عَلَى اقْتِفَاءِ مَنْ سَلَفَ مِنْ صَالِحِي الْآبَاءِ وَالْأَجْدَادِ وَهُمْ وَسَائِرُ الطَّوَائِفِ مُعَظِّمُونَ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ آزَرَ اسْمُ أَبِيهِ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُمْ، وَفِي كُتُبِ التَّوَارِيخِ أَنَّ اسْمَهُ بِالسُّرْيَانِيَّةِ تَارِخُ وَالْأَقْرَبُ أَنَّ وَزْنَهُ فَاعِلَ مِثْلُ تَارِخَ وَعَابِرَ وَلَازِبَ وَشَالِحَ وَفَالِغَ وَعَلَى هَذَا يَكُونُ لَهُ اسْمَانِ كَيَعْقُوبَ وَإِسْرَائِيلَ وَهُوَ عَطْفُ بَيَانٍ أَوْ بَدَلٌ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ اسْمُ صَنَمٍ فَيَكُونُ أُطْلِقُ عَلَى أَبِي إِبْرَاهِيمَ لِمُلَازَمَتِهِ عِبَادَتَهُ كَمَا أُطْلِقَ عَلَى عُبَيْدِ الله بن قيس الرقيات لِحُبِّهِ نِسَاءً اسْمُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ رُقَيَّةُ. فَقِيلَ ابْنُ قَيْسِ الرُّقَيَّاتِ، وَكَمَا قَالَ بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ:
أَدْعَى بِأَسْمَاءَ تَتْرَى فِي قَبَائِلِهَا كَأَنَّ أَسْمَاءَ أَضْحَتْ بَعْضَ أَسْمَائِي
وَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ عَطْفَ بَيَانٍ أَوْ يَكُونُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ عَابِدِ آزَرَ حُذِفَ الْمُضَافُ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ أَوْ يَكُونُ مَنْصُوبًا بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ أَيْ تَتَّخِذُ آزَرَ، وَقِيلَ: إِنَّ آزَرَ عَمُّ إِبْرَاهِيمَ وَلَيْسَ اسْمَ أَبِيهِ وَهُوَ قَوْلُ الشِّيعَةِ يَزْعُمُونَ أَنَّ آبَاءَ الْأَنْبِيَاءِ لَا يَكُونُونَ كُفَّارًا وَظَوَاهِرُ الْقُرْآنِ تَرُدُّ عَلَيْهِمْ وَلَا سِيَّمَا مُحَاوَرَةُ إِبْرَاهِيمَ مَعَ أَبِيهِ. فِي غَيْرِ مَا آيَةٍ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُوَ لَقَبٌ لِأَبِي إِبْرَاهِيمَ وَلَيْسَ اسْمًا لَهُ وَامْتَنَعَ آزَرُ مِنَ الصَّرْفِ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالْعُجْمَةِ، وَقِيلَ هُوَ صِفَةٌ، قَالَ الْفَرَّاءُ بِمَعْنَى الْمُعْوَجِّ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: بِمَعْنَى الْمُخْطِئِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الشَّيْخُ الْهَمُّ بِالْفَارِسِيَّةِ، وَإِذَا كَانَ صِفَةً أَشْكَلَ مَنْعُ صَرْفِهِ وَوَصْفُ الْمَعْرِفَةِ بِهِ وَهُوَ نَكِرَةٌ وَوَجَّهَهُ الزَّجَّاجُ بِأَنْ تُزَادَ فِيهِ الْ وَيُنْصَبُ عَلَى الذَّمِّ كَأَنَّهُ قِيلَ: أَذُمُّ الْمُخْطِئَ، وَقِيلَ: انْتَصَبَ عَلَى الْحَالِ وَهُوَ فِي حَالِ عِوَجٍ أَوْ خَطَأٍ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ آزَرَ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَأُبَيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُمْ بِضَمِّ الرَّاءِ عَلَى النِّدَاءِ وَكَوْنِهِ عَلَمًا وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِحَذْفِ حَرْفِ النِّدَاءِ وَهُوَ لَا يُحْذَفُ مِنَ الصِّفَةِ إِلَّا شُذُوذًا، وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ يَا آزَرُ بِحَرْفِ النِّدَاءِ اتَّخَذْتَ أَصْنَامًا بِالْفِعْلِ الْمَاضِي فَيَحْتَمِلُ الْعَلَمِيَّةَ وَالصِّفَةَ، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا أأزرا تَتَّخِذُ بِهَمْزَةِ اسْتِفْهَامٍ وَفَتْحِ الْهَمْزَةِ بَعْدَهَا وَسُكُونِ الزَّايِ وَنَصْبِ الرَّاءِ مُنَوَّنَةً وَحَذْفِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ مِنْ أَتَتَّخِذُ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْمَعْنَى أَعَضُدًا وَقُوَّةً وَمُظَاهَرَةً عَلَى الله تتخذ وهو قَوْلِهِ: اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي «٢»
(١) سورة الأنعام: ٦/ ٧١.
(٢) سورة طه: ٢٠/ ٣١.
561
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُوَ اسْمُ صَنَمٍ وَمَعْنَاهُ أَتَعْبُدُ أَزَرًا عَلَى الْإِنْكَارِ ثُمَّ قَالَ: أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً تَبْيِينًا لِذَلِكَ وَتَقْرِيرًا وَهُوَ دَاخِلٌ فِي حُكْمِ الْإِنْكَارِ لِأَنَّهُ كَالْبَيَانِ لَهُ، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَأَبُو إِسْمَاعِيلَ الشَّامِيُّ أَإِزْرًا بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ بَعْدَ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ تَتَّخِذُ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمَعْنَاهَا أَنَّهَا مُبْدَلَةٌ مِنْ وَاوٍ كَوِسَادَةٍ وَإِسَادَةٍ كَأَنَّهُ قَالَ: أَوِزْرًا أَوْ مَأْثَمًا تَتَّخِذُ أَصْنَامًا وَنَصْبُهُ عَلَى هَذَا بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُوَ اسْمُ صَنَمٍ وَوَجَّهَهُ عَلَى مَا وَجَّهَ عَلَيْهِ أَأَزْرًا بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ إِزْرًا تَتَّخِذُ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الزَّايِ وَنَصْبِ الرَّاءِ وَتَنْوِينِهَا وَبِغَيْرِ هَمْزَةِ اسْتِفْهَامٍ فِي تَتَّخِذُ وَالْهَمْزَةُ فِي أَتَتَّخِذُ لِلْإِنْكَارِ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى الْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ أُمِرَ الْإِنْسَانُ بِإِكْرَامِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى طَرِيقَةٍ مُسْتَقِيمَةٍ وَعَلَى الْبُدَاءَةِ بِمَنْ يَقْرُبُ مِنَ الْإِنْسَانِ كَمَا قَالَ: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ «١» وَفِي ذِكْرِهِ أَصْنَامًا آلِهَةً بِالْجَمْعِ تَقْبِيحٌ عَظِيمٌ لِفِعْلِهِمْ وَاتِّخَاذِهِمْ جَمْعًا آلِهَةً وَذَكَرُوا أَنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ نَجَّارًا مُنَجِّمًا مُهَنْدِسًا وَكَانَ نُمْرُودُ يَتَعَلَّقُ بِالْهَنْدَسَةِ وَالنُّجُومِ فَحَظِيَ عِنْدَهُ بِذَلِكَ وَكَانَ مِنْ قَرْيَةٍ تُسَمَّى كَوْثًا مِنْ سَوَادِ الْكُوفَةِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ قِيلَ وَبِهَا وُلِدَ إِبْرَاهِيمُ، وَقِيلَ: كَانَ آزَرُ مِنْ أَهْلِ حَرَّانَ وَهُوَ تَارِخُ بْنُ نَاجُورَ بْنِ سَارُوعَ بْنِ أَرْغُوَ بْنِ فَالَغَ بْنِ عَابِرِ بْنِ شَالِخِ بْنِ أَرْفَخْشَدَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ، وأراك يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ بَصَرِيَّةً وَأَنْ تَكُونَ عِلْمِيَّةً، وَالظَّاهِرُ أَنَّ تَتَّخِذُ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى أَتَعْمَلُ وَتَصْنَعُ لِأَنَّهُ كَانَ يَنْحِتُهَا وَيَعْمَلُهَا وَلَمَّا أَنْكَرَ عَلَى أَبِيهِ أَخْبَرَ أَنَّهُ وَقَوْمَهُ فِي ضَلَالٍ وَجَعْلُهُمْ مَظْرُوفَيْنِ لِلضَّلَالِ أَبْلَغُ مِنْ وَصْفِهِمْ بِالضَّلَالِ كَأَنَّ الضَّلَالَ صَارَ ظَرْفًا لَهُمْ ومبين وَاضِحٌ ظَاهِرٌ مِنْ أَبَانَ اللَّازِمَةِ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَيْسَ بِالْفِعْلِ الْمُتَعَدِّي الْمَنْقُولِ مَنْ بَانَ يَبِينُ انْتَهَى، وَلَا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ يُوَضِّحُ كُفْرَكُمْ بِمُوجِدِكُمْ مِنْ حَيْثُ اتَّخَذْتُمْ دُونَهُ آلِهَةً وَهَذَا الْإِنْكَارُ مِنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَى أَبِيهِ وَالْإِخْبَارُ أَنَّهُ وَقَوْمَهُ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ أَدَلُّ دَلِيلٍ عَلَى هِدَايَةِ إِبْرَاهِيمَ وَعِصْمَتِهِ مَنْ سَبْقِ مَا يُوهِمُ ظَاهِرُ قَوْلِهِ: هَذَا رَبِّي مِنْ نِسْبَةِ ذَلِكَ إِلَيْهِ عَلَى أَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّمَا ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّنَزُّلِ مَعَ الْخَصْمِ وَتَقْرِيرِ مَا يَبْنِي عَلَيْهِ مِنَ اسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِفًا بِصِفَاتِ الْحُدُوثِ مِنَ الْجُسْمَانِيَّةِ وَقَبُولِهِ التَّغَيُّرَاتِ مِنَ الْبُزُوغِ وَالْأُفُولِ وَنَحْوِهَا.
وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ هَذِهِ جُمْلَةُ اعْتِرَاضٍ بَيْنَ قَوْلِهِ:
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ مُنْكِرًا عَلَى أَبِيهِ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ وَبَيْنَ جُمْلَةِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِمْ بِإِفْرَادِ الْمَعْبُودِ، وَكَوْنِهِ لَا يُشْبِهُ الْمَخْلُوقِينَ وَهِيَ قَوْلُهُ: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ ونُرِي بمعنى أريناه
(١) سورة الشعراء: ٢٦/ ٢١٤.
562
وَهِيَ حِكَايَةُ حَالٍ وَهِيَ مُتَعَدِّيَةٌ إِلَى اثْنَيْنِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا بَصَرِيَّةٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَأَمَّا مِنْ أُرِيَ الَّتِي بِمَعْنَى عَرَفَ انْتَهَى، وَيَحْتَاجُ كَوْنُ رَأَى بِمَعْنَى عَرَفَ ثُمَّ تَعَدَّى بِالْهَمْزَةِ إِلَى مَفْعُولَيْنِ إِلَى نَقْلِ ذَلِكَ عَنِ الْعَرَبِ وَالَّذِي نَقَلَ النَّحْوِيُّونَ أَنَّ رَأَى إِذَا كَانَتْ بَصْرِيَّةً تَعَدَّتْ إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ وَإِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى عَلِمَ النَّاصِبَةِ لِمَفْعُولَيْنِ تَعَدَّتْ إِلَى مَفْعُولَيْنِ، وَعَلَى كَوْنِهَا بَصْرِيَّةً فَقَالَ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ وَابْنُ جُبَيْرٍ ومجاهد: فرجت له السموات وَالْأَرْضُ فَرَأَى بِبَصَرِهِ الْمَلَكُوتَ الْأَعْلَى وَالْمَلَكُوتَ الْأَسْفَلَ وَرَأَى مَقَامَهُ فِي الْجَنَّةِ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَإِنْ صَحَّ هَذَا النَّقْلُ فَفِيهِ تَخْصِيصٌ لِإِبْرَاهِيمَ بِمَا لَمْ يُدْرِكْهُ غَيْرُهُ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ انْتَهَى.
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: كَشَفَ الله له عن السموات وَالْأَرْضِ حَتَّى الْعَرْشِ وَأَسْفَلِ الْأَرَضِينَ وَإِذَا كَانَتْ إِبْصَارًا فَلَيْسَ الْمَعْنَى مُجَرَّدَ الْإِبْصَارِ وَلَكِنْ وَقَعَ لَهُ مَعَهَا مِنْ الِاعْتِبَارِ وَالْعِلْمِ مَا لَمْ يَقَعْ لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ زَمَانِهِ الَّذِينَ بُعِثَ إِلَيْهِمْ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ.
وَفِي ذَلِكَ تَخْصِيصٌ لَهُ عَلَى جِهَةِ التَّقْيِيدِ بِأَهْلِ زَمَانِهِ وَكَوْنِهَا مِنْ رُؤْيَةِ الْقَلْبِ، وَجَوَّزَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَلَمْ يَذْكُرِ الزَّمَخْشَرِيُّ غَيْرَهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: رأى بها ملكوت السموات وَالْأَرْضِ بِفِكْرَتِهِ وَنَظَرِهِ وَذَلِكَ لَا بُدَّ مُتَرَكِّبٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ رُؤْيَتِهِ بِبَصَرِهِ وَإِدْرَاكِهِ فِي الْجُمْلَةِ بِحَوَاسِّهِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمِثْلَ ذَلِكَ التَّعْرِيفِ وَالتَّبْصِيرِ نُعَرِّفُ ابراهيم ونبصره ملكوت السموات وَالْأَرْضِ يَعْنِي الرُّبُوبِيَّةَ وَالْإِلَهِيَّةَ ونوقفه لِمَعْرِفَتِهِمَا وَنُرْشِدُهُ بِمَا شَرَحْنَا صَدْرَهُ وَسَدَّدْنَا نَظَرَهُ لِطَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ ونُرِي حِكَايَةُ حَالٍ مَاضِيَةٍ انْتَهَى، وَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى الْهِدَايَةِ أَوْ وَمِثْلَ هِدَايَتِهِ إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى وَدُعَاءِ أَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَفْضِ الْأَصْنَامِ أَشْهَدْنَاهُ مَلَكُوتَ السموات وَالْأَرْضِ.
وَحَكَى الَمَهْدَوِيُّ أَنَّ الْمَعْنَى وَكَمَا هَدَيْنَاكَ يَا مُحَمَّدُ أَرَيْنَا إِبْرَاهِيمَ وَهَذَا بَعِيدٌ مِنْ دَلَالَةِ اللَّفْظِ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْكَافُ لِلتَّعْلِيلِ أَيْ وَكَذَلِكَ الْإِنْكَارُ وَالدُّعَاءُ إِلَى اللَّهِ زَمَانَ ادِّعَاءِ غَيْرِ اللَّهِ الرُّبُوبِيَّةَ أشهدناه ملكوت السموات وَالْأَرْضِ فَصَارَ لَهُ بِذَلِكَ اخْتِصَاصٌ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: جَلَائِلَ الْأُمُورِ سِرَّهَا وَعَلَانِيَتَهَا، فَلَمْ يُخْفَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِ الْخَلَائِقِ فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ جَعَلَ يَلْعَنُ أَصْحَابَ الذُّنُوبِ قَالَ اللَّهُ: إِنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ هَذَا فَرَدَّهُ لَا يَرَى أَعْمَالَهُمْ انْتَهَى، قَالَ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ: الْمَلَكُوتُ الْمُلْكُ كَالرَّغَبُوتِ وَالرَّهَبُوتِ وَالْجَبَرُوتِ وَهُوَ بِنَاءُ مُبَالِغَةٍ وَمِنْ كَلَامِهِمْ: لَهُ مَلَكُوتُ الْيَمَنِ وَالْعِرَاقِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: ويعني به آيات السموات وَالْأَرْضِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: مَلَكُوتُ السموات: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَمَلَكُوتُ الْأَرْضِ: الْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالْبِحَارُ، وَقِيلَ: عِبَادَةُ الْمَلَائِكَةِ وَعِصْيَانُ آدَمَ، وَقَرَأَ أَبُو السَّمَالِ: مَلْكُوتَ بِسُكُونِ اللَّامِ وَهِيَ لُغَةٌ بِمَعْنَى الْمُلْكِ، وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ مَلَكُوثَ بِالثَّاءِ
563
الْمُثَلَّثَةِ وَقَالَ: مَلَكُوثًا بِالْيُونَانِيَّةِ أَوِ الْقِبْطِيَّةِ، وَقَالَ النَّخَعِيُّ: هِيَ مَلَكُوثًا بِالْعِبْرَانِيَّةِ وَقُرِئَ وَكَذَلِكَ تَرَى، بِالتَّاءِ مِنْ فَوْقُ، إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ، بِرَفْعِ التَّاءِ، أَيْ تَبَصِّرُهُ دَلَائِلَ الرُّبُوبِيَّةِ.
وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ أَيْ أَرَيْنَاهُ الْمَلَكُوتَ، وَقِيلَ: ثَمَّ عِلَّةٌ مَحْذُوفَةٌ عُطِفَتْ هَذِهِ عَلَيْهَا وَقُدِّرَتْ لِيُقِيمَ الْحُجَّةَ عَلَى قَوْمِهِ، وَقَالَ قَوْمٌ: لِيَسْتَدِلَّ بِهَا عَلَى الصَّانِعِ، وَقِيلَ: الْوَاوُ زَائِدَةٌ وَمُتَعَلَّقُ الْمُوقِنِينَ قِيلَ: بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ، وَقِيلَ: بِنُبُوَّتِهِ وَبِرِسَالَتِهِ. وَقِيلَ: عِيَانًا كَمَا أَيْقَنَ بَيَانًا انْتَقَلَ مِنْ عِلْمِ الْيَقِينِ إِلَى عَيْنِ الْيَقِينِ كَمَا سَأَلَ فِي قَوْلِهِ: أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى «١» والإيقان تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ أَوَّلَ الْبَقَرَةِ، وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: الْيَقِينُ عِبَارَةٌ عَنْ عِلْمٍ يَحْصُلُ بَعْدَ زَوَالِ الشُّبْهَةِ بِسَبَبِ التَّأَمُّلِ وَلِهَذَا لَا يُوصَفُ عِلْمُ اللَّهِ بِكَوْنِهِ يَقِينًا لِأَنَّ عِلْمَهُ غَيْرُ مَسْبُوقٍ بِالشُّبْهَةِ وَغَيْرُ مُسْتَفَادٍ مِنَ الْفِكْرِ وَالتَّأَمُّلِ، وَإِذَا كَثُرَتِ الدَّلَائِلُ وَتَوَافَقَتْ وَتَطَابَقَتْ صَارَتْ سَبَبًا لِحُصُولِ الْيَقِينِ إِذْ يَحْصُلُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا نَوْعُ تَأْثِيرٍ وَقُوَّةٍ فَتَتَزَايَدُ حَتَّى يَجْزِمَ.
فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هَذَا رَبِّي.
هَذِهِ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَ وَكَذلِكَ نُرِي اعْتِرَاضًا وَهُوَ قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيُّ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْفَاءَ فِي قَوْلِهِ فَلَمَّا رَابِطَةٌ جُمْلَةَ مَا بَعْدَهَا بِمَا قَبْلَهَا وَهِيَ تُرَجِّحُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَلَكُوتِ هُوَ هَذَا التَّفْصِيلُ الَّذِي فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَانَ أَبُوهُ وَقَوْمُهُ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْكَوَاكِبَ فَأَرَادَ أَنْ يُنَبِّهَهُمْ عَلَى الْخَطَأِ فِي دِينِهِمْ وَأَنْ يُرْشِدَهُمْ إِلَى طَرِيقِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، وَيُعَرِّفَهُمْ أَنَّ النَّظَرَ الصَّحِيحَ مُؤَدٍّ إِلَى أَنَّ شَيْئًا مِنْهَا لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ إِلَهًا لِقِيَامِ دَلِيلِ الْحُدُوثِ فِيهَا وَأَنَّ وَرَاءَهَا مُحْدِثًا أَحْدَثَهَا وَصَانِعًا صَنَعَهَا وَمُدَبِّرًا دَبَّرَ طُلُوعَهَا وَأُفُولَهَا وَانْتِقَالَهَا وَمَسِيرَهَا وَسَائِرَ أَحْوَالِهَا وَالْكَوْكَبُ الزُّهْرَةُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ، أَوِ الْمُشْتَرِي، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ وَهُوَ رُبَاعِيٌّ وَالْوَاوُ فِيهِ أَصْلٌ وَتَكَرَّرَتْ فِيهِ الْفَاءُ فَوَزْنُهُ فَعْفَلٌ نَحْوَ قَوْقَلٍ وَهُوَ تَرْكِيبٌ قَلِيلٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ جَوَابَ لَمَّا رَأى كَوْكَباً وَعَلَى هَذَا جَوَّزُوا فِي قالَ هَذَا رَبِّي أَنْ يَكُونَ نَعْتًا لِلْكَوْكَبِ وَهُوَ مُشْكِلٌ أَوْ مُسْتَأْنَفًا وَهُوَ الظَّاهِرُ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ قالَ هذا رَبِّي ورَأى كَوْكَباً حَالٌ أَيْ جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَائِيًا كَوْكَبًا وهذا رَبِّي الظَّاهِرُ أَنَّهَا جُمْلَةٌ خَبَرِيَّةٌ، وَقِيلَ هِيَ اسْتِفْهَامِيَّةٌ عَلَى جِهَةِ الْإِنْكَارِ حُذِفَ مِنْهَا الْهَمْزَةُ كَقَوْلِهِ:
بِسَبْعٍ رَمَيْنَ الْجَمْرَ أَمْ بِثَمَانٍ
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢٦٠.
564
قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَهَذَا شَاذٌّ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْذَفَ الْحَرْفُ إِلَّا إِذَا كَانَ ثَمَّ فَارَقٌ بَيْنَ الْإِخْبَارِ وَالِاسْتِخْبَارِ وَإِذَا كَانَتْ خَبَرِيَّةً فَيَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْإِخْبَارُ عَلَى سَبِيلِ الِاعْتِقَادِ وَالتَّصْمِيمِ لِعِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الْمَعَاصِي، فَضْلًا عَنِ الشِّرْكِ بِاللَّهِ، وَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ لَهُ فِي حَالِ صِبَاهُ وَقَبْلَ بُلُوغِهِ وَأَنَّهُ عَبَدَهُ حَتَّى غَابَ وَعَبَدَ الْقَمَرَ حَتَّى غَابَ وَعَبَدَ الشَّمْسَ حَتَّى غَابَتْ فَلَعَلَّهُ لَا يَصِحُّ، وَمَا حُكِيَ عَنْ قَوْمٍ أَنَّ ذَلِكَ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَالتَّكْلِيفِ لَيْسَ بِشَيْءٍ وَمَا حَكَوْا مِنْ أَنَّ أُمَّهُ أَخْفَتْهُ فِي غَارٍ وَقْتَ وِلَادَتِهِ خَوْفًا مِنْ نُمْرُوذَ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ الْمُنَجِّمُونَ أَنَّهُ يُولَدُ وَلَدٌ فِي سَنَةِ كَذَا يَخْرَبُ مُلْكُهُ عَلَى يَدَيْهِ، وَأَنَّهُ تَقَدَّمَ إِلَى أَنَّهُ مَنْ وُلِدَ مِنْ أُنْثَى تُرِكَتْ وَمِنْ ذَكَرٍ ذَبْحَهُ إِلَى أَنْ صَارَ ابْنَ عَشَرَةِ أَعْوَامٍ، وَقِيلَ: خَمْسَةَ عَشَرَ وَأَنَّهُ نَظَرَ أَوَّلَ مَا عَقَلَ مِنَ الْغَارِ فَرَأَى الْكَوْكَبَ فَحِكَايَةٌ يَدْفَعُهَا مَسَاقُ الْآيَةِ، وَقَوْلُهُ: إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ وَقَوْلُهُ: تِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ وَتَأَوَّلَ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ وَكَثِيرًا مَا يُضْمَرُ تَقْدِيرُهُ قَالَ: يَقُولُونَ هَذَا رَبِّي عَلَى حِكَايَةِ قَوْلِهِمْ وَتَوْضِيحِ فَسَادِهِ مِمَّا يَظْهَرُ عَلَيْهِ مِنْ سِمَاتِ الْحُدُوثِ وَلَا يَحْتَاجُ هَذَا إِلَى الْإِضْمَارِ بَلْ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ هَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَيْنَ شُرَكائِيَ أَيْ عَلَى زَعْمِكُمْ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هَذَا رَبِّي قَوْلُ مَنْ يُنْصِفُ خَصْمَهُ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ مُبْطِلٌ فَيَحْكِي قَوْلَهُ كَمَا هُوَ غَيْرَ مُتَعَصِّبٍ لِمَذْهَبِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَدْعَى إِلَى الْحَقِّ وَأَنْجَى مِنَ الشَّغَبِ ثُمَّ يَكُرُّ عَلَيْهِ بَعْدَ حِكَايَتِهِ فَيُبْطِلُهُ بِالْحُجَّةِ انْتَهَى، فَيَكُونُ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ اسْتِدْرَاجًا لِإِظْهَارِ الْحُجَّةِ وَتَوَسُّلًا إِلَيْهَا كَمَا تَوَسَّلَ إِلَى كَسْرِ الْأَصْنَامِ بِقَوْلِهِ: فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ «١» فَوَافَقَهُمْ ظَاهِرًا عَلَى النَّظَرِ فِي النُّجُومِ وَأَوْهَمَهُمْ أَنَّ قَوْلَهُ إِنِّي سَقِيمٌ نَاشِئٌ عَنْ نَظَرِهِ فِيهَا.
فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ أَيْ لَا أُحِبُّ عِبَادَةَ الْآفِلِينَ الْمُتَغَيِّرِينَ عَنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ الْمُنْتَقِلِينَ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ الْمُحْتَجِبِينَ بِسَتْرٍ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْأَجْرَامِ وَإِنَّمَا احْتَجَّ بِالْأُفُولِ دُونَ الْبُزُوغِ، وَكِلَاهُمَا انْتِقَالٌ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، لِأَنَّ الِاحْتِجَاجَ بِالْأُفُولِ أَظْهَرُ لِأَنَّهُ انْتِقَالٌ مَعَ خَفَاءٍ وَاحْتِجَابٍ، وَجَاءَ بِلَفْظِ الْآفِلِينَ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ ثَمَّ آفِلِينَ كَثِيرِينَ سَاوَاهُمْ هَذَا الْكَوْكَبُ فِي الْأُفُولِ فَلَا مَزِيَّةَ لَهُ عَلَيْهِمْ فِي أَنْ يُعْبَدَ لِلِاشْتِرَاكِ فِي الصِّفَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْحُدُوثِ.
فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هَذَا رَبِّي لَمْ يَأْتِ فِي الْكَوَاكِبِ رَأَى كَوْكَبًا بَازِغًا لِأَنَّهُ
(١) سورة الصافات: ٣٧/ ٨٩. [.....]
565
أَوَّلًا مَا ارْتَقَبَ حَتَّى بَزَغَ الْكَوْكَبُ لِأَنَّهُ بِإِظْلَامِ اللَّيْلِ تَظْهَرُ الْكَوَاكِبُ بِخِلَافِ حَالِهِ مَعَ الْقَمَرِ وَالشَّمْسِ فَإِنَّهُ لَمَّا أَوْضَحَ لَهُمْ أَنَّ هَذَا النَّيِّرَ وَهُوَ الْكَوْكَبُ الَّذِي رَآهُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ رَبًّا ارْتَقَبَ مَا هُوَ أَنْوَرَ مِنْهُ وَأَضْوَأَ عَلَى سَبِيلِ إِلْحَاقِهِ بِالْكَوْكَبِ، وَالِاسْتِدْلَالِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِلْعِبَادَةِ فَرَآهُ أَوَّلَ طُلُوعِهِ وَهُوَ الْبُزُوغُ، ثُمَّ عَمِلَ كَذَلِكَ فِي الشَّمْسِ ارْتَقَبَهَا إِذْ كَانَتْ أَنْوَرَ مِنَ الْقَمَرِ وَأَضْوَأَ وَأَكْبَرَ جِرْمًا وَأَعَمَّ نَفْعًا وَمِنْهَا يَسْتَمِدُّ الْقَمَرُ عَلَى مَا قِيلَ فَقَالَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاحْتِجَاجِ عَلَيْهِمْ وَبَيَّنَ أَنَّهَا مُسَاوِيَةٌ لِلْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ فِي صِفَةِ الْحُدُوثِ.
فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ الْقَوْمُ الضَّالُّونَ هُنَا عَبْدَةُ الْمَخْلُوقَاتِ كَالْأَصْنَامِ وَغَيْرِهَا وَاسْتَدَلَّ بِهَذَا مَنْ زَعَمَ أَنَّ قَوْلَهُ: هَذَا رَبِّي عَلَى ظَاهِرِهِ وَأَنَّ النَّازِلَةَ كَانَتْ فِي حَالِ الصِّغَرِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي تَنْبِيهٌ لِقَوْمِهِ عَلَى أَنَّ مَنِ اتَّخَذَ الْقَمَرَ إِلَهًا وَهُوَ نَظِيرُ الْكَوْكَبِ فِي الْأُفُولِ فَهُوَ ضَالٌّ فَإِنَّ الْهِدَايَةَ إِلَى الْحَقِّ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ وَلُطْفِهِ.
فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ الْمَشْهُورُ فِي الشَّمْسِ أَنَّهَا مُؤَنَّثَةٌ.
وَقِيلَ: تُذَكَّرُ وَتُؤَنَّثُ فَأُنِّثَتْ أَوَّلًا عَلَى الْمَشْهُورِ وَذُكِّرَتْ فِي الْإِشَارَةِ عَلَى اللُّغَةِ الْقَلِيلَةِ مُرَاعَاةً وَمُنَاسِبَةً لِلْخَبَرِ، فَرُجِّحَتْ لُغَةُ التَّذْكِيرِ الَّتِي هِيَ أَقَلُّ عَلَى لُغَةِ التَّأْنِيثِ وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَرَ فِيهَا إِلَّا التَّأْنِيثَ. فَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ذَكَّرَ أَيْ هَذَا الْمَرْئِيَّ أَوِ النَّيِّرَ وَقَدَّرَهُ الْأَخْفَشُ، هَذَا الطَّالِعَ، وَقِيلَ:
الشَّمْسُ بِمَعْنَى الضِّيَاءِ قَالَ تَعَالَى: جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً «١» فَأَشَارَ إِلَى الضِّيَاءِ وَالضِّيَاءُ مُذَكَّرٌ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: جَعَلَ الْمُبْتَدَأَ مِثْلَ الْخَبَرِ لِكَوْنِهِمَا عِبَارَةً عَنْ شَيْءٍ وَاحِدٍ كَقَوْلِهِمْ:
مَا جَاءَتْ حَاجَتُكَ وَمَا كانت أمك، ولم تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَكَانَ اخْتِيَارُ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ وَاجِبًا لِصِيَانَةِ الرَّبِّ عَنْ شُبْهَةِ التَّأْنِيثِ أَلَا تَرَاهُمْ قَالُوا فِي صِفَةِ اللَّهِ: عَلَّامُ وَلَمْ يَقُولُوا عَلَّامَةٌ، وَإِنْ كَانَ عَلَّامَةٌ أَبْلَغَ احْتِرَازًا مِنْ عَلَامَةِ التَّأْنِيثِ انْتَهَى، وَيُمْكِنُ أَنَّ أَكْثَرَ لُغَةِ الْأَعَاجِمِ لَا يُفَرِّقُونَ فِي الضَّمَائِرِ وَلَا فِي الْإِشَارَةِ بَيْنَ الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ، وَلَا عَلَامَةَ عِنْدَهُمْ لِلتَّأْنِيثِ بَلِ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ عِنْدَهُمْ فَلِذَلِكَ أَشَارَ إِلَى الْمُؤَنَّثِ عِنْدَنَا حِينَ حَكَى كَلَامَ إِبْرَاهِيمَ بِمَا يُشَارُ بِهِ إِلَى الْمُذَكَّرِ، بَلْ لَوْ كَانَ الْمُؤَنَّثُ بِفَرْجٍ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَلَامَةٌ تَدُلُّ عَلَيْهِ فِي كَلَامِهِمْ وَحِينَ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْهَا بِقَوْلِهِ بازِغَةً وأَفَلَتْ أُنِّثَ عَلَى مُقْتَضَى الْعَرَبِيَّةِ إِذْ لَيْسَ ذَلِكَ بِحِكَايَةٍ.
(١) سورة يونس: ١٠/ ٥.
566
فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ أَيْ مِنَ الْأَجْرَامِ الَّتِي تَجْعَلُونَهَا شُرَكَاءَ لِخَالِقِهَا، وَلَمَّا أَفَلَتِ الشَّمْسُ لَمْ يَبْقَ لَهُمْ شَيْءٌ يُمَثِّلُ لَهُمْ بِهِ وَظَهَرَتْ حُجَّتُهُ وَقَوِيَ بِذَلِكَ عَلَى مُنَابِذَتِهِمْ تَبَرَّأَ مِنْ إِشْرَاكِهِمْ، وَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: الِاخْتِيَارُ أَنْ يُقَالَ: اسْتَدَلَّ عَلَى عَدَمِ صَلَاحِيَتِهَا لِلْإِلَهِيَّةِ لِغَلَبَةِ نُورِ الْقَمَرِ نُورَ الزُّهْرَةِ وَنُورِ الشَّمْسِ لِنُورِهِ وَقَهْرِ تِيكَ بِذَاكَ وَهَذَا بِتِلْكَ، وَالرَّبُّ لَا يُقْهَرُ وَالظَّلَامُ غَلَبَ نُورَ الشَّمْسِ وَقَهَرَهُ انْتَهَى مُلَخَّصًا. قَالَ ابْنُ أَبِي الْفَضْلِ: مَا جَاءَ الظَّلَامُ إِلَّا بَعْدَ ذَهَابِ الشَّمْسِ فَلَمْ يَجْتَمِعْ مَعَهَا حَتَّى يُقَالَ قَهَرَهَا وَقَهَرَ نُورَهَا انْتَهَى، وَقَالَ غَيْرُهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّهُ اسْتَدَلَّ بِمَا ظَهَرَ عَلَيْهَا مِنْ شَأْنِ الْحُدُوثِ وَالِانْتِقَالِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ وَذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْأَجْسَامِ فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: إِذَا بَانَ فِي هَذِهِ النَّيِّرَاتِ الرَّفِيعَةِ أَنَّهَا لَا تَصْلُحُ لِلرُّبُوبِيَّةِ فَأَصْنَامُكُمُ الَّتِي مِنْ خَشَبٍ وَحِجَارَةٍ أَحْرَى أَنْ يَتَبَيَّنَ ذَلِكَ فِيهَا وَمَثَّلَ لَهُمْ بِهَذِهِ النَّيِّرَاتِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَصْحَابَ نَظَرٍ فِي الْأَفْلَاكِ وَتَعَلُّقٍ بِالنُّجُومِ وَأَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ رُؤْيَةَ هَذِهِ النَّيِّرَاتِ كَانَتْ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ، رَأَى الْكَوْكَبَ الزُّهْرَةَ أَوِ الْمُشْتَرِي عَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ جَانِحًا لِلْغُرُوبِ فَلَمَّا أَفَلَ بَزَغَ الْقَمَرُ فَهُوَ أَوَّلُ طُلُوعِهِ فَسَرَى اللَّيْلُ أَجْمَعَ فَلَمَّا بَزَغَتِ الشَّمْسُ زَالَ ضَوْءُ الْقَمَرِ قَبْلَهَا لِانْتِشَارِ الصَّبَاحِ وَخَفِيَ نُورُهُ وَدَنَا أَيْضًا مِنْ مَغْرِبِهِ، فَسُمِّيَ ذَلِكَ أُفُولًا لِقُرْبِهِ مِنَ الْأُفُولِ التَّامِّ عَلَى تَجَوُّزٍ فِي التَّسْمِيَةِ ثُمَّ بَزَغَتِ الشَّمْسُ عَلَى ذَلِكَ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا التَّرْتِيبُ يَسْتَقِيمُ فِي اللَّيْلَةِ الْخَامِسَةَ عَشَرَ مِنَ الشَّهْرِ إِلَى لَيْلَةِ عِشْرِينَ، وَلَيْسَ يَتَرَتَّبُ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا أَجْمَعَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ إِلَّا فِي هَذِهِ اللَّيَالِي وَبِذَلِكَ التَّجَوُّزِ فِي أُفُولِ الْقَمَرِ انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ وَالَّذِي عَلَيْهِ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْكَوْكَبِ وَالْقَمَرِ وَالشَّمْسِ هُوَ مَا وَضَعَتْهُ لَهُ الْعَرَبُ مِنْ إِطْلَاقِهَا عَلَى هَذِهِ النَّيِّرَاتِ، وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْعَرَبِ وَلَعَلَّهُ لَا يَصِحُّ عَنْهُ أَنَّ الرُّؤْيَةَ رُؤْيَةُ قَلْبٍ، وَعُبِّرَ بِالْكَوْكَبِ عَنِ النَّفْسِ الْحَيَوَانِيَّةِ الَّتِي لِكُلِّ كَوْكَبٍ وَبِالْقَمَرِ عَنِ النَّفْسِ النَّاطِقَةِ الَّتِي لِكُلِّ فَلَكٍ، وَبِالشَّمْسِ عَنِ الْعَقْلِ الْمُجَرَّدِ الَّذِي لِكُلِّ فَلَكٍ وَكَانَ ابْنُ سِينَا يُفَسِّرُ الْأُفُولَ بِالْإِمْكَانِ فَزَعَمَ الْغَزَالِيُّ أَنَّ الْمُرَادَ بِأُفُولِهَا إِمْكَانُهَا لِذَاتِهَا، وَكُلُّ مُمْكِنٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنَ مُؤَثِّرٍ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنَ الِانْتِهَاءِ إِلَى وَاجِبِ الْوُجُودِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ حَمَلَ الْكَوْكَبَ عَلَى الْحِسِّ وَالْقَمَرَ عَلَى الْخَيَالِ وَالْوَهْمِ وَالشَّمْسَ عَلَى الْعَقْلِ، وَالْمُرَادُ أَنَّ هَذِهِ الْقُوَى الْمُدْرَكَةَ الثَّلَاثَةَ قَاصِرَةٌ مُتَنَاهِيَةُ الْقُوَّةِ، وَمُدَبِّرُ الْعَالَمِ مُسْتَوْلٍ عَلَيْهَا قَاهِرٌ لَهَا انْتَهَى، وَهَذَانِ التَّفْسِيرَانِ شَبِيهَانِ بِتَفْسِيرِ الْبَاطِنِيَّةِ لَعَنَهُمُ اللَّهُ إِذْ هُمَا لُغْزٌ وَرَمْزٌ يُنَزَّهُ كِتَابُ اللَّهِ عَنْهُمَا وَلَوْلَا أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيَّ وَغَيْرَهُ قَدْ نَقَلَهُمَا فِي التَّفْسِيرِ، لَأَضْرَبْتُ عَنْ نَقْلِهِمَا صَفْحًا إِذْ هُمَا مِمَّا نَجْزِمُ بِبُطْلَانِهِ وَمِنْ تَفْسِيرِ الْبَاطِنِيَّةِ الْإِمَامِيَّةِ وَنَسَبُوهُ إِلَى عَلِيٍّ أَنَّ الْكَوْكَبَ هُوَ الْمَأْذُونُ، وَهُوَ الدَّاعِي وَالْقَمَرَ
567
اللَّاحِقُ وَهُوَ فَوْقَ الْمَأْذُونِ بِمَنْزِلَةِ الْوَزِيرِ مِنَ الْإِمَامِ وَالشَّمْسَ الْإِمَامُ وَإِبْرَاهِيمَ فِي دَرَجَةِ الْمُسْتَجِيبِ، فَقَالَ لِلْمَأْذُونِ: هَذَا رَبِّي عَنَى رَبَّ التَّرْبِيَةِ لِلْعِلْمِ فَإِنَّهُ يُرَبِّي الْمُسْتَجِيبَ بِالْعِلْمِ وَيَدْعُوهُ إِلَيْهِ، فَلَمَّا أَفَلَ فَنِيَ مَا عِنْدَ الْمَأْذُونِ مِنَ الْعِلْمِ رَغِبَ عَنْهُ وَلَزِمَ اللَّاحِقَ فَلَمَّا فَنِيَ مَا عِنْدَهُ رَغِبَ عَنْهُ وَتَوَجَّهَ إِلَى التَّالِي وَهُوَ الصَّامِتُ الَّذِي يَقْبَلُ الْعِلْمَ مِنَ الرَّسُولِ الَّذِي يُسَمَّى النَّاطِقَ لِأَنَّهُ يُنْطِقُ بِجَمِيعِ مَا يَنْطِقُ بِهِ الرَّسُولُ فَلَمَّا فَنِيَ مَا عِنْدَهُ ارْتَقَى إِلَى النَّاطِقِ وَهُوَ الرَّسُولُ وَهُوَ الْمُصَوِّرُ لِلشَّرَائِعِ عِنْدَهُمْ انْتَهَى هَذَا التَّخْلِيطُ، وَاللُّغْزُ الَّذِي لَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَةُ بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الدَّلَالَاتِ وَالتَّفْسِيرِ أَنَّ قَبْلَ هَذَا شَبِيهَانِ بِهَذَا التَّفْسِيرِ الْمُسْتَحِيلِ وَلِلْمَنْسُوبَيْنِ إِلَى الصُّوفِ فِي تَفْسِيرِ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْوَاعٌ مِنْ هَذِهِ التَّفَاسِيرِ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: لَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ أَحَاطَ بِهِ سُجُوفُ الطَّلَبِ وَلَمْ يَتَجَلَّ لَهُ بَعْدُ صَبَاحُ الْوُجُودِ فَطَلَعَ لَهُ نَجْمُ الْعُقُولِ فَشَاهَدَ الْحَقَّ بِسِرِّهِ بِنُورِ الْبُرْهَانِ فَقَالَ: هَذَا رَبِّي ثُمَّ زِيدَ فِي ضِيَائِهِ فَطَلَعَ قَمَرُ الْعِلْمِ وَطَالَعَهُ بِسِرِّ الْبَيَانِ، فَقَالَ: هَذَا رَبِّي ثُمَّ أَسْفَرَ الصُّبْحُ وَمُتِعَ النَّهَارُ وَطَلَعَتْ شَمْسُ الْعِرْفَانِ مِنْ بُرْجِ شَرَفِهَا فَلَمْ يَبْقَ لِلطَّلَبِ مَكَانٌ وَلَا لِلتَّجْوِيزِ حُكْمٌ وَلَا لِلتُّهْمَةِ قَرَارٌ، فَقَالَ: إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِذْ لَيْسَ بَعْدَ الْبَعْثِ رَيْبٌ وَلَا بَعْدَ الظُّهُورِ سِتْرٌ انْتَهَى، وَالْعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبِ مِنْ قَوْمٍ يَزْعُمُونَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمَنْسُوبِينَ إِلَى الصُّوفِ هُمْ خَوَاصُّ اللَّهِ تَعَالَى وَكَلَامُهُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى هَذَا الْكَلَامُ.
إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً أَيْ أَقْبَلْتُ بِقَصْدِي وَعِبَادَتِي وَتَوْحِيدِي وَإِيمَانِي وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَعُمُّهُ الْمَعْنَى الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِوَجْهِي لِلَّذِي ابْتَدَعَ الْعَالَمَ مَحِلَّ هَذِهِ النَّيِّرَاتِ الْمُحْدَثَاتِ وَغَيْرِهَا، وَاكْتَفَى بِالظَّرْفِ عَنِ الْمَظْرُوفِ لِعُمُومِهِ إِذْ هَذِهِ النيرات مظروف السموات وَلَمَّا كَانَتِ الْأَصْنَامُ الَّتِي يعبدها قومه النيرات ومن خَشَبٍ وَحِجَارَةٍ وَذَكَرَ ظَرْفَ النَّيِّرَاتِ عَطَفَ عَلَيْهِ الْأَرْضَ الَّتِي هِيَ ظَرْفُ الْخَشَبِ والحجارة، وحَنِيفاً مَائِلًا عَنْ كُلِّ دِينٍ إِلَى دِينِ الْحَقِّ وَهُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ تَعَالَى مُسْلِمًا أَيْ مُنْقَادًا إِلَيْهِ مُسْتَسْلِمًا لَهُ.
وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَلَمَّا أَنْكَرَ عَلَى أَبِيهِ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ وَضَلَّلَهُ وَقَوْمَهُ، ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى ضَلَالِهِمْ بِقَضَايَا الْعُقُولِ إِذْ لَا يُذْعِنُونَ لِلدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ لِتَوَقُّفِهِ فِي الثُّبُوتِ عَلَى مُقَدَّمَاتٍ كَثِيرَةٍ وَأَبْدَى تِلْكَ الْقَضَايَا مَنُوطَةً بِالْحِسِّ الصَّادِقِ تَبَرَّأَ مِنْ عِبَادَتِهِمْ وَأَكَّدَ ذلك بأن ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ وَجَّهَ عِبَادَتَهُ لِمُبْدِعِ الْعَالَمِ الَّتِي هَذِهِ النَّيِّرَاتُ الْمُسْتَدَلُّ بِهَا، بَعْضُهُ ثُمَّ نَفَى عَنْ نَفْسِهِ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مُبَالَغَةً فِي التَّبَرُّؤِ مِنْهُمْ.
568
وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ الْمُحَاجَّةُ مُفَاعَلَةٌ مِنِ اثْنَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فِي حُكْمَيْنِ يُدْلِي كُلٌّ مِنْهُمَا بِحُجَّتِهِ عَلَى صِحَّةِ دَعْوَاهُ، وَالْمَعْنَى وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ وَنَفْيِ الشُّرَكَاءِ عَنْهُ مُنْكِرِينَ لِذَلِكَ وَمُحَاجَّةُ مِثْلِ هَؤُلَاءِ إِنَّمَا هِيَ بِالتَّمَسُّكِ بِاقْتِفَاءِ آبَائِهِمْ تَقْلِيدًا وَبِالتَّخْوِيفِ مِنْ مَا يَعْبُدُونَهُ مِنَ الْأَصْنَامِ كَقَوْلِ: قَوْمِ هُودٍ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ «١» فَأَجَابَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ هَدَاهُ بِالْبُرْهَانِ الْقَاطِعِ عَلَى تَوْحِيدِهِ وَرَفْضِ مَا سِوَاهُ وَأَنَّهُ لَا يَخَافُ مِنْ آلِهَتِهِمْ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ بِخِلَافٍ عَنْ هِشَامٍ أَتُحاجُّونِّي بِتَخْفِيفِ النُّونِ وَأَصْلُهُ بِنُونَيْنِ الْأُولَى عَلَامَةُ الرَّفْعِ وَالثَّانِيَةُ نُونُ الْوِقَايَةِ وَالْخِلَافُ فِي الْمَحْذُوفِ مِنْهُمَا مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ، وَقَدْ لَحَّنَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ مَنْ قَرَأَ بِالتَّخْفِيفِ وَأَخْطَأَ فِي ذَلِكَ، وَقَالَ مَكِّيٌّ:
الْحَذْفُ بَعِيدٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ قَبِيحٌ مَكْرُوهٌ وَإِنَّمَا يَجُوزُ فِي الشِّعْرِ لِلْوَزْنِ وَالْقُرْآنُ لَا يُحْتَمَلُ ذَلِكَ فِيهِ إِذْ لَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إِلَيْهِ وَقَوْلُ مَكِّيٍّ لَيْسَ بِالْمُرْتَضَى، وَقِيلَ: التَّخْفِيفُ لُغَةٌ لِغَطَفَانَ، وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِتَشْدِيدِ النُّونِ أَصْلُهُ أَتُحَاجُّونَنِي فَأُدْغِمَ هُرُوبًا مِنَ اسْتِثْقَالِ الْمِثْلَيْنِ مُتَحَرِّكَيْنِ فَخُفِّفَ بِالْإِدْغَامِ وَلَمْ يُقْرَأْ هُنَاكَ بِالْفَكِّ وَإِنْ كَانَ هُوَ الْأَصْلَ وَيَجُوزُ فِي الْكَلَامِ، وفِي اللَّهِ متعلق بأتحاجوني لَا بِقَوْلِهِ وَحاجَّهُ قَوْمُهُ وَالْمَسْأَلَةُ مِنْ بَابِ الْإِعْمَالِ إِعْمَالِ الثَّانِي فَلَوْ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِالْأَوَّلِ لَأُضْمِرَ فِي الثاني ونظير يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ «٢» وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ وَقَدْ هَدانِ حَالِيَّةٌ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ أَنْ تَقَعَ مِنْهُمْ مُحَاجَّةٌ لَهُ وَقَدْ حَصَلَتْ مِنَ اللَّهِ لَهُ الْهِدَايَةُ لِتَوْحِيدِهِ فَمُحَاجَّتُهُمْ لَا تُجْدِي لِأَنَّهَا دَاحِضَةٌ.
وَلا أَخافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً
حُكِيَ أَنَّ الْكُفَّارَ قَالُوا لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَمَا خِفْتَ أَنْ تُصِيبَكَ آلِهَتُنَا بِبَرَصٍ أَوْ دَاءٍ لِإِذَايَتِكَ لَهَا وَتَنْقِيصِكَ فَقَالَ لَهُمْ:
لَسْتُ أَخَافُ الَّذِي تُشْرِكُونَ بِهِ لِأَنَّهُ لَا قُدْرَةَ لَهُ وَلَا غِنَى عنده
وما بِمَعْنَى الَّذِي وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ عَائِدٌ عَلَيْهِ أَيِ الَّذِي تُشْرِكُونَ بِهِ اللَّهَ تَعَالَى، وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ عَلَى اللَّهِ أَيْ الذين تُشْرِكُونَهُ بِاللَّهِ فِي الرُّبُوبِيَّةِ وإِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ اسْتِثْنَاءٌ لَيْسَ مِنَ الْأَوَّلِ وَلَمَّا كَانَتْ قُوَّةُ الْكَلَامِ أَنَّهُ لَا يَخَافُ ضَرًّا اسْتَثْنَى مَشِيئَةَ رَبِّهِ تَعَالَى فِي أَنْ يريد بِضَرٍّ انْتَهَى، فَيَكُونُ اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا وَبِهِ قَالَ الْحَوْفِيُّ فَيَصِيرُ الْمَعْنَى لَكِنَّ مَشِيئَةَ اللَّهِ إِيَّايَ بِضَرٍّ أَخَافُ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي إِلَّا وَقْتَ مَشِيئَةِ رَبِّي شَيْئًا يُخَافُ فَحُذِفَ الْوَقْتُ يَعْنِي لَا أَخَافُ مَعْبُودَاتِكُمْ فِي وَقْتٍ قَطُّ لِأَنَّهَا لَا تَقْدِرُ عَلَى مَنْفَعَةٍ وَلَا عَلَى مَضَرَّةٍ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي أَنْ يُصِيبَنِي بِمَخُوفٍ مِنْ جِهَتِهَا إِنْ أَصَبْتُ ذَنْبًا أَسْتَوْجِبُ بِهِ إِنْزَالَ الْمَكْرُوهِ مِثْلَ أَنْ يَرْجُمَنِي بِكَوْكَبٍ أَوْ بِشِقَّةٍ مِنَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، أَوْ يَجْعَلَهَا قادرة على
(١) هود: ١١/ ٥٤.
(٢) النساء: ٤/ ١٧٦.
569
مَضَرَّتِي انْتَهَى، فَيَكُونُ اسْتِثْنَاءً مُتَّصِلًا مِنْ عُمُومِ الْأَزْمَانِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ النَّفْيُ وَجَوَّزَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا وَمُنْقَطِعًا إِلَّا أَنَّهُ جَعَلَهُ مُتَّصِلًا مُسْتَثْنًى مِنَ الْأَحْوَالِ وَقَدَّرَهُ إِلَّا فِي حَالِ مَشِيئَةِ رَبِّي أَيْ لَا أَخَافُهَا فِي كُلِّ حَالٍ إِلَّا فِي هَذِهِ الْحَالِ، وَانْتَصَبَ شَيْئًا عَلَى الْمَصْدَرِ أَيْ مَشِيئَةً أَوْ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ.
وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً ذَكَرَ عَقِيبَ الِاسْتِثْنَاءِ سَعَةَ عِلْمِ اللَّهِ فِي تَعَلُّقِهِ بِجَمِيعِ الْكَوَائِنِ فَقَدْ لَا يُسْتَبْعَدُ أَنْ يَتَعَلَّقَ عِلْمُهُ بِإِنْزَالِ الْمَخُوفِ بِي إِمَّا مِنْ جِهَتِهَا إِنْ كَانَ اسْتِثْنَاءً مُتَّصِلًا أَوْ مُطْلَقًا إِنْ كَانَ مُنْقَطِعًا وَانْتَصَبَ عِلْمًا عَلَى التَّمْيِيزِ الْمُحَوَّلِ مِنَ الْفَاعِلِ، أَصْلُهُ وَسِعَ عِلْمُ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ.
أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ تَنْبِيهٌ لَهُمْ عَلَى غَفْلَتِهِمْ حَيْثُ عَبَدُوا مَا لَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ، وَأَشْرَكُوا بِاللَّهِ وَعَلَى مَا حَاجَّهُمْ بِهِ مِنْ إِظْهَارِ الدَّلَائِلِ الَّتِي أَقَامَهَا عَلَى عَدَمِ صَلَاحِيَةِ هَذِهِ الْأَصْنَامِ لِلرُّبُوبِيَّةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ فَتُمَيِّزُوا بَيْنَ الصَّحِيحِ وَالْفَاسِدِ وَالْقَادِرِ وَالْعَاجِزِ، وَقِيلَ: أَفَلَا تَتَّعِظُونَ بِمَا أَقُولُ لَكُمْ، وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ أَنَّ نَفْيَ الشُّرَكَاءِ وَالْأَضْدَادِ وَالْأَنْدَادِ عَنِ اللَّهِ لَا يُوجِبُ حُلُولَ الْعَذَابِ وَنُزُولَ الْعِقَابِ.
وَكَيْفَ أَخافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ التَّعَجُّبُ وَالْإِنْكَارُ كَأَنَّهُ تَعَجَّبَ مِنْ فَسَادِ عُقُولِهِمْ حَيْثُ خَوَّفُوهُ خَشَبًا وَحِجَارَةً لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَهُمْ لَا يَخَافُونَ عُقْبَى شِرْكِهِمْ بِاللَّهِ وَهُوَ الَّذِي بِيَدِهِ النَّفْعُ وَالضُّرُّ وَالْأَمْرُ كُلُّهُ وَلا تَخافُونَ مَعْطُوفٌ عَلَى أَخافُ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي التَّعَجُّبِ وَالْإِنْكَارِ وَاخْتَلَفَ مُتَعَلِّقُ الْخَوْفِ فَبِالنِّسْبَةِ إِلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَّقَ الْخَوْفَ بِالْأَصْنَامِ وَبِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ عَلَّقَهُ بِإِشْرَاكِهِمْ بِاللَّهِ تَعَالَى تَرْكًا لِلْمُقَابَلَةِ، وَلِئَلَّا يَكُونَ اللَّهُ عَدِيلَ أَصْنَامِهِمْ لَوْ كَانَ التَّرْكِيبُ وَلَا تَخَافُونَ اللَّهَ تَعَالَى وَأَتَى بِلَفْظِ مَا الْمَوْضُوعَةِ لِمَا لَا يَعْقِلُ لِأَنَّ الْأَصْنَامَ لَا تَعْقِلُ إِذْ هِيَ حِجَارَةٌ وَخَشَبٌ وَكَوَاكِبُ، وَالسُّلْطَانُ الْحَجَّةُ وَالْإِشْرَاكُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ حُجَّةً وَكَأَنَّهُ لَمَّا أَقَامَ الدَّلِيلَ الْعَقْلِيَّ عَلَى بُطْلَانِ الشُّرَكَاءِ وَرُبُوبِيَّتِهِمْ، نَفَى أَيْضًا أَنْ يَكُونَ عَلَى ذَلِكَ دَلِيلٌ سَمْعِيٌّ فَالْمَعْنَى أَنَّ ذَلِكَ مُمْتَنِعٌ عَقْلًا وَسَمْعًا فَوَجَبَ اطِّرَاحُهُ، وَقُرِئَ سُلْطاناً بِضَمِّ اللَّامِ وَالْخِلَافُ هَلْ ذَلِكَ لُغَةٌ فَيَثْبُتُ بِهِ بِنَاءُ فُعُلَانٍ بِضَمِّ الْفَاءِ وَالْعَيْنِ أَوْ هُوَ اتِّبَاعٌ فَلَا يَثْبُتُ بِهِ.
فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ لَمَّا خَوَّفُوهُ فِي مَكَانِ الْأَمْنِ وَلَمْ يَخَافُوا
570
فِي مَكَانِ الْخَوْفِ أُبْرِزَ الِاسْتِفْهَامُ فِي صُورَةِ الِاحْتِمَالِ وَإِنْ كَانَ قَدْ عَلِمَ قَطْعًا أَنَّهُ هُوَ الْآمِنُ لَا هُمْ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
فَلَئِنْ لَقِيتُكَ خَالِيَيْنِ لتعلمن أبي وَأَيُّكَ فَارِسُ الْأَحْزَابِ
أَيْ أَيَّنَا وَمَعْلُومٌ عِنْدَهُ أَنَّهُ هُوَ فَارِسُ الْأَحْزَابِ لَا الْمُخَاطَبُ وَأَضَافَ أَيًّا إِلَى الْفَرِيقَيْنِ، وَيَعْنِي فَرِيقَ الْمُشْرِكِينَ وَفَرِيقَ الْمُوَحِّدِينَ وَعَدَلَ عَنْ أَيُّنَا أَحَقُّ بِالْأَمْنِ أَنَا أَمْ أَنْتُمْ احْتِرَازًا مِنْ تَجْرِيدِ نَفْسِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ تَزْكِيَةً لَهَا، وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ أَيْ إِنْ كُنْتُمْ مِنْ ذَوِي الْعِلْمِ وَالِاسْتِبْصَارِ فَأَخْبِرُونِي أَيُّ هَذَيْنِ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ.
الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ الظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا اسْتَفْهَمَهُمُ اسْتِفْهَامَ عَالِمٍ بِمَنْ هُوَ الْآمِنُ وَأَبْرَزَهُ فِي صُورَةِ السَّائِلِ الَّذِي لَا يَعْلَمُ اسْتَأْنَفَ الْجَوَابَ عَنِ السُّؤَالِ، وَصَرَّحَ بِذَلِكَ الْمُحْتَمَلِ فَقَالَ: الْفَرِيقُ الَّذِي هُوَ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ هُمُ الَّذِينَ آمَنُوا، وَقِيلَ: هُوَ مِنْ كَلَامِ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ أَجَابُوا بِمَا هُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ، وَقِيلَ:
هُوَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ أَمَرَ إِبْرَاهِيمَ أَنْ يَقُولَهُ لِقَوْمِهِ أَوْ قَالَهُ عَلَى جِهَةِ فَصْلِ الْقَضَاءِ بَيْنَ خَلْقِهِ وَبَيْنَ مَنْ حَاجَّهُ قَوْمُهُ، وَاللَّبْسُ الْخَلْطُ والَّذِينَ آمَنُوا: إِبْرَاهِيمُ وَأَصْحَابُهُ وَلَيْسَتْ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ قَالَهُ عَلِيٌّ وَعَنْهُ إِبْرَاهِيمُ خَاصَّةً أَوْ مَنْ هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ، قَالَهُ عِكْرِمَةُ أَوْ عَامَّةٌ قَالَهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَالظُّلْمُ هُنَا الشِّرْكُ قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأُبَيٌّ،
وَعَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ أَشْفَقَ الصَّحَابَةُ وَقَالُوا: أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا ذَلِكَ كَمَا قَالَ لُقْمَانُ:
إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ»

«١» وَلَمَّا قَرَأَهَا عُمَرُ عَظُمَتْ عَلَيْهِ فَسَأَلَ أُبَيًّا فَقَالَ: إِنَّهُ الشِّرْكُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَسُرِّيَ عَنْهُ وَجَرَى لِزَيْدِ بْنِ صُوحَانَ مَعَ سَلْمَانَ نَحْوٌ مِمَّا جَرَى لِعُمَرَ مَعَ أُبَيٍّ، وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ: وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِشِرْكٍ وَلَعَلَّ ذَلِكَ تَفْسِيرُ مَعْنًى إِذْ هِيَ قِرَاءَةٌ تُخَالِفَ السَّوَادَ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْ لَمْ يَخْلِطُوا إِيمَانَهُمْ بِمَعْصِيَةٍ تُفَسِّقُهُمْ وَأَبَى تَفْسِيرَ الظُّلْمِ بِالْكُفْرِ لَفْظُ اللَّبْسِ انْتَهَى، وَهَذِهِ دَفِينَةُ اعْتِزَالٍ أَيْ إِنَّ الْفَاسِقَ، لَيْسَ لَهُ الْأَمْنُ إِذَا مَاتَ مُصِرًّا عَلَى الْكَبِيرَةِ، وَقَوْلُهُ: وَأَبَى تَفْسِيرَ الظُّلْمِ بِالْكُفْرِ لَفْظُ اللَّبْسِ هَذَا رَدٌّ عَلَى مَنْ فَسَّرَ الظُّلْمَ بِالْكُفْرِ، وَالشِّرْكِ وَهُمُ الْجُمْهُورُ وَقَدْ فَسَّرَهُ الرسول صلى الله عليه وَسَلَّمَ بِالشِّرْكِ فَوَجَبَ قَبُولُهُ وَلَعَلَّ الزَّمَخْشَرِيَّ لَمْ يَصِحَّ لَهُ ذَلِكَ عَنِ الرَّسُولِ، وَإِنَّمَا جَعَلَهُ يَأْبَاهُ لَفْظُ اللَّبْسِ لِأَنَّ اللَّبْسَ هُوَ الْخَلْطُ فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الشَّخْصُ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ مُؤْمِنًا عَاصِيًا مَعْصِيَةً تُفَسِّقُهُ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مؤمنا مشركا
(١) لقمان: ٣١/ ١٣.
571
في وقت واحد وَلَمْ يَلْبِسُوا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى الصِّلَةِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَالًا دَخَلَتْ وَاوُ الْحَالِ عَلَى الْجُمْلَةِ الْمَنْفِيَّةِ بِلَمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ «١» وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ عُصْفُورٍ مِنْ أَنَّ وُقُوعَ الْجُمْلَةِ المنفية بلم قَلِيلٌ جِدًّا وَابْنُ خَرُوفٍ مِنْ وُجُوبِ الْوَاوِ فِيهَا وَإِنْ كَانَ فِيهَا ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى ذِي الْحَالِ خَطَأٌ بَلْ ذَلِكَ قَلِيلٌ وَبِغَيْرِ الْوَاوِ كَثِيرٌ عَلَى ذَلِكَ لِسَانُ الْعَرَبِ، وَكَلَامُ اللَّهِ، وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ: وَلَمْ يَلْبِسُوا بِضَمِّ الْيَاءِ وَيَجُوزُ فِي الَّذِينَ أَنْ يَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ وَأَنْ يَكُونَ خَبَرُهُ الْمُبْتَدَأَ وَالْخَبَرُ الَّذِي هُوَ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَأَبْعَدَ مَنْ جَعَلَ لَهُمُ الْأَمْنُ خَبَرَ الَّذِينَ وَجَعَلَ أُولئِكَ فَاصِلَةً وَهُوَ النَّحَّاسُ وَالْحَوْفِيُّ.
وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ الإشارة بتلك إِلَى مَا وَقَعَ بِهِ الِاحْتِجَاجُ مِنْ قَوْلِهِ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ إِلَى قَوْلِهِ وَهُمْ مُهْتَدُونَ وَهَذَا الظَّاهِرُ، وَأَضَافَهَا إِلَيْهِ تَعَالَى عَلَى سَبِيلِ التَّشْرِيفِ وَكَانَ المضاف إليه بنون العظمة لإيتاء المتكلم وآتَيْناها أَيْ أَحْضَرْنَاهَا بِبَالِهِ وَخَلَقْنَاهَا فِي نَفْسِهِ إِذْ هِيَ مِنَ الْحُجَجِ الْعَقْلِيَّةِ، أَوْ آتَيْناها بِوَحْيٍ مِنَّا وَلَقَّنَّاهُ إِيَّاهَا وَإِنْ أُعْرِبَتْ وَتِلْكَ مبتدأ وحُجَّتُنا بدلا وآتَيْناها خبر لِتِلْكَ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يتعلق عَلى قَوْمِهِ بحجتنا وَكَذَا إِنْ أُعْرِبَتْ وَتِلْكَ حُجَّتُنا مبتدأ وخبر وآتَيْناها حال الْعَامِلُ فِيهَا اسْمُ الْإِشَارَةِ لِأَنَّ الْحُجَّةَ لَيْسَتْ مَصْدَرًا وَإِنَّمَا هُوَ الْكَلَامُ الْمُؤَلَّفُ لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَى الشَّيْءِ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَصْدَرًا مَجَازًا لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ أَيْضًا لِأَنَّهُ لَا يُفْصَلُ بِالْخَبَرِ وَلَا بِمِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ بَيْنَ الْمَصْدَرِ وَمَطْلُوبِهِ، وَأَجَازَ الْحَوْفِيُّ أَنْ يَكُونَ آتَيْناها فِي مَوْضِعِ النَّعْتِ لِحُجَّتِنَا وَالنِّيَّةُ فِيهَا الِانْفِصَالُ وَالتَّقْدِيرُ: وَتِلْكَ حُجَّةٌ لَنَا آتَيْنَاهَا انْتَهَى، وَهَذَا بَعِيدٌ جِدًّا. وَقَالَ الحوفي: وهاء مفعول أول وإبراهيم مَفْعُولٌ ثَانٍ وَهَذَا قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ مَذْهَبُ السُّهَيْلِيِّ: وَأَمَّا مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ فَالْهَاءُ مفعول ثان وابراهيم مَفْعُولٌ أَوَّلُ، وَقَالَ الْحَوْفِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ عَلى قَوْمِهِ مُتَعَلِّقٌ بِ آتَيْناها. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَظْهَرْنَاهَا لِإِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ، وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ حُجَّةً عَلَى قَوْمِهِ وَدَلِيلًا، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: آتَيْناها إِبْراهِيمَ أَرْشَدْنَاهُ إِلَيْهَا وَوَفَّقْنَاهُ لَهَا وَهَذَا تَفْسِيرُ مَعْنًى، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ وَحَذْفِ مُضَافٍ أَيْ آتَيْناها إِبْراهِيمَ مُسْتَعْلِيَةً عَلَى حُجَجِ قَوْمِهِ قَاهِرَةً لَهَا.
نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ أَيْ مَرَاتِبَ وَمَنْزِلَةَ مَنْ نَشَاءُ وَأَصْلُ الدَّرَجَاتِ فِي الْمَكَانِ وَرَفْعُهَا بِالْمَعْرِفَةِ أَوْ بِالرِّسَالَةِ أَوْ بِحُسْنِ الْخُلُقِ أَوْ بِخُلُوصِ الْعَمَلِ فِي الْآخِرَةِ أَوْ بِالنُّبُوَّةِ وَالْحِكْمَةِ فِي الدُّنْيَا أَوْ بِالثَّوَابِ وَالْجَنَّةِ فِي الْآخِرَةِ، أَوْ بِالْحُجَّةِ والبيان، أقوال أقر بها الأخير
(١) آل عمران: ٣/ ٤٧.
572
لِسِيَاقِ الْآيَةِ وَنَوَّنَ دَرَجَاتٍ الْكُوفِيُّونَ وَأَضَافَهَا الْبَاقُونَ وَنَصَبُوا الْمُنَوَّنَ عَلَى الظَّرْفِ أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ، وَيَحْتَاجُ هَذَا الْقَوْلُ إِلَى تَضْمِينِ نَرْفَعُ مَعْنَى مَا يُعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ أَيْ نُعْطِي مَنْ نَشَاءُ دَرَجَاتٍ.
إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ أَيْ حَكِيمٌ فِي تَدْبِيرِ عِبَادِهِ عَلِيمٌ بِأَفْعَالِهِمْ أَوْ حَكِيمٌ فِي تَقْسِيمِ عِبَادِهِ إِلَى عَابِدِ صَنَمٍ وَعَابِدِ اللَّهِ عَلِيمٌ بِمَا يَصْدُرُ بَيْنَهُمْ مِنَ الِاحْتِجَاجِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ في إِنَّ رَبَّكَ لِلرَّسُولِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ إِبْرَاهِيمَ فَيَكُونُ مِنْ بَابِ الِالْتِفَاتِ وَالْخُرُوجِ مِنْ ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ إِلَى ضَمِيرِ الْخِطَابِ عَلَى سَبِيلِ التَّشْرِيفِ بِالْخِطَابِ.
وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ إِسْحاقَ ابْنُهُ لِصُلْبِهِ مِنْ سارة يَعْقُوبَ ابْنُ إِسْحَاقَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ «١»، وَعَدَّدَ تَعَالَى نِعَمَهُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ فَذَكَرَ إِيتَاءَهُ الْحُجَّةَ عَلَى قَوْمِهِ، وَأَشَارَ إِلَى رَفْعِ دَرَجَاتِهِ وَذَكَرَ مَا مَنَّ بِهِ عَلَيْهِ مِنْ هِبَتِهِ لَهُ هَذَا النَّبِيَّ الَّذِي تَفَرَّعَتْ مِنْهُ أَنْبِيَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَمِنْ أَعْظَمِ الْمِنَنِ أَنْ يَكُونَ مِنْ نَسْلِ الرَّجُلِ الْأَنْبِيَاءُ وَالرُّسُلُ وَلَمْ يَذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ مَعَ إِسْحَاقَ. قِيلَ: لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالذِّكْرِ هُنَا أَنْبِيَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَهُمْ بِأَسْرِهِمْ أَوْلَادُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَلَمْ يَخْرُجْ من صُلْبِ إِسْمَاعِيلَ نَبِيٌّ إِلَّا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ وَلَمْ يَذْكُرْهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَحْتَجَّ عَلَى الْعَرَبِ فِي نَفْيِ الشِّرْكِ بِاللَّهِ بِأَنَّ جَدَّهُمْ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا كَانَ مُوَحِّدًا لِلَّهِ مُتَبَرِّئًا مِنَ الشِّرْكِ رَزَقَهُ اللَّهُ أَوَّلًا مُلُوكًا وَأَنْبِيَاءَ، وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: وَوَهَبْنا مَعْطُوفَةٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَتِلْكَ حُجَّتُنا عَطْفَ فِعْلِيَّةٍ عَلَى اسْمِيَّةٍ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَوَهَبْنا عَطْفٌ عَلَى آتَيْناها انْتَهَى. وَلَا يَصِحُّ هَذَا لِأَنَّ آتَيْناها لَهَا مَوْضِعٌ مِنَ الْإِعْرَابِ إِمَّا خَبَرٌ. وَإِمَّا حَالٌ وَلَا يَصِحُّ فِي وَوَهَبْنا شَيْءٌ مِنْهُمَا.
كُلًّا هَدَيْنا أَيْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ هَدَيْنَا.
وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ لَمَّا ذَكَرَ شَرَفَ أَبْنَاءِ إِبْرَاهِيمَ ذَكَرَ شَرَفَ آبَائِهِ فَذَكَرَ نُوحًا الَّذِي هُوَ آدَمُ الثَّانِي وقال: مِنْ قَبْلُ تشبيها عَلَى قِدَمِهِ وَفِي ذِكْرِهِ لَطِيفَةٌ وَهِيَ أَنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ عُبِدَتِ الْأَصْنَامُ فِي زَمَانِهِ، وَقَوْمُهُ أَوَّلُ قَوْمٍ عَبَدُوا الْأَصْنَامَ وَوَحَّدَ هُوَ اللَّهَ تَعَالَى وَدَعَا إِلَى عِبَادَتِهِ وَرَفَضَ تِلْكَ الْأَصْنَامَ وَحَكَى اللَّهُ عَنْهُ مُنَاجَاتَهُ لِرَبِّهِ فِي قَوْمِهِ حيث قالوا:
(١) هود: ١١/ ٧١.
573
لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً «١» وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ عُبِدَتِ الْأَصْنَامُ فِي زَمَانِهِ وَوَحَّدَ هُوَ اللَّهَ تَعَالَى وَدَعَا إِلَى رَفْضِهَا فَذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى نُوحًا وَأَنَّهُ هَدَاهُ كَمَا هَدَى إِبْرَاهِيمَ.
وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ قِيلَ: وَمِنْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ عَادَ الضَّمِيرُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ مَذْكُورٍ وَلِأَنَّ فِي جُمْلَتِهِمْ لُوطًا وَهُوَ ابْنُ أَخِي إِبْرَاهِيمَ فَهُوَ مِنْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ لَا مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَقِيلَ:
وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَادَ الضَّمِيرُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ بِالذِّكْرِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءُ كُلُّهُمْ مُضَافُونَ إِلَى ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ لَا يَلْحَقُهُ بِوِلَادَةٍ مِنْ قِبَلِ أُمٍّ وَلَا أَبٍ، لِأَنَّ لُوطًا ابْنُ أَخِي إِبْرَاهِيمَ وَالْعَرَبُ تَجْعَلُ الْعَمَّ أَبًا، وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ: وَوَهَبْنَا لَهُ لُوطًا فِي الْمُعَاضَدَةِ وَالنُّصْرَةِ انْتَهَى. قَالُوا: وَالْمَعْنَى وَهَدَيْنَا أَوْ وَوَهَبْنَا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَقَرَنَهُمَا لِأَنَّهُمَا أَبٌ وَابْنٌ وَلِأَنَّهُمَا مَلِكَانِ نَبِيَّانِ وَقَدَّمَ دَاوُدَ لِتُقَدُّمِهِ فِي الزَّمَانِ وَلِكَوْنِهِ صَاحِبَ كِتَابٍ وَلِكَوْنِهِ أَصْلًا لِسُلَيْمَانَ وَهُوَ فَرْعُهُ.
وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ قَرَنَهُمَا لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الِامْتِحَانِ أَيُّوبُ بِالْبَلَاءِ فِي جَسَدِهِ وَنَبْذِ قَوْمِهِ لَهُ وَيُوسُفُ بِالْبَلَاءِ بِالسِّجْنِ وَلِغُرْبَتِهِ عَنْ أَهْلِهِ، وَفِي مَآلِهِمَا بِالسَّلَامَةِ وَالْعَافِيَةِ، وَقَدَّمَ أَيُّوبَ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ فِي الِامْتِحَانِ.
وَمُوسى وَهارُونَ قرونهما لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْأُخُوَّةِ وَقَدَّمَ مُوسَى لِأَنَّهُ كَلِيمُ اللَّهِ.
وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أَيْ مِثْلَ ذَلِكَ الْجَزَاءِ مِنْ إِيتَاءِ الْحُجَّةِ وَهِبَةِ الْأَوْلَادِ الْخَيِّرِينَ نَجْزِي مَنْ كَانَ مُحْسِنًا فِي عِبَادَتِنَا مُرَاقِبًا فِي أَعْمَالِهِ لَنَا.
وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ قَرَنَ بَيْنَهُمْ لِاشْتِرَاكِهِمْ فِي الزُّهْدِ الشَّدِيدِ وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الدُّنْيَا وَبَدَأَ بِزَكَرِيَّا وَيَحْيَى لِسَبْقِهِمَا عِيسَى فِي الزَّمَانِ وَقَدَّمَ زَكَرِيَّا لِأَنَّهُ وَالِدُ يَحْيَى فَهُوَ أَصْلٌ، وَيَحْيَى فَرْعٌ وَقَرَنَ عِيسَى وَإِلْيَاسَ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي كَوْنِهِمَا لَمْ يَمُوتَا بَعْدُ وَقَدَّمَ عِيسَى لِأَنَّهُ صَاحِبُ كِتَابٍ وَدَائِرَةٍ مُتَّسِعَةٍ، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ أَنْسَابِ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا إِلْيَاسَ وَهُوَ إِلْيَاسُ بْنُ بَشِيرِ بْنِ فِنْحَاصِ بْنِ الْعَيْزَارِ بْنِ هَارُونَ بْنِ عِمْرَانَ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ إِدْرِيسَ هُوَ إِلْيَاسُ وَرُدَّ ذَلِكَ بِأَنَّ إِدْرِيسَ هُوَ جَدُّ نُوحٍ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ تَظَافَرَتْ بِذَلِكَ الرِّوَايَاتُ، وَقِيلَ: إِلْيَاسُ هُوَ الْخَضِرُ وَتَقَدَّمَ خِلَافُ الْقُرَّاءِ فِي زَكَرِيَّا مَدًّا وَقَصْرًا، وَقَرَأَ ابْنُ عباس باختلاف منه وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ بِتَسْهِيلِ هَمْزَةِ إِلْيَاسَ وَفِي ذِكْرِ عِيسَى هُنَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ ابن
(١) سورة نوح: ٧١/ ٣٢.
574
الْبِنْتِ دَاخِلٌ فِي الذُّرِّيَّةِ وَبِهَذِهِ الْآيَةِ اسْتُدِلَّ عَلَى دُخُولِهِ فِي الْوَقْفِ عَلَى الذُّرِّيَّةِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الضَّمِيرُ فِي وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ عَائِدًا عَلَى نُوحٍ أَوْ عَلَى إِبْرَاهِيمَ
فَنَقُولُ: الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ ابْنَا فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ هُمَا مِنْ ذُرِّيَّةِ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِهَذِهِ الْآيَةِ اسْتَدَلَّ أَبُو جَعْفَرٍ الْبَاقِرُ وَيَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ عَلَى ذَلِكَ
، وَكَانَ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ طَلَبَ مِنْهُمَا الدَّلِيلَ عَلَى ذَلِكَ إِذْ كَانَ هُوَ يُنْكِرُ ذَلِكَ فَسَكَتَ فِي قِصَّتَيْنِ جَرَتَا لَهُمَا مَعَهُ.
كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ لَا يَخْتَصُّ كُلٌّ بِهَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ، بَلْ يَعُمُّ جَمِيعَ مَنْ سَبَقَ ذِكْرُهُ مِنَ الْأَرْبَعَةَ عَشَرَ نَبِيًّا.
وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً الْمَشْهُورُ أَنَّ إِسْمَاعِيلَ هُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ مِنْ هَاجَرَ وَهُوَ أَكْبَرُ وَلَدِهِ، وَقِيلَ: هُوَ نَبِيٌّ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ زَمَانَ طَالُوتَ وَهُوَ الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ «١»، وَالْيَسَعُ قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: هُوَ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ، وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ الْيَسَعُ بْنُ أَخُطُوبَ بن الْعَجُوزِ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَالْيَسَعَ كَأَنَّ أَلْ أُدْخِلَتْ عَلَى مُضَارِعِ وَسِعَ، وَقَرَأَ الْأَخَوَانِ وَاللَّيْسَعِ عَلَى وَزْنِ فَيْعَلٍ نَحْوَ الضَّيْغَمِ وَاخْتُلِفَ فِيهِ أَهْوَ عَرَبِيٌّ أَمْ عَجَمِيٌّ، فَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ عَرَبِيٌّ فَقَالَ: هُوَ مُضَارِعٌ سُمِّيَ بِهِ وَلَا ضَمِيرَ فِيهِ فَأُعْرِبَ ثُمَّ نُكِّرَ وَعُرِّفَ بِأَلْ، وَقِيلَ سُمِّيَ بِالْفِعْلِ كَيَزِيدَ ثُمَّ أُدْخِلَتْ فِيهِ أَلْ زَائِدَةً شُذُوذًا كَالْيَزِيدِ فِي قَوْلِهِ:
رَأَيْتُ الْوَلِيدَ بْنَ الْيَزِيدِ مُبَارَكًا وَلَزِمَتْ كَمَا لَزِمَتْ فِي الْآنَ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ أَعْجَمِيٌّ فَقَالَ: زِيدَتْ فِيهِ أَلْ وَلَزِمَتْ شُذُوذًا، وَمِمَّنْ نَصَّ عَلَى زِيَادَةِ أَلْ فِي الْيَسَعِ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الْأَخَوَيْنِ فَزَعَمَ أَبُو عَلِيٍّ أن أل فهي كَهِيَ فِي الْحَارِثِ وَالْعَبَّاسِ، لِأَنَّهُمَا مِنْ أَبْنِيَةِ الصِّفَاتِ لَكِنَّ دُخُولَ أَلْ فِيهِ شُذُوذٌ عَنْ مَا عَلَيْهِ الْأَسْمَاءُ الْأَعْجَمِيَّةُ إِذْ لَمْ يَجِئْ فِيهَا شَيْءٌ عَلَى هَذَا الْوَزْنِ كَمَا لَمْ يَجِئْ فِيهَا شَيْءٌ فِيهِ أَلْ لِلتَّعْرِيفِ، وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مَالِكٍ الْجِيَانِيُّ، مَا قَارَنَتْ أَلْ نَقْلَهُ كَالْمُسَمَّى بِالنَّضْرِ أَوْ بِالنُّعْمَانِ أَوِ ارْتِجَالَهُ كَالْيَسَعِ وَالسَّمَوْأَلِ، فَإِنَّ الْأَغْلَبَ ثُبُوتُ أَلْ فِيهِ وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يُحْذَفَ فَعَلَى هَذَا لَا تَكُونُ أَلْ فِيهِ لَازِمَةً وَاتَّضَحَ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ الْيَسَعَ لَيْسَ مَنْقُولًا مِنْ فَعَلَ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ، وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ قَالَ: يُونُسُ بِضَمِّ النُّونِ وَفَتْحِهَا وَكَسْرِهَا وَكَذَلِكَ يُوسُفُ وَبِفَتْحِ النُّونِ وَسِينِ يُوسُفَ قَرَأَ الْحَسَنُ وَطَلْحَةُ وَيَحْيَى وَالْأَعْمَشُ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ فِي جميع
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢٤٦.
575
الْقُرْآنِ وَإِنَّمَا جُمِعَ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةُ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَبْقَ لَهُمْ مِنْ الْخَلْقِ أَتْبَاعٌ وَلَا أَشْيَاعٌ فَهَذِهِ مَرَاتِبُ سِتٌّ: مَرْتَبَةُ الْمُلْكِ وَالْقُدْرَةِ ذَكَرَ فِيهَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ، وَمَرْتَبَةُ الْبَلَاءِ الشَّدِيدِ، ذَكَرَ فِيهَا أَيُّوبَ، وَمَرْتَبَةُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْبَلَاءِ وَالْوُصُولِ إِلَى الْمُلْكِ ذَكَرَ فِيهَا يُوسُفَ، وَمَرْتَبَةُ قُوَّةِ الْبَرَاهِينِ وَالْمُعْجِزَاتِ وَالْقِتَالِ وَالصَّوْلَةِ ذَكَرَ فِيهَا مُوسَى وَهَارُونَ، وَمَرْتَبَةُ الزُّهْدِ الشَّدِيدِ وَالِانْقِطَاعِ عَنِ النَّاسِ لِلْعِبَادَةِ ذَكَرَ فِيهَا زَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ، وَمَرْتَبَةُ عَدَمِ الْأَتْبَاعِ ذَكَرَ فِيهَا إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا، وَهَذِهِ الْأَسْمَاءُ أَعْجَمِيَّةٌ لَا تُجَرُّ بِالْكَسْرَةِ وَلَا تُنَوَّنُ إِلَّا الْيَسَعَ فَإِنَّهُ يُجَرُّ بِهَا وَلَا يُنَوَّنُ وَإِلَّا لُوطًا فَإِنَّهُ مَصْرُوفٌ لِخِفَّةِ بِنَائِهِ بِسُكُونِ وَسَطِهِ، وَكَوْنِهِ مُذَكَّرًا وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَا فِي إِخْوَتِهِ مِنْ مَانَعِ الصَّرْفِ وَهُوَ الْعَلَمِيَّةُ وَالْعُجْمَةُ الشَّخْصِيَّةُ وَقَدْ تَحَاشَى الْمُسْلِمُونَ هَذَا الِاسْمَ الشَّرِيفَ، فَقَلَّ مَنْ تَسَمَّى بِهِ مِنْهُمْ كَأَبِي مِخْنَفٍ لُوطِ بْنِ يَحْيَى، وَلُوطٌ النَّبِيُّ هُوَ لُوطُ بْنُ هَارُونَ بْنِ آزَرَ وَهُوَ تَارِخُ وَتَقَدَّمَ رَفْعُ نَسَبِهِ.
وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ أَفْضَلُ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ خِلَافًا لِبَعْضِ مَنْ يَنْتَمِي إِلَى الصُّوفِ فِي زَعْمِهِمْ أَنَّ الْوَلِيَّ أَفْضَلُ مِنَ النَّبِيِّ كَمُحَمَّدِ بْنِ الْعَرَبِيِّ الْحَاتِمِيِّ صَاحِبِ كِتَابِ الْفُتُوحِ الْمَكِّيَّةِ وَعَنْقَاءِ مَغْرِبٍ وَغَيْرِهِمَا مِنْ كُتُبِ الضَّلَالِ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ أَفْضَلُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لِعُمُومِ الْعَالَمِينَ وَهُمُ الْمَوْجُودُونَ سِوَى اللَّهِ تَعَالَى فَيَنْدَرِجُ فِي الْعُمُومِ الْمَلَائِكَةُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَعْنَاهُ عَالَمِي زَمَانِهِمْ.
وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ الْمَجْرُورُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ. فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
عَطْفًا عَلَى كُلًّا بِمَعْنَى وَفَضَّلْنَا بَعْضَ آبَائِهِمْ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَدَيْنَا مِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ جَمَاعَاتٍ فَمِنْ لِلتَّبْعِيضِ وَالْمُرَادُ مَنْ آمَنَ نَبِيًّا كَانَ أَوْ غَيْرَ نَبِيٍّ وَيَدْخُلُ عِيسَى فِي ضَمِيرِ قَوْلِهِ: وَمِنْ آبائِهِمْ وَلِهَذَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: الْخَالُ وَالْخَالَةُ انْتَهَى، وَمِنْ آبائِهِمْ كَآدَمَ وَإِدْرِيسُ وَنُوحٌ وَهُودٌ وَصَالِحٌ وَذُرِّيَّاتِهِمْ كَذُرِّيَّةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْمُؤْمِنِينَ وَإِخْوانِهِمْ كَإِخْوَةِ يُوسُفَ ذَكَرَ الْأُصُولَ وَالْفُرُوعَ وَالْحَوَاشِيَ.
وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ الظَّاهِرُ عَطْفُ وَاجْتَبَيْناهُمْ عَلَى فَضَّلْنا أَيِ اصْطَفَيْنَاهُمْ وَكَرَّرَ الْهِدَايَةَ عَلَى سَبِيلِ التَّوْضِيحِ لِلْهِدَايَةِ السَّابِقَةِ، وَأَنَّهَا هِدَايَةٌ إِلَى طَرِيقِ الْحَقِّ الْمُسْتَقِيمِ الْقَوِيمِ الَّذِي لَا عِوَجَ فِيهِ وَهُوَ تَوْحِيدُ اللَّهِ تَعَالَى وَتَنْزِيهُهُ عَنِ الشِّرْكِ.
ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَيْ ذَلِكَ الْهُدَى إِلَى الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ
576
هُوَ هُدَى اللَّهِ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى النِّعْمَةِ فِي قَوْلِهِ وَاجْتَبَيْناهُمْ انْتَهَى، وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْهُدَى بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ أَيْ وَلَوْ أَشْرَكُوا مَعَ فَضْلِهِمْ وَتَقَدُّمِهِمْ وَمَا رُفِعَ لَهُمْ مِنَ الدَّرَجَاتِ لَكَانُوا كَغَيْرِهِمْ فِي حُبُوطِ أَعْمَالِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ «١» وَفِي قَوْلِهِ: وَلَوْ أَشْرَكُوا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْهُدَى السَّابِقَ هُوَ التَّوْحِيدُ وَنَفْيُ الشِّرْكِ.
أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ تَعَالَى فَضَّلَهُمْ وَاجْتَبَاهُمْ وَهَدَاهُمْ ذَكَرَ مَا فُضِّلُوا بِهِ، وَالْكِتَابُ: جِنْسٌ لِلْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ كَصُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَالتَّوْرَاةِ وَالزَّبُورِ وَالْإِنْجِيلِ، وَالْحُكْمَ: الْحِكْمَةُ أَوِ الْحُكْمُ بَيْنَ الْخُصُومِ أَوْ مَا شَرَعُوهُ أَوْ فَهْمُ الْكِتَابَ أَوِ الْفِقْهُ فِي دِينِ اللَّهِ أَقْوَالٌ، وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: آتَيْناهُمُ الْكِتابَ هِيَ رُتْبَةُ الْعِلْمِ يَحْكُمُونَ بِهَا عَلَى بَوَاطِنِ الناس وأرواحهم والْحُكْمَ مَرْتَبَةُ نُفُوذِ الْحُكْمِ بِحَسَبِ الظاهر والنُّبُوَّةَ الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ وَهِيَ الَّتِي يَتَفَرَّعُ عَلَى حُصُولِهَا حُصُولُ الْمَرْتَبَتَيْنِ فَالْحُكَّامُ عَلَى الْخَلْقِ ثَلَاثُ طَوَائِفَ. انْتَهَى مُلَخَّصًا.
فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ الظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي بِها عَائِدٌ إِلَى النُّبُوَّةِ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ مَذْكُورٍ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بِها بِالْكِتَابِ وَالْحُكْمِ وَالنُّبُوَّةِ فَجَعَلَ الضَّمِيرَ عَائِدًا عَلَى الثَّلَاثَةِ وَهُوَ أَيْضًا لَهُ ظُهُورٌ، وَالْإِشَارَةُ بِهَؤُلَاءِ إِلَى كُفَّارِ قُرَيْشٍ وَكُلِّ كَافِرٍ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هؤُلاءِ يَعْنِي أَهْلَ مَكَّةَ انْتَهَى وقال السُّدِّيُّ، وَقَالَ الْحَسَنُ: أُمَّةُ الرَّسُولِ وَمَعْنَى وَكَّلْنا أَرْصَدْنَا لِلْإِيمَانِ بِهَا وَالتَّوْكِيلُ هُنَا اسْتِعَارَةٌ لِلتَّوْفِيقِ لِلْإِيمَانِ بِهَا وَالْقِيَامِ بِحُقُوقِهَا كَمَا يُوَكَّلُ الرَّجُلُ بِالشَّيْءِ لِيَقُومَ بِهِ وَيَتَعَهَّدَهُ وَيُحَافِظَ عَلَيْهِ، وَالْقَوْمُ الْمُوَكَّلُونَ بِهَا هُنَا هُمُ الْمَلَائِكَةُ قَالَهُ أَبُو رَجَاءٍ، أَوْ مُؤْمِنُو أَهْلِ الْمَدِينَةِ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: قَوْماً هُمُ الْأَنْبِيَاءُ الْمَذْكُورُونَ وَمَنْ تَابَعَهُمْ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ انْتَهَى. وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ أَيْضًا قَالَا: الْمُرَادُ بِالْقَوْمِ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَقِيلَ: الْأَنْبِيَاءُ الثَّمَانِيَةَ عَشَرَ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهُمْ وَاخْتَارَهُ الزَّجَّاجُ وَابْنُ جَرِيرٍ لِقَوْلِهِ بَعْدُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ. وَقِيلَ: الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ، وَقِيلَ: كُلُّ
(١) سورة الزمر: ٣٩/ ٦٥.
577
مَنْ آمَنَ بِالرَّسُولِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُمُ الْفُرْسُ وَالْآيَةُ وَإِنْ كَانَ قَدْ فُسِّرَ بِهَا مَخْصُوصُونَ فَمَعْنَاهَا عَامٌّ فِي الْكَفَرَةِ وَالْمُؤْمِنِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ الْإِشَارَةُ بِأُولَئِكَ إِلَى الْمُشَارِ إِلَيْهِمْ بِأُولَئِكَ الْأُولَى وَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ السَّابِقُ ذِكْرُهُمْ وَأَمَرَهُ تَعَالَى أَنْ يَقْتَدِيَ بِهُدَاهُمْ، وَالْهِدَايَةُ السَّابِقَةُ هِيَ تَوْحِيدُ اللَّهِ تَعَالَى وَتَقْدِيسُهُ عَنِ الشَّرِيكِ، فَالْمَعْنَى فَبِطَرِيقَتِهِمْ فِي الْإِيمَانِ بِاللَّهِ تَعَالَى وَتَوْحِيدِهِ وَأُصُولِ الدِّينِ دُونَ الشَّرَائِعِ، فَإِنَّهَا مُخْتَلِفَةٌ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُؤْمَرَ بِالِاقْتِدَاءِ بِالْمُخْتَلِفَةِ وَهِيَ هُدَى مَا لَمْ تُنْسَخْ فَإِذَا نُسِخَتْ لَمْ تَبْقَ هُدًى بِخِلَافِ أُصُولِ الدِّينِ فَإِنَّهَا كُلُّهَا هُدًى أَبَدًا. وَقَالَ تَعَالَى: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً «١». وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ بِأُولَئِكَ إِلَى قَوْماً وَذَلِكَ يَتَرَتَّبُ عَلَى بَعْضِ التَّأْوِيلَاتِ فِي الْمُرَادِ بِالْقَوْمِ عَلَى بَعْضِهَا انْتَهَى، وَيَعْنِي أَنَّهُ إِذَا فُسِّرَ الْقَوْمُ بِالْأَنْبِيَاءِ الْمَذْكُورِينَ أَوْ بِالْمَلَائِكَةِ فَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ إِلَى قَوْمٍ وَإِنْ فُسِّرُوا بِغَيْرِ ذَلِكَ فَلَا يَصِحُّ، وَقِيلَ: الِاقْتِدَاءُ فِي الصَّبْرِ كَمَا صَبَرَ مَنْ قَبْلَهُ، وَقِيلَ: يُحْمَلُ عَلَى كُلِّ هُدَاهُمْ إِلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ، وَقِيلَ: فِي الْأَخْلَاقِ الْحَمِيدَةِ مِنَ الصَّبْرِ عَلَى الْأَذَى وَالْعَفْوِ، وَقَالَ: فِي رَيِّ الظَّمْآنِ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ فَأَمَرَ بِتَوْبَةِ آدَمَ وَشُكْرِ نُوحٍ وَوَفَاءِ إِبْرَاهِيمَ وَصِدْقِ وَعْدِ إِسْمَاعِيلَ وَحِلْمِ إِسْحَاقَ وَحُسْنِ ظَنِّ يَعْقُوبَ؟
وَاحْتِمَالِ يُوسُفَ وَصَبْرِ أَيُّوبَ وإثابة دَاوُدَ وَتَوَاضُعِ سُلَيْمَانَ وَإِخْلَاصِ مُوسَى وَعِبَادَةِ زَكَرِيَّا وَعِصْمَةِ يَحْيَى وَزُهْدِ عِيسَى، وَهَذِهِ الْمَكَارِمُ الَّتِي فِي جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ اجْتَمَعَتْ فِي الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ وَلِذَلِكَ وَصَفَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ «٢».
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ فَاخْتَصَّ هُدَاهُمْ بِالِاقْتِدَاءِ وَلَا يُقْتَدَى إِلَّا بِهِمْ، وَهَذَا بِمَعْنَى تَقْدِيمِ الْمَفْعُولِ وَهَذَا عَلَى طَرِيقَتِهِ فِي أَنَّ تَقْدِيمَ الْمَفْعُولِ يُوجِبُ الِاخْتِصَاصَ وَقَدْ رَدَدْنَا عَلَيْهِ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ عَلَى إِيَّاكَ نَعْبُدُ «٣». وَقَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ وَأَهْلُ حَرَمَيْهِمَا وَأَبُو عَمْرٍو اقْتَدِهْ بِالْهَاءِ سَاكِنَةً وَصْلًا وَوَقْفًا وَهِيَ هَاءُ السَّكْتِ أَجْرَوْهَا وَصْلًا مَجْرَاهَا وَقْفًا، وَقَرَأَ الْأَخَوَانِ بِحَذْفِهَا وَصْلًا وَإِثْبَاتِهَا وَقْفًا وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ، وَقَرَأَ هِشَامٌ اقْتَدِهْ بِاخْتِلَاسِ الْكَسْرَةِ فِي الْهَاءِ وَصْلًا وَسُكُونِهَا وَقْفًا، وَقَرَأَ ابْنُ ذَكْوَانَ بِكَسْرِهَا وَوَصْلِهَا بِيَاءٍ وَصْلًا وَسُكُونِهَا وَقْفًا وَيُؤَوَّلُ عَلَى أَنَّهَا ضَمِيرُ الْمَصْدَرِ لَا هَاءُ السكت، وتغليظ ابْنِ مُجَاهِدٍ قِرَاءَةَ الْكَسْرِ غَلَطٌ مِنْهُ وَتَأْوِيلُهَا عَلَى أَنَّهَا هَاءُ السَّكْتِ ضَعِيفٌ.
(١) سورة المائدة: ٥/ ٤٨.
(٢) سورة القلم: ٦٨/ ٤.
(٣) سورة الفاتحة: ١/ ٤.
578
قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ أَيْ عَلَى الدُّعَاءِ إِلَى الْقُرْآنِ وَهُوَ الْهُدَى وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ. أَجْراً أَيْ أُجْرَةً أَتَكَثَّرُ بِهَا وَأُخَصُّ بِهَا إِنِ الْقُرْآنُ إِلَّا ذِكْرى مَوْعِظَةٌ لِجَمِيعِ الْعَالَمِينَ.
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ نَزَلَتْ فِي الْيَهُودُ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ، أَوْ فِي مَالِكِ بْنِ الصَّيْفِ الْيَهُودِيِّ إِذْ
قَالَ لَهُ الرَّسُولُ: «أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى أَتَجِدُ فِيهَا أَنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ الْحَبْرَ السَّمِينَ» ؟ قَالَ:
نَعَمْ. قَالَ: «فَأَنْتَ الْحَبْرُ السَّمِينُ» فَغَضِبَ ثُمَّ قَالَ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةُ
، أَوْ فِي فِنْحَاصِ بْنِ عَازُورَا مِنْهُمْ قَالَهُ السُّدِّيُّ، أَوْ فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى قَالَهُ قَتَادَةُ، أَوْ فِي مُشْرِكِي الْعَرَبِ قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَغَيْرُهُ، وَبَعْضُهُمْ خَصَّهُ عَنْهُ بِمُشْرِكِي قُرَيْشٍ وَهِيَ رِوَايَةُ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْهُ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ كَثِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى مِنْ شَيْءٍ فِي مشركي قريش وقوله: أَنْزَلَ الْكِتابَ فِي الْيَهُودِ.
وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ دَلِيلَ التَّوْحِيدِ وَتَسْفِيهَ رَأْيِ أَهْلِ الشِّرْكِ وَذَكَرَ تَعَالَى مَا مَنَّ بِهِ عَلَى إِبْرَاهِيمَ مِنْ جَعْلِ النُّبُوَّةِ فِي بَنِيهِ وَأَنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ جَدُّهُ الْأَعْلَى كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ هَدَاهُ وَكَانَ مُرْسَلًا إِلَى قَوْمِهِ وَأَمَرَ تَعَالَى الرَّسُولَ بِالِاقْتِدَاءِ بِهَدْيِ الْأَنْبِيَاءِ أَخَذَ فِي تَقْرِيرِ النُّبُوَّةِ وَالرَّدِّ عَلَى مُنْكِرِي الْوَحْيِ فَقَالَ تَعَالَى: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ
وَأَصْلُ الْقَدْرِ مَعْرِفَةُ الْكَمِّيَّةِ يُقَالُ: قَدَرَ الشَّيْءَ إِذَا حَزَرَهُ وَسَبَرَهُ وَأَرَادَ أَنْ يَعْلَمَ مِقْدَارَهُ يَقْدُرُهُ بِالضَّمِّ قَدْرًا وَقَدَرًا
وَمِنْهُ «فَإِنَّ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ»
أَيْ فَاطْلُبُوا أَنْ تَعْرِفُوهُ، ثُمَّ تُوُسِّعَ فِيهِ حَتَّى قِيلَ: لِكُلِّ مِنْ عَرَفَ شَيْئًا هُوَ يَقْدُرُ قَدْرَهُ وَلَا يَقْدُرُ قَدْرَهُ إِذَا لَمْ يَعْرِفْهُ بِصِفَاتِهِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَاخْتَارَهُ الْفَرَّاءُ وَثَعْلَبٌ وَالزَّجَّاجُ مَعْنَاهُ مَا عَظَّمُوا اللَّهَ حَقَّ تَعْظِيمِهِ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْأَخْفَشُ: مَا عَرَفُوهُ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ،
قَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: وَمَنِ الَّذِي يُعَظِّمُ اللَّهَ حَقَّ عَظَمَتِهِ أَوْ يَعْرِفُهُ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ؟ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: مَا عَبَدْنَاكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ وَالرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
«لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ»
وَيَنْفَصِلُ عَنْ هَذَا أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: مَا عَظَّمُوهُ الْعَظَمَةَ الَّتِي فِي وُسْعِهِمْ وَفِي مَقْدُورِهِمْ وَمَا عَرَفُوهُ كَذَلِكَ، وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: وَاخْتَارَهُ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ مَعْنَاهُ: مَا وَصَفُوهُ حَقَّ صِفَتِهِ فِيمَا وَجَبَ لَهُ وَاسْتَحَالَ عَلَيْهِ وَجَازَ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: مَا آمَنُوا بِاللَّهِ حَقَّ إِيمَانِهِ وَعَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَيْضًا: مَا عَبَدُوهُ حَقَّ عِبَادَتِهِ، وَقِيلَ: مَا أَجَلُّوهُ حَقَّ إِجْلَالِهِ حَكَاهُ ابْنُ أَبِي الْفَضْلِ فِي رِيِّ الظَّمْآنِ وَهُوَ بِمَعْنَى التَّعْظِيمِ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مِنْ تَوْفِيَةِ الْقَدْرِ فَهِيَ عَامَّةٌ يَدْخُلُ تَحْتَهَا مَنْ لَمْ يَعْرِفْ وَمَنْ لَمْ يُعَظِّمْ وَغَيْرُ ذَلِكَ غَيْرَ أَنَّ تَعْلِيلَهُ بِقَوْلِهِمْ: مَا
579
أَنْزَلَ اللَّهُ
يَقْضِي بِأَنَّهُمْ جَهِلُوا وَلَمْ يَعْرِفُوا اللَّهَ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ إِذْ أَحَالُوا عَلَيْهِ بِعْثَةَ الرُّسُلِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَا عَرَفُوا اللَّهَ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ فِي الرَّحْمَةِ عَلَى عِبَادِهِ وَاللُّطْفِ بِهِمْ حِينَ أَنْكَرُوا بِعْثَةَ الرُّسُلِ وَالْوَحْيَ إِلَيْهِمْ، وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ رَحْمَتِهِ وَأَجَلِّ نِعْمَتِهِ وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ «١» أَوْ مَا عَرَفُوهُ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ فِي سُخْطِهِ عَلَى الْكَافِرِينَ وَشِدَّةِ بَطْشِهِ بِهِمْ وَلَمْ يَخَافُوهُ حِينَ جَسَرُوا عَلَى تِلْكَ الْمَقَالَةِ الْعَظِيمَةِ مِنْ إِنْكَارِ النُّبُوَّةِ، وَالْقَائِلُونَ هُمُ الْيَهُودُ بِدَلِيلِ قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ تَجْعَلُونَهُ بالتاء وكذلك تُبْدُونَها وتُخْفُونَ وَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ مُبَالَغَةً فِي إِنْكَارِ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُلْزِمُوا مَا لَا بُدَّ لَهُمْ مِنَ الْإِقْرَارِ بِهِ مِنْ إِنْزَالِ التَّوْرَاةِ عَلَى مُوسَى. انْتَهَى، وَالضَّمِيرُ فِي وَما قَدَرُوا عَائِدٌ عَلَى مَنْ أُنْزِلَتِ الْآيَةُ بِسَبَبِهِ عَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ وَيَلْزَمُ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ تَكُونَ مَدَنِيَّةً وَلِذَا حَكَى النِّقَاشُ أَنَّهَا مَدَنِيَّةُ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَعِيسَى الثَّقَفِيُّ وَما قَدَرُوا بِالتَّشْدِيدِ حَقَّ قَدْرِهِ بِفَتْحِ الدَّالِّ وَانْتَصَبَ حَقَّ قَدْرِهِ عَلَى الْمَصْدَرِ وَهُوَ فِي الْأَصْلِ وَصْفٌ أَيْ قَدَّرَهُ الْحَقَّ وَوَصَفُ الْمُصَدِّرِ إِذَا أُضِيفَ إِلَيْهِ انْتَصَبَ نَصْبَ الْمَصْدَرِ، وَالْعَامِلُ فِي إِذْ قَدَرُوا وَفِي كَلَامِ ابْنِ عَطِيَّةَ مَا يُشْعِرُ أَنَّ إِذْ تعليلا.
قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ إِنْ كَانَ الْمُنْكِرُونَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَالِاحْتِجَاجُ عَلَيْهِمْ وَاضِحٌ لِأَنَّهُمْ مُلْتَزِمُونَ نُزُولَ الْكِتَابِ عَلَى مُوسَى وَإِنْ كَانُوا الْعَرَبَ فَوَجْهُ الِاحْتِجَاجِ عَلَيْهِمْ أَنَّ إِنْزَالَ الْكِتَابِ عَلَى مُوسَى أَمْرٌ مَشْهُورٌ مَنْقُولٌ، نَقْلَ قَوْمٍ لَمْ تَكُنِ الْعَرَبُ مُكَذِّبَةً لَهُمْ وَكَانُوا يَقُولُونَ: لو أنا أنزل علينا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ، وَقَالَ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَّالِيُّ: هَذِهِ الْآيَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الشَّكْلِ الثَّانِي مِنَ الْأَشْكَالِ الْمَنْطِقِيَّةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ حَاصِلَهُ يَرْجِعُ إِلَى أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أُنْزِلَ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَاحِدٌ مِنَ الْبَشَرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ شَيْئًا يَنْتِجُ مِنَ الشَّكْلِ الثَّانِي أَنَّ مُوسَى مَا كَانَ مِنَ الْبَشَرِ، وَهَذَا خَلْفٌ مُحَالٌ وَلَيْسَتْ هَذِهِ الِاسْتِحَالَةُ بِحَسْبَ شَكْلِ الْقِيَاسِ وَلَا بِحَسْبِ صِحَّةِ الْمُقَدِّمَةِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنَّهُ لَزِمَ مِنْ فَرْضِ صِحَّةِ الْمُقَدِّمَةِ وَهِيَ قَوْلُهُمْ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِكَوْنِهَا كَاذِبَةٌ فَتَمُتُّ أَنَّ دَلَالَةَ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الْمَطْلُوبِ إِنَّمَا تَصِحُّ عِنْدَ الِاعْتِرَافِ بِصِحَّةِ الشَّكْلِ الثَّانِي مِنَ الْأَشْكَالِ الْمَنْطِقِيَّةِ وَعِنْدَ الِاعْتِرَافِ بِصِحَّةِ قِيَاسِ الْخَلْفِ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّقْضَ يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ الْكَلَامِ وَذَلِكَ أَنَّهُ نَقَضَ قَوْلَهُمْ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ فَلَوْ لَمْ يَكُنِ النَّقْضُ دَلِيلًا عَلَى فَسَادِ الْكَلَامِ لَمَا كَانَتْ حُجَّةً مُفِيدَةً لهذا
(١) سورة الأنبياء: ٢١/ ١٠٧.
580
الْمَطْلُوبِ، وَالْكِتَابُ هُنَا التَّوْرَاةُ وَانْتَصَبَ نُوراً وَهُدىً عَلَى الْحَالِ وَالْعَامِلُ أَنْزَلَ أَوْ جاءَ.
تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً التَّاءُ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ فِي الثَّلَاثَةِ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ وَالْمَعْنَى: تَجْعَلُونَهُ ذَا قَراطِيسَ، أَيْ أَوْرَاقًا وَبَطَائِقَ، وَتُخْفُونَ كَثِيراً كَإِخْفَائِهِمُ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى بِعْثَةِ الرَّسُولِ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي أَخْفَوْهَا، وَأَدْرَجَ تَعَالَى تَحْتَ الْإِلْزَامِ تَوْبِيخَهُمْ وَإِنْ نَعَى عَلَيْهِمْ سُوءَ حَمْلِهِمْ لِكِتَابِهِمْ وَتَحْرِيفَهُمْ وَإِبْدَاءَ بَعْضٍ وَإِخْفَاءَ بَعْضٍ، فَقِيلَ: جَاءَ بِهِ مُوسَى وَهُوَ نُورٌ وَهُدًى لِلنَّاسِ فَغَيَّرْتُمُوهُ وَجَعَلْتُمُوهُ قَرَاطِيسَ وَوَرَقَاتٍ لِتَسْتَمْكِنُوا مِمَّا رُمْتُمْ مِنَ الْإِبْدَاءِ وَالْإِخْفَاءِ، وَتَتَنَاسَقُ قِرَاءَةُ التَّاءِ مَعَ قَوْلِهِ: عُلِّمْتُمْ وَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُنْكِرِينَ الْعَرَبُ أَوْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ لَمْ يُمْكِنْ جَعْلُ الْخِطَابِ لَهُمْ، بَلْ يَكُونُ قَدِ اعْتَرَضَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَالَ: خِلَالَ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ: تَجْعَلُونَهُ أَنْتُمْ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَرَاطِيسَ وَمِثْلُ هَذَا يَبْعُدُ وُقُوعُهُ لِأَنَّ فِيهِ تَفْكِيكًا لِنَظْمِ الْآيَةِ وَتَرْكِيبِهَا، حَيْثُ جَعَلَ الْكَلَامَ أَوَّلًا خِطَابًا مَعَ الْكُفَّارِ وَآخِرًا خِطَابًا مَعَ الْيَهُودِ وَقَدْ أُجِيبَ بِأَنَّ الْجَمِيعَ لَمَّا اشْتَرَكُوا فِي إِنْكَارِ نُبُوَّةِ الرَّسُولِ، جَاءَ بَعْضُ الْكَلَامِ خِطَابًا لِلْعَرَبِ وَبَعْضُهُ خَطَابًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو بِالْيَاءِ عَلَى الْغَيْبَةِ فِي الثَّلَاثَةِ.
وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ خِطَابٌ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ مَقْصُودٌ بِهِ الِامْتِنَانُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى آبَائِهِمْ، بِأَنْ عَلِمُوا مِنْ دِينِ اللَّهِ وَهِدَايَاتِهِ مَا لَمْ يَكُونُوا عَالِمِينَ بِهِ لِأَنَّ آبَاءَهُمْ كَانُوا عَلِمُوا أَيْضًا وَعَلَمَ بَعْضُهُمْ وَلَيْسَ كَذَلِكَ آبَاءُ الْعَرَبِ، أَوْ مَقْصُودٌ بِهِ ذَمُّهُمْ حَيْثُ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِهِ لِإِعْرَاضِهِمْ وَضَلَالِهِمْ، وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِلْعَرَبِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ ذَكَرَ اللَّهُ مِنَّتَهُ عَلَيْهِمْ أَيْ عُلِّمْتُمْ يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ مِنَ الْهِدَايَاتِ وَالتَّوْحِيدِ وَالْإِرْشَادِ إِلَى الْحَقِّ مَا لَمْ تَكُونُوا عَالَمِينَ وَلا آباؤُكُمْ وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِمَنْ آمَنَ مِنْ الْيَهُودِ، وَقِيلَ: لِمَنْ آمَنَ مِنْ قُرَيْشٍ وَتَفْسِيرُ مَا لَمْ تَعْلَمُوا يَتَخَرَّجُ عَلَى حَسَبِ الْمُخَاطَبِينَ التَّوْرَاةَ أَوْ دِينَ الْإِسْلَامِ وَشَرَائِعَهُ أَوْ هُمَا أَوِ الْقُرْآنَ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْخِطَابُ لِلْيَهُودِ أَيْ عُلِّمْتُمْ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا أُوحِيَ إِلَيْهِ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَأَنْتُمْ حَمَلَةُ التَّوْرَاةِ وَلَمْ يَعْلَمْهُ آبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ الَّذِينَ كَانُوا أَعْلَمَ مِنْكُمْ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، وَقِيلَ:
الْخِطَابُ لِمَنْ آمَنَ مِنْ قريش لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آباؤُهُمْ «١» انتهى.
(١) سورة يس: ٣٦/ ٦. [.....]
581
قُلِ اللَّهُ أَمَرَهُ بِالْمُبَادَرَةِ إِلَى الْجَوَابِ أَيْ قُلِ اللَّهُ أَنْزَلَهُ فَإِنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يُنَاكِرُوكَ، لِأَنَّ الْكِتَابَ الْمَوْصُوفَ بِالنُّورِ وَالْهُدَى الْآتِيَ بِهِ مَنْ أُيِّدَ بِالْمُعْجِزَاتِ بَلَغَتْ دَلَالَتُهُ مِنَ الْوُضُوحِ إِلَى حَيْثُ يَجِبُ أَنْ يَعْتَرِفَ بِأَنَّ مُنَزِّلَهُ هُوَ اللَّهُ سَوَاءٌ أَقَرَّ الْخَصْمُ بِهَا أَمْ لَمْ يُقِرَّ، وَنَظِيرُهُ: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ «١». قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى فَإِنْ جَهِلُوا أَوْ تَحَيَّرُوا أَوْ سَأَلُوا وَنَحْوَ هَذَا فَقُلِ اللَّهُ انْتَهَى، وَلَا يُحْتَاجُ إِلَى هذا التقدير لِأَنَّ الْكَلَامَ مُسْتَغْنٍ عَنْهُ.
ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ أَيْ فِي بَاطِلِهِمُ الَّذِي يَخُوضُونَ فِيهِ وَيُقَالُ لِمَنْ كَانَ فِي عَمَلٍ لَا يُجْدِي عَلَيْهِ إِنَّمَا أنت لاعب ويَلْعَبُونَ حَالٌ مِنْ مَفْعُولِ ذَرْهُمْ أَوْ مِنْ ضَمِيرِ خَوْضِهِمْ وفِي خَوْضِهِمْ مُتَعَلِّقٌ بِ ذَرْهُمْ أَوْ بِ يَلْعَبُونَ أَوْ حَالٌ مِنْ يَلْعَبُونَ وَظَاهِرُ الْأَمْرِ أَنَّهُ مُوَادَعَةٌ فَيَكُونُ مَنْسُوخًا بِآيَاتِ الْقِتَالِ وَإِنْ جُعِلَ تَهْدِيدًا أَوْ وَعِيدًا خَالِيًا مِنْ مُوَادَعَةٍ فَلَا نَسْخَ.
وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ أَيْ وَهَذَا الْقُرْآنُ لَمَّا ذَكَرَ وَقَرَّرَ أَنَّ إِنْكَارَ مَنْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ أَنْزَلَ عَلَى بَشَرٍ شَيْئًا وَحَاجَّهُمْ بِمَا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى إِنْكَارِهِ أَخْبَرَ أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الرَّسُولِ مُبَارَكٌ كَثِيرُ النَّفْعِ وَالْفَائِدَةِ، وَلَمَّا كَانَ الْإِنْكَارُ إِنَّمَا وَقَعَ عَلَى الْإِنْزَالِ فَقَالُوا: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ، وَقِيلَ: قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ كَانَ تَقْدِيمُ وَصْفِهِ بِالْإِنْزَالِ آكَدَ مِنْ وَصْفِهِ بِكَوْنِهِ مُبَارَكًا وَلِأَنَّ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فَهُوَ مُبَارَكٌ قَطْعًا فَصَارَتِ الصِّفَةُ بِكَوْنِهِ مُبَارَكًا، كَأَنَّهَا صِفَةٌ مُؤَكَّدَةٌ إِذْ تَضَمَّنَهَا مَا قَبْلَهَا، فَأَمَّا قَوْلُهُ: وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ «٢» فَلَمْ يَرِدْ فِي مَعْرِضِ إِنْكَارٍ أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ شَيْئًا بَلْ جَاءَ عَقِبَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ «٣» ذَكَرَ أَنَّ الَّذِي آتَاهُ الرَّسُولَ هُوَ ذِكْرٌ مُبَارَكٌ وَلَمَّا كَانَ الْإِنْزَالُ يَتَجَدَّدُ عِبَّرَ بِالْوَصْفِ الَّذِي هُوَ فِعْلٌ، وَلَمَّا كَانَ وَصْفُهُ بِالْبَرَكَةِ وَصْفًا لَا يُفَارِقُ عَبَّرَ بِالِاسْمِ الدَّالِّ عَلَى الثُّبُوتِ.
مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ أَيْ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةِ، وَقِيلَ التَّوْرَاةُ، وَقِيلَ الْبَعْثُ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ الْقُرْآنَ هُوَ بَيْنَ يدي القيامة.
(١) سورة الأنعام: ٦/ ١٩.
(٢) سورة الأنبياء: ٢١/ ٥٠.
(٣) سورة الأنبياء: ٢١/ ٤٨.
582
وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها أُمَّ الْقُرى مَكَّةُ وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا مَنْشَأُ الدين ودحو الْأَرْضِ مِنْهَا وَلِأَنَّهَا وَسَطُ الْأَرْضِ وَلِكَوْنِهَا قِبْلَةَ وَمَوْضِعَ الْحَجِّ وَمَكَانَ أَوَّلِ بَيْتٍ وَضِعَ لِلنَّاسِ، وَالْمَعْنَى: وَلِتُنْذِرَ أَهْلَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَهُمْ سَائِرُ أَهْلِ الْأَرْضِ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقِيلَ:
الْعَرَبُ وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ: أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها طَائِفَةٌ مِنَ الْيَهُودِ زَعَمُوا أَنَّهُ رَسُولٌ إِلَى الْعَرَبِ فَقَطْ، قَالُوا: وَمَنْ حَوْلَها هِيَ الْقُرَى الْمُحِيطَةُ بِهَا وَهِيَ جَزِيرَةُ الْعَرَبِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ وَمَنْ حَوْلَها عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْأَرْضِ وَلَوْ فَرَضْنَا الْخُصُوصَ لَمْ يَكُنْ فِي ذِكْرِ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ دَلِيلٌ عَلَى انْتِفَاءِ الْحُكْمِ عَنْ مَا سِوَاهَا إِلَّا بِالْمَفْهُومِ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وحذف أهل الدلالة الْمَعْنَى عَلَيْهِ لِأَنَّ الْأَبْنِيَةَ لا تنذر كقوله: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ «١» لِأَنَّ الْقَرْيَةَ لَا تُسْأَلُ وَلَمْ تُحْذَفْ مَنْ فَيُعْطَفَ حَوْلَها عَلَى أُمَّ الْقُرى وَإِنْ كَانَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى كَانَ يَصِحُّ لِأَنَّ حَوْلَ ظَرْفٌ لَا يَتَصَرَّفُ فَلَوْ عُطِفَ عَلَى أُمِّ الْقُرَى لَزِمَ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا بِهِ لِعَطْفِهِ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ فِي اسْتِعْمَالِهِ مَفْعُولًا بِهِ خُرُوجًا عَنِ الظَّرْفِيَّةِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ فِيهِ لِأَنَّهُ كَمَا قُلْنَا لَمْ تَسْتَعْمِلْهُ الْعَرَبُ إِلَّا لَازِمَ الظَّرْفِيَّةِ غَيْرَ مُتَصَرِّفٍ فِيهِ بِغَيْرِهَا، وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ لِيُنْذِرَ أَيِ الْقُرْآنُ بِمَوَاعِظِهِ وَأَوَامِرِهِ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَلِتُنْذِرَ خِطَابًا لِلرَّسُولِ والمعنى وَلِتُنْذِرَ به أَنْزَلْنَاهُ فَاللَّامُ تَتَعَلَّقُ بِمُتَأَخِّرٍ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلِتُنْذِرَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ صِفَةُ الْكِتَابِ كَأَنَّهُ قيل: أنزلنا لِلْبَرَكَاتِ وَتَصْدِيقِ مَا تَقَدَّمَهُ مِنَ الْكُتُبِ وَالْإِنْذَارِ.
وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ الظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي بِهِ عَائِدٌ عَلَى الْكِتَابِ أَيْ الَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِأَنَّ لَهُمْ حَشْرًا وَنَشْرًا وَجَزَاءً تؤمنون بِهَذَا الْكِتَابِ لِمَا انْطَوَى عَلَيْهِ مِنَ ذِكْرِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَالتَّبْشِيرِ وَالتَّهْدِيدِ، إِذْ ليس فيه كِتَابٍ مِنَ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ وَلَا فِي شَرِيعَةٍ مِنَ الشَّرَائِعِ مَا فِي هَذَا الْكِتَابِ وَلَا مَا فِي هَذِهِ الشَّرِيعَةِ مِنْ تَقْدِيرِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَالْبَعْثِ، وَالْمَعْنَى:
يُؤْمِنُونَ بِهِ الْإِيمَانَ الْمُعْتَضِدَ بِالْحُجَّةِ الصَّحِيحَةِ وَإِلَّا فَأَهْلُ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِالْقُرْآنِ وَاكْتَفَى بِذِكْرِ الْإِيمَانِ بِالْبَعْثِ وَهُوَ أَحَدُ الْأَرْكَانِ السِّتَّةِ الَّتِي هِيَ وَاجِبُ الْوُجُودِ وَالْمَلَائِكَةُ وَالْكُتُبُ وَالرُّسُلُ وَالْيَوْمُ الْآخِرُ وَالْقَدَرُ لِأَنَّ الْإِيمَانَ بِهِ يَسْتَلْزِمُ الْإِيمَانَ بِبَاقِيهَا وَلِإِسْمَاعِ كَفَّارِ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَا يُؤْمِنُ بِالْبَعْثِ، أَنَّ مَنْ آمَنَ بِالْبَعْثِ آمَنَ بِهَذَا الْكِتَابِ وَأَصْلُ الدِّينِ خَوْفُ العاقبة فمن خافها لَمْ يَزَلْ بِهِ الْخَوْفُ حَتَّى يُؤْمِنَ، وَقِيلَ: يُعُودُ الضَّمِيرُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(١) سورة يوسف: ١٢/ ٨٢.
583
وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ خَصَّ الصَّلَاةَ لِأَنَّهَا عِمَادُ الدِّينِ وَمَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا كَانَ مُحَافِظًا عَلَى أَخَوَاتِهَا وَمَعْنَى الْمُحَافَظَةِ الْمُوَاظِبَةُ عَلَى أَدَائِهَا فِي أَوْقَاتِهَا عَلَى أَحْسَنِ مَا تُوقَعُ عَلَيْهِ وَالصَّلَاةُ أَشْرَفُ الْعِبَادَاتِ بَعْدَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَلِذَلِكَ لَمْ يُوقَعِ اسْمُ الْإِيمَانِ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ إِلَّا عَلَيْهَا قَالَ تَعَالَى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ «١» أَيْ صَلَاتَكُمْ وَلَمْ يَقَعِ الْكُفْرُ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْمَعَاصِي إِلَّا عَلَى تَرْكِهَا.
رُوِيَ: «مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ مُتَعَمِّدًا فَقَدْ كَفَرَ»
، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ عَلى صَلاتِهِمْ بِالتَّوْحِيدِ وَالْمُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ وَرَوَى خَلَفٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي بَكْرٍ صَلَوَاتِهِمْ بِالْجَمْعِ ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْبَغْدَادِيُّ فِي كِتَابِ الرَّوْضَةِ مِنْ تَأْلِيفِهِ وَقَالَ تَفَرَّدَ بِذَلِكَ عَنْ جَمِيعِ النَّاسِ.
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ ذَكَرَ الزَّهْرَاوِيُّ وَالْمَهْدَوِيُّ إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ قِيلَ: وَفِي الْمُسْتَهْزِئِينَ مَعَهُ لِأَنَّهُ عَارَضَ الْقُرْآنَ بِقَوْلِهِ: وَالزَّارِعَاتِ زَرْعًا وَالْخَابِزَاتِ خبزا والطابخات طبخا والطاحنات طَحْنًا وَاللَّاقِمَاتِ لَقْمًا إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ السَّخَافَاتِ، وَقَالَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ: الْمُرَادُ بِهَا مُسَيْلِمَةُ الْحَنَفِيُّ وَالْأَسْوَدُ الْعَنْسِيُّ وَذَكَرُوا رُؤْيَةَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلسِّوَارَيْنِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهُوَ مُسَيْلِمَةُ الْحَنَفِيُّ أَوْ كَذَّابُ صَنْعَاءَ الْأَسْوَدُ الْعَنْسِيُّ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْمُرَادُ بِهَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ الْعَامِرِيُّ أَخُو عُثْمَانَ مِنَ الرَّضَاعَةِ كَتَبَ آيَةَ قَدْ أَفْلَحَ بَيْنَ يَدَيِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا أَمْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ عَجِبَ مِنْ تَفْصِيلِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ فَقَالَ: فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ «٢» فَقَالَ الرَّسُولُ: «اكْتُبْهَا فَهَكَذَا أُنْزِلَتْ» فَتَوَهَّمَ عَبْدُ اللَّهِ وَلَحِقَ بِمَكَّةَ مُرْتَدًّا وَقَالَ: أَنَا أُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ
، وَقَالَ عِكْرِمَةُ:
أَوَّلَهَا فِي مُسَيْلِمَةَ وَآخِرُهَا فِي ابْنِ أَبِي سَرْحٍ وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ إِذَا أُمْلِيَ عَلَيْهِ سَمِيعاً عَلِيماً «٣» كَتَبَ هُوَ عَلِيمًا حَكِيمًا وَإِذَا قَالَ: عَلِيمًا حَكِيمًا كَتَبَ هُوَ غَفُورًا رَحِيمًا،
وَقَالَ شُرَحْبِيلُ بْنُ سَعْدٍ: نَزَلَتْ فِي ابْنِ أَبِي سَرْحٍ وَمَنْ قَالَ: سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ ارْتَدَّ وَدَخَلَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ فَغَيَّبَهُ عُثْمَانُ وَكَانَ أَخَاهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ حَتَّى اطْمَأَنَّ أَهْلُ مَكَّةَ ثُمَّ أَتَى بِهِ الرَّسُولَ فَاسْتَأْمَنَ لَهُ الرَّسُولَ فَأَمَّنَهُ.
انْتَهَى، وَقَدْ وَلَّاهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ فِي أَيَّامِهِ وَفُتِحَتْ عَلَى يَدَيْهِ الْأَمْصَارُ فَفَتَحَ أَفْرِيقِيَّةَ سَنَةَ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَغَزَا الْأَسَاوِدَ مِنْ أَرْضِ النَّوْبَةِ وَهُوَ الَّذِي
(١) سورة البقرة: ٢/ ١٤٣.
(٢) سورة المؤمنون: ٢٣/ ١، ١٤٨.
(٣) سورة النساء: ٤/ ١٤٨.
584
هَادَنَهُمُ الْهُدْنَةَ الْبَاقِيَةَ إِلَى الْيَوْمِ وَغَزَا الصَّوَارِيَ مِنْ أَرْضِ الرُّومِ وَكَانَ قَدْ حَسُنَ إِسْلَامُهُ وَلَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهِ شَيْءٌ يُنْكَرُ عَلَيْهِ وَهُوَ أَحَدُ النُّجَبَاءِ الْعُقَلَاءِ الْكُرَمَاءِ مِنْ قُرَيْشٍ وَفَارِسُ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ وَأَقَامَ بِعَسْقَلَانَ، قِيلَ: أَوِ الرَّمَلَةِ فَارًّا مِنَ الْفِتْنَةِ حِينَ قُتِلَ عُثْمَانُ وَمَاتَ بِهَا سَنَةَ سِتٍّ، قِيلَ: أَوْ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ وَدَعَا رَبَّهُ فَقَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْ خَاتِمَةَ عَمَلِي صَلَاةَ الصُّبْحِ، فَقُبِضَ آخِرَ الصُّبْحِ وَقَدْ سَلَّمَ عَنْ يَمِينِهِ وَذَهَبَ يُسَلِّمُ عَنْ يَسَارِهِ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَجْتَمِعَ النَّاسُ عَلَى مُعَاوِيَةَ.
وَلَمَّا ذَكَرَ الْقُرْآنَ وَأَنَّهُ كِتَابٌ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِهِ مُبَارَكٌ أَعْقَبَهُ بِوَعِيدِ مَنِ ادَّعَى النُّبُوَّةَ وَالرِّسَالَةَ عَلَى سَبِيلِ الِافْتِرَاءِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى وَمَنْ أَظْلَمُ وَفَسَّرُوهُ بِأَنَّهُ اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ النَّفْيُ أَيْ لَا أَحَدَ أَظْلَمُ وَبَدَأَ أَوَّلًا بِالْعَامِّ وَهُوَ افْتِرَاءُ الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الِافْتِرَاءُ بِادِّعَاءِ وَحْيٍ أَوْ غَيْرِهِ ثُمَّ ثَانِيًا بِالْخَاصِّ وَهُوَ افْتِرَاءٌ مَنْسُوبٌ إِلَى وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ أَوْ غَيْرُ مُوحًى إِلَيْهِ لِأَنَّ مَنْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَهُوَ مُوحًى إِلَيْهِ هُوَ صَادِقٌ ثُمَّ ثَانِيًا بِأَخَصَّ مِمَّا قَبْلَهُ، لِأَنَّ الْوَحْيَ قَدْ يَكُونُ بِإِنْزَالِ قُرْآنٍ وَبِغَيْرِهِ وَقِصَّةُ ابْنِ أَبِي سَرْحٍ هِيَ دَعْوَاهُ أَنَّهُ سَيُنْزِلُ قُرْآنًا مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَقَوْلُهُ: مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَيْسَ مُعْتَقَدُهُ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ شَيْئًا وَإِنَّمَا الْمَعْنَى مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى زَعْمِكُمْ وَإِعَادَةُ مَنْ تَدُلُّ عَلَى تَغَايُرِ مَدْلُولِهِ لِمَدْلُولِ مَنْ الْمُتَقَدِّمَةِ فَالَّذِي قَالَ سَأُنْزِلُ غَيْرُ مَنِ افْتَرَى أَوْ قَالَ: أُوحِيَ وَإِنْ كَانَ يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ انْطِلَاقَ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ وَقَوْلُهُ: سَأُنْزِلُ وَعْدٌ كَاذِبٌ وَتَسْمِيَتُهُ إِنْزَالًا مَجَازٌ وَإِنَّمَا الْمَعْنَى سَأَنْظِمُ كَلَامًا يُمَاثِلُ مَا ادَّعَيْتُمْ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَهُ، وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ مَا نَزَّلَ بِالتَّشْدِيدِ وَهَذِهِ الْآيَةُ وَإِنْ كَانَ سَبَبُ نُزُولِهَا فِي مَخْصُوصِينَ فَهِيَ شَامِلَةٌ لِكُلِّ مَنِ ادَّعَى مِثْلَ دَعْوَاهُمْ كَطُلَيْحَةَ الْأَسَدِيِّ وَالْمُخْتَارِ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ الثَّقَفِيِّ وَسِجَاحٍ وَغَيْرِهِمْ، وَقَدِ ادَّعَى النُّبُوَّةَ عَالَمٌ كَثِيرُونَ كَانَ مِمَّنْ عَاصَرْنَاهُ إِبْرَاهِيمُ الْغَازَازِيُّ الْفَقِيرُ ادَّعَى ذَلِكَ بِمَدِينَةِ مَالِقَةَ وَقَتَلَهُ السُّلْطَانُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ نَصْرٍ الْخَزْرَجَيُّ مَلِكُ الْأَنْدَلُسِ بِغَرْنَاطَةَ وَصَلَبَهُ، وَبَارْقَطَاشُ بْنُ قَسِيمٍ النِّيلِيُّ الشَّاعِرُ تَنَبَّأَ بِمَدِينَةِ النِّيلِ مِنْ أَرْضِ الْعِرَاقِ وَلَهُ قُرْآنٌ صَنَعَهُ وَلَمْ يُقْتَلْ، لِأَنَّهُ كَانَ يُضْحَكُ مِنْهُ وَيُضَعَّفُ فِي عَقْلِهِ.
وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ الظَّالِمُونَ عَامٌّ انْدَرَجَ فِيهِ الْيَهُودُ وَالْمُتَنَبِّئَةُ وَغَيْرُهُمْ. وَقِيلَ: الْ لِلْعَهْدِ أَيْ مِنَ الْيَهُودِ وَمَنْ تَنَبَّأَ وَهُمُ الَّذِينَ تقدم ذكرهم.
وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِالضَّرْبِ أَيْ مَلَائِكَةُ قَبْضِ الرُّوحِ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ عِنْدَ قَبْضِهِ وَقَالَهُ الْفَرَّاءُ وَلَيْسَ الْمُرَادُ مُجَرَّدَ بَسْطِ الْيَدِ لِاشْتِرَاكِ
585
الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي ذَلِكَ وهذا أوائل العذاب وأمارته، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَالَ الْحَسَنُ وَالضَّحَّاكُ: بِالْعَذَابِ، وَقَالَ الْحَسَنُ أَيْضًا: هَذَا يَكُونُ فِي النَّارِ.
أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَبْسُطُونَ إِلَيْهِمْ أَيْدِيَهُمْ يَقُولُونَ: هَاتُوا أَرْوَاحَكُمْ أَخْرِجُوهَا إِلَيْنَا مِنْ أَجْسَادِكُمْ وَهَذِهِ عِبَارَةٌ عَنِ الْعُنْفِ فِي السِّيَاقِ وَالْإِلْحَاحِ الشَّدِيدِ فِي الْإِزْهَاقِ مِنْ غَيْرِ تَنْفِيسٍ وَإِمْهَالٍ وَأَنَّهُمْ يَفْعَلُونَ بِهِمْ فِعْلَ الْغَرِيمِ الْمُسَلَّطِ بِبَسْطِ يَدِهِ إِلَى مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ وَيُعَنِّفُ عَلَيْهِ فِي الْمُطَالَبَةِ وَلَا يُمْهِلُهُ وَيَقُولُ لَهُ أَخْرِجْ إِلَيَّ مَا لِي عَلَيْكَ السَّاعَةَ وَإِلَّا أُدِيمُ مَكَانِي حَتَّى أَنْزِعَهُ مِنْ أَصْدِقَائِكَ وَمَنْ قَالَ: إِنَّ بَسْطَ الْأَيْدِي هُوَ فِي النَّارِ فَالْمَعْنَى أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ هَذِهِ الْمَصَائِبِ وَالْمِحَنِ وَخَلِّصُوهَا إِنْ كَانَ مَا زَعَمْتُمُوهُ حَقًّا فِي الدُّنْيَا وَفِي ذَلِكَ تَوْقِيفٌ وَتَوْبِيخٌ عَلَى سَالِفِ فِعْلِهِمُ الْقَبِيحِ، وَقِيلَ هُوَ أَمْرٌ عَلَى سَبِيلِ الْإِهَانَةِ وَالْإِرْعَابِ وَأَنَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ تَوَلَّى إِزْهَاقَ نَفْسِهِ.
الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ أَيِ الْهَوَانِ، وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَعِكْرِمَةُ عَذَابَ الْهَوَانِ بِالْأَلِفِ وَفَتْحِ الهاء والْيَوْمَ مَنْ قَالَ: إِنَّ هَذَا فِي الدُّنْيَا كَانَ عِبَارَةً عَنْ وَقْتِ الْإِمَاتَةِ وَالْعَذَابُ مَا عُذِّبُوا بِهِ مِنْ شَدَّةِ النَّزْعِ أَوِ الْوَقْتِ الْمُمْتَدِّ الْمُتَطَاوِلِ الَّذِي يَلْحَقُهُمْ فِيهِ الْعَذَابُ فِي الْبَرْزَخِ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّ هَذَا فِي الْقِيَامَةِ كَانَ عِبَارَةً عَنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ عَنْ وَقْتِ خِطَابِهِمْ فِي النَّارِ، وَأَضَافَ الْعَذَابَ إِلَى الْهُونِ لِتَمَكُّنِهِ فِيهِ لِأَنَّ التَّنْكِيلَ قَدْ يَكُونُ عَلَى سَبِيلِ الزَّجْرِ وَالتَّأْدِيبِ، وَلَا هَوَانَ فِيهِ وَقَدْ يَكُونُ عَلَى سَبِيلِ الْهَوَانِ.
بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ الْقَوْلُ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ يَشْمَلُ كُلَّ نَوْعٍ مِنَ الْكُفْرَ وَيَدْخُلُ فِيهِ دُخُولًا أَوْلَوِيًّا مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الْمُفْتَرِينَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ.
وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ أَيْ عَنِ الْإِيمَانِ بِآيَاتِهِ وَجَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ لَرَأَيْتَ أَمْرًا عَظِيمًا وَلَرَأَيْتَ عَجَبًا وَحَذْفُهُ أَبْلَغُ مِنْ ذكره وترى بِمَعْنَى رَأَيْتَ لِعَمَلِهِ فِي الظرف الماضي وهو وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا جملة حالية وأَخْرِجُوا مَعْمُولٌ لِحَالٍ مَحْذُوفَةٍ أَيْ قائلين أخرجوا وما في بما مصدرية.
وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ قَالَ عِكْرِمَةُ قَالَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ:
سَوْفَ تَشْفَعُ فِيَّ اللَّاتُ وَالْعُزَّى فَنَزَلَتْ: وَلَمَّا قَالَ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ وَقَّفَهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ يَقْدَمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُنْفَرِدِينَ لا ناظر لَهُمْ مُحْتَاجِينَ إِلَيْهِ بَعْدَ أَنْ كَانُوا ذَوِي خَوَلٍ وَشُفَعَاءَ فِي الدُّنْيَا وَيَظْهَرُ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ هُوَ مِنْ خِطَابِ الْمَلَائِكَةِ الْمُوَكَّلِينَ بِعِقَابِهِمْ، وَقِيلَ: هُوَ كَلَامُ
586
اللَّهِ لَهُمْ وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُكَلِّمُ الْكُفَّارَ، وَهُوَ ظَاهِرٌ من قوله: فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ «١» وَمِنْ قوله: لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ «٢» وجِئْتُمُونا مِنَ الْمَاضِي الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْمُسْتَقْبَلُ، وَقِيلَ: هُوَ مَاضٍ عَلَى حَقِيقَتِهِ مَحْكِيٌّ فَيُقَالُ لَهُمْ حَالَةَ الْوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ لِلْجَزَاءِ وَالْحِسَابِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فُرادى مِنَ الْأَهْلِ وَالْمَالِ وَالْوَلَدِ، وَقَالَ الْحَسَنُ: كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى حِدَتِهِ بِلَا أَعْوَانٍ وَلَا شُفَعَاءَ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: لَيْسَ مَعَكُمْ شَيْءٌ مِنَ الدُّنْيَا تَفْتَخِرُونَ بِهِ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: كُلُّ وَاحِدٍ مُفْرِدٌ عَنْ شَرِيكِهِ وَشَفِيعِهِ، وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: فُرادى مِنَ الْمَعْبُودِ، وَقِيلَ: أَعَدْنَاكُمْ بِلَا مُعِينٍ وَلَا نَاصِرٍ وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ مُتَقَارِبَةٌ لَمَّا كَانُوا فِي الدُّنْيَا جَهِدُوا فِي تَحْصِيلِ الْجَاهِ وَالْمَالِ والشفعاء جاؤوا فِي الْآخِرَةِ مُنْفَرِدِينَ عَنْ كُلِّ مَا حَصَّلُوهُ فِي الدُّنْيَا، وَقُرِئَ فُرَادَ غَيْرَ مَصْرُوفٍ، وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ وَأَبُو حَيْوَةَ فُرَادًا بِالتَّنْوِينِ وَأَبُو عَمْرٍو وَنَافِعٌ فِي حِكَايَةٍ خَارِجَةٍ عَنْهُمَا فَرْدَى مِثْلَ سَكْرَى كَقَوْلِهِ: وَتَرَى النَّاسَ سُكارى
«٣» وَأُنِّثَ عَلَى مَعْنَى الْجَمَاعَةِ وَالْكَافُ فِي كَمَا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، قِيلَ: بَدَلٌ مِنْ فُرَادَى، وَقِيلَ: نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أَيْ مَجِيئًا كَما خَلَقْناكُمْ يُرِيدُ كَمَجِيئِكُمْ يَوْمَ خَلَقْنَاكُمْ وَهُوَ شَبِيهٌ بِالِانْفِرَادِ الْأَوَّلِ وَقْتَ الْخِلْقَةِ فَهُوَ تَقْيِيدٌ لِحَالَةِ الِانْفِرَادِ تَشْبِيهٌ بِحَالَةِ الْخَلْقِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يُخْلَقُ أَقْشَرَ لَا مَالَ لَهُ وَلَا وَلَدَ وَلَا حَشَمَ، وَقِيلَ: عُرَاةً غُرْلًا وَمَنْ قَالَ: عَلَى الْهَيْئَةِ الَّتِي وُلِدْتُمْ عَلَيْهَا فِي الِانْفِرَادِ يَشْمَلُ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ وَانْتَصَبَ أَوَّلَ مَرَّةٍ عَلَى الظَّرْفِ أَيْ أَوَّلَ زَمَانٍ وَلَا يَتَقَدَّرُ أَوَّلَ خَلْقِ اللَّهِ لِأَنَّ أَوَّلَ خَلْقٍ يَسْتَدْعِي خَلْقًا ثَانِيًا وَلَا يُخْلَقُ ثَانِيًا إِنَّمَا ذَلِكَ إِعَادَةٌ لَا خَلْقٌ.
وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ أَيْ مَا تَفَضَّلْنَا بِهِ عَلَيْكُمْ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَنْفَعْكُمْ وَلَمْ تَحْتَمِلُوا مِنْهُ نَقِيرًا وَلَا قَدَّمْتُمُوهُ لِأَنْفُسِكُمْ وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ: وَراءَ ظُهُورِكُمْ إِلَى الدُّنْيَا لِأَنَّهُمْ يَتْرُكُونَ مَا خُوِّلُوهُ مَوْجُودًا.
وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ وَقَّفَهُمْ عَلَى الْخَطَأِ فِي عِبَادَتِهِمُ الْأَصْنَامَ وَتَعْظِيمِهَا وَقَالَ مُقَاتِلٌ: كَانُوا يَعْتَقِدُونَ شَفَاعَةَ الْمَلَائِكَةِ وَيَقُولُونَ: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى «٤»، وفِيكُمْ متعلق بشركاء وَالْمَعْنَى فِي اسْتِعْبَادِكُمْ لِأَنَّهُمْ حِينَ دَعَوْهُمْ آلِهَةً وَعَبَدُوهَا فَقَدْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ فِيهِمْ وَفِي اسْتِعْبَادِهِمْ، وَقِيلَ: جَعَلُوهُمْ شُرَكَاءَ لِلَّهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُمْ يَشْفَعُونَ فِيهِمْ عِنْدَهُ فَهُمْ شُرَكَاءُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى
(١) سورة الأعراف: ٧/ ٦.
(٢) سورة الحجر: ١٥/ ٩٢.
(٣) سورة الحج: ٢٢/ ٢.
(٤) سورة الزمر: ٣٩/ ٣.
587
شُرَكَاءَ لِلَّهِ فِي تَخْلِيصِكُمْ من العذاب أن عِبَادَتَهُمْ تَنْفَعُكُمْ كَمَا تَنْفَعُكُمْ عِبَادَتُهُ، وَقِيلَ: فِيكُمْ بِمَعْنَى عِنْدَكُمْ، وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ إِنَّهُمْ لِي فِي خَلْقِكُمْ شُرَكَاءُ، وَقِيلَ: مُتَحَمِّلُونَ عَنْكُمْ نَصِيبًا مِنَ الْعَذَابِ.
لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ قَرَأَ جُمْهُورُ السَّبْعَةِ بَيْنُكُمْ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ اتَّسَعَ فِي الظَّرْفِ وَأُسْنِدَ الْفِعْلُ إِلَيْهِ فَصَارَ اسْمًا كَمَا اسْتَعْمَلُوهُ اسْمًا فِي قَوْلِهِ:
وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ «١» وَكَمَا حَكَى سِيبَوَيْهِ هُوَ أَحْمَرُ بَيْنَ الْعَيْنَيْنِ وَرَجَّحَهُ الْفَارِسِيُّ أَوْ عَلَى أَنَّهُ أُرِيدَ بِالْبَيْنِ الْوَصْلُ أَيْ لَقَدْ تَقَطَّعَ وَصْلُكُمْ قَالَهُ أَبُو الْفَتْحِ وَالزَّهْرَاوِيُّ وَالْمَهْدَوِيُّ وَقَطَعَ فِيهِ ابْنُ عَطِيَّةَ وَزَعَمَ أَنَّهُ لَمْ يُسْمَعْ مِنَ الْعَرَبِ الْبَيْنُ بِمَعْنَى الْوَصْلِ وَإِنَّمَا انْتُزِعَ ذَلِكَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَوْ عَلَى أَنَّهُ أُرِيدَ بِالْبَيْنِ الِافْتِرَاقُ وَذَلِكَ مَجَازٌ عَنِ الْأَمْرِ الْبَعِيدِ، وَالْمَعْنَى: لَقَدْ تَقَطَّعَتِ الْمَسَافَةُ بَيْنَكُمْ لِطُولِهَا فَعُبِّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالْبَيْنِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ بَيْنَكُمْ بِفَتْحِ النُّونِ وَخَرَّجَهُ الْأَخْفَشُ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلٌ وَلَكِنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْفَتْحِ حَمْلًا عَلَى أَكْثَرِ أَحْوَالِ هَذَا الظَّرْفِ وَقَدْ يُقَالُ لِإِضَافَتِهِ إِلَى مَبْنِيٍّ كَقَوْلِهِ: وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ «٢» وَخَرَّجَهُ غَيْرُهُ عَلَى أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِ وَفَاعِلُ تَقَطَّعَ التَّقَطُّعُ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَعَ التَّقَطُّعُ بَيْنَكُمْ كَمَا تَقُولُ:
جَمَعَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ تُرِيدُ أَوْقَعَ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا عَلَى إِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى مَصْدَرِهِ بِهَذَا التَّأْوِيلِ انْتَهَى. وَظَاهِرُهُ لَيْسَ بِجَيِّدٍ وَتَحْرِيرُهُ أَنَّهُ أَسْنَدَ الْفِعْلَ إِلَى ضَمِيرِ مَصْدَرِهِ فَأَضْمَرَهُ فِيهِ لِأَنَّهُ إِنْ أَسْنَدَهُ إِلَى صَرِيحِ الْمَصْدَرِ، فَهُوَ مَحْذُوفٌ فَلَا يَجُوزُ حَذْفُ الْفَاعِلِ وَهُوَ مَعَ هَذَا التَّقْدِيرِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّ شَرْطَ الْإِسْنَادِ مَفْقُودٌ فِيهِ وَهُوَ تَغَايُرُ الْحُكْمِ وَالْمَحْكُومِ عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ لَا يَجُوزُ قَامَ وَلَا جَلَسَ وَأَنْتَ تُرِيدُ قَامَ هُوَ أَيِ الْقِيَامَ، وَقِيلَ: الْفَاعِلُ مُضْمَرٌ يَعُودُ عَلَى الِاتِّصَالِ الدَّالِّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: شُرَكاءُ وَلَا يُقَدَّرُ الْفَاعِلُ صَرِيحُ الْمَصَدَرِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ قَالَ: وَيَكُونُ الْفِعْلُ مُسْتَنِدًا إِلَى شَيْءٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: لَقَدْ تَقَطَّعَ الِاتِّصَالُ وَالِارْتِبَاطُ بَيْنَكُمْ أَوْ نَحْوَ هَذَا وَهَذَا وَجْهٌ وَاضِحٌ وَعَلَيْهِ فَسَّرَهُ النَّاسُ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُهُمَا انْتَهَى، وَقَوْلُهُ إِلَى شَيْءٍ مَحْذُوفٍ لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّ الْفَاعِلَ لَا يُحْذَفُ، وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَكُمْ صِفَةً لِفَاعِلٍ مَحْذُوفٍ أَيْ لَقَدْ تَقَطَّعَ شَيْءٌ بَيْنَكُمْ أَوْ وَصْلٌ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ أَيْضًا لِأَنَّ الْفَاعِلَ لَا يُحْذَفُ وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ الْمَسْأَلَةُ مِنْ بَابِ الْإِعْمَالِ تَسَلَّطَ عَلَى مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ تَقَطُّعٌ وَضَلَّ فَأُعْمِلَ الثَّانِي وَهُوَ ضَلَّ وَأُضْمِرَ فِي تَقَطَّعَ ضَمِيرُ مَا وَهُمُ الْأَصْنَامُ فَالْمَعْنَى لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ
(١) سورة فصلت: ٤١/ ٥.
(٢) سورة الجن: ٧٢/ ١١.
588
مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ وَضَلُّوا عَنْكُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ «١» أَيْ لَمْ يَبْقَ اتِّصَالٌ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ شُرَكَاءُ فَعَبَدْتُمُوهُمْ وَهَذَا إِعْرَابٌ سَهْلٌ لَمْ يَتَنَبَّهْ لَهُ أَحَدٌ، وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَمُجَاهِدٌ وَالْأَعْمَشُ مَا بَيْنَكُمْ وَالْمَعْنَى تَلِفَ وَذَهَبَ مَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ وَمَفْعُولَا تَزْعُمُونَ مَحْذُوفَانِ التَّقْدِيرُ تَزْعُمُونَهُمْ شُفَعَاءَ حُذِفَا لِلدَّلَالَةِ عَلَيْهِمَا كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
تَرَى حُبَّهُمْ عَارًا عَلَيَّ وتحسب أي وَتَحْسِبُهُ عَارًا، وَلِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيِّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ كَلَامٌ يُشْبِهُ آرَاءَ الْفَلَاسِفَةِ قَالَ فِي آخِرِهِ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَالْمَعْنَى أَنَّ الْوَصْلَةَ الْحَاصِلَةَ بَيْنَ النَّفْسِ وَالْجَسَدِ قَدِ انْقَطَعَتْ وَلَا سَبِيلَ إِلَى تَحْصِيلِهَا مَرَّةً أُخْرَى انْتَهَى. وَلَيْسَ هذا مفهوما من الآية.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٩٥ الى ١١٠]
إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٩٥) فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٩٦) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٩٧) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (٩٨) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٩٩)
وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ (١٠٠) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٠١) ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٠٢) لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٠٣) قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (١٠٤)
وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١٠٥) اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (١٠٦) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (١٠٧) وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٠٨) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (١٠٩)
وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١٠)
(١) سورة البقرة: ٢/ ١٦٦. [.....]
589
فَلَقَ الشَّيْءَ شَقَّهُ. النَّوَاةُ مَعْرُوفَةٌ وَالنَّوَى اسْمُ جِنْسٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُفْرَدِهِ تَاءُ التَّأْنِيثِ. النَّجْمُ مَعْرُوفٌ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِطُلُوعِهِ يُقَالُ نَجَمَ النَّبْتُ إِذَا طَلَعَ. الْإِنْشَاءُ الْإِيجَادُ لَا يُفِيدُ الِابْتِدَاءَ بَلْ عَلَى وَجْهِ النُّمُوِّ كَمَا يُقَالُ فِي النَّبَاتِ أَنْشَأَهُ بِمَعْنَى النُّمُوِّ وَالزِّيَادَةِ إِلَى وَقْتِ الِانْتِهَاءِ. مُسْتَوْدَعٌ مُسْتَفْعَلٌ مِنَ الْوَدِيعَةِ يَكُونُ مَصْدَرًا وَزَمَانًا وَمَكَانًا، وَالْوَدِيعَةُ مَعْرُوفَةٌ. الْخَضِرُ الْغَضُّ وَهُوَ الرَّطْبُ مِنَ الْبُقُولِ وَغَيْرِهَا، قَالَ الزَّجَّاجُ الْخَضِرُ بِمَعْنَى الْأَخْضَرِ اخْضَرَّ فَهُوَ أَخْضَرُ وَخَضِرٌ كَاعْوَرَّ فَهُوَ أَعْوَرُ وَعَوِرٌ، وَقَالَ غَيْرُهُ الْخَضِرُ النَّضَارَةُ وَلَا مَدْخَلَ لِلَّوْنِ فِيهِ وَمِنْهُ الدُّنْيَا خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ وَالْأَخْضَرُ يَغْلِبُ فِي اللَّوْنِ وَهُوَ فِي النَّضَارَةِ تَجَوُّزٌ، وَقَالَ اللَّيْثُ الْخَضِرُ فِي كِتَابِ اللَّهِ الزَّرْعُ وَفِي الْكَلَامِ كُلُّ نَبَاتٍ مِنَ الْخُضْرَةِ. تَرَاكُبُ الشَّيْءِ رَكِبَ بَعْضُهُ بَعْضًا. الطَّلْعُ أَوَّلُ مَا يَخْرُجُ مِنَ النَّخْلَةِ فِي أَكْمَامِهِ أَطْلَعَتِ النَّخْلَةُ أَخْرَجَتْ طَلْعَهَا، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَطَلْعُهَا كَعُرَاهَا قَبْلَ أَنْ يَنْشَقَّ عَنِ الْإِغْرِيضِ وَالْإِغْرِيضُ يُسَمَّى طَلْعًا وَيُقَالُ طَلَعَ يَطْلُعُ طُلُوعًا. الْقِنْوُ بِكَسْرِ الْقَافِ وَضَمِّهَا الْعِذْقُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَهُوَ الْكِبَاسَةُ وَهُوَ عُنْقُودُ النَّخْلَةِ، وَقِيلَ الْجُمَّارُ حَكَاهُ الْقُرْطُبِيُّ وَجَمْعُهُ فِي الْقِلَّةِ أَقْنَاءٌ وَفِي الْكَثْرَةِ قِنْوَانٌ بِكَسْرِ الْقَافِ فِي لُغَةِ الْحِجَازِ وَضَمِّهَا فِي
590
لُغَةِ قَيْسٍ وَبِالْيَاءِ بَدَلَ الْوَاوِ فِي لُغَةِ رَبِيعَةَ وَتَمِيمٍ بِكَسْرِ الْقَافِ وَضَمِّهَا وَيَجْتَمِعُونَ فِي الْمُفْرَدِ عَلَى قِنْوٍ، وَقُنْوٍ بِالْوَاوِ وَلَا يَقُولُونَ فِيهِ قِنْيٌ وَلَا قُنْيٌ. الزَّيْتُونُ شَجَرٌ مَعْرُوفٌ وَوَزْنُهُ فَيْعُولٌ كَقَيْصُومٍ لِقَوْلِهِمْ أَرْضٌ زَتِنَةٌ وَلِعَدَمِ فَعْلُولٍ أَوْ قِلَّتِهِ فَمَادَّتُهُ مُغَايِرَةٌ لِمَادَّةِ الزَّيْتِ. الرُّمَّانُ فُعَّالٌ كَالْحُمَّاضِ وَالْعُنَّابِ وَلَيْسَ بِفُعْلَانَ لِقَوْلِهِمْ أَرْضٌ رَمِنَةٌ. الْيَنْعُ مَصْدَرُ يَنَعَ بِفَتْحِ الْيَاءِ فِي لُغَةِ الْحِجَازِ وَبِضَمِّهَا فِي لُغَةِ بَعْضِ نَجْدٍ وكذا الينع بِضَمِّ الْيَاءِ وَالنُّونِ وَالْيُنُوعُ بِوَاوٍ بَعْدَ الضَّمَّتَيْنِ يُقَالُ يَنْعَتِ الثَّمَرَةُ إِذَا أَدْرَكَتْ وَنَضِجَتْ وَأَيْنَعَتْ أَيْضًا وَمِنْهُ قول الحجاج: أرى رؤوسا قَدْ أَيْنَعَتْ وَحَانَ قِطَافُهَا. قَالَ الْفَرَّاءُ يَنَعَ الثَّمَرُ وأينع احمرّ وَمِنْهُ فِي حَدِيثِ الْمُلَاعَنَةِ إِنْ وَلَدْتِهِ أَحْمَرَ مِثْلَ الْيَنْعَةِ وَهِيَ خَرَزَةٌ حَمْرَاءُ يُقَالُ إِنَّهَا الْعَقِيقُ أَوْ نَوْعٌ مِنْهُ، وَقِيلَ الْيَنْعُ جَمْعُ يَانِعٍ كَتَاجِرٍ وَتَجْرٍ وَصَاحِبٍ وَصَحْبٍ. خَرَقَ وَخَرَّقَ اخْتَلَقَ وَافْتَرَى. اللَّطِيفُ قَالَ ابْنُ أَعْرَابِيٍّ هُوَ الَّذِي يُوَصِّلُ إِلَيْكَ أَرَبَكَ فِي رِفْقٍ وَمِنْهُ لَطَفَ اللَّهُ بِكَ، وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ اللَّطِيفُ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى الرَّفِيقُ بِعِبَادِهِ، وَقِيلَ اللَّطِيفُ ضِدُّ الْكَثِيفِ. السَّبُّ الشَّتْمُ. الْفُؤَادُ الْقَلْبُ.
إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى الظَّاهِرُ أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى فالِقُ الْحَبِّ شَاقُّهُ فَمُخْرَجٌ مِنْهُ النَّبَاتَ وَالنَّوَى فَمُخْرَجٌ مِنْهُ الشَّجَرَ، وَالْحَبُّ وَالنَّوَى عَامَّانِ أَيْ كُلُّ حَبَّةِ وَكُلُّ نَوَاةٍ وَبِهِ قَالَ قَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُهُمْ قَالُوا: هَذِهِ إِشَارَةٌ إِلَى فِعْلِ اللَّهِ فِي أَنْ يَشُقَّ جَمِيعَ الْحَبِّ عَنْ جَمِيعِ النَّبَاتِ الَّذِي يَكُونُ مِنْهُ وَيَشُقَّ النَّوَى عَنْ جَمِيعِ الْأَشْجَارِ الْكَائِنَةِ عَنْهُ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ أَيْضًا فالِقُ بِمَعْنَى خَالِقٍ قِيلَ وَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ فِي اللُّغَةِ، وَقَالَ تَاجُ الْقُرَّاءِ:
فَطَرَ وَخَلَقَ وَفَلَقَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَأَبُو مَالِكٍ: إِشَارَةٌ فِي الشِّقِّ الَّذِي فِي حَبَّةِ الْبُرِّ وَنَوَاةِ التَّمْرِ، وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ الضَّرِيرُ: الْمَعْنَى فَالِقُ مَا فِيهِ الْحَبُّ مِنَ السُّنْبُلِ وَمَا فِيهِ النَّوَى مِنَ التمر وأما أَشْبَهَهُ، وَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ وَخَصَّهُمَا بِالذِّكْرِ لِأَنَّ جَمِيعَ مَا فِي الدُّنْيَا مِنَ الْأَبْدَالِ مِنْهُمَا فَأَضَافَ ذَلِكَ إِلَى نَفْسِهِ كَمَا أَضَافَ خَلْقَ جَمِيعِ الْبَشَرِ إِلَى نَفْسٍ وَاحِدَةٍ لِأَنَّهُمْ مِنْهَا فِي قَوْلِهِ خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ «١» فَكَأَنَّهُ قَالَ: خَالِقُ الْأَبْدَالِ كُلِّهَا انْتَهَى، وَلَمَّا كَانَ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْبَعْثِ نَبَّهَ عَلَى قُدْرَتِهِ تَعَالَى الْبَاهِرَةِ فِي شِقِّ النَّوَاةِ مَعَ صَلَابَتِهَا وَإِخْرَاجِهِ مِنْهَا نَبْتًا أَخْضَرَ لَيِّنًا إِلَى مَا بَعْدَ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْقُدْرَةِ التَّامَّةِ وَالْبَعْثِ وَالنَّشْرِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَقَرَأَ عَبْدُ الله فالِقُ الْحَبِّ جَعَلَهُ فِعْلًا مَاضِيًا.
يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذَا فِي أَوَائِلِ آلِ عِمْرَانَ وَعَطَفَ قَوْلَهُ: وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ عَلَى قَوْلِهِ: فالِقُ الْحَبِّ اسْمَ فاعل على اسم
(١) سورة النساء: ٤/ ١.
591
فَاعِلٍ وَلَمْ يَعْطِفْهُ عَلَى يَخْرُجُ لِأَنَّ قَوْلَهُ: فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى مِنْ جِنْسِ إِخْرَاجِ الْحَيِّ مِنَ الْمَيِّتِ لِأَنَّ النَّامِيَ فِي حُكْمِ الْحَيَوَانِ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها «١» فَوَقَعَ قَوْلُهُ: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ مِنْ قَوْلِهِ: فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى مَوْقِعَ الْجُمْلَةِ الْمُبَيِّنَةِ فَلِذَلِكَ عَطَفَ اسْمَ الْفَاعِلِ لَا عَلَى الْفِعْلِ وَلَمَّا كَانَ هَذَا مَفْقُودًا فِي آلِ عِمْرَانَ وَتَقَدَّمَ قَبْلَ ذَلِكَ جُمْلَتَانِ فِعْلِيَّتَانِ وَهُمَا يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ كَانَ الْعَطْفُ بِالْفِعْلِ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا وَهُوَ اسْمُ فَاعِلٍ عَلَى الْمُضَارِعِ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
بَاتَ يُغْشِيهَا بِعَضْبٍ بَاتِرٍ يُقْصَدُ فِي أَسْوُقِهَا وَجَائِرُ
ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ أَيْ ذَلِكُمُ الْمُتَّصِفُ بِالْقُدْرَةِ الْبَاهِرَةِ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ وَالْإِيمَانِ بِالْبَعْثِ إِلَى عِبَادَةِ غَيْرِهِ وَاتِّخَاذَ شَرِيكٍ مَعَهُ وَإِنْكَارِ الْبَعْثِ.
فالِقُ الْإِصْباحِ مَصْدَرٌ سُمِّيَ بِهِ الصُّبْحِ، قَالَ الشَّاعِرِ:
أَلَا أَيُّهَا اللَّيْلُ الطَّوِيلُ أَلَا انْجَلِي بِصُبْحٍ وَمَا الْإِصْبَاحُ مِنْكَ بِأَمْثَلِ
(فَإِنْ قُلْتَ) : الظُّلْمَةُ هِيَ الَّتِي تَنْفَلِقُ عَنِ الصُّبْحِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
تَفَرَّى لَيْلُ عَنْ بَيَاضِ نَهَارِ.
فَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ فَالِقُ ظُلْمَةِ الْإِصْبَاحِ وَهِيَ الْغَبَشُ الَّذِي يَلِي الصُّبْحَ أَوْ يَكُونُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَمَعْنَاهُ فالقه عن بياض النهار.
وَقَالُوا: انْصَدَعَ الْفَجْرُ وَانْشَقَّ عَمُودُ الْفَجْرِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
فَانْشَقَّ عَنْهَا عَمُودُ الصُّبْحِ جَافِلَةً عَدْوَ النَّحُوصِ تَخَافُ الْقَانِصَ اللَّحْيَا
وَسَمَّوُا الْفَجْرَ فَلَقًا بِمَعْنَى مَفْلُوقٍ أَوْ يَكُونُ الْمَعْنَى مُظْهِرُ الْإِصْبَاحِ إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْفَلَقُ مُقْتَضِيًا لِذَلِكَ الْإِظْهَارِ أَطْلَقَ عَلَى الْإِظْهَارِ فَلَقًا وَالْمُرَادُ الْمُسَبَّبُ وَهُوَ الْإِظْهَارُ، وقيل: فالِقُ الْإِصْباحِ خالق، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْإِصْبَاحُ إِضَاءَةُ الْفَجْرِ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْإِصْباحِ ضَوْءُ الشَّمْسِ بِالنَّهَارِ وَضَوْءُ الْقَمَرِ بِاللَّيْلِ، وَقَالَ اللَّيْثُ وَالْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: الصُّبْحُ وَالصَّبَاحُ وَالْإِصْبَاحُ أَوَّلُ النهار قال:
(١) سورة الروم: ٣٠/ ٥٠.
592
أَفْنَى رِيَاحًا وَبَنِي رِيَاحْ تَنَاسُخُ الْإِمْسَاءِ وَالْإِصْبَاحْ
يُرِيدُ الْمَسَاءَ وَالصَّبَاحَ وَيُرْوَى بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ جَمْعُ مَسَى وَصُبْحٍ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا:
مَعْنَاهُ خَالِقُ النَّهَارِ وَاللَّيْلِ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: شَاقُّ عَمُودِ الصُّبْحِ عَنِ الظُّلْمَةِ وَكَاشِفُهُ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَعِيسَى وَأَبُو رَجَاءٍ الْأَصْبَاحَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ جَمْعُ صُبْحٍ وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ بِنَصْبِ الْإِصْباحِ وَحَذْفِ تَنْوِينِ فالِقُ وَسِيبَوَيْهِ إِنَّمَا يَجُوزُ هَذَا فِي الشِّعْرِ نَحْوَ قَوْلِهِ:
وَلَا ذَاكِرُ اللَّهَ إِلَّا قليلا حَذْفِ التَّنْوِينِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ وَالْمُبَرِّدُ يُجَوِّزُهُ فِي الْكَلَامِ، وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ وَابْنُ وَثَّابٍ وَأَبُو حَيْوَةَ فَلَقَ الْإِصْبَاحَ فِعْلًا مَاضِيًا.
وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً لَمَّا اسْتَدَلَّ عَلَى بَاهِرِ حِكْمَتِهِ وَقُدْرَتِهِ بِدَلَالَةِ أَحْوَالِ النَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ وَذَلِكَ مِنَ الْأَحْوَالِ الْأَرْضِيَّةِ اسْتَدَلَّ أَيْضًا عَلَى ذَلِكَ بِالْأَحْوَالِ الْفَلَكِيَّةِ لِأَنَّ قَوْلَهُ فَلَقَ الصُّبْحَ أَعْظَمُ مِنْ فَلْقِ الْحَبِّ وَالنَّوَى، لِأَنَّ الْأَحْوَالَ الْفَلَكِيَّةَ أَعْظَمُ وَقْعًا فِي النُّفُوسِ مِنَ الْأَحْوَالِ الْأَرْضِيَّةِ، وَالسَّكَنُ فِعْلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ أَيِ مَسْكُونٍ إِلَيْهِ وَهُوَ مَنْ تَسْتَأْنِسُ بِهِ وَتَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ وَمِنْهُ قِيلَ لِلنَّارِ لِأَنَّهُ يُسْتَأْنَسُ بِهَا وَلِذَلِكَ يُسَمُّونَهَا الْمُؤْنِسَةَ، وَمَعْنَى أَنَّ اللَّيْلَ سَكَنٌ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَتْعَبُ نَهَارَهُ وَيَسْكُنُ فِي اللَّيْلِ وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: لِتَسْكُنُوا فِيهِ «١». وَالْحُسْبَانُ جَمْعُ حِسَابٍ كَشِهَابٍ وَشُهْبَانٍ قَالَهُ الْأَخْفَشُ أَوْ مَصْدَرُ حَسَبَ الشَّيْءَ وَالْحِسَابُ الِاسْمُ قَالَهُ يَعْقُوبُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي بِهَا عَدَدَ الْأَيَّامِ وَالشُّهُورِ وَالسِّنِينَ، وَقَالَ قَتَادَةُ: حُسْباناً ضِيَاءً انْتَهَى. قِيلَ: وَتُسَمَّى النَّارُ حُسْبَانًا وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ. قَالَ مُجَاهِدٌ:
الْمُرَادُ حُسْبَانٌ كَحُسْبَانِ الرَّحَى وَهُوَ الدُّولَابُ وَالْعُودُ الَّذِي عَلَيْهِ دَوَرَانُهُ، وَقَالَ تَاجُ الْقُرَّاءِ:
حُسْباناً أَيْ بِحِسَابٍ قَالَ تَعَالَى: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ «٢» وَالْمَعْنَى أَنَّهُ جَعَلَ سَيْرَهُمَا بِحِسَابٍ وَمِقْدَارٍ لِأَنَّ الشَّمْسَ تَقْطَعُ الْبُرُوجَ كُلَّهَا فِي ثَلَاثِمِائَةٍ وَخَمْسَةٍ وَسِتِّينَ يَوْمًا وَرُبُعِ يَوْمٍ وَتَعُودُ إِلَى مَكَانِهَا وَالْقَمَرُ يَقْطَعُهَا فِي ثَمَانِيَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَبِدَوَرَانِهِمَا يَعْرِفُ النَّاسُ حِسَابَ الْأَيَّامِ وَالشُّهُورِ وَالْأَعْوَامِ، وَقِيلَ: يَجْرِيَانِ بِحِسَابٍ وَعَدَدٍ لِبُلُوغِ نِهَايَةِ آجَالِهِمَا، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: جَعَلَهُمَا عَلَى حِسَابٍ لِأَنَّ حِسَابَ الْأَوْقَاتِ يُعْلَمُ بِدَوْرِهِمَا وَسَيْرِهِمَا، وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ وَجَعَلَ اللَّيْلَ فِعْلًا مَاضِيًا لَمَا كَانَ فالِقُ بِمَعْنَى الْمُضِيِّ حَسُنَ عَطْفُ وَجَعَلَ
(١) سورة القصص: ٢٨/ ٧٣.
(٢) سورة الرحمن: ٥٥/ ٥.
593
عَلَيْهِ وَانْتَصَبَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً عطفا على اللَّيْلَ سَكَناً، وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ وَجَاعِلُ بَاسِمِ الْفَاعِلِ مُضَافًا إِلَى اللَّيْلَ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ اسْمُ فَاعِلٍ مَاضٍ وَلَا يَعْمَلُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ فَانْتِصَابُ سَكَناً عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ أَيْ يَجْعَلُهُ سَكَنًا لَا بَاسِمَ الْفَاعِلِ هَذَا مَذْهَبُ أَبِي عَلِيٍّ فِيمَا انْتَصَبَ مَفْعُولًا ثَانِيًا بَعْدَ اسْمِ فَاعِلٍ مَاضٍ وَذَهَبَ السِّيرَافِيُّ إِلَى أَنَّهُ يَنْتَصِبُ بِاسْمِ الْفَاعِلِ وَإِنْ كَانَ مَاضِيًا لِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَتْ إِضَافَتُهُ إلى الأول لم تكن أَنْ يُضَافَ إِلَى الثَّانِي فَعَمِلَ فِيهِ النَّصْبُ وَإِنْ كان ماضيا وهذه مَسْأَلَةٌ تُذْكَرُ فِي عِلْمِ النَّحْوِ وَأَمَّا مَنْ أَجَازَ إعمال اسم الفاعل الماضي وَهُوَ الْكِسَائِيُّ وَهُشَامٌ فَسَكَنًا مَنْصُوبٌ بِهِ، وَقَرَأَ يَعْقُوبُ سَاكِنًا، قَالَ الدَّانِي:
وَلَا يَصِحُّ عَنْهُ، وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ بِجَرِّ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً عطفا على اللَّيْلَ سَكَناً وَأَمَّا قِرَاءَةُ النَّصْبِ وَهِيَ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ فَعَلَى قراءة جاعل اللَّيْلِ يَنْتَصِبَانِ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ أَيْ وَجَعَلَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ يُعْطَفَانِ عَلَى مَحَلِّ اللَّيْلِ، (فَإِنْ قُلْتَ) :
كَيْفَ يَكُونُ لِلَّيْلِ مَحَلٌّ؟ وَالْإِضَافَةُ حَقِيقَةٌ لِأَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ الْمُضَافَ إِلَيْهِ فِي مَعْنَى الْمُضِيِّ وَلَا تَقُولُ زِيدٌ ضَارِبٌ عَمْرًا أَمْسِ (قُلْتُ) : مَا هُوَ فِي مَعْنَى الْمَاضِي وَإِنَّمَا هُوَ دَالٌّ عَلَى جَعْلٍ مُسْتَمِرٍّ فِي الْأَزْمِنَةِ انْتَهَى، وَمُلَخَّصُهُ أَنَّهُ لَيْسَ اسْمَ فَاعِلٍ مَاضِيًا فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ عَامِلًا فَيَكُونُ لِلْمُضَافِ إِلَيْهِ مَوْضِعٌ مِنَ الْإِعْرَابِ، وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ الْمَاضِيَ لَا يَعْمَلَ وَأَمَّا قَوْلُهُ إِنَّمَا هُوَ دَالٌّ عَلَى جَعْلٍ مُسْتَمِرٍّ فِي الْأَزْمِنَةِ يَعْنِي فَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ عَامِلًا وَيَكُونُ لِلْمَجْرُورِ بَعْدَهُ مَوْضِعٌ مِنَ الْإِعْرَابِ فَيُعْطَفُ عَلَيْهِ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ إِذَا كَانَ لَا يَتَقَيَّدُ بِزَمَانٍ خَاصٍّ وَإِنَّمَا هُوَ لِلِاسْتِمْرَارِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ وَلَا لِمَجْرُورِهِ مَحَلٌّ وَقَدْ نَصُّوا عَلَى ذَلِكَ وَأَنْشَدُوا:
أَلْقَيْتَ كَاسِبَهَمْ فِي قَعْرٍ مَظْلَمَةٍ فَلَيْسَ الْكَاسِبُ هُنَا مُقَيَّدًا بِزَمَانٍ وَإِذَا تَقَيَّدَ بِزَمَانٍ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَاضِيًا دُونَ أَلْ فَلَا يَعْمَلُ إِذْ ذَاكَ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ أَوْ بِأَلْ أَوْ حَالًا أَوْ مُسْتَقْبَلًا فَيَجُوزُ إِعْمَالُهُ، وَالْإِضَافَةُ إِلَيْهِ عَلَى مَا أُحْكِمَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ وَفُصِّلَ وَعَلَى تَسْلِيمِ أَنْ يَكُونَ حَالًا عَلَى الِاسْتِمْرَارِ فِي الْأَزْمِنَةِ وَتَعْمَلُ فَلَا يَجُوزُ الْعَطْفُ عَلَى مَحَلِّ مَجْرُورِهِ بَلْ لَوْ كَانَ حَالًا أَوْ مُسْتَقْبَلًا لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ عَلَى الْقَوْلِ الصَّحِيحِ وَهُوَ مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ، فَلَوْ قُلْتَ: زَيْدٌ ضَارِبٌ عمرو الآن أو غدا أو خالدا لَمْ يَجُزْ أَنْ تَعْطِفَ وَخَالِدًا. عَلَى مَوْضِعِ عَمْرٍو على مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ بَلْ تُقَدِّرُهُ وَتَضْرِبُ خَالِدًا لِأَنَّ شَرْطَ الْعَطْفِ عَلَى الْمَوْضِعِ مَفْقُودٌ فِيهِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَوْضِعُ مُحْرِزًا لَا يَتَغَيَّرُ، وَهَذَا مُوَضَّحٌ فِي
594
عِلْمِ النَّحْوِ وَقُرِئَ شَاذًّا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ بِرَفْعِهِمَا عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ مَجْعُولَانِ حُسْبَانًا أَوْ مَحْسُوبَانِ حُسْبَانًا.
ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ أَيْ ذَلِكَ الْجَعْلُ أَوْ ذَلِكَ الْفَلْقُ وَالْجَعْلُ أَوْ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى جَمِيعِ الْأَخْبَارِ مِنْ قَوْلِهِ: فالِقُ الْحَبِّ إِلَى آخِرِهَا تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْغَالِبِ الَّذِي كُلُّ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ فِي تَسْخِيرِهِ وَقَهْرِهِ الْعَلِيمِ الَّذِي لَا يَعْزُبُ عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ وَلَا مِنْ غَيْرِهَا وَفِي جَعْلِ ذَلِكَ كُلِّهِ بِتَقْدِيرِهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْمُخْتَصُّ الْفَاعِلُ الْمُخْتَارُ لَا أَنَّ ذَلِكَ فِيهَا بِالطَّبْعِ وَلَا بِالْخَاصِّيَّةِ.
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ نَبَّهَ عَلَى أَعْظَمِ فَوَائِدِ خَلْقِهَا وَهِيَ الْهِدَايَةُ لِلطُّرُقِ وَالْمَسَالِكِ وَالْجِهَاتِ الَّتِي تُقْصَدُ وَالْقُبْلَةِ إِذْ حَرَكَاتُ الْكَوَاكِبِ فِي اللَّيْلِ يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى الْقِبْلَةِ كَمَا يُسْتَدَلُّ بِحَرَكَةِ الشَّمْسِ فِي النَّهَارِ عَلَيْهَا، وَالْخِطَابُ عَامٌّ لكل الناس ولِتَهْتَدُوا مُتَعَلِّقٌ بِجَعَلَ مُضْمِرَةٍ لِأَنَّهَا بَدَلٌ مِنْ لَكُمُ أَيْ جَعَلَ ذَلِكَ لِاهْتِدَائِكُمْ وجَعَلَ مَعْنَاهَا خَلَقَ فَهِيَ تَتَعَدَّى إِلَى وَاحِدٍ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى صَيَّرَ وَيُقَدَّرُ الْمَفْعُولُ الثَّانِي مِنْ لِتَهْتَدُوا أَيْ جَعَلَ لَكُمْ النُّجُومَ هِدَايَةً انْتَهَى، وَهُوَ ضَعِيفٌ لِنَدُورِ حَذْفِ أَحَدِ مَفْعُولَيْ بَابِ ظَنَّ وَأَخَوَاتِهَا وَالظَّاهِرُ أَنَّ الظُّلُمَاتِ هُنَا عَلَى ظَاهِرِهَا وَأَبْعَدَ مَنْ قَالَ: يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ الظُّلُمَاتُ هُنَا الشَّدَائِدَ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَتَّفِقُ أَنْ يُهْتَدَى فِيهَا بِهَا، وَأَضَافَ الظُّلُمَاتِ إِلَى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ لِمُلَابَسَتِهَا لَهُمَا أَوْ شَبَّهَ مُشْتَبَهَاتِ الطُّرُقِ بِالظُّلُمَاتِ وَذَكَرَ تَعَالَى النُّجُومَ فِي كِتَابِهِ لِلزِّينَةِ وَالرَّحِمِ وَالْهِدَايَةِ فَمَا سِوَى ذَلِكَ اخْتِلَاقٌ عَلَى اللَّهِ وَافْتِرَاءٌ.
قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أَيْ بَيَّنَّا وَقَسَّمْنَا وَخَصَّ مَنْ يَعْلَمُ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يَنْتَفِعُونَ بِتَفْصِيلِهَا وَأَمَّا غَيْرُهُمْ فَمُعْرِضُونَ عَنِ الْآيَاتِ وَعَنْ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا.
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَهِيَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِفَتْحِ الْقَافِ جَعَلُوهُ مَكَانًا أَيْ مَوْضِعَ اسْتِقْرَارٍ وَمَوْضِعَ اسْتِيدَاعٍ أَوْ مَصْدَرًا أَيْ فَاسْتِقْرَارٌ وَاسْتِيدَاعٌ وَلَا يَكُونُ مُسْتَقَرٌّ اسْمَ مَفْعُولٍ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَدَّى فِعْلُهُ فَيُبْنَى مِنْهُ اسْمُ مَفْعُولٍ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو بِكَسْرِ الْقَافِ اسْمَ فَاعِلٍ وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ يَكُونُ مُسْتَوْدَعٌ بِفَتْحِ الدَّالِ اسْمَ مَفْعُولٍ لَمَّا ذَكَرَ إِنْشَاءَهُمْ ذَكَرَ انْقِسَامَهُمْ إِلَى مُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ أَيْ فَمِنْكُمْ مُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ، وَرَوَى هَارُونُ الْأَعْوَرُ عَنْ أَبِي
595
عَمْرٍو وَمُسْتَوْدَعٌ بِكَسْرِ الدَّالِّ اسْمُ فَاعِلٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ جبير ومجاهد وَعَطَاءٌ وَالنَّخْعِيُّ وَالضَّحَّاكُ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ زَيْدٍ: مُسْتَقَرٌّ فِي الرَّحِمِ وَمُسْتَوْدَعٌ فِي الصُّلْبِ، وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: عَكْسَهُ قَالَ وَالْمَعْنَى فَذَكَّرَ وَأَنَّثَ عَبَّرَ عَنِ الذَّكَرِ بِالْمُسْتَقَرِّ لِأَنَّ النُّطْفَةَ إِنَّمَا تَتَوَلَّدُ فِي صُلْبِهِ وَعَبَّرَ عَنِ الْأُنْثَى بِالْمُسْتَوْدَعِ لِأَنَّ رَحِمَهَا مُسْتَوْدَعٌ لِلنُّطْفَةِ، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إِنَّ الْمُسْتَقَرَّ فِي الرَّحِمِ وَالْمُسْتَوْدَعِ فِي الْقَبْرِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُسْتَقَرُّ فِي الْأَرْضِ وَالْمُسْتَوْدَعُ فِي الْأَصْلَابِ وَعَنْهُ كِلَاهُمَا فِي الرَّحِمِ، وَعَنْهُ الْمُسْتَقَرُّ حَيْثُ يَأْوِي وَالْمُسْتَوْدَعُ حَيْثُ يَمُوتُ وَعَنْهُ الْمُسْتَقَرُّ مَنْ خُلِقَ وَالْمُسْتَوْدَعُ مَنْ لَمْ يُخْلَقْ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمُسْتَقَرُّ فِي الدُّنْيَا وَالْمُسْتَوْدَعُ عِنْدَ اللَّهِ، وَقِيلَ: كِلَاهُمَا فِي الدُّنْيَا، وَقِيلَ: الْمُسْتَقَرُّ الْجَنَّةُ وَالْمُسْتَوْدَعُ النَّارُ. وَقِيلَ: مُسْتَقَرٌّ فِي الْآخِرَةِ بِعَمَلِهِ وَمُسْتَوْدَعٌ فِي أَصْلِهِ يَنْتَقِلُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ وَمِنْ وَقْتٍ إِلَى وَقْتٍ إِلَى انْتِهَاءِ أَجَلِهِ انْتَهَى، وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّظَرُ أَنَّ الِاسْتِقْرَارَ وَالِاسْتِيدَاعَ حَالَانِ يَعْتَوِرَانِ عَلَى الْإِنْسَانِ مِنَ الظَّهْرِ إِلَى الرَّحِمِ إِلَى الدُّنْيَا إِلَى الْقَبْرِ إِلَى الْحَشْرِ إِلَى الْجَنَّةِ أَوْ إِلَى النَّارِ، وَفِي كُلِّ رُتْبَةٍ يَحْصُلُ لَهُ اسْتِقْرَارٌ وَاسْتِيدَاعٌ اسْتِقْرَارٌ بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَا قَبْلَهَا وَاسْتِيدَاعٌ بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَا بَعْدَهَا وَلَفْظُ الْوَدِيعَةِ يَقْتَضِي الِانْتِقَالَ.
قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ لَمَّا كَانَ الِاهْتِدَاءُ بِالنُّجُومِ وَاضِحًا خَتَمَهُ بِقَوْلِهِ:
يَعْلَمُونَ أَيْ مَنْ لَهُ أَدْنَى إِدْرَاكٍ يَنْتَفِعُ بِالنَّظَرِ فِي النُّجُومِ وَفَائِدَتِهَا، وَلَمَّا كَانَ الْإِنْشَاءُ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَالتَّصْرِيفُ فِي أَحْوَالٍ كَثِيرَةٍ يَحْتَاجُ إِلَى فِكْرٍ وَتَدْقِيقِ نَظَرٍ خَتَمَهُ بِقَوْلِهِ:
يَفْقَهُونَ إِذِ الْفِقْهُ هُوَ اسْتِعْمَالُ فِطْنَةٍ وَدِقَّةِ نَظَرٍ وَفِكْرٍ فَنَاسِبَ خَتْمُ كُلِّ جُمْلَةٍ بِمَا يُنَاسِبُ مَا صُدِّرَ بِهِ الْكَلَامُ.
وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ لَمَّا ذَكَرَ إِنْعَامَهُ تَعَالَى بِخَلْقِنَا ذَكَرَ إِنْعَامِهِ عَلَيْنَا بِمَا يَقُومُ بِهِ أَوَدُنَا وَمَصَالِحُنَا وَالسَّمَاءُ هُنَا السَّحَابُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَعْنِيَّ بِنَبَاتِ كُلِّ شَيْءٍ مَا يُسَمَّى نَبَاتًا فِي اللُّغَةِ وَهُوَ مَا يَنْمُو مِنَ الْحُبُوبِ وَالْفَوَاكِهِ وَالْبُقُولِ وَالْحَشَائِشِ وَالشَّجَرِ وَمَعْنَى كُلِّ شَيْءٍ مِمَّا يَنْبُتُ وَأَشَارَ إِلَى أَنَّ السَّبَبَ وَاحِدٌ وَالْمُسَبَّبَاتِ كَثِيرَةٌ كما قال تعالى: يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ «١». وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ جَمِيعُ مَا يَنْمُو مِنَ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ وَالْمَعَادِنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ يَتَغَذَّى وَيَنْمُو بِنُزُولِ الْمَاءِ مِنَ السَّمَاءِ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: مَعْنَاهُ رِزْقُ كُلِّ شيء أي ما
(١) سورة الرعد: ١٣/ ٤.
596
يَصْلُحُ غِذَاءً لِكُلِّ شَيْءٍ فَيَكُونُ كُلَّ شَيْءٍ مَخْصُوصًا بِالْمُتَغَذِّي وَيَكُونُ إِضَافَةُ النَّبَاتِ إِلَيْهِ إِضَافَةً بَيَانِيَّةً بِالْكُلِّيَّةِ، وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ السَّابِقَيْنِ تَكُونُ الْإِضَافَةُ رَاجِعَةً فِي الْمَعْنَى إِلَى إِضَافَةِ مَا يُشْبِهُ الصِّفَةَ إِلَى الْمَوْصُوفِ إِذْ يَصِيرُ الْمَعْنَى: فَأَخْرَجْنَا بِهِ كُلَّ شَيْءٍ مُنْبِتٍ وَفِي قَوْلِهِ:
فَأَخْرَجْنا الْتِفَاتٌ مِنْ غَيْبَةٍ إِلَى تَكَلُّمٍ بِنُونِ الْعَظَمَةِ.
فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً أَيْ مِنَ النَّبَاتِ غَضًّا ناضرا طريا وفَأَخْرَجْنا مَعْطُوفٌ عَلَى فَأَخْرَجْنا وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ فَأَخْرَجْنا.
نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً أَيْ مِنَ الْخَضِرِ كَالْقَمْحِ وَالشَّعِيرِ وَسَائِرِ الْقَطَانِيِّ وَمِنَ الثِّمَارِ كَالرُّمَّانِ وَالصَّنَوْبَرِ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا تَرَاكَبَ حَبُّهُ وَرَكِبَ بَعْضُهُ بعضا ونُخْرِجُ جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِخَضِرٍ أَوْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافَ إِخْبَارٍ، وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ يَخْرُجُ مِنْهُ حُبٌّ مُتَرَاكِبٌ عَلَى أَنَّهُ مَرْفُوعٌ بِيَخْرُجُ وَمُتَرَاكِبٌ صِفَةٌ فِي نَصْبِهِ وَرَفْعِهِ.
وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ أَيْ قَرِيبَةٌ مِنَ الْمُتَنَاوِلِ لِقَصْرِهَا وَلُصُوقِ عُرُوقِهَا بِالْأَرْضِ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْبَرَاءُ وَالضَّحَّاكُ وَحَسَّنَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فَقَالَ: سَهْلَةُ الْمُجْتَنَى مُعَرَّضَةٌ لِلْقَاطِفِ كَالشَّيْءِ الدَّانِي الْقَرِيبِ الْمُتَنَاوَلِ وَلِأَنَّ النَّخْلَةَ. وَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً يَنَالُهَا الْقَاعِدُ فَإِنَّهَا تَأْتِي بِالثَّمَرِ، وَقَالَ الْحَسَنُ: قَرِيبٌ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ، وَقِيلَ دانِيَةٌ مَائِلَةٌ، قِيلَ: وَذِكْرُ الدَّانِيَةَ دُونَ ذِكْرِ السَّحُوقِ لِأَنَّ النِّعْمَةَ بِهَا أَظْهَرُ أَوْ حُذِفَ السُّحُوقُ لِدَلَالَةِ الدَّانِيَةِ عَلَيْهَا كَقَوْلِهِ:
سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ «١» أَيْ وَالْبَرْدَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ قِنْوانٌ
بِكَسْرِ الْقَافِ وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَالْخَفَّافُ عَنْ أبي عمر والأعرج فِي رِوَايَةٍ بِضَمِّهَا وَرَوَاهُ السُّلَمِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ
، وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ فِي رِوَايَةٍ وَهَارُونَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو قِنْوانٌ بِفَتْحِ الْقَافِ وَخَرَّجَهُ أَبُو الْفَتْحِ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ جَمْعٍ عَلَى فَعْلَانٍ لِأَنَّ فَعْلَانًا لَيْسَ مِنْ أَبْنِيَةِ جَمْعِ التَّكْسِيرِ، وَفِي كِتَابِ ابْنِ عَطِيَّةَ روي عَنِ الْأَعْرَجِ ضَمُّ الْقَافِ عَلَى أَنَّهُ جَمْعُ قِنْوٍ بِضَمِّ الْقَافِ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: وَهِيَ لُغَةٌ قَيْسٍ وَأَهْلِ الْحِجَازِ وَالْكَسْرُ أَشْهَرُ فِي الْعَرَبِ وَقِنْوٌ عَلَى قِنْوانٌ انْتَهَى، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا نَقَلْنَاهُ فِي الْمُفْرَدَاتِ مِنْ أَنَّ لُغَةَ الْحِجَازِ قِنْوانٌ بِكَسْرِ الْقَافِ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ ومِنْ طَلْعِها بَدَلٌ مِنْ وَمِنَ النَّخْلِ والتقدير وقِنْوانٌ دانِيَةٌ كَائِنَةٌ مِنْ طَلْعِ النَّخْلِ وَأُفْرِدَ ذِكْرُ الْقِنْوَانِ وَجُرِّدَ مِنْ قَوْلِهِ: نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ نُخْرِجُ مِنْهُ خَضِرًا لِمَا فِي تَجْرِيدِهَا من عظيم
(١) سورة النحل: ١٦/ ٨١.
597
الْمِنَّةِ وَالنِّعْمَةِ، إِذْ كَانَتْ أَعْظَمَ أَوْ مِنْ أَعْظَمِ قُوتِ الْعَرَبِ وَأُبْرِزَتْ فِي صُورَةِ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ لِيَدُلَّ عَلَى الثُّبُوتِ وَالِاسْتِقْرَارِ وَأَنَّ ذَلِكَ مَفْرُوغٌ مِنْهُ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمِنَ النَّخْلِ تَقْدِيرُهُ نُخْرِجُ مِنَ النَّخْلِ وَمِنْ طَلْعِهَا قِنْوانٌ ابْتِدَاءٌ خَبَرُهُ مُقَدَّمُ وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ بتخرج انْتَهَى. وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ مَا يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ لَا تَقَعُ الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ مَفْعُولِهِ إِلَّا إِذَا كَانَ الْفِعْلُ مِمَّا يُعَلَّقُ وَكَانَتِ الْجُمْلَةُ فِيهَا مَانِعٌ مِنْ أَنْ يَعْمَلَ فِي شَيْءٍ مِنْ مُفْرَدَاتِهَا الْفِعْلُ مِنَ الْمَوَانِعِ الْمَشْرُوحَةِ في علم النحو ونُخْرِجُ لَيْسَتْ مِمَّا يُعَلِّقُ وَلَيْسَ فِي الْجُمْلَةِ مَا يَمْنَعُ مِنْ عَمَلِ الْفِعْلِ فِي شَيْءٍ مِنْ مُفْرَدَاتِهَا إِذْ لَوْ كَانَ الْفِعْلُ هُنَا مُقَدَّرًا لَتَسَلَّطَ عَلَى مَا بَعْدَهُ وَلَكَانَ التَّرْكِيبُ وَالتَّقْدِيرُ وَنُخْرِجُ مِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوَانًا دَانِيَةً بِالنَّصْبِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ مَحْذُوفًا لِدَلَالَةِ فَأَخْرَجْنا عَلَيْهِ تَقْدِيرُهُ وَمُخْرَجَةٌ مِنْ طَلْعِ النَّخْلِ قِنْوَانٌ انْتَهَى. وَلَا حَاجَةَ إِلَى هَذَا التَّقْدِيرِ إِذِ الْجُمْلَةُ مُسْتَقِلَّةٌ فِي الْإِخْبَارِ بِدُونِهِ، وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قِنْوانٌ مُبْتَدَأً وَالْخَبَرُ مِنْ طَلْعِها وَفِي مِنَ النَّخْلِ ضَمِيرٌ تَقْدِيرُهُ وَيَنْبُتُ مِنَ النَّخْلِ شَيْءٌ أَوْ ثَمَرٌ فَيَكُونُ مِنْ طَلْعِها بَدَلًا مِنْهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَرْتَفِعَ قِنْوانٌ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلٌ مِنْ طَلْعِها فَيَكُونُ فِي مِنَ النَّخْلِ ضَمِيرٌ يُفَسِّرُهُ قِنْوانٌ وَإِنْ رَفَعْتَ قِنْوانٌ بِقَوْلِهِ: مِنَ النَّخْلِ عَلَى قَوْلِ مَنْ أَعْمَلَ أَوَّلَ الْفِعْلَيْنِ جَازَ وَكَانَ فِي مِنْ طَلْعِها ضَمِيرٌ مَرْفُوعٌ انْتَهَى، وَهُوَ إِعْرَابٌ فِيهِ تَخْلِيطٌ لَا يَسُوغُ فِي الْقُرْآنِ وَمَنْ قَرَأَ يَخْرُجُ مِنْهُ حُبٌّ مُتَرَاكِبٌ جَازَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: مِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ مَعْطُوفًا عَلَيْهِ كَمَا تَقُولُ يَضْرِبُ فِي الدَّارِ زَيْدٌ، وَفِي السُّوقِ عَمْرٌو وَجَازَ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً وَخَبَرًا وَهُوَ الْأَوْجَهُ.
وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ بِكَسْرِ التَّاءِ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ نَبَاتَ وَهُوَ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ لِشَرَفِهِ وَلَمَّا جُرِّدَ النَّخْلُ جُرِّدَتْ جَنَّاتٍ الْأَعْنَابِ لِشَرَفِهِمَا، كَمَا قَالَ:
أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ «١» وَقَرَأَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي لَيْلَى وَالْأَعْمَشُ وَأَبُو بَكْرٍ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ عَنْ عَاصِمٍ وَجَنَّاتٌ بِالرَّفْعِ وَأَنْكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ حَتَّى قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: هِيَ مُحَالُّ لِأَنَّ الْجَنَّاتِ مِنَ الْأَعْنَابِ لَا تَكُونُ مِنَ النَّخْلِ وَلَا يَسُوغُ إِنْكَارُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ وَلَهَا التَّوْجِيهُ الْجَيِّدُ فِي الْعَرَبِيَّةِ وُجِّهَتْ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفُ الْخَبَرِ فَقَدَّرَهُ النَّحَّاسُ وَلَهُمْ جَنَّاتٌ وَقَدَّرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَلَكُمْ جَنَّاتٌ وَقَدَّرَهُ أَبُو الْبَقَاءِ وَمِنَ الْكَرْمِ جَنَّاتٌ وَقَدَّرَهُ وَمِنَ الْكَرْمِ لِقَوْلِهِ: وَمِنَ النَّخْلِ وَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَثَمَّ جَنَّاتٌ أَيْ مَعَ النَّخْلِ ونظيره قراءة من
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢٦٦.
598
قَرَأَ وَحُورٌ عِينٌ بِالرَّفْعِ بَعْدَ قَوْلِهِ: يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ «١» الْآيَةَ وَتَقْدِيرُهُ وَلَهُمْ حَوَرٌ وَأَجَازَ مِثْلَ هَذَا سِيبَوَيْهِ وَالْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ وَقُدِّرَ الْخَبَرُ أَيْضًا مُؤَخَّرًا تَقْدِيرُهُ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ أَخْرَجْنَاهَا وَدَلَّ عَلَى تَقْدِيرِهِ قَوْلُهُ قَبْلُ: فَأَخْرَجْنا كَمَا تَقُولُ:
أَكْرَمْتُ عَبْدَ اللَّهِ وَأَخُوهُ التَّقْدِيرُ وَأَخُوهُ أَكْرَمْتُهُ فَحُذِفَ أَكْرَمْتُهُ لِدَلَالَةِ أَكْرَمْتُ عَلَيْهِ، وَوَجَّهَهَا الطَّبَرِيُّ عَلَى أَنَّ وَجَنَّاتٍ عَطْفٌ عَلَى قِنْوانٌ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَوْلُهُ ضَعِيفٌ، وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى قِنْوانٌ لِأَنَّ الْعِنَبَ لَا يَخْرُجُ مِنَ النَّخْلِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ فِي رَفْعِهِ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفُ الْخَبَرِ تَقْدِيرُهُ وَثَمَّ جَنَّاتٌ وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ هَذَا التَّقْدِيرِ عَنْهُ، قَالَ: وَالثَّانِي أَنْ يُعْطَفَ عَلَى قِنْوانٌ عَلَى مَعْنَى وَحَاصِلُهُ أَوْ وَمَخْرَجُهُ مِنَ النَّخْلِ قِنْوَانٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ أَيْ مِنْ نَبَاتِ أَعْنَابٍ انْتَهَى، وَهَذَا الْعَطْفُ هُوَ عَلَى أَنْ لَا يُلَاحَظُ فِيهِ قَيْدُ مِنَ النَّخْلِ فَكَأَنَّهُ قَالَ مِنَ النَّخْلِ قنوان دانية جَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ حَاصِلَةٌ كَمَا تَقُولُ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ رَجُلٌ عَاقِلٌ وَرَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ مُنْطَلِقَانِ.
وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ قُرِئَ بِالنَّصْبِ إِجْمَاعًا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: عَطْفًا عَلَى حَبًّا. وَقِيلَ: عَطْفًا عَلَى نَباتَ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقُرِئَ وَجَنَّاتٍ بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ أَيْ وَأَخْرَجْنَا بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ. انْتَهَى فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى نَبَاتَ كَمَا أَنَّ وَجَنَّاتٍ مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَنْتَصِبَ عَلَى الِاخْتِصَاصِ كَقَوْلِهِ: وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ «٢» لِفَضْلِ هَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ انْتَهَى، قَالَ قَتَادَةُ: يَتَشَابَهُ فِي الْوَرَقِ وَيَتَبَايَنُ فِي الثَّمَرِ وَتَشَابُهُ الْوَرَقِ فِي الْحَجْمِ وَفِي اشْتِمَالِهِ عَلَى جَمِيعِ الْغُصْنِ، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: مُتَشَابِهًا فِي النَّظَرِ وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ فِي الطَّعْمِ مِثْلَ الرُّمَّانَتَيْنِ لَوْنُهُمَا وَاحِدٌ وَطَعْمُهُمَا مُخْتَلِفٌ، وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: جَائِزٌ أَنْ يَتَشَابَهَ فِي الثمر يتباين فِي الطَّعْمِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ تَشَابُهَ الطَّعْمِ وَتَبَايُنَ النَّظَرِ، وَهَذِهِ الْأَحْوَالُ مَوْجُودَةٌ فِي الِاعْتِبَارِ فِي أَنْوَاعِ الثَّمَرَاتِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بَعْضُهُ مُتَشَابِهٌ وَبَعْضُهُ غَيْرُ مُتَشَابِهٍ فِي الْقَدْرِ وَاللَّوْنِ وَالطَّعْمِ وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّعَمُّدَ دُونَ الْإِهْمَالِ انْتَهَى، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:
مُشْتَبِهاً وَقُرِئَ شَاذًّا مُتَشَابِهًا وَهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ كَاخْتَصَمَ وَتَخَاصَمَ وَاشْتَرَكَ وَاسْتَوَى وَتَسَاوَى وَنَحْوِهَا مِمَّا اشْتَرَكَ فِيهِ بَابُ الِافْتِعَالِ وَالتَّفَاعُلِ، وَانْتَصَبَ مُشْتَبِهاً عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مِنَ الرُّمَّانَ لِقُرْبِهِ وَحُذِفَتِ الْحَالُ مِنَ الْأَوَّلِ أَوْ حَالٌ مِنَ الْأَوَّلِ لِسَبْقِهِ فَالتَّقْدِيرُ وَالزَّيْتُونَ مشتبها وغير
(١) سورة الصافات: ٣٧/ ٤٥.
(٢) سورة النساء: ٤/ ١٦٢.
599
مُتَشَابِهٍ وَالرُّمَّانَ كَذَلِكَ هَكَذَا قَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَقَالَ كَقَوْلِهِ: كُنْتُ مِنْهُ وَوَالِدِي بَرِيئًا.
انْتَهَى.
فَعَلَى تَقْدِيرِهِ يَكُونُ تَقْدِيرُ الْبَيْتِ كُنْتُ مِنْهُ بَرِيئًا وَوَالِدِي كَذَلِكَ أَيْ بَرِيئًا وَالْبَيْتُ لَا يَتَعَيَّنُ فِيهِ مَا ذَكَرَ لِأَنَّ بَرِيئًا عَلَى وَزْنِ فَعِيلٍ كَصَدِيقٍ وَرَفِيقٍ، فَيَصِحُّ أَنْ يُخْبَرَ بِهِ عَنِ الْمُفْرَدِ وَالْمُثَنَّى وَالْمَجْمُوعِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بَرِيئًا خَبَرَ كَانَ عَلَى اشْتِرَاكِ الضَّمِيرِ، وَالظَّاهِرُ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ فِيهِ إِذْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا عَنْهُمَا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْهُمَا وَإِنْ كَانَ قَدْ أَجَازَهُ بَعْضُهُمْ إِذْ لَوْ كَانَ حَالًا مِنْهُمَا لَكَانَ التَّرْكِيبُ مُتَشَابِهِينَ وغيره مُتَشَابِهِينَ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ:
قَرَنَ الزَّيْتُونَ بِالرُّمَّانِ لِأَنَّهُمَا شَجَرَتَانِ تَعْرِفُ الْعَرَبُ أَنَّ وَرَقَهُمَا يَشْتَمِلُ عَلَى الْغُصْنِ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
بُورِكَ الْمَيِّتُ الْغَرِيبُ كَمَا بُو رِكَ نَضْجُ الرُّمَّانِ وَالزَّيْتُونِ
انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ النَّظَرُ نَظَرُ رُؤْيَةِ الْعَيْنِ وَلِذَلِكَ عَدَّاهُ بِإِلَى لَكِنْ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْفِكْرُ وَالِاعْتِبَارُ وَالِاسْتِبْصَارُ وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى قُدْرَةٍ بَاهِرَةٍ تَنْقُلُهُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، وَنَبَّهَ عَلَى حَالَيْنِ الِابْتِدَاءُ وَهُوَ وَقْتُ ابْتِدَاءِ الْإِثْمَارِ وَالِانْتِهَاءُ وَهُوَ وَقْتُ نُضْجِهِ أَيْ كَيْفَ يُخْرِجُهُ ضَئِيلًا ضَعِيفًا لَا يَكَادُ يَنْتَفِعُ بِهِ وَكَيْفَ يَعُودُ نَضِيجًا مُشْتَمِلًا عَلَى مَنَافِعَ؟ وَنَبَّهَ عَلَى هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا أَحْوَالٌ يَقَعُ بِهَا الِاعْتِبَارُ وَالِاسْتِبْصَارُ لِأَنَّهُمَا أَغْرَبُ فِي الْوُقُوعِ وَأَظْهَرُ فِي الِاسْتِدْلَالِ، وَقَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ وَمُجَاهِدٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ إِلى ثَمَرِهِ بِضَمِّ الثَّاءِ وَالْمِيمِ. قَالَ ابْنُ وَثَّابٍ: وَمُجَاهِدٌ وَهِيَ أَصْنَافُ الْأَمْوَالِ يَعْنِي الْأَمْوَالُ الَّتِي تَتَحَصَّلُ مِنْهُ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ ثَمَرَةٍ كَخَشَبَةٍ وَخُشُبٍ وَأَكَمَةٍ وَأُكُمٍ وَنَظِيرُهُ فِي الْمُعْتَلِّ لَابَةٌ وَلُوبٌ وَنَاقَةٌ وَنُوقٌ وَسَاحَةٌ وَسُوحٌ وَقَرَأَتْ فَرِقَّةٌ بِضَمِّ الثَّاءِ وَإِسْكَانِ الْمِيمِ طَلَبًا لِلْخِفَّةِ كَمَا تَقُولُ فِي الْكُتُبِ كُتْبٌ، وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ ثَمَرِهِ بِفَتْحِ الثَّاءِ وَالْمِيمِ وَهُوَ اسْمُ جِنْسٍ كَشَجَرَةٍ وشجر والثمر حتى الشَّجَرِ وَمَا يَطْلُعُ وَإِنَّ سُمِّي الشَّجَرُ ثَمَرًا فَمَجَازٌ وَالْعَامِلُ فِي إِذا انْظُرُوا وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَيَنْعِهِ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَسُكُونِ النُّونِ، وَقَرَأَ قَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ بِضَمِّ الْيَاءِ وَسُكُونِ النُّونِ، وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَالْيَمَانِيُّ وَيَانِعِهِ اسْمَ فَاعِلِ مِنْ يَنَعَ وَنَسَبَهَا الزَّمَخْشَرِيُّ إِلَى ابْنِ مُحَيْصِنٍ، وَقَالَ الْمَرْوَزِيُّ: إِذا أَثْمَرَ عِنْدَ لَا ظِلَّ لَهُ دَائِمٌ فَلَا يَنْضَجُ وَلَا شَمْسَ دَائِمَةٌ فَتُحْرِقُ أَرْسَلَ عَلَى كُلِّ فَاكِهَةٍ رِيحَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ رِيحٌ تُحَرِّكُ الْوَرَقَ فَيَبْدُو الثَّمَرُ فَتَقْرَعُهُ الشَّمْسُ وَرِيحٌ أُخْرَى تُحَرِّكُ الْوَرَقَ وَتُظِلُّ الثَّمَرَ فَلَا يَحْتَرِقُ.
600
إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ الْإِشَارَةُ بِذَلِكُمْ إِلَى جَمِيعِ مَا سَبَقَ ذِكْرُهُ مِنْ فَلْقِ الْحَبِّ وَالنَّوَى إِلَى آخِرِ مَا خَلَقَ تَعَالَى وَمَا امْتَنَّ بِهِ، وَالْآيَاتُ الْعَلَامَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ وَإِحْكَامِ صَنْعَتِهِ وَتَفَرُّدِهِ بِالْخَلْقِ دُونَ غَيْرِهِ، وَظُهُورُ الْآيَاتِ لَا يَنْفَعُ إِلَّا لِمَنْ قَدَّرَ اللَّهُ لَهُ الْإِيمَانَ فَأَمَّا مَنْ سَبَقَ قَدَرُ اللَّهِ لَهُ بِالْكُفْرِ فَإِنَّهُ لَا يَنْتَفِعُ بِهَذِهِ الْآيَاتِ. فَنَبَّهَ بِتَخْصِيصِ الْإِيمَانِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى وَانْظُرْ إِلَى حُسْنِ مَسَاقِ هَذَا التَّرْتِيبِ لِمَا تَقَدَّمَ إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى جَاءَ التَّرْتِيبُ بَعْدَ ذَلِكَ تَابِعًا لِهَذَا التَّرْتِيبِ فَحِينَ ذَكَرَ أَنَّهُ أَخْرَجَ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ ذَكَرَ الزَّرْعَ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَابْتَدَأَ بِهِ كَمَا ابْتَدَأَ بِهِ فِي قَوْلِهِ:
فالِقُ الْحَبِّ ثُمَّ ثَنَّى بِمَا لَهُ نَوَى فَقَالَ: مِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ إِلَى آخِرِهِ كَمَا ثَنَّى بِهِ فِي قَوْلِهِ: وَالنَّوى وَقَدَّمَ الزَّرْعَ عَلَى الشَّجَرِ لِأَنَّهُ غِذَاءٌ وَالثَّمَرُ فَاكِهَةٌ، وَالْغِذَاءُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْفَاكِهَةِ، وَقَدَّمَ النَّخْلَ عَلَى سَائِرِ الْفَوَاكِهِ لِأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْغِذَاءِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَرَبِ، وَقَدَّمَ الْعِنَبَ لِأَنَّهُ أَشْرَفُ الْفَوَاكِهِ وَهُوَ فِي جَمِيعِ أَطْوَارِهِ مُنْتَفَعٌ بِهِ حَنُوطٌ ثُمَّ حِصْرِمٌ ثُمَّ عِنَبٌ ثُمَّ إِنْ عُصِرَ كَانَ مِنْهُ خَلٌّ وَدِبْسٌ وَإِنْ جُفِّفَ كَانَ مِنْهُ زَبِيبٌ، وَقَدَّمَ الزَّيْتُونَ لِأَنَّهُ كَثِيرُ الْمَنْفَعَةِ فِي الْأَكْلِ وَفِيمَا يُعْصَرُ مِنْهُ مِنَ الدُّهْنِ الْعَظِيمِ النَّفْعِ فِي الْأَكْلِ وَالِاسْتِصْبَاحِ وَغَيْرِهِمَا، وَذَكَرَ الرُّمَّانَ لِعَجَبِ حَالِهِ وَغَرَابَتِهِ فَإِنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ قِشْرٍ وَشَحْمٍ وَعَجَمٍ وَمَاءٍ، فَالثَّلَاثَةُ بَارِدَةٌ يَابِسَةٌ أَرْضِيَّةٌ كَثِيفَةٌ قَابِضَةٌ عَفْصَةٌ قَوِيَّةٌ فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ، وَمَاؤُهُ بِالضِّدِّ أَلَذُّ الْأَشْرِبَةِ وَأَلْطَفُهَا وَأَقْرَبُهَا إِلَى حَيِّزِ الِاعْتِدَالِ وَفِيهِ تَقْوِيَةٌ لِلْمِزَاجِ الضَّعِيفِ غِذَاءٌ مِنْ وَجْهٍ وَدَوَاءٌ مِنْ وَجْهٍ، فَجَمَعَ تَعَالَى فِيهِ بَيْنَ الْمُتَضَادَّيْنِ الْمُتَعَانِدَيْنِ فَمَا أَبْهَرَ قُدْرَتَهُ وَأَعْجَبَ مَا خَلَقَ.
وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا اخْتَصَّ بِهِ مِنْ بَاهِرِ قُدْرَتِهِ وَمُتْقَنِ صَنْعَتِهِ وَامْتِنَانِهِ عَلَى عَالَمِ الْإِنْسَانِ بِمَا أَوْجَدَ لَهُ مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي قِوَامِ حَيَاتِهِ، وبين ذلك الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ولِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ ولِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ذَكَرَ مَا عَامَلُوا بِهِ مُنْشِئَهُمْ مِنَ الْعَدَمِ وَمُوجِدَ أَرْزَاقِهِمْ مِنْ إِشْرَاكِ غَيْرِهِ لَهُ فِي عِبَادَتِهِ، وَنِسْبَةِ مَا هُوَ مُسْتَحِيلٌ عَلَيْهِ مِنْ وَصْفِهِ بِسِمَاتِ الْحُدُوثِ مِنَ الْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: نَزَلَتْ فِي الزَّنَادِقَةِ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ خَالِقُ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَإِبْلِيسُ خَالِقُ الْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبِ وَالسِّبَاعِ وَيَقْرُبُ مِنْ هَذَا قَوْلُ الْمَجُوسِ قَالُوا: لِلْعَالَمِ صَانِعَانِ إِلَهٌ قَدِيمٌ، وَالثَّانِي: شَيْطَانٌ حَادِثٌ مِنْ فِكْرَةِ الْإِلَهِ الْقَدِيمِ، وَكَذَلِكَ الْحَائِطِيَّةُ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ بْنِ حَائِطٍ زَعَمُوا أَنَّ لِلْعَالَمِ صَانِعَيْنِ الْإِلَهُ الْقَدِيمُ وَالْآخَرُ مُحْدَثٌ خَلَقَهُ اللَّهُ أَوَّلًا ثُمَّ فَوَّضَ إِلَيْهِ تَدْبِيرَ الْعَالَمِ، وَهُوَ الَّذِي يُحَاسِبُ الْخَلْقَ فِي الْآخِرَةِ وَالضَّمِيرُ فِي وَجَعَلُوا عَائِدٌ عَلَى الْكُفَّارِ لِأَنَّهُمْ مُشْرِكُونَ وَأَهْلُ كِتَابٍ، وَقِيلَ:
601
هُوَ عَائِدٌ عَلَى عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَالنَّصَارَى قَالَتْ: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ وَالْيَهُودُ قَالُوا: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَطَوَائِفُ مِنَ الْعَرَبِ جَعَلُوا لِلَّهِ تَعَالَى بَنَاتٍ الْمَلَائِكَةَ وَبَنُو مُدْلِجٍ زَعَمُوا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى صَاهَرَ الْجِنَّ فَوَلَدَتْ لَهُ الْمَلَائِكَةَ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ مِنَ الْمَلَائِكَةِ طَائِفَةً يُسَمَّوْنَ الْجِنَّ وَإِبْلِيسُ مِنْهُمْ وَهُمْ خَدَمُ الْجَنَّةِ، وَقَالَ الْحَسَنُ: هَذِهِ الطَّوَائِفُ كُلُّهَا أَطَاعُوا الشَّيْطَانَ فِي عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَاعْتَقَدُوا الْإِلَهِيَّةَ فِيمَنْ لَيْسَتْ لَهُ، فَجَعَلُوهُمْ شُرَكَاءَ لِلَّهِ فِي الْعِبَادَةِ وَظَاهِرُ الْكَلَامِ أَنَّهُمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ أَنْفُسَهُمْ، وَمَا قَالَهُ الْحَسَنُ مُخَالِفٌ لِهَذَا الظَّاهِرِ، إِذْ ظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّ الشُّرَكَاءَ هِيَ الْأَوْثَانُ وَأَنَّهُ جَعَلَتْ طَاعَةَ الشَّيْطَانِ تَشْرِيكًا لَهُ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى إِذْ كَانَ التَّشْرِيكُ نَاشِئًا عَنْ أَمْرِهِ وَإِغْوَائِهِ وَكَذَا قَالَ إِسْمَاعِيلُ الضَّرِيرُ: أَرَادَ بِالْجِنِّ إِبْلِيسَ أَمَرَهُمْ فَأَطَاعُوهُ، وَظَاهِرُ لَفْظِ الْجِنِّ أَنَّهُمُ الَّذِينَ يَتَبَادَرُ إِلَيْهِمُ الذِّهْنُ مِنْ أَنَّهُمْ قَسِيمُ الْإِنْسِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ
«١» وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا الملائكة لقوله: ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ «٢» قَالُوا: سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ، فَالْآيَةُ مُشِيرَةٌ إِلَى الَّذِينَ جَعَلُوا الْجِنَّ شُرَكَاءَ لِلَّهِ فِي عِبَادَتِهِمْ إِيَّاهُمْ وَأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ، وَكَانَتْ طَوَائِفُ مِنَ الْعَرَبِ تَفْعَلُ ذَلِكَ وَتَسْتَجِيرُ بِجِنِّ الْأَوْدِيَةِ فِي أَسْفَارِهَا.
وَالْجُمْهُورُ عَلَى نَصْبِ الْجِنَّ وَأَعْرَبَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ مَفْعُولًا أَوَّلًا بِجَعَلُوا وَجَعَلُوا بمعنى صيروا وشُرَكاءَ مَفْعُولٌ ثَانٍ ولِلَّهِ مُتَعَلِّقٌ بِشُرَكَاءَ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ (فَإِنْ قُلْتَ) : فَمَا فَائِدَةُ التَّقْدِيمِ (قُلْتُ) : فَائِدَتُهُ اسْتِعْظَامُ أَنْ يُتَّخَذَ لِلَّهِ شَرِيكٌ مَنْ كَانَ مَلَكًا أَوْ جِنِّيًّا أَوْ إِنْسِيًّا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ قَدَّمَ اسْمَ اللَّهِ عَلَى الشُّرَكَاءِ انْتَهَى، وَأَجَازَ الْحَوْفِيُّ وَأَبُو الْبَقَاءِ فِيهِ أَنْ يَكُونَ الْجِنَّ بدلا من شُرَكاءَ ولِلَّهِ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي وشُرَكاءَ هُوَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ وَمَا أَجَازَاهُ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُ يَصِحُّ لِلْبَدَلِ أَنْ يَحِلُّ مَحَلَّ الْمُبْدَلِ مِنْهُ فَيَكُونُ الْكَلَامُ مُنْتَظِمًا لَوْ قُلْتَ وَجَعَلُوا لِلَّهِ الْجِنَّ لَمْ يَصِحَّ وَشَرْطُ الْبَدَلِ أَنْ يَكُونَ عَلَى نِيَّةِ تَكْرَارِ الْعَامِلِ عَلَى أَشْهَرِ الْقَوْلَيْنِ أَوْ مَعْمُولًا لِلْعَامِلِ فِي الْمُبْدَلِ مِنْهُ عَلَى قَوْلٍ: وَهَذَا لَا يَصِحُّ هُنَا الْبَتَّةَ كَمَا ذَكَرْنَا وَأَجَازَ الْحَوْفَيُّ أَنْ يَكُونَ شُرَكاءَ الْمَفْعُولَ الْأَوَّلَ والْجِنَّ الْمَفْعُولَ الثَّانِيَ كَمَا هُوَ تَرْتِيبُ النَّظْمِ، وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ شُرَكاءَ حَالًا وَكَانَ لَوْ تَأَخَّرَ لِلشُّرَكَاءِ وَأَحْسَنَ مِمَّا أَعْرَبُوهُ مَا سَمِعْتُ مِنْ أُسْتَاذِنَا الْعَلَّامَةِ أَبِي جَعْفَرٍ أَحْمَدَ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بن الزبير الثَّقَفِيِّ يَقُولُ فِيهِ قَالَ انْتَصَبَ الْجِنَّ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلِ جَوَابِ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ كَأَنَّهُ قِيلَ مَنْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قِيلَ: الْجِنَّ أَيْ جَعَلُوا الْجِنَّ وَيُؤَيِّدُ هذا المعنى قراءة أبي حيوة
(١) سورة الرحمن: ٥٥/ ٣٣.
(٢) سورة سبأ: ٣٤/ ٤٠.
602
وَيَزِيدَ بْنِ قُطَيْبٍ الْجِنُّ بِالرَّفْعِ عَلَى تَقْدِيرِهِمُ الْجِنَّ جَوَابًا لِمَنْ قَالَ:
مَنِ الَّذِي جَعَلُوهُ شَرِيكًا فَقِيلَ لَهُ: هُمُ الْجِنُّ وَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعْظَامِ لِمَا فَعَلُوهُ وَالِانْتِقَاصِ لِمَنْ جَعَلُوهُ شَرِيكًا لِلَّهِ. وَقَرَأَ شُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ: الْجِنُّ بِخَفْضِ النُّونِ وَرُوِّيتُ هَذِهِ عَنْ أَبِي حَيْوَةَ وَابْنِ قُطَيْبٍ أَيْضًا، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقُرِئَ عَلَى الْإِضَافَةِ الَّتِي لِلتَّبْيِينِ وَالْمَعْنَى أَشْرَكُوهُمْ فِي عِبَادَتِهِ لِأَنَّهُمْ أَطَاعُوهُمْ كَمَا يُطَاعُ اللَّهُ انْتَهَى، وَلَا يَتَّضِحُ مَعْنَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ إِذِ التَّقْدِيرُ: وَجَعَلُوا شُرَكَاءَ الْجِنَّ لِلَّهِ، وَهَذَا مَعْنَى لَا يَظْهَرُ وَالضَّمِيرُ فِي وَخَلَقَهُمْ عَائِدٌ عَلَى الْجَاعِلِينَ إِذْ هُمُ الْمُحَدَّثُ عَنْهُمْ وَهِيَ جُمْلَةً حَالِيَّةً أَيْ وَقَدْ خَلَقَهُمْ وَانْفَرَدَ بِإِيجَادِهِمْ دُونَ مَنِ اتَّخَذَهُ شَرِيكًا لَهُ وَهُمُ الْجِنُّ فَجَعَلُوا مَنْ لَمْ يَخْلُقْهُمْ شَرِيكًا لِخَالِقِهِمْ وَهَذِهِ غَايَةُ الْجَهَالَةِ، وَقِيلَ الضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى الْجِنِّ أَيْ وَاللَّهُ خَلَقَ مَنِ اتَّخَذُوهُ شَرِيكًا لَهُ فَهُمْ مُتَسَاوُونَ فِي أَنَّ الْجَاعِلَ وَالْمَجْعُولَ مَخْلُوقُونَ لِلَّهِ فَكَيْفَ يُنَاسِبُ أَنْ يُجْعَلَ بَعْضُ الْمَخْلُوقِ شَرِيكًا لِلَّهِ تَعَالَى؟ وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ وَخَلَقَهُمْ بِإِسْكَانِ اللَّامِ وَكَذَا فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ عُطِفَ عَلَى الْجِنِّ أَيْ وَجَعَلُوا خَلْقَهُمُ الَّذِي يَنْحِتُونَهُ أَصْنَامًا شُرَكَاءَ لِلَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ «١» فَالْخَلْقُ هُنَا وَاقِعٌ عَلَى الْمَعْمُولِ الْمَصْنُوعِ بِمَعْنَى الْمَخْلُوقِ، قَالَ: هُنَا مَعْنَاهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقُرِئَ وَخَلَقَهُمْ أَيِ اخْتِلَاقَهُمُ الْإِفْكَ يَعْنِي وَجَعَلُوا لِلَّهِ خَلْقَهُمْ حَيْثُ نَسَبُوا قَبَائِحَهُمْ إِلَى اللَّهِ فِي قَوْلِهِمْ وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا انْتَهَى، فَالْخَلْقُ هُنَا مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الِاخْتِلَاقِ.
وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَيِ اخْتَلَقُوا وَافْتَرَوْا، وَيُقَالُ خَرَقَ الْإِفْكَ وَخَلَقَهُ وَاخْتَلَقَهُ وَاخْتَرَقَهُ واقتلعه وافتراه وخرصه إذ كَذَبَ فِيهِ قَالَهُ الْفَرَّاءُ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ خَرَقَ الثَّوْبَ إِذَا شَقَّهُ أَيِ اشْتَقُّوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ، وَقَالَ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ وَابْنُ زَيْدٍ وَابْنُ جُرَيْجٍ: خَرَقُوا كَذَبُوا وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ: بَنِينَ إِلَى أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ فِي الْمَسِيحِ وَعُزَيْرٍ، وَبَناتٍ إِلَى قُرَيْشٍ فِي الْمَلَائِكَةِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَخَرَقُوا بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِتَخْفِيفِهَا، وَقَرَأَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَحَرَفُوا بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالْفَاءِ وَشَدَّدَ ابْنُ عُمَرَ الرَّاءَ وَخَفَّفَهَا ابن عباس بمعنى وزورا لَهُ أَوْلَادًا لِأَنَّ الْمُزَوِّرَ مُحَرِّفٌ مُغَيِّرٌ لِلْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ، وَمَعْنَى بِغَيْرِ عِلْمٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْلَمُوا حَقِيقَةَ مَا قَالُوهُ مَنْ خطاب وَصَوَابٍ، وَلَكِنْ رَمْيًا بِقَوْلٍ عَنْ عَمَى وَجَهَالَةٍ مِنْ غَيْرِ فِكْرٍ وَرَوِيَّةٍ وَفِيهِ نَصٌّ عَلَى قُبْحِ تُقَحُّمِهِمُ المجهلة وافترائهم الباطل.
(١) سورة الصافات: ٣٧/ ٩٥.
603
سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ نَزَّهَ ذَاتَهُ عَنْ تَجْوِيزِ الْمُسْتَحِيلَاتِ عَلَيْهِ وَالتَّعَالِي هُنَا هُوَ الِارْتِفَاعُ الْمَجَازِيُّ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ مُتَقَدِّسٌ فِي ذَاتِهِ عَنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ قِيلَ: وَبَيْنَ سُبْحانَهُ وَتَعالى فَرْقٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّ سُبْحَانَ مُضَافٌ إِلَيْهِ تَعَالَى فَهُوَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى مُنَزَّهٌ وتَعالى فِيهِ إِسْنَادُ التَّعَالِي إِلَيْهِ عَلَى جِهَةِ الْفَاعِلِيَّةِ فَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى صِفَاتِ الذَّاتِ سَوَاءً سَبَّحَهُ أَحَدٌ أَمْ لَمْ يُسَبِّحْهُ.
بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي الْبَقَرَةِ.
أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ أَيْ كَيْفَ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ؟ وَهَذِهِ حَالُهُ أَيْ إِنَّ الْوَلَدَ إِنَّمَا يَكُونُ مِنَ الزَّوْجَةِ وَهُوَ لَا زَوْجَةَ لَهُ وَلَا وَلَدَ، وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ: وَلَمْ يَكُنْ بِالْيَاءِ وَوُجِّهَ عَلَى أَنَّ فِيهِ ضَمِيرًا يَعُودُ عَلَى اللَّهِ أو عَلَى أَنَّ فِيهِ ضَمِيرَ الشَّأْنِ، وَالْجُمْلَةُ فِي هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فِي مَوْضِعِ خَبَرِ تَكُنْ أَوْ عَلَى ارْتِفَاعِ صاحِبَةٌ بِتَكُنْ وَذُكِرَ لِلْفَصْلِ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالْفَاعِلِ كَقَوْلِهِ:
لَقَدْ وَلَدَ الْأُخَيْطِلَ أُمُّ سَوْءٍ وَحَضَرَ لِلْقَاضِي امْرَأَةٌ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَتَذْكِيرُهَا وَأَخَوَاتِهَا مَعَ تَأْنِيثِ اسْمِهَا أَسْهَلُ مِنْ ذَلِكَ فِي سَائِرِ الْأَفْعَالِ. انْتَهَى، وَلَا أَعْرِفُ هَذَا عَنِ النَّحْوِيِّينَ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ كَانَ وَغَيْرِهَا وَالظَّاهِرُ ارْتِفَاعُ بَدِيعُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ أَيْ هُوَ بَدِيعٌ فَيَكُونُ الْكَلَامُ جُمْلَةً وَاسْتِقْلَالُ الْجُمْلَةِ بَعْدَهَا، وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ بَدِيعُ مُبْتَدَأً وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهُ خَبَرَهُ فَيَكُونُ انْتِفَاءُ الْوُلْدِيَّةِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى بِجِهَتَيْنِ:
إِحْدَاهُمَا: انْتِفَاءُ الصَّاحِبَةِ، وَالْأُخْرَى: كَوْنُهُ بَدِيعًا أَيْ عَدِيمَ الْمِثْلِ وَمُبْدِعًا لِمَا خَلَقَ وَمَنْ كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لِأَنَّ تَقْدِيرَ الْوُلْدِيَّةِ وَتَقْدِيرَ الْإِبْدَاعِ يُنَافِي الْوُلْدِيَّةِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ رَدٌّ عَلَى الْكُفَّارِ بِقِيَاسِ الْغَائِبِ عَلَى الشَّاهِدِ، وَقَرَأَ الْمَنْصُورُ: بَدِيعِ بِالْجَرِّ رَدًّا عَلَى قوله:
جَعَلُوا لِلَّهِ أَوْ عَلَى سُبْحانَهُ. وَقَرَأَ صَالِحٌ الشَّامِيُّ: بَدِيعُ بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَدْحِ.
وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ قِيلَ: هَذَا عُمُومٌ مَعْنَاهُ الْخُصُوصُ أَيْ وَخَلَقَ الْعَالَمَ فَلَا تَدْخُلُ فِيهِ صِفَاتُهُ وَلَا ذَاتُهُ كَقَوْلِهِ: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ «١» وَلَا تَسْعُ إِبْلِيسَ وَلَا مَنْ مَاتَ كَافِرًا وتدمر كُلَّ شَيْءٍ وَلَمْ تُدَمِّرِ السموات وَالْأَرْضَ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَيْسَ هُوَ عُمُومًا مُخَصَّصًا على
(١) سورة الأعراف: ٧/ ١٥٦.
604
مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ قَوْمٌ لِأَنَّ الْعُمُومَ الْمُخَصَّصَ هُوَ أَنْ يَتَنَاوَلَ الْعُمُومُ شَيْئًا ثُمَّ يُخْرِجُهُ بِالتَّخْصِيصِ، وَهَذَا لَمْ يَتَنَاوَلْ قَطُّ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَإِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِ الْإِنْسَانِ: قَتَلْتُ كُلَّ فَارِسٍ وَأَفْحَمْتُ كُلَّ خَصْمٍ فَلَمْ يَدْخُلِ الْقَاتِلُ قَطُّ فِي هَذَا الْعُمُومِ الظَّاهِرِ مِنْ لَفْظِهِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَفِيهِ إِبْطَالُ الْوَلَدِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أن مبتدع السموات وَالْأَرْضِ وَهِيَ أَجْسَامٌ عَظِيمَةٌ لَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يُوصَفَ بِالْوِلَادَةِ، لِأَنَّ الْوِلَادَةَ مِنْ صِفَاتِ الْأَجْسَامِ وَمُخْتَرِعُ الْأَجْسَامِ لَا يَكُونُ جِسْمًا حَتَّى يَكُونَ وَالِدًا، وَالثَّانِي: أَنَّ الْوِلَادَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا بَيْنَ زَوْجَيْنِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ تَعَالَى مُتَعَالٍ عَنْ مُجَانِسٍ فَلَمْ يَصِحَّ أَنْ تَكُونَ لَهُ صَاحِبَةٌ فَلَمْ تَصِحَّ الْوِلَادَةُ، وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ مَا مِنْ شَيْءٍ إِلَّا وَهُوَ خَالِقُهُ وَالْعَالِمُ بِهِ وَمَنْ كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ كَانَ غَنِيًّا عَنْ كُلِّ شَيْءٍ وَالْوَلَدُ إِنَّمَا يَطْلُبُهُ الْمُحْتَاجُ.
وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذَا عُمُومٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ، وَقَالَ التبريري: بِكُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْوَاجِبِ وَالْمُمْكِنِ وَالْمُمْتَنِعِ.
ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ أَيْ ذلِكُمُ الْمَوْصُوفُ بِتِلْكَ الْأَوْصَافِ السَّابِقَةِ مِنْ كَوْنِهِ بَدِيعًا لَمْ يَتَّخِذْ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا خَالِقَ الْمَوْجُودَاتِ عَالِمًا بِكُلِّ شَيْءٍ هُوَ اللَّهُ بَدَأَ بِالِاسْمِ الْعَلَمِ ثُمَّ قَالَ: رَبُّكُمْ أَيْ مَالِكُكُمْ وَالنَّاظِرُ فِي مَصَالِحِكُمْ، ثُمَّ حَصَرَ الْأُلُوهِيَّةَ فِيهِ ثُمَّ كَرَّرَ وَصْفَ خَلْقِهِ كُلَّ شَيْءٍ ثُمَّ أَمَرَ بِعِبَادَتِهِ لِأَنَّ مَنِ اسْتَجْمَعَتْ فِيهِ هَذِهِ الصِّفَاتُ كَانَ جَدِيرًا بِالْعِبَادَةِ وَأَنْ يُفْرَدَ بِهَا فَلَا يُتَّخَذَ مَعَهُ شَرِيكٌ، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ مَعَ تِلْكَ الصِّفَاتِ السَّابِقَةِ الَّتِي مِنْهَا خَلْقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْمَالِكُ لِكُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْأَرْزَاقِ وَالْآجَالِ رَقِيبٌ عَلَى الْأَعْمَالِ.
لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ الْإِدْرَاكُ قِيلَ مَعْنَاهُ الْإِحَاطَةُ بِالشَّيْءِ وَبِذَلِكَ فَسَّرَهُ هُنَا ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَعَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ وَابْنُ الْمُسَيِّبِ وَالزَّجَّاجُ، قَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ لَا تُحِيطُ بِهِ الْأَبْصَارُ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: لَا تُحِيطُ بِحَقِيقَتِهِ وَالْإِدْرَاكُ يَتَضَمَّنُ الْإِحَاطَةَ بِالشَّيْءِ وَالْوُصُولَ إِلَى أَعْمَاقِهِ وَحَوْزَهُ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِ أَوْ كَنَّى بِالْأَبْصَارِ عَنِ الْأَشْخَاصِ لِأَنَّ بِهَا تُدْرِكُ الْأَشْخَاصُ الْأَشْيَاءَ، وَكَانَ الْمَعْنَى لَا تُدْرِكُهُ الْخَلْقُ وَهُوَ يُدْرِكُهُمْ أَوْ يَكُونُ الْمَعْنَى إِبْصَارَ الْقَلْبِ أَيْ لَا تُدْرِكُهُ عُلُومُ الْخَلْقِ وَهُوَ يُدْرِكُ عُلُومَهُمْ وَذَوَاتَهُمْ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُحَاطٍ بِهِ وَهُوَ عَلَى هَذَا مُسْتَحِيلٌ عَلَى اللَّهِ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ وَلَا تُنَافِي الرُّؤْيَةُ انْتِفَاءَ الْإِدْرَاكِ، وَقِيلَ: الْإِدْرَاكُ هُنَا الرُّؤْيَةُ وَهِيَ مُخْتَلَفٌ فِيهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَالْمُعْتَزِلَةُ يُحِيلُونَهَا وَأَهْلُ السُّنَّةِ يُجَوِّزُونَهَا عَقْلًا
605
وَيَقُولُونَ: هِيَ وَاقِعَةٌ سَمْعًا وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ يُبْحَثُ عَنْهَا فِي عِلْمِ أُصُولِ الدِّينِ وَفِيهِ ذِكْرُ دَلَائِلِ الْفَرِيقَيْنِ مُسْتَوْفَاةٌ وَقَدْ رَأَيْتُ فِيهَا لِأَبِي جَعْفَرٍ الطُّوسِيِّ وَهُوَ مِنْ عُقَلَاءِ الْإِمَامِيَّةِ سِفْرًا كَبِيرًا يَنْصُرُ فِيهِ مَقَالَةَ أَصْحَابِهِ نُفَاةِ الرُّؤْيَةِ وَقَدِ اسْتَدَلَّ نُفَاةُ الرُّؤْيَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِمَذْهَبِهِمْ وَأُجِيبُوا بِأَنَّ الْإِدْرَاكَ غَيْرُ الرُّؤْيَةِ، وَعَلَى تَسْلِيمٍ أَنَّ الْإِدْرَاكَ هُوَ الرُّؤْيَةُ فَالْأَبْصَارُ مَخْصُوصَةٌ أَيْ أَبْصَارُ الْكُفَّارِ الَّذِينَ سَبَقَ ذِكْرَهُمْ أَوْ لَا تُدْرِكُهُ فِي الدُّنْيَا، قَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: وَالْبَصَرُ هُوَ الْجَوْهَرُ اللَّطِيفُ الَّذِي رَكَّبَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي حَاسَّةِ النَّظَرِ بِهِ تُدْرَكُ الْمُبْصَرَاتُ وَفِي قَوْلِهِ: وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْإِدْرَاكَ لَا يُرَادُ بِهِ هُنَا مُجَرَّدُ الرُّؤْيَةِ إِذْ لَوْ كَانَ مُجَرَّدَ الرُّؤْيَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَعَالَى بِذَلِكَ اخْتِصَاصٌ وَلَا تَمَدُّحٌ، لِأَنَّا نَحْنُ نَرَى الْأَبْصَارَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَعْنَى الْإِدْرَاكِ الْإِحَاطَةُ بِحَقِيقَةِ الشَّيْءِ فَهُوَ تَعَالَى لَا تُحِيطُ بِحَقِيقَتِهِ الْأَبْصَارُ وَهُوَ مُحِيطٌ بِحَقِيقَتِهَا، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْمَعْنَى أَنَّ الْأَبْصَارَ لَا تَتَعَلَّقُ بِهِ وَلَا تُدْرِكُهُ، لِأَنَّهُ مُتَعَالٍ أَنْ يَكُونَ مُبْصِرًا فِي ذَاتِهِ لِأَنَّ الْأَبْصَارَ إِنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِمَا كَانَ فِي جِهَةٍ أَصْلًا أَوْ تَابِعًا كَالْأَجْسَامِ وَالْهَيْئَاتِ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ لِلُطْفِ إِدْرَاكِهِ لِلْمُدْرَكَاتِ يُدْرِكُ تِلْكَ الْجَوَاهِرَ اللَّطِيفَةَ الَّتِي لَا يُدْرِكُهَا مُدْرِكٌ.
وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ يَلْطُفُ عَنْ أَنْ تُدْرِكَهُ الْأَبْصَارُ الْخَبِيرُ بِكُلِّ لَطِيفٍ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ لَا تَلْطُفُ عَنْ إِدْرَاكِهِ وَهَذَا مِنْ بَابِ اللَّفِّ انْتَهَى، وَهُوَ عَلَى مَذْهَبِهِ الِاعْتِزَالِيِّ وَتَظَافَرَتِ الْأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرُؤْيَةِ الْمُؤْمِنِينَ اللَّهَ فِي الْآخِرَةِ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا هَلْ رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الدُّنْيَا بِبَصَرِهِ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ؟ فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَالْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ إِلَى إِنْكَارِ ذَلِكَ، وَقَالَتْ عَائِشَةُ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ عَلَى خِلَافٍ عَنْهُمَا بِذَلِكَ، وَذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَكَعْبٌ وَالْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَأَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ إِلَى أَنَّهُ رَآهُ بِبَصَرِهِ وَعَيْنَيْ رَأْسِهِ، وَرُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَالْأَوَّلُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَشْهَرُ، وَقِيلَ: وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ مَعْنَاهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ وَخَصَّ الْأَبْصَارَ لِتَجْنِيسِ الْكَلَامِ يَعْنِي الْمُقَابَلَةَ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْخَلْقَ لَا يُدْرِكُونَ الْأَبْصَارَ أَيْ لَا يَعْرِفُونَ كَيْفِيَّةَ حَقِيقَةِ الْبَصَرِ الَّذِي صَارَ بِهِ الْإِنْسَانُ مُبْصِرًا مِنْ عَيْنَيْهِ دُونَ أَنْ يُبْصِرَ مِنْ غَيْرِهِمَا مِنْ سَائِرِ أَعْضَائِهِ: وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ:
لَطِيفٌ بِاسْتِخْرَاجِ الْأَشْيَاءِ خَبِيرٌ بِأَمَاكِنِهَا.
قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ هَذَا وَارِدٌ عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ لِقَوْلِهِ آخِرَهُ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ وَالْبَصِيرَةُ نُورُ الْقَلْبِ الَّذِي يُسْتَبْصَرُ بِهِ كَمَا أَنَّ الْبَصَرَ نُورُ الْعَيْنِ الَّذِي بِهِ تُبْصِرُ أَيْ جَاءَكُمْ مِنَ الْوَحْيِ وَالتَّنْبِيهِ بِمَا يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَمَا لَا يَجُوزُ مَا هُوَ لِلْقُلُوبِ
606
كَالْبَصَائِرِ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْبَصِيرَةُ هِيَ مَا يَنْقُبُ عَنْ تَحْصِيلِ الْعَقْلِ لِلْأَشْيَاءِ الْمَنْظُورِ فِيهَا بِالِاعْتِبَارِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: قَدْ جَاءَكُمْ فِي الْقُرْآنِ وَالْآيَاتِ طَرَائِقُ إِبْصَارِ الْحَقِّ وَالْمُعِينَةِ عَلَيْهِ وَالْبَصِيرَةُ لِلْقَلْبِ مُسْتَعَارَةٌ مِنْ إِبْصَارِ الْعَيْنِ، وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: الْبَصِيرَةُ الْحُجَّةُ الْبَيِّنَةُ الظَّاهِرَةُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ «١» بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ
«٢»، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: الْبَصَائِرُ آيَاتُ الْقُرْآنِ الَّتِي فِيهَا الْإِيضَاحُ وَالْبَيِّنَاتُ وَالتَّنْبِيهُ عَلَى مَا يَجُوزُ عَلَيْهِ وَعَلَى مَا يَسْتَحِيلُ وَإِسْنَادُ الْمَجِيءِ إِلَى الْبَصَائِرِ مَجَازٌ لِتَفْخِيمِ شأنها إذا كَانَتْ بِمَنْزِلَةِ الْغَائِبِ الْمُتَوَقَّعِ حُضُورُهُ كَمَا يُقَالُ جَاءَتِ الْعَافِيَةُ.
فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ أَيْ فَالْإِبْصَارُ لِنَفْسِهِ أَيْ نَفْعُهُ وَثَمَرَتُهُ.
وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها أَيْ فَالْعَمَى عَلَيْهَا أَيْ فَجَدْوَى الْعَمَى عَائِدٌ عَلَى نَفْسِهِ وَالْإِبْصَارُ وَالْعَمَى كِنَايَتَانِ عَنِ الْهُدَى وَالضَّلَالِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ ثَمَرَةَ الْهُدَى وَالضَّلَالِ إِنَّمَا هِيَ لِلْمُهْتَدِي وَالضَّالِّ لِأَنَّهُ تَعَالَى غَنِيٌّ عَنْ خَلْقِهِ، وَهِيَ مِنَ الْكِنَايَاتِ الْحَسَنَةِ لَمَّا ذَكَرَ الْبَصَائِرَ أَعْقَبَهَا تَعَالَى بِالْإِبْصَارِ وَالْعَمَى وَهَذِهِ مُطَابَقَةٌ، وَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فَمَنْ أَبْصَرَ الْحَقَّ وَآمَنَ فَلِنَفْسِهِ أَبْصَرَ وَإِيَّاهَا نَفَعَ وَمَنْ عَمِيَ عَنْهُ فَعَلَى نَفْسِهِ عَمِيَ وَالَّذِي قَدَّرْنَاهُ مِنَ الْمَصْدَرِ أَوْلَى وَهُوَ فَالْإِبْصَارُ وَالْعَمَى لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَحْذُوفَ يَكُونُ مُفْرَدًا لَا جُمْلَةً وَيَكُونُ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ عُمْدَةً لَا فَضْلَةً، وَفِي تَقْدِيرِهِ هُوَ الْمَحْذُوفُ جُمْلَةٌ وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ فَضْلَةٌ، وَالثَّانِي: وَهُوَ أَقْوَى وَذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ التَّقْدِيرُ فِعْلًا لَمْ تَدْخُلِ الْفَاءُ سَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ شَرْطًا أَمْ مَوْصُولَةً مُشَبَّهَةً بِالشَّرْطِ لِأَنَّ الْفِعْلَ الْمَاضِيَ إِذَا لَمْ يَكُنْ دُعَاءً وَلَا جَامِدًا وَوَقَعَ جَوَابَ شَرْطٍ أَوْ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مُشَبَّهٍ بِاسْمِ الشَّرْطِ لَمْ تَدْخُلِ الْفَاءُ فِي جَوَابِ الشَّرْطِ وَلَا فِي خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ، لَوْ قُلْتُ: مَنْ جَاءَنِي فَأَكْرَمْتُهُ لَمْ يَجُزْ بِخِلَافِ تَقْدِيرِنَا فَإِنَّهُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ الْفَاءِ وَلَا يَجُوزُ حَذْفُهَا إِلَّا فِي الشِّعْرِ وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: الْبَصِيرَةُ اسْمُ الْإِدْرَاكِ التَّامِّ الْحَاصِلِ فِي الْقَلْبِ وَالْآيَاتُ الْمُتَقَدِّمَةُ لَيْسَتْ فِي أَنْفُسِهَا بَصَائِرَ إِلَّا أَنَّهَا لِقُوَّتِهَا وَجَلَائِهَا تُوجِبُ الْبَصَائِرَ لِمَنْ عَرَفَهَا، فَلَمَّا كَانَتْ أَسْبَابًا لِحُصُولِ الْبَصَائِرِ سُمِّيَتْ بَصَائِرَ.
وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ أَيْ بِرَقِيبٍ أَحْصُرُ أَعْمَالَكُمْ أَوْ بِوَكِيلٍ آخُذُكُمْ بِالْإِيمَانِ أَوْ بِحَافِظِكُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أوبرب أُجَازِيكُمْ أَوْ بِشَاهِدٍ أَقْوَالٌ رَابِعُهَا لِلْحَسَنِ وَخَامِسُهَا لِلزَّجَّاجِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بِحَفِيظٍ أَحْفَظُ أَعْمَالَكُمْ وَأُجَازِيكُمْ عَلَيْهَا إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَاللَّهُ هُوَ الحفيظ
(١) سورة يوسف: ١٢/ ١٠٨. [.....]
(٢) سورة القيامة: ٧٥/ ١٤.
607
عَلَيْكُمْ. انْتَهَى، وَهُوَ بَسْطُ قَوْلِ الْحَسَنِ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: كَانَ قَبْلَ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ حَفِيظًا عَلَى الْعَالَمِ آخِذًا لَهُمْ بِالْإِسْلَامِ وَالسَّيْفِ.
وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ أَيْ وَمِثْلَ مَا بَيَّنَّا تِلْكَ الْآيَاتِ الَّتِي هِيَ بَصَائِرُ وَصَرَّفْنَاهَا نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَنَرْدُدُهَا عَلَى وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ.
وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ يَعْنِي أَهْلُ مَكَّةَ حِينَ يَقْرَأُ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو دَارَسْتَ أَيْ دَارَسْتَ يَا مُحَمَّدُ غَيْرَكَ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ أَيْ قَارَأْتَهُ وَنَاظَرْتَهُ إِشَارَةً مِنْهُمْ إِلَى سَلْمَانَ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَعَاجِمِ وَالْيَهُودِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَجَمَاعَةٌ مِنْ غَيْرِ السَّبْعَةِ دَرَسْتَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ مُضْمَرًا فِيهِ أَيْ دَرَسَتِ الْآيَاتُ أَيْ تَرَدَّدَتْ عَلَى أَسْمَاعِهِمْ حَتَّى بَلِيَتْ وَقَدِمَتْ فِي نفوسهم وأمحيت، وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ دَرَسْتَ يَا مُحَمَّدُ فِي الْكُتُبِ الْقَدِيمَةِ مَا تَجِيئُنَا بِهِ كَمَا قَالُوا: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها «١»، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: دَرَسْتَ قَرَأْتَ وَتَعَلَّمْتَ مِنْ أَبِي فَكِيهَةَ وَجَبْرٍ وَيَسَارٍ، وَقُرِئَ دَرَسْتَ بِالتَّشْدِيدِ وَالْخِطَابِ أَيْ دَرَّسْتَ الْكُتُبَ الْقَدِيمَةَ، وَقُرِئَ دَرَسْتَ مُشَدَّدًا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ الْمُخَاطَبِ، وَقُرِئَ دُورِسْتَ بِالتَّخْفِيفِ وَالْوَاوِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَالْوَاوُ مُبْدَلَةٌ مِنَ الْأَلْفِ فِي دَارَسْتَ، وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ دَارَسْتَ أَيْ دَارَسَتْكَ الْجَمَاعَةُ الَّذِينَ تَتَعَلَّمُ مِنْهُمْ وَجَازَ الْإِضْمَارُ، لِأَنَّ الشُّهْرَةَ بِالدِّرَاسَةِ كَانَتْ لِلْيَهُودِ عِنْدَهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ لِلْآيَاتِ وَهُوَ لِأَهْلِهَا أَيْ دَارَسَ أَهْلَ الْآيَاتِ، وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ دَرَسْتَ بِضَمِّ الرَّاءِ مُسْنَدًا إِلَى غَائِبٍ مُبَالَغَةً فِي دَرَسَتْ أَيِ اشْتَدَّ دُرُوسُهَا وَبِلَاهَا، وَقَرَأَ قَتَادَةُ وَالْحَسَنُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ دَرَسْتَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَفِيهِ ضَمِيرُ الْآيَاتِ غَائِبًا وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ بِخِلَافٍ عَنْهُ، قَالَ أَبُو الْفَتْحِ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ عُفِيَتْ أَوْ تُلِيَتْ وَكَذَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: قَالَ بِمَعْنَى قُرِئَتْ أَوْ عُفِيَتْ أَمَّا بِمَعْنَى قُرِئَتْ فَظَاهِرٌ لِأَنَّ دَرَسَ بِمَعْنَى كَرَّرَ القراء مُتَعَدٍّ وَأَمَّا دَرَسَ بِمَعْنَى بَلِيَ وَأُمْحِيَ فَلَا أَحْفَظُهُ مُتَعَدِّيًا، وَمَا وَجَدْنَاهُ فِي أَشْعَارِ مِنْ وَقَفْنَا عَلَى شِعْرِهِ مِنَ الْعَرَبِ إِلَّا لَازَمَا، وَقَرَأَ أُبَيٌّ دَرَسَ أَيْ مُحَمَّدٌ أَوِ الْكِتَابُ وَهِيَ مُصْحَفُ عَبْدِ اللَّهِ، وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ دَرَسْنَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ مُسْنَدًا إِلَى النُّونِ أَيْ دَرَسَ الْآيَاتُ وَكَذَا هِيَ فِي بَعْضِ مَصَاحِفِ عَبْدِ اللَّهِ، وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ دَرَّسْنَ بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ مُبَالَغَةً فِي دَرَسْنَ، وَقُرِئَ دَارِسَاتٌ أَيْ هِيَ قَدِيمَاتٌ أَوْ ذَاتُ دَرْسٍ كَعِيشَةٍ رَاضِيَةٍ فَهَذِهِ ثَلَاثَ عَشْرَ قِرَاءَةً فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ.
وَقَرَأَتْ طَائِفَةٌ وَلْيَقُولُوا بِسُكُونِ اللَّامِ عَلَى جِهَةِ الْأَمْرِ الْمُتَضَمِّنِ لِلتَّوْبِيخِ وَالْوَعِيدِ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِكَسْرِهَا وَقَالُوا: هَذِهِ اللَّامُ هِيَ الَّتِي تُضْمَرُ أَنْ بَعْدَهَا وَالْفِعْلُ مَنْصُوبٌ بأن
(١) سورة الفرقان: ٢٥/ ٥.
608
الْمُضْمَرَةِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: عَلَى أَنَّهَا لَامُ كَيْ وَهِيَ عَلَى هَذَا لَامُ الصَّيْرُورَةِ كَقَوْلِهِ: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً «١» أَيْ لِمَا صَارَ أَمْرُهُمْ إِلَى ذَلِكَ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
ولِيَقُولُوا جَوَابُهُ مَحْذُوفٌ تقديره وليقولوا دارست نصرفها (فَإِنْ قُلْتَ) : أَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ اللَّامَيْنِ فِي لِيَقُولُوا ولِنُبَيِّنَهُ (قُلْتُ) : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْأُولَى مَجَازٌ وَالثَّانِيَةَ حَقِيقَةٌ وَذَلِكَ أَنَّ الْآيَاتِ صُرِّفَتْ لِلتَّبْيِينِ وَلَمْ تُصَرَّفْ لِيَقُولُوا دَارَسْتَ وَلَكِنَّهُ لِأَنَّهُ حَصَلَ هَذَا الْقَوْلُ بِتَصْرِيفِ الْآيَاتِ كَمَا حَصَلَ التَّبْيِينُ شُبِّهَ بِهِ فَسِيقَ مَسَاقَهُ، وَقِيلَ لِيَقُولُوا كَمَا قِيلَ:
لِنُبَيِّنَهُ انْتَهَى، وَتَسْمِيَتُهُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ قَوْلَهُ لِيَقُولُوا جَوَابًا اصْطِلَاحٌ غَرِيبٌ وَمِثْلُ هَذَا لَا يُسَمَّى جَوَابًا لَا تَقُولُ: فِي جِئْتُ مِنْ قَوْلِكَ: جِئْتُ لِتَقُومَ أَنَّهُ جَوَابٌ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ تَخْرِيجِ لِيَقُولُوا عَلَيْهِ هُوَ الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ مَنْ أَنْكَرَ لَامَ الصَّيْرُورَةِ وَهِيَ الَّتِي تُسَمَّى أَيْضًا لَامَ الْعَاقِبَةِ وَالْمَآلِ وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا تَرَتَّبَ عَلَى الْتِقَاطِهِ كَوْنُهُ صَارَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا جُعِلَ كَأَنَّهُ عِلَّةٌ لِالْتِقَاطِهِ فَهُوَ عِلَّةٌ مَجَازِيَّةٌ، وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: وَاللَّامُ فِي لِيَقُولُوا عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ وَمَنْ وَافَقَهُ بِمَعْنَى لِئَلَّا يَقُولُوا أَيْ صُرِّفَ الْآيَاتُ وَأُحْكِمَتْ لِئَلَّا يَقُولُوا هَذِهِ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ قَدِيمَةٌ قَدْ تُلِيَتْ وَتَكَرَّرَتْ عَلَى الْأَسْمَاعِ وَاللَّامُ عَلَى سَائِرِ الْقِرَاءَاتِ لَامُ الصَّيْرُورَةِ، وَمَا أَجَازَهُ أَبُو عَلِيٍّ مِنْ إِضْمَارِ لَا بَعْدَ اللَّامِ الْمُضْمَرِ بَعْدَهَا أَنْ هُوَ مَذْهَبٌ لِبَعْضِ الْكُوفِيِّينَ، وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ لِئَلَّا يَقُولُوا كَمَا أَضْمَرُوهَا بَعْدَ أَنِ الْمُظْهِرَةِ فِي قَوْلِهِ:
أَنْ تَضِلُّوا «٢» وَلَا يُجِيزُ الْبَصْرِيُّونَ إِضْمَارَ لَا إِلَّا فِي الْقَسَمِ عَلَى مَا تَبَيَّنَ فِيهِ، وَقَدْ حَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّ اللَّامَ لَامُ كَيْ حَقِيقَةً فَقَالَ: الْمَعْنَى تَصْرِيفُ هَذِهِ الدَّلَائِلِ حَالًا بَعْدَ حَالٍ لِيَقُولَ بَعْضُهُمْ دَارَسْتَ فَيَزْدَادُوا كُفْرًا عَلَى كُفْرٍ وَتَنْبِيهٌ لِبَعْضِهِمْ فَيَزْدَادُوا إِيمَانًا على إيمان وننظيره يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ «٣» وَلَا يَتَعَيَّنُ مَا ذَكَرَهُ الْمُعْرِبُونَ وَالْمُفَسِّرُونَ مِنْ أَنَّ اللَّامَ فِي وَلِيَقُولُوا لَامُ كَيْ أَوْ لَامُ الصَّيْرُورَةِ بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّهَا لَامُ الْأَمْرِ، وَالْفِعْلُ مَجْزُومٌ بِهَا لَا مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ أَنْ وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ مَنْ سَكَّنَ اللَّامَ وَالْمَعْنَى عَلَيْهِ مُتَمَكِّنٌ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَمِثْلَ ذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا هُمْ مَا يَقُولُونَ مِنْ كَوْنِكَ دَرَسْتَهَا وَتَعَلَّمَتْهَا أَوْ دَرَسَتْ هِيَ أَيْ بَلِيَتْ وَقَدُمَتْ فَإِنَّهُ لَا يَحْفَلُ بِهِمْ وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَى قَوْلِهِمْ، وَهُوَ أَمْرٌ مَعْنَاهُ الْوَعِيدُ بِالتَّهْدِيدِ وَعَدَمِ الِاكْتِرَاثِ بِهِمْ وَبِمَا يَقُولُونَ فِي الْآيَاتِ أَيْ نُصَرِّفُهَا لِيَدَّعُوا فِيهَا مَا شاؤوا فَلَا اكْتِرَاثَ بِدَعْوَاهُمْ.
وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أَيْ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَأَعَادَ الضَّمِيرَ مُفْرَدًا قالوا على معنى
(١) سورة القصص: ٢٨/ ٨.
(٢) سورة النساء: ٤/ ٤٤، ١٧٦.
(٣) سورة البقرة: ٢/ ٢٦.
609
الْآيَاتِ لِأَنَّهَا الْقُرْآنُ كَأَنَّهُ قَالَ: وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْقُرْآنِ أَوْ عَلَى الْقُرْآنِ وَدَلَّ عَلَيْهِ الْآيَاتُ أَوْ دَرَسْتَ أَوْ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ وَلِنُبَيِّنَهُ أَيْ وَلِنُبَيِّنَ التَّبْيِينَ كَمَا تَقُولُ: ضَرَبْتُهُ زَيْدًا إِذَا أَرَدْتَ ضَرَبْتُ الضَّرْبَ زَيْدًا أَوْ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مَنْ نُصَرِّفُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لِقَوْمٍ يُرِيدُ أَوْلِيَاءَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ إِلَى سَبِيلِ الرَّشَادِ.
اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ أَمَرَهُ تَعَالَى بِأَنْ يَتَّبِعَ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ وَبِأَنْ يُعْرِضَ عَنْ مِنْ أَشْرَكَ وَالْأَمْرُ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ كَانَ قَبْلَ نَسْخِهِ بِالْقِتَالِ وَالسَّوْقِ إِلَى الدِّينِ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا، وَالْجُمْلَةُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ اعْتِرَاضٌ أَكَّدَ بِهِ وُجُوبَ اتِّبَاعِ الْمُوحَى أَوْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ الْمُؤَكِّدَةِ.
وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا أَيْ إِنَّ إِشْرَاكَهُمْ لَيْسَ فِي الْحَقِيقَةِ بِمَشِيئَتِهِمْ وَإِنَّمَا هُوَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَرُدُّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ وَيَتَأَوَّلُونَهَا عَلَى مَشِيئَةِ الْقَسْرِ وَالْإِلْجَاءِ.
وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً أَيْ رَقِيبًا تَحْفَظُهُمْ مِنَ الْإِشْرَاكِ.
وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ أَيْ بِمُسَلَّطٍ عَلَيْهِمْ وَالْجُمْلَتَانِ مُتَقَارِبَتَانِ فِي الْمَعْنَى إِلَّا أَنَّ الْأُولَى فِيهَا نَفْيُ جَعْلِ الْحِفْظِ مِنْهُ تَعَالَى لَهُ عَلَيْهِمْ. وَالثَّانِيَةُ فِيهَا نَفْيُ الْوِكَالَةِ عَلَيْهِمْ وَالْمَعْنَى أَنَّا لَمْ نُسَلِّطْكَ وَلَا أَنْتَ فِي ذَاتِكَ بِمُسَلَّطٍ فَنَاسَبَ أَنْ تُعْرِضَ عَنْهُمْ إِذْ لَسْتَ مَأْمُورًا مِنَّا بِأَنْ تَكُونَ حَفِيظًا عَلَيْهِمْ وَلَا أَنْتَ وَكِيلٌ عَلَيْهِمْ مِنْ تِلْقَائِكَ.
وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَبَبُهَا أَنَّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ قَالُوا لِأَبِي طَالِبٍ: إِمَّا أَنْ يَنْتَهِيَ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ عَنْ سَبِّ آلِهَتِنَا وَالْغَضِّ مِنْهَا وَإِمَّا أَنْ نَسُبَّ إِلَهَهُ وَنَهْجُوَهُ فَنَزَلَتْ
، وَقِيلَ: قَالُوا ذَلِكَ عِنْدَ نُزُولِ قَوْلِهِ: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ «١» وَقِيلَ: كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَسُبُّونَ آلِهَتَهُمْ فَنُهُوا لِئَلَّا يَكُونَ سَبُّهُمْ سَبَبًا لِسَبِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَحُكْمُ هَذِهِ الْآيَةَ بَاقٍ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ فَإِذَا كَانَ الْكَافِرُ فِي مَنَعَةٍ وَخِيفَ أَنْ يُسَبَّ الْإِسْلَامُ أَوِ الرَّسُولُ أَوِ اللَّهُ فَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ ذَمُّ دِينِ الْكَافِرِ وَلَا صَنَمِهِ وَلَا صَلِيبِهِ وَلَا يَتَعَرَّضُ إِلَى مَا يُؤَدِّي إِلَى ذَلِكَ، وَلَمَّا أَمَرَ تَعَالَى بِاتِّبَاعِ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ وَبِمُوَادَعَةِ الْمُشْرِكِينَ عَدَلَ عَنْ خِطَابِهِ إِلَى خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ، فَنُهُوا عَنْ سَبِّ أَصْنَامِ الْمُشْرِكِينَ وَلَمْ يُوَاجَهْ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْخِطَابِ وَإِنْ كَانَ هُوَ الَّذِي سُبَّتِ الْأَصْنَامُ عَلَى لِسَانِهِ وَأَصْحَابُهُ تابعون له في
(١) سورة الأنبياء: ٢١/ ٩٨.
610
ذَلِكَ لِمَا فِي مُوَاجَهَتِهِ وَحْدَهُ بِالنَّهْيِ مِنْ خِلَافَ مَا كَانَ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الْأَخْلَاقِ الْكَرِيمَةِ، إِذْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَحَّاشًا وَلَا صَخَّابًا وَلَا سَبَّابًا فَلِذَلِكَ جَاءَ الْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ فَقِيلَ: وَلا تَسُبُّوا وَلَمْ يَكُنِ التَّرْكِيبُ وَلَا تَسُبَّ كَمَا جَاءَ وَأَعْرِضْ وَإِذَا كَانَتِ الطَّاعَةُ تُؤَدِّي إِلَى مَفْسَدَةٍ خَرَجَتْ عَنْ أَنْ تَكُونَ طَاعَةً فَيَجِبُ النَّهْيُ عَنْهَا كَمَا يُنْهَى عَنِ المعصية.
والَّذِينَ يَدْعُونَ هُمُ الْأَصْنَامُ أَيْ يَدْعُونَهُمُ الْمُشْرِكُونَ وَعَبَّرَ عَنِ الْأَصْنَامِ وَهِيَ لَا تَعْقِلُ بِالَّذِينِ كَمَا يُعَبَّرُ عَنِ الْعَاقِلِ عَلَى مُعَامَلَةِ مَا لَا يَعْقِلُ مُعَامَلَةَ مَنْ يَعْقِلُ، إِذْ كَانُوا يُنْزِلُونَهُمْ مَنْزِلَةَ مَنْ يَعْقِلُ فِي عِبَادَتِهِمْ وَاعْتِقَادِهِمْ فِيهِمْ أَنَّهُمْ شُفَعَاءُ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِ الَّذِينَ يَدْعُونَ الْكُفَّارُ وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: فَيَسُبُّوا اللَّهَ أَنَّهُمْ يُقْدِمُونَ عَلَى سب الله إذا سبت آلِهَتَهُمْ وَإِنْ كَانُوا مُعْتَرِفِينَ بِاللَّهِ تَعَالَى، لَكِنْ يَحْمِلُهُمْ عَلَى ذَلِكَ انْتِصَارُهُمْ لِآلِهَتِهِمْ وَشَدَّةُ غَيْظِهِمْ لِأَجْلِهَا فَيَخْرُجُونَ عَنْ الِاعْتِدَالِ إِلَى مَا يُنَافِي الْعَقْلَ كَمَا يَقَعُ مِنْ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ إِذَا اشْتَدَّ غَضَبُهُ وَانْحَرَفَ فَإِنَّهُ قَدْ يَلْفِظُ بِمَا يُؤَدِّي إِلَى الْكُفْرِ نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ، وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: رُبَّمَا كَانَ بَعْضُهُمْ قَائِلًا بِالدَّهْرِ وَنَفْيِ الصَّانِعِ فَكَانَ يَأْتِي بِهَذَا النَّوْعِ مِنَ الشَّنَاعَةِ أَوْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَسُبُّونَ الْأَصْنَامَ وَهُمْ كَانُوا يَسُبُّونَ الرَّسُولَ فَأُجْرِيَ سَبُّ الرَّسُولِ مُجْرَى سَبِّ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا قَالَ: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ «١» وَكَمَا قَالَ: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ «٢» أَوْ كَانَ بَعْضُ الْكَفَرَةِ يَعْتَقِدُ أَنْ شَيْطَانًا يَحْمِلُ الرَّسُولَ عَلَى ادِّعَاءِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ وَكَانُوا بِجَهْلِهِمْ يَشْتُمُونَ ذَلِكَ الشَّيْطَانَ بِأَنَّهُ إِلَهُ مُحَمَّدٍ، انْتَهَى. وَهَذِهِ احْتِمَالَاتٌ مُخَالِفَةٌ لِلظَّاهِرِ وَإِنَّمَا أَوْرَدَهَا لِأَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ الْمُعْتَرِفِينَ بِوُجُودِ الصَّانِعِ لَا يَجْسُرُونَ أَنْ يُقْدِمُوا عَلَى سَبِّهِ تَعَالَى، وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا يُحْمَلُ عَلَى حَمَلَ الْكَلَامَ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَقَالَ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ: بِمَعْنَى خَاطِبُوهُمْ بِلِسَانِ الْحُجَّةِ وَإِلْزَامِ الدَّلِيلِ وَلَا تُكَلِّمُوهُمْ عَلَى نَوَازِعِ النَّفْسِ وَالْعَادَةِ وفَيَسُبُّوا مَنْصُوبٌ عَلَى جَوَابِ النَّهْيِ، وَقِيلَ: هُوَ مَجْزُومٌ عَلَى الْعَطْفِ كَقَوْلِكَ: لَا تَمْدُدْهَا فتشققها، وعَدْواً مَصْدَرُ عَدَا وَكَذَا عَدَوَ وَعُدْوَانٍ بِمَعْنَى اعْتَدَى أَيْ ظَلَمَ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو رَجَاءٍ وَقَتَادَةُ وَيَعْقُوبُ وَسَلَّامٌ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَالدَّالِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ وَهُوَ مَصْدَرٌ لِعَدَا كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَجَوَّزُوا فِيهِمَا انْتِصَابَهُمَا عَلَى الْمَصْدَرِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَوْ عَلَى الْمَصْدَرِ مِنْ غَيْرِ لَفْظِ الْفِعْلِ لِأَنَّ سَبَّ اللَّهِ عُدْوَانٌ أَوْ عَلَى الْمَفْعُولِ لَهُ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَرَأَ بَعْضُ الْمَكِّيِّينَ وَعَيَّنَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فَقَالَ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ: بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَضَمِّ الدَّالِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ أَيْ أَعْدَاءً وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ الْمُؤَكِّدَةِ وَعَدُوٌّ يُخْبَرُ به عن الجمع
(١) سورة الفتح: ٤٨/ ١٠.
(٢) سورة الأحزاب: ٣٣/ ٥٧.
611
كَمَا قَالَ: هُمُ الْعَدُوُّ «١»، وَمَعْنَى بِغَيْرِ عِلْمٍ عَلَى جَهَالَةٍ بِمَا يَجِبُ لِلَّهِ تَعَالَى أَنْ يُذْكَرَ بِهِ وَهُوَ بَيَانٌ لِمَعْنَى الِاعْتِدَاءِ.
كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ أَيْ مِثْلَ تَزْيِينِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ لِلْمُشْرِكِينَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ وَظَاهِرُ لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ لعموم فِي الْأُمَمِ وَفِي الْعَمَلِ فِيهِ فَيَدْخُلُ فِيهِ الْمُؤْمِنُونَ وَالْكَافِرُونَ وَتَزْيِينُهُ هُوَ مَا يَخْلُقُهُ وَيَخْتَرِعُهُ فِي النُّفُوسِ مِنَ الْمَحَبَّةِ لِلْخَيْرِ أَوِ الشَّرِّ وَالِاتِّبَاعِ لِطُرُقِهِ، وَتَزْيِينُ الشَّيْطَانِ هُوَ مَا يَقْذِفُهُ فِي النُّفُوسِ مِنَ الْوَسْوَسَةِ وَخَطَرَاتِ السُّوءِ، وَخَصَّ الزَّمَخْشَرِيُّ لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ فَقَالَ: مِنْ أُمَمِ الْكُفَّارِ سُوءُ عَمَلِهِمْ أَيْ خَلَّيْنَاهُمْ وَشَأْنَهُمْ وَلَمْ نَكُفُّهُمْ حَتَّى حَسُنَ عِنْدَهُمْ سُوءُ عَمَلِهِمْ، وَأَمْهَلْنَا الشَّيْطَانَ حَتَّى زَيَّنَ لَهُمْ أَوْ زَيَّنَّاهُ فِي زَعْمِهِمْ وَقَوْلِهِمْ: إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنَا بِهَذَا وَزَيَّنَهُ لَنَا انْتَهَى، وَهُوَ عَلَى طَرِيقَتِهِ الِاعْتِزَالِيَّةِ، وَقَالَ الْحَسَنُ:
أَيْ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ الْعَمَلَ الَّذِي أَوْجَبْنَاهُ عَلَيْهِمْ فَجَعَلَ زَيَّنَّا بمعنى شرعنا ولِكُلِّ أُمَّةٍ عَامٌّ وَالْعَمَلُ خَاصٌّ بِمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَنْكَرَ هَذَا الزَّجَّاجُ وَقَالَ: هُوَ بِمَعْنَى طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: فَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ «٢» انْتَهَى. وَمَا فَسَّرَ بِهِ الْحَسَنُ قَدْ أَوْضَحَهُ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ فَقَالَ: الْمُرَادُ بِتَزْيِينِ الْعَمَلِ تَزْيِينُ الْمَأْمُورِ بِهِ لَا الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَيُحْمَلُ عَلَى الْخُصُوصِ وَإِنْ كَانَ عَامًّا لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إِلَى تَنَاقُضِ النُّصُوصِ لِأَنَّهُ نُصَّ عَلَى تَزْيِينِ اللَّهِ لِلْإِيمَانِ وَتَكْرِيهِهِ لِلْكُفْرِ فِي قَوْلِهِ: حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ «٣» فَلَوْ دَخَلَ تَزْيِينُ الْكُفْرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي الْمُرَادِ لَوَجَبَ التَّنَاقُضُ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ وَلِذَلِكَ أَضَافَ التَّزْيِينَ إِلَى الشَّيْطَانِ بِقَوْلِهِ: زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ «٤» فَلَا يَكُونُ اللَّهُ مُزَيِّنًا مَا زَيَّنَهُ الشَّيْطَانُ فَنَقُولُ: اللَّهُ يُزَيِّنُ مَا يَأْمُرُ بِهِ وَالشَّيْطَانُ يُزَيِّنُ مَا يَنْهَى عَنْهُ حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ عَمَلًا بِجَمِيعِ النُّصُوصِ انْتَهَى، وَأُجِيبَ بِأَنْ لَا تَنَاقُضَ لِاخْتِلَافِ التَّزْيِينِ تَزْيِينِ اللَّهِ بِالْخَلْقِ لِلشَّهَوَاتِ وَتَزْيِينِ الشَّيْطَانِ بِالدُّعَاءِ إِلَى الْمَعَاصِي فَالْآيَةُ عَلَى عُمُومِهَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ وَفِي عَمَلِهِمْ.
ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أَيْ أَمْرُهُمْ مُفَوَّضٌ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ عَالِمٌ بِأَحْوَالِهِمْ مُطَّلِعٌ عَلَى ضَمَائِرِهِمْ وَمُنْقَلَبُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَيْهِ فَيُجَازَى كُلٌّ بِمُقْتَضَى عَمَلِهِ وَفِي ذَلِكَ وَعْدٌ جميل للمحسن ووعيد للمسيء.
(١) سورة المنافقون: ٦٣/ ٤.
(٢) سورة فاطر: ٣٥/ ٨.
(٣) سورة الحجرات: ٤٩/ ٧.
(٤) سورة النمل: ٢٧/ ٢٤.
612
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها أَيْ آيَةٌ مِنِ اقْتِرَاحِهِمْ نَحْوَ قَوْلِهِمْ حَتَّى تُنَزِّلَ إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ «١»
أَنْزِلْهَا عَلَيْنَا حَتَّى نُؤْمِنَ بِهَا فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْزِلْهَا عَلَيْهِمْ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ
أَوْ نَحْوَ
قَوْلِهِمْ يَجْعَلُ الصَّفَا ذَهَبًا حَتَّى ذَكَرُوا مُعْجِزَةَ مُوسَى فِي الْحَجَرِ وَعِيسَى فِي إِحْيَاءِ الْمَوْتَى وَصَالِحٍ فِي النَّاقَةِ فَقَامَ الرَّسُولُ يَدْعُو فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ لَهُ: إِنْ شِئْتَ أَصْبَحَ الصَّفَا ذَهَبًا فَإِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا هَلَكُوا عَنْ آخِرِهِمْ مُعَاجَلَةً كَمَا فُعِلَ بِالْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ، إِذْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِالْآيَاتِ الْمُقْتَرَحَةِ وَإِنْ شِئْتَ تَرَكْتَهُمْ حَتَّى يَتُوبَ تَائِبُهُمْ فَقَالَ: بَلْ حَتَّى يَتُوبَ تَائِبُهُمْ
، وَإِنَّمَا اقْتَرَحُوا آيَةً مُعَيَّنَةً لِأَنَّهُمْ شَكُّوا فِي الْقُرْآنِ وَلِهَذَا قَالُوا: دَارَسْتَ أَيِ الْعُلَمَاءَ وَبَاحَثْتَ أَهْلَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَكَابَرَ أَكْثَرُهُمْ وَعَانَدَ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ حَلَفُوا غَايَةَ حَلِفِهِمْ وَسُمِّيَ الْحَلِفُ قَسَمًا لِأَنَّهُ يَكُونُ عِنْدَ انْقِسَامِ النَّاسِ إِلَى التَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ فَكَأَنَّهُ يُقَوِّي الْقِسْمَ الَّذِي يَخْتَارُهُ، قَالَ التِّبْرِيزِيُّ: الْإِقْسَامُ إِفْعَالٌ مِنَ الْقَسَمِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى النَّصِيبِ وَالْقِسْمَةِ، وَكَانَ إِقْسَامُهُمْ بِاللَّهِ غَايَةً فِي الْحَلِفِ وَكَانُوا يُقْسِمُونَ بِآبَائِهِمْ وَآلِهَتِهِمْ فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ عَظِيمًا أَقْسَمُوا بِاللَّهِ تَعَالَى، وَالْجَهْدُ: بِفَتْحِ الْجِيمِ الْمَشَقَّةُ وَبِضَمِّهَا الطَّاقَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَانْتَصَبَ جَهْدَ على المصدر المنصوب بأقسموا أَيْ أَقْسَمُوا جَهْدَ إِقْسَامَاتِهِمْ وَالْأَيْمَانُ بِمَعْنَى الْإِقْسَامَاتِ كَمَا تَقُولُ: ضَرَبْتُهُ أَشَدَّ الضَّرَبَاتِ، وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي أَقْسَمُوا أَيْ مُجْتَهِدِينَ فِي أَيْمَانِهِمْ، وَقَالَ الْمُبَرِّدَ: مَصْدَرٌ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مِنْ لَفْظِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى جَهْدَ أَيْمانِهِمْ فِي المائدة، ولئن جَاءَتْهُمْ إِخْبَارٌ عَنْهُمْ لَا حِكَايَةٌ لِقَوْلِهِمْ إِذْ لَوْ حُكِيَ قَوْلُهُمْ لَكَانَ لَئِنْ جاءتنا آية وتعامل الْإِخْبَارَ عَنِ الْقَسَمِ مُعَامَلَةَ حِكَايَةِ الْقَسَمِ بِلَفْظِ مَا نَطَقَ بِهِ الْمُقْسِمُ، وَأَنَّهُ لَا يُرَادُ بِهَا مُطْلَقُ آيَةٍ إِذْ قَدْ جَاءَتْهُمْ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ وَلَكِنَّهُمْ أَرَادُوا آيَةً مُقْتَرَحَةً كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ لَيُؤْمِنُنَّ بِها مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَبِالنُّونِ الْخَفِيفَةِ.
قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ هَذَا أَمَرٌ بِالرَّدِّ عَلَيْهِمْ وَأَنَّ مَجِيءَ الْآيَاتِ لَيْسَ لِي إِنَّمَا ذَلِكَ لِلَّهِ تَعَالَى وَهُوَ الْقَادِرُ عَلَيْهَا يُنَزِّلُهَا عَلَى وَجْهِ الْمَصْلَحَةِ كَيْفَ شَاءَ لِحِكْمَتِهِ وَلَيْسَتْ عِنْدِي فَتُقْتَرَحُ عَلَيَّ.
وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ ما اسْتِفْهَامِيَّةٌ وَيَعُودُ عَلَيْهَا ضَمِيرُ الفاعل في
(١) سورة الشعراء: ٢٦/ ٤.
613
يُشْعِرُكُمْ، وَقَرَأَ قَوْمٌ بِسُكُونِ ضَمَّةِ الرَّاءِ، وَقُرِئَ بِاخْتِلَاسِهَا وَأَمَّا الْخِطَابُ فَقَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ زَيْدٍ: هُوَ لِلْكُفَّارِ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُ: الْمُخَاطَبُ بِهَا الْمُؤْمِنُونَ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَالْعَلِيمِيُّ وَالْأَعْشَى عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ دَاوُدَ الْإِيَادِيِّ أَنَّهَا بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِفَتْحِهَا، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ لَا تُؤْمِنُونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ، وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ فَتَرَتَّبَتْ أَرْبَعُ قِرَاءَاتٍ الْأُولَى كَسْرُ الْهَمْزَةِ وَالْيَاءِ وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ كَثِيرٍ وَأَبِي عَمْرٍو وَأَبِي بَكْرٍ بِخِلَافٍ عَنْهُ فِي كَسْرِ الْهَمْزَةِ وَهَذِهِ قِرَاءَةٌ وَاضِحَةٌ، أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ الْبَتَّةَ عَلَى تَقْدِيرِ مَجِيءِ الْآيَةِ وَتَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَما يُشْعِرُكُمْ وَمُتَعَلَّقُ يُشْعِرُكُمْ مَحْذُوفٌ أَيْ وَما يُشْعِرُكُمْ مَا يَكُونُ فَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ لِلْكُفَّارِ كَانَ التَّقْدِيرُ وَما يُشْعِرُكُمْ مَا يَكُونُ مِنْكُمْ ثُمَّ أَخْبَرَ عَلَى جِهَةِ الِالْتِفَاتِ بِمَا عَلِمَهُ مِنْ حَالِهِمْ لَوْ جَاءَتْهُمُ الْآيَاتُ وَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ كَانَ التَّقْدِيرُ وَما يُشْعِرُكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ مَا يَكُونُ مِنْهُمْ، ثُمَّ أَخْبَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِعِلْمِهِ فِيهِمْ، الْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ كَسْرُ الْهَمْزَةِ وَالتَّاءُ وَهِيَ رِوَايَةُ الْعَلِيمِيِّ وَالْأَعْشَى عَنْ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَالْمُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِلْكُفَّارِ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَمَا يُدْرِيكُمْ أَيُّهَا الْكُفَّارُ مَا يَكُونُ مِنْكُمْ ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ عَلَى جِهَةِ الْجَزْمِ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ عَلَى تَقْدِيرِ مَجِيئِهَا وَيَبْعُدُ جِدًّا أَنْ يَكُونَ الخطاب في وَما يُشْعِرُكُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ وَفِي لَا تُؤْمِنُونَ لِلْكُفَّارِ، الْقِرَاءَةُ الثَّالِثَةُ فَتْحُ الْهَمْزَةِ وَالتَّاءُ وَهِيَ قِرَاءَةُ نَافِعٍ وَالْكِسَائِيِّ وَحَفْصٍ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْخِطَابَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمَعْنَى وَمَا يُدْرِيكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي تَقْتَرِحُونَهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا يَعْنِي أَنَا أَعْلَمُ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ وَأَنْتُمْ لَا تَدْرُونَ بِذَلِكَ، وَكَانَ الْمُؤْمِنُونَ يَطْمَعُونَ فِي إِيمَانِهِمْ إِذَا جَاءَتْ تِلْكَ الْآيَةُ، وَيَتَمَنَّوْنَ مَجِيئَهَا فَقَالَ:
وَمَا يُدْرِيكُمْ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ عَلَى مَعْنَى أَنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ مَا سَبَقَ عِلْمِي بِهِ مِنْ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَيَبْعُدُ جِدًّا أَنْ يَكُونَ الخطاب فِي وَما يُشْعِرُكُمْ لِلْكُفَّارِ وأن فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ مَصْدَرِيَّةٌ وَلَا عَلَى مَعْنَاهَا مِنَ النَّفْيِ، وَجَعَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ هُنَا بِمَعْنَى لَعَلَّ وَحُكِيَ مِنْ كَلَامِهِمْ ذَلِكَ قَالُوا: إِيتِ السُّوقَ إِنَّكَ تشتري لحماير بدون لَعَلَّكَ، وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
عُوجَا عَلَى الطَّلَلِ الْمُحِيلِ لِأَنَّنَا نَبْكِي الدِّيَارَ كَمَا بَكَى ابْنُ حَرَامِ
وَذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُهُ ولعل تَأْتِي كَثِيرًا فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ قَالَ تَعَالَى: وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى «١» وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ «٢» وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ وما أدراكم
(١) سورة عبس: ٨٠/ ٣. [.....]
(٢) سورة الشورى: ٤٢/ ١٧.
614
لَعَلَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ وَضَعَّفَ أَبُو عَلِيٍّ هَذَا الْقَوْلَ بِأَنَّ التَّوَقُّعَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ لَعَلَّ لَا يُنَاسِبُ قِرَاءَةَ الْكَسْرِ، لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى حُكْمِهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ لَكِنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ أنها معمولة ل يُشْعِرُكُمْ بَلْ جَعَلَهَا عِلَّةً عَلَى حَذْفِ لَامِهَا وَالتَّقْدِيرُ عِنْدَهُ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ لِأَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ فَهُوَ لَا يَأْتِي بِهَا لِإِصْرَارِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ فَيَكُونُ نَظِيرَ وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ «١» أَيْ بِالْآيَاتِ الْمُقْتَرَحَةِ انْتَهَى، وَيَكُونُ وَما يُشْعِرُكُمْ اعْتِرَاضًا بَيْنَ الْمَعْلُولِ وَعِلَّتِهِ إِذْ صَارَ الْمَعْنَى: قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ أَيِ الْمُقْتَرَحَةُ لَا يَأْتِي بِهَا لِانْتِفَاءِ إِيمَانِهِمْ وَإِصْرَارِهِمْ عَلَى ضَلَالِهِمْ وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ لَا زَائِدَةً فَيَكُونُ الْمَعْنَى وَمَا يُدْرِيكُمْ بِإِيمَانِهِمْ كَمَا قَالُوا: إِذَا جَاءَتْ وَإِنَّمَا جَعَلَهَا زَائِدَةً لِأَنَّهَا لَوْ بَقِيَتْ عَلَى النَّفْيِ لَكَانَ الْكَلَامُ عُذْرًا لِلْكَفَّارِ وَفَسَدَ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، قَالَ وَضَعَّفَ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ زِيَادَةَ لَا، انْتَهَى قَوْلُ ابْنِ عَطِيَّةَ. وَالْقَائِلُ بِزِيَادَةِ لَا هُوَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ:
زَعَمَ سِيبَوَيْهِ أَنَّ مَعْنَاهَا لَعَلَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ وَهِيَ قِرَاءَةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، قَالَ: وَهَذَا الْوَجْهُ أَقْوَى فِي الْعَرَبِيَّةِ وَالَّذِي ذَكَرَ أَنَّ لَا لَغْوٌ غَالِطٌ لِأَنَّ مَا كَانَ لَغْوًا لَا يَكُونُ غَيْرَ لَغْوٍ وَمَنْ قَرَأَ بِالْكَسْرِ فَالْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ لَا غَيْرُ لَغْوٍ فَلَيْسَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى مَرَّةً إِيجَابًا وَمَرَّةً غَيْرَ ذَلِكَ فِي سِيَاقِ كَلَامٍ وَاحِدٍ، وَتَأَوَّلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ الْآيَةَ عَلَى حَذْفِ مَعْطُوفٍ يُخْرِجُ لَا عَنِ الزِّيَادَةِ وَتَقْدِيرُهُ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ أَوْ يُؤْمِنُونَ أَيْ مَا يُدْرِيكُمْ بِانْتِفَاءِ الْإِيمَانِ أَوْ وُقُوعِهِ، ذَكَرَهُ النَّحَّاسُ وَغَيْرُهُ، وَلَا يَحْتَاجُ الْكَلَامُ إِلَى زِيَادَةِ لَا وَلَا إِلَى هَذَا الْإِضْمَارِ ولا لا يَكُونُ أَنَّ بِمَعْنَى لَعَلَّ وهذا كله خروج عن الظَّاهِرِ لِفَرْضِهِ بَلْ حَمْلُهُ عَلَى الظَّاهِرِ أَوْلَى وَهُوَ وَاضِحٌ سَائِغٌ كَمَا بَحَثْنَاهُ أَوَّلًا أَيْ وَما يُشْعِرُكُمْ وَيُدْرِيكُمْ بِمَعْرِفَةِ انْتِفَاءِ إِيمَانِهِمْ لَا سَبِيلَ لَكُمْ إِلَى الشُّعُورِ بِهَا، الْقِرَاءَةُ الرَّابِعَةُ: فتح الهمزة والتاء وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ عَامِرٍ وَحَمْزَةَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْكُفَّارِ وَيَتَّضِحُ مَعْنَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ عَلَى زِيَادَةِ لَا أَيْ وَمَا يُدْرِيكُمْ أَنَّكُمْ تُؤْمِنُونَ إِذَا جَاءَتْ كَمَا أَقْسَمْتُمْ عَلَيْهِ، وَعَلَى تَأْوِيلِ أَنَّ بِمَعْنَى لَعَلَّ وَكَوْنِ لَا نَفْيًا أَيْ وَمَا يُدْرِيكُمْ بِحَالِهِمْ لَعَلَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَكَذَلِكَ يَصِحُّ الْمَعْنَى عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ الْمَعْطُوفِ أَيْ وَمَا يُدْرِيكُمْ بِانْتِفَاءِ إِيمَانِكُمْ إِذَا جَاءَتْ أَوْ وُقُوعِهِ لِأَنَّ مَآلَ أَمْرِكُمْ مُغَيَّبٌ عَنْكُمْ فَكَيْفَ تُقْسِمُونَ عَلَى الْإِيمَانِ إِذَا جَاءَتْكُمُ الْآيَةُ، وَكَذَلِكَ يَصِحُّ مَعْنَاهَا عَلَى تَقْدِيرٍ أَيْ عَلَى أَنْ تَكُونَ أَنَّهَا عِلَّةٌ أَيْ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ فَلَا يَأْتِيكُمْ بِهَا لِأَنَّهَا إِذا جاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ وَمَا يُشْعِرُكُمْ بِأَنَّكُمْ تُؤْمِنُونَ وَأَمَّا عَلَى إِقْرَارِ أَنَّ أَنَّها معمولة ل يُشْعِرُكُمْ وبقاء لا على
(١) سورة الإسراء: ١٧/ ٥٩.
615
النَّفْيِ فَيُشْكِلُ مَعْنَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ لِأَنَّهُ يَكُونُ الْمَعْنَى وَما يُشْعِرُكُمْ أَيُّهَا الْكُفَّارُ بِانْتِفَاءِ إِيمَانِكُمْ إِذَا جَاءَتْكُمُ الْآيَةُ الْمُقْتَرَحَةُ، وَالَّذِي يُنَاسِبُ صَدْرَ الْآيَةِ وَما يُشْعِرُكُمْ بِوُقُوعِ الْإِيمَانِ مِنْكُمْ إِذَا جَاءَتْ، وَقَدْ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: وَأَيُّ شَيْءٍ يُشْعِرُكُمْ بِانْتِفَاءِ الْإِيمَانِ إِذَا جَاءَتْ، أَيْ لَا يَقَعُ ذَلِكَ فِي خَوَاطِرِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ مُصَمِّمُونَ عَلَى الْإِيمَانِ إِذَا جَاءَتْ، وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ إِذَا جَاءَتْ لِأَنَّكُمْ مَطْبُوعٌ عَلَى قُلُوبِكُمْ. وَكَمْ آيَةٌ جَاءَتْكُمْ فَلَمْ تُؤْمِنُوا. وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ مَا فِي قَوْلِهِ مَا يُشْعِرُكُمْ نافية والفاعل بيشعركم ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى اللَّهِ، وَيَتَكَلَّفُ مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى جَعْلِهَا نَافِيَةً، سَوَاءٌ فُتِحَتْ أَنَّ أَمْ كُسِرَتْ. وَمُتَعَلَّقُ لَا يُؤْمِنُونَ مَحْذُوفٌ وَحَسَّنَ حَذْفُهُ كَوْن مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وَقَعَ فَاصِلَةً، وَتَقْدِيرُهُ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَقَدِ اتَّضَحَ مِنْ تَرْتِيبِ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ الْأَرْبَعِ أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَلَا لِلْكُفَّارِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، بَلِ الْخِطَابُ يَكُونُ عَلَى مَا يَصِحُّ بِهِ الْمَعْنَى التي لِلْقِرَاءَةِ.
وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ الظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَنُقَلِّبُ جُمْلَةٌ اسْتِئْنَافِيَّةٌ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ يَفْعَلُ بِهِمْ ذَلِكَ وَهِيَ إِشَارَةٌ إِلَى الْحَيْرَةِ وَالتَّرَدُّدِ وَصَرْفِ الشَّيْءِ عَنْ وَجْهِهِ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى يُحَوِّلُهُمْ عَنِ الْهُدَى وَيَتْرُكُهُمْ فِي الضَّلَالِ والكفر. وكما لِلتَّعْلِيلِ أَيْ يَفْعَلُ بِهِمْ ذَلِكَ لِكَوْنِهِمْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ وَقْتٍ جَاءَهُمْ هُدَى اللَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ «١» وَيُؤَكِّدُ هَذَا الْمَعْنَى آخِرُ الْآيَةِ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ أي ونتركهم فِي تَغَمُّطِهِمْ فِي الشَّرِّ وَالْإِفْرَاطِ فِيهِ يَتَحَيَّرُونَ، وَهَذَا كُلُّهُ إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِفِعْلِهِ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: هَذَا الْإِخْبَارُ هُوَ عَلَى تَقْدِيرِ: أَنَّهُ لَوْ جَاءَتِ الْآيَةُ الَّتِي اقْتَرَحُوهَا صَنَعْنَا بِهِمْ ذَلِكَ. وَلِذَلِكَ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَنَذَرُهُمْ عَطْفٌ عَلَى لَا يُؤْمِنُونَ دَاخِلٌ فِي حُكْمِ وَما يُشْعِرُكُمْ بِمَعْنَى وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّا نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ أَيْ فَنَطْبَعُ عَلَى أَبْصَارِهِمْ وَقُلُوبِهِمْ فَلَا يَفْقَهُونَ وَلَا يُبْصِرُونَ الْحَقَّ كَمَا كَانُوا عِنْدَ نُزُولِ آيَاتِنَا أَوَّلًا لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا، لِكَوْنِهِمْ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّا نَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ أَيْ نُخَلِّيهِمْ وَشَأْنَهُمْ لَا نَكُفُّهُمْ وَنَصْرِفُهُمْ عَنِ الطُّغْيَانِ حَتَّى يَعْمَهُوا فيه انتهى.
(١) سورة التوبة: ٩/ ١٢٥.
616
وَهَذَا مَعْنَى مَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَابْنُ زَيْدٍ قَالُوا: لَوْ أَتَيْنَاهُمْ بِآيَةٍ كَمَا سَأَلُوا لَقَلَبْنَا أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ بِهَا، وَحُلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْهُدَى فَلَمْ يُؤْمِنُوا كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِمَا رَأَوْا قَبْلَهَا، عُقُوبَةً لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا الْقَوْلِ وَالَّذِي بَدَأْنَا بِهِ أَوَّلًا أَنَّ ذَلِكَ اسْتِئْنَافُ إِخْبَارٍ بِمَا يَفْعَلُ بِهِمْ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا. وَهَذَا إِخْبَارٌ عَلَى تَقْدِيرِ مَجِيءِ الْآيَةِ الْمُقْتَرَحَةِ فَذَلِكَ وَاقِعٌ وَهَذَا غَيْرُ وَاقِعٍ، لِأَنَّ الْآيَةَ الْمُقْتَرَحَةَ لَمْ تَقَعْ فَلَمْ يَقَعْ مَا رُتِّبَ عَلَيْهَا.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: نُقَلِّبُ أَفْئِدَةَ هَؤُلَاءِ وَأَبْصَارَهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ وَعَنِ الْآيَاتِ كَمَا لَمْ يُؤْمِنْ أَوَائِلُهُمْ مِنَ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ بِمَا رَأَوْا مِنَ الْآيَاتِ.
وَقِيلَ: تَقْلِيبُهَا بِإِزْعَاجِ نُفُوسِهِمْ هَمًّا وَغَمًّا.
وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: مَعْنَاهُ أَنَّا نُحِيطُ عِلْمًا بِذَاتِ الصُّدُورِ وَخَائِنَةِ الْأَعْيُنِ مِنْهُمْ انْتَهَى.
وَلَا يَسْتَقِيمُ هَذَا التَّفْسِيرُ لِقَوْلِهِ: كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ لَا على التعليل ولا عَلَى التَّشْبِيهِ إِلَّا إِنْ جُعِلَ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ أَنَّها إِذا جاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ أَيْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَيَصِحُّ عَلَى بُعْدٍ فِي تَفْسِيرِ التَّقْلِيبِ بِإِحَاطَةِ الْعِلْمِ.
وَقَالَ الْكَعْبِيُّ: الْمُرَادُ أَنَّا لَا نَفْعَلُ بِهِمْ مَا نَفْعَلُ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْفَوَائِدِ وَالْأَلْطَافِ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوا أَنْفُسَهُمْ عَنِ الْهِدَايَةِ بِسَبَبِ الْكُفْرِ انْتَهَى.
وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِيِّ وَمَعْنَى تَقْلِيبِ الْقَلْبِ وَالْبَصَرِ مَا يَنْشَأُ عَنِ الْقَلْبِ وَالْبَصَرِ مِنَ الدَّوَاعِي إِلَى الْحَيْرَةِ وَالضَّلَالِ، لِأَنَّ الْقَلْبَ وَالْبَصَرَ يَتَقَلَّبَانِ بِأَنْفُسِهِمَا فَنِسْبَةُ التَّقْلِيبِ إِلَيْهِمَا مَجَازٌ. وَقُدِّمَتِ الْأَفْئِدَةُ لِأَنَّ مَوْضِعَ الدَّوَاعِي وَالصَّوَارِفِ هُوَ الْقَلْبُ فَإِذَا حَصَلَتِ الدَّاعِيَةُ فِي الْقَلْبِ انْصَرَفَ الْبَصَرُ إِلَيْهِ شَاءَ أَمْ أَبَى، وَإِذَا حَصَلَتِ الصَّوَارِفُ فِي الْقَلْبِ انْصَرَفَ الْبَصَرُ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ تَحَدُّقُ النَّظَرِ إِلَيْهِ ظَاهِرًا وَهَذِهِ التَّفَاسِيرُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا.
وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: إِنَّ ذَلِكَ إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى يَفْعَلَ بِهِمْ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ.
فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ جَوَابٌ لِسُؤَالِهِمْ فِي الْآخِرَةِ الرُّجُوعَ إِلَى الدُّنْيَا. وَالْمَعْنَى لَوْ رُدُّوا لَحُلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْهُدَى كَمَا حُلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُمْ فِي الدُّنْيَا انْتَهَى. وَهَذَا يَنْبُو عَنْهُ تَرْكِيبُ الْكَلَامِ.
وَقِيلَ: تَقْلِيبُهَا فِي النَّارِ فِي جَهَنَّمَ عَلَى لَهِيبِهَا وَجَمْرِهَا لِيُعَذَّبُوا كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ يَعْنِي فِي الدُّنْيَا وَقَالَهُ الْجُبَّائِيُّ.
617
وَقَالَ أَبُو الْهُذَيْلِ: تَقْلِيبُ أَفْئِدَتِهِمْ بُلُوغُهَا الْحَنَاجِرَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ «١».
وَقِيلَ: تَقْلِيبُ أَبْصَارِهِمْ إِلَى الزُّرْقَةِ وَحَمْلُ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ فِي الْآخِرَةِ ضَعِيفٌ قَلِقُ النَّظْمِ، لِأَنَّ التَّقْلِيبَ فِي الْآخِرَةِ وَتَرْكَهُمْ فِي الطُّغْيَانِ فِي الدُّنْيَا، فَيَخْتَلِفُ الظَّرْفَانِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ عَلَى اخْتِلَافِهِمَا، بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ إِخْبَارٌ مُسْتَأْنَفٌ كَمَا قَرَّرْنَاهُ أَوَّلًا، وَالْكَافُ فِي كَما ذَكَرْنَا أَنَّهَا لِلتَّعْلِيلِ، وَهُوَ وَاضِحٌ فِيهَا وَإِنْ كَانَ اسْتِعْمَالُهَا فِيهِ قَلِيلًا. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ كَما: هِيَ بِمَعْنَى الْمُجَازَاةِ أَيْ لَمَّا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ نُجَازِيهِمْ بِأَنْ نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ عَنِ الْهُدَى وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ. فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَنَحْنُ نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ جَزَاءً لِمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ بِمَا دُعُوا إِلَيْهِ مِنَ الشَّرْعِ. قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَهُوَ مَعْنَى التَّعْلِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ إِلَّا أَنَّ تَسْمِيَةَ ذَلِكَ بِمَعْنَى الْمُجَازَاةِ غَرِيبَةٌ، لَا يُعْهَدُ فِي كَلَامِ النَّحْوِيِّينَ أَنَّ الْكَافَ للمجازاة.
وقيل للتشبيه قِيلَ وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ فَلَا يُؤْمِنُونَ بِهِ ثَانِيَ مَرَّةٍ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ.
وَقِيلَ: الْكَافُ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أَيْ تَقْلِيبًا لِكُفْرِهِمْ، أَيْ عُقُوبَةً مُسَاوِيَةً لِمَعْصِيَتِهِمْ، قَالَهُ أَبُو الْبَقَاءِ.
وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ وَالتَّقْدِيرُ: لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ إِيمَانًا ثَانِيًا كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ انْتَهَى. وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ أَوِ الْقُرْآنِ أَوِ الرَّسُولِ، أَقْوَالٌ وَأَبْعَدَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ يَعُودُ عَلَى التَّقْلِيبِ، وَانْتَصَبَ أَوَّلَ مَرَّةٍ عَلَى أَنَّهُ ظَرْفُ زَمَانٍ.
وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ وَيُقَلِّبُ وَيَذَرُهُمْ بِالْيَاءِ فِيهِمَا وَالْفَاعِلُ ضَمِيرُ اللَّهِ.
وَقَرَأَ أَيْضًا فِيمَا رَوَى عَنْهُ مُغِيرَةُ وَتُقَلَّبُ أَفْئِدَتُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ، بِالرَّفْعِ فِيهِمَا عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَيَذَرُهُمْ بِالْيَاءِ وَسُكُونِ الرَّاءِ. وَافَقَهُ عَلَى وَيَذَرُهُمُ الْأَعْمَشُ والهمداني.
(١) سورة غافر: ٤٠/ ١٨.
618
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَتُقَلَّبُ أَفْئِدَتُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ عَلَى البناء للمفعول.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١١١ الى ١٢٦]
وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَا كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (١١١) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١١٢) وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (١١٣) أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١١٤) وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لَا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١١٥)
وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (١١٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١١٧) فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (١١٨) وَما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (١١٩) وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (١٢٠)
وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (١٢١) أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٢) وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ (١٢٣) وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ (١٢٤) فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (١٢٥)
وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦)
619
قُبُلٌ: جَمْعُ قَبِيلٍ كَرَغِيفٍ وَرُغُفٍ، وَمَعْنَاهُ جَمَاعَةٌ أَوْ كَقَبْلَ أَوْ مُفْرَدٌ بِمَعْنَى قِبَلَ، أَيْ مُوَاجَهَةً وَمُقَابَلَةً ويكون قبل ظرف أَيْضًا.
الزُّخْرُفُ الزِّينَةُ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: كُلُّ مَا حَسَّنْتَهُ وَزَيَّنْتَهُ وَهُوَ بَاطِلٌ فَهُوَ زُخْرُفٌ انْتَهَى. وَالزُّخْرُفُ الذَّهَبُ. صَغَوْتُ وَصَغَيْتُ وَصَغِيتُ بِكَسْرِ الْغَيْنِ فَمَصْدَرُ الْأَوَّلِ صَغْوًا وَالثَّانِي صَغًا، وَالثَّالِثُ صِغًا، وَمُضَارِعُهَا يَصْغَى بِفَتْحِ الْغَيْنِ، وَهِيَ لَازِمَةٌ، وَأَصْغَى مِثْلُهَا لَازِمٌ وَيَأْتِي مُتَعَدِّيًا بِكَوْنِ الْهَمْزَةِ فِيهِ لِلنَّقْلِ، قَالَ الشَّاعِرُ فِي اللَّازِمِ:
تَرَى السَّفِيهَ بِهِ عَنْ كُلِّ مُحْكَمَةٍ زَيْغٌ وَفِيهِ إِلَى التَّشْبِيهِ إِصْغَاءُ
وَقَالَ فِي الْمُتَعَدِّي:
أَصَاخَ مِنْ نَبْأَةٍ أَصْغَى لها أذنا صماخها بدخيس الذَّوْقِ مَسْتُورُ
وَأَصْلُهُ الْمَيْلُ يُقَالُ: صَغَتِ النُّجُومُ: مَالَتْ لِلْغُرُوبِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «فَأَصْغَى لَهَا الْإِنَاءَ».
قَالَ أَبُو زَيْدٍ: وَيُقَالُ: صَغْوُهُ مَعَكَ وَصِغْوُهُ وَصَغَاهُ. وَيُقَالُ: أَكْرِمُوا فَلَانَا فِي صَاغِيَتِهِ أَيْ في قرابته الذين يميتون إِلَيْهِ وَيَطْلُبُونَ مَا عِنْدَهُ.
اقْتَرَفَ اكْتَسَبَ وَأَكْثَرَ مَا يَكُونُ فِي الشَّرِّ وَالذُّنُوبِ. وَيُقَالُ: خَرَجَ يَقْتَرِفُ لِأَهْلِهِ: أَيْ يَكْتَسِبُ لَهُمْ، وَقَارَفَ فُلَانٌ الْأَمْرَ: أَيْ وَاقَعَهُ وَقَرَفَهُ بِكَذَا رَمَاهُ بِرِيبَةٍ، وَاقْتَرَفَ كَذِبًا وَأَصْلُهُ اقْتِطَاعُ قِطْعَةٍ مِنَ الشَّيْءِ.
620
خَرَصَ حَزَرَ وَقَالَ بِغَيْرِ تَيَقُّنٍ وَلَا عِلْمٍ وَمِنْهُ خرص بمعنى كذب وافتى خَرَصًا وَخُرُوصًا.
وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: وَأَصْلُهُ التَّظَنِّي فِيمَا لَا يُسْتَيْقَنُ.
الشَّرْحُ: الْبَسْطُ وَالتَّوْسِعَةُ.
قَالَ اللَّيْثُ يُقَالُ: شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ فَانْشَرَحَ.
وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: الشَّرْحُ الْفَتْحُ.
وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَمِنْهُ شَرَحْتُ لَكَ الْأَمْرَ وَشَرَحْتُ اللَّحْمَ فَتَحْتَهُ.
الضَّيِّقُ: فَيْعِلٌ مِنْ ضَاقَ الشَّيْءُ انْضَمَّتْ أَجْزَاؤُهُ إِذَا كَانَ مُجَوَّفًا.
الْحَرِجُ: اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ حَرَجَ إِذَا اشْتَدَّ ضِيقُهُ، وَبِالْفَتْحِ الْمَصْدَرُ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ وَأَبُو عَلِيٍّ.
وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هما بمنزلة الواحد والواحد وَالْفَرَدِ، وَالْفَرِدِ وَالدَّنَفِ وَالدَّنِفِ يَعْنِي أَنَّهُمَا وَصْفَانِ انْتَهَى. وَأَصْلُهُ مِنَ الْحَرَجَةِ وَهِيَ شَجَرَةٌ تَحُفُّ بِهَا الْأَشْجَارُ حَتَّى تَمْنَعَ الدَّاعِيَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهَا.
وَقَالَ أَبُو الْهَيْثَمِ: الْحِرَاجُ غِيَاضٌ مِنْ شَجَرِ السِّلْمِ مُلْتَفَّةٌ وَاحِدُهَا حَرَجَةٌ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَدْخُلَ فِيهَا أَوْ يَنْفُذَ.
وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ أَيْ لَوْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْآيَاتِ الَّتِي اقْتَرَحُوهَا مِنْ إِنْزَالِ الْمَلَائِكَةِ فِي قَوْلِهِمْ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ «١» وَتَكْلِيمِ الْمَوْتَى إِيَّاهُ فِي قَوْلِهِمْ فَأْتُوا بِآبائِنا «٢» وَفِي قَوْلِهِمْ أخي قُصَيَّ بْنَ كِلَابٍ وَجُدْعَانَ بْنَ عَمْرٍو، وَهُمَا أَمِينَا الْعَرَبِ، وَالْوَسَطَانِ فِيهِمْ. وَحَشْرِ كُلِّ شَيْءٍ عَلَيْهِمْ مِنَ السِّبَاعِ وَالدَّوَابِّ وَالطُّيُورِ وَشَهَادَتِهِمْ بِصِدْقِ الرَّسُولِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قَالُوا: أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا «٣»
(١) سورة الأنعام: ٦/ ٨.
(٢) سورة الدخان: ٤٤/ ٣٦.
(٣) سورة الإسراء: ١٧/ ٩٢.
621
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ قِبَلَا بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْبَاءِ، وَمَعْنَاهُ مُقَابَلَةً أَيْ عِيَانًا وَمُشَاهَدَةً.
قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ، وَنَصْبُهُ عَلَى الْحَالِ.
وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: مَعْنَاهُ نَاحِيَةً كَمَا تَقُولُ: زَيْدٌ قِبَلَكَ، وَلِي قِبَلَ فُلَانٍ دَيْنٌ، فَانْتِصَابُهُ عَلَى الظَّرْفِ وَفِيهِ بُعْدٌ.
وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ قُبُلًا بِضَمِّ الْقَافِ وَالْبَاءِ. فَقَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ زَيْدٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ:
جَمْعُ قَبِيلٍ وَهُوَ النَّوْعُ، أَيْ نَوْعًا نَوْعًا وَصِنْفًا صِنْفًا.
وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: جَمْعُ قَبِيلٍ بِمَعْنَى كَفِيلٍ أَيْ: كُفُلًا بِصِدْقِ مُحَمَّدٍ. يُقَالُ قَبِلْتُ الرَّجُلَ أَقْبَلُهُ قُبَالَةً، أَيْ كَفُلْتُ بِهِ وَالْقَبِيلُ وَالْكَفِيلُ وَالزَّعِيمُ وَالْأَدِينُ وَالْحَمِيلُ وَالضَّمِينُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَقِيلَ قُبُلَا بِمَعْنَى قِبَلًا أَيْ مُقَابَلَةً وَمُوَاجَهَةً. وَمِنْهُ أَتَيْتُكَ قُبُلًا لَا دُبُرًا. أَيْ مِنْ قِبَلِ وَجْهِكَ. وَقَالَ تَعَالَى: إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ «١» وَقُرِئَ لِقُبُلِ عِدَّتِهِنَّ: أَيْ لِاسْتِقْبَالِهَا وَمُوَاجَهَتِهَا. وَهَذَا الْقَوْلُ عِنْدِي أَحْسَنُ لِاتِّفَاقِ الْقِرَاءَتَيْنِ.
وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو رَجَاءٍ وَأَبُو حَيْوَةَ، قُبْلًا بِضَمِّ الْقَافِ وَسُكُونِ الْبَاءِ عَلَى جِهَةِ التَّخْفِيفِ مِنَ الضَّمِّ.
وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَالْأَعْمَشُ قَبِيلًا بِفَتْحِ الْقَافِ وَكَسْرِ الْبَاءِ وَيَاءٍ بَعْدَهَا، وَانْتِصَابُهُ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ عَلَى الْحَالِ.
وَقَرَأَ ابْنُ مُصَرِّفٍ بِفَتْحِ الْقَافِ وَسُكُونِ الْبَاءِ وَجَوَابُ لَوْ مَا كانُوا لِيُؤْمِنُوا وَقَدَّرَهُ الْحَوْفِيُّ لَمَا كَانُوا قَالَ: وَحُذِفَتِ اللَّامُ وَهِيَ مُرَادُهُ، وَلَيْسَ قَوْلُهُ بِجَيِّدٍ لِأَنَّ المنفي بما إذا وقع جوابا للو فَالْأَكْثَرُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، أَنْ لَا تَدْخُلَ اللَّامُ عَلَى مَا وَقَلَّ دُخُولُهَا على ما، فلا تقول إِنَّ اللَّامَ حُذِفَتْ مِنْهُ بَلْ إِنَّمَا أَدْخَلُوهَا عَلَى مَا تَشْبِيهًا لِلْمَنْفِيِّ بِمَا بِالْمُوجَبِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ إِذَا كان النفي بلم لَمْ تَدْخُلِ اللَّامُ عَلَى لَمْ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ أصل للمنفي أن لا تدخل عليه اللام وما كانُوا لِيُؤْمِنُوا أَبْلَغُ فِي النَّفْيِ مِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا لِأَنَّ فِيهِ نَفْيَ التَّأَهُّلِ وَالصَّلَاحِيَةِ لِلْإِيمَانِ، وَلِذَلِكَ جَاءَتْ لَامُ الْجُحُودِ فِي الْخَبَرِ وإلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ مِنْ مَحْذُوفٍ هُوَ عِلَّةٌ.
وَسَبَبٌ التَّقْدِيرُ مَا كانُوا لِيُؤْمِنُوا لِشَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ إِلَّا لِمَشِيئَةِ اللَّهِ. وَقَدَّرَهُ بَعْضُهُمْ فِي كُلِّ
(١) سورة يوسف: ١٢/ ٢٦.
622
حَالٍ إِلَّا فِي حَالِ مَشِيئَةِ اللَّهِ وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ كَالْكِرْمَانِيِّ وَأَبِي الْبَقَاءِ وَالْحَوْفِيِّ. فَقَوْلُهُ فِيهِ بُعْدٌ إِذْ هُوَ ظَاهِرُ الِاتِّصَالِ أَوْ عذق إِيمَانُهُمْ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ دَلِيلٌ عَلَى مَا يَذْهَبُ إِلَيْهِ أهل السنة من أن إِيمَانَ الْعَبْدِ وَاقِعٌ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، وَحَمَلَ ذَلِكَ الْمُعْتَزِلَةُ عَلَى مَشِيئَةِ الْإِلْجَاءِ وَالْقَهْرِ. وَلِذَلِكَ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَشِيئَةُ إِكْرَاهٍ وَاضْطِرَارٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي أَكْثَرَهُمْ عَائِدٌ عَلَى مَا عَادَتْ عَلَيْهِ الضَّمَائِرُ قِيلَ مِنَ الْكُفَّارِ أَيْ يَجْهَلُونَ الْحَقَّ، أَوْ يَجْهَلُونَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اقْتِرَاحُ الْآيَاتِ بَعْدَ أَنْ رَأَوْا آيَةً وَاحِدَةً، أَوْ يَجْهَلُونَ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ هُوَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ يَجْهَلُونَ فَيُقْسِمُونَ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ عَلَى مَا لَا يَشْعُرُونَ مِنْ حَالِ قُلُوبِهِمْ عِنْدَ نُزُولِ الْآيَاتِ. قَالَ أَوْ لَكِنَّ أَكْثَرَ الْمُسْلِمِينَ يَجْهَلُونَ أَنَّ هَؤُلَاءِ لَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا أَنْ يَضْطَرَّهُمْ فَيَطْمَعُونَ فِي إِيمَانِهِمْ إِذَا جَاءَتِ الْآيَةُ الْمُقْتَرَحَةُ.
وَقَالَ غَيْرُهُ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ يَجْهَلُونَ أَنَّهُمْ يَبْقَوْنَ كُفَّارًا عِنْدَ ظُهُورِ الْآيَاتِ الَّتِي اقْتَرَحُوهَا.
وَقَالَ الْجُبَّائِيُّ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ يَدُلُّ عَلَى حُدُوثِ مَشِيئَةِ اللَّهِ إِذْ لَوْ كَانَتْ قَدِيمَةً لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعَلَّقَ عَلَيْهَا الْحَادِثُ لِأَنَّهَا شَرْطٌ وَيَلْزَمُ مِنْ حُصُولِ الْمَشْرُوطِ حُصُولُ الشرط والحسن دَلَّ عَلَى حُدُوثِ الْإِيمَانِ فَوَجَبَ كَوْنُ الشَّرْطِ حَادِثًا وَهُوَ الْمَشِيئَةُ.
وَأَجَابَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ بِأَنَّ الْمَشِيئَةَ وَإِنْ كَانَتْ قَدِيمَةً تَعَلُّقُهَا بِإِحْدَاثِ ذَلِكَ الْمُحْدَثِ فِي الْحَالَةِ إِضَافَةٌ حَادِثَةٌ انْتَهَى. وَهَذِهِ الْآيَةُ مُؤَيِّسَةٌ مِنْ إِيمَانِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ اقْتَرَحُوا الْآيَاتِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْهُمْ. وَلِذَلِكَ جَاءَ قَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَهُمْ مَنْ خُتِمَ لَهُ بِالسَّعَادَةِ فَآمَنَ مِنْهُمْ.
وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً الْمَعْنَى مِثْلَ مَا جَعَلَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ الْمُقْتَرِحِينَ الْآيَاتِ وَغَيْرَهُمْ أَعْدَاءً لَكَ جَعَلْنَا لِمَنْ قَبْلَكَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ أَعْدَاءً شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ أَيْ مُتَمَرِّدِي الصِّنْفَيْنِ يُوحِي يُلْقِي فِي خُفْيَةٍ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، أَيْ بَعْضُ الصِّنْفِ الْجِنِّيِّ إِلَى بَعْضِ الصِّنْفِ الْإِنْسِيِّ، أَوْ يُوحِي شَيَاطِينُ الْجِنِّ إِلَى شَيَاطِينِ الْإِنْسِ زُخْرُفَ الْقَوْلِ، أَيْ مُحَسَّنَهُ وَمُزَيَّنَهُ، وَثَمَرَةُ هَذَا الْجَعْلِ الِامْتِحَانُ فَيَظْهَرُ الصَّبْرُ عَلَى مَا مُنُّوا بِهِ مِمَّنْ يُعَادِيهِمْ فَيَعْظُمُ الثَّوَابُ وَالْأَجْرُ وَفِي هَذَا تَسْلِيَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَأَسٍّ بِمَنْ تَقَدَّمَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَأَنَّكَ لَسْتَ مُنْفَرِدًا بِعَدَاوَةِ مَنْ عَاصَرَكَ،
623
بَلْ هَذِهِ سُنَّةُ مَنْ قبلك من الأنبياء. وعدو كَمَا قُلْنَا قَبْلُ فِي مَعْنَى أَعْدَاءٍ. وَقَالَ تَعَالَى: وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا «١». وَقَالَ الشَّاعِرُ:
إذ أَنَا لَمْ أَنْفَعْ صَدِيقِي بِوِدِّهِ فَإِنَّ عَدُوِّي لَنْ يَضُرَّهُمُ بُغْضِي
وَأَعْرَبَ الْحَوْفِيُّ وَالزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ وَأَبُو الْبَقَاءِ هُنَا كَإِعْرَابِهِمْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَجَوَّزُوا فِي شَيَاطِينَ الْبَدَلِيَّةَ مِنْ عَدُوًّا، كَمَا جَوَّزُوا هُنَاكَ بَدَلَيَّةَ الْجِنَّ مِنْ شُرَكَاءَ وَقَدْ رَدَدْنَاهُ عَلَيْهِمْ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ هُوَ مِنْ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ، أَيِ الْإِنْسَ وَالْجِنَّ الشَّيَاطِينَ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْإِنْسِ شَيَاطِينُ وَمِنَ الْجِنِّ شَيَاطِينُ، وَالشَّيْطَانُ هُوَ الْمُتَمَرِّدُ مِنَ الصِّنْفَيْنِ كَمَا شَرَحْنَاهُ. وَهَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ وَمُجَاهِدٍ وَالْحَسَنِ، وكذا
فهم أبوذر مِنْ قَوْلِ الرَّسُولِ لَهُ: «هَلْ تَعَوَّذْتَ مِنْ شَيَاطِينِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ» قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَهَلْ لِلْإِنْسِ مِنْ شَيَاطِينَ؟ قَالَ: «نَعَمْ وَهُمْ شَرٌّ مِنْ شَيَاطِينِ الْجِنِّ».
وَقَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ شَيْطَانُ الْإِنْسِ عَلَيَّ أَشَدُّ مِنْ شَيْطَانِ الْجِنِّ لِأَنِّي إِذَا تَعَوَّذْتُ بِاللَّهِ ذَهَبَ عَنِّي شَيْطَانُ الْجِنِّ، وشيان الْإِنْسِ يَجِيئُنِي وَيَجُرُّنِي إِلَى الْمَعَاصِي عِيَانًا.
وَقَالَ عَطَاءٌ: أَمَّا أَعْدَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وسلم من شَيَاطِينِ الْإِنْسِ: فَالْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ وَالْعَاصِ بْنُ وَائِلٍ وأبو جهل بن هِشَامٍ وَالْعَاصِي بْنُ عَمْرٍو، وَزَمْعَةُ بْنُ الْأَسْوَدِ وَالنَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ وَالْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ وَعُتْبَةُ وَشَيْبَةُ ابْنَا رَبِيعَةَ وَعُتْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ وَالْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ وَأُبِيٌّ وَأُمَيَّةُ ابْنَا خَلَفٍ، وَنَبِيهٌ وَمُنَبِّهٌ ابْنَا الْحَجَّاجِ، وَعُتْبَةُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى، وَمَعَتَّبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى.
وَفِي الْحَدِيثِ: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنَ الْجِنِّ قِيلَ: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟
قَالَ: «وَلَا أَنَا إِلَّا أَنَّ اللَّهَ عَافَانِي وَأَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأُسْلِمُ فَلَا يَأْمُرُنِي إِلَّا بِخَيْرٍ»
.
وَقِيلَ: الْإِضَافَةُ لَيْسَتْ مِنْ بَابِ إِضَافَةِ الصِّفَةِ لِلْمَوْصُوفِ بَلْ هِيَ مِنْ بَابِ غُلَامِ زَيْدٍ أَيْ شَيَاطِينُ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، أَيْ مُتَمَرِّدِينَ مُغْوِينَ لَهُمْ. وَعَلَى هَذَا فَسَّرَهُ عِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ وَالْكَلْبِيُّ قَالُوا: لَيْسَ مِنَ الْإِنْسِ شَيَاطِينُ وَالْمَعْنَى شَيَاطِينُ الْإِنْسِ الَّتِي مَعَ الْإِنْسِ، وَشَيَاطِينُ الْجِنِّ الَّتِي مَعَ الْجِنِّ، قَسَّمَ إِبْلِيسُ جُنْدَهُ فَرِيقًا إِلَى الْإِنْسِ وَفَرِيقًا إِلَى الْجِنِّ، يَتَلَاقَوْنَ فَيَأْمُرُ بَعْضٌ بَعْضًا أَنْ يُضِلَّ صَاحِبَهُ بِمَا أَضَلَّ هُوَ بِهِ صَاحِبَهُ، ورجحت هذه الإضافة بأن أصل الْإِضَافَةَ الْمُغَايِرَةَ بَيْنَ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَرُجِّحَتِ الْإِضَافَةُ السابقة بأن
(١) سورة الكهف: ١٨/ ٥٠.
624
المقصود التسلّي والائتساء بِمَنْ سَبَقَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، إِذْ كَانَ فِي أُمَمِهِمْ مَنْ يُعَادِيهِمْ كَمَا فِي أُمَّةِ مُحَمَّدٍ مَنْ كَانَ يُعَادِيهِ، وَهُمْ شَيَاطِينُ الْإِنْسِ وَالظَّاهِرُ فِي جَعَلْنَا أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ مُصَيِّرُهُمْ أَعْدَاءً لِلْأَنْبِيَاءِ وَالْعَدَاوَةُ لِلْأَنْبِيَاءِ مَعْصِيَةٌ وَكُفْرٌ، فَاقْتَضَى أَنَّهُ خَالِقٌ ذَلِكَ وَتَأَوَّلَ الْمُعْتَزِلَةُ هَذَا الظَّاهِرَ.
فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَكَمَا خَلَّيْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ أَعْدَائِكَ كَذَلِكَ فِعَلْنَا بِمَنْ قَبْلَكَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَأَعْدَائِهِمْ، لَمْ يَمْنَعْهُمْ مِنَ الْعَدَاوَةِ انْتَهَى.
وَهَذَا قَوْلُ الْكَعْبِيِّ قَالَ: خَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ.
وَقَالَ الْجُبَّائِيُّ: الْجَعْلُ هُنَا الْحُكْمُ وَالْبَيَانُ يُقَالُ كَفَّرَهُ حَكَمَ بِكُفْرِهِ وَعَدَّلَهُ أَخْبَرَ عَنْ عَدَالَتِهِ. وَلَمَّا بَيَّنَ لِلرَّسُولِ كَوْنَهُمْ أَعْدَاءً لَهُمْ قَالَ جَعَلَهُمْ أَعْدَاءً لَهُمْ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ لَمَّا أَرْسَلَهُ اللَّهُ إِلَى الْعَالِمَيْنَ وَخَصَّهُ بِالْمُعْجِزَاتِ حَسَدُوهُ وَصَارَ الجسد مُبَيِّنًا لِلْعَدَاوَةِ الْقَوِيَّةِ، فَلِهَذَا التَّأْوِيلِ قَالَ جَعَلَهُمْ لَهُ أَعْدَاءً كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
فَأَنْتَ صَيَّرَتْهُمْ لِي حَسَدًا وَذَلِكَ يَقْتَضِي صَيْرُورَتَهُمْ أَعْدَاءً لِلْأَنْبِيَاءِ، وَانْتَصَبَ غُرُورًا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا لِيُوحِي لِأَنَّهُ بِمَعْنَى يَغُرُّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا أَوْ مَصْدَرًا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَيْ غَارِّينَ.
وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ أَيْ مَا فَعَلُوا الْعَدَاوَةَ أَوِ الْوَحْيَ أَوِ الزُّخْرُفَ، أَوِ الْقَوْلَ أَوِ الْغُرُورَ أَوْجُهٌ ذَكَرُوهَا.
فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ أَيِ اتْرُكْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ مِنْ تَكْذِيبِكَ وَيَتَضَمَّنُ الْوَعِيدَ وَالتَّهْدِيدَ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُرِيدُ مَا زَيَّنَ لَهُمْ إِبْلِيسُ وَمَا غَرَّهُمْ بِهِ انْتَهَى. وَظَاهَرُ الْأَمْرِ الْمُوَادَعَةُ وَهِيَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَاتِ الْقِتَالِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ كُلٌّ ذَرْ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ مَنْسُوخٌ بِالْقِتَالِ وما بِمَعْنَى الَّذِي أَوْ مَوْصُوفَةٌ أَوْ مَصْدَرِيَّةٌ.
وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ أَيْ وَلِتَمِيلَ إِلَيْهِ الضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى مَا عَادَ عَلَيْهِ فِي فَعَلُوهُ، وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَكْتَسِبُوا مَا هُمْ مُكْتَسِبُونَ مِنَ الْآثَامِ. وَاللَّامُ لَامُ كَيْ وَهِيَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى قَوْلِهِ غُرُورًا لَمَّا كَانَ مَعْنَاهُ لِلْغُرُورِ، فَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ
625
بيوحي ونصب غرور الاجتماع شُرُوطِ النَّصْبِ فِيهِ، وَعُدِّيَ يُوحِي إِلَى هَذَا بِاللَّامِ لِفَوْتِ شَرْطٍ صَرِيحِ الْمَصْدَرِيَّةِ وَاخْتِلَافِ الْفَاعِلِ لِأَنَّ فَاعِلَ يُوحِي هُوَ بَعْضُهُمْ وَفَاعِلُ تَصْغَى هُوَ أَفْئِدَةُ، وَتَرْتِيبُ هَذِهِ الْمَفَاعِيلِ فِي غَايَةِ الْفَصَاحَةِ لِأَنَّهُ أَوَّلًا يَكُونُ الْخِدَاعُ فَيَكُونُ الْمَيْلُ فَيَكُونُ الرِّضَا فَيَكُونُ الْفِعْلُ فَكَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مُسَبَّبٌ عَمَّا قَبْلَهُ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلِتَصْغى جَوَابُهُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ، وَلِيَكُونَ ذَلِكَ جَعْلَنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا عَلَى أَنَّ اللَّامَ لَامُ الصَّيْرُورَةِ، وَالضَّمِيرُ فِي إِلَيْهِ رَاجِعٌ إِلَى مَا يَرْجِعُ إِلَيْهِ الضَّمِيرُ فِي فَعَلُوهُ أَيْ وَلِتَمِيلَ إِلَى مَا ذُكِرَ مِنْ عَدَاوَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَوَسْوَسَةِ الشَّيَاطِينِ أَفْئِدَةُ الْكُفَّارِ انْتَهَى.
وَتَسْمِيَةُ مَا تَتَعَلَّقُ بِهِ اللَّامُ جَوَابًا اصْطِلَاحٌ غَرِيبٌ، وَمَا قَالَهُ هُوَ قَوْلُ الزَّجَّاجُ، قَالَ: تَقْدِيرُهُ وَلِتَصْغى إِلَيْهِ فَعَلُوا ذَلِكَ فَهِيَ لَامُ صَيْرُورَةٍ. وَذَهَبَ الْأَخْفَشُ إِلَى أَنَّ لَامَ وَلِتَصْغى هِيَ لَامُ كَيْ وَهِيَ جَوَابٌ لِقَسَمٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ. وَاللَّهِ وَلِتَصْغى مَوْضِعَ وَلَتَصْغَيَنَّ فَصَارَ جَوَابُ الْقِسْمِ مِنْ قَبِيلِ الْمُفْرَدِ فَتَقُولُ وَاللَّهِ لَيَقُومُ زَيْدٌ التَّقْدِيرُ أُقْسِمُ بِاللَّهِ لِقِيَامِ زِيدٍ وَاسْتُدِلَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ:
إِذَا قَلَتْ قدني قال بالله حَلْفَةً لِتُغْنِيَ عَنِّي ذَا أَنَائِكٌ أَجْمَعَا
وَبِقَوْلِهِ: وَلِتَصْغى وَالرَّدُّ عَلَيْهِ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ النَّحْوِ.
وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ وَالْجَرَّاحُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَلِتَصْغى مَنْ أَصْغَى رُبَاعِيًّا.
وَقَرَأَ الْحَسَنُ بِسُكُونِ اللَّامِ فِي الثَّلَاثَةِ.
وَقِيلَ عَنْهُ فِي لِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا بِالْكَسْرِ فِي وَلِتَصْغى.
وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ قِرَاءَةُ الْحَسَنِ، إِنَّمَا هِيَ وَلِتَصْغى بِكَسْرِ الغين انتهى، وخمرج سُكُونُ اللَّامِ فِي الثَّلَاثَةِ عَلَى أَنَّهُ شُذُوذٌ فِي لَامِ كَيْ وَهِيَ لَامُ كَيْ فِي الثَّلَاثَةِ. وَهِيَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى غُرُورٍ أَوْ سُكُونُ لَامِ كَيْ فِي نَحْوِ هَذَا شَاذٌّ فِي السَّمَاعِ قَوِيٌّ فِي الْقِيَاسِ قَالَهُ أَبُو الْفَتْحِ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: هِيَ لَامُ الْأَمْرِ فِي الثَّلَاثَةِ وَيَبْعُدُ ذَلِكَ فِي وَلِتَصْغى بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ وَإِنْ كَانَ قَدْ جَاءَ ذَلِكَ فِي قَلِيلٍ مِنَ الْكَلَامِ.
قَرَأَ قُنْبُلٌ إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِي وَيَصْبِرُ عَلَى أَنَّهُ يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ.
وَقِيلَ هِيَ فِي وَلِتَصْغى لَامُ كَيْ سَكَنَتْ شُذُوذًا، وَفِي لِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا لَامُ
626
الْأَمْرِ مُضَمَّنًا التَّهْدِيدَ وَالْوَعِيدَ، كَقَوْلِهِ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ «١» وَفِي قَوْلِهِ: مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ أَنَّهَا تُفِيدُ التَّعْظِيمَ والتبشيع لِمَا يَعْمَلُونَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ «٢».
أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلًا
قَالَ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ لِلرَّسُولِ: اجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ حَكَمًا مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ، وَإِنْ شِئْتَ مِنْ أَسَاقِفَةِ النَّصَارَى، لِيُخْبِرَنَا عَنْكَ بِمَا فِي كِتَابِهِمْ مِنْ أَمْرِكَ فَنَزَلَتْ.
وَوَجْهُ نَظْمِهَا بِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ لَمَّا حَكَى حَلِفَ الْكُفَّارِ وَأَجَابَ بِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي إِظْهَارِ الْآيَاتِ الْمُقْتَرَحَةِ لَهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَبْقُونَ مُصِرِّينَ عَلَى الْكُفْرِ بَيَّنَ الدَّلِيلُ عَلَى نُبُوَّتِهِ بِإِنْزَالِ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ، وَقَدْ عَجَزَ الْخَلْقُ عَنْ مُعَارَضَتِهِ وَحَكَمَ فِيهِ بِنُبُوَّتِهِ، وَبِاشْتِمَالِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ عَلَى أَنَّهُ رَسُولٌ حَقٌّ، وَأَنَّ الْقُرْآنَ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ حَقٌّ.
وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الْعَدَاوَةَ وَتَهَدَّدَهُمْ قَالُوا مَا ذَكَرْنَاهُ فِي سَبَبِ النُّزُولِ. وَكَانَ مِنْ عَادَتِهِمْ إِذَا الْتَبَسَ عَلَيْهِمْ أَمْرٌ وَاخْتَلَفُوا فِيهِ جَعَلُوا بَيْنَهُمْ كَاهِنًا حَكَمًا فَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ:
أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهَذَا اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ النَّفْيُ أَيْ لَا أَبْتَغِي حَكَمًا غَيْرَ اللَّهِ. قَالَ الْكِرْمَانِيُّ:
وَالْحَكَمُ أَبْلَغُ مِنَ الْحَاكِمِ لِأَنَّهُ مَنْ عُرِفَ مِنْهُ الْحُكْمُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَالْحَاكِمُ اسْمُ فَاعِلٍ يَصْدُقُ عَلَى الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ. وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ الضَّرِيرُ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْحَكَمَ لَا يَحْكُمُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَالْحَاكِمُ يَحْكُمُ بِالْحَقِّ وَبِغَيْرِ الْحَقِّ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ نَحْوَهُ. قَالَ الْحَكَمُ: أَبْلَغُ مِنَ الْحَاكِمِ إِذْ هِيَ صِيغَةٌ لِلْعَدْلِ مِنَ الْحُكَّامِ، وَالْحَاكِمُ جَارٍ عَلَى الْفِعْلِ وَقَدْ يُقَالُ لِلْجَائِرِ انْتَهَى. وَكَأَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى حُكْمِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ بَعَثَ إِلَيْهِمْ كُلَّ الْآيَاتِ، أَوْ حُكْمِهِ بِأَنْ جَعَلَ لِلْأَنْبِيَاءِ أَعْدَاءً وَحَكَمًا أَيْ فَاصِلًا بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَجَوَّزُوا فِي إِعْرَابِ غَيْرَ أَنْ يكون مفعولا بأبتغي وَحَكَمًا حَالٌ وَعَكْسُهُ وَأَجَازَ الْحَوْفِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ أَنْ يَنْتَصِبَ عَلَى التَّمْيِيزِ عَنْ غَيْرِهِمْ كَقَوْلِهِمْ: إِنَّ لَنَا غَيْرَهَا إِبِلًا وَهُوَ مُتَّجِهٌ. وَحَكَاهُ أَبُو الْبَقَاءِ فَالْكِتَابُ الْقُرْآنُ وَمَفَصَّلًا مُوَضَّحًا مُزَالَ الْإِشْكَالِ أَوْ مُفَضَّلًا بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ أَوْ مُفَصَّلًا مُفَرَّقًا عَلَى حَسَبِ الْمَصَالِحِ أَيْ لَمْ يُنْزِلْهُ مَجْمُوعًا أَوْ مُفَصَّلًا فِيهِ الْأَحْكَامُ مِنَ النَّهْيِ وَالْأَمْرِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَالْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ وَالضَّلَالِ وَالْهُدَى، أَوْ مُفَصَّلًا مُبَيَّنًا فِيهِ الْفَصْلَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالشَّهَادَةُ لِي بِالصِّدْقِ وَعَلَيْكُمْ بِالِافْتِرَاءِ أَقْوَالٌ خَمْسَةٌ وَبِهَذِهِ الْآيَةِ خَاصَمَتِ الْخَوَارِجُ عَلِيًّا فِي تَكْفِيرِهِ بِالتَّحْكِيمِ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ.
وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ أَيْ والذين أعطيناهم
(١) سورة فصلت: ٤١/ ٤٠.
(٢) سورة طه: ٢٠/ ٧٨.
627
عِلْمَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ وَالصُّحُفِ، وَالْمُرَادُ عُلَمَاءُ أَهْلِ الْكِتَابِ فَهُوَ عَامٌّ بِمَعْنَى الْخُصُوصِ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تَكُونُ اسْتِئْنَافًا وَتَتَضَمَّنُ الِاسْتِشْهَادَ بِمُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ وَالطَّعْنَ عَلَى مُشْرِكِيهِمْ وَحَسَدَتِهِمْ، وَالْعَضُدُ فِي الدِّلَالَةِ بِأَنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ يَعْلَمُ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنَّهُ حَقٌّ لِتَصْدِيقِهِ كُتُبَهُمْ وَمُوَافَقَتِهِ لَهَا.
فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ. قِيلَ: الْخِطَابُ لِلرَّسُولِ خِطَابٌ لِأُمَّتِهِ. وَقِيلَ: لِكُلِّ سَامِعٍ أَيْ إِذَا ظَهَرَتِ الدِّلَالَةُ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُمْتَرَى فِيهِ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ بَابِ التَّهْيِيجِ وَالْإِلْهَابِ كَقَوْلِهِ: وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وَقِيلَ: فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ فِي أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ وَلَا يَرِيبُكَ جُحُودُ أَكْثَرَهِمْ وَكَفْرُهُمْ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَحَفْصٌ مُنَزَّلٌ بِالتَّشْدِيدِ وَالْبَاقُونَ بِالتَّخْفِيفِ.
وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا لَمَّا تَقَدَّمَ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هُنَا دَلَائِلُ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْبَعْثِ وَالطَّعْنِ عَلَى مُخَالِفِي ذَلِكَ وَكَانَ مِنْ هُنَا إِلَى آخَرِ السُّورَةِ أَحْكَامٌ وَقَصَصٌ، نَاسَبَ ذِكْرُ هَذِهِ الْآيَاتِ هُنَا أَيْ تَمَّتْ أَقْضِيَتُهُ وَأَقْدَارُهُ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: كَلِمَاتُهُ هُوَ الْقُرْآنُ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كُلُّ مَا أَخْبَرَ بِهِ وَأَمَرَ وَنَهَى وَوَعَدَ وَأَوْعَدَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: صِدْقًا فِي الْوَعْدِ وَعَدْلًا فِي الْوَعِيدِ. وَقِيلَ: فِي مَا تَضَمَّنَ مِنْ خَبَرٍ وَحُكْمٍ أَوْ فِيمَا كَانَ وَمَا يَكُونُ، أَوْ فِيمَا أَمَرَ وَمَا نَهَى أَوْ فِي التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ أَوْ فِيمَا قَالَ: هَؤُلَاءِ إِلَى الْجَنَّةِ وَهَؤُلَاءِ إِلَى النَّارِ أَوْ فِي الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ أَوْ فِي نُصْرَةِ أَوْلِيَائِهِ وَخِذْلَانِ أَعْدَائِهِ، أَوْ فِي نُصْرَةِ الرَّسُولِ بِبَدْرٍ وَإِهْلَاكِ أَعْدَائِهِ أَوْ فِي الْإِرْشَادِ وَالْإِضْلَالِ أَوْ فِي الْغُفْرَانِ وَالتَّعْذِيبِ، أَوْ فِي الْفَضْلِ وَالْمَنْعِ أَوْ فِي تَوْسِيعِ الرِّزْقِ وَتَقْتِيرِهِ أَوْ فِي إِعْطَائِهِ وَبَلَائِهِ وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ أَوَّلُ الْقَوْلِ فُسِّرَ بِهِ الصِّدْقُ وَالْمَعْطُوفُ فُسِّرَ بِهِ الْعَدْلُ، وَأَعْرَبَ الْحَوْفِيُّ وَالزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ وَأَبُو الْبَقَاءِ صِدْقاً وَعَدْلًا مَصْدَرَيْنِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ وَالطَّبَرِيُّ تَمْيِيزًا وَجَوَّزَهُ أَبُو الْبَقَاءِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هُوَ غَيْرُ صَوَابٍ وَزَادَ أَبُو الْبَقَاءِ مَفْعُولًا مِنْ أَجْلِهِ وَلَيْسَ الْمَعْنَى فِي تَمَّتْ أَنَّهَا كَانَ بِهَا نَقْصٌ فَكَمَلَتْ وَإِنَّمَا الْمَعْنَى اسْتَمَرَّتْ وَصَحَّتْ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «وَتَمَّ حَمْزَةُ عَلَى إِسْلَامِهِ».
وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ «١» أَيِ اسْتَمَرَّتْ وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ نُفُوذِ أَقْضِيَتِهِ. وقرأ الكوفيون هنا وفي يونس في الموضعين وفي المؤمن كَلِمَةُ بِالْإِفْرَادِ وَنَافِعٌ جَمِيعَ ذَلِكَ كَلِمَاتُ بِالْجَمْعِ تَابَعَهُ أَبُو عَمْرٍو وَابْنُ كَثِيرٍ هنا.
(١) سورة هود: ١١/ ١١٩.
628
لَا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ أَيْ لَا مُغَيِّرَ لِأَقْضِيَتِهِ وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ الْقُرْآنِ فَلَا يَلْحَقُهَا تَغْيِيرٌ، لَا فِي الْمَعْنَى وَلَا فِي اللَّفْظِ وَفِي حَرْفِ أُبَيٍّ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهُ.
وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ أَيِ السَّمِيعُ لِأَقْوَالِكُمُ الْعَلِيمُ بِالضَّمَائِرِ.
وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَيْ وَإِنْ تُوَافِقْ فِيمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ وَشَرْعِ مَا شَرَعُوهُ بِغَيْرِ إِذَنِ اللَّهِ أَكْثَرَ لِأَنَّ الْأَكْثَرَ إِذْ ذَاكَ كَانُوا كُفَّارًا، وَالْأَرْضُ هُنَا الدُّنْيَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: أَكْثَرُ مَنْ فِي الْأَرْضِ رُؤَسَاءُ مَكَّةَ وَالْأَرْضُ خَاصٌّ بِأَرْضِ مَكَّةَ وَكَثِيرًا مَا ذَمَّ الْأَكْثَرَ فِي كِتَابِهِ وَالْغَالِبُ أَنَّهُ لَا يُقَالُ الْأَكْثَرُ إِلَّا لِلَّذِينِ يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ.
إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ أَيْ لَيْسُوا رَاجِعِينَ فِي عَقَائِدِهِمْ إِلَى عِلْمٍ وَلَا فِيمَا شَرَعُوهُ إِلَى حُكْمِ اللَّهِ.
وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ أَيْ يُقَدِّرُونَ وَيَحْزُرُونَ وَهَذَا تَأْكِيدٌ لِمَا قَبْلَهُ. وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ خَصَّ هَذِهِ الطَّاعَةَ وَاتِّبَاعَهُمُ الظَّنَّ وَتَخَرُّصَهُمْ بِأَمْرِ الذَّبَائِحِ،
وَحُكِيَ أَنَّ سَبَبَ النُّزُولِ مُجَادَلَةُ الْمُشْرِكِينَ الرَّسُولَ فِي أَمْرِ الذَّبَائِحِ وَقَوْلُهُمْ: نَأْكُلُ مَا تقتل وَلَا نَأْكُلُ مَا قَتَلَ اللَّهُ فَنَزَلَتْ مُخْبِرَةً أَنَّهُمْ يُقَدِّرُونَ بِظُنُونِهِمْ وَبِخَرْصِهِمْ.
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَخْبَرَ أَنَّهُ أَعْلَمُ الْعَالَمِينَ بِالضَّالِّ وَالْمُهْتَدِي، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ أَعْلَمُ بِهِمْ وَبِكَ فَإِنَّهُمُ الضَّالُّونَ وَأَنْتَ الْمُهْتَدِي ومَنْ قِيلَ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ عَلَى إِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ وَإِبْقَاءِ عَمَلِهِ، وَهَذَا لَيْسَ بِجَيِّدٍ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي الشِّعْرِ نَحْوَ زَيْدٌ أَضْرَبُ السَّيْفِ أَيْ بِالسَّيْفِ. وَقَالَ أَبُو الْفَتْحِ: فِي مَوْضِعِ نصب بأعلم بَعْدَ حَذْفِ حَرْفِ الْجَرِّ وَهَذَا لَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ لَا يُعْمِلُ النَّصْبَ فِي الْمَفْعُولِ بِهِ، وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ أَيْ يَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ وَدَلَّ عَلَى حَذْفِهِ أَعْلَمُ وَمِثْلُهُ مَا أَنْشَدَهُ أَبُو زَيْدٍ.
وَأَضْرَبَ مِنَّا بِالسُّيُوفِ الْقَوَانِسَا أَيْ تَضْرِبُ الْقَوَانِسَ وَهِيَ إِذْ ذَاكَ مَوْصُولَةٌ وَصِلَتُهَا يُضِلُّ وَجَوَّزَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ تَكُونَ مَوْصُوفَةً بِالْفِعْلِ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ وَالْمُبَرِّدُ وَالزَّجَّاجُ وَمَكِّيٌّ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ وَهِيَ اسْتِفْهَامِيَّةٌ مُبْتَدَأٌ وَالْخَبَرُ يُضِلُّ وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِأَعْلَمَ أَيْ أَعْلَمُ أَيُّ النَّاسِ يَضِلُّ كَقَوْلِهِ لِنَعْلَمَ
629
أَيُّ الْحِزْبَيْنِ
«١» وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ التَّعْلِيقَ فَرْعٌ عَنْ جَوَازِ الْعَمَلِ وَأَفْعَلُ التَّفْضِيلِ لَا يَعْمَلُ فِي الْمَفْعُولِ بِهِ فَلَا يُعَلَّقُ عَنْهُ، وَالْكُوفِيُّونَ يُجِيزُونَ إِعْمَالَ أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ فِي الْمَفْعُولِ بِهِ وَالرَّدُّ عَلَيْهِمْ فِي كُتُبِ النَّحْوِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَحْمَدُ بْنُ أَبِي شُرَيْحٍ يُضِلُّ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَاعِلُ يُضِلُّ ضَمِيرُ مَنْ وَمَفْعُولُهُ مَحْذُوفٌ أَيْ مَنْ يُضِلُّ النَّاسَ أَوْ ضَمِيرُ اللَّهِ عَلَى مَعْنَى يَجِدُهُ ضَالًّا أَوْ يَخْلُقُ فِيهِ الضَّلَالَ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ خَبَرِيَّةٌ تَتَضَمَّنُ الْوَعِيدَ وَالْوَعْدَ لِأَنَّ كَوْنَهُ تَعَالَى عَالِمًا بِالضَّالِّ وَالْمُهْتَدِي كِنَايَةٌ عَنْ مُجَازَاتِهِمَا.
فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ
ذُكِرَ أَنَّ السَّبَبَ فِي نُزُولِهَا أَنَّهُمْ قَالُوا لِلرَّسُولِ: مَنْ قَتَلَ الشَّاةَ الَّتِي مَاتَتْ؟ قَالَ اللَّهُ: قَالُوا فَتَزْعُمُ أَنَّ مَا قَتَلْتَ أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ وَمَا قَتَلَهُ الصَّقْرُ وَالْكَلْبُ حَلَالٌ وَمَا قَتَلَهُ اللَّهُ حَرَامٌ.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: لَمَّا أُنْزِلَ تَحْرِيمُ الْمَيْتَةِ كَتَبَ مَجُوسُ فَارِسَ إلى مشركي قريش فكانوا أَوْلِيَاءَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَبَيْنَهُمْ مُكَاتَبَةٌ إِنَّ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ يزعمون أنهم يبتغون أَمْرَ اللَّهِ ثُمَّ يَزْعُمُونَ أَنَّ مَا ذَبَحُوا فَهُوَ حَلَالٌ وَمَا ذَبَحَ اللَّهُ فَهُوَ حَرَامٌ فَوَقَعَ فِي أَنْفُسِ نَاسٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا وَلَمَّا تَضَمَّنَتِ الْآيَةُ الَّتِي قَبْلَهَا الْإِنْكَارَ عَلَى اتِّبَاعِ الْمُضِلِّينَ الَّذِينَ يُحِلُّونَ الْحَرَامَ وَيُحَرِّمُونَ الْحَلَالَ وَكَانُوا يُسَمُّونَ فِي كَثِيرٍ مِمَّا يُذَكِّرُونَهُ اسْمَ آلِهَتِهِمْ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِأَكْلِ مَا سُمِّيَ عَلَى ذَكَاتِهِ اسْمُ اللَّهِ لَا غَيْرِهِ مِنْ آلِهَتِهِمْ أَمْرَ إِبَاحَةٍ وَمَا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَهُوَ الْمُذَكَّى لَا مَا مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
فَكُلُوا مُتَسَبِّبٌ عَنْ إِنْكَارِ اتِّبَاعِ الْمُضِلِّينَ وَعُلِّقَ أَكْلُ مَا سُمِّيَ اللَّهُ عَلَى ذَكَاتِهِ بِالْإِيمَانِ كَمَا تَقُولُ: أَطِعْنِي إِنْ كُنْتَ ابْنِي أَيْ أَنْتُمْ مُؤْمِنُونَ فَلَا تُخَالِفُوا أَمْرَ اللَّهِ وَهُوَ حَثٌّ عَلَى أَكْلِ مَا أَحَلَّ وَتَرْكِ مَا حَرَّمَ.
وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ أَيْ وَأَيُّ غَرَضٍ لَكُمْ فِي الِامْتِنَاعِ مِنْ أَكْلِ مَا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ؟ وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ يَتَضَمَّنُ الْإِنْكَارَ عَلَى مَنِ امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ أَيْ لَا شَيْءَ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ لِأَنَّهَا عَلَى مَا نُقِلَ مَكِّيَّةٌ، وَنَزَلَتْ فِي مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ فَلَا يُنَاسِبُ أَنْ تَكُونَ وَقَدْ فَصَّلَ رَاجِعًا إِلَى تَفْصِيلِ الْبَقَرَةِ وَالْمَائِدَةِ لِتَأْخِيرِهِمَا فِي النُّزُولِ عَنْ هَذِهِ السُّورَةِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: قَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ مِمَّا لَمْ يُحَرِّمْ عَلَيْكُمْ وَهُوَ قَوْلُهُ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ «٢» انْتَهَى. وَذَكَرْنَا أَنَّ تَفْصِيلَ التَّحْرِيمِ بِمَا فِي الْبَقَرَةِ وَالْمَائِدَةِ لَا يناسب ودعوى
(١) سورة الكهف: ١٨/ ١٢.
(٢) سورة المائدة: ٥/ ٣. [.....]
630
زِيَادَةِ لَا هُنَا لَا حَاجَةَ إِلَيْهَا وَالْمَعْنَى عَلَى كَوْنِهَا نَافِيَةً صَحِيحٌ وَاضِحٌ، وأَلَّا تَأْكُلُوا أَصْلُهُ فِي أَنْ لَا تَأْكُلُوا فَحَذَفَ فِي الْمُتَعَلِّقَةَ بِمَا تَعَلَّقَ بِهِ لَكُمُ الْوَاقِعُ خَبَرًا لِمَا الِاسْتِفْهَامِيَّةِ وَنَفْيُ أَلَّا تَأْكُلُوا عَلَى الْخِلَافِ أَهْوَ مَنْصُوبٌ أَوْ مَجْرُورٌ وَمَنْ ذَهَبَ إلى أَلَّا تَأْكُلُوا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَيْ تَارِكِينَ الْأَكْلَ فَقَوْلُهُ ضَعِيفٌ لِأَنَّ أَنْ وَمَعْمُولَهَا لَا يَقَعُ حَالًا وهذا منصوص عليه من سِيبَوَيْهِ، وَلَا نَعْلَمُ مُخَالِفًا لَهُ مِمَّنْ يُعْتَبَرُ وَلَهُ عِلَّةٌ مَذْكُورَةٌ فِي النَّحْوِ وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ:
وَقَدْ فَصَّلَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وَقَرَأَ الْعَرَبِيَّانِ وَابْنُ كَثِيرٍ فصل وحرم مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَنَافِعٌ وَحَفْصٌ فصل وحرم عَلَى بِنَائِهِمَا لِلْفَاعِلِ وَالْأَخَوَانِ وَأَبُو بَكْرٍ فَصَّلَ مَبْنِيًّا للفاعل وحرم مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَعَطِيَّةُ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ خَفَّفَ الصَّادَ ومعنى إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ مِنْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ فَإِنَّهُ حَلَالٌ لَكُمْ فِي حَالَةِ الِاضْطِرَارِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمَا يُرِيدُ بِهَا جَمِيعُ مَا حَرَّمَ كَالْمَيْتَةِ وَغَيْرِهَا قَالَ هُوَ وَالْحَوْفِيُّ، وَهِيَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِالِاسْتِثْنَاءِ أَوِ الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: مَا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ الْجِنْسِ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى كَأَنَّهُ وَبَّخَهُمْ بِتَرْكِ الْأَكْلِ مِمَّا سُمِّيَ عَلَيْهِ وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ إِبَاحَةَ الْأَكْلِ مُطْلَقًا.
وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَيْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْكُفَّارِ الْمُجَادِلِينَ فِي الْمَطَاعِمِ وَغَيْرِهَا لَيُضِلُّونَ بِالتَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ وَبِأَهْوَائِهِمْ وَشَهَوَاتِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ، أَيْ بِغَيْرِ شَرْعٍ مِنَ اللَّهِ بَلْ بِمُجَرَّدِ أَهْوَائِهِمْ كَعَمْرِو بْنِ لُحَيٍّ وَمَنْ دُونَهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ كَأَبِي الْأَحْوَصِ بْنِ مَالِكٍ الْجَشْمِيِّ وَبُدَيْلِ بْنِ وَرْقَاءَ الْخُزَاعِيِّ وَحُلَيْسِ بْنِ يَزِيدَ الْقُرَشِيِّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْبَحَائِرَ وَالسَّوَائِبَ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو لَيُضِلُّونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ هُنَا وَفِي يُونُسَ رَبَّنا لِيُضِلُّوا «١» وَفِي إِبْرَاهِيمَ أَنْداداً لِيُضِلُّوا «٢» وَفِي الْحَجِّ ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ «٣» وَفِي لُقْمَانَ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ «٤» وَفِي الزُّمَرِ أَنْداداً لِيُضِلَّ «٥» وَضَمَّهَا الْكُوفِيُّونَ فِي السِّتَّةِ وَافَقَهُمُ الصَّاحِبَانِ إِلَّا فِي يُونُسَ وَهُنَا فَفَتَحَ.
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ أَيْ بِالْمُجَاوِزِينَ الْحَدَّ فِي الِاعْتِدَاءِ فَيُحَلِّلُونَ وَيُحَرَّمُونَ مِنْ غَيْرِ إِذَنِ اللَّهِ وَهَذَا إِخْبَارٌ يَتَضَمَّنُ الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ لِمَنِ اعْتَدَى أَيْ فَيُجَازِيهِمْ عَلَى اعتدائهم.
(١) سورة يونس: ١٠/ ١١.
(٢) سورة إبراهيم: ١٤/ ٣٠.
(٣) سورة الحج: ٢٢/ ٩.
(٤) سورة لقمان: ٣١/ ٦.
(٥) سورة الزمر: ٣٩/ ٨.
631
وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ الْإِثْمِ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْمَعَاصِي لَمَّا عَتَبَ عَلَيْهِمْ فِي تَرْكِ أَكْلِ مَا سُمِّيَ اللَّهُ عَلَيْهِ أُمِرُوا بِتَرْكِ الْإِثْمِ مَا فُعِلَ ظَاهِرًا وَمَا فُعِلَ فِي خُفْيَةٍ فَكَأَنَّهُ قَالَ:
اتْرُكُوا الْمَعَاصِيَ ظَاهِرَهَا وَبَاطِنَهَا قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَعَطَاءُ وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ وَالزَّجَّاجُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ظَاهِرُهُ الزِّنَا. وَقَالَ السُّدِّيُّ: الزِّنَا الشَّهِيرُ الَّذِي كَانَتِ الْعَرَبُ تَفْعَلُهُ وَبَاطِنُهُ اتِّخَاذُ الْأَخْدَانِ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: ظَاهِرُهُ مَا نَصَّ اللَّهُ عَلَى تَحْرِيمِهِ بِقَوْلِهِ:
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ «١» الْآيَةَ وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ «٢» الْآيَةَ، وَالْبَاطِنُ الزِّنَا. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: ظَاهِرُهُ نَزْعُ أَثْوَابِهِمْ إِذْ كَانُوا يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ عُرَاةً وَبَاطِنُهُ الزِّنَا. وَقِيلَ:
ظَاهِرُهُ عَمَلُ الْجَوَارِحِ وَبَاطِنُهُ عَمَلُ الْقَلْبِ مِنَ الْكِبْرِ وَالْحَسَدِ وَالْعُجْبِ وَسُوءِ الِاعْتِقَادِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَعَاصِي الْقَلْبِ. وَقِيلَ: ظَاهِرُهُ الْخَمْرُ وَبَاطِنُهُ النَّبِيذُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا: ظَاهِرُهُ الزِّنَا وَبَاطِنُهُ مَا نَوَاهُ. وَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: الْأَلْيَقُ أَنْ يُحْمَلَ ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ عَلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَمَا لَمْ يذكر اسم الله عليه، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الْإِثْمِ هُنَا الشِّرْكُ وَقَالَ غَيْرُهُ جَمِيعُ الذُّنُوبِ سِوَى الشِّرْكِ، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ تَخْصِيصَاتٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا وَالظَّاهِرُ الْعُمُومُ فِي الْمَعَاصِي كُلِّهَا مِنَ الشِّرْكِ وَغَيْرِهِ، ظَاهِرِهَا وَخَفِيِّهَا وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْعُمُومِ كُلُّ مَا ذَكَرُوهُ.
إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ أَيْ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ فِي الدُّنْيَا سَيُجْزَوْنَ فِي الْآخِرَةِ وَهَذَا وَعِيدٌ وَتَهْدِيدٌ لِلْعُصَاةِ.
وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ قَالَ السَّخَاوِيُّ قَالَ مَكْحُولٌ:
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي الدرداء وعبادة بن الصامت مِثْلَ ذَلِكَ وَأَجَازَ ذَبَائِحَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَإِنْ لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهَا، وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ الْآيَةَ مُحْكَمَةٌ
وَلَا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَأْكُلَ مِنْ ذَبَائِحِهِمْ إِلَّا مَا ذُكِرَ عَلَيْهِ اسْمُ اللَّهِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ
وَعَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ انْتَهَى. وَلَا يُسَمَّى هَذَا نَسْخًا بَلْ هُوَ تَخْصِيصٌ وَلَمَّا أَمَرَ بِأَكْلِ مَا سُمِّيَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَكَانَ مَفْهُومُهُ أَنَّهُ لَا يَأْكُلُ مِمَّا لَمْ يذكر اسم الله عليه أَكَّدَ هَذَا الْمَفْهُومَ بِالنَّصِّ عَلَيْهِ، وَالظَّاهِرُ تَحْرِيمُ أَكْلِ مَا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ عَمْدًا كَأَنْ تَرَكَ التَّسْمِيَةَ أَوْ نِسْيَانًا وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنِ عَيَّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْخَطِيمِيُّ وَابْنُ سِيرِينَ وَالشَّعْبِيُّ وَنَافِعٌ وَأَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُدُ فِي رِوَايَةٍ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا فِي رِوَايَةٍ وَأَبُو عِيَاضٍ وَأَبُو رَافِعٍ وَعَطَاءٌ وَابْنُ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنُ وَجَابِرٌ وَعِكْرِمَةُ وَطَاوُسُ وَالنَّخَعِيُّ وَقَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى وَرَبِيعَةُ ومالك في
(١) سورة النساء: ٤/ ٢٣.
(٢) سورة النساء: ٤/ ٢٢.
632
رِوَايَةٍ، وَالشَّافِعِيُّ وَالْأَصَمُّ: يَحِلُّ أَكْلُ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا كَانَ التُّرْكُ أَوْ نِسْيَانًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَطَاوُسُ أَيْضًا وَابْنُ شِهَابٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٌ فِي رِوَايَةٍ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَالثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ حُيَيٍّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَإِسْحَاقُ وَمَالِكٌ فِي رِوَايَةٍ، وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ وَابْنُ أَبِي الْقَاسِمِ وَعِيسَى وَأَصْبُغُ: يُؤْكَلُ إِنْ كَانَ التَّرْكُ نَاسِيًا وَإِنْ كَانَ عَمْدًا لَمْ يُؤْكَلْ وَاخْتَارَهُ النَّحَّاسُ وَقَالَ: لَا يُسَمَّى فَاسِقًا إِذَا كَانَ نَاسِيًا
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ جَوَازُ أَكْلِ ذَبِيحَةِ النَّاسِي لِلتَّسْمِيَةِ
، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَقَالَ أَشْهَبُ وَالطَّبَرِيُّ: تُؤْكَلُ ذبيحة تارك التسمية عمدا إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُسْتَخِفًّا. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْآيِذِيُّ: يُكْرَهُ أَكْلُ ذَبِيحَةِ تَارِكِ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا وَتَحْتَاجُ هَذِهِ التَّخْصِيصَاتُ إِلَى دَلَائِلَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ظَاهِرُهُ لِعُمُومِ الْآيَةِ وَهُوَ مَتْرُوكُ التَّسْمِيَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ: إِنَّهُ الْمَيْتَةُ وَعَنْهُ أَنَّهُ الْمَيْتَةُ وَالْمُنْخَنِقَةُ إِلَى وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ، وَقَالَ عَطَاءٌ: ذَبَائِحُ لِلْأَوْثَانِ كَانَتِ الْعَرَبُ تَفْعَلُ ذَلِكَ، وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: صَيْدُ الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّهُمْ لَا يُسَمُّونَ عِنْدَ إِرْسَالِ السَّهْمَ وَلَا هُمْ مِنْ أَهْلِ التَّسْمِيَةِ. قَالَ الحسن: لَفِسْقٌ لكفر، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: يُرِيدُ مَعَ الاستحلال وقال غيره لفسق الْمَعْصِيَةُ وَالضَّمِيرُ فِي وَإِنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الْمَصْدَرِ الدَّالِّ عَلَيْهِ تَأْكُلُوا أَيْ وَإِنَّ الْأَكْلَ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ وَجَوَّزَ مَعَهُ الْحَوْفِيُّ فِي أَنْ يَعُودَ عَلَى مَا مِنْ قَوْلِهِ: مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ وَجَوَّزَ مَعَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنْ يَعُودَ عَلَى الذِّكْرِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ لَمْ يُذْكَرِ، انْتَهَى.
وَمَعْنَى أَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَنْفِيِّ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَإِنَّ تَرْكَ الذِّكْرِ لِفِسْقٌ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ وَتَضَمَّنَتْ مَعْنَى التَّعْلِيلِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ لِفِسْقِهِ.
وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ أَيْ وَإِنَّ شَيَاطِينَ الْجِنِّ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: مَرَدَةُ الْإِنْسِ مِنْ مَجُوسِ فَارِسَ وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ كِتَابَتِهِمْ إِلَى قُرَيْشٍ أَيْ لَيُوَسْوِسُونَ إِلَى كَفَّارِ قُرَيْشٍ بِإِلْهَامِهِمْ تِلْكَ الْحُجَّةَ فِي أَمْرِ الذَّبَائِحِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا، أَوْ عَلَى أَلْسِنَةِ الْكُهَّانِ فِي زَمَانِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ بِقَوْلِهِمْ: وَلَا تَأْكُلُونَ مَا قَتَلَهُ اللَّهُ، وَبِهَذَا تَرَجَّحَ تَأْوِيلُ مَنْ تَأَوَّلَ بِالْمَيْتَةِ انْتَهَى. وَالْأَحْسَنُ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى عَدَمِ التَّخْصِيصِ بِمَا ذَكَرُوهُ بَلْ هَذَا إِخْبَارٌ أَنَّ مَا صَدَرَ مِنْ جِدَالِ الْكُفَّارِ لِلْمُؤْمِنِينَ وَمُنَازَعَتِهِمْ فَإِنَّمَا هُوَ مِنَ الشَّيَاطِينِ يُوَسْوِسُونَ لَهُمْ بِذَلِكَ وَلِذَلِكَ خُتِمَ بِقَوْلِهِ:
وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ أَيْ وَإِنْ أَطَعْتُمْ أَوْلِيَاءَ الشَّيَاطِينِ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ لِأَنَّ طَاعَتَهُمْ طَاعَةٌ لِلشَّيَاطِينِ وَذَلِكَ إِشْرَاكٌ وَلَا يَكُونُ مُشْرِكًا حَقِيقَةً حَتَّى يُطِيعَهُ فِي الِاعْتِقَادِ،
633
وَأَمَّا إِذَا أَطَاعَهُ فِي الْفِعْلِ وَهُوَ سَلِيمُ الِاعْتِقَادِ فَهُوَ فَاسِقٌ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ إِخْبَارٌ يَتَضَمَّنُ الْوَعِيدَ وَأَصْعَبُ مَا عَلَى الْمُؤْمِنِ أَنْ يُشْبِهَ الْمُشْرِكَ فَضْلًا أَنْ يُحْكَمَ عَلَيْهِ بِالشِّرْكِ. وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الَّذِينَ جَادَلُوا بِتِلْكَ الْحُجَّةِ قَوْمٌ مِنَ الْيَهُودِ وَضُعِّفَ بِأَنَّ الْيَهُودَ لَا تَأْكُلُ الْمَيْتَةَ اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ قَالُوا ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْمُغَالَطَةِ وَإِجَابَتِهِمْ عَنِ الْعَرَبِ فَيُمْكِنُ وَجَوَابُ الشَّرْطِ. زَعَمَ الْحَوْفِيُّ أَنَّهُ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ عَلَى حَذْفِ الْفَاءِ أَيْ فَإِنَّكُمْ وَهَذَا الْحَذْفُ مِنَ الضَّرَائِرِ فَلَا يَكُونُ فِي الْقُرْآنِ وَإِنَّمَا الْجَوَابُ مَحْذُوفٌ وإِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ التَّقْدِيرُ وَاللَّهِ إِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ لِقَوْلِهِ: وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ «١» وَقَوْلِهِ: وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ «٢» وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ هَذَا التَّرْكِيبُ بِتَقْدِيرِ اللام المؤذنة بالقسم المحذوف عَلَى إِنِ الشَّرْطِيَّةِ، كَقَوْلِهِ: لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ «٣» وَحُذِفَ جَوَابُ الشَّرْطِ لِدَلَالَةِ جَوَابِ الْقَسَمِ عَلَيْهِ.
أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي حَمْزَةَ وَأَبِي جَهْلٍ رَمَى الرَّسُولَ بِفَرْثٍ فَأَخْبَرَ بِذَلِكَ حَمْزَةَ حِينَ رَجَعَ مِنْ قَنْصِهِ وَبِيَدِهِ قَوْسٌ، وَكَانَ لَمْ يُسْلِمْ فَغَضِبَ فَعَلَا بِهَا أَبَا جَهْلٍ وَهُوَ يَتَضَرَّعُ إِلَيْهِ وَيَقُولُ: سَفَّهَ عُقُولَنَا وَسَبَّ آلِهَتِنَا وَخَالَفَ آبَاءَنَا، فَقَالَ حَمْزَةُ: وَمَنْ أَسْفَهُ مِنْكُمْ تَعْبُدُونَ الْحِجَارَةَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَسْلَمَ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَمَّارٍ وَأَبِي جَهْلٍ.
وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: فِي عُمَرَ وَأَبِي جَهْلٍ لَمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ مَثَّلَ تَعَالَى بِأَنْ شَبَّهَ الْمُؤْمِنَ بَعْدَ أَنْ كَانَ كَافِرًا بِالْحَيِّ الْمَجْعُولِ لَهُ نُورٌ يَتَصَرَّفُ بِهِ كَيْفَ سَلَكَ، وَالْكَافِرَ بِالْمُخْتَلِطِ فِي الظُّلُمَاتِ الْمُسْتَقِرِّ فِيهَا دَائِمًا لِيُظْهِرَ الْفَرْقَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ وَالْمَوْتُ وَالْحَيَاةُ وَالنُّورُ وَالظُّلْمَةُ مَجَازٌ فَالظُّلْمَةُ مَجَازٌ عَنِ الْكُفْرِ وَالنُّورُ مَجَازٌ عَنِ الْإِيمَانِ وَالْمَوْتُ مَجَازٌ عَنِ الْكُفْرِ.
وَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: الْمَوْتُ مَجَازٌ عَنْ كَوْنِهِ فِي ظُلْمَةِ الْبَطْنِ لَا يُبْصِرُ وَلَا يَعْقِلُ شَيْئًا ثُمَّ أُخْرِجَ فَأَبْصَرَ وَعَقَلَ، نَقُولُ: لَا يَسْتَوِي مَنْ أُخْرِجَ مِنَ الظُّلُمَاتِ وَمَنْ تُرِكَ فِيهَا فَكَذَلِكَ لَا يَسْتَوِي الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُبْصِرُ الْحَقَّ وَيَعْمَلُ بِهِ، وَالْكَافِرُ الَّذِي لَا يُبْصِرُ وَنَحْوٌ مِنْهُ قَوْلُ ابْنِ بحر قال: أو من كَانَ نُطْفَةً أَوْ عَلَقَةً أَوْ مُضْغَةً فَصَوَّرْنَاهُ وَنَفَخْنَا فِيهِ الرُّوحَ، انْتَهَى وَأَمَّا النُّورُ فَهُوَ نُورُ الْحِكْمَةِ أَوْ نُورُ الدِّينِ أَوِ الْقُرْآنُ أَقْوَالٌ.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: الْحَيَاةُ الِاسْتِعْدَادُ لِقَبُولِ الْمَعَارِفِ فَتَحْصُلُ لَهُ عُلُومٌ كُلِّيَّةٌ أَوَّلِيَّةٌ
(١) سورة المائدة: ٥/ ٧٣.
(٢) سورة الأعراف: ٧/ ٢٣.
(٣) سورة الحشر: ٥٩/ ١٢.
634
وَهِيَ الْمُسَمَّاةُ بِالْعَقْلِ وَالنُّورُ مَا تُوَصِّلُ إِلَيْهِ تَرْكِيبُ تِلْكَ الْبَدِيهِيَّاتِ مِنَ الْمَجْهُولَاتِ النَّظَرِيَّةِ وَمَشْيُهُ فِي النَّاسِ كَوْنُهُ صَارَ مُحْضِرًا لِلْمَعَارِفِ الْقُدْسِيَّةِ وَالْجَلَايَا الرُّوحَانِيَّةِ نَاظِرًا إِلَيْهَا، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ:
الْحَيَاةُ الِاسْتِعْدَادُ الْقَائِمُ بِجَوْهَرِ الرُّوحِ وَالنُّورُ اتِّصَالُ نُورِ الْوَحْيِ وَالتَّنْزِيلِ بِهِ فَالْبَصِيرَةُ لا بد فيها من أَمْرَيْنِ: سَلَامَةُ حَاسَّةِ الْعَقْلِ، وَطُلُوعُ نُورِ الْوَحْيِ كَمَا أَنَّ الْبَصَرَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ أَمْرَيْنِ: سَلَامَةُ الْحَاسَّةِ وَطُلُوعُ الشَّمْسِ انْتَهَى، مُلَخَّصًا. وَهُوَ بَعِيدٌ مِنْ مَنَاحِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَمَفْهُومَاتِهَا.
وَلَمَّا ذَكَرَ صِفَةَ الْإِحْسَانِ إِلَى الْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ نَسَبَ ذَلِكَ إِلَيْهِ فَقَالَ: فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً وَفِي صِفَةِ الْكَافِرِ لَمْ يَنْسُبْهَا إِلَى نَفْسِهِ بَلْ قَالَ: كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ وَلَمَّا كَانَتْ أَنْوَاعُ الْكُفْرِ مُتَعَدِّدَةً قَالَ فِي الظُّلُماتِ وَلَمَّا ذَكَرَ جَعْلَ النُّورِ لِلْمَيِّتِ قَالَ: يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ أَيْ يَصْحَبُهُ كَيْفَ تَقَلَّبَ، وَقَالَ: فِي النَّاسِ إِشَارَةً إِلَى تَنْوِيرِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى غَيْرِهِ مِنَ النَّاسِ فَذَكَرَ أَنَّ مَنْفَعَةَ الْمُؤْمِنِ لَيْسَتْ مُقْتَصِرَةً عَلَى نَفْسِهِ وَقَابَلَ تَصَرُّفَهُ بِالنُّورِ وَمُلَازِمَةُ النُّورِ لَهُ بِاسْتِقْرَارِ الْكَافِرِ فِي الظُّلُماتِ وَكَوْنِهِ لَا يُفَارِقُهَا، وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِدُخُولِ الْبَاءِ فِي خَبَرِ لَيْسَ وَيَبْعُدُ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ النُّورَ وَالظُّلْمَةَ هُمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِشَارَةً إِلَى قَوْلِهِ: يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ «١» وَإِلَى ظُلْمَةِ جَهَنَّمَ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مَثَلِ فِي قَوْلِهِ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا «٢» وَقَرَأَ طَلْحَةُ أَفَمَنْ الْفَاءُ بَدَلُ الْوَاوِ.
كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ الْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى إِحْيَاءِ الْمُؤْمِنِ أَوْ إِلَى كَوْنِ الْكَافِرِ فِي الظُّلُمَاتِ أَيْ كَمَا أَحْيَيْنَا الْمُؤْمِنَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِ أَوْ كَكَيْنُونَةِ الْكَافِرِ فِي الظُّلُمَاتِ، زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ وَالْفَاعِلُ مَحْذُوفٌ. قَالَ الْحَسَنُ: هُوَ الشَّيْطَانُ، وَقَالَ غيره: الله تعال وَجَوَّزَ الْوَجْهَيْنِ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي التَّزْيِينِ وَقِيلَ: الْمُزَيِّنُ الْأَكَابِرُ الْأَصَاغِرُ.
وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها أَيْ كَمَا جَعَلْنَا فِي مَكَّةَ صَنَادِيدَهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ، وَتَضَمَّنَ ذَلِكَ فَسَادَ حَالِ الْكَفَرَةِ الْمُعَاصِرِينَ لِلرَّسُولِ إِذْ حَالُهُمْ حَالُ مَنْ تَقَدَّمَهُمْ مِنْ نُظَرَائِهِمُ الْكُفَّارِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: نَزَلَتْ فِي الْمُسْتَهْزِئِينَ يَعْنِي أَنَّ التَّمْثِيلَ لَهُمْ وَقِيلَ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى كَذلِكَ زُيِّنَ فَتَكُونُ الْإِشَارَةُ فِيهِ إِلَى مَا أُشِيرُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: كَذلِكَ زُيِّنَ وجَعَلْنا بِمَعْنَى صَيَّرْنَا وَمَفْعُولُهَا الْأَوَّلُ أَكابِرَ مُجْرِمِيها وفِي كُلِّ قَرْيَةٍ المفعول الثاني وأَكابِرَ عَلَى هَذَا مُضَافٌ إِلَى مُجْرِمِيها، وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ مُجْرِمِيها بَدَلًا مِنْ أَكابِرَ وَأَجَازَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنْ يَكُونَ مُجْرِمِيها
(١) سورة الحديد: ٥٧/ ١٢.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ١٧.
635
المفعول الأول وأَكابِرَ الْمَفْعُولَ الثَّانِيَ وَالتَّقْدِيرُ مُجْرِمِيهَا أَكَابِرَ، وَمَا أَجَازَاهُ خَطَأٌ وَذُهُولٌ عَنْ قَاعِدَةٍ نَحْوِيَّةٍ وَهُوَ أَنَّ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ إِذَا كَانَ بِمَنْ مَلْفُوظًا بِهَا أَوْ مُقَدَّرَةً أَوْ مُضَافَةً إِلَى نَكِرَةٍ كَانَ مُفْرَدًا مُذَكَّرًا دَائِمًا سَوَاءً كَانَ لِمُذَكَّرٍ أَوْ مُؤَنَّثٍ مُفْرَدٍ أَوْ مُثَنَّى أَوْ مَجْمُوعٍ، فَإِذَا أُنِّثَ أَوْ ثُنِّيَ أَوْ جُمِعَ طَابَقَ مَا هُوَ لَهُ فِي ذَلِكَ وَلَزِمَهُ أَحَدُ أَمْرَيْنِ: إِمَّا الْأَلِفُ وَاللَّامُ أَوِ الْإِضَافَةُ إِلَى مَعْرِفَةٍ، وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَالْقَوْلُ بِأَنَّ مُجْرِمِيها بَدَلٌ مِنْ أَكابِرَ أَوْ أَنَّ مُجْرِمِيها مَفْعُولٌ أَوَّلُ خَطَأٌ لِالْتِزَامِهِ أَنْ يَبْقَى أَكابِرَ مَجْمُوعًا وَلَيْسَ فِيهِ أَلِفٌ وَلَامٌ وَلَا هُوَ مُضَافٌ إِلَى مَعْرِفَةٍ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، وَقَدْ تَنَبَّهَ الْكِرْمَانِيُّ لِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ فَقَالَ: أَضَافَ الْأَكَابِرَ إِلَى مُجْرِمِيهَا لِأَنَّ أَفْعَلُ لَا يُجْمَعُ إِلَّا مَعَ الْأَلِفِ وَاللَّامِ أَوْ مَعَ الْإِضَافَةِ انْتَهَى. وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَيِّدَ فَيَقُولَ: أَوْ مَعَ الْإِضَافَةِ إِلَى مَعْرِفَةٍ وَقَدَّرَ بَعْضُهُمُ الْمَفْعُولَ الثَّانِيَ مَحْذُوفًا أَيْ فُسَّاقًا لِيَمْكُرُوا فِيها وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ الْقُرْآنُ عَلَيْهِ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُقَالُ أَكَابِرَةٌ كَمَا قَالُوا أَحْمَرَ وَأَحَامِرَةٌ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
إِنَّ الْأَحَامِرَةَ الثَّلَاثَةَ أَهْلَكَتْ مَالِي وَكُنْتُ بِهِنَّ قَدَمًا مُولَعًا
انْتَهَى، وَلَا أَعْلَمَ أَحَدًا أَجَازَ فِي الْأَفَاضِلِ أَنْ يُقَالَ الْأَفَاضِلَةَ بَلِ الَّذِي ذَكَرَهُ النَّحْوِيُّونَ أَنَّ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ يُجْمَعُ لِلْمُذَكَّرِ عَلَى الْأَفْضَلِينَ أَوِ الْأَفَاضِلِ، وَخَصَّ الْأَكَابِرَ لِأَنَّهُمْ أَقْدَرُ عَلَى الْفَسَادِ وَالتَّحَيُّلِ وَالْمَكْرِ لِرِئَاسَتِهِمْ وَسِعَةِ أَرْزَاقِهِمْ وَاسْتِتْبَاعِهِمُ الضُّعَفَاءَ وَالْمَحَاوِيجَ. قَالَ الْبَغَوِيُّ: سُنَّةُ اللَّهِ أَنَّهُ جَعَلَ أَتْبَاعَ الرُّسُلِ الضُّعَفَاءَ كَمَا قَالَ: وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ «١» وَجَعَلَ فُسَّاقَهُمْ أَكَابِرَهُمْ، وَكَانَ قَدْ جَلَسَ عَلَى طَرِيقِ مَكَّةَ أَرْبَعَةٌ لِيَصْرِفُوا النَّاسَ عَنِ الْأَيْمَانِ بِالرَّسُولِ يَقُولُونَ لِكُلِّ مَنْ يَقْدَمُ إِيَّاكَ وَهَذَا الرَّجُلَ فَإِنَّهُ سَاحِرٌ كَاهِنٌ كَذَّابٌ وَهَذِهِ الْآيَةُ تَسْلِيَةٌ لِلرَّسُولِ إِذْ حَالُهُ فِي أَنْ كَانَ رُؤَسَاءُ قَوْمِهِ يُعَادُونَهُ كَمَا كَانَ في كل قَرْيَةِ مَنْ يُعَانِدُ الْأَنْبِيَاءَ، وَقَرَأَ ابْنُ مُسْلِمٍ أَكْبَرَ مُجْرِمِيهَا وَأَفْعَلُ التَّفْضِيلِ إِذَا أُضِيفَ إِلَى مَعْرِفَةٍ وَكَانَ لِمُثَنَّى أَوْ مَجْمُوعٍ أَوْ مُؤَنَّثٍ جَازَ أَنْ يُطَابِقَ وَجَازَ أَنْ يُفْرَدَ كَقَوْلِهِ: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ «٢» وَتَحْرِيرُ هَذَا وَتَفْصِيلُهُ وَخِلَافُهُ مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ، وَلَامُ لِيَمْكُرُوا لَامُ كَيْ. وَقِيلَ: لَامُ الْعَاقِبَةِ وَالصَّيْرُورَةِ.
وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ أَيْ وَبَالُهُ يَحِيقُ بِهِمْ كَمَا قَالَ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ وَما يَشْعُرُونَ يَحِيقُ ذَلِكَ بِهِمْ وَلَا يَعْنِي شُعُورَهُمْ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَهُوَ مُبَالَغَةٌ فِي نَفْيِ الْعِلْمِ إِذْ نَفَى عَنْهُمُ الشُّعُورَ الَّذِي يَكُونُ للبهائم.
(١) سورة الشعراء: ٢٦/ ١١١.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ٩٦. [.....]
636
وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ قَالَ مُقَاتِلٌ: رُوِيَ أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ قَالَ: لَوْ كَانَتِ النُّبُوَّةُ حَقًّا لَكُنْتُ أَوْلَى بِهَا مِنْكَ لِأَنِّي أَكْبَرُ مِنْكَ سِنًّا وَأَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا.
رُوِيَ أَنَّ أَبَا جَهْلٍ قَالَ: زَاحَمْنَا بَنِي عَبْدِ مُنَافٍ فِي الشَّرَفِ حَتَّى إِذَا صِرْنَا كَفَرَسَيْ رِهَانٍ قَالُوا: مِنَّا نَبِيٌّ يُوحَى إِلَيْهِ وَاللَّهِ لَا نَرْضَى بِهِ وَلَا نَتَّبِعُهُ أَبَدًا إِلَّا أَنْ يَأْتِيَنَا وَحْيٌ كَمَا يَأْتِيهِ فَنَزَلَتْ
وَنَحْوَهُ، بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً «١» وَالْآيَةُ الْعَلَامَةُ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ وَالضَّمِيرُ فِي جاءَتْهُمْ عَائِدٌ عَلَى الْأَكَابِرِ قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: يَعُودُ عَلَى الْمُجَادِلِينَ فِي أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَتَغْيِيَةُ إِيمَانِهِمْ بِقَوْلِهِ: حَتَّى نُؤْتى دَلِيلٌ عَلَى تَمَحُّلِهِمْ فِي دَعْوَاهُمْ وَاسْتِبْعَادٌ مِنْهُمْ أَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَقَعُ مِنْهُمُ الْبَتَّةَ إِذْ عَلَّقُوهُ بِمُسْتَحِيلٍ عِنْدَهُمْ، وَقَوْلُهُمْ:
رُسُلُ اللَّهِ لَيْسَ فِيهِ إِقْرَارٌ بِالرُّسُلِ مِنَ اللَّهِ وَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ وَالِاسْتِهْزَاءِ، وَلَوْ كَانُوا مُوقِنِينَ وَغَيْرَ معاندين لا تبعوا رُسُلَ اللَّهِ وَالْمِثْلِيَّةُ كَوْنُهُمْ يُجْرَى عَلَى أَيْدِيهِمُ الْمُعْجِزَاتُ فَتَحْيَى لَهُمُ الْأَمْوَاتُ وَيُفْلَقُ لَهُمُ الْبَحْرُ وَنَحْوُ ذَلِكَ، كَمَا جَرَتْ عَلَى أَيْدِي الرُّسُلِ أَوِ النُّبُوَّةِ أَوْ جِبْرِيلَ وَالْمَلَائِكَةِ أَوِ انْشِقَاقِ الْقَمَرِ أَوِ الدُّخَانِ أَوْ آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ تَأْمُرُهُمْ بِالْإِيمَانِ أَقْوَالٌ آخِرُهَا لِلْحَسَنِ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَفِيهِ تَأْمُرُهُمْ بِاتِّبَاعِ الرَّسُولِ وَأَوْلَاهَا النُّبُوَّةُ وَالرِّسَالَةُ لِقَوْلِهِ:
اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رسالاته فَظَاهِرُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الْمِثْلِيَّةُ هِيَ فِي الرِّسَالَةِ. وَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: أَخْبَرَ عَنْ غَايَةِ سَفَهِهِمْ وَأَنَّهُمْ يَنْكِرُونَ رِسَالَتَهُ عَنْ عِلْمٍ بِهَا وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا تَمَنَّوْا أَنْ يُؤْتَوْا مِثْلَ مَا أُوتِيَ انْتَهَى وَلَمْ يَتَمَنَّوْا ذَلِكَ إِنَّمَا أَخْبَرُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُؤْتَوْا مِثْلَ مَا أُوتِيَ الرُّسُلُ فَعَلَّقُوا ذَلِكَ عَلَى مُمْتَنِعٍ وَقَصَدُوا بِذَلِكَ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ الْبَتَّةَ.
اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ هَذَا اسْتِئْنَافُ إِنْكَارٍ عَلَيْهِمْ وَأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَصْطَفِي لِلرِّسَالَةِ إِلَّا مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ يَصْلُحُ لَهَا وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْجِهَةِ الَّتِي يَضَعُهَا فِيهَا وَقَدْ وَضَعَهَا فِيمَنِ اخْتَارَهُ لَهَا وَهُوَ رَسُولُ اللَّهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ دُونَ أَكَابِرِ مَكَّةَ كَأَبِي جَهْلٍ وَالْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَنَحْوِهِمَا. وَقِيلَ: الْأَبْلَغُ فِي تَصْدِيقِ الرُّسُلِ أَنْ لَا يَكُونُوا قَبْلَ الْبَعْثِ مُطَاعِينَ فِي قَوْمِهِمْ لِأَنَّهُمْ إِنْ كَانُوا مُطَاعِينَ قَبْلُ اتَّبَعُوا لِأَجْلِ الطَّاعَةِ السَّابِقَةِ وَقَالُوا: حَيْثُ لَا يُمْكِنُ إِقْرَارُهَا عَلَى الظَّرْفِيَّةِ هُنَا. قَالَ الْحَوْفِيُّ: لِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَكُونُ فِي مَكَانٍ أَعْلَمَ مِنْهُ فِي مَكَانٍ فَإِذَا لَمْ تَكُنْ ظَرْفًا كَانَتْ مَفْعُولًا عَلَى السِّعَةِ وَالْمَفْعُولُ عَلَى السِّعَةِ لَا يُعْمَلُ فِيهِ أَعْلَمُ لِأَنَّهُ لَا يَعْمَلُ فِي الْمَفْعُولَاتِ فَيَكُونُ الْعَامِلُ فِيهِ فِعْلٌ دَلَّ عَلَيْهِ أَعْلَمُ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: وَالتَّقْدِيرُ يَعْلَمُ موضع
(١) سورة المدّثر: ٧٤/ ٥٢.
637
رِسَالَاتِهِ وَلَيْسَ ظَرْفًا لِأَنَّهُ يَصِيرُ التَّقْدِيرُ يَعْلَمُ فِي هَذَا الْمَكَانِ كَذَا وَلَيْسَ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، وَكَذَا قَدَّرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقَالَ التِّبْرِيزِيُّ: حَيْثُ هُنَا اسْمٌ لَا ظَرْفٌ انْتَصَبَ انْتِصَابَ الْمَفْعُولِ كَمَا فِي قَوْلِ الشَّمَّاخِ:
وَحَلَّأَهَا عَنْ ذِي الْأَرَاكَةِ عَامِرُ أَخُو الْخُضْرِ يَرْمِي حَيْثُ تُكْوَى النَّوَاحِرُ
فَجَعَلَ مَفْعُولًا بِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ يُرِيدُ أَنَّهُ يَرْمِي شَيْئًا حَيْثُ تُكْوَى النَّوَاحِرُ، إِنَّمَا يُرِيدُ أَنَّهُ يَرْمِي ذَلِكَ الْمَوْضِعَ انْتَهَى. وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ عَلَى السِّعَةِ أَوْ مَفْعُولٌ بِهِ عَلَى غَيْرِ السِّعَةِ تَأْبَاهُ قَوَاعِدُ النَّحْوِ، لِأَنَّ النُّحَاةَ نَصُّوا عَلَى أَنَّ حَيْثُ مِنَ الظُّرُوفِ الَّتِي لَا تَتَصَرَّفُ وَشَذَّ إِضَافَةُ لَدَى إِلَيْهَا وَجَرُّهَا بِالْيَاءِ وَنَصُّوا عَلَى أَنَّ الظَّرْفَ الَّذِي يُتَوَسَّعُ فِيهِ لَا يَكُونُ إِلَّا مُتَصَرِّفًا وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ امْتَنَعَ نَصْبُ حَيْثُ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ لَا عَلَى السِّعَةِ وَلَا عَلَى غَيْرِهَا، وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي إِقْرَارُ حَيْثُ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ عَلَى أَنَّ تَضَمُّنَ أَعْلَمُ مَعْنَى مَا يَتَعَدَّى إِلَى الظَّرْفِ فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ اللَّهُ أَنْفَذُ عِلْمًا حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ أَيْ هُوَ نَافِذُ الْعِلْمِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَجْعَلُ فِيهِ رِسَالَتَهُ، وَالظَّرْفِيَّةُ هُنَا مَجَازٌ كَمَا قُلْنَا وَرُوِيَ حَيْثُ بِالْفَتْحِ. فَقِيلَ: حَرَكَةُ بِنَاءٍ. وَقِيلَ: حَرَكَةُ إِعْرَابٍ وَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَى لُغَةِ بَنِي فَقْعَسٍ فَإِنَّهُمْ يُعْرِبُونَ حَيْثُ حَكَاهَا الْكِسَائِيُّ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَفْصٌ رِسَالَتَهُ بِالتَّوْحِيدِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ عَلَى الْجَمْعِ.
سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ هَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ وَعَلَّقَ الْإِصَابَةَ بِمَنْ أَجْرَمَ لِيَعُمَّ الْأَكَابِرَ وَغَيْرَهُمْ، وَالصَّغَارُ الذُّلُّ وَالْهَوَانُ يُقَالُ:
مِنْهُ صَغِرَ يَصْغَرُ وَصَغُرَ يَصْغُرُ صَغَرًا وَصِغَارًا وَاسْمُ الْفَاعِلِ صَاغِرٌ وَصَغِيرٌ وَأَرْضٌ مُصْغِرٌ لَمْ يَطُلْ نَبْتُهَا، عَنِ ابْنِ السِّكِّيتِ وَقَابَلَ الْأَكْبَرِيَّةَ بِالصَّغَارِ وَالْعَذَابِ الشَّدِيدِ مِنَ الْأَسْرِ وَالْقَتْلِ فِي الدُّنْيَا وَالنَّارِ فِي الْآخِرَةِ وَإِصَابَةُ ذَلِكَ لَهُمْ بِسَبَبِ مَكْرِهِمْ فِي قَوْلِهِ: لِيَمْكُرُوا فِيها وَقَوْلِهِ:
وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَقَدَّمَ الصَّغَارَ عَلَى الْعَذَابِ لِأَنَّهُمْ تَمَرَّدُوا عَنِ اتِّبَاعِ الرسول وتكبروا طبا لِلْعِزِّ وَالْكَرَامَةِ فَقُوبِلُوا أَوَّلًا بِالْهَوَانِ وَالذُّلِّ، وَلَمَّا كَانَتِ الطَّاعَةُ يَنْشَأُ عَنْهَا التَّعْظِيمُ ثُمَّ الثَّوَابُ عَلَيْهَا نَشَأَ عَنِ الْمَعْصِيَةِ الْإِهَانَةُ ثُمَّ الْعِقَابُ عَلَيْهَا وَمَعْنَى عِنْدَ اللَّهِ قَالَ الزَّجَّاجُ:
فِي عَرْصَةِ قَضَاءِ الْآخِرَةِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: فِي حُكْمِ اللَّهِ كَمَا يَقُولُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَيْ فِي حُكْمِهِ.
وَقِيلَ: فِي سَابِقِ عِلْمِهِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْجِزْيَةَ تُوضَعُ عَلَيْهِمْ لَا مَحَالَةَ وَأَنَّ حُكْمَ اللَّهِ بِذَلِكَ مُثْبَتٌ عِنْدَهُ بِأَنَّهُ سَيَكُونُ ذَلِكَ فِيهِمْ. وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ الضَّرِيرُ: فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ أَيْ صَغَارٌ وَعَذابٌ شَدِيدٌ عِنْدَ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ، وَانْتَصَبَ عِنْدَ سَيُصِيبُ أَوْ بِلَفْظِ صَغارٌ لِأَنَّهُ
638
مَصْدَرٌ فَيَعْمَلُ أَوْ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لصغار فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ، وَقَدَّرَهُ الزَّجَّاجُ ثابت عند الله وَمَا الظَّاهِرُ أَنَّهَا مَصْدَرِيَّةٌ أَيْ بِكَوْنِهِمْ يَمْكُرُونَ. وَقِيلَ: مَوْصُولَةٌ بِمَعْنَى الَّذِي.
فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ
قَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي أَبِي جَهْلٍ
، وَالْهِدَايَةُ هُنَا مُقَابِلَةُ الضَّلَالَةِ وَالشَّرْحُ كِنَايَةٌ عَنْ جَعْلِهِ قَابِلًا لِلْإِسْلَامِ مُتَوَسِّعًا لِقَبُولِ تَكَالِيفِهِ، وَنِسْبَةُ ذَلِكَ إِلَى صَدْرِهِ مَجَازٌ عَنْ ذَاتِ الشَّخْصِ وَلِذَلِكَ قَالُوا: فُلَانٌ وَاسِعُ الصَّدْرِ إِذَا كَانَ الشَّخْصُ مُحْتَمِلًا مَا يَرِدُ عَلَيْهِ مِنَ الْمَشَاقِّ وَالتَّكَالِيفِ، وَنِسْبَةُ إِرَادَةِ الْهُدَى وَالضَّلَالِ إِلَى اللَّهِ إِسْنَادٌ حَقِيقِيٌّ لِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْخَالِقُ ذَلِكَ وَالْمُوجِدُ لَهُ وَالْمُرِيدُ لَهُ وَشَرْحُ الصَّدْرِ تَسْهِيلُ قَبُولِ الْإِيمَانِ عَلَيْهِ وَتَحْسِينُهُ وَإِعْدَادُهُ لِقَبُولِهِ: وَضَمِيرُ فَاعِلِ الْهُدَى عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ أَيْ يَشْرَحُ اللَّهُ صَدْرَهُ.
وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الْهُدَى الْمُنْسَبِكِ مِنْ أَنْ يَهْدِيَهُ أَيْ يَشْرَحُ الْهُدَى صَدْرَهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَتَرَكَّبُ عَلَيْهِ مَذْهَبُ الْقَدَرِيَّةِ فِي خَلْقِ الْأَعْمَالِ انْتَهَى.
وَفِي الْحَدِيثِ السُّؤَالُ عَنْ كَيْفِيَّةِ هَذَا الشَّرْحِ وَأَنَّهُ إِذَا وَقَعَ النُّورُ فِي الْقَلْبِ انْشَرَحَ الصَّدْرُ وَأَمَارَتُهُ الْإِنَابَةُ إِلَى دَارِ الْخُلُودِ وَالتَّجَافِي عَنْ دَارِ الْغُرُورِ، وَالِاسْتِعْدَادُ لِلْمَوْتِ قَبْلَ الْفَوْتِ وَالضِّيقُ وَالْحَرَجُ كِنَايَةٌ عَنْ ضِدِّ الشَّرْحِ وَاسْتِعَارَةٌ لِعَدَمِ قَبُولِ الْإِيمَانِ وَالْحَرِجُ الشَّدِيدُ الضِّيقِ، وَالضَّمِيرُ فِي يَجْعَلُ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ وَمَعْنَى يَجْعَلُ يُصَيِّرُ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يُخْلَقُ أَوَّلًا عَلَى الْفِطْرَةِ وَهِيَ كَوْنُهُ مهيأ لِمَا يُلْقَى إِلَيْهِ وَلِمَا يُجْعَلُ فِيهِ فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ إِضْلَالَهُ أَضَلَّهُ وَجَعَلَهُ لَا يَقْبَلُ الْإِيمَانَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ يَجْعَلْ بِمَعْنَى يَخْلُقُ وَيَنْتَصِبُ ضَيِّقاً حَرَجاً عَلَى الْحَالِ أَيْ يَخْلُقُهُ عَلَى هَذِهِ الْهَيْئَةِ فَلَا يَسْمَعُ الْإِيمَانَ وَلَا يَقْبَلُهُ وَلِاعْتِزَالِ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ يَجْعَلْ هُنَا بِمَعْنَى يُسَمِّي قَالَ كَقَوْلِهِ: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً «١» قَالَ: أَيْ سَمُّوهُمْ أَوْ بِمَعْنَى يُحْكَمُ لَهُ بِالضِّيقِ كَمَا تَقُولُ: هَذَا يَجْعَلُ الْبَصْرَةَ مِصْرًا أَيْ يَحْكُمُ لَهَا بِحُكْمِهَا فِرَارًا مِنْ نِسْبَةِ خَلْقِ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ تَصْيِيرُهُ وُجُوبًا عَلَى مَذْهَبِهِ الِاعْتِزَالِيِّ وَنَحْوٌ مِنْهُ فِي خُرُوجِ اللَّفْظِ عَنْ ظَاهِرِهِ. قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ أَنْ يَهْدِيَهُ أَنْ يَلْطُفَ بِهِ وَلَا يُرِيدُ أَنْ يَلْطُفَ إِلَّا بِمَنْ له لطف بشرح صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ يَلْطُفْ بِهِ حَتَّى يَرْغَبَ فِي الْإِسْلَامِ وَتَسْكُنَ إِلَيْهِ نَفْسُهُ وَيُحِبَّ الدُّخُولَ فِيهِ، وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ أَنْ يَخْذُلَهُ وَيُخَلِّيَهُ وَشَأْنَهُ وَهُوَ الَّذِي لَا لُطْفَ لَهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً يَمْنَعُهُ أَلْطَافَهُ حَتَّى يَقْسُوَ قَلْبُهُ وَيَنْبُوَ عَنْ قَبُولِ الْحَقِّ وَيَنْسَدُّ فَلَا يَدْخُلُهُ الْإِيمَانُ انْتَهَى. وَهَذَا كُلُّهُ إِخْرَاجُ اللفظ عن ظاهره
(١) سورة الزخرف: ٤٣/ ١٩.
639
وَتَأْوِيلٌ عَلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْجُمْلَةُ التَّشْبِيهِيَّةُ مَعْنَاهَا أَنَّهُ كَمَا يُزَاوِلُ أَمْرًا غَيْرَ مُمْكِنٍ لِأَنَّ صُعُودَ السَّمَاءِ مَثَلٌ فِيمَا يَبْعُدُ وَيَمْتَنِعُ مِنْ الِاسْتِطَاعَةِ وَيَضِيقُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْمَقْدِرَةِ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ تَأْوِيلِ ابْنِ جُرَيْجٍ وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ وَالسُّدِّيِّ قَالُوا: أَيْ كَانَ هَذَا الضَّيِّقُ الصَّدْرِ الْحَرِجُ يُحَاوِلُ الصُّعُودَ فِي السَّمَاءِ حَتَّى حَاوَلَ الْإِيمَانَ أَوْ فَكَّرَ فِيهِ وَيَجِدُ صُعُوبَتَهُ عَلَيْهِ كَصُعُوبَةِ الصُّعُودِ فِي السَّمَاءِ انْتَهَى. وَلِامْتِنَاعِ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمُ اقْتَرَحُوا قَوْلَهُمْ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: الْمَعْنَى لَا تَجِدُ مَسْلَكًا إِلَّا صَعَدًا مِنْ شِدَّةِ التَّضَايُقِ، يُرِيدُ ضَاقَتْ عَلَيْهِ الْأَرْضُ فَظَلَّ مُصْعِدًا إِلَى السَّمَاءِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَنَّهُ عَازِبُ الرَّأْيِ طَائِرُ الْقَلْبِ فِي الْهَوَاءِ كَمَا يَطِيرُ الشَّيْءُ الْخَفِيفُ عِنْدَ عَصْفِ الرِّيَاحِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: ضَيِّقاً هُنَا وَفِي الْفُرْقَانِ فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مُخَفَّفًا مِنْ ضَيِّقٍ كَمَا قَالُوا لِينٌ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: الضَّيِّقُ بِالتَّشْدِيدِ فِي الْأَجْرَامِ وَبِالتَّخْفِيفِ فِي الْمَعَانِي، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا قَالُوا فِي مَصْدَرٍ ضَاقَ ضَيْقٌ بِفَتْحِ الضَّادِ وَكَسْرِهَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ فَإِمَّا يَنْسُبُ إِلَى الصَّدْرِ عَلَى الْمُبَالَغَةِ أَوْ عَلَى مَعْنَى الْإِضَافَةِ، أَيْ ذَا ضِيقٍ أَوْ عَلَى جَعْلِهِ مَجَازًا عَنِ اسْمِ الْفَاعِلِ وَهَذَا عَلَى الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ الْمَقُولَةِ فِي نَعْتِ الْأَجْرَامِ بِالْمَصَادِرِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو بَكْرٍ حَرَجاً بِفَتْحِ الرَّاءِ وَهُوَ مَصْدَرٌ أي ذا حرح أَوْ جُعِلَ نَفْسَ الْحَرَجِ، أَوْ بِمَعْنَى حَرِجَ بِكَسْرِ الراء ورويت عن عمرو قرأها لَهُ ثَمَّةَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ بِالْكَسْرِ. فَقَالَ: ابْغُونِي رَجُلًا مِنْ كِنَانَةَ رَاعِيًا وَلَكِنْ مَنْ بَنِيَ مُدْلِجٍ فَلَمَّا جَاءَهُ قَالَ: يَا فَتَى مَا الْحَرِجَةُ عِنْدَكُمْ؟ قَالَ: الشَّجَرَةُ تَكُونُ بَيْنَ الْأَشْجَارِ لَا يَصِلُ إِلَيْهَا رَاعِيَةً وَلَا وَحْشِيَّةٌ، فَقَالَ عُمَرُ: كَذَلِكَ قَلْبُ الْمُنَافِقِ لَا يَصِلُ إِلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الْخَيْرِ انْتَهَى. وَهَذَا تَنْبِيهٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ عَلَى جِهَةِ اشْتِقَاقِ الْفِعْلِ مِنْ نَفْسِ الْعَيْنِ كَقَوْلِهِمْ: اسْتَحْجَرَ وَاسْتَنْوَقَ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ يَصَّعَّدُ مُضَارِعُ صَعِدَ. وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ يَصَّاعَدُ أَصْلُهُ يَتَصَاعَدُ فَأُدْغِمَ.
وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ يَصَّعَّدُ بِتَشْدِيدِ الصَّادِ وَالْعَيْنِ وَأَصْلُهُ يَتَصَعَّدُ، وَبِهَذَا قَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَابْنُ مُصَرِّفٍ وَالْأَعْمَشُ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: كَأَنَّما يَصَّعَّدُ مِنْ سُفْلٍ إِلَى عُلُوٍّ وَلَمْ يُرِدِ السَّمَاءَ الْمُظِلَّةَ بِعَيْنِهَا كَمَا قَالَ سِيبَوَيْهِ وَالْقَيْدُودُ الطَّوِيلُ فِي غَيْرِ سَمَاءٍ أَيْ فِي غَيْرِ ارْتِفَاعٍ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أن يَكُونَ التَّشْبِيهُ بِالصَّاعِدِ فِي عَقَبَةٍ كَؤُودٍ كَأَنَّهُ يَصْعَدُ بِهَا فِي الْهَوَاءِ، وَيَصْعَدُ مَعْنَاهُ يَعْلُو وَيَصَّعَّدُ مَعْنَاهُ يَتَكَلَّفُ مِنْ ذَلِكَ مَا يَشُقُّ عَلَيْهِ وَمِنْهُ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: مَا تَصَعَّدَنِي شَيْءٌ كَمَا تَصَعَّدَنِي خِطْبَةُ النِّكَاحِ وَرُوِيَ مَا تَصَعَّدَنِي خِطْبَةٌ.
كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ أَيْ مِثْلَ ذَلِكَ الْجَعْلِ جَعْلُهُ الصَّدْرَ ضَيِّقاً حَرَجاً وَيَبْعُدُ مَا قَالَهُ الزَّجَّاجُ: أَيْ مِثْلَ مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ يَجْعَلْ وَمَعْنَى يَجْعَلُ اللَّهُ
640
الرِّجْسَ
يُلْقِي اللَّهُ أَوْ يُصَيِّرُ اللَّهُ الْعَذَابَ وَالرِّجْسُ بِمَعْنَى الْعَذَابِ قَالَهُ أَهْلُ اللُّغَةِ. وَتَعْدِيَةُ يَجْعَلْ بِعَلَى يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ نُلْقِي كَمَا تَقُولُ: جَعَلْتُ مَتَاعَكَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ وَأَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى يُصَيِّرُ وعَلَى فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَجْعَلُ اللَّهُ يَعْنِي الْخِذْلَانَ وَمَنْعَ التَّوْفِيقِ وَصَفَهُ بِنَقِيضِ مَا يُوصَفُ بِهِ التَّوْفِيقُ مِنَ الطِّيبِ أَوْ أَرَادَ الْفِعْلَ الْمُؤَدِّيَ إِلَى الرِّجْسِ وَهُوَ الْعَذَابُ من الارتجاس وهو الاضطراب انْتَهَى. وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِيِّ وَنَقِيضُ الطَّيِّبِ النَّتِنُ الرَّائِحَةِ الْكَرِيهَةِ، والرِّجْسَ وَالنَّجَسُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ قَالَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْكُوفَةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الرِّجْسَ كُلُّ مَا لَا خَيْرَ فِيهِ. وَقَالَ عَطَاءٌ وَابْنُ زَيْدٍ وَأَبُو عُبَيْدَةَ: الرِّجْسَ الْعَذَابُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: اللَّعْنَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ، وَقِيلَ: الرِّجْسَ السُّخْطُ. وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ الضَّرِيرُ: الرِّجْسَ التَّعْذِيبُ وَأَصْلُهُ النَّتِنُ النَّجِسُ وَهُوَ رَجَاسَةُ الْكُفْرِ.
وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَهذا إِلَى الْقُرْآنِ وَالشَّرْعِ الَّذِي جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَوِ الْقُرْآنُ قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، أَوِ التَّوْحِيدِ قَالَهُ بَعْضُهُمْ، أَوْ مَا قَرَّرَهُ فِي الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَفِي غَيْرِهَا مِنْ سُبُلِ الْهُدَى وَسُبُلِ الضَّلَالَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهذا صِراطُ رَبِّكَ طَرِيقُهُ الَّذِي اقْتَضَتْهُ الْحِكْمَةُ وَعَادَتُهُ فِي التَّوْفِيقِ وَالْخِذْلَانِ وَنَحْوٌ مِنْهُ قَوْلُ إِسْمَاعِيلَ الضَّرِيرِ يَعْنِي هَذَا صُنْعُ رَبِّكَ وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى الْهُدَى وَالضَّلَالِ، وَأُضِيفَ الصِّرَاطُ إِلَى الرَّبِّ عَلَى جِهَةِ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِهِ وَبِأَمْرِهِ مُسْتَقِيماً لَا عِوَجَ فِيهِ وَانْتَصَبَ مُسْتَقِيماً عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ.
قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ أَيْ بَيَّنَّاهَا وَلَمْ نَتْرُكْ فِيهَا إِجْمَالًا وَلَا الْتِبَاسًا.
لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ يَتَدَبَّرُونَ بِعُقُولِهِمْ وَكَأَنَّ الْآيَاتِ كَانَتْ شَيْئًا غَائِبًا عَنْهُمْ لَمْ يَذْكُرُوهَا فَلَمَّا فصلت تذكروها.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٢٧ الى ١٤٠]
لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٧) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلاَّ مَا شاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٢٨) وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٢٩) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (١٣٠) ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ (١٣١)
وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٣٢) وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (١٣٣) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (١٣٤) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (١٣٥) وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (١٣٦)
وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١٣٧) وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (١٣٨) وَقالُوا مَا فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٣٩) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (١٤٠)
641
لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أَيْ لَهُمُ الجنة والسَّلامِ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا قِيلَ فِي الْكَعْبَةِ بَيْتُ اللَّهِ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَأُضِيفَتْ إِلَيْهِ تَشْرِيفًا أَوْ دَارُ السَّلَامَةِ مِنْ كُلِّ آفَةٍ وَالسَّلَامُ وَالسَّلَامَةُ بِمَعْنًى كَاللَّذَادِ وَاللَّذَاذَةِ وَالضَّلَالِ وَالضَّلَالَةِ قَالَهُ الزَّجَّاجُ، أَوْ دارُ السَّلامِ بِمَعْنَى التَّحِيَّةِ لِأَنَّ تَحِيَّةَ أَهْلِهَا فِيهَا سَلَامٌ قَالَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ، وَمَعْنَى عِنْدَ رَبِّهِمْ فِي نُزُلِهِ وَضِيَافَتِهِ كَمَا تَقُولُ: نَحْنُ الْيَوْمَ عِنْدَ فُلَانٍ أَيْ فِي كَرَامَتِهِ وَضِيَافَتِهِ قَالَهُ قَوْمٌ، أَوْ فِي الْآخِرَةِ بَعْدَ الْحَشْرِ قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، أَوْ فِي ضَمَانِهِ كَمَا تَقُولُ لِفُلَانٍ: عَلَيَّ حَقٌّ لَا يُنْسَى أَوْ ذَخِيرَةٌ لَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ كُنْهَهَا لِقَوْلِهِ: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ «١» قَالَهُ قَوْمٌ مِنْهُمُ الزَّمَخْشَرِيُّ أَوْ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَوْ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِمْ قَالَهُ قَوْمٌ أَوْ فِي جِوَارِهِ كَمَا جَاءَ فِي جِوَارِ الرَّحْمَنِ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى شَرَفِ الرُّتْبَةِ وَالْمَنْزِلَةِ، كَمَا قَالَهُ فِي صِفَةِ الْمَلَائِكَةِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ «٢»، وَكَمَا قَالَ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ «٣» وَكَمَا قَالَ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ «٤» وَهُوَ وَلِيُّهُمْ أَيْ مُوَالِيهِمْ وَمُحِبُّهُمْ أَوْ نَاصِرُهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ أَوْ مُتَوَلَّيْهِمْ بِالْجَزَاءِ عَلَى أَعْمَالِهِمْ.
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ الظَّاهِرُ الْعُمُومُ فِي الثِّقَلَيْنِ لِتَقَدُّمِ ذِكْرِ الشَّيَاطِينِ وَهُمُ الْجِنُّ وَالْكَفَرَةُ أَوْلِيَاؤُهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ لَهُمْ دارُ السَّلامِ قَالَ مَعْنَاهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَدُلُّ عَلَيْهِ التَّأْكِيدُ الْعَامُّ بِقَوْلِهِ:
جَمِيعاً. وَقَالَ التِّبْرِيزِيُّ: وَهَذَا النِّدَاءُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ فِي يَحْشُرُهُمْ دَخَلَ فِيهِ الْجِنُّ حِينَ حَشَرَهُمْ ثُمَّ نَادَاهُمْ، أَمَّا الثِّقْلَانِ فَحَسْبُ أَوْ هُمَا وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْخَلَائِقِ انْتَهَى. وَمَنْ جَعَلَ وَيَوْمَ مَعْطُوفًا عَلَى بِما كانُوا يَعْمَلُونَ وَيَوْمَ نحشرهم فَالْعَامِلُ فِي الظَّرْفِ وَلِيُّهُمْ وَكَانَ الضَّمِيرُ خَاصًّا بِالْمُؤْمِنِينَ وَهُوَ بَعِيدٌ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ الظَّرْفُ مَعْمُولًا لِفِعْلِ الْقَوْلِ الْمَحْكِيِّ بِهِ النِّدَاءُ أَيْ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ نَقُولُ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَهُوَ أَوْلَى مِمَّا أَجَازَ بَعْضُهُمْ مِنْ نَصْبِهِ بِاذْكُرْ مَفْعُولًا بِهِ لِخُرُوجِهِ عَنِ الظَّرْفِيَّةِ وَمِمَّا أَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ نَصْبِهِ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ غَيْرِ فِعْلِ الْقَوْلِ وَاذْكُرْ تَقْدِيرُهُ عنده وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَقُلْنَا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ كَانَ مَا لَا يُوصَفُ لِفَظَاعَتِهِ لِاسْتِلْزَامِهِ حَذْفُ جُمْلَتَيْنِ مِنَ الْكَلَامِ جُمْلَةُ وَقُلْنَا وَجُمْلَةُ الْعَامِلِ، وَقَدَّرَ الزَّجَّاجُ فِعْلَ الْقَوْلِ الْمَحْذُوفِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ التَّقْدِيرُ فَيُقَالُ لَهُمْ لِأَنَّهُ يَبْعُدُ أَنْ يُكَلِّمَهُمُ اللَّهُ شِفَاهًا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ
(١) سورة السجدة: ٣٢/ ١٧.
(٢) سورة الأنبياء: ٢١/ ١٩.
(٣) سورة القمر: ٥٤/ ٥٥.
(٤) سورة التحريم: ٦٦/ ١١.
643
وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ «١» وَنِدَاؤُهُمْ نِدَاءُ شُهْرَةٍ وَتَوْبِيخٍ عَلَى رؤوس الْأَشْهَادِ وَالْمَعْشَرُ الْجَمَاعَةُ وَيُجْمَعُ على معاشر كَمَا
جَاءَ نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ.
وَقَالَ الْأَفْوَهُ:
فِينَا مُعَاشِرُ لَنْ يَبْنُوا لِقَوْمِهِمُ وَإِنْ بَنَى قومهم ما أفسدوا وعادوا
وَمَعْنَى الِاسْتِكْثَارِ هُنَا إِضْلَالُهُمْ مِنْهُمْ كَثِيرًا وَجَعْلُهُمْ أَتْبَاعَهُمْ كَمَا تَقُولُ: اسْتَكْثَرَ فُلَانٌ مِنَ الْجُنُودِ وَاسْتَكْثَرَ فُلَانٌ مِنَ الْأَشْيَاعِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: أَفْرَطْتُمْ فِي إِضْلَالِهِمْ وَإِغْوَائِهِمْ. وَقَرَأَ حَفْصٌ يَحْشُرُهُمْ بِالْيَاءِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِالنُّونِ.
وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا وَقَالَ: أَوْلِيَاءُ الْجِنَّ أَيِ الْكُفَّارُ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ انْتَفَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ فَانْتِفَاعُ الْإِنْسِ بِالشَّيَاطِينِ حَيْثُ دَلُّوهُمْ عَلَى الشَّهَوَاتِ وَعَلَى التَّوَصُّلَاتِ إِلَيْهَا، وَانْتِفَاعُ الْجِنِّ بِالْإِنْسِ حَيْثُ أَطَاعُوهُمْ وَسَاعَدُوهُمْ عَلَى مُرَادِهِمْ فِي إِغْوَائِهِمْ رُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَبِهِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وَالزَّجَّاجُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَمُقَاتِلٌ: اسْتِمْتَاعُ الْإِنْسِ بِالْجِنِّ قَوْلُ بَعْضِهِمْ: أَعُوذُ بِعَظِيمِ هَذَا الْوَادِي مِنْ شَرِّ أَهْلِهِ إِذَا بَاتَ بِالْوَادِي فِي سَفَرِهِ، وَاسْتِمْتَاعُ الْجِنِّ بِالْإِنْسِ افْتِخَارُهُمْ عَلَى قَوْمِهِمْ وَقَوْلُهُمْ: قَدْ سُدْنَا الْإِنْسَ حَتَّى صَارُوا يَعُوذُونَ بِنَا. قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْأَرْضَ مَمْلُوءَةٌ جِنًّا وَأَنَّ مَنْ لَمْ يُدْخِلْهُ جِنِّيٌّ فِي جِوَارِهِ خَبَلَهُ الْآخَرُونَ، وَكَذَلِكَ كَانُوا إِذَا قَتَلُوا صيد اسْتَعَاذُوا بِهِمْ لِأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ هَذِهِ الْبَهَائِمَ لِلْجِنِّ مِنْهَا مَرَاكِبُهُمْ. وَقِيلَ: فِي كَوْنِ عِظَامِهِمْ طَعَامًا لِلْجِنِّ وَأَرْوَاثِ دَوَابِّهِمْ عَلَفًا وَاسْتِمْتَاعُ الْإِنْسِ بِالْجِنِّ اسْتِعَانَتُهُمْ بِهِمْ عَلَى مَقَاصِدِهِمْ حِينَ يَسْتَخْدِمُونَهُمْ بِالْعَزَائِمِ، أَوْ يُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ انْتَهَى. وَوُجُوهُ الِاسْتِمْتَاعِ كَثِيرَةٌ تَدْخُلُ هَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا تَحْتَهَا فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْتَقَدَ فِي هَذِهِ الْأَقْوَالِ أَنَّهَا تَمْثِيلٌ فِي الِاسْتِمْتَاعِ لَا حَصْرٌ فِي وَاحِدٍ مِنْهَا، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ أَيْ بَعْضُ الْإِنْسِ بِالْجِنِّ وَبَعْضُ الْجِنِّ بِالْإِنْسِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى اسْتَمْتَعَ بَعْضُ الْإِنْسِ بِبَعْضِهِ وَبَعْضُ الْجِنِّ بِبَعْضِهِ، جَعَلَ الِاسْتِمْتَاعَ لبعض الصنف لبعض وَالْقَوْلُ السَّابِقُ بَعْضُ الصِّنْفَيْنِ بِبَعْضِ الصِّنْفَيْنِ وَالْأَجَلُ الَّذِي بَلَغُوهُ الْمَوْتُ قَالَهُ الْجُمْهُورُ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُهُمَا. وَقِيلَ: الْبَعْثُ وَالْحَشْرُ وَلَمْ يَذْكُرِ الزَّمَخْشَرِيُّ غَيْرَهُ. وَقِيلَ: هُوَ الْغَايَةُ الَّتِي انْتَهَى إِلَيْهَا جَمِيعُهُمْ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ وَهَذَا الْقَوْلُ مِنْهُمُ اعْتِذَارٌ عَنِ الْجِنِّ فِي كَوْنِهِمُ اسْتَكْثَرُوا مِنْهُمْ وَإِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ بِقَدَرِكَ وَقَضَائِكَ إِذْ لِكُلِّ كِتَابٍ أَجْلٌ وَاعْتِرَافٌ بِمَا كَانَ مِنْهُمْ مَنْ طَاعَةِ الشَّيَاطِينِ وَاتِّبَاعِ الْهَوَى وَالتَّكْذِيبِ بِالْبَعْثِ وَاسْتِسْلَامٌ وَتَحَسُّرٌ عَلَى حَالِهِمْ. وَقُرِئَ
(١) سورة البقرة: ٢/ ١٧٤.
644
آجَالَنَا عَلَى الْجَمْعِ الَّذِي عَلَى التَّذْكِيرِ وَالْإِفْرَادِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: هُوَ جِنْسٌ أَوْقَعَ الَّذِي مَوْقِعَ الَّتِي انْتَهَى. وَإِعْرَابُهُ عِنْدِي بَدَّلٌ كَأَنَّهُ قِيلَ: الْوَقْتَ الَّذِي وَحِينَئِذٍ يَكُونُ جِنْسًا وَلَا يَكُونُ إِعْرَابُهُ نَعْتًا لِعَدَمِ الْمُطَابَقَةِ وَفِي قَوْلِهِ: وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا دَلِيلٌ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ فِي قَوْلِهِمْ: بِالْأَجَلَيْنِ لِأَنَّهُمْ أَقَرُّوا بِذَلِكَ وَفِيهِمُ الْمَعْقُولُ وَغَيْرُهُ.
قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ أي مكان نوائكم أَيْ إِقَامَتِكُمْ قَالَ الزَّجَّاجُ وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: هُوَ عِنْدِي مَصْدَرٌ لَا مَوْضِعٌ وَذَلِكَ لِعَمَلِهِ فِي الْحَالِ الَّتِي هِيَ خالِدِينَ وَالْمَوْضِعُ لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى فِعْلٍ فَيَكُونُ عَامِلًا وَالتَّقْدِيرُ النَّارُ ذَاتُ ثُوَائِكُمْ انْتَهَى. وَيَصِحُّ قَوْلُ الزَّجَّاجِ عَلَى إِضْمَارٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَثْواكُمْ أَيْ يَثْوَوْنَ خالِدِينَ فِيها وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ مِنَ الْجُمْلَةِ الَّتِي يَلِيهَا الِاسْتِثْنَاءُ. وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: هُوَ مِنْ قَوْلِهِ: وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا أَيْ إِلَّا مَنْ أَهْلَكْتَهُ وَاخْتَرَمْتَهُ. قِيلَ: الْأَجَلُ الَّذِي سَمَّيْتَهُ لِكُفْرِهِ وَضَلَالِهِ وَهَذَا لَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَى مَا زَعَمَ لَكَانَ التَّرْكِيبُ إِلَّا مَا شِئْتَ، وَلِأَنَّ الْقَوْلَ بِالْأَجَلَيْنِ أَجْلِ الِاخْتِرَامِ وَالْأَجْلِ الَّذِي سَمَّاهُ اللَّهُ بَاطِلٌ وَالْفَصْلُ بَيْنَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَالْمُسْتَثْنَى بِقَوْلِهِ: قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها وَفِي ذَلِكَ تَنَافُرُ التَّرْكِيبِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ مُرَادٌ حَقِيقَةً وَلَيْسَ بِمَجَازٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ يَكُونُ مِنْ قَوْلِ الْمُوتُورِ الَّذِي ظَفِرَ بِوَاتِرِهِ وَلَمْ يَزَلْ يَخْرُقُ عَلَيْهِ أَنْيَابَهُ وَقَدْ طَلَبَ إِلَيْهِ أَنْ يُنَفِّسَ عَنْهُ خِنَاقَهُ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ إِنْ نَفَّسْتُ عَنْكَ إِلَّا إِذَا شِئْتَ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَشَاءُ إِلَّا التَّشَفِّي مِنْهُ بِأَقْصَى مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنَ التَّعْنِيفِ وَالتَّشْدِيدِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ إِلَّا إِذَا شِئْتَ مِنْ أَشَدِّ الْوَعِيدِ مَعَ تَهَكُّمٍ بِالْمَوْعِدِ لِخُرُوجِهِ فِي صُورَةِ الِاسْتِثْنَاءِ الَّذِي فِيهِ إِطْمَاعٌ انْتَهَى.
وَإِذَا كَانَ اسْتِثْنَاءً حَقِيقَةً فَاخْتَلَفُوا فِي الَّذِي اسْتُثْنِيَ مَا هُوَ؟ فَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ اسْتِثْنَاءُ أَشْخَاصٍ مِنَ الْمُخَاطَبِينَ وَهُمْ مَنْ آمَنَ فِي الدُّنْيَا بِعَذَابٍ كَانَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْكَفَرَةِ، وَلَمَّا كَانَ هَؤُلَاءِ صِنْفًا سَاغَ فِي الْعِبَارَةِ عَنْهُمْ مَا فَصَارَ كَقَوْلِهِ: فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ «١» حيث وقعت عَلَى نَوْعِ مَنْ يَعْقِلُ وهذا القول بُعْدٌ لِأَنَّ هَذَا خِطَابٌ لِلْكُفَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَكَيْفَ يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ فِيمَنْ آمَنُ مِنْهُمْ فِي الدُّنْيَا وَشَرْطُ مَنْ أُخْرِجَ بِالِاسْتِثْنَاءِ اتِّحَادُ زَمَانِهِ وَزَمَانُ الْمُخْرَجِ مِنْهُ. فَإِذَا قُلْتَ: قَامَ الْقَوْمُ إِلَّا زَيْدًا فَمَعْنَاهُ إِلَّا زَيْدًا فَإِنَّهُ مَا قَامَ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى إِلَّا زَيْدًا فَإِنَّهُ مَا يَقُومُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَكَذَلِكَ سَأَضْرِبُ الْقَوْمَ إِلَّا زَيْدًا مَعْنَاهُ إِلَّا زَيْدًا فَإِنِّي لَا أَضْرِبُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى إِلَّا زَيْدًا فَإِنِّي ضَرَبْتُهُ أَمْسِ إِلَّا إن
(١) سورة النساء: ٤/ ٣.
645
كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعًا فَإِنَّهُ يَسُوغُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى «١» أَيْ لَكِنِ الْمَوْتَةَ الْأُولَى فِي الدُّنْيَا فَإِنَّهُمْ ذَاقُوهَا. وَقَالَ قَوْمٌ: الْمُسْتَثْنَى هُمُ الْعُصَاةُ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ النَّارَ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ أَيْ إِلَّا النَّوْعَ الَّذِي دَخَلَهَا مِنَ الْعُصَاةِ فَإِنَّهُمْ لَا يُخَلَّدُونَ فِي النَّارِ. وَقَالَ قَوْمٌ: الِاسْتِثْنَاءُ مِنَ الْأَزْمَانِ أَيْ خالِدِينَ فِيها أَبَدًا إِلَّا الزَّمَانَ الَّذِي شَاءَ اللَّهُ أَنْ لَا يخلدون فيها، وَاخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فِي تَعْيِينِ الزَّمَانِ. فَقَالَ الطَّبَرِيُّ: هِيَ الْمُدَّةُ الَّتِي بَيْنَ حَشْرِهِمْ إِلَى دُخُولِهِمُ النَّارَ وَسَاغَ هَذَا مِنْ حَيْثُ الْعِبَارَةِ بِقَوْلِهِ: النَّارُ مَثْواكُمْ لَا يُخَصُّ بِصِيغَتِهَا مُسْتَقْبَلُ الزَّمَانِ دُونَ غَيْرِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ أَيْ يَخْلُدُونَ فِي عَذَابِ الْأَبَدِ كُلِّهِ إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ أَيِ الْأَوْقَاتِ الَّتِي يُنْقَلُونَ فِيهَا مِنْ عَذَابِ النَّارِ إِلَى عَذَابِ الزَّمْهَرِيرِ،
فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ وَادِيًا مِنَ الزَّمْهَرِيرِ مَا يُمَيِّزُ بَعْضَ أَوْصَالِهِمْ مِنْ بَعْضٍ فَيَتَعَاوَوْنَ وَيَطْلُبُونَ الرَّدَّ إِلَى الْجَحِيمِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ كَوْنِهِمْ فِي الدُّنْيَا بِغَيْرِ عَذَابٍ وَهَذَا رَاجِعٌ إِلَى الزَّمَانِ أَيْ إِلَّا الزَّمَانَ الَّذِي كَانُوا فِيهِ فِي الدُّنْيَا بِغَيْرِ عَذَابٍ، وَيَرُدُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مَا يَرُدُّ عَلَى مَنْ جَعَلَهُ اسْتِثْنَاءً مِنَ الْأَشْخَاصِ الَّذِينَ آمَنُوا فِي الدُّنْيَا. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِلَّا بِمَعْنَى سَوَاءً وَالْمَعْنَى سَوَاءً مَا يَشَاءُ مِنْ زِيَادَةٍ فِي الْعَذَابِ وَيَجِيءُ إِلَى هَذَا الزَّجَّاجُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ مِنَ النَّكَالِ وَالزِّيَادَةِ عَلَى الْعَذَابِ وَهَذَا رَاجِعٌ إِلَى الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ الْمَصْدَرِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ مَعْنَى الْكَلَامِ، إِذِ الْمَعْنَى تُعَذَّبُونَ بِالنَّارِ خالِدِينَ فِيها إِلَّا مَا شَاءَ مِنَ الْعَذَابِ الزَّائِدِ عَلَى النَّارِ فَإِنَّهُ يُعَذِّبُكُمْ بِهِ وَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا إِذِ الْعَذَابُ الزَّائِدُ عَلَى عَذَابِ النَّارِ لَمْ يَنْدَرِجْ تَحْتَ عَذَابِ النَّارِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ هُوَ مِنْ تَمَامِ كَلَامِ اللَّهِ لِلْمُخَاطَبِينَ وَعَلَيْهِ جَاءَتْ تَفَاسِيرُ الِاسْتِثْنَاءِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَتَّجِهُ عِنْدِي فِي هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ أَنْ يَكُونَ مُخَاطَبَةً لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وأمته، وَلَيْسَ مِمَّا يُقَالُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالْمُسْتَثْنَى هُوَ مَنْ كَانَ مِنَ الْكَفَرَةِ يَوْمَئِذٍ يُؤْمِنُ فِي عِلْمِ اللَّهِ كَأَنَّهُ لَمَّا أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ يُقَالُ لِلْكُفَّارِ مَثْواكُمْ اسْتَثْنَى لَهُمْ مَنْ يُمْكِنُ أَنْ يُؤْمِنَ مِمَّنْ يُرُونَهُ يَوْمَئِذٍ كَافِرًا وَيَقَعُ مَا عَلَى صِفَةِ مَنْ يَعْقِلُ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ اتِّصَالُ قَوْلِهِ: إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ أَيْ مَنْ يُمْكِنُ أَنْ يُؤْمِنَ مِنْهُمْ انْتَهَى، وَهُوَ تَأْوِيلٌ حَسَنٌ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ تُوجِبُ الْوَقْفَ فِي جَمِيعِ الْكُفَّارِ. قِيلَ: وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهَا تُوجِبُ الْوَقْفَ فِيمَنْ لَمْ يَمُتْ إِذْ قَدْ يُسْلِمْ وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: جُعِلَ أَمْرُهُمْ فِي مَبْلَغِ عَذَابِهِمْ وَمُدَّتُهُ إِلَى مَشِيئَتِهِ حَتَّى لَا يَحْكُمَ اللَّهُ فِي خَلْقِهِ، وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أنه
(١) سورة الدخان: ٤٤/ ٥٦.
646
لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَحْكُمَ عَلَى اللَّهِ فِي خَلْقِهِ لَا يُنْزِلُهُمْ جَنَّةً وَلَا نَارًا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْإِجْمَاعُ عَلَى التَّخْلِيدِ الْأَبَدِيِّ فِي الْكُفَّارِ وَلَا يَصِحُّ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ انْتَهَى. وَقَدْ تَعَلَّقَ قَوْمٌ بِظَاهِرِ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ فَزَعَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُخْرِجُ مِنَ النَّارِ كُلَّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ وَمُسْلِمٍ وَكَافِرٍ وَأَنَّ النَّارَ تَخْلُو وَتَخَرَبُ، وَقَدْ ذُكِرَ هَذَا عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَلَا يَصِحُّ وَلَا يُعْتَبَرُ خِلَافُ هَؤُلَاءِ وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ. إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَا يَفْعَلُ شَيْئًا إِلَّا بِمُوجِبِ الْحِكْمَةِ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ الْكُفَّارَ يَسْتَوْجِبُونَ عَذَابَ الْأَبَدِ انْتَهَى. وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِهِ الِاعْتِزَالِيِّ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: صِفَتَانِ مُنَاسِبَتَانِ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّ تَخْلِيدَ هَؤُلَاءِ الْكَفَرَةِ فِي النَّارِ صَادَرٌ عَنْ حِكْمَةٍ، وَقَالَ التِّبْرِيزِيُّ: حَكِيمٌ فِي تَدْبِيرِ الْمَبْدَإِ وَالْمَعَادِ عَلِيمٌ بِمَا يَؤُولُ إِلَيْهِ أَمْرُ الْعِبَادِ. وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ الضَّرِيرُ: حَكِيمٌ حَكَمَ عليهم بالخلود عَلِيمٌ بِهِمْ وَبِعُقُوبَتِهِمْ. وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: عَلِيمٌ بِالَّذِي اسْتَثْنَاهُ وَبِمَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: حَكِيمٌ فِي عُقُوبَتِهِمْ عَلِيمٌ بِمِقْدَارِ مُجَازَاتِهِمْ.
وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَحْفَظُهُمْ وَيَنْصُرُهُمْ عَلَى أَنَّ الْكَافِرِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ فِي الظُّلْمِ وَالْخِزْيِ. قَالَ قَتَادَةُ: يَجْعَلُ بَعْضَهُمْ وَلِيَّ بَعْضٍ فِي الْكُفْرِ وَالظُّلْمِ، يُرِيدُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذِكْرِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَاسْتِمْتَاعِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ أَيْضًا: يَتْبَعُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي دُخُولِ النَّارِ أَيْ يَجْعَلُ بَعْضَهُمْ يَلِي بَعْضًا فِي الدُّخُولِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: مَعْنَاهُ نُسَلِّطُ بَعْضَ الظَّالِمِينَ عَلَى بَعْضٍ وَنَجْعَلُهُمْ أَوْلِيَاءَ النِّقْمَةِ مِنْهُمْ، وَهَذَا تَأْوِيلٌ بَعِيدٌ وَحِينَ قَتَلَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ عَمْرَو بْنَ سَعِيدٍ الْأَشْدَقَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ: وَصَعِدَ الْمِنْبَرَ إِنَّ فَمَ الذِّئَابِ قَتَلَ لَطِيمَ الشَّيْطَانِ وَتَلَا وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً الْآيَةَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
تَفْسِيرُهَا أَنَّ اللَّهَ إِذَا أَرَادَ بِقَوْمٍ شَرًّا وَلَّى عَلَيْهِمْ شِرَارَهُمْ أَوْ خَيْرًا وَلَّى عَلَيْهِمْ خِيَارَهُمْ، وَفِي بَعْضِ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ أَفْنَى أَعْدَائِي بِأَعْدَائِي ثُمَّ أُفْنِيهِمْ بِأَوْلِيَائِي. وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ الضَّرِيرُ: نَتْرُكُ الْمُشْرِكِينَ إِلَى بَعْضِهِمْ فِي النُّصْرَةِ وَالْمَعُونَةِ وَالْحَاجَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: نُخَلِّيهِمْ حَتَّى يَتَوَلَّى بَعْضُهُمْ بَعْضًا كَمَا فَعَلَ الشَّيَاطِينُ وَغُوَاةُ الْإِنْسِ، أَوْ يَجْعَلُ بَعْضَهُمْ أَوْلِيَاءَ بَعْضٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقُرَنَاءَهُمْ كَمَا كَانُوا فِي الدُّنْيَا بِما كانُوا يَكْسِبُونَ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي انْتَهَى. وَقَوْلُهُ:
نُخَلِّيهِمْ هُوَ عَلَى طَرِيقِهِ الاعتزالي.
مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا
هَذَا النِّدَاءُ أَيْضًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالِاسْتِفْهَامُ لِلتَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ، حَيْثُ أَعْذَرَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ فَلَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مِنَ الْجِنِّ رُسُلًا إِلَيْهِمْ كَمَا أَنَّ مِنَ الْإِنْسِ
647
رُسُلًا لَهُمْ. فَقِيلَ: بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا وَاحِدًا مِنَ الْجِنِّ إِلَيْهِمُ اسْمُهُ يُوسُفُ. وَقِيلَ: رُسُلُ الْجِنِّ هُمْ رُسُلُ الْإِنْسِ فَهُمْ رُسُلُ اللَّهِ بِوَاسِطَةٍ إِذْ هُمْ رُسُلُ رُسُلِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ «١» قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ.
وَرُوِيَ أَنْ قَوْمًا مِنَ الْجِنِّ اسْتَمَعُوا إِلَى الْأَنْبِيَاءِ ثُمَّ عَادُوا إِلَى قَوْمِهِمْ فَأَخْبَرُوهُمْ كَمَا جَرَى لَهُمْ مَعَ الرَّسُولِ، فَيُقَالُ لَهُمْ رُسُلُ اللَّهِ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا رُسُلَهُ حَقِيقَةً
وَعَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ يَكُونُ الضَّمِيرُ عائدا علىْ جِنِّ وَالْإِنْسِ
وَقَدْ تَعَلَّقَ قَوْمٌ بِهَذَا الظَّاهِرِ فَزَعَمُوا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَ إِلَى الْجِنِّ رُسُلًا مِنْهُمْ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ مُكَلَّفِينَ وَمُكَلَّفِينَ أَنْ يُبْعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولٌ مِنْ جِنْسِهِمْ لِأَنَّهُمْ بِهِ آنَسُ وَآلَفُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَالْجُمْهُورُ: وَالرُّسُلُ مِنَ الْإِنْسِ دُونَ الْجِنِّ وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ النِّدَاءُ لَهُمَا وَالتَّوْبِيخُ مَعًا جَرَى الْخِطَابُ عَلَيْهِمَا عَلَى سَبِيلِ التَّجَوُّزِ الْمَعْهُودُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ تَغْلِيبًا لِلْإِنْسِ لِشَرَفِهِمْ، وَتَأَوَّلَهُ الْفَرَّاءُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ من أَحَدِكُمْ كَقَوْلِهِ: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ «٢» أَيْ مِنْ أَحَدِهِمَا وَهُوَ الْمِلْحُ وَكَقَوْلِهِ: وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً «٣» أَيْ فِي إِحْدَاهُنَّ وَهِيَ سَمَاءُ الدُّنْيَا وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ «٤» أَرَادَ بِالذِّكْرِ التَّكْبِيرَ وَبِالْأَيَّامِ الْمَعْلُومَاتِ الْعَشْرَ أَيْ فِي أَحَدِ أَيَّامٍ وَهُوَ يَوْمُ النَّحْرِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: كَانَ الرُّسُلُ يُبْعَثُونَ إِلَى الْإِنْسِ وَبُعِثَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْجِنِّ وَالْإِنْسِ. وَرُوِيَ هَذَا أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَعْنَى قَصَصِ الْآيَاتِ الْإِخْبَارُ بِمَا أُوحِيَ إِلَيْهِمْ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى مَوَاضِعِ الْحَجِّ وَالتَّعْرِيفِ بِأَدِلَّةِ التَّوْحِيدِ وَالِامْتِثَالِ لِأَوَامِرِهِ وَالِاجْتِنَابِ بِمَنَاهِيهِ، وَالْإِنْذَارُ الْإِعْلَامُ بالمخوف وقاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا
أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالْإِنْذَارُ بِمَا يَكُونُ فِيهِ مِنَ الْأَهْوَالِ وَالْمَخَاوِفِ وَصَيْرُورَةُ الْكُفَّارِ الْمُكَذِّبِينَ إِلَى الْعَذَابِ الْأَبَدِيِّ. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ أَلَمْ تَأْتِكُمْ عَلَى تَأْنِيثِ لفظ الرسل بالتاء.
لُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا
الظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ حِكَايَةٌ لِتَصْدِيقِهِمْ وإلجائهم قوله: لَمْ يَأْتِكُمْ
لِأَنَّ الْهَمْزَةَ الدَّاخِلَةَ عَلَى نَفْيِ إِتْيَانِ الرُّسُلِ لِلْإِنْكَارِ فَكَانَ تَقْرِيرًا لَهُمْ وَالْمَعْنَى قَالُوا:
شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا بِإِتْيَانِ الرُّسُلِ إِلَيْنَا وَإِنْذَارِهِمْ إِيَّانَا هَذَا الْيَوْمَ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ نَابَتْ مَنَابَ بَلَى هُنَا وَقَدْ صَرَّحَ بِهَا فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا: بَلَى أَقَرُّوا بِأَنَّ حُجَّةَ اللَّهِ لَازِمَةٌ لَهُمْ وَأَنَّهُمْ مَحْجُوجُونَ بِهَا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَوْلُهُ: هِدْنا
إِقْرَارٌ مِنْهُمْ بِالْكُفْرِ وَاعْتِرَافٌ أي هِدْنا عَلى أَنْفُسِنا
بالتقصير
(١) سورة الأحقاف: ٤٦/ ٢٩.
(٢) سورة الرحمن: ٥٥/ ٢٢.
(٣) سورة نوح: ٧١/ ١٦.
(٤) سورة الحج: ٢٢/ ٢٨.
648
انتهى. والظاهر في هِدْنا
شَهَادَةُ كُلِّ وَاحِدٍ عَلَى نَفْسِهِ. وَقِيلَ: شَهِدَ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ بِإِنْذَارِ الرُّسُلِ.
غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا
هَذَا إِخْبَارٌ عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَتَنْبِيهٌ عَلَى السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِكُفْرِهِمْ وَإِفْصَاحٌ لَهُمْ بِأَذَمِّ الْوُجُوهِ الَّذِي هُوَ الْخِدَاعُ. وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ غَرَّ الطَّائِرُ فَرْخَهُ أَيْ أَطْعَمَهُمْ وَأَشْبَعَهُمْ وَالتَّوْسِيعُ فِي الرِّزْقِ وَالْبَسْطُ سَبَبٌ لِلْبَغْيِ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ.
شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ
ظَاهِرُهُ شَهَادَةُ كُلِّ وَاحِدٍ عَلَى نَفْسِهِ بِالْكُفْرِ. وَقِيلَ: شَهِدَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ. وَقِيلَ: شَهِدَتْ جَوَارِحُهُمْ عَلَيْهِمْ بَعْدَ إِنْكَارِهِمْ وَالْخَتْمِ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَهُوَ بَعِيدٌ مِنْ سِيَاقِ الْآيَةِ، وَتَنَافَى بين قوله: هِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ
وَبَيْنَ الْآيَاتِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى الْإِنْكَارِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ طَوَائِفَ طَائِفَةٍ تَشْهَدُ وَطَائِفَةٍ تُنْكِرُ، أَوْ مِنْ طَائِفَةٍ وَاحِدَةٍ لِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَمُوَاطِنِ الْقِيَامَةِ فِي ذَلِكَ الْمُتَطَاوِلِ فَيُقِرُّونَ فِي بَعْضٍ وَيَجْحَدُونَ فِي بَعْضٍ. وَقَالَ التبريزي: شَهِدُوا
أَقَرُّوا عَلَى أَنْفُسِهِمُ اضْطِرَارًا لَا اخْتِيَارًا وَلَوْ أَرَادُوا أَنْ يَقُولُوا غَيْرَهُ مَا طَاوَعَتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : لِمَ كَرَّرَ ذِكْرَ شَهَادَتِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ؟ (قُلْتُ) : الْأُولَى حِكَايَةٌ لِقَوْلِهِمْ: كَيْفَ يَقُولُونَ وَيَعْتَرِفُونَ، وَالثَّانِيَةُ ذَمٌّ لَهُمْ وَتَخْطِئَةٌ لِرَأْيِهِمْ وَوَصْفٌ لِقِلَّةِ نَظَرِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّهُمْ قَوْمٌ غَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَاللَّذَّاتُ الْحَاضِرَةُ، وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهِمْ أَنِ اضْطُرُّوا إِلَى الشَّهَادَةِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ وَالِاسْتِسْلَامِ لِرَبِّهِمْ وَاسْتِنْجَازِ عَذَابِهِ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ تَحْذِيرًا لِلسَّامِعِينَ مِثْلَ حَالِهِمْ انْتَهَى.
وَنَقُولُ لَمْ تَتَكَرَّرِ الشَّهَادَةُ لِاخْتِلَافِ الْمُخْبِرِ وَمُتَعَلَّقِهَا فَالْأُولَى إِخْبَارُهُمْ عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَالثَّانِيَةُ:
إِخْبَارُهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ شَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ فَهَذِهِ الشَّهَادَةُ غَيْرُ الْأُولَى.
ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ الْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ وَهُوَ إِتْيَانُ الرُّسُلِ قَاصِّينَ الْآيَاتِ وَمُنْذِرِينَ بِالْحَشْرِ وَالْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ بِسَبَبِ انْتِفَاءِ إِهْلَاكِ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا لَمْ يَنْتَهُوا بِبِعْثَةِ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ وَالْإِعْذَارِ إِلَيْهِمْ وَالتَّقَدُّمِ بِالْإِخْبَارِ بِمَا يَحِلُّ بِهِمْ، إِذَا لَمْ يَتَّبِعُوا الرُّسُلَ
وَفِي الْحَدِيثِ: «لَيْسَ أَحَدٌ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعُذْرُ مِنَ اللَّهِ».
فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَنْزَلَ الْكِتَابَ وَأَرْسَلَ الرُّسُلَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ قَرِيبًا مِنْ هَذَا أَيْ ذَلِكَ الَّذِي قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ أَمْرِ الرُّسُلِ وَأَمَرِ عَذَابِ مَنْ كَذَّبَ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ كَذَا أَيْ لَا يُهْلِكُهُمْ حَتَّى يَبْعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولًا. وَقِيلَ: الْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى السُّؤَالِ وَهُوَ لَمْ يَأْتِكُمْ
أَنْ لَمْ يَكُنْ أَيْ لِبَيَانِ أَنْ لَمْ يَكُنْ حَكَاهُ التِّبْرِيزِيُّ. وَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: الْإِشَارَةُ إِلَى مَا وُجِدَ مِنْهُمْ
649
مَنِ التَّكْذِيبِ وَالْمَعَاصِي وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُشَارَ بِهِ إِلَى الْهَلَاكِ الَّذِي كَانَ بِالْأُمَمِ الْخَالِيَةِ انْتَهَى.
وَلَا يَسْتَقِيمُ هَذَانِ الْقَوْلَانِ مَعَ قَوْلِهِ أَنْ لَمْ يَكُنْ لِأَنَّ الْمَعَاصِيَ أَوِ الْإِهْلَاكَ لَيْسَ معللا بأن لم يكون وَجَوَّزُوا فِي ذَلِكَ الرَّفْعَ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفُ الْخَبَرِ أَيْ ذَلِكَ الْأَمْرُ، وَخَبَرٌ مَحْذُوفُ الْمُبْتَدَأِ أَيِ الْأَمْرُ ذَلِكَ وَالنَّصْبَ عَلَى فعلنا ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَعْلِيلٌ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ أَنِ النَّاصِبَةَ لِلْمُضَارِعِ وَالْمُخَفَّفَةَ مِنَ الثَّقِيلَةِ أَيْ لِأَنَّ الشَّأْنَ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ لَا يَكُونَ أَنْ لَمْ يَكُنْ تَعْلِيلًا فَأَجَازَ فِيهِ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ:
وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ «١» فَإِذَا كَانَ تَعْلِيلًا فَهُوَ عَلَى إِسْقَاطِ حَرْفِ الْعِلَّةِ عَلَى الْخِلَافِ أَمَوْضِعُهُ نَصْبٌ أَوْ جَرٌّ وَإِنْ كَانَ بَدَلًا فَهُوَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، لِأَنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ لَمْ يَذْكُرْ فِي ذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ مَرْفُوعٌ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيِ الْأَمْرُ ذَلِكَ وبظلم يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُضَافًا إِلَى اللَّهِ أَيْ ظَالِمًا لَهُمْ كَقَوْلِهِ: وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ «٢» وَمَعْنَى وَأَهْلُها غافِلُونَ أَيْ دُونَ أَنْ يَتَقَدَّمَ إِلَيْهِمْ بِالنِّذَارَةِ وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ «٣» وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُضَافًا إِلَى الْقُرَى أَيْ ظَالِمَةٌ دُونَ أَنْ يُنْذِرَهُمْ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْقُشَيْرِيِّ أَيْ لَا يُهْلِكُهُمْ بِذُنُوبِهِمْ مَا لَمْ يَبْعَثْ إِلَيْهِمُ الرُّسُلَ وَهَذَا الْوَجْهُ أَلْيَقُ لِأَنَّ الْأَوَّلَ يُوهِمُ أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ آخَذَهُمْ قَبْلَ بِعْثَةِ الرُّسُلِ كَانَ ظَالِمًا وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ عِنْدَنَا لِأَنَّهُ تَعَالَى يَحْكُمُ مَا يَشَاءُ وَيَفْعَلُ مَا يُرِيدُ، وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ لَوْ أَهْلَكَهُمْ وَهُمْ غَافِلُونَ لَمْ يَنْتَهُوا بِكِتَابٍ وَلَا رَسُولٍ لَكَانَ ظَالِمًا وَهُوَ مُتَعَالٍ عَنِ الظُّلْمِ وَعَنْ كُلِّ قَبِيحٍ. وَقِيلَ: بِظُلْمٍ بِشِرْكِ مَنْ أَشْرَكَ مِنْهُمْ فَهُوَ مِثْلُ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى «٤». وَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: أَيْ لَمْ يَكُنْ يُهْلِكُهُمْ بِظُلْمِ أَنْفُسِهِمْ إِهْلَاكَ اسْتِئْصَالٍ وَتَعْذِيبٍ إِلَّا بَعْدَ تَقَدُّمِ وَعِيدٍ أَوْ سُؤَالِهِمُ الْعَذَابَ، وَلَا يُهْلِكُهُمْ مَعَ الْغَفْلَةِ عَنِ الظُّلْمِ وَالْعِصْيَانِ لِأَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ بَلْ سُنَّتُهُ هَكَذَا لِئَلَّا يَقُولُوا: لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا وَكُلُّ ذَلِكَ فَضْلٌ مِنْهُ وَرَحْمَةٌ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَا يُهْلِكُهُمْ بِظُلْمِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا وَقِيلَ: بِظُلْمِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ.
وَقِيلَ: بِجِنْسِ الظُّلْمِ حَتَّى يَرْتَكِبُوا مَعَ الظُّلْمِ غَيْرَهُ مِمَّا لَا يَرْضَاهُ اللَّهُ مِنْ سَائِرِ الْقَبَائِحِ ذَكَرَهُ التبريري. وَمَعْنَى وَأَهْلُها غافِلُونَ أَيْ لَا يُبَيِّنُ لَهُمْ كَيْفِيَّةَ الْحَالِ وَلَا يُزِيلُ عَدَدَهُمْ وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ غَافِلُونَ عَمَّا يُوعَظُونَ بِهِ.
وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا أَيْ وَلِكُلٍّ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ مُؤْمِنِهِمْ وَكَافِرِهِمْ دَرَجَاتٌ مُتَفَاوِتَةٌ مِنْ جَزَاءِ أَعْمَالِهِمْ وَتَفَاوُتِهَا بِنِسْبَةِ بعضهم إلى بعض أو بِنِسْبَةِ عَمَلِ كُلِّ عَامِلٍ فيكون
(١) سورة الحجر: ١٥/ ٦٦. [.....]
(٢) سورة هود: ١١/ ١١٧.
(٣) سورة فصلت: ٤١/ ٤٦.
(٤) سورة فاطر: ٣٥/ ١٨.
650
هُوَ فِي دَرَجَةٍ فَيَتَرَقَّى إِلَى أُخْرَى كَامِلَةٍ ثُمَّ إِلَى أَكْمَلَ، وَالظَّاهِرُ انْدِرَاجُ الْجِنِّ فِي الْعُمُومِ فِي الْجَزَاءِ كَمَا انْدَرَجُوا فِي التَّكْلِيفِ وَفِي إِرْسَالِ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ. قَالَ الضَّحَّاكُ: مُؤْمِنُو الْجِنِّ فِي الْجَنَّةِ كَمُؤْمِنِي الْإِنْسِ. وَقِيلَ: لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا النَّارَ يُقَالُ لَهُمْ كُونُوا تُرَابًا فَيَصِيرُونَ تُرَابًا كَالْبَهَائِمِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: جَزَاءُ مُؤْمِنِي الْجِنِّ إِجَارَتُهُمْ مِنَ النَّارِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَيْسَ لِلْجِنِّ ثَوَابٌ لِأَنَّ الثَّوَابَ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ فَلَا يُقَالُ بِهِ لَهُمْ إِلَّا بِبَيَانٍ مِنَ اللَّهِ وَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ فِي حَقِّهِمْ إِلَّا عُقُوبَةَ عَاصِيهِمْ لَا ثَوَابَ طَائِعِهِمْ وَخَالَفَهُ صَاحِبَاهُ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فَقَالَا: لَهُمْ ثَوَابٌ عَلَى الطَّاعَاتِ وَعِقَابٌ عَلَى الْمَعَاصِي وَدَلِيلُهُمَا عُمُومُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَقِيلَ: وَلِكُلٍّ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ خَاصَّةً. وَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: وَلِكُلٍّ مِنَ الْكُفَّارِ خَاصَّةً دَرَجَاتٌ دِرْكَاتٌ وَمَرَاتِبُ مِنَ الْعِقَابِ مِمَّا عَمِلُوا مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، لِأَنَّهُ جَاءَ عَقِيبَ خِطَابِ الْكُفَّارِ فَيَكُونُ رَاجِعًا عَلَيْهِمْ.
وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ أَيْ لَيْسَ بِسَاهٍ بِخَفِيٍّ عَلَيْهِ مَقَادِيرُ الْأَعْمَالِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الْأُجُورِ وَفِي ذَلِكَ تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ: تَعْمَلُونَ بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ.
وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَنْ أَطَاعَ وَمَنْ عَصَى وَالثَّوَابَ وَالْعِقَابَ ذَكَرَ أَنَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ لَا تَنْفَعُهُ الطَّاعَةُ وَلَا تَضُرُّهُ الْمَعْصِيَةُ، وَمَعَ كَوْنِهِ غَنِيًّا هُوَ ذُو الرَّحْمَةِ أَيِ التَّفَضُّلِ التَّامِّ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ذُو الرَّحْمَةِ بِأَوْلِيَائِهِ وَأَهْلِ طَاعَتِهِ. وَقِيلَ:
بِكُلِّ خَلْقِهِ وَمِنْ رَحْمَتِهِ تَأْخِيرُ الِانْتِقَامِ مِنَ الْعُصَاةِ. وَقِيلَ: ذُو الرَّحْمَةِ جَاعِلُ نَفْعِ الْخَلَائِقِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ذُو الرَّحْمَةِ يَتَرَحَّمُ عَلَيْهِمْ بِالتَّكْلِيفِ لِيُعَرِّضَهُمْ لِلْمَنَافِعِ الدَّائِمَةِ.
إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ هَذَا فِيهِ إِظْهَارُ الْقُدْرَةِ التَّامَّةِ وَالْغِنَى الْمُطْلَقِ وَالْخِطَابُ عَامٌّ لِلْخَلْقِ كُلِّهِمْ، كَمَا قَالَ: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ فَالْمَعْنَى إِنْ يَشَأْ إِفْنَاءَ هَذَا الْعَالَمِ وَاسْتِخْلَافَ مَا يَشَاءُ مِنَ الْخَلْقِ غَيْرَهِمْ فَعَلَ، وَالْإِذْهَابَ هُنَا الْإِهْلَاكُ إِهْلَاكُ الِاسْتِئْصَالٍ لَا الْإِمَاتَةُ نَاسًا بَعْدَ نَاسٍ لِأَنَّ ذَلِكَ وَاقِعٌ فَلَا يُعَلَّقُ الْوَاقِعُ عَلَى إِنْ يَشَأْ. وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِأَهْلِ مَكَّةَ. وَقَالَ عَطَاءٌ: يَعْنِي الْأَنْصَارَ وَالتَّابِعِينَ. وَقِيلَ: يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا الْعُصَاةُ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشاءُ مِنَ النَّوْعِ الطَّائِعِ وكَما أَنْشَأَكُمْ فِي مَوْضِعِ مَصْدَرٌ عَلَى غَيْرِ الصَّدْرِ لِقَوْلِهِ: وَيَسْتَخْلِفْ لِأَنَّ مَعْنَاهُ وَيُنْشِئْ وَالْمَعْنَى إِنْ يَشَأِ الْإِذْهَابَ وَالِاسْتِخْلَافَ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ فَكُلٌّ مِنَ الْإِذْهَابِ وَالِاسْتِخْلَافِ مَعْذُوقٌ بمشيئته ومِنْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لِلتَّبْعِيضِ. وَقَالَ
651
الطَّبَرِيُّ: وَتَبِعَهُ مَكِّيٌّ هِيَ بِمَعْنَى أَخَذْتُ مِنْ ثَوْبِي دِينَارًا بِمَعْنَى عَنْهُ وَعِوَضُهُ انْتَهَى، يَعْنِي أَنَّهَا بِدَلِيَّةٌ وَالْمَعْنَى مِنْ أَوْلَادِ قَوْمٍ مُتَقَدِّمِينَ أَصْلُهُمْ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِنْ أَوْلَادِ قَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَكُونُوا عَلَى مِثْلِ صِفَتِكُمْ وَهُمْ أَهْلُ سَفِينَةِ نُوحٍ انْتَهَى. وَيَعْنِي أَنَّكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ صَالِحِينَ فَلَوْ شَاءَ أَذَهْبَكُمْ أَيُّهَا الْعُصَاةُ وَيَسْتَخْلِفْ بَعْدَكُمْ طَائِعِينَ، كَمَا أَنَّكُمْ عُصَاةٌ أَنْشَأَكُمْ مِنْ قَوْمٍ طَائِعِينَ وَمَا فِي قَوْلِهِ: مَا يَشاءُ قِيلَ بمعنى من والأولى أنه إِنْ كَانَ الْمِقْدَارُ اسْتِخْلَافُهُ مِنْ غَيْرِ الْعَاقِلِ فَهِيَ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَهَا وَإِنْ كَانَ عَاقِلًا فَيَكُونُ قَدْ أُرِيدَ بِهَا النَّوْعُ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ ذُرِّيَّةِ بِفَتْحِ الذَّالِ وَكَذَا فِي آلِ عِمْرَانَ وَأَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ ذُرِّيَّةِ بِفَتْحِ الذَّالِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ الْمَكْسُورَةِ وَعِنْدَ ذُرِّيَّةِ عَلَى وَزْنِ ضَرْبَةٍ وَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ التَّحْذِيرَ مَنْ بَطْشِ اللَّهِ فِي التَّعْجِيلِ بِذَلِكَ.
إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ ظَاهِرُ مَا الْعُمُومِ فِي كُلِّ مَا يُوعَدُ بِهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: مِنْ مَجِيءِ السَّاعَةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُكَذِّبُونَ بِهَا. وَقِيلَ: مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ. وَقِيلَ: مِنَ النَّصْرِ لِلرَّسُولِ لَكَائِنٌ. وَقِيلَ: مِنَ الْعَذَابِ لَآتٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: مِنَ الْوَعْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِقَرِينَةِ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ وَالْإِشَارَةُ إِلَى هَذَا الْوَعِيدِ الْمُتَقَدِّمِ خُصُوصًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِلْعُمُومِ مُطْلَقًا فَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ إِنْفَاذَ الوعيد والعقائد ترى ذَلِكَ انْتَهَى. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: الْوَعْدُ مَخْصُوصٌ بِالْإِخْبَارِ عَنِ الثَّوَابِ فَهُوَ آتٍ لَا مَحَالَةَ، فَتَخْصِيصُ الْوَعْدِ بِهَذَا الْجَزْمِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَانِبَ الْوَعِيدِ لَيْسَ كَذَلِكَ وَيُقَوِّي هَذَا الْوَجْهَ أَنَّهُ قَالَ: وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ أَيْ لَا تَخْرُجُونَ عَنْ قُدْرَتِنَا وَحِكْمَتِنَا فَلَمَّا ذَكَرَ الْوَعْدَ جَزَمَ، وَلَمَّا ذَكَرَ الْوَعِيدَ مَا زَادَ عَلَى وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَانِبَ الرَّحْمَةِ غَالِبٌ فَتَلَخَّصَ فِي قَوْلِهِ: مَا تُوعَدُونَ الْعُمُومُ وَيَخْرُجُ مِنْهُ مَا خَرَجَ بِالدَّلِيلِ أَوْ يُرَادُ بِهِ الْخُصُوصُ مِنَ الْحَشْرِ أَوِ النَّصْرِ أَوِ الْوَعِيدِ أَوِ الْوَعْدِ أَيْ بِلَازِمِهِمَا مِنَ الثَّوَابِ أَوِ الْعِقَابِ أَوْ مَجْمُوعِهِمَا سِتَّةُ أَقْوَالٍ. وَكُتِبَتْ أَنَّ مَفْصُولَةً مِنْ مَا وَمَا بِمَعْنَى الَّذِي وَفِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ إِشْعَارٌ بِقَصْرِ الْأَمَلِ وَقُرْبِ الْأَجَلِ وَالْمُجَازَاةِ عَلَى الْعَمَلِ.
وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ أَيْ فَائِتِينَ أَعْجَزَنِي الشَّيْءُ: فَاتَنِي أَيْ لَا يَفُوتُنَا عَنْ مَا أَرَدْنَا بِكُمْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَعْنَاهُ بِنَاجِينَ وَهُنَا تَفْسِيرٌ بِاللَّازِمِ.
قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ قَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى مَكَانَاتِكُمْ عَلَى الْجَمْعِ حَيْثُ وَقَعَ فَمَنْ جَمَعَ قَابَلَ
652
جَمْعَ الْمُخَاطَبِينَ بِالْجَمْعِ وَمَنْ أَفْرَدَ فَعَلَى الْجِنْسِ وَالْمَكَانَةُ، مَصْدَرُ مَكَّنَ فَالْمِيمُ أَصْلِيَّةٌ وَبِمَعْنَى الْمَكَانِ وَيُقَالُ: الْمَكَانُ وَالْمَكَانَةُ مُفْعَلٌ وَمُفْعَلَةٌ مِنَ الْكَوْنِ فَالْمِيمُ زَائِدَةٌ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى عَلَى تَمَكُّنِكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ وَأَقْصَى اسْتِطَاعَتِكُمْ وَإِمْكَانِكُمْ، قَالَ مَعْنَاهُ الزَّجَّاجُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى عَلَى جِهَتِكُمْ وَحَالِكُمُ الَّتِي أَنْتُمْ عَلَيْهَا، يُقَالُ: عَلَى مَكَانَتِكَ يَا فُلَانُ إِذَا أَمَرْتَهُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى حَالِهِ أَيِ اثْبُتْ عَلَى مَا أَنْتَ عَلَيْهِ لَا تَنْحَرِفْ عَنْهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
عَلَى نَاحِيَتِكُمْ وَالْمَعْنَى مَا تَنْحُونَ أَيْ مَا تَقْصِدُونَ مِنْ صَالِحٍ وَطَالِحٍ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: عَلَى حَالِكُمْ. وَقَالَ يَمَانٌ: عَلَى مَذَاهِبِكُمْ. وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ الضَّرِيرُ: عَلَى دِينِكُمْ فِي مَنَازِلِكُمْ لِهَلَاكِي خِطَابًا لِكُفَّارِ مَكَّةَ إِنِّي عامِلٌ لِهَلَاكِكُمْ انْتَهَى. وَهِيَ أَلْفَاظٌ مُتَقَارِبَةٌ وَهَذَا الْأَمْرُ أَمْرُ تَهْدِيدٍ وَوَعِيدٍ كَقَوْلِهِ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ «١» وَهِيَ التَّخْلِيَةُ وَالتَّسْجِيلُ عَلَى الْمَأْمُورِ بِأَنَّهُ لَا يَأْتِي مِنْهُ إِلَّا الشَّرُّ فَكَأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ وَهُوَ واجب عليه حتم لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَفَصَّى عَنْهُ وَيَعْمَلَ بِخِلَافِهِ، وَمَعْنَى إِنِّي عامِلٌ أَيْ عَلَى مَكَانَتِي الَّتِي أَنَا عَلَيْهَا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: اثْبُتُوا عَلَى كُفْرِكُمْ وَعَدَاوَتِكُمْ فِيَّ فَإِنِّي ثَابِتٌ عَلَى الْإِسْلَامِ وَعَلَى مُصَابِرَتِكُمْ انْتَهَى.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَنْ مَفْعُولٌ تَعْلَمُونَ وَأَجَازُوا أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً اسْمَ اسْتِفْهَامٍ وَخَبَرُهُ تَكُونُ وَالْفِعْلُ مُعَلَّقٌ وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ إِنْ كَانَ يَعْلَمُونَ مُعَدَّى إِلَى وَاحِدٍ أَوْ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولَيْنِ إِنْ كَانَ يَتَعَدَّى إِلَى مفعولين، وعاقِبَةُ الدَّارِ مَآلُهَا وَمَا تَنْتَهِي إِلَيْهِ وَالدَّارُ يَظْهَرُ مِنْهُ أَنَّهَا دَارُ الْآخِرَةِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ويحتمل أن يُرَادَ مَآلُ الدُّنْيَا بِالنَّصْرِ وَالظُّهُورِ فَفِي الْآيَةِ إِعْلَامٌ بِغَيْبٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْعَاقِبَةُ الْحُسْنَى الَّتِي خَلَقَ اللَّهُ هَذِهِ الدَّارَ لَهَا وَهَذَا طَرِيقٌ مِنَ الْإِنْذَارِ لِطَيْفُ الْمَسْلَكِ فِيهِ إِنْصَافٌ فِي الْمَقَالِ وَأَدَبٌ حَسَنٌ مَعَ تَضَمُّنِ شِدَّةِ الْوَعِيدِ وَالْوُثُوقِ بِأَنَّ الْمُنْذِرَ مُحِقٌّ وَأَنَّ الْمُنْذَرَ مُبْطِلٌ. وَقِيلَ: مَعْنَى مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ أَيْ مِنْ لَهُ النُّصْرَةُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَمَنْ لَهُ الدَّارُ الْآخِرَةُ أَيْ الْجَنَّةُ وَفِي قَوْلِهِ: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مِنَ التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ مَا لَا يَخْفَى كقوله: سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ «٢» مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ «٣» وَقَالَ الشَّاعِرُ:
إِذَا مَا الْتَقَيْنَا وَالْتَقَى الرُّسْلُ بَيْنَنَا فَسَوْفَ تَرَى يَا عَمْرُو مَا اللَّهُ صَانِعُ
وَقَالَ آخَرُ:
سَتَعْلَمُ لَيْلَى أَيُّ دَيْنٍ تَدَايَنَتْ وَأَيُّ غَرِيمٍ لِلتَّقَاضِي غَرِيمُهَا
(١) سورة فصلت: ٤١/ ٤٠.
(٢) سورة الرحمن: ٥٥/ ٣١.
(٣) سورة المائدة: ٥/ ٥٤.
653
إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ أَيْ لَا يَفُوزُونَ قَالَهُ الضَّحَّاكُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: لَا يَبْقَوْنَ. وَقَالَ عَطَاءٌ: لَا يَسْعَدُ مَنْ كَفَرَ نِعْمَتِي. وَقِيلَ: لَا يَأْمَنُونَ وَلَا يَنْجُونَ مِنَ الْعَذَابِ وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّهُمْ هُمُ الظَّالِمُونَ الَّذِينَ لَا يُفْلِحُونَ، وَفِي قَوْلِهِ: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ تَرْدِيدٌ بَيْنَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَبَيْنَهُمْ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا التَّهْدِيدَ وَالْوَعِيدَ مُخْتَصٌّ بِهِمْ وَأَنَّ عَاقِبَةَ الدَّارِ الْحُسْنَى هِيَ لَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَكِنَّهُ أُجْرِيَ مُجْرَى قَوْلِهِ: فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الْفِدَاءُ. وَقَوْلُهُ:
فَأَيِّي مَا وَأَيُّكَ كَانَ شَرًّا فَسِيقَ إِلَى الْمَقَادَةِ فِي هَوَانِ
وَقَدْ عُلِمَ مَا هُوَ شَرٌّ وَمَا هُوَ خَيْرٌ وَلَكِنَّهُ أُبْرِزَ فِي صُورَةِ التَّرْدِيدِ إِظْهَارًا لِصُورَةِ الْإِنْصَافِ وَرَمْيًا بِالْكَلَامِ عَلَى جِهَةِ الِاشْتِرَاكِ اتِّكَالًا عَلَى فَهْمِ الْمَعْنَى. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ مَنْ يَكُونُ بِالْيَاءِ عَلَى التَّذْكِيرِ وَكَذَا فِي الْقَصَصِ.
وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ مَا يَحْكُمُونَ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَالسُّدِّيِّ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَجْعَلُ مِنْ غَلَّاتِهَا وَزُرُوعِهَا وَأَثْمَارِهَا وَأَنْعَامِهَا جُزْءًا تُسَمِّيهِ لِلَّهِ وَجُزْءًا تُسَمِّيهِ لِأَصْنَامِهَا وَكَانَتْ عَادَتُهَا تُبَالِغُ وَتَجْتَهِدُ فِي إِخْرَاجِ نَصِيبِ الْأَصْنَامِ أَكْثَرَ مِنْهَا فِي نَصِيبِ اللَّهِ، إِذْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْأَصْنَامَ بِهَا فَقْرٌ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِاللَّهِ فَكَانُوا إِذَا جَمَعُوا الزَّرْعَ فَهَبَّتِ الرِّيحُ فَحَمَلَتْ مِنَ الَّذِي لِلَّهِ إِلَى الَّذِي لِشُرَكَائِهِمْ تَرَكُوهُ وَلَمْ يَرُدُّوهُ إِلَى نَصِيبِ اللَّهِ وَيَفْعَلُونَ عَكْسَ هَذَا، وَإِذَا تَفَجَّرَ مِنْ سَقْيِ مَا جَعَلُوهُ لِلَّهِ فِي نَصِيبِ شُرَكَائِهِمْ تَرَكُوهُ وَبِالْعَكْسِ سَدُّوهُ وَإِذَا لَمْ يَنْجَحُ شَيْءٌ مِنْ نَصِيبِ آلِهَتِهِمْ جَعَلُوا نَصِيبَ اللَّهِ لَهَا، وَكَذَا فِي الْأَنْعَامِ. وَإِذَا أَجْدَبُوا أَكَلُوا نَصِيبَ اللَّهِ وَتَرَكُوا نَصِيبَهَا لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى قُبْحَ طَرِيقَةِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ فِي إِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ ذَكَرَ أَنْوَاعًا مِنْ جَهَالَاتِهِمْ تَنْبِيهًا عَلَى ضَعْفِ عُقُولِهِمْ وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مِمَّا ذَرَأَ أَنَّهُ تَعَالَى كَانَ أَوْلَى أَنْ يُجْعَلَ لَهُ الْأَحْسَنُ وَالْأَجْوَدُ وَأَنْ يَكُونَ جَانِبُهُ تَعَالَى هُوَ الْأَرْجَحَ، إِذْ كَانَ تَعَالَى هُوَ الْمُوجِدَ لِمَا جَعَلُوا لَهُ مِنْهُ نَصِيبًا وَالْقَادِرُ عَلَى تَنْمِيَتِهِ دُونَ أَصْنَامِهِمُ الْعَاجِزَةِ عَنْ مَا يَحِلُّ بِهَا فَضْلًا عَنْ أَنْ تَخْلُقَ شَيْئًا أَوْ تُنَمِّيَهُ وَفِي قَوْلِهِ مِمَّا بِمِنِ التَّبْعِيضِيَّةِ دَلِيلٌ عَلَى قِسْمٍ ثَالِثٍ وَهُوَ مَا بَقِيَ لَهُمْ مِنْ غَيْرِ النَّصِيبَيْنِ، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ دَلَّ عَلَيْهِ التَّقْسِيمُ أَيْ وَنَصِيبًا لِشُرَكائِهِمْ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِمْ هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا والْحَرْثِ قِيلَ هُنَا: الزَّرْعُ. وَقِيلَ: الزَّرْعُ وَالْأَشْجَارُ وَمَا يَكُونُ مِنَ الْأَرْضِ، وَالْأَنْعامِ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ يَتَقَرَّبُونَ بِذَبْحِ ذَلِكَ. وَقِيلَ: إِنَّهُ الْبَحِيرَةُ وَالسَّائِبَةُ وَالْوَصِيلَةُ
654
وَالْحَامِي. وَقِيلَ: النَّصِيبُ مِنَ الْأَنْعَامِ هُوَ النَّفَقَةُ عَلَيْهَا وَفِي قَوْلِهِ: فَقالُوا تَأْكِيدٌ لِلْفِعْلِ الَّذِي هُوَ الْجَعْلُ بِالْقَوْلِ لِيَتَطَابَقَ وَيَتَظَافَرَ الْفِعْلُ بِالْقَوْلِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ أَخْلَفُوا ذَلِكَ وَاعْتَرَضَ أَثْنَاءَ الْكَلَامِ قَوْلُهُ: بِزَعْمِهِمْ وَجَاءَ إِثْرَ قَوْلِهِمْ: هَذَا لِلَّهِ لِأَنَّهُ إِخْبَارُ كَذِبٍ حَيْثُ أَخْلَفَ مَا جَعَلُوهُ وَأَكَّدُوهُ بِالْقَوْلِ وَلَمْ يَأْتِ ذَلِكَ إِثْرَ قَوْلِهِمْ: وَهذا لِشُرَكائِنا لِتَحْقِيقِ مَا لِشُرَكَائِهِمْ أَنَّهُ لَهُمْ وَالزَّعْمُ فِي أَكْثَرِ كَلَامِ الْعَرَبِ أَقْرَبُ إِلَى غَيْرِ الْيَقِينِ وَالْحَقُّ نَبَّهَ عَلَى أَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْمُرَهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ وَلَا أَنْ يُشَرِّعَهُ لَهُمْ، وَذَلِكَ جَرْيٌ عَلَى عَادَتِهِمْ فِي شَرْعِ أَحْكَامٍ لَمْ يَأْذَنْ فِيهَا وَلَمْ يُشَرِّعْهَا.
وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ: بِزَعْمِهِمْ فِيهِمَا بِضَمِّ الزَّايِ وَهِيَ لُغَةُ بَنِي أَسَدٍ وَالْفَتْحُ لُغَةُ الْحِجَازِ وَبِهِ قَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ وَهُمَا مَصْدَرَانِ. وَقِيلَ: الْفَتْحُ فِي الْمَصْدَرِ وَالضَّمُّ فِي الِاسْمِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ:
بِفَتْحِ الزاي والعين فيهما والسكر لُغَةٌ لِبَعْضِ قَيْسٍ وَتَمِيمٍ، وَلَمْ يُقْرَأْ بِهِ وَيَتَعَلَّقُ بِزَعْمِهِمْ بِقَالُوا.
وَقِيلَ: بِمَا تَعَلَّقَ بِهِ لِلَّهِ مِنْ الاستقرار وشركاؤهم آلِهَتُهُمْ وَالشُّرَكَاءُ مِنَ الشِّرْكِ وَالْإِضَافَةُ إِضَافَةُ تَخْصِيصٍ أَيِ: الشُّرَكَاءُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا بَيْنِهِمْ وَبَيْنَ اللَّهِ فِي الْقُرْبَةِ وَلَيْسَ مَعْنَاهُ الْإِضَافَةُ إِلَى فَاعِلٍ وَلَا مَفْعُولٍ. وَقِيلَ: سُمُّوا شُرَكَاءَ لِأَنَّهُمْ نَزَّلُوهَا مَنْزِلَةَ الشُّرَكَاءِ فِي أَمْوَالِهِمْ فَتَكُونُ إِضَافَةُ إِمَّا إِلَى الْفَاعِلِ فَالتَّقْدِيرُ وَهَذَا لِأَصْنَامِنَا الَّتِي تُشْرِكُنَا فِي أَمْوَالِنَا، وَإِمَّا إِلَى الْمَفْعُولِ فَالتَّقْدِيرُ الَّتِي شَرَكْنَاهَا فِي أَمْوَالِنَا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: سَمَّوْهُمْ شُرَكَاءَ عَلَى مُعْتَقَدِهِمْ فِيهِمْ أَنَّهُمْ يُسَاهِمُونَهُمْ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَمَعْنَى فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ أَيْ لَا يَقَعُ مَوْقِعَ مَا يُصْرَفُ فِي وُجُوهِ الْبِرِّ مِنْ الصَّدَقَةِ عَلَى الْمَسَاكِينِ وَزُوَّارِ بَيْتِ اللَّهِ وَنَحْوِهَا، وَلَوْ فَعَلُوا ذَلِكَ لَمْ يَنْفَعْ لِأَنَّهُمْ أَشْرَكُوا أَوْ لَا يَصِلُ الْبَتَّةَ إِلَى تِلْكَ الْوُجُوهِ الْمَقْصُودِ بِهَا التَّقَرُّبُ إِلَى اللَّهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: كَانُوا إِذَا هَلَكَ الَّذِي لِأَوْثَانِهِمْ أَخَذُوا بَدَلَهُ مِمَّا لِلَّهِ وَلَا يَفْعَلُونَ مِثْلَ ذَلِكَ لِلَّهِ. وَقِيلَ: كَانُوا يَصْرِفُونَ مِمَّا جَعَلُوهُ لِلَّهِ إِلَى سَدَنَةِ الْأَصْنَامِ وَلَا يَتَصَدَّقُونَ بِشَيْءٍ مِمَّا جَعَلُوهُ لِلْأَوْثَانِ، وَمَعْنَى فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ بِإِنْفَاقٍ عَلَيْهَا بِذَبْحِ نِسَائِكَ عِنْدَهَا وَالْآخَرُ لِلنَّفَقَةِ عَلَى سَدَنَتِهَا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: جُمْهُورُ الْمُتَأَوِّلِينَ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: فَلا يَصِلُ وَقَوْلِهِ:
يَصِلُ مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ مِنْ حِمَايَتِهِمْ نَصِيبَ آلِهَتِهِمْ فِي هُبُوبِ الرِّيحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ:
إِنَّمَا ذَلِكَ فِي أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا ذبحوا لله وذكروا آلِهَتَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الذَّبْحِ، وَإِذَا ذَبَحُوا لِآلِهَتِهِمْ لَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ قَالَ: فَلا يَصِلُ إِلَى ذِكْرٍ وَقَالَ: فَهُوَ يَصِلُ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ انْتَهَى. وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا جَعَلُوهُ نَصِيبًا لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يُصْرَفُ مِنْهُ شَيْءٌ فِي وُجُوهِ الْبِرِّ الَّذِي يَقْتَضِيهَا وَجْهُهُ، وَمَا جَعَلُوهُ نَصِيبًا لِلَّهِ أُنْفِقَ فِي مَصَارِيفِ آلِهَتِهِمْ ساءَ مَا يَحْكُمُونَ هذا ذَمٌّ بَالِغٌ عَامٌّ لِأَحْكَامِهِمْ فَيَنْدَرِجُ فِيهِ حُكْمُهُمْ هَذَا السَّابِقُ وَغَيْرُهُ.
655
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فِي إِيثَارِهِمْ آلِهَتَهُمْ عَلَى اللَّهِ وَعَمَلِهِمْ مَا لَمْ يُشْرَعْ لَهُمْ. وَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: أَيْ بِئْسَ الْحُكْمُ حُكْمُهُمْ حَيْثُ قَرَنُوا حَقِّي بِحَقِّ الْأَصْنَامِ وَبَخَسُونِي. وَقِيلَ: ساءَ مَا يَحْكُمُونَ لِأَنْفُسِهِمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ ساءَ هُنَا مُجْرَاةٌ مُجْرَى بِئْسَ فِي الذَّمِّ كَقَوْلِهِ: قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ «١» وَالْخِلَافُ الْجَارِي فِي بِئْسَما وَإِعْرَابِ مَا جَارَ هُنَا وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ مُسْتَوْفًى فِي قَوْلِهِ:
بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ «٢» فِي الْبَقَرَةِ وَعَلَى أَنَّ حُكْمَهَا حَكَمُ بِئْسَمَا فَسَّرَهَا الْمَاتُرِيدِيُّ فَقَالَ: بِئْسَ الْحُكْمُ حُكْمُهُمْ وَأَعْرَبَهَا الْحَوْفِيُّ وَجَعَلَ مَا موصولة بمعنى الذي قال وَالتَّقْدِيرُ سَاءَ الَّذِي يَحْكُمُونَ حُكْمُهُمْ، فَيَكُونُ حُكْمُهُمْ رَفْعًا بِالِابْتِدَاءِ وَمَا قَبْلَهُ الْخَبَرُ وَحُذِفَ لِدَلَالَةِ يَحْكُمُونَ عَلَيْهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا تَمْيِيزًا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُجِيزُ ذَلِكَ فِي بِئْسَمَا فَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ التَّقْدِيرُ ساءَ حُكْمًا حُكْمُهُمْ وَلَا يَكُونُ يَحْكُمُونَ صِفَةً لِمَا لِأَنَّ الْغَرَضَ الْإِبْهَامُ وَلَكِنْ فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ يَدُلُّ مَا عَلَيْهِ وَالتَّقْدِيرُ ساما مَا يَحْكُمُونَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
وَمَا فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ كَأَنَّهُ قَالَ: سَاءَ الَّذِي يَحْكُمُونَ وَلَا يَتَّجِهُ عِنْدِي أَنْ تُجْرَى هُنَا ساءَ مُجْرَى نِعْمَ وَبِئْسَ لِأَنَّ الْمُفَسِّرَ هُنَا مُضْمَرٌ وَلَا بُدَّ مِنْ إِظْهَارِهِ بِاتِّفَاقٍ مِنَ النُّحَاةِ، وَإِنَّمَا اتَّجَهَ أَنْ يُجْرِيَ مُجْرَى بِئْسَ فِي قَوْلِهِ: ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ «٣» لِأَنَّ الْمُفَسِّرَ ظَاهِرٌ فِي الْكَلَامِ انْتَهَى. وَهَذَا قَوْلُ مَنْ شَدَا يَسِيرًا مِنَ الْعَرَبِيَّةِ وَلَمْ يُرَسِّخْ قَدَمَهُ فِيهَا بَلْ إِذَا جَرَى سَاءَ مُجْرَى نِعْمَ وَبِئْسَ كان حكمها حكمها سَوَاءً لَا يَخْتَلِفُ فِي شَيْءٍ الْبَتَّةَ مِنْ فَاعِلٍ مُضْمَرٍ أَوْ ظَاهِرٍ وَتَمْيِيزٍ، وَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِ حَذْفِ الْمَخْصُوصِ بِالْمَدْحِ وَالذَّمِّ وَالتَّمْيِيزُ فِيهَا لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ فَقَوْلُهُ: لِأَنَّ الْمُفَسِّرَ هُنَا مُضْمَرٌ وَلَا بُدَّ مِنْ إِظْهَارِهِ بِاتِّفَاقِ النُّحَاةِ إِلَى آخِرِهِ كَلَامٌ سَاقِطٌ وَدَعْوَاهُ الِاتِّفَاقَ مَعَ أَنَّ الِاتِّفَاقَ عَلَى خِلَافِ مَا ذَكَرَ عَجَبٌ عُجَابٌ.
وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ أَيْ وَمِثْلُ تَزْيِينِ قِسْمَةِ الْقُرْبَانِ بَيْنَ اللَّهِ وَآلِهَتِهِمْ وَجَعْلِهِمْ آلِهَتَهُمْ شُرَكَاءَ لِلَّهِ فِي ذَلِكَ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ مِثْلُ ذَلِكَ التَّزْيِينِ الْبَلِيغِ الَّذِي عُلِمَ مِنَ الشَّيَاطِينِ وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ:
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَكَذلِكَ مُسْتَأْنَفًا غَيْرَ مُشَارٌ بِهِ إِلَى مَا قَبْلَهُ فَيَكُونُ الْمَعْنَى وهكذا زين انتهى. ولِكَثِيرٍ يُرَادُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: شُرَكاؤُهُمْ شَيَاطِينُهُمْ أَمَرُوهُمْ أَنْ يَدْفِنُوا بَنَاتِهِمْ أَحْيَاءً خَشْيَةِ الْعَيْلَةِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: شُرَكاؤُهُمْ سَدَنَتُهُمْ وَخَزَنَتُهُمُ الَّتِي لِآلِهَتِهِمْ كَانُوا يُزَيِّنُونَ لَهُمْ دَفْنَ الْبَنَاتِ أَحْيَاءً. وَقِيلَ: رُؤَسَاؤُهُمْ كَانُوا يَقْتُلُونَ الْإِنَاثَ
(١) سورة البقرة: ٢/ ٩٣.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ٩٠.
(٣) سورة الأعراف: ٧/ ١٧٧.
656
تَكَبُّرًا وَالذُّكُورَ خَوْفَ الْفَقْرِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: قَتْلَ أَوْلادِهِمْ بِالْوَأْدِ أَوْ بِنَحْرِهِمْ لِلْآلِهَةِ، وَكَانَ الرَّجُلُ يَحْلِفُ فِي الجاهلية لئن ولد لي كَذَا غُلَامًا لَيَنْحَرَنَّ أَحَدَهُمْ كَمَا حَلَفَ عَبْدُ الْمَطْلَبِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: زَيَّنَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ وَنَصْبَ قَتْلَ مُضَافًا إِلَى أَوْلادِهِمْ وَرَفْعَ شُرَكاؤُهُمْ فَاعِلًا بِزَيَّنَ وَإِعْرَابُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ وَاضِحٌ، وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ مِنْهُمُ السُّلَمِيُّ وَالْحَسَنُ وَأَبُو عَبْدِ الْمَلِكِ قَاضِي الْجُنْدِ صَاحِبُ ابْنِ عَامِرٍ زَيَّنَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ قَتْلَ مَرْفُوعًا مُضَافًا إِلَى أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ مَرْفُوعًا عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ أَيْ زَيَّنَهُ شُرَكَاؤُهُمْ هَكَذَا خَرَّجَهُ سِيبَوَيْهِ، أَوْ فَاعِلًا بِالْمَصْدَرِ أَيْ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ كَمَا تَقُولُ: حُبِّبَ لِي رُكُوبُ الْفَرَسِ زِيدٌ هَكَذَا خَرَّجَهُ قُطْرُبٌ، فَعَلَى تَوْجِيهِ سِيبَوَيْهِ الشُّرَكَاءُ مُزَيِّنُونَ لَا قَاتِلُونَ كَمَا ذَلِكَ فِي الْقِرَاءَةِ الْأُولَى، وَعَلَى تَوْجِيهِ قُطْرُبٍ الشُّرَكَاءُ قَاتِلُونَ. وَمَجَازُهُ أَنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا مُزَيِّنِينَ الْقَتْلَ جُعِلُوا هُمُ الْقَاتِلِينَ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مُبَاشَرِي الْقَتْلِ، وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُمْ خَفَضُوا شُرَكَائِهِمْ وَعَلَى هَذَا الشُّرَكَاءُ هم الموءودون لِأَنَّهُمْ شُرَكَاءُ فِي النَّسَبِ وَالْمَوَارِيثِ، أَوْ لِأَنَّهُمْ قَسِيمُو أَنْفُسِهِمْ وَأَبْعَاضٌ مِنْهَا. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ: كَذلِكَ إِلَّا أَنَّهُ نَصَبَ أَوْلادِهِمْ وَجَرَّ شركائهم فَصَلَ بَيْنَ الْمَصْدَرِ الْمُضَافِ إِلَى الْفَاعِلِ بِالْمَفْعُولِ وَهِيَ مَسْأَلَةٌ مُخْتَلَفٌ فِي جَوَازِهَا، فَجُمْهُورُ الْبَصْرِيِّينَ يَمْنَعُونَهَا مُتَقَدِّمُوهُمْ وَمُتَأَخَّرُوهُمْ وَلَا يُجِيزُونَ ذَلِكَ إِلَّا فِي ضَرُورَةٍ الشِّعْرِ، وَبَعْضُ النَّحْوِيِّينَ أَجَازَهَا وَهُوَ الصَّحِيحُ لِوُجُودِهَا فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ الْمَنْسُوبَةِ إِلَى الْعَرَبِيِّ الصَّرِيحِ الْمَحْضِ ابْنِ عَامِرٍ الْآخِذِ الْقُرْآنِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ قَبْلَ أَنْ يَظْهَرَ اللَّحْنُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، وَلِوُجُودِهَا أَيْضًا فِي لِسَانِ الْعَرَبِ فِي عِدَّةِ أَبْيَاتٍ قَدْ ذَكَرْنَاهَا فِي كِتَابِ مَنْهَجِ السَّالِكِ مِنْ تَأْلِيفِنَا وَلَا الْتِفَاتَ إِلَى قَوْلِ ابْنِ عَطِيَّةَ وَهَذِهِ قِرَاءَةٌ ضَعِيفَةٌ فِي اسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ أَضَافَ الْفِعْلَ إِلَى الْفَاعِلِ وهو لشركاء ثُمَّ فَصَلَ بَيْنَ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إِلَيْهِ بِالْمَفْعُولِ وَرُؤَسَاءُ الْعَرَبِيَّةِ لَا يُجِيزُونَ الْفَصْلَ بِالظُّرُوفِ فِي مِثْلِ هَذَا إِلَّا فِي الشِّعْرِ كَقَوْلِهِ:
كَمَا خُطَّ الْكِتَابُ بِكَفِّ يَوْمًا... يَهُودِيٍّ يُقَارِبُ أَوْ يُزِيلُ
فَكَيْفَ بِالْمَفْعُولِ فِي أَفْصَحِ كَلَامٍ وَلَكِنْ وَجْهُهَا عَلَى ضَعْفِهَا أَنَّهَا وَرَدَتْ شَاذَّةً فِي بَيْتٍ أَنْشَدَهُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَخْفَشُ:
فَزَجَجْتُهُ بمزجة... زج القلوس أَبِي مَزَادَةْ
وَفِي بَيْتِ الطِّرِمَّاحِ وَهُوَ قَوْلُهُ:
657
يَطُفْنَ بِحُوزِيِّ الْمَرَاتِعِ لَمْ يَرْعَ بِوَادِيهِ مِنْ قَرْعِ الْقِسِيِّ الْكَنَائِنِ
انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ عَطِيَّةَ، وَلَا الْتِفَاتَ أَيْضًا إِلَى قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ: إِنَّ الْفَصْلَ بَيْنَهُمَا يَعْنِي بَيْنَ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إِلَيْهِ فَشَا لَوْ كَانَ فِي مَكَانِ الضَّرُورَاتِ وَهُوَ الشِّعْرُ أكان سَمِجًا مَرْدُودًا فَكَيْفَ بِهِ فِي الْقُرْآنِ الْمُعْجِزِ لِحُسْنِ نَظْمِهِ وَجَزَالَتِهِ؟ وَالَّذِي حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ أَنْ رَأَى فِي بَعْضِ الْمَصَاحِفِ شُرَكَائِهِمْ مَكْتُوبًا بِالْيَاءِ، وَلَوْ قَرَأَ بِجَرِّ الْأَوْلَادِ وَالشُّرَكَاءِ لِأَنَّ الْأَوْلَادَ شُرَكَاؤُهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ لَوَجَدَ فِي ذَلِكَ مَنْدُوحَةً عَنْ هَذَا الِارْتِكَابِ انْتَهَى مَا قَالَهُ. وَأَعْجَبُ لِعَجَمِيٍّ ضَعِيفٍ فِي النَّحْوِ يَرُدُّ عَلَى عَرَبِيٍّ صَرِيحٍ مَحْضَ قِرَاءَةٍ مُتَوَاتِرَةٍ مَوْجُودٍ نَظِيرُهَا فِي لِسَانِ الْعَرَبِ فِي غَيْرِ مَا بَيْتٍ وَأَعْجَبُ لِسُوءِ ظَنِّ هَذَا الرَّجُلِ بِالْقُرَّاءِ الْأَئِمَّةِ الَّذِينَ تَخَيَّرَتْهُمْ هَذِهِ الْأُمَّةُ لِنَقْلِ كِتَابِ اللَّهِ شَرْقًا وَغَرْبًا، وَقَدِ اعْتَمَدَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى نَقْلِهِمْ لِضَبْطِهِمْ وَمَعْرِفَتِهِمْ وَدِيَانَتِهِمْ وَلَا الْتِفَاتَ أَيْضًا لِقَوْلِ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ: هَذَا قَبِيحٌ قَلِيلٌ فِي الِاسْتِعْمَالِ وَلَوْ عَدَلَ عَنْهَا يَعْنِي ابْنَ عَامِرٍ كَانَ أَوْلَى لِأَنَّهُمْ لَمْ يُجِيزُوا الْفَصْلَ بَيْنَ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إِلَيْهِ بِالظَّرْفِ فِي الْكَلَامِ مَعَ اتِّسَاعِهِمْ فِي الظَّرْفِ وَإِنَّمَا أَجَازُوهُ فِي الشِّعْرِ انْتَهَى. وَإِذَا كَانُوا قَدْ فَصَلُوا بَيْنَ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إِلَيْهِ بِالْجُمْلَةِ فِي قَوْلِ بَعْضِ الْعَرَبِ هُوَ غُلَامُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَخِيكَ فَالْفَصْلُ بِالْمُفْرَدِ أَسْهَلُ، وَقَدْ جَاءَ الْفَصْلُ فِي اسْمِ الْفَاعِلِ فِي الِاخْتِيَارِ. قَرَأَ بَعْضُ السَّلَفِ:
مُخْلِفٌ وَعْدَهُ رُسُلِهِ بِنَصْبِ وَعْدَهُ وَخَفْضِ رُسُلِهِ وَقَدِ اسْتَعْمَلَ أَبُو الطَّيِّبِ الْفَصْلَ بَيْنَ الْمَصْدَرِ الْمُضَافِ إِلَى الْفَاعِلِ بِالْمَفْعُولِ اتِّبَاعًا لِمَا وَرَدَ عَنِ الْعَرَبِ فَقَالَ:
بَعَثْتُ إِلَيْهِ مِنْ لِسَانِي حديقة سقاها الحيا سَقْيَ الرِّيَاضِ السَّحَائِبِ
وَقَالَ أَبُو الْفَتْحِ: إِذَا اتَّفَقَ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ نُظِرَ فِي حَالِ الْعَرَبِيِّ وَمَا جَاءَ بِهِ فَإِنْ كَانَ فَصِيحًا وَكَانَ مَا أَوْرَدَهُ يَقْبَلُهُ الْقِيَاسُ فَالْأَوْلَى أَنْ يُحْسَنَ بِهِ الظَّنُّ، لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ وَقَعَ إِلَيْهِ مِنْ لُغَةٍ قَدِيمَةٍ قَدْ طَالَ عَهْدُهَا وَعَفَا رَسْمُهَا. وَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ العلاء: مَا انْتَهَى إِلَيْكُمْ مِمَّا قَالَتِ الْعَرَبُ إِلَّا أَقَلُّهُ وَلَوْ جَاءَكُمْ وَافِرًا لَجَاءَكُمْ عِلْمٌ وَشِعْرٌ كَثِيرٌ وَنَحْوُهُ مَا رَوَى ابْنُ سِيرِينَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ حُفِظَ أَقَلُّ ذَلِكَ وَذَهَبَ عَنْهُمْ كَثِيرُهُ يَعْنِي الشِّعْرَ فِي حِكَايَةٍ فِيهَا طُولٌ. وَقَالَ أَبُو الْفَتْحِ: فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَمْ نَقْطَعْ عَلَى الْفَصِيحِ إِذَا سُمِعَ مِنْهُ مَا يُخَالِفُ الْجُمْهُورَ بِالْخَطَأِ انْتَهَى، مُلَخَّصًا مُقْتَصِرًا عَلَى بَعْضِ مَا قَالَهُ. وَقَرَأَ بَعْضُ أَهْلِ الشَّامِ وَرُوِّيتُ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ زَيَّنَ بِكَسْرِ الزَّايِ وَسُكُونِ الْيَاءِ عَلَى الْقِرَاءَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنَ الْفَصْلِ بِالْمَفْعُولِ، وَمَعْنَى لِيُرْدُوهُمْ لِيُهْلِكُوهُمْ مِنَ الرَّدَى وَهُوَ الْهَلَاكُ وَلِيَلْبِسُوا
658
ليخلطوا ودِينَهُمْ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ دِينِ إِسْمَاعِيلَ حَتَّى زَلُّوا عَنْهُ إِلَى الشِّرْكِ. وَقِيلَ دِينَهُمْ الَّذِي وَجَبَ أَنْ يَكُونُوا عَلَيْهِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ وَلِيُوقِعُوهُمْ فِي دِينٍ مُلْتَبِسٍ. وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ وَلِيَلْبِسُوا بِفَتْحِ الْيَاءِ. قَالَ أَبُو الْفَتْحِ: اسْتِعَارَةٌ مِنَ اللِّبَاسِ عِبَارَةٌ عَنْ شِدَّةِ الْمُخَالَطَةِ وَاللَّامُ مُتَعَلِّقَةٌ بِ زَيَّنَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنْ كَانَ التَّزْيِينُ مِنَ الشَّيَاطِينِ فَهِيَ عَلَى حَقِيقَةِ التَّعْلِيلِ، وَإِنْ كَانَ مِنَ السَّدَنَةِ فَعَلَى مَعْنَى الصَّيْرُورَةِ.
وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ الظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ عَلَى الْقَتْلِ لِأَنَّهُ الْمَصْرُحُ بِهِ وَالْمُحَدَّثُ عَنْهُ وَالْوَاوُ فِي فَعَلُوهُ عَائِدٌ عَلَى الْكَثِيرِ. وَقِيلَ: الْهَاءُ لِلتَّزْيِينِ وَالْوَاوُ لِلشُّرَكَاءِ. وَقِيلَ:
الْهَاءُ لِلَّبْسِ وَهَذَا بَعِيدٌ. وَقِيلَ: لِجَمِيعِ ذَلِكَ إِنْ جَعَلْتَ الضَّمِيرَ جَارٍ مُجْرَى الْإِشَارَةِ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ رَدٌّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَخْلُقُ أَفْعَالَهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَشِيئَةَ قَسْرٍ انْتَهَى، وَهُوَ عَلَى مَذْهَبِهِ الِاعْتِزَالِيِّ.
فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ أَيْ مَا يَخْتَلِقُونَ مِنَ الْإِفْكِ عَلَى اللَّهِ وَالْأَحْكَامُ الَّتِي يَشْرَعُونَهَا وَهُوَ أَمْرُ تَهْدِيدٍ وَوَعِيدٍ.
وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ أَعْلَمَ تَعَالَى بِأَشْيَاءَ مِمَّا شَرَعُوهَا وَتَقْسِيمَاتٍ ابْتَدَعُوهَا وَالْتَزَمُوهَا عَلَى جِهَةِ الْفِرْيَةِ وَالْكَذِبِ مِنْهُمْ عَلَى اللَّهِ، أَفْرَدُوا مِنْ أَنْعَامِهِمْ وَزُرُوعِهِمْ وَثِمَارِهِمْ شَيْئًا وَقَالُوا: هَذَا حِجْرٌ أَيْ حَرَامٌ مَمْنُوعٌ. وَقَرَأَ أَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ: نَعَمٌ عَلَى الْإِفْرَادِ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَسُكُونِ الْجِيمِ وَالْحِجْرُ بِمَعْنَى الْمَحْجُورِ كَالذِّبْحِ وَالطِّحْنِ يَسْتَوِي فِي الْوَصْفِ بِهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ وَالْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ، لِأَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْأَسْمَاءِ غَيْرَ الصِّفَاتِ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالْأَعْرَجُ بِضَمِّ الْحَاءِ وَسُكُونِ الْجِيمِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَرَأَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَإِسْكَانِ الْجِيمِ، وَعَنِ الْحَسَنِ أَيْضًا حِجْرٌ بِضَمِّ الْحَاءِ. وَقَرَأَ أَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ بِضَمِّ الْحَاءِ وَالْجِيمِ، وَقَالَ هَارُونُ: كَانَ الْحَسَنُ يَضُمُّ الْحَاءَ مِنْ حِجْرٌ حَيْثُ وَقَعَ إلا وحجرا مَحْجُورًا فَيَكْسِرُهَا وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَعَبْدُ اللَّهِ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَعِكْرِمَةُ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَالْأَعْمَشُ حِرْجٌ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَتَقْدِيمِ الرَّاءِ عَلَى الْجِيمِ وَسُكُونِهَا، وَخَرَجَ عَلَى الْقَلْبِ فَمَعْنَاهُ مَعْنَى حِجْرٌ أَوْ مِنَ الْحَرَجِ وَهُوَ التَّضْيِيقُ لَا يَطْعَمُها لَا يَأْكُلُهَا إِلَّا مَنْ نَشاءُ وَهُمُ الرِّجَالُ دُونَ النِّسَاءِ، أَوْ سَدَنَةُ الْأَصْنَامِ بِزَعْمِهِمْ أَيْ بِتَقَوُّلِهِمُ الَّذِي هُوَ أَقْرَبُ إِلَى الْبَاطِلِ مِنْهُ إِلَى الْحَقِّ.
وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها هِيَ الْبَحَائِرُ وَالسَّوَائِبُ وَالْحَوَامِي وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا فِي الْمَائِدَةِ.
659
وَأَنْعامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا أَيْ عِنْدَ الذَّبْحِ. وَقَالَ أَبُو وَائِلٍ: وَجَمَاعَةٌ لَا يَحُجُّونَ عَلَيْهَا وَلَا يُلَبُّونَ كَانَتْ تُرْكَبُ فِي كُلِّ وَجْهٍ إِلَّا فِي الْحَجِّ.
افْتِراءً عَلَيْهِ اخْتِلَاقًا وَكَذِبًا عَلَى اللَّهِ حَيْثُ قَسَّمُوا هَذِهِ الْأَنْعَامَ هَذَا التَّقْسِيمَ وَنَسَبُوا ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ وَانْتَصَبَ افْتِراءً عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ أَوْ مَصْدَرٌ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ، أَيْ يَفْتَرُونَ أَوْ مَصْدَرٌ عَلَى مَعْنَى وَقَالُوا: لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى افْتَرَوْا أَوْ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ.
سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ وَوَعِيدٌ.
وَقالُوا مَا فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا الَّذِي فِي بُطُونِهَا هُوَ الْأَجِنَّةُ قَالَهُ السُّدِّيُّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَانُوا يَقُولُونَ فِي أَجِنَّةِ الْبَحَائِرِ وَالسَّوَائِبِ مَا وُلِدَ مِنْهَا حَيَّا فَهُوَ خَالِصٌ لِذُكُورِنَا وَلَا تَأْكُلُ مِنْهُ الْإِنَاثُ، وَمَا وُلِدَ مَيِّتًا اشْتَرَكَ فِيهِ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَالشَّعْبِيُّ: الَّذِي فِي بُطُونِهَا هُوَ اللَّبَنُ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ:
اللَّفْظُ يَعُمُّ الْأَجِنَّةَ وَاللَّبَنَ انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ الْأَجِنَّةُ لِأَنَّهَا الَّتِي فِي الْبَطْنِ حَقِيقَةً، وَأَمَّا اللَّبَنُ:
فَفِي الضَّرْعِ لَا فِي الْبَطْنِ إِلَّا بِمَجَازٍ بَعِيدٍ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَأَبُو الْعَالِيَةَ وَالضَّحَّاكُ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: خَالِصٌ بِالرَّفْعِ بِغَيْرِ تَاءٍ وَهُوَ خَبَرُ ما ولِذُكُورِنا مُتَعَلِّقٌ بِهِ. وَقَرَأَ ابْنُ جُبَيْرٍ فِيمَا ذَكَرَ ابْنُ جِنِّيٍّ خَالِصًا بِالنَّصْبِ بِغَيْرِ تَاءٍ، وَانْتَصَبَ عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ الصِّلَةُ أَوْ عَلَى الْحَالِ مِنْ مَا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي الْحَسَنِ فِي إِجَازَتِهِ تَقْدِيمَ الْحَالِ عَلَى الْعَامِلِ فِيهَا انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: عَلَى الْحَالِ مِنْ مَا أَيْ مِنْ ضَمِيرِ مَا الَّذِي تَضَمَّنَهُ خَبَرُ مَا وَهُوَ لِذُكُورِنا وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: فِي إِجَازَتِهِ إِلَى آخِرِهِ عَلَى الْعَامِلِ فِيهَا إِذَا كَانَ ظَرْفًا أَوْ مَجْرُورًا نَحْوَ زَيْدٌ قَائِمًا فِي الدَّارِ، وَخَبَرُ مَا عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ هُوَ لِذُكُورِنا. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْأَعْرَجُ وَقَتَادَةُ وَابْنُ جُبَيْرٍ أَيْضًا خَالِصَةٌ بِالنَّصْبِ وَإِعْرَابُهَا كَإِعْرَابِ خَالِصًا بِالنَّصْبِ وَخَرَّجَ ذَلِكَ الزَّمَخْشَرِيُّ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكَّدٌ كَالْعَافِيَةِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَأَبُو رَزِينٍ وَعِكْرِمَةُ وَابْنُ يَعْمُرَ وَأَبُو حَيْوَةَ وَالزَّهْرِيُّ خَالِصَةٌ عَلَى الْإِضَافَةِ وَهُوَ بَدَلٌ مِنْ مَا أَوْ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ لِذُكُورِنا وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ مَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ خالِصَةٌ بِالرَّفْعِ وَبِالتَّاءِ وَهَلِ التَّاءُ لِلْمُبَالَغَةِ كَرَاوِيَةٍ أَوْ حَمْلًا عَلَى مَعْنَى مَا لِأَنَّهَا أَجِنَّةٌ وَالْعَامُّ أَوْ هُوَ مَصْدَرٌ يُبْنَى عَلَى فَاعِلَةٍ كالعافية والعافية أَيْ ذُو خُلُوصٍ؟ أَقْوَالٌ: وَكَانَ قَدْ سَبَقَ لَنَا أَنَّ شَيْخَنَا عَلَمَ الدِّينِ الْعِرَاقِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ فِي الْقُرْآنِ حَمْلٌ عَلَى الْمَعْنَى أَوَّلًا ثُمَّ حَمْلٌ عَلَى اللَّفْظِ بَعْدَهُ إِلَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَوَعَدَنَا أَنْ نُحَرِّرَ ذَلِكَ فِي مَكَانٍ وَمَا ذَكَرَهُ قَالَهُ مَكِّيٌّ، قَالَ: الْآيَةُ فِي
660
قِرَاءَةِ الْجَمَاعَةِ أَتَتْ عَلَى خِلَافِ نَظَائِرِهَا فِي الْقُرْآنِ لِأَنَّ كُلَّ مَا يُحْمَلُ عَلَى اللَّفْظِ مَرَّةً وَعَلَى الْمَعْنَى مَرَّةً إِنَّمَا يُبْتَدَأُ أَوَّلًا بِالْحَمْلِ عَلَى اللَّفْظِ، ثم بليه الْحَمْلُ عَلَى مَعْنًى نَحْوَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ «١» ثُمَّ قَالَ: فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ «٢» هَكَذَا يَأْتِي فِي الْقُرْآنِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ تَقَدَّمَ فِيهَا الْحَمْلُ عَلَى الْمَعْنَى فَقَالَ: خالِصَةٌ ثُمَّ حُمِلَ عَلَى اللَّفْظِ فَقَالَ: ومُحَرَّمٌ وَمِثْلُهُ كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئَةً فِي قِرَاءَةِ نَافِعٍ وَمَنْ تَابَعَهُ فَأَنَّثَ عَلَى مَعْنَى كُلُّ لِأَنَّهَا اسْمٌ لجمع مَا تَقَدَّمَ مِمَّا نُهِيَ عَنْهُ مِنَ الْخَطَايَا، ثُمَّ قَالَ: عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً «٣» فَذَكَّرَ عَلَى لَفْظِ كُلُّ، وَكَذَلِكَ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ «٤» حَمْلًا عَلَى مَا، وَوَحَّدَ الْهَاءَ حَمْلًا عَلَى لَفْظِ مَا.
وَحُكِيَ عَنِ الْعَرَبِ هَذَا الْجَرَادُ قَدْ ذَهَبَ فَأَرَاحَنَا مِنْ أَنْفُسِهِ جَمَعَ الْأَنْفُسَ وَوَحَّدَ الْهَاءَ وَذَكَّرَهَا انْتَهَى وَفِيهِ بَعْضُ تَلْخِيصٍ. وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْهَاءَ لِلْمُبَالَغَةِ أَوِ الَّتِي فِي الْمَصْدَرِ كَالْعَافِيَةِ فَلَا يَكُونُ التَّأْنِيثُ حَمْلًا عَلَى مَعْنَى مَا، وَعَلَى تَسْلِيمٍ أَنَّهُ حُمِلَ عَلَى الْمَعْنَى فَلَا يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ بَدَأَ أَوَّلًا بِالْحَمْلِ عَلَى الْمَعْنَى ثُمَّ بالجمل عَلَى اللَّفْظِ لِأَنَّ صِلَةَ مَا مُتَعَلِّقَةٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ وَذَلِكَ الْفِعْلُ مُسْنَدٌ إِلَى ضَمِيرِ مَا وَلَا يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ وَقَالُوا: مَا اسْتَقَرَّتْ فِي بُطُونِ الْأَنْعَامِ، بَلِ الظَّاهِرُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ مَا اسْتَقَرَّ فَيَكُونُ حُمِلَ أَوَّلًا عَلَى التَّذْكِيرِ ثُمَّ ثَانِيًا عَلَى التَّأْنِيثِ، وَإِذَا احْتَمَلَ هَذَا الْوَجْهَ وَهُوَ الرَّاجِحُ لَمْ يَكُنْ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ بَدَأَ بِالْحَمْلِ عَلَى التَّأْنِيثِ أَوَّلًا ثُمَّ بِالْحَمْلِ عَلَى اللَّفْظِ وَقَوْلُ مَكِّيٍّ هَكَذَا يَأْتِي فِي الْقُرْآنِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ، أَمَّا الْقُرْآنُ فَكَذَلِكَ هُوَ، وَأَمَّا كَلَامُ الْعَرَبِ فَجَاءَ فِيهِ الْحَمْلِ عَلَى اللَّفْظِ أَوَّلًا ثُمَّ عَلَى الْمَعْنَى وَهُوَ الْأَكْثَرُ وَجَاءَ الْحَمْلُ عَلَى الْمَعْنَى أَوَّلًا ثُمَّ عَلَى اللَّفْظِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَمِثْلُهُ كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئَةً فَلَيْسَ مِثْلَهُ، بَلْ حُمِلَ أَوَّلًا عَلَى اللَّفْظِ فِي قَوْلِهِ: كَانَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ أَعَادَ الضَّمِيرَ مُذَكَّرًا ثُمَّ عَلَى الْمَعْنَى فَقَالَ: سَيِّئَةً وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَكَذَلِكَ مَا تَرْكَبُونَ فَلَيْسَ مِثْلَهُ، لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ مَا تَرْكَبُونَهُ فَيَكُونُ قَدْ حُمِلَ أَوَّلًا عَلَى اللَّفْظِ ثُمَّ عَلَى الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: ظُهُورُهُ ثُمَّ عَلَى اللَّفْظِ فِي إِفْرَادِ الضَّمِيرِ، وَأَمَّا هَذَا الْجَرَادُ قَدْ ذَهَبَ فَقَدْ حُمِلَ أَوَّلًا عَلَى إِفْرَادِ الضَّمِيرِ عَلَى اللَّفْظِ ثُمَّ جُمِعَ عَلَى الْمَعْنَى ثُمَّ عَلَى اللَّفْظِ فِي إِفْرَادِ الضَّمِيرِ، وَمَعْنَى لِأَزْوَاجِنَا: لِنِسَائِنَا أَيْ مُعَدَّةٌ أَنْ تَكُونَ أَزْوَاجًا قَالَهُ مُجَاهِدٍ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: لِبَنَاتِنَا.
وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ كَانُوا إِذَا خَرَجَ الْجَنِينُ مَيِّتًا اشْتَرَكَ فِي أَكْلِهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ، وَكَذَلِكَ مَا مَاتَ مِنَ الْأَنْعَامِ الْمَوْقُوفَةِ نَفْسِهَا. وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ: وَإِنْ تَكُنْ بِتَاءِ التأنيث
(١) سورة المائدة: ٥/ ٦٩.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ٢٧٤.
(٣) سورة الإسراء: ١٧/ ٣٨.
(٤) الزخرف: ٤٣/ ١٢، ١٣.
661
مَيْتَةً بِالنَّصْبِ أَيْ وَإِنْ تَكُنِ الْأَجِنَّةُ الَّتِي تَخْرُجُ مَيْتَةً. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً بِالتَّذْكِيرِ وَبِالرَّفْعِ عَلَى كَانَ التَّامَّةِ وَأَجَازَ الْأَخْفَشُ أَنْ تَكُونَ النَّاقِصَةَ وَجَعَلَ الْخَبَرَ مَحْذُوفًا التَّقْدِيرُ وَإِنْ تَكُنْ فِي بُطُونِهَا مَيْتَةٌ وَفِيهِ بُعْدٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَرَأَ أَهْلُ مَكَّةَ وَإِنْ تَكُنْ مَيْتَةً بِالتَّأْنِيثِ وَالرَّفْعِ انْتَهَى. فَإِنْ عَنَى ابْنَ كَثِيرٍ فَهُوَ وَهْمٌ وَإِنْ عَنَى غَيْرَهُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ نَقْلًا صَحِيحًا وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ الَّتِي عَزَاهَا الزَّمَخْشَرِيُّ لِأَهْلِ مَكَّةَ هِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ عَامِرٍ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ وَإِنْ يَكُنْ التذكير مَيْتَةً بِالنَّصْبِ عَلَى تَقْدِيرِ وَإِنْ يَكُنْ مَا فِي بُطُونِهَا مَيْتَةً. قَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ: وَيُقَوِّي هَذِهِ الْقِرَاءَةَ قَوْلُهُ: فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ وَلَمْ يَقُلْ فِيهَا انْتَهَى.
وَهَذَا لَيْسَ بِجَيِّدٍ لِأَنَّ الْمَيْتَةَ لِكُلِّ مَيِّتٍ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَإِنْ يَكُنْ مَيْتًا فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ. وَقَرَأَ يَزِيدُ: مَيْتَةً بِالتَّشْدِيدِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ.
سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ أَيْ جَزَاءَ وَصْفَهُمْ الْكَذِبَ عَلَى اللَّهِ فِي التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ مِنْ قَوْلِهِ وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ «١».
إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ أَيْ حَكِيمٌ فِي عَذَابِهِمْ عَلِيمٌ بِأَحْوَالِهِمْ.
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ كَانَ جُمْهُورُ الْعَرَبِ لَا يَئِدُونَ بَنَاتِهِمْ وَكَانَ بَعْضُ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ يَئِدُوهُنَّ وَهُوَ دَفْنُهُنَّ أَحْيَاءً، فَبَعْضُهُمْ يَئِدُ خَوْفَ الْعَيْلَةِ وَالْإِقْتَارِ وَبَعْضُهُمْ خَوْفَ السَّبْيِ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. فِي ذَلِكَ إِخْبَارًا بِخُسْرَانِ فَاعِلِ ذَلِكَ وَلَمَّا تَقَدَّمَ تَزْيِينُ قَتْلِ الْأَوْلَادِ وَتَحْرِيمُ مَا حَرَّمُوهُ فِي قَوْلِهِمْ هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ جَاءَ هُنَا تَقْدِيمُ قَتْلِ الْأَوْلَادِ وَتَلَاهُ التَّحْرِيمُ وَفِي قَوْلِهِ: سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ إِشَارَةٌ إِلَى خِفَّةِ عُقُولِهِمْ وَجَهْلِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ وَالْمُقَدَّرُ السَّبْيَ وَغَيْرَهُ، ما رزقهم الله إظهار لِإِبَاحَتِهِ لَهُمْ فَقَابَلُوا إِبَاحَةَ اللَّهِ بِتَحْرِيمِهِمْ هُمْ وَمَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ يَعُمُّ السَّوَائِبَ وَالْبَحَائِرَ وَالزُّرُوعَ، وَتَرَتَّبَ عَلَى قَتْلِهِمْ أَوْلَادَهُمُ الْخُسْرَانُ مُعَلَّلًا بِالسَّفَهِ وَالْجَهْلِ وَعَلَى تَحْرِيمِ مَا رَزَقَهُمُ الْخُسْرَانُ مُعَلَّلًا بِالِافْتِرَاءِ ثُمَّ الْإِخْبَارِ بِالضَّلَالِ وَانْتِفَاءِ الْهِدَايَةِ وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ السَّبْعَةِ سَبَبٌ تَامٌّ فِي حُصُولِ الذَّمِّ فَأَمَّا الْخُسْرَانُ فَلِأَنَّ الْوَلَدَ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ مِنَ اللَّهِ فَإِذَا سَعَى فِي إِبْطَالِ تِلْكَ النِّعْمَةِ وَالْهِبَةِ فَقَدْ خَسِرَ وَاسْتَحَقَّ الذَّمَّ فِي الدُّنْيَا بِقَوْلِهِمْ: قَتَلَ وَلَدَهُ خَوْفَ أَنْ يَأْكُلَ مَعَهُ وَفِي الْآخِرَةِ الْعِقَابَ لِأَنَّ ثمرة الولد المحبة،
(١) سورة النحل: ١٦/ ١١٦. [.....]
662
وَمَعَ حُصُولِهَا أَلْحَقَ بِهِ أَعْظَمَ الْمَضَارِّ وَهُوَ الْقَتْلُ كَانَ أَعْظَمَ الذُّنُوبِ فَيَسْتَحِقُّ أَعْظَمَ الْعِقَابِ، وَأَمَّا السَّفَهُ وَهِيَ الْخِفَّةُ الْمَذْمُومَةُ فَقَتْلُ الْوَلَدِ لِخَوْفِ الْفَقْرِ وَإِنْ كَانَ ضَرَرًا فَالْقَتْلُ أَعْظَمُ مِنْهُ وَأَيْضًا فَالْقَتْلُ نَاجِزٌ وَالْفَقْرُ مَوْهُومٌ، وَأَمَّا الْجَهْلُ فَيَتَوَلَّدُ عَنْهُ السَّفَاهَةُ وَالْجَهْلُ أَعْظَمُ الْقَبَائِحِ، وَأَمَّا تَحْرِيمِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فهو مِنْ أَعْظَمِ الْجِنَايَاتِ وَأَمَّا الِافْتِرَاءُ فَجَرَاءَةٌ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الذُّنُوبِ، وَأَمَّا الضَّلَالُ فَهُوَ أَنْ لَا يَرْشُدُوا فِي مَصَالِحِ الدُّنْيَا وَلَا الْآخِرَةِ، وَأَمَّا انْتِفَاءُ الْهِدَايَةِ فَتَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا قَطُّ فِيمَا سَلَكُوهُ مِنْ ذَلِكَ ذَوِي هِدَايَةٍ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالسُّلَمِيُّ وَأَهْلُ مَكَّةَ وَالشَّامِ وَمِنْهُمَا ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ: قَتَلُوا بِالتَّشْدِيدِ. وَقَرَأَ الْيَمَانِيُّ سُفَهَاءُ عَلَى الْجَمْعِ.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٤١ الى ١٥٢]
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (١٤١) وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٤٢) ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٤٣) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٤٤) قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤٥)
وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (١٤٦) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١٤٧) سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (١٤٨) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (١٤٩) قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١٥٠)
قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٥١) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١٥٢)
663
الزَّرْعُ: الْحَبُّ الْمُقْتَاتُ: الْحَصَادُ: بِفَتْحِ الْحَاءِ وَكَسْرِهَا كَالْجِذَاذِ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ وَهُوَ مَصْدَرُ حَصَدَ وَمَصْدَرُهُ أَيْضًا حَصْدٌ وَهُوَ الْقِيَاسُ. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: جاؤوا بِالْمَصَادِرِ حِينَ أَرَادُوا انْتِهَاءَ الزَّمَانِ عَلَى فِعَالٍ وَرُبَّمَا قَالُوا فِيهِ فَعَالٌ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْكَسْرُ لِلْحِجَازِ وَالْفَتْحُ لِنَجْدٍ وَتَمِيمٍ. الْحَمُولَةُ: الْإِبِلُ الَّتِي تَحْمِلُ الْأَحْمَالَ عَلَى ظُهُورِهَا قَالَهُ أَبُو الْهَيْثَمِ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهَا الْبِغَالُ وَلَا الْحَمِيرُ وَأَدْخَلَ بَعْضُهُمْ فِيهَا الْبَقَرَ إِذْ مِنْ عَادَةِ بَعْضِ النَّاسِ الْحَمْلُ عَلَيْهَا. الْفَرْشُ:
الْغَنَمُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أَجْمَعَ أَهْلُ اللُّغَةِ عَلَى أَنَّ الْفَرْشَ صِغَارُ الْإِبِلِ وَأَنْشَدَ الشَّاعِرُ:
664
أَوْرَثَنِي حَمُولَةً وَفَرْشًا أَمُشُّهَا فِي كُلِّ يَوْمٍ مَشًّا
وَقَالَ آخَرُ:
وَحُوِينَا الْفَرْشَ مِنْ أَنْعَامِكُمْ وَالْحُمُولَاتِ وَرَبَّاتِ الْحَجَلْ
وَالْفَرْشُ: مُشْتَرَكٌ بَيْنَ صِغَارِ الْإِبِلِ. قَالَ أَبُو زَيْدٍ: وَيُحْتَمَلُ إِنْ سُمِّيَتْ بِالْمَصْدَرِ وَهِيَ الْمَفْرُوشُ مِنْ مَتَاعِ الْبَيْتِ وَالزَّرْعُ إِذَا فُرِشَ وَالْفَضَاءُ الْوَاسِعُ وَاتِّسَاعُ خُفِّ الْبَعِيرِ قَلِيلًا وَالْأَرْضُ الْمَلْسَاءُ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَفَرْشُ النَّعْلِ وَفِرَاشُ الطَّائِرِ وَنَبْتٌ يَلْتَصِقُ بِالْأَرْضِ. قَالَ الشَّاعِرُ:
كَمَشْفَرِ النَّابِ يَلُوكُ الْفَرْشَا وَيَأْتِيَ ذِكْرُ الِاخْتِلَافِ فِي الْحَمُولَةِ وَالْفَرْشِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. الْإِبِلُ الْجِمَالُ لِلْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ، وَيُجْمَعُ عَلَى آبَالٍ وَتَأَبَّلَ الرَّجُلُ اتَّخَذَ إِبِلًا وَقَوْلُهُمْ: مَا آبَلَ الرَّجُلَ فِي التَّعَجُّبِ شَاذًّا. الضَّأْنُ: مَعْرُوفٌ بِسُكُونِ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِهَا وَيُقَالُ: ضَئِينٌ وَكِلَاهُمَا اسْمُ جَمْعٍ لِضَائِنَةٍ وَضَائِنٍ. الْمَعْزُ: مَعْرُوفٌ بِسُكُونِ الْعَيْنِ وَفَتْحِهَا وَيُقَالُ: مَعِيزٌ وَمَعْزَى وَأُمْعُوزٌ وَهِيَ أَسْمَاءُ جُمُوعٍ لِمَاعِزَةٍ وَمَاعِزٍ. السَّفْحُ: الصَّبُّ مَصْدَرُ سَفَحَ يَسْفَحُ وَالسَّفْحُ مَوْضِعٌ. الظُّفْرُ: مَعْرُوفٌ وَهُوَ بِضَمِّ الظَّاءِ وَالْفَاءِ وَبِسُكُونِ الْفَاءِ وَبِكَسْرِهِمَا وَبِسُكُونِ الْفَاءِ، وَأُظْفُورٌ وَجَمْعُ الثُّلَاثِيِّ أَظْفَارٌ وَجَمْعُ أُظْفُورٍ أَظَافِيرُ وَأَظَافِرُ وَرَجُلٌ أَظْفَرُ طَوِيلُ الْأَظْفَارِ. الشَّحْمُ: مَعْرُوفٌ. الْحَوَايَا:
إِنْ قُدِّرَ وَزْنُهَا فَوَاعِلَ فَجَمْعُ حَاوِيَةٍ كَرَاوِيَةٍ وَرَوَايَا أَوْ جَمْعُ حَاوِيَاءَ كَقَاصِعَاءَ وَقَوَاصِعَ، وَإِنْ قُدِّرَ وَزْنُهَا فَعَائِلَ فَجَمْعَ حَوِيَّةٍ كَمَطِيَّةِ وَمَطَايَا وَتَقْرِيرُ صَيْرُورَةِ ذَلِكَ إِلَى حَوَايَا مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ التَّصْرِيفِ وَهِيَ الدَّوَّارَةُ الَّتِي تَكُونُ فِي بُطُونِ الشِّيَاهِ وَيَأْتِي خِلَافُ الْمُفَسِّرِينَ فِيهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
هَلُمَّ: لُغَةُ الْحِجَازِ أَنَّهَا لَا تَلْحَقُهَا الضَّمَائِرُ بَلْ تَكُونُ هَكَذَا لِلْمُفْرَدِ وَالْمُثَنَّى وَالْمَجْمُوعِ وَالْمُذَكِّرِ وَالْمُؤَنَّثِ فَهِيَ عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ اسْمُ فِعْلٍ وَلُغَةُ بَنِي تَمِيمٍ لِحَاقُ الضَّمَائِرِ عَلَى حَدِّ لُحُوقِهَا للفعيل، فَهِيَ عِنْدَ مُعْظَمِ النَّحْوِيِّينَ فِعْلٌ لَا تَتَصَرَّفُ وَالْتَزَمَتِ الْعَرَبُ فَتْحَ الْمِيمِ فِي اللُّغَةِ الْحِجَازِيَّةِ وَإِذَا كَانَ أَمْرًا لِلْوَاحِدِ الْمُذَكَّرِ فِي اللُّغَةِ التَّمِيمِيَّةِ فَلَا يَجُوزُ فِيهَا مَا جَازَ فِي رُدَّ، وَمَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّهَا مُرَكَّبَةٌ مِنْ هَا الَّتِي لِلتَّنْبِيهِ ومن ألمم وَمَذْهَبُ الْفَرَّاءِ مِنْ هَلْ وَأُمَّ وَتَقُولُ لِلْمُؤَنَّثَاتِ هَلْمُمْنَ. وَحَكَى الْفَرَّاءُ هَلُمِّينَ وَتَكُونُ مُتَعَدِّيَةً بِمَعْنَى احْضَرْ وَلَازِمَةً بِمَعْنَى أَقْبِلْ. الْإِمْلَاقُ: الْفَقْرُ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ، يُقَالُ: أَمْلَقَ الرَّجُلُ إِذَا افْتَقَرَ وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ كَأَرْمَلَ أَيْ لَمْ يَبْقَ لَهُ شَيْءٌ إِلَّا الْمَلْقَ وَهِيَ الْحِجَارَةُ السُّودُ وَهِيَ الْمَلَقَةُ وَلَمْ يَبْقَ لَهُ إِلَّا الرَّمْلُ وَالتُّرَابُ. وَقَالَ مُؤَرَّجٌ: هُوَ الْجُوعُ بِلُغَةِ لَخْمٍ. وَقَالَ مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ: هُوَ الْإِنْفَاقُ أَمْلَقَ
665
مَالَهُ أَيْ أَنْفَقَهُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نُعَيْمٍ التِّرْمِذِيُّ: هُوَ الْإِسْرَافُ فِي الْإِنْفَاقِ. الْكَيْلُ: مَصْدَرُ كَالَ وَكَالَ مَعْرُوفٌ، ثُمَّ يُطْلَقُ عَلَى الْآلَةِ الَّتِي يُكَالُ بِهَا كَالْمِكْيَالِ. الْمِيزَانُ: مِفْعَالٌّ مِنَ الْوَزْنِ وَهُوَ آلَةُ الْوَزْنِ كَالْمِنْقَاشِ وَالْمِضْرَابِ وَالْمِصْبَاحِ، وَتَخْتَلِفُ أَشْكَالُهُ بِاخْتِلَافِ الْأَقَالِيمِ كَالْمِكْيَالِ.
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أخبر عنهم أنه حُرِمُوا أَشْيَاءَ مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ، أَخَذَ يَذْكُرُ تَعَالَى مَا امْتَنَّ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنَ الرِّزْقِ الَّذِي تَصَرَّفُوا فِيهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ تَعَالَى افْتِرَاءً مِنْهُمْ عَلَيْهِ وَاخْتِلَافًا فَذَكَرَ نَوْعَيِ الرِّزْقِ النَّبَاتِيِّ وَالْحَيَوَانِيِّ فَبَدَأَ بِالنَّبَاتِيِّ كَمَا بَدَأَ بِهِ فِي الْآيَةِ الْمُشْبِهَةِ لِهَذَا، وَاسْتَطْرَدَ مِنْهُ إِلَى الْحَيَوَانِيِّ إِذْ كَانُوا قَدْ حُرِمُوا أَشْيَاءَ مِنَ النوعين ومَعْرُوشاتٍ اسْمُ مَفْعُولٍ يُقَالُ: عَرَشْتُ الْكَرْمَ إِذَا جَعَلْتَ لَهُ دَعَائِمَ وَسُمُكًا يَنْعَطِفُ عَلَيْهِ الْقُضْبَانُ. وَهَلِ الْمَعْرُوشَاتُ مَا غَرَسَهُ النَّاسُ وَعَرَشُوهُ وَغَيْرُهَا مَا نَبَتَ فِي الصَّحَارِي وَالْبَرَارِي؟ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَوْ كُلُّ شَجَرٍ ذِي سَاقٍ كَالنَّخْلِ وَالْكَرْمِ وَكُلِّ مَا نَجَمَ غَيْرَ ذِي سَاقٍ كَالزَّرْعِ أَوْ مَا يُثْمِرُ وَمَا لَا يُثْمِرُ أَوِ الْكَرْمُ قُسِّمَتْ إِلَى مَا عُرِشَ فَارْتَفَعَ وَإِلَى مَا كَانَ مِنْهَا مُنْبَسِطًا عَلَى الْأَرْضِ؟ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَوْ مَا حَوْلَهُ حَائِطٌ وَمَا لَا حَائِطَ حَوْلَهُ وَمَا انْبَسَطَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَانْتَشَرَ كَالْكَرْمِ وَالْقَرْعِ وَالْبِطِّيخِ، وَمَا قَامَ عَلَى سَاقٍ كَالنَّخْلِ وَالزَّرْعِ وَالْأَشْجَارِ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَوِ الْكَرْمُ الَّذِي عُرِّشَ عِنَبُهُ وَسَائِرُ الشَّجَرِ الَّذِي لَا يُعَرَّشُ أَوْ مَا يَرْتَفِعُ بَعْضُ أَغْصَانِهِ عَلَى بَعْضٍ وَمَا لَا يَحْتَاجُ إِلَى ذَلِكَ، أَوْ مَا عَادَتُهُ أَنْ يُعَرَّشَ كَالْكَرْمِ وَمَا يَجْرِي مُجْرَاهُ وَمَا لَا يُعَرَّشُ كَالنَّخْلِ وَمَا أَشْبَهَهُ؟ تِسْعَةُ أَقْوَالٍ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَعْرُوشَ مَا جُعِلَ لَهُ عَرْشٌ كَرْمًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ، وَغَيْرُ الْمَعْرُوشِ مَا لَمْ يُجْعَلْ لَهُ ذَلِكَ، وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَارِدَةً فِي مَعْنَى ذِكْرِ الْمِنَّةِ وَالْإِحْسَانِ قُدِّمَ مَا حَاجَةُ الْعَرَبِ إِلَيْهِ أَشَدُّ وَمَا هُوَ أَكْثَرُ فِيهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ «١» وَهُوَ غَالِبُ قُوتِهِمْ، فَقَالَ: وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ.
وَلَمَّا كَانَتْ تِلْكَ الْآيَةُ جَاءَتْ عَقِبَ إِنْكَارِ الْكُفَّارِ التَّوْحِيدِ وَجَعْلِهِمْ مَعَهُ آلِهَةً، اسْتَطْرَدَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى الْمَعَادِ الْأُخْرَوِيِّ وَاسْتَدَلِّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَانْدَرَجَ فِيهِ النَّخْلَ وَالزَّرْعَ كَانَ الِابْتِدَاءُ فِي التَّقْسِيمِ بِذِكْرِ الزَّرْعِ لِصِغَرِ حَبِّهِ وَهُوَ أَدَلُّ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالْقُدْرَةِ التَّامَّةِ وَأَبْلَغُ فِي الِاعْتِبَارِ وأسرع في الانتفاع
(١) سورة إبراهيم: ١٤/ ٣٧.
666
مِنْ مَا هُوَ فَوْقَهُ فِي الْجِرْمِ، وَالظَّاهِرُ دُخُولُ وَالنَّخْلَ وَمَا بَعْدَهُ فِي قَوْلِهِ: جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ فَانْدَرَجَ فِي جَنَّاتٍ وَخُصَّ بِالذِّكْرِ وَجُرِّدَ تَعْظِيمًا لِمَنْفَعَتِهِ وَالِامْتِنَانِ بِهِ، وَمَنْ خَصَّ الْجَنَّاتِ بِقَسْمِهَا بِالْكَرْمِ قَالَ: ذِكْرُ النَّخْلِ وَمَا بَعْدَهُ ذِكْرُ أَنْوَاعٍ أَخْبَرَ تَعَالَى بِأَنَّهُ أَنْشَأَهَا وَاخْتِلَافُ أُكُلِهِ وَهُوَ الْمَأْكُولُ، هُوَ بِأَنَّ كُلَّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ النَّخْلِ وَالزَّرْعِ طَعْمًا وَلَوْنًا وَحَجْمًا وَرَائِحَةً يُخَالِفُ بِهِ النَّوْعَ الْآخَرَ وَالْمَعْنَى مُخْتَلِفًا أُكُلُ ثَمَرِهِ وَانْتَصَبَ مُخْتَلِفًا عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَقْتَ الْإِنْشَاءِ مُخْتَلِفًا. وَقِيلَ: هِيَ حَالٌ مُقَارِنَةٌ وَذَلِكَ بِتَقْدِيرِ حَذْفِ مُضَافٍ قَبْلَهُ تَقْدِيرُهُ وَثَمَرُ النَّخْلِ وَحَبُّ الزَّرْعِ وَالضَّمِيرُ فِي أُكُلُهُ عَائِدٌ عَلَى النَّخْلَ وَالزَّرْعَ وَأُفْرِدَ لِدُخُولِهِ فِي حُكْمِهِ بِالْعَطْفِيَّةِ قَالَ مَعْنَاهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ لِأَنَّ الْعَطْفَ بِالْوَاوِ لَا يَجُوزُ إِفْرَادُ ضَمِيرِ الْمُتَعَاطِفَيْنِ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: وَالْهَاءُ فِي أُكُلُهُ عَائِدَةٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذِكْرِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْمُنْشَآتِ انْتَهَى. وَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ ذُو الْحَالِ النَّخْلَ وَالزَّرْعَ فَقَطْ بَلْ جَمِيعُ مَا أَنْشَأَ لِاشْتِرَاكِهَا كُلِّهَا فِي اخْتِلَافِ الْمَأْكُولِ، وَلَوْ كَانَ كَمَا زَعَمَ لَكَانَ التَّرْكِيبُ مُخْتَلِفًا أُكُلُهَا إِلَّا إِنْ أُخِذَ ذَلِكَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ ثَمَرُ جَنَّاتِ وَرُوعِي هَذَا الْمَحْذُوفُ فَقِيلَ: أُكُلُهُ بِالْإِفْرَادِ عَلَى مُرَاعَاتِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ نَحْوَ قَوْلِهِ: أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ «١» أَوْ كَذِي ظُلُمَاتٍ، وَلِذَلِكَ أَعَادَ الضَّمِيرَ فِي يَغْشاهُ عَلَيْهِ، وَالظَّاهِرُ عَوْدُهُ عَلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ وَهُوَ الزَّرْعَ وَيَكُونُ قَدْ حُذِفَتْ حَالُ النَّخْلَ لِدَلَالَةِ هَذِهِ الْحَالِ عَلَيْهَا، التَّقْدِيرُ وَالنَّخْلَ مُخْتَلِفًا أَكُلُهُ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ كَمَا تَأَوَّلَ بَعْضُهُمْ فِي قَوْلِهِمْ: زَيْدٌ وَعَمْرٌو قَائِمٌ أَيْ زَيْدٌ قَائِمٌ وَعَمْرٌو قَائِمٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْحَالُ مُخْتَصَّةً بِالزَّرْعِ لِأَنَّ أَنْوَاعَهُ مُخْتَلِفَةُ الشَّكْلِ جِدًّا كَالْقَمْحِ وَالشَّعِيرِ وَالذُّرَةِ وَالْقَطِينَةِ وَالسَّلْتِ وَالْعَدَسِ وَالْجُلْبَانِ وَالْأُرْزِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، بِخِلَافِ النَّخْلِ فَإِنَّ الثَّمَرَ لَا يَخْتَلِفُ شَكْلُهُ إِلَّا بِالصِّغَرِ وَالْكِبْرِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ: الزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ.
كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ لَمَّا كَانَ مَجِيءُ تِلْكَ الْآيَةِ فِي مَعْرِضِ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى الصَّانِعِ وَقُدْرَتِهِ وَالْحَشْرِ وَإِعَادَةِ الْأَرْوَاحِ إِلَى الْأَجْسَادِ بَعْدَ الْعَدَمِ وَإِبْرَازِ الْجَسَدِ وَتَكْوِينِهِ مِنَ الْعَظْمِ الرَّمِيمِ وَهُوَ عَجَبُ الذَّنْبِ، قَالَ: انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِشَارَةً إِلَى الْإِيجَادِ أَوَّلًا وَإِلَى غَايَتِهِ وَهُنَا لَمَّا كَانَ مَعْرِضُ الْغَايَةِ الِامْتِنَانَ وَإِظْهَارَ الْإِحْسَانِ بِمَا خَلَقَ لَنَا قَالَ:
كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ فَحَصَلَ بِمَجْمُوعِهِمَا الْحَيَاةُ الْأَبَدِيَّةُ السَّرْمَدِيَّةُ وَالْحَيَاةُ الدُّنْيَوِيَّةُ السَّرِيعَةُ
(١) سورة النور: ٢٤/ ٤٠.
667
الِانْقِضَاءِ، وَتَقَدَّمَ النَّظَرُ وَهُوَ الْفِكْرُ عَلَى الْأَكْلِ لِهَذَا السَّبَبِ وَهَذَا أَمْرٌ بِإِبَاحَةِ الْأَكْلِ وَيُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَنَافِعِ الْإِبَاحَةُ وَالْإِطْلَاقُ وَقَيَّدَهُ بِقَوْلِهِ: إِذا أَثْمَرَ وَإِنْ كَانَ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يُثْمِرْ فَلَا أَكْلَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْتَظِرُ بِهِ مَحَلَّ إِدْرَاكِهِ وَاسْتِوَائِهِ، بَلْ مَتَى أَمْكَنَ الْأَكْلُ مِنْهُ فَعَلَ.
وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَالَّذِي يَظْهَرُ عَوْدِ الضَّمِيرِ عَلَى مَا عَادَ عَلَيْهِ مِنْ ثَمَرِهِ وَهُوَ جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يُؤْكَلَ إِذَا أَثْمَرَ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى النَّخْلَ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَجِبُ أَنْ يُؤْتَى حَقُّهُ عِنْدَ جِذَاذِهِ إِلَّا النَّخْلُ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ لِأَنَّهُمَا أَقْرَبُ مَذْكُورٍ. وَأُفْرِدَ الضَّمِيرُ لِلْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي قَوْلِهِ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَآتُوا أَمْرٌ عَلَى الْوُجُوبِ وَتَقَدَّمَ الْأَمْرُ بِالْأَكْلِ عَلَى الْأَمْرِ بِالصَّدَقَةِ، لِأَنَّ تقدم مَنْفَعَةِ الْإِنْسَانِ بِمَا يَمْلِكُهُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ مُتَرَجِّحَةٌ عَلَى مَنْفَعَةِ غَيْرِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا «١»
«وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَابْدَأْ بِنَفْسِكَ ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ، إِنَّمَا الصَّدَقَةُ عَنْ ظَهْرِ غِنَى».
وَالْحَقُّ هُنَا مُجْمَلٌ وَاخْتُلِفَ فِيهِ أَهْوَ الزَّكَاةُ أَمْ غَيْرُهَا؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَالْحَسَنُ وَطَاوُسُ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَابْنُ الْمُسَيِّبِ وَقَتَادَةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ وَابْنُ طَاوُسٍ وَالضَّحَّاكُ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَابْنُهُ وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: هُوَ الزَّكَاةُ وَاعْتُرِضَ هَذَا الْقَوْلُ بِأَنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ وَهَذِهِ الْآيَةُ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ غَيْرُ مُسْتَثْنَاةٍ. وَحَكَى الزَّجَّاجُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ قِيلَ فِيهَا إِنَّهَا نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ وَهُوَ الْبَاقِرُ وَعَطَاءٌ وَحَمَّادٌ وَمُجَاهِدٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَيَزِيدُ بْنُ الْأَصَمِّ وَالْحَكَمُ: هُوَ حَقٌّ غَيْرُ الزَّكَاةِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِذَا حَضَرَ الْمَسَاكِينُ فَاطْرَحْ لَهُمْ عِنْدَ الْجِذَاذِ وَعِنْدَ التَّكْدِيسِ وَعِنْدَ الدَّرْسِ وَعِنْدَ التَّصْفِيَةِ، وَعَنْهُ أَيْضًا كَانُوا يُعَلِّقُونَ الْعَذْقَ عِنْدَ الصِّرَامِ فَيَأْكُلُ مِنْهُ مَنْ مَسَّ. وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ الضِّغْثُ يَطْرَحُهُ لِلْمَسَاكِينِ وَلَفْظُ مَا يُسْقِطُ مِنْكَ مِنَ السُّنْبُلِ لَا يَمْنَعُهُمْ مِنْهُ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الْحَنَفِيَّةِ وَإِبْرَاهِيمَ وَالْحَسَنِ وَعَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ وَالسُّدِّيِّ: أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ نَسَخَهَا الْعُشْرُ وَنِصْفُ الْعُشْرِ. قَالَ سُفْيَانُ: قُلْتُ لِلسُّدِّيِّ نَسَخَهَا عَنْ مَنْ قَالَ عَنِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ مَا مُلَخَّصُهُ: هَلْ أُرِيدَ بِهَا الزَّكَاةُ أَوْ نُسِخَتْ بِالزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ أَوْ بِالْعُشْرِ وَنِصْفِ الْعُشْرِ أَوْ هِيَ مُحْكَمَةٌ يُرَادُ بِهَا غَيْرُ الزَّكَاةِ أَوْ ذَلِكَ عَلَى النَّدْبِ؟
خَمْسَةُ أَقْوَالٍ: وَإِذَا كَانَ مَعْنِيًّا بِهِ الزَّكَاةُ فَالظَّاهِرُ إِخْرَاجُهُ مِنْ كُلِّ مَا سَبَقَ ذِكْرُهُ، فَيَعُمُّ جَمِيعَ ما
(١) سورة القصص: ٢٨/ ٧٧.
668
أَخْرَجَتْهُ الْأَرْضُ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ إِلَّا الْحَطَبَ وَالْقَصَبَ وَالْحَشِيشَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَا شَيْءَ فِيمَا أَخْرَجَتْهُ الْأَرْضُ إِلَّا مَا كَانَ لَهُ ثَمَرَةٌ بَاقِيَةٌ. وَقَالَ مَالِكٌ: الزَّكَاةُ فِي الثِّمَارِ وَالْحُبُوبِ فَمِنَ الثِّمَارِ الْعِنَبُ وَالزَّيْتُونُ وَمِنَ الْحَبِّ الْقَمْحُ وَالشَّعِيرُ وَالسَّلْتُ وَالذُّرَةُ وَالدُّخْنِ وَالْحُمُّصُ والعدس واللوبياء وَالْجُلْبَانُ وَالْأُرْزُ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ إِذَا كَانَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ: يَجِبُ فِي يَابِسٍ مُقْتَاتٍ مُدَّخَرٍ لَا فِي زَيْتُونٍ لِأَنَّهُ إِدَامٌ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَابْنُ الْمُبَارَكِ وَيَحْيَى بْنُ آدَمَ: لَا يَجِبُ إِلَّا فِي الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ. وَعَنْ أَحْمَدَ أَقْوَالٌ: أَظْهَرُهَا: كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ إِذَا كَانَ يُوثَقُ فَأَوْجَبَهَا فِي اللَّوْزِ لِأَنَّهُ مَكِيلٌ وَلَمْ يُوجِبْهَا فِي الْجَوْزِ لِأَنَّهُ مَعْدُودٌ. وَرُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ لَا صَدَقَةَ فِي الْخُضَرِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ يَأْخُذُ مِنْ دساتيح الْكُرَّاثِ الْعُشْرَ بِالْبَصْرَةِ. وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ فِي كُلِّ مَا أَخْرَجَتِ الْأَرْضُ حَتَّى فِي كل عشر دساتح مِنْ بَقْلٍ وَاحِدٌ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ وَالْحَسَنُ: يُزَكَّى اثْنَانِ الْخُضَرُ وَالْفَوَاكِهُ إِذَا أَيْنَعَتْ وَبَلَغَ ثَمَنُهَا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، وَقَالَهُ الْأَوْزَاعِيُّ فِي ثَمَنِ الْفَوَاكِهِ.
وَأَمَّا مِقْدَارُ مَا يَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: فِي قَلِيلِ مَا تُخْرِجُهُ الْأَرْضُ وَكَثِيرِهِ.
وَقَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يُخْرِجُ حَتَّى يَبْلُغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ إِذَا كَانَ مَكِيلًا فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَكِيلٍ، فَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ: اخْتِلَافٌ فِيمَا يُعْتَبَرُ وَذَكَرُوا هُنَا فُرُوعًا قَالُوا: لَا زَكَاةَ عِنْدَ أَصْحَابِ مَالِكٍ فِي الْجَوْزِ وَاللَّوْزِ وَالْحِلَّوْزِ وَمَا أَشْبَهَهَا وَإِنْ كَانَ مُدَّخَرًا، كَمَا لَا زَكَاةَ عِنْدَهُمْ فِي الْإِجَّاصِ وَالتُّفَّاحِ وَالْكُمَّثْرَى وَالْمِشْمِشِ وَنَحْوِهِ مِمَّا يَيْبَسُ وَلَا يُدَّخَرُ، وَعَدَّ مَالِكٌ التِّينَ فِي الْفَوَاكِهِ. وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: فِيهِ الزَّكَاةُ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَتْبَاعِ مَالِكٍ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ وَأَبُو بَكْرٍ الْأَبْهَرِيُّ وَغَيْرُهُمْ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا زَكَاةَ فِي الزَّيْتُونِ. وَقَالَ هُوَ وَالشَّافِعِيُّ وَلَا فِي الرُّمَّانِ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَاللَّيْثُ:
تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الزَّيْتُونِ. وَعَنْ مَالِكٍ لَا يُخْرَصُ الزَّيْتُونُ وَلَكِنْ يُؤْخَذُ الْعُشْرُ مِنْ زَيْتِهِ إِذَا بَلَغَ مَكِيلُهُ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ. وَأَبُو حَنِيفَةَ فِي هَذِهِ كُلِّهَا عَلَى أَصْلِهِ وَمَا خَصَّصُوهُ بِهِ مِنْ عُمُومِ الْآيَةِ يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ، وَالْأَدِلَّةُ مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ الْفُقَهَاءِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ يَوْمَ حَصادِهِ مَعْمُولٌ لِقَوْلِهِ: وَآتُوا وَالْمَعْنَى وَاقْصُدُوا الْإِيتَاءَ وَاهْتَمُّوا بِهِ وَقْتَ الْحَصَادِ فَلَا يُؤَخَّرُ عَنْ وَقْتِ إِمْكَانِ الْإِيتَاءِ فِيهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْمُولًا لِقَوْلِهِ: حَقَّهُ أَيْ وَآتُوا مَا اسْتُحِقَّ يَوْمَ حَصادِهِ فَيَكُونُ الِاسْتِحْقَاقُ بِإِيتَاءِ يَوْمِ الْحَصَادِ وَالْأَدَاءُ بَعْدَ التَّصْفِيَةِ وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُهُمْ: فِي الْكَلَامِ محذوف تقدره وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ إِلَى تَصْفِيَتِهِ قَالَ: فَيَكُونُ الْحَصَادُ سَبَبًا لِلْوُجُوبِ
669
الْمُوَسَّعِ وَالتَّصْفِيَةُ سَبَبٌ لِلْأَدَاءِ، وَالظَّاهِرُ وُجُوبُ إِخْرَاجِ الْحَقِّ مِنْهُ كُلِّهِ مَا أَكَلَ صَاحِبُهُ وَأَهْلُهُ مِنْهُ وَمَا تَرَكُوهُ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ: لَا يَدْخُلُ مَا أَكَلَ هُوَ وَأَهْلُهُ مِنْهُ فِي الْحَقِّ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَمْرٌ بِأَنْ يُؤْتَى حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ فَلَا يَخْرُصُ عَلَيْهِ. قَالَ النَّخَعِيُّ:
الْخَرْصُ الْيَوْمَ بِدْعَةٌ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: الْخَرْصُ غَيْرُ مُسْتَعْمَلٍ وَلَا يَجُوزُ بِحَالٍ وَإِنَّمَا عَلَى رَبِّ الْحَائِطِ أَنْ يُؤَدِّيَ عُشْرَ مَا يَصِلُ فِي يَدِهِ لِلْمَسَاكِينِ إِذَا بَلَغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ. وَقَرَأَ الْعَرَبِيَّانِ وَعَاصِمٌ: حَصَادِهِ بِفَتْحِ الْحَاءِ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِكَسْرِهَا.
وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ لَمَّا أَمَرَ تَعَالَى بِالْأَكْلِ مِنْ ثِمَارِهِ وَبِإِيتَاءِ حَقِّهِ، نَهَى عَنْ مُجَاوَزَةِ الْحَدِّ فَقَالَ: لَا تُسْرِفُوا وَهَذَا النَّهْيُ يَتَضَمَّنُ إِفْرَادَ الْإِسْرَافِ فَيَدْخُلُ فِيهِ الْإِسْرَافُ فِي أَكْلِ الثَّمَرَةِ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْهَا شَيْءٌ لِلزَّكَاةِ، وَالْإِسْرَافُ فِي الصَّدَقَةِ بِهَا حَتَّى لَا يُبْقِيَ لِنَفْسِهِ وَلَا لِعِيَالِهِ شَيْئًا وَقَيَّدَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ وَابْنُ جُرَيْجٍ بِالصَّدَقَةِ بِجَمِيعِ الْمَالِ فَيَبْقَى هُوَ وَعِيَالُهُ كَلًّا عَلَى النَّاسِ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَيْضًا: هُوَ نَهْيٌ فِي الْأَكْلِ فَيَأْكُلُ حَتَّى لَا يَبْقَى مَا تَجِبُ فِيهِ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: هُوَ نَهْيٌ عَنِ النَّفَقَةِ فِي الْمَعْصِيَةِ. وَقِيلَ: فِي صَرْفِ الصَّدَقَةِ إِلَى غَيْرِ الْجِهَةِ الَّتِي افْتُرِضَتْ، كَمَا صَرَفَ الْمُشْرِكُونَ إِلَى جِهَةِ أَصْنَامِهِمْ. وَقِيلَ: نَهْيٌ لِلْعَامِلِينَ عَلَى الصَّدَقَةِ عَنْ أَخْذِ الزَّائِدِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ جَذَّ خَمْسَمِائَةِ نَخْلَةٍ وَقَسَمَهَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ وَلَمْ يَتْرُكْ لِأَهْلِهِ شَيْئًا فَنَزَلَتْ وَلا تُسْرِفُوا أَيْ لَا تُعْطُوا كُلَّهُ، وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ جَذَّ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ فَلَمْ يَزَلْ يَتَصَدَّقُ حَتَّى لَمْ يبق منها شيئا فَنَزَلَتْ لَا تُسْرِفُوا. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: كَانُوا يُعْطُونَ شَيْئًا عِنْدَ الْجِذَاذِ فَتَمَارَوْا فِيهِ فَأَسْرَفُوا فَنَزَلَتْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَوْ كَانَ أَبُو قَبِيسٍ لِرَجُلٍ ذَهَبًا فَأَنْفَقَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ مُسْرِفًا وَلَوْ أَنْفَقَ دِرْهَمًا وَاحِدًا فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ كَانَ مُسْرِفًا. وَقَالَ إِيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ: كُلُّ مَا جَاوَزْتَ فِيهِ أَمْرَ اللَّهِ فَهُوَ سَرَفٌ.
وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً هَذَا مَعْطُوفٌ عَلَى جَنَّاتٍ أَيْ وأنشأ مِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً وَهَلِ الْحَمُولَةُ مَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ مَا حُمِلَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ وَالْفَرْشِ الْغَنَمِ؟ أَوْ مَا قَالَهُ أَيْضًا مَا انْتُفِعَ بِهِ مِنْ ظُهُورِهَا وَالْفَرْشُ الرَّاعِيَةُ؟ أَوْ مَا قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَابْنُ قُتَيْبَةَ: مَا حَمَلَ مِنَ الْإِبِلِ وَالْفَرْشُ صِغَارُهَا؟ أَوْ مَا قَالَهُ الْحَسَنُ أَيْضًا: الْإِبِلُ والفرش الغنم؟ أو مَا قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ: مَا يُرْكَبُ وَالْفَرْشُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَيُجْلَبُ مِنَ الْغَنَمِ وَالْفُصْلَانِ وَالْعَجَاجِيلِ؟ أَوْ مَا قَالَهُ الْمَاتُرِيدِيُّ: مَرَاكِبُ النِّسَاءِ وَالْفَرْشُ مَا يَكُونُ لِلنِّسَاءِ أَوْ مَا قَالَهُ أَيْضًا: كُلُّ شَيْءٍ مِنَ الْحَيَوَانِ وَغَيْرِهِ يُقَالُ لَهُ فَرْشٌ؟ تَقُولُ
670
الْعَرَبُ: أَفْرَشَهُ اللَّهُ كَذَا أَيْ جَعَلَهُ لَهُ أَوْ مَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ: مَا كَانَ مُعَدًّا لِلْحَمْلِ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ، وَالْفَرْشُ: مَا خُلِقَ لَهُمْ مِنْ أَصْوَافِهَا وَجُلُودِهَا الَّتِي يَفْتَرِشُونَهَا وَيَجْلِسُونَ عَلَيْهَا، أَوْ مَا يَحْمِلُ الْأَثْقَالَ. وَالْفَرْشُ: مَا يُفْرَشُ لِلذَّبْحِ أَوْ يُنْسَجُ مِنْ وَبَرِهِ وَصُوفِهِ وَشِعْرِهِ لِلْفَرْشِ. أَوْ مَا قَالَهُ الضَّحَّاكُ: وَاخْتَارَهُ النَّحَّاسُ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْفَرْشُ الْغَنَمُ وَرَجَّحَ هَذَا بِإِبْدَالِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنْهُ عَشَرَةُ أَقْوَالٍ، وَقَدَّمَ الْحَمُولَةَ عَلَى الْفَرْشِ لِأَنَّهَا أَعْظَمُ فِي الِانْتِفَاعِ إِذْ يُنْتَفَعُ بِهَا فِي الْحَمْلِ وَالْأَكْلِ.
كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ أَيْ مِمَّا أَحَلَّهُ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تُحَرِّمُوا كَفِعْلِ الْجَاهِلِيَّةِ وَهَذَا نَصٌّ فِي الْإِجَابَةِ وَإِزَالَةٌ لِمَا سَنَّهُ الْكُفَّارُ مِنَ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ.
وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ أَيْ فِي التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ وَتَعَلَّقَتْ بِهَا الْمُعْتَزِلَةُ فِي أَنَّ الْحَرَامَ لَيْسَ بِرِزْقٍ وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ وَلا تَتَّبِعُوا «١» إِلَى آخِرِهِ فِي الْبَقَرَةِ.
ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْمُشْرِكِينَ فِيمَا أَحَلُّوا وَمَا حَرَّمُوا وَنِسْبَتِهِمْ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ،
فَلَمَّا قَامَ الْإِسْلَامُ وَثَبَتَتِ الْأَحْكَامُ جَادَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ خَطِيبُهُمْ مَالِكَ بْنَ عَوْفِ بْنِ أَبِي الْأَحْوَصِ الْجُشَمِيُّ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ بَلَغَنَا أَنَّكَ تُحِلُّ أَشْيَاءَ فَقَالَ لَهُ: «إِنَّكُمْ قَدْ حَرَّمْتُمْ أَشْيَاءَ عَلَى غَيْرِ أَصْلٍ، وَإِنَّمَا خَلَقَ اللَّهُ هَذِهِ الْأَزْوَاجَ الثَّمَانِيَةَ لِلْأَكْلِ وَالِانْتِفَاعِ بِهَا فَمِنْ أَيْنَ جَاءَ هَذَا التَّحْرِيمُ أَمِنْ قِبَلِ الذَّكَرِ أَمْ مِنْ قِبَلِ الْأُنْثَى» ؟ فَسَكَتَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ وَتَحَيَّرَ
فَلَوْ عَلَّلَ بِالذُّكُورَةِ وَجَبَ أَنْ يُحَرَّمَ الذَّكَرُ أَوْ بِالْأُنُوثَةِ فَكَذَلِكَ أَوْ بِاشْتِمَالِ الرَّحِمِ وَجَبَ أَنْ يحرما لِاشْتِمَالِهَا عَلَيْهِمَا، فَأَمَّا تَخْصِيصُ التَّحْرِيمِ بِالْوَلَدِ الْخَامِسِ أَوِ السَّابِعِ أَوْ بِبَعْضٍ دُونِ بَعْضٍ فَمِنْ أَيْنَ؟
وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ لِمَالِكٍ: «مَا لَكَ لَا تَتَكَلَّمُ». فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ: بَلْ تَكَلَّمْ وَأَسْمَعُ مِنْكَ.
وَالزَّوْجُ مَا كَانَ مَعَ آخَرَ مِنْ جِنْسِهِ وَهُمَا زَوْجَانِ قَالَ: وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى «٢» فَإِنْ كَانَ وَحْدَهُ فَهُوَ فَرْدٌ وَيَعْنِي بِاثْنَيْنِ ذَكْرًا وَأُنْثَى أَيْ كَبْشًا وَنَعْجَةً وَتَيْسًا وَعَنْزًا وَهَذَا الِاسْتِفْهَامُ هُوَ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ وَتَوْبِيخٍ وَتَقْرِيعٍ، حَيْثُ نَسَبُوا مَا حَرَّمُوهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَكَانُوا مَرَّةً يُحَرِّمُونَ الذُّكُورَ وَمَرَّةً الْإِنَاثَ وَمَرَّةً أَوْلَادَهَا ذُكُورًا أَوْ إِنَاثًا أَوْ مُخْتَلِطَةً، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ هَذَا التَّقْسِيمَ هُوَ مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ لَا مِنْ قِبَلِهِ تَعَالَى وَانْتَصَبَ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ عَلَى الْبَدَلِ فِي قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ مِنْ قَوْلِهِ: حَمُولَةً وَفَرْشاً وَهُوَ الظَّاهِرُ. وَأَجَازُوا نَصْبَهُ بِ كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَهُوَ قول
(١) سورة البقرة: ٢/ ١٦٨.
(٢) سورة النجم: ٥٣/ ٤٥.
671
عَلِيِّ بْنِ سُلَيْمَانَ وَقَدَّرَهُ كلوا لحم ثمانية وبأنشأ مُضْمَرَةً قَالَهُ الْكِسَائِيُّ، وَعَلَى الْبَدَلِ مِنْ مَوْضِعِ مَا مِنْ قَوْلِهِ: مِمَّا رَزَقَكُمُ وَبِ كُلُوا مُضْمَرَةً وَعَلَى أَنَّهَا حَالٌ أَيْ مُخْتَلِفَةً مُتَعَدِّدَةً.
وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ وَالْحَسَنُ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ: مِنَ الضَّأْنِ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ. وَقَرَأَ الِابْنَانِ وَأَبُو عَمْرٍو: وَمِنَ الْمَعْزِ بِفَتْحِ الْعَيْنِ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَمِنَ الْمَعْزَى. وَقَرَأَ أَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ: اثْنَانِ بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ الْمُقَدَّمُ وَتَقْدِيمُ الْمَفْعُولِ وَتَأْخِيرُ الْفِعْلِ دَلَّ عَلَى وُقُوعِ تَحْرِيمِهِمُ الذُّكُورَ تَارَةً وَالْإِنَاثَ أُخْرَى، وَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ الرَّحِمُ أُخْرَى، فَأَنْكَرَ تَعَالَى ذَلِكَ عَلَيْهِمْ حَيْثُ نَسَبُوهُ إِلَيْهِ تَعَالَى فَقَالَ: حَرَّمَ أَيْ حَرَّمَ اللَّهُ أَيْ لَمْ يُحَرِّمْ تَعَالَى شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لَا ذُكُورَهَا وَلَا إِنَاثَهَا وَلَا مِمَّا تَحْمِلَهُ أَرْحَامُ إناثهما، وَقَدَّمَ فِي التَّقْسِيمِ الْفَرْشَ عَلَى الْحَمُولَةِ لِقُرْبِ الذِّكْرِ وَهُمَا طَرِيقَانِ لِلْعَرَبِ تَارَةً يُرَاعُونَ الْقُرْبَ وَتَارَةً يُرَاعُونَ التَّقْدِيمَ، وَلِأَنَّهُمَا أَيْسَرُ مَا يَتَمَلَّكُهُ وَيَقْتَنِيهِ الْفَقِيرُ وَالْغَنِيُّ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
أَلَا إِنْ لَا تَكُنْ إِبِلٌ فَمِعْزَى وَقُدِّمَ الضَّأْنُ عَلَى الْمَعْزِ لِغَلَاءِ ثَمَنِهِ وَطِيبِ لَحْمِهِ وَعِظَمِ الِانْتِفَاعِ بِصُوفِهِ.
وَقُدِّمَ الضَّأْنُ عَلَى الْمَعْزِ لِغَلَاءِ ثَمَنِهِ وَطِيبِ لَحْمِهِ وَعِظَمِ الِانْتِفَاعِ بِصُوفِهِ.
نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أَيْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فِي نِسْبَةِ ذَلِكَ التَّحْرِيمِ إِلَى اللَّهِ، فَأَخْبَرُونِي عَنِ اللَّهِ بِعِلْمٍ لَا بِافْتِرَاءٍ وَلَا بِتَخَرُّصٍ وَأَنْتُمْ لَا عِلْمَ لَكُمْ بِذَلِكَ إِذْ لَمْ يَأْتِكُمْ بِذَلِكَ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَا يُمْكِنُ مِنْكُمْ تَنْبِئَةٌ بِذَلِكَ وَفَصَلَ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ الْمُعْتَرِضَةِ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفِينَ عَلَى سَبِيلِ التَّقْرِيعِ لَهُمْ وَالتَّوْبِيخِ حَيْثُ لَمْ يَسْتَنِدُوا فِي تَحْرِيمِهِمْ إِلَّا إِلَى الْكَذِبِ الْبَحْتِ وَالِافْتِرَاءِ.
وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ انْتَقَلَ مِنْ تَوْبِيخِهِمْ فِي نَفْيِ عِلْمِهِمْ بِذَلِكَ إِلَى تَوْبِيخِهِمْ فِي نَفْيِ شَهَادَتِهِمْ ذَلِكَ وَقْتَ تَوْصِيَةِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ بِذَلِكَ، لِأَنَّ مُدْرِكَ الْأَشْيَاءِ الْمَعْقُولُ وَالْمَحْسُوسُ فَإِذَا انْتَفَيَا فَكَيْفَ يُحْكَمُ بِتَحْلِيلٍ أَوْ بِتَحْرِيمٍ؟ وَكَيْفِيَّةُ انْتِفَاءِ الشَّهَادَةِ مِنْهُمْ وَاضِحَةٌ وَكَيْفِيَّةُ انْتِفَاءِ الْعِلْمِ بِالْعَقْلِ أَنَّ ذَلِكَ مُسْتَنِدٌ إِلَى الْوَحْيِ وَكَانُوا لَا يُصَدِّقُونَ بِالرُّسُلِ، وَمَعَ انْتِفَاءِ هَذَيْنِ كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ كَذَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَتَهَكَّمَ بِهِمْ فِي قَوْلِهِ: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ «١» عَلَى مَعْنَى أَعَرَفْتُمُ التَّوْصِيَةَ بِهِ مُشَاهِدِينَ لِأَنَّكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِالرُّسُلِ انْتَهَى. وَقَدَّمَ الْإِبِلَ عَلَى الْبَقَرِ
(١) سورة البقرة: ٢/ ١٣٣.
672
لِأَنَّهَا أَغْلَى ثَمَنًا وَأَغْنَى نَفْعًا فِي الرِّحْلَةِ، وَحَمْلِ الْأَثْقَالِ عَلَيْهَا وَأَصْبَرُ عَلَى الْجُوعِ وَالْعَطَشِ وَأَطْوَعُ وَأَكْثَرُ انْقِيَادًا فِي الْإِنَاخَةِ وَالْإِثَارَةِ.
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَيْ لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَنُسِبَ إِلَيْهِ تَحْرِيمُ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ تَعَالَى، فَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى افْتِرَاءِ الْكَذِبِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَضَلَالِهَا حَتَّى قَصَدَ بِذَلِكَ ضَلَالَ غَيْرِهِ فَسَنَّ هَذِهِ السُّنَّةَ الشَّنْعَاءَ وَغَايَتُهُ بِهَا إِضْلَالُ النَّاسِ فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا.
إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ نَفَى هِدَايَةَ مَنْ وُجِدَ مِنْهُ الظُّلْمُ وَكَانَ مَنْ فِيهِ الْأَظْلَمِيَّةُ أَوْلَى بِأَنْ لَا يَهْدِيَهُ وَهَذَا عُمُومٌ فِي الظَّاهِرِ، وَقَدْ تَبَيَّنَ تَخْصِيصُهُ مِنْ مَا يَقْتَضِيهِ الشَّرْعُ.
قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُمْ حَرَّمُوا مَا حَرَّمُوا افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ، أَمَرَهُ تَعَالَى أَنْ يُخْبِرَهُمْ بِأَنَّ مُدْرِكَ التَّحْرِيمِ إِنَّمَا هُوَ بِالْوَحْيِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَبِشَرْعِهِ لَا بِمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَمَا تَخْتَلِقُهُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَجَاءَ التَّرْتِيبُ هُنَا كَالتَّرْتِيبِ الَّذِي فِي الْبَقَرَةِ وَالْمَائِدَةِ وَجَاءَ هُنَا هَذِهِ الْمُحْرِمَاتُ مُنَكَّرَةً وَالدَّمُ مَوْصُوفٌ بِقَوْلِهِ: مَسْفُوحاً وَالْفِسْقُ مَوْصُوفًا بِقَوْلِهِ: أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَفِي تِينِكِ السُّورَتَيْنِ مُعَرَّفًا لِأَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ فَعُلِّقَ بِالتَّنْكِيرِ، وَتَانِكَ السُّورَتَانِ مَدَنِيَّتَانِ فَجَاءَتْ تِلْكَ الْأَسْمَاءُ مَعَارِفَ بِالْعَهْدِ حُوَالَةً عَلَى مَا سَبَقَ تَنْزِيلُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ فِي مَا أُوحِيَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْحَاءِ جَعَلَهُ فِعْلًا مَاضِيًا مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ ومُحَرَّماً صِفَةً لِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ مَطْعُومًا وَدَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ وَيَطْعَمُهُ صِفَةٌ لِطَاعِمٍ.
وَقَرَأَ الْبَاقِرُ يَطْعَمُهُ بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ
وَالْأَصْلُ يَطْتَعِمُهُ أُبْدِلَتْ تَاؤُهُ طَاءً وَأُدْغِمَتْ فِيهَا فَاءُ الْكَلِمَةِ. وَقَرَأَتْ عَائِشَةُ وَأَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ تَطَعَّمَهُ بِفِعْلٍ مَاضٍ وإلا أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ لِأَنَّهُ كَوْنٌ وَمَا قَبْلَهُ عَيْنٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَصْبُهُ بَدَلًا عَلَى لُغَةِ تَمِيمٍ وَنَصْبًا عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى لُغَةِ الْحِجَازِ. وَقَرَأَ الِابْنَانِ وَحَمْزَةُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ بِالتَّاءِ وَابْنُ كَثِيرٍ وَحَمْزَةُ مَيْتَةً بِالنَّصْبِ وَاسْمُ يَكُونَ مُضْمَرٌ يَعُودُ عَلَى قَوْلِهِ: مُحَرَّماً وَأُنِّثَ لِتَأْنِيثِ الْخَبَرِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ مَيْتَةً بِالرَّفْعِ جَعَلَ كَانَ تَامَّةً. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْيَاءِ وَنَصْبِ مَيْتَةً وَاسْمُ كَانَ ضَمِيرٌ مُذَكَّرٌ يَعُودُ عَلَى مُحَرَّماً أَيْ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُحَرَّمُ مَيْتَةً
673
وَعَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ وَهِيَ قِرَاءَةُ أَبِي جَعْفَرٍ فِيمَا ذَكَرَ مَكِّيٌّ يَكُونُ قَوْلُهُ: أَوْ دَماً مَعْطُوفًا عَلَى مَوْضِعِ أَنْ يَكُونَ وَعَلَى قِرَاءَةِ غَيْرِهِ، يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ: مَيْتَةً وَمَعْنَى مَسْفُوحاً مَصْبُوبًا سَائِلًا كَالدَّمِ فِي الْعُرُوقِ لَا كَالطُّحَالِ وَالْكَبِدِ، وَقَدْ رُخِّصَ فِي دَمِ الْعُرُوقِ بَعْدَ الذَّبْحِ. وَقِيلَ لِأَبِي مَجْلَزٍ: الْقِدْرُ تَعْلُوهَا الْحُمْرَةُ مِنَ الدَّمِ. فَقَالَ: إِنَّمَا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى الْمَسْفُوحَ وَقَالَتْ نَحْوَهُ عَائِشَةُ وَعَلَيْهِ إِجْمَاعُ الْعُلَمَاءِ. وَقِيلَ: الدَّمُ حَرَامٌ لِأَنَّهُ إِذَا زَايَلَ فَقَدْ سُفِحَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي فَإِنَّهُ عَائِدٌ عَلَى لَحْمَ خِنزِيرٍ وَزَعَمَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ أَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ أَقْرَبُ مَذْكُورٍ، وَإِذَا احْتَمَلَ الضَّمِيرُ الْعَوْدَ عَلَى شَيْئَيْنِ كَانَ عُودُهُ عَلَى الْأَقْرَبِ أَرْجَحَ وَعُورِضَ بِأَنَّ الْمُحَدَّثَ عَنْهُ إِنَّمَا هُوَ اللَّحْمُ، وَجَاءَ ذِكْرُ الْخِنْزِيرِ عَلَى سَبِيلِ الْإِضَافَةِ إِلَيْهِ لَا أَنَّهُ هُوَ الْمُحَدَّثُ عَنْهُ الْمَعْطُوفُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: ذُكِرَ اللَّحْمُ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ أَعْظَمُ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ مِنْ الْخِنْزِيرِ وَإِنْ كَانَ سَائِرُهُ مُشَارِكًا لَهُ فِي التَّحْرِيمِ بِالتَّنْصِيصِ عَلَى الْعِلَّةِ مِنْ كَوْنِهِ رِجْسًا أَوْ لِإِطْلَاقِ الْأَكْثَرِ عَلَى كُلِّهِ أَوِ الْأَصْلُ عَلَى التَّابِعِ لِأَنَّ الشَّحْمَ وَغَيْرَهُ تَابِعٌ لِلَّحْمِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَهِيَ مُحْكَمَةٌ؟ وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ وَابْنِ جُبَيْرٍ فَعَلَى هَذَا لَا شَيْءَ مُحَرَّمٌ مِنَ الْحَيَوَانِ إِلَّا فِيهَا وَلَيْسَ هَذَا مَذْهَبَ الْجُمْهُورِ. وَقِيلَ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الْمَائِدَةِ، وَيَنْبَغِي أَنَّ يُفْهَمَ هَذَا النَّسْخُ بِأَنَّهُ نَسْخٌ لِلْحَصْرِ فَقَطْ. وَقِيلَ: جَمِيعُ مَا حُرِّمَ دَاخِلٌ فِي الِاسْتِثْنَاءِ سَوَاءٌ كَانَ بِنَصِّ قُرْآنٍ أَوْ حَدِيثٍ عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالِاشْتِرَاكِ فِي الْعِلَّةِ الَّتِي هِيَ الرِّجْسِيَّةِ وَالَّذِي نَقُولُهُ: إِنَّ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ وَجَاءَتْ عَقِيبَ قَوْلِهِ: ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُحَرِّمُونَ مَا يُحَرِّمُونَ مِنَ الْبَحَائِرِ وَالسَّوَائِبِ وَالْوَصَائِلِ وَالْحَوَّامِي مِنْ هَذِهِ الثَّمَانِيَةِ، فَالْآيَةُ مُحْكَمَةٌ وَأَخْبَرَ فِيهَا أَنَّهُ لَمْ يَجِدْ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ إِذْ ذَاكَ مِنَ الْقُرْآنِ سِوَى مَا ذَكَرَ وَلِذَلِكَ أَتَتْ صِلَةُ مَا جُمْلَةً مُصَدَّرَةً بِالْفِعْلِ الْمَاضِي فَجَمِيعُ مَا حُرِّمَ بِالْمَدِينَةِ لَمْ يَكُنْ إِذْ ذَاكَ سَبَقَ مِنْهُ وَحْيٌ فِيهِ بِمَكَّةَ فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ مَا حُرِّمَ بِالْمَدِينَةِ وَبَيْنَ مَا أُخْبِرَ أَنَّهُ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِمَكَّةَ تَحْرِيمُهُ، وَذِكْرُ الْخِنْزِيرِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ ثَمَانِيَةِ الْأَزْوَاجِ لِأَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ كَانَ يَأْكُلُهُ إِذْ ذَاكَ وَلِأَنَّهُ أَشْبَهُ شَيْءٍ بِثَمَانِيَةِ الْأَزْوَاجِ فِي كَوْنِهِ لَيْسَ سَبُعًا مُفْتَرِسًا يَأْكُلُ اللُّحُومَ وَيَتَغَذَّى بِهَا، وَإِنَّمَا هُوَ مَنْ نَمَطِ الثَّمَانِيَةِ فِي كَوْنِهِ يَعِيشُ بِالنَّبَاتِ وَيَرْعَى كَمَا تَرْعَى الثَّمَانِيَةُ.
وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ هُنَا أَشْيَاءَ مِمَّا اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فيه وَنُلَخِّصُ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، فَنَقُولُ:
أَمَّا الْحُمُرُ الْأَهْلِيَّةُ فَذَهَبَ الشَّعْبِيُّ وَابْنُ جُبَيْرٍ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أكلها، وأن تحريم الرسول لَهَا إِنَّمَا كَانَ لِعِلَّةٍ، وَأَمَّا لُحُومُ الْخَيْلِ فَاخْتَلَفَ فِيهَا السَّلَفُ وَأَبَاحَهَا الشَّافِعِيُّ وَابْنُ حَنْبَلٍ وَأَبُو
674
يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ الْكَرَاهَةُ. فَقِيلَ: كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ. وَقِيلَ: كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَالْحَكَمِ بْنِ عُيَيْنَةَ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَأَبِي بَكْرٍ الْأَصَمِّ وَقَالَ بِهِ مِنَ التَّابِعِينَ مُجَاهِدٌ وَمِنَ الصَّحَابَةِ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَرُوِيَ عَنْهُ خِلَافُهُ وَقَدْ صَنَّفَ فِي حُكْمِ لُحُومِ الْخَيْلِ جُزْءًا قَاضِي الْقُضَاةِ شَمْسُ الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الْغَنِيِّ السُّرُوجِيُّ الْحَنَفِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَرَأْنَاهُ عَلَيْهِ وَأَجْمَعُوا عَلَى تَحْرِيمِ الْبِغَالِ، وَأَمَّا الْحِمَارُ الْوَحْشِيُّ إِذَا تَأَنَّسَ فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَالشَّافِعِيُّ إِلَى جَوَازِ أَكْلِهِ وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ إِذَا دَجَنَ وَصَارَ يُعْمَلُ عَلَيْهِ كَمَا يُعْمَلُ عَلَى الْأَهْلِيِّ أَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَزُفَرُ وَمُحَمَّدٌ: لَا يَحِلُّ أَكْلُ ذِي النَّابِ مِنَ السِّبَاعِ وَذِي الْمِخْلَبِ مِنَ الطَّيْرِ. وَقَالَ مَالِكٌ:
لَا يُؤْكَلُ سِبَاعُ الْوَحْشِ وَلَا الْبَرِّ وَحْشِيًّا كَانَ أَوْ أَهْلِيًّا وَلَا الثَّعْلَبُ وَلَا الضَّبُعُ وَلَا بَأْسَ بِأَكْلِ سِبَاعِ الطَّيْرِ الرَّخَمِ وَالْعِقَابِ وَالنُّسُورِ وَغَيْرِهَا مَا أَكَلَ الْجِيفَةِ وَمَا لَمْ يَأْكُلْ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ:
الطَّيْرُ كُلُّهُ حَلَالٌ إِلَّا أَنَّهُمْ يَكْرَهُونَ الرَّخَمَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: مَا عَدَا عَلَى النَّاسِ مِنْ ذِي النَّابِ كَالْأَسَدِ وَالذِّئْبِ وَالنَّمِرِ وَعَلَى الطُّيُورِ مِنْ ذِي الْمِخْلَبِ كَالنَّسْرِ وَالْبَازِي لَا يُؤْكَلُ، وَيُؤْكَلُ الثَّعْلَبُ وَالضَّبُعُ وَكَرِهَ أَبُو حَنِيفَةَ الْغُرَابَ الْأَبْقَعَ لَا الْغُرَابَ الزَّرْعِيَّ وَالْخِلَافُ فِي الْحِدَأَةِ كَالْخِلَافِ فِي الْعُقَابِ وَالنَّسْرِ وَكَرِهَ أَبُو حَنِيفَةَ الضَّبَّ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: لَا بَأْسَ بِهِ وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ الْهِرُّ الْإِنْسِيُّ وَعَنْ مَالِكٍ جَوَازُ أَكْلِهِ إِنْسِيًّا كَانَ أَوْ وَحْشِيًّا وَعَنْ بَعْضِ السَّلَفِ جَوَازُ أَكْلِ إِنْسِيِّهِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: لَا بَأْسَ بِأَكْلِ الْحَيَّةِ إِذَا ذُكِّيَتْ. وَقَالَ اللَّيْثُ: لَا بَأْسَ بِأَكْلِ الْقُنْفُذِ وَفِرَاخِ النَّحْلِ وَدُودِ الْجُبْنِ وَدُودِ التَّمْرِ وَنَحْوِهِ وَكَذَا قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ فِي الْقُنْفُذِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: لَا تُؤْكَلُ الْفَأْرَةُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُؤْكَلُ الْيَرْبُوعُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ:
يُؤْكَلُ وَعَنْ مَالِكٍ فِي الْفَأْرِ التَّحْرِيمُ وَالْكَرَاهَةُ وَالْإِبَاحَةُ، وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُمَا إِلَى كَرَاهَةِ أَكْلِ الْجَلَّالَةِ. وَقَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ: لَا بَأْسَ بِأَكْلِهَا. وَقَالَ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ وَالتَّحْبِيرِ: وَأَمَّا الْمُخَدِّرَاتُ كَالْبَنْجِ وَالسَّيْكَرَانِ وَاللُّفَّاحِ وَوَرَقِ الْقِنَّبِ الْمُسَمَّى بِالْحَشِيشَةِ فَلَمْ يُصَرِّحْ فِيهَا أَهْلُ الْعِلْمِ بِالتَّحْرِيمِ وَهِيَ عِنْدِي إِلَى التَّحْرِيمِ أَقْرَبُ، لِأَنَّهَا إِنْ كَانَتْ مُسْكِرَةً فَهِيَ مُحَرَّمَةٌ
بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ».
وَبِقَوْلِهِ: «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ»
وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُسْكِرَةٍ فَإِدْخَالُ الضَّرَرِ عَلَى الْجِسْمِ حَرَامٌ. وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ بَخْتِيَشُوعَ فِي كِتَابِهِ: إِنَّ وَرَقَ الْقِنَّبِ يُحْدِثُ فِي الْجِسْمِ سَبْعِينَ دَاءً وَذَكَرَ مِنْهَا أَنَّهُ يُصَفِّرُ الْجِلْدَ وَيُسَوِّدُ الْأَسْنَانَ وَيَجْعَلُ فِيهَا الْحُفَرَ وَيَثْقُبُ الْكَبِدَ وَيُحَمِّيهَا وَيُفْسِدُ الْعَقْلَ وَيُضْعِفُ الْبَصَرَ وَيُحْدِثُ
675
الْغَمَّ وَيُذْهِبُ الشَّجَاعَةَ وَالْبَنْجُ وَالسَّيْكَرَانُ كَالْوَرَقِ فِي الضَّرَرِ وَأَمَّا الْمُرْقِدَاتُ كَالزَّعْفَرَانِ وَالْمَازِرْيُونَ فَالْقَدْرُ الْمُضِرُّ مِنْهَا حَرَامٌ، وَقَالَ جُمْهُورُ الْأَطِبَّاءِ: إِذَا اسْتُعْمِلَ مِنَ الزَّعْفَرَانِ كَثِيرٌ قَتْلٍ فَرَحًا انْتَهَى، وَفِيهِ بَعْضُ تَلْخِيصٍ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ فِي قَوْلِهِ: عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْمُحَرَّمَ مِنَ الْمَيْتَةِ مَا يَتَأَتَّى فِيهِ الْأَكْلُ مِنْهَا وَإِنْ لَمْ يَتَنَاوَلِ الْجِلْدَ الْمَدْبُوغَ وَلَا الْقَرْنَ وَلَا الْعَظْمَ وَلَا الظِّلْفَ وَلَا الرِّيشَ وَنَحْوَهَا، وَفِي قَوْلِهِ: أَوْ دَماً مَسْفُوحاً دِلَالَةٌ عَلَى أَنَّ دَمَ الْبَقِّ وَالْبَرَاغِيثِ وَالذُّبَابِ لَيْسَ بِنَجِسٍ انْتَهَى أَوْ فِسْقاً الظَّاهِرُ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى الْمَنْصُوبِ قَبْلَهُ سُمِّيَ مَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فِسْقًا لِتَوَغُّلِهِ فِي بَابِ الْفِسْقِ وَمِنْهُ وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وأُهِلَّ صِفَةٌ لَهُ مَنْصُوبَةُ الْمَحَلِّ وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَنْتَصِبَ فِسْقاً عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِلِ فِيهِ وَهُوَ أُهِلَّ لِقَوْلِهِ:
طَرِبْتُ وَمَا شَوْقًا إِلَى الْبِيضِ أَطْرَبُ وَفَصَلَ بِهِ بَيْنَ أَوْ وأُهِلَّ بِالْمَفْعُولِ لَهُ وَيَكُونُ أَوْ أُهِلَّ مَعْطُوفًا عَلَى يَكُونَ وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ يَعُودُ عَلَى مَا عَادَ عَلَيْهِ فِي يَكُونَ وَهَذَا إِعْرَابٌ مُتَكَلَّفٌ جِدًّا وَتَرْكِيبٌ عَلَى هَذَا الْإِعْرَابِ خَارِجٌ عَنِ الْفَصَاحَةِ وَغَيْرُ جائز فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً بِالرَّفْعِ فَيَبْقَى الضَّمِيرُ فِي بِهِ لَيْسَ لَهُ مَا يَعُودُ عَلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يتكلف محذوف حَتَّى يَعُودَ الضَّمِيرُ عَلَيْهِ فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ أَوْ شَيْءٌ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي ضَرُورَةِ الشِّعْرِ.
فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذَا وَلَمَّا كَانَ صَدْرُ الْآيَةِ مُفْتَتَحًا بِخِطَابِهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: قُلْ لَا أَجِدُ اخْتَتَمَ الْآيَةَ بِالْخِطَابِ فَقَالَ: فَإِنَّ رَبَّكَ وَدَلَّ عَلَى اعْتِنَائِهِ بِهِ تَعَالَى بِتَشْرِيفِ خِطَابِهِ افْتِتَاحًا وَاخْتِتَامًا.
وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ مناسبة هذه لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ التَّحْرِيمَ إِنَّمَا يَسْتَنِدُ لِلْوَحْيِ الْإِلَهِيِّ أَخْبَرَ أَنَّهُ حَرَّمَ عَلَى بَعْضِ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ أَشْيَاءَ، كَمَا حَرَّمَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْمِلَّةِ أَشْيَاءَ مِمَّا ذَكَرَهَا فِي الْآيَةِ قَبْلُ فَالتَّحْرِيمُ إِنَّمَا هُوَ رَاجِعٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي الْأُمَمِ جَمِيعِهَا وَفِي قَوْلِهِ: حَرَّمْنا تَكْذِيبُ الْيَهُودِ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَحَرِّمْ عَلَيْنَا شَيْئًا وَإِنَّمَا حَرَّمْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا مَا حَرَّمَهُ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسَهُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: هِيَ ذَوَاتُ الظِّلْفِ كَالْإِبِلِ وَالنَّعَامِ وَمَا لَيْسَ بِذِي أَصَابِعَ مُنْفَرِجَةٍ كَالْبَطِّ وَالْإِوَزِّ وَنَحْوِهِمَا، وَاخْتَارَهُ الزَّجَّاجُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هِيَ الْإِبِلُ خَاصَّةً وَضُعِّفَ هَذَا التَّخْصِيصُ.
676
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هِيَ النَّعَامَةُ وَحِمَارُ الْوَحْشِ وَهُوَ ضَعِيفٌ لِتَخْصِيصِهِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: كُلُّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ وَذِي حَافِرٍ مِنَ الدَّوَابِّ وَذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ. وَقَالَ الْقُتَبِيُّ: الظُّفُرُ هُنَا بِمَنْزِلَةِ الْحَافِرِ يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ ذِي حَافِرٍ مِنَ الدَّوَابِّ سُمِّيَ الْحَافِرُ ظُفْرًا اسْتِعَارَةً. وَقَالَ ثَعْلَبٌ:
كُلُّ مَا لَا يَصِيدُ فَهُوَ ذُو ظُفْرٍ وَمَا يَصِيدُ فَهُوَ ذُو مِخْلَبٍ. قَالَ النَّقَّاشُ: هَذَا غَيْرُ مُطَّرِدٍ لِأَنَّ الْأَسَدَ ذُو ظُفْرٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَا لَهُ أُصْبُعٌ مِنْ دَابَّةٍ أَوْ طَائِرٍ، وَكَانَ بَعْضُ ذَوَاتِ الظُّفْرِ حَلَالًا لَهُمْ فَلَمَّا ظَلَمُوا حُرِّمَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَعَمَّ التَّحْرِيمُ كُلَّ ذِي ظُفُرٍ بِدَلِيلِ قَوْلُهُ: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ «١».
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: حَمْلُ الظُّفْرِ عَلَى الْحَافِرِ ضَعِيفٌ لِأَنَّ الْحَافِرَ لَا يَكَادُ يُسَمَّى ظُفْرًا وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَقِيلَ: حَرَّمَ عَلَيْهِمْ كُلَّ حَيَوَانٍ لَهُ حَافِرٌ وَذَلِكَ بَاطِلٌ لِدَلَالَةِ الْآيَةِ عَلَى إِبَاحَةِ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ مَعَ أَنَّهَا لَهَا حَافِرٌ، فَوَجَبَ حَمْلُ الظُّفْرِ عَلَى الْمَخَالِبِ وَالْبَرَاثِنِ لِأَنَّ الْمَخَالِبَ آلَاتٌ لِجَوَارِحِ الصَّيْدِ فِي الِاصْطِيَادِ فَيَدْخُلُ فِيهِ أَنْوَاعُ السِّبَاعِ وَالْكِلَابِ وَالسَّنَانِيرِ وَالطُّيُورِ الَّتِي تَصْطَادُ وَيَكُونُ هَذَا مُخْتَصًّا بِالْيَهُودِ لِدَلَالَةِ وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا عَلَى الْحَصْرِ فَيَخْتَصُّ التَّحْرِيمُ بِالْيَهُودِ وَلَا تَكُونُ مُحَرَّمَةً عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَمَا رُوِيَ مِنْ تَحْرِيمِ ذِي النَّابِ مِنَ السِّبَاعِ وَذِي الْمِخْلَبِ مِنَ الطَّيْرِ ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ خَبَرُ وَاحِدٍ عَلَى خِلَافِ كِتَابِ اللَّهِ فَلَا يُقْبَلُ وَيُقَوِّي مَذْهَبَ مَالِكٍ انْتَهَى، مُلَخَّصًا وَفِيهِ مُنَوَّعٌ. أَحَدُهَا: لَا نُسَلِّمُ تَخْصِيصَ ذِي الظُّفُرِ بِمَا قَالَهُ. الثَّانِي: لَا نُسَلِّمُ الْحَصْرَ الَّذِي ادَّعَاهُ. الثَّالِثُ: لَا نُسَلِّمُ الِاخْتِصَاصَ. الرَّابِعُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ فِي تَحْرِيمِ ذِي النَّابِ وَذِي الْمِخْلَبِ عَلَى خِلَافِ كِتَابِ اللَّهِ وَكُلُّ مَنْ فَسَّرَ الظُّفْرَ بِمَا فَسَّرَهُ مِنْ ذَوِي الْأَقْوَالِ السَّابِقَةِ بِذَاهِبٍ إِلَى تَحْرِيمِ لَحْمِ مَا فَسَّرَهُ وَشَحْمِهُ وَكُلِّ شَيْءٍ مِنْهُ. وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ وَلَيْسَ الْمُحَرَّمُ ذَا الظُّفْرِ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ مَا صَادَهُ ذُو الظُّفْرِ أَيْ ذُو الْمِخْلَبِ الَّذِي لَمْ يُعَلَّمْ وَهَذَا خِلَافُ الظَّاهِرِ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ الحسن وَالْأَعْرَجُ ظُفُرٍ بِسُكُونِ الْفَاءِ وَالْحَسَنُ أَيْضًا وَأَبُو السَّمَّالِ قعنب بسكونها وكسر الطاء.
وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما أَيْ شُحُومَ الْجِنْسَيْنِ وَيَتَعَلَّقْ مِنَ بِحَرَّمْنَا الْمُتَأَخِّرَةِ وَلَا يَجِبُ تَقَدُّمُهَا عَلَى الْعَامِلِ، فَلَوْ كَانَ التَّرْكِيبُ وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ البقر والغنم شحومها لَكَانَ تَرْكِيبًا غَرِيبًا، كَمَا تَقُولُ: مِنْ زَيْدٍ أَخَذْتُ مَالَهُ وَيَجُوزُ أَخَذْتُ مِنْ زَيْدٍ مَالَهُ، وَالْإِضَافَةُ تَدُلُّ عَلَى تَأْكِيدِ التَّخْصِيصِ وَالرَّبْطِ إِذْ لَوْ أَتَى فِي الْكَلَامِ مِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمُ الشُّحُومَ لَكَانَ كَافِيًا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُرَادُ إِلَّا شُحُومُ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، وَيُحْتَمَلُ أن
(١) سورة النساء: ٤/ ١٦٠.
677
يَكُونَ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ مَعْطُوفًا عَلَى كُلَّ ذِي ظُفُرٍ فَيَتَعَلَّقُ مِنَ بِحَرَّمْنَا الْأُولَى ثُمَّ جَاءَتِ الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ مُفَسِّرَةً مَا أَبْهَمَ فِي مِنْ التَّبْعِيضِيَّةِ مِنَ الْمُحَرَّمِ فَقَالَ: حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْبَقَرِ مُتَعَلِّقًا بِحَرَّمْنَا الثَّانِيَةِ بَلْ ذَلِكَ مَعْطُوفٌ عَلَى كُلِّ وحَرَّمْنا عَلَيْهِمْ تَبْيِينٌ لِلْمُحَرَّمِ مِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَكَأَنَّهُ يُوهِمُ أَنَّ عَوْدَ الضَّمِيرِ مَانِعٌ مِنَ التَّعَلُّقِ إِذْ رُتْبَةُ الْمَجْرُورِ بِمِنِ التَّأْخِيرُ، لَكِنْ عَنْ مَاذَا أَمَّا عَنِ الْفِعْلِ فَمُسَلَّمٌ وَأَمَّا عَنِ الْمَفْعُولِ فَغَيْرُ مُسَلِّمٍ وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ رُتْبَتَهُ التَّأْخِيرُ عَنِ الْفِعْلِ وَالْمَفْعُولِ لَيْسَ بِمَمْنُوعٍ، بَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ كَمَا جَازَ ضَرَبَ غُلَامَ الْمَرْأَةِ أَبُوهَا وَغُلَامَ الْمَرْأَةِ ضَرَبَ أَبُوهَا وَإِنْ كَانَتْ رُتْبَةُ الْمَفْعُولِ التَّأْخِيرَ، لَكِنَّهُ وَجَبَ هُنَا تَقْدِيمُهُ لِعَوْدِ الضَّمِيرِ الَّذِي فِي الْفَاعِلِ الَّذِي رُتْبَتُهُ التَّقْدِيمُ عَلَيْهِ فَكَيْفَ بِالْمَفْعُولِ الَّذِي هُوَ وَالْمَجْرُورُ فِي رُتْبَةٍ وَاحِدَةٍ أَعْنِي فِي كَوْنِهِمَا فَضْلَةً فَلَا يُبَالَى فِيهِمَا بِتَقْدِيمِ أَيِّهِمَا شِئْتَ عَلَى الْآخَرِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
وَقَدْ رَكَدَتْ وَسْطَ السَّمَاءِ نُجُومُهَا فَقَدَّمَ الظَّرْفَ وُجُوبًا لِعَوْدِ الضَّمِيرِ الَّذِي اتَّصَلَ بِالْفَاعِلِ عَلَى الْمَجْرُورِ بِالظَّرْفِ وَاخْتُلِفَ فِي تَحْرِيمِ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ ذَبَائِحِ الْيَهُودِ، فَعَنْ مَالِكٍ مَنْعُ أَكْلِ الشَّحْمِ مِنْ ذَبَائِحِهِمْ وَرُوِيَ عَنْهُ الْكَرَاهَةُ، وَأَبَاحَ ذَلِكَ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ ذَبَائِحِهِمْ وَمِنْ ذَبْحِهِمْ مَا هُوَ عَلَيْهِمْ حَرَامٌ إِذَا أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ مُسْلِمٌ. وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: مَا كَانَ مَعْلُومًا تَحْرِيمُهُ عَلَيْهِمْ مِنْ كِتَابِنَا فَلَا يَحِلُّ لَنَا مِنْ ذَبَائِحِهِمْ، وَمَا لَمْ نَعْلَمْهُ إِلَّا مِنْ أَقْوَالِهِمْ فَهُوَ غَيْرُ مُحَرَّمٍ عَلَيْنَا مِنْ ذَبَائِحِهِمْ انْتَهَى. فَظَاهِرُ قَوْلِهِ: وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ «١» أَنَّ الشَّحْمَ الَّذِي هُوَ مِنْ ذَبَائِحِهِمْ لَا يَحِلُّ لَنَا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ طَعَامِهِمْ فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ عُمُومِ وَطَعامُ الَّذِينَ وَحَمْلُ قَوْلِهِ: وَطَعامُ الَّذِينَ عَلَى الذَّبَائِحِ فِيهِ بُعْدٌ وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ.
إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَيْ إِلَّا الشَّحْمَ الَّذِي حَمَلَتْهُ ظُهُورُهُمَا الْبَقَرُ وَالْغَنَمُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ مِمَّا عَلَقَ بِالظَّهْرِ مِنَ الشَّحْمِ وَبِالْجَنْبِ مِنْ دَاخِلِ بُطُونِهِمَا. وَقِيلَ: سَمِينُ الظَّهْرِ وَهِيَ الشَّرَائِحُ الَّتِي عَلَى الظَّهْرِ مِنَ الشَّحْمِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَمْ يُحَرَّمْ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ السُّدِّيُّ وَأَبُو صَالِحٍ: الْإِلْيَاتُ مِمَّا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا.
أَوِ الْحَوايا هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى ظُهُورُهُما قَالَهُ الْكِسَائِيُّ، وَهُوَ الظَّاهِرُ أَيْ وَالشَّحْمُ الَّذِي حَمَلَتْهُ الْحَوايا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ ومجاهد
(١) سورة المائدة: ٥/ ٥.
678
وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ زَيْدٍ: هِيَ الْمَبَاعِرُ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى: هُوَ كُلُّ مَا تَحْوِيهِ الْبَطْنُ فَاجْتَمَعَ وَاسْتَدَارَ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ أَيْضًا: هِيَ بَنَاتُ اللَّبَنِ. وَقِيلَ: الْأَمْعَاءُ وَالْمَصَارِينُ الَّتِي عَلَيْهَا الشَّحْمُ.
أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُما بِعَظْمٍ هُوَ شَحْمُ الْإِلْيَةِ لِأَنَّهُ عَلَى الْعُصْعُصِ قَالَهُ السُّدِّيُّ وَابْنُ جُرَيْجٍ، أَوْ شَحْمُ الْجَنْبِ أَوْ كُلُّ شَحْمٍ فِي الْقَوَائِمِ وَالْجَنْبِ وَالرَّأْسِ وَالْعَيْنَيْنِ وَالْأُذُنَيْنِ قَالَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ أَيْضًا، أَوْ مُخُّ الْعَظْمِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ مُسْتَثْنَاةٌ مِنَ الشَّحْمِ فَهِيَ حَلَالٌ لَهُمْ. قِيلَ: بِالْمُحَرَّمِ أَذَبَّ شَحْمُ الثَّرْبِ وَالْكُلَى.
وَقِيلَ: أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ شُحُومَهُما فَتَكُونُ دَاخِلَةً فِي الْمُحَرَّمِ أَيْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا وَتَكُونُ أَوْ كَهِيَ فِي قَوْلِهِ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً «١» يُرَادُ بِهَا نَفْيُ مَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ الِانْفِرَادِ، كَمَا تَقُولُ: هَؤُلَاءِ أَهْلٌ أَنْ يُعْصَوْا فَاعْصِ هَذَا أَوْ هَذَا فَالْمَعْنَى حَرَّمَ عَلَيْهِمْ هَذَا وَهَذَا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَأَوْ بِمَنْزِلَتِهَا فِي قَوْلِهِمْ: جَالِسِ الْحَسَنَ أو ابن سيرين انتهى.
وَقَالَ النَّحْوِيُّونَ: أَوْ فِي هَذَا الْمِثَالِ لِلْإِبَاحَةِ فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُجَالِسَهُمَا مَعًا وَأَنْ يُجَالِسَ أَحَدَهُمَا، وَالْأَحْسَنُ فِي الْآيَةِ إِذَا قُلْنَا إِنَّ ذَلِكَ مَعْطُوفٌ عَلَى شُحُومَهُمَا أَنْ تَكُونَ أَوِ فِيهِ لِلتَّفْصِيلِ فَصَلَ بِهَا ما حرم عليهم من الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ أَوِ الْحَوايا مَعْطُوفٌ عَلَى الشُّحُومِ. قَالَ: وَعَلَى هَذَا يَدْخُلُ الْحَوَايَا فِي التَّحْرِيمِ وَهَذَا قَوْلٌ لَا يُعَضِّدُهُ اللَّفْظُ وَلَا الْمَعْنَى بَلْ يَدْفَعَانِهِ انْتَهَى. وَلَمْ يُبَيِّنْ دَفْعَ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى لِهَذَا الْقَوْلِ.
ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ذلِكَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ وَقَالَ الْحَوْفِيُّ:
ذلِكَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى إضمار مبتدأ تَقْدِيرُهُ الْأَمْرُ ذَلِكَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَصْبُ بِ جَزَيْناهُمْ لِأَنَّهُ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ وَالتَّقْدِيرُ جَزَيْنَاهُمْ ذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: ذلِكَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِ جَزَيْناهُمْ وَلَمْ يُبَيِّنْ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ انْتَصَبَ هَلْ عَلَى الْمَصْدَرِ أَوْ عَلَى الْمَفْعُولِ بِإِذْ؟ وَقِيلَ: مُبْتَدَأٌ وَالتَّقْدِيرُ جَزَيْنَاهُمُوهُ انْتَهَى، وَهَذَا ضَعِيفٌ لِضَعْفِ زِيدٌ ضَرَبْتُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ذَلِكَ الْجَزَاءُ جَزَيْناهُمْ وَهُوَ تَحْرِيمُ الطَّيِّبَاتِ انْتَهَى. وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ مُنْتَصِبٌ انْتِصَابَ الْمَصْدَرِ، وَزَعَمَ ابْنُ مَالِكٍ أَنَّ اسْمَ الْإِشَارَةِ لَا يَنْتَصِبُ مُشَارًا بِهِ إِلَى الْمَصْدَرِ إِلَّا وَأُتْبِعَ بِالْمَصْدَرِ فَتَقُولُ: قُمْتُ هَذَا القيام وقعدت ذلك القعود، وَلَا يَجُوزُ قُمْتُ هَذَا ولا قعدت ذلك،
(١) سورة النساء: ٤/ ١٦٠.
679
فَعَلَى هَذَا لَا يَصِحُّ انْتِصَابُ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَصْدَرِ، وَالْبَغْيُ هُنَا الظُّلْمُ. وَقَالَ الْحَسَنُ:
الْكُفْرُ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: هُوَ قَتْلُهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَأَخْذُهُمُ الرِّبَا وَأَكْلُهُمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، وَنَظِيرُهُ فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا «١» وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ هَذَا التَّحْرِيمَ كَانَ عُقُوبَةً لَهُمْ عَلَى ذُنُوبِهِمْ وَاسْتِعْصَائِهِمْ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ. قَالَ الْقَاضِي: نَفْسُ التَّحْرِيمِ لَا يَكُونُ عُقُوبَةً عَلَى جُرْمٍ صَدَرَ مِنْهُمْ، لِأَنَّ التَّكْلِيفَ تَعْرِيضٌ لِلثَّوَابِ وَالتَّعْرِيضُ لِلثَّوَابِ إِحْسَانٌ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْمَنْعَ مِنْ الِانْتِفَاعِ يُمْكِنُ لِمَنْ يَرَى اسْتِحْقَاقَ الثَّوَابِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لِلْجُرْمِ الْمُتَقَدِّمِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ مُسْتَبْعَدٍ.
وَإِنَّا لَصادِقُونَ فِي الْإِخْبَارِ عَمَّا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِخْبَارٌ يَتَضَمَّنُ التَّعْرِيضَ بِكَذِبِهِمْ فِي قَوْلِهِمْ: مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنَّمَا اقْتَدَيْنَا بِإِسْرَائِيلَ فِيمَا حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ، وَيَتَضَمَّنُ إِدْحَاضَ قَوْلِهِمْ وَرَدَّهُ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ التِّبْرِيزِيُّ: وَإِنَّا لَصادِقُونَ فِي إِتْمَامِ جَزَائِهِمْ فِي الْآخِرَةِ الَّذِي سَبَقَ الْوَعِيدَ فَيَكُونُ التَّحْرِيمُ مِنَ الْجَزَاءِ الْمُعَجَّلِ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ فِيمَا أَوْعَدْنَا بِهِ الْعُصَاةَ لَا نُخْلِفُهُ كَمَا لَا نُخْلِفُ مَا وَعَدْنَاهُ أَهْلَ الطَّاعَةِ، فَلَمَّا عَصَوْا وَبَغَوْا أَلْحَقْنَا بِهِمُ الْوَعِيدَ وَأَحْلَلْنَا بِهِمُ الْعِقَابَ انْتَهَى، وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ.
فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ الظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ عَلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ وَهُوَ الْيَهُودُ وَقَالَهُ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ أَيْ فَإِنْ كَذَّبُوكَ فِيمَا أَخْبَرْتَ بِهِ أَنَّهُ تَعَالَى حَرَّمَهُ عَلَيْهِمْ وَقَالُوا: لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ وَإِنَّمَا حَرَّمَهُ إِسْرَائِيلُ قَبْلُ مُتَعَجِّبًا مِنْ قَوْلِهِمْ: وَمُعَظِّمًا لِافْتِرَائِهِمْ مَعَ عِلْمِهِمْ بِمَا قُلْتَ: فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ حَيْثُ لَمْ يُعَاجِلْكُمْ بِالْعُقُوبَةِ مَعَ شِدَّةِ هَذَا الْجُرْمِ كَمَا تَقُولُ عِنْدَ رُؤْيَةِ مَعْصِيَةٍ عَظِيمَةٍ. مَا أَحْلَمَ اللَّهَ وَأَنْتَ تُرِيدُ لِإِمْهَالِهِ الْعَاصِيَ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَانَ الْكَلَامُ مَعَهُمْ في قوله:
أَنْبِئُونِي وَقَوْلِهِ: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ أَيْ فَإِنْ كَذَّبُوكَ فِي النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ وَتَبْلِيغِ أَحْكَامِ اللَّهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ كَذَّبُوكَ فِي ذَلِكَ وَزَعَمُوا أَنَّ اللَّهَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ وَأَنَّهُ لَا يُؤَاخِذُنَا بِالْبَغْيِ وَيُخْلِفُ الْوَعِيدَ جُودًا وَكَرَمًا فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ لِأَهْلِ طَاعَتِهِ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ مَعَ سِعَةِ رَحْمَتِهِ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ فَلَا تَغْتَرَّ بِرَجَاءِ رَحْمَتِهِ عَنْ خَوْفِ نِقْمَتِهِ انْتَهَى، وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ والْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ عَامٌّ يَنْدَرِجُ فِيهِ مُكَذِّبُو الرُّسُلِ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْمُجْرِمِينَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ وُقُوعِ الظَّاهِرُ مَوْقِعَ الْمُضْمَرِ أَيْ
(١) سورة النساء: ٤/ ١٦٠.
680
وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنْكُمْ وَجَاءَ مَعْمُولُ قُلْ الْأَوَّلُ جُمْلَةً اسْمِيَّةً لِأَنَّهَا أَبْلَغُ فِي الْإِخْبَارِ مِنَ الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ، فَنَاسَبَتِ الْأَبْلَغِيَّةَ فِي اللَّهِ تَعَالَى بِالرَّحْمَةِ الْوَاسِعَةِ وَجَاءَتِ الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ فِعْلِيَّةً وَلَمْ تَأْتِ اسْمِيَّةً فَيَكُونُ التَّرْكِيبُ وَذُو بَأْسٍ لِئَلَّا يَتَعَادَلَ الْإِخْبَارُ عَنِ الْوَصْفَيْنِ وَبَابُ الرَّحْمَةِ وَاسِعٌ فَلَا تَعَادُلَ. وَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: فَإِنْ كَذَّبُوكَ فِيمَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ مِنَ التَّصْدِيقِ وَالتَّوْحِيدِ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ عَنِ التَّكْذِيبِ انْتَهَى. وَقِيلَ: ذُو رَحْمَةٍ لَا يُهْلِكُ أَحَدًا وَقْتَ الْمَعْصِيَةِ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ إِذَا نَزَلَ.
سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ هَذَا إِخْبَارٌ بِمُسْتَقْبَلٍ، وَقَدْ وَقَعَ وَفِيهِ إِخْبَارٌ بِمَغِيبٍ مُعْجِزَةٍ لِلرَّسُولِ فَكَانَ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ تَعَالَى وَهَذَا الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَرَدَ حِينَ بَطَلَ احْتِجَاجُهُمْ وَثَبَتَ الرَّدُّ عَلَيْهِمْ فَعَدَلُوا إِلَى أَمْرٍ حَقٍّ وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ لَا يَقَعَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، وَأَوْرَدُوا ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْحَوَالَةِ عَلَى الْمَشِيئَةِ وَالْمَقَادِيرِ مُغَالَطَةً وَحِيدَةً عَنِ الْحَقِّ وَإِلْحَادًا لَا اعْتِقَادًا صَحِيحًا وَقَالُوا: ذَلِكَ اعْتِقَادًا صَحِيحًا حِينَ قَارَفُوا تِلْكَ الْأَشْيَاءَ اسْتِمْسَاكًا بِأَنَّ مَا شَاءَ اللَّهُ هُوَ الْكَائِنُ كَمَا يَقُولُ الْوَاقِعُ فِي مَعْصِيَةٍ إِذَا بُيِّنَ لَهُ وَجْهُهَا: هَذَا قَدَرُ اللَّهِ لَا مَهْرَبَ وَلَا مَفَرَّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ أَوْ قَالُوا ذَلِكَ وَهُوَ حَقٌّ عَلَى سَبِيلِ الِاحْتِجَاجِ عَلَى تِلْكَ الْأَشْيَاءِ، أَيْ لَوْ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ مَا نَحْنُ عَلَيْهِ لَمْ يَقَعْ وَلِحَالَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَعْنُونَ بِكُفْرِهِمْ وَتَمَرُّدِهِمْ أَنَّ شِرْكَهُمْ وَشِرْكَ آبَائِهِمْ وَتَحْرِيمَهُمْ مَا أَحَلَّ اللَّهُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَإِرَادَتِهِ وَلَوْلَا مَشِيئَتُهُ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ كَمَذْهَبِ الْمُجْبَرَةِ بِعَيْنِهِ انْتَهَى، وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ. وَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْمَشِيئَةُ بِمَعْنَى الرِّضَا أَوْ بِمَعْنَى الْأَمْرِ وَالدُّعَاءِ لِأَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنَا بِذَلِكَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ قَالُوهُ اسْتِهْزَاءً وَسُخْرِيَةً انْتَهَى. وَلَا تَعَلُّقَ لِلْمُعْتَزِلَةِ بِذَلِكَ مَعَ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَتَعَلَّقَتِ الْمُعْتَزِلَةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالُوا: إِنَّ اللَّهَ قَدْ ذَمَّ لَهُمْ هَذِهِ الْمَقَالَةَ وَإِنَّمَا ذَمَّهَا لِأَنَّ كُفْرَهُمْ لَيْسَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ بَلْ هُوَ خَلَقَ لَهُمْ قَالَ: وَلَيْسَ الْأَمْرُ عَلَى مَا قَالُوا، وَإِنَّمَا ذَمَّ اللَّهُ ظَنَّ الْمُشْرِكِينَ أَنَّ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا يَقَعُ عَلَيْهِ عِقَابٌ وَأَمَّا أَنَّهُ ذَمَّ قَوْلَهُمْ: لَوْلَا الْمَشِيئَةُ لَمْ نَكْفُرْ فَلَا انتهى.
والَّذِينَ أَشْرَكُوا مُشْرِكُو قُرَيْشٍ أَوْ مُشْرِكُو الْعَرَبِ قَوْلَانِ، وَلا آباؤُنا مَعْطُوفٌ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ وَأَغْنَى الْفَصْلُ بِلَا بَيْنَ حَرْفِ الْعَطْفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَى الْفَصْلِ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَيْنِ بِضَمِيرٍ مُنْفَصِلٍ يَلِي الضَّمِيرَ الْمُتَّصِلَ أَوْ بِغَيْرِهِ. وَعَلَى هَذَا مَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ لَا يُجِيزُونَ ذَلِكَ بِغَيْرِ فَصْلٍ إِلَّا فِي الشِّعْرِ وَمَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ جَوَازُ ذَلِكَ وَهُوَ عِنْدَهُمْ فَصِيحٌ فِي الْكَلَامِ. وَجَاءَ فِي
681
سُورَةِ النَّحْلِ وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ «١» فَقَالَ: مِنْ دُونِهِ مَرَّتَيْنِ وَقَالَ: نَحْنُ فَأَكَّدَ الضَّمِيرَ لِأَنَّ لَفْظَ الْعِبَادَةِ يَصِحُّ أَنْ يُنْسَبَ إِلَى إِفْرَادِ اللَّهِ بِهَا وَهَذَا لَيْسَ بِمُسْتَنْكَرٍ، بَلِ الْمُسْتَنْكَرُ عِبَادَةُ شَيْءٍ غَيْرِ اللَّهِ أَوْ شَيْءٍ مَعَ اللَّهِ فَنَاسَبَ هُنَا ذِكْرُ مِنْ دُونِهِ مَعَ الْعِبَادَةِ، وَأَمَّا لَفْظُ مَا أَشْرَكْنا فَالْإِشْرَاكُ يَدُلُّ عَلَى إِثْبَاتِ شَرِيكٍ فَلَا يَتَرَكَّبُ مَعَ هَذَا الْفِعْلِ لَفْظُ مِنْ دُونِهِ لَوْ كَانَ التَّرْكِيبُ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ مَا أَشْرَكْنا مَنْ دُونِهِ لَمْ يَصِحَّ مَعْنَاهُ، وَأَمَّا مِنْ دُونِهِ الثَّانِيَةُ فَالْإِشْرَاكُ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ أَشْيَاءَ وَتَحْلِيلِ أَشْيَاءَ، فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى لَفْظِ مِنْ دُونِهِ وَأَمَّا لَفْظُ الْعِبَادَةِ فَلَا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ شَيْءٍ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ لَفْظُ أَشْرَكَ فَقُيِّدَ بِقَوْلِهِ: مِنْ دُونِهِ وَلَمَّا حُذِفَ مِنْ دُونِهِ هُنَا نَاسِبَ أَنْ يُحْذَفَ نَحْنُ لِيَطَّرِدَ التَّرْكِيبُ فِي التَّخْفِيفِ.
كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا أَيْ مِثْلَ ذَلِكَ التَّكْذِيبِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتِ الْأُمَمُ السَّالِفَةُ، فَمُتَعَلَّقُ التَّكْذِيبِ هُوَ غَيْرُ قَوْلِهِمْ: لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنا الْآيَةَ أَيْ بِنَحْوِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ مِنْ ظَنِّهِمْ أَنَّ تَرْكَ اللَّهِ لَهُمْ دَلِيلٌ عَلَى رِضَاهُ بِحَالِهِمْ وَحَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا غَايَةٌ لِامْتِدَادِ التَّكْذِيبِ إِلَى وَقْتِ الْعَذَابِ، لِأَنَّهُ إِذَا حَلَّ الْعَذَابُ لَمْ يَبْقَ تَكْذِيبٌ وَجَعَلَتِ الْمُعْتَزِلَةُ التَّكْذِيبَ راجعا إلى قوله لَوْ شاءَ اللَّهُ الْجُمْلَةُ الَّتِي هِيَ مَحْكِيَّةٌ بِالْقَوْلِ وَقَالُوا: كَذَّبَهُمُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِمْ وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ بَعْضِ الشَّوَاذِّ كَذَبَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْ جاؤوا بِالتَّكْذِيبِ الْمُطْلَقِ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ رَكَّبَ فِي الْعُقُولِ وَأَنْزَلَ فِي الْكُتُبِ مَا دَلَّ عَلَى غِنَاهُ وَبَرَاءَتِهِ مِنْ مَشِيئَةِ الْقَبَائِحِ وَإِرَادَتِهَا وَالرُّسُلُ أَخْبَرَتْ بِذَلِكَ، فَمَنْ عَلَّقَ وُجُوهَ الْقَبَائِحِ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَإِرَادَتِهِ فَقَدْ كَذَبَ التَّكْذِيبَ كُلَّهُ وَهُوَ تَكْذِيبُ اللَّهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَنَبَذَ أَدِلَّةَ الْعَقْلِ وَالسَّمْعِ وَرَاءَ ظَهْرِهِ انْتَهَى، وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ.
قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ اسْتِفْهَامٌ عَلَى مَعْنَى التَّهَكُّمِ بِهِمْ وَهُوَ إِنْكَارٌ، أَيْ لَيْسَ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ تَحْتَجُّونَ بِهِ فَتُظْهِرُونَهُ لَنَا مَا تَتَّبِعُونَ فِي دَعَاوَاكُمْ إِلَّا الظَّنَّ الْكَاذِبَ الْفَاسِدَ، وَمَا أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ أَوْ تُقَدِّرُونَ وَتَحْزِرُونَ. وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ وَابْنُ وَثَّابٍ: إِنْ يَتَّبِعُونَ بِالْيَاءِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذِهِ قراءة شاذة يضعفها قوله وَإِنْ أَنْتُمْ لِأَنَّهُ يَكُونَ مِنْ بَابِ الِالْتِفَاتِ.
قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ بَيْنَ قُلْ وَالْفَاءِ مَحْذُوفٌ قَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمْتُمْ أَنَّ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ فَلِلَّهِ الحجة البالغة عليكم
(١) سورة النحل: ١٦/ ٣٥.
682
وَعَلَى رَدِّ مَذْهَبِكُمْ، فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ مِنْكُمْ وَمِنْ مُخَالِفِيكُمْ فَإِنَّ تَعْلِيقَكُمْ دِينَكُمْ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ يَقْتَضِي أَنْ تُعَلِّقُوا دِينَ مَنْ يُخَالِفُكُمْ أَيْضًا بِمَشِيئَتِهِ فَتُوَالُوهُمْ ولا تعادهم وَتُوَقِّرُوهُمْ وَلَا تُخَالِفُوهُمْ، لِأَنَّ الْمَشِيئَةَ تَجْمَعُ بَيْنَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَبَيْنَ مَا هُمْ عَلَيْهِ انْتَهَى. وَهَذَا تَفْسِيرٌ لِلْآيَةِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ قَبْلُ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ مِنْ مَذْهَبِ الِاعْتِزَالِ وَالَّذِي قَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ شرط محذوف وفَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فِي جَوَابِهِ بعد وَالْأَوْلَى تَقْدِيرُهُ أَنْتُمْ لَا حُجَّةَ لَكُمْ أَيْ عَلَى إِشْرَاكِكُمْ وَلَا عَلَى تَحْرِيمِكُمْ مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِكُمْ غَيْرَ مُسْتَنِدِينَ إِلَى وَحْيٍ وَلَا عَلَى افْتِرَائِكُمْ عَلَى اللَّهِ أَنَّهُ حَرَّمَ مَا حَرَّمْتُمْ، فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فِي الِاحْتِجَاجِ الْغَالِبَةِ كُلَّ حُجَّةٍ حَيْثُ خَلَقَ عُقُولًا يُفَكَّرُ بِهَا وَأَسْمَاعًا يُسْمَعُ بِهَا وَأَبْصَارًا يُبَصَرُ بِهَا وَكُلُّ هَذِهِ مَدَارِكٌ لِلتَّوْحِيدِ وَلِاتِّبَاعِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ عَنِ اللَّهِ. قَالَ أَبُو نَصْرِ الْقُشَيْرِيُّ: الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ تبيين للتوحيد وإيذاء الرُّسُلِ بِالْمُعْجِزَاتِ فَأَلْزَمَ أَمْرَهُ كُلَّ مُكَلَّفٍ، فَأَمَّا عِلْمُهُ وَإِرَادَتُهُ فَغَيْبٌ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الْعَبْدُ وَيَكْفِي فِي التَّكْلِيفِ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَفْعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ مَكَّنَهُ، وَخِلَافُ الْمَعْلُومِ مَقْدُورٌ فَلَا يَلْتَحِقُ بِمَا يَكُونُ مُحَالًا فِي نَفْسِهِ انْتَهَى، وَفِي آخِرِ كَلَامِهِ نَظَرٌ. قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ هِدَايَةَ إِلْجَاءٍ وَاضْطِرَارٍ انْتَهَى، وَهَذِهِ نَزْعَةٌ اعْتِزَالِيَّةٌ. وَقَالَ أَبُو نَصْرِ بْنُ الْقُشَيْرِيِّ: هَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ الْكُفْرَ وَاقِعٌ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: هَذَا يَدُلُّ أَنَّهُ لَمْ يَشَأْ إِيمَانَ الْكَافِرِ.
قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ بَيَّنَ تَعَالَى كَذِبَهُمْ عَلَى اللَّهِ وَافْتِرَاءَهُمْ فِي تَحْرِيمِ مَا حَرَّمُوا مَنْسُوبًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ:
نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ وَقَالَ: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ وَلَمَّا انْتَفَى هَذَانِ الْوَجْهَانِ انْتَقَلَ إِلَى وَجْهٍ لَيْسَ بِهَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ وَهُوَ أَنْ يَسْتَدْعِيَ مِنْهُمْ مَنْ يَشْهَدُ لَهُمْ بِتَحْرِيمِ اللَّهِ مَا حرموا، وهَلُمَّ هُنَا عَلَى لُغَةِ الْحِجَازِ وَهِيَ مُتَعَدِّيَةٌ وَلِذَلِكَ انْتَصَبَ الْمَفْعُولُ بِهِ بَعْدَهَا أَيْ أَحْضِرُوا شُهَدَاءَكُمْ وَقَرِّبُوهُمْ وَإِضَافَةُ الشُّهَدَاءِ إِلَيْهِمْ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ غَيْرُهُمْ وَهَذَا أَمْرٌ عَلَى سَبِيلِ التَّعْجِيزِ، أَيْ لَا يُوجَدُ مَنْ يَشْهَدُ بِذَلِكَ شَهَادَةَ حَقٍّ لِأَنَّهَا دَعْوَى كَاذِبَةٌ وَلِهَذَا قَالَ: فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ أَيْ فَإِنْ فُرِضَ أَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ فَلَا تَشْهَدُ مَعَهُمْ أَيْ لَا تُوَافِقْهُمْ لِأَنَّهُمْ كَذَبَةٌ فِي شَهَادَتِهِمْ كَمَا أَنَّ الشُّهُودَ لَهُمْ كَذَبَةٌ فِي دَعْوَاهُمْ، وَأَضَافَ الشُّهَدَاءَ إِلَيْهِمْ أَيِ الَّذِينَ أَعَدَدْتُمُوهُمْ شُهُودًا لَكُمْ بِمَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلِذَلِكَ وَصَفَ بِ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَيْ هُمْ مُؤْمِنُونَ بِالشَّهَادَةِ لَهُمْ وَبِنُصْرَةِ دَعَاوَاهُمُ الْكَاذِبَةِ، وَلَوْ قِيلَ: هَلُمَّ شُهَدَاءَ بِالتَّنْكِيرِ لَفَاتَ الْمَعْنَى الَّذِي اقْتَضَتْهُ الإضافة والوصف بالموصول إِذَا كَانَ الْمَعْنَى هَلُمَّ أُنَاسًا يَشْهَدُونَ بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ فَكَانَ الظَّاهِرُ
683
طَلَبَ شُهَدَاءَ بِالْحَقِّ وَذَلِكَ يُنَافِي مَعْنَى الْآيَةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: أَحْضِرُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ، قَالَ وَلَا تَجِدُونَ وَلَوْ حَضَرُوا لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمْ لِأَنَّهَا كَاذِبَةٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَإِنِ افْتَرَى أَحَدٌ وَزَوَّرَ شَهَادَةً أَوْ خَبَّرَ عَنْ نُبُوَّةٍ فَتَجَنَّبْ أَنْتَ ذَلِكَ وَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ، وَفِي قَوْلِهِ: فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ قُوَّةُ وَصْفِ شَهَادَتِهِمْ بِنِهَايَةِ الزُّورِ. وَقَالَ أَبُو نَصْرِ الْقُشَيْرِيُّ: فَإِنْ شَهِدَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ فَلَا يُصَدَّقُ إِذِ الشَّهَادَةُ مِنْ كِتَابٍ أَوْ عَلَى لِسَانِ نَبِيٍّ وَلَيْسَ مَعَهُمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَمَرَهُمْ بِاسْتِحْضَارِهِمْ وَهُمْ شُهَدَاءُ بِالْبَاطِلِ لِيُلْزِمَهُمُ الْحُجَّةَ وَيُلْقِمَهُمُ الْحَجَرَ وَيُظْهِرَ لِلْمَشْهُودِ لَهُمْ بِانْقِطَاعِ الشُّهَدَاءِ أَنَّهُمْ لَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ لِتَسَاوِي أَقْدَامِ الشَّاهِدِينَ، وَالْمَشْهُودِ لَهُمْ فِي أَنَّهُمْ يَرْجِعُونَ إِلَى مَا يَصِحُّ التَّمَسُّكُ بِهِ وَقَوْلُهُ: فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ فَلَا تُسَلِّمْ لَهُمْ مَا شَهِدُوا بِهِ وَلَا تُصَدِّقْهُمْ، لِأَنَّهُ إِذَا سَلَّمَ لَهُمْ فَكَأَنَّهُ شَهِدَ مَعَهُمْ مِثْلَ شَهَادَتِهِمْ فَكَانَ وَاحِدًا مِنْهُمُ انْتَهَى، وَهُوَ تَكْثِيرٌ.
وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ الظَّاهِرُ فِي الْعَطْفِ أَنَّهُ يَدُلُّ على مغايرة الذوات والَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَعُمُّ جَمِيعَ مَنْ كَذَّبَ الرَّسُولَ وَإِنْ كَانَ مُقِرًّا بِالْآخِرَةِ كَأَهْلِ الْكِتَابِ. وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قِسْمٌ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ بِالْآيَاتِ وَهُمْ عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ وَالْجَاعِلُونَ لِرَبِّهِمْ عَدِيلًا وَهُوَ الْمِثْلُ عَدَلُوا بِهِ الْأَصْنَامَ فِي الْعِبَادَةِ وَالْإِلَهِيَّةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْعَطْفُ مِنْ تَغَايُرِ الصِّفَاتِ وَالْمَوْصُوفُ وَاحِدٌ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ النَّاسِ، وَيَظْهَرُ أَنَّهُ اخْتِيَارُ الزَّمَخْشَرِيِّ لأنه قال: لا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا مِنْ وَضْعِ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى أَنَّ مَنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَعَدَلَ بِهِ غَيْرَهُ فَهُوَ مُتَّبِعٌ لِلْهَوَى لَا غَيْرَ، لِأَنَّهُ لَوْ تَبِعَ الدَّلِيلَ لَمْ يَكُنْ إِلَّا مُصَدِّقًا بِالْآيَاتِ مُوَحِّدًا لِلَّهِ. وَقَالَ النَّقَّاشُ: نَزَلَتْ فِي الدَّهْرِيَّةِ مِنَ الزَّنَادِقَةِ.
قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا حَرَّمُوهُ افْتِرَاءً عَلَيْهِ ثُمَّ ذَكَرَ مَا أَبَاحَهُ تَعَالَى لَهُمْ مِنَ الْحُبُوبِ وَالْفَوَاكِهِ وَالْحَيَوَانِ، ذَكَرَ مَا حَرَّمَهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ مِنْ أَشْيَاءَ نَهَاهُمْ عَنْهَا وَمَا أَوْجَبَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَشْيَاءَ أَمَرَهُمْ بِهَا وَتَقَدَّمَ شَرْحُ تَعالَوْا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلى كَلِمَةٍ «١» وَالْخِطَابُ فِي قُلْ لِلرَّسُولِ وَفِي تَعالَوْا قِيلَ لِلْمُشْرِكِينَ. وَقِيلَ: لِمَنْ بِحَضْرَةِ الرَّسُولِ مِنْ مُؤْمِنٍ وَكِتَابِيٍّ وَمُشْرِكٍ وَسِيَاقُ الْآيَاتِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لِلْمُشْرِكِينَ، وَإِنْ كَانَ حُكْمُ غَيْرِهِمْ فِي ذَلِكَ حُكْمَهُمْ أَمَرَهُ تَعَالَى أَنْ يَدْعُوَ جَمِيعَ الْخَلْقِ إِلَى سَمَاعِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ بِشَرْعِ
(١) سورة آل عمران: ٣/ ٦٤.
684
الْإِسْلَامِ الْمَبْعُوثِ بِهِ إِلَى الْأَسْوَدِ وَالْأَحْمَرِ، وأَتْلُ أَسْرُدُ وَأَقُصُّ مِنَ التِّلَاوَةِ وَهِيَ إِتْبَاعُ بَعْضِ الْحُرُوفِ بَعْضًا. وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: هَذِهِ الْآيَاتُ مُفْتَتَحُ التَّوْرَاةِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً إِلَى آخَرِ الْآيَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذِهِ الْآيَاتُ هِيَ الْمُحْكَمَاتُ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ أَجْمَعَتْ عَلَيْهَا شَرَائِعُ الْخَلْقِ وَلَمْ تُنْسَخْ قَطُّ فِي مِلَّةٍ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهَا الْعَشْرُ كَلِمَاتٍ الْمُنَزَّلَةُ عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَا بِمَعْنَى الَّذِي وَهِيَ مُفَعْوِلَةٌ بِأَتْلُ أَيْ أَقْرَأُ الَّذِي حَرَّمَهُ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ. وَقِيلَ:
مَصْدَرِيَّةٌ أَيْ تَحْرِيمَ رَبِّكُمْ. وَقِيلَ: اسْتِفْهَامِيَّةٌ مَنْصُوبَةٌ بِحَرَّمَ أَيْ أَيَّ شَيْءٍ حَرَّمَ رَبُّكُمْ، وَيَكُونُ قَدْ عَلَّقَ أَتْلُ وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ أَتْلُ لَيْسَ مِنْ أَفْعَالِ الْقُلُوبِ فَلَا تعلق وعَلَيْكُمْ متعلق بجرم لَا بِأَتْلُ فَهُوَ مِنْ إِعْمَالِ الثَّانِي. وَقَالَ ابْنُ الشَّجَرِيِّ: إِنْ عَلَّقْتَهُ بِأَتْلُ فَهُوَ جَيِّدٌ لِأَنَّهُ أَسْبَقُ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْكُوفِيِّينَ فَالتَّقْدِيرُ أَتْلُ عَلَيْكُمُ الَّذِي حَرَّمَ ربكم.
أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً الظَّاهِرُ أَنَّ أن تفسيرية ولا نَاهِيَةٌ لِأَنَّ أَتْلُ فِعْلٌ بِمَعْنَى الْقَوْلِ وَمَا بَعْدَ أَنْ جُمْلَةٌ فَاجْتَمَعَ فِي أَنْ شَرْطَا التَّفْسِيرِيَّةِ وَهِيَ أن يتقدمها معنى لقول وَأَنْ يَكُونَ بَعْدَهَا جُمْلَةٌ وَذَلِكَ بِخِلَافِ أَيْ فَإِنَّهَا حَرْفُ تَفْسِيرٍ يَكُونُ قَبْلَهَا مُفْرَدٌ وَجُمْلَةٌ يَكُونُ فِيهَا مَعْنَى الْقَوْلِ وَغَيْرُهَا، وَبَعْدَهَا مُفْرَدٌ وَجُمْلَةٌ وَجَعْلُهَا تَفْسِيرِيَّةً هُوَ اخْتِيَارُ الزَّمَخْشَرِيِّ (فَإِنْ قُلْتَ) : إِذَا جَعَلْتَ أَنْ مُفَسِّرَةً لِفِعْلِ التِّلَاوَةِ وَهُوَ معلق بما حَرَّمَ رَبُّكُمْ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا بَعْدَهُ مَنْهِيًّا عَنْهُ مُحَرَّمًا كُلُّهُ كَالشِّرْكِ وَمَا بَعْدَهُ مِمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ حَرْفُ النَّهْيِ فَمَا يُصْنَعُ بِالْأَوَامِرِ؟ (قُلْتُ) : لَمَّا وَرَدَتْ هَذِهِ الْأَوَامِرُ مَعَ النَّوَاهِي وَتَقَدَّمَهُنَّ جَمِيعًا فِعْلُ التَّحْرِيمِ وَاشْتَرَكْنَ فِي الدُّخُولِ تَحْتَ حُكْمِهِ، عُلِمَ أَنَّ التَّحْرِيمَ رَاجِعٌ إِلَى أَضْدَادِهَا وَهِيَ الْإِشَارَةُ إِلَى الْوَالِدَيْنِ وَبِخَسِ الْكَيْلِ وَالْمِيزَانِ وَتَرْكِ الْعَدْلِ فِي الْقَوْلِ وَنَكْثِ عَهْدِ اللَّهِ انْتَهَى. وَكَوْنُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ اشْتَرَكَتْ فِي الدُّخُولِ تَحْتَ حُكْمِ التَّحْرِيمِ وَكَوْنُ التَّحْرِيمِ رَاجِعًا إِلَى أَضْدَادِ الْأَوَامِرِ بِعِيدٌ جِدًّا وَأَلْغَازٌ فِي الْمَعَانِي وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إِلَى ذَلِكَ، وَأَمَّا عَطْفُ هَذِهِ الْأَوَامِرِ فَيَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْمَنَاهِي قَبْلَهَا فَيَلْزَمُ انْسِحَابُ التَّحْرِيمِ عَلَيْهَا حَيْثُ كَانَتْ فِي حَيِّزِ أَنِ التَّفْسِيرِيَّةِ بَلْ هِيَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى قَوْلِهِ: تَعالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ أَمَرَهُمْ أَوَّلًا بِأَمْرٍ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ ذِكْرُ مُنَاهُ ثُمَّ أَمَرَهُمْ ثَانِيًا بِأَوَامِرَ وَهَذَا مَعْنًى وَاضِحٌ، وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْأَوَامِرُ مَعْطُوفَةً عَلَى الْمَنَاهِي وَدَاخِلَةً تَحْتَ أَنِ التَّفْسِيرِيَّةِ وَيَصِحُّ ذَلِكَ عَلَى تَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ تَكُونُ أَنْ مُفَسِّرَةً لَهُ وَلِلْمَنْطُوقِ قَبْلَهُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ حَذْفُهُ وَالتَّقْدِيرُ وَمَا أَمَرَكُمْ بِهِ فَحَذَفَ وَمَا أَمَرَكُمْ بِهِ لِدَلَالَةِ مَا حَرَّمَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ مَعْنَى مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ مَا نَهَاكُمْ
685
رَبُّكُمْ عَنْهُ فَالْمَعْنَى قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ مَا نَهَاكُمْ رَبُّكُمْ عَنْهُ، وَإِذَا كَانَ التَّقْدِيرُ هَكَذَا صَحَّ أَنْ تَكُونَ أَنْ تَفْسِيرِيَّةً لِفِعْلِ النَّهْيِ الدَّالِّ عَلَيْهِ التَّحْرِيمُ وَفِعْلِ الْأَمْرِ الْمَحْذُوفِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ: أَمَرْتُكَ أَنْ لَا تُكْرِمَ جَاهِلًا وَأَكْرِمْ عَالِمًا إِذْ يَجُوزُ عَطْفُ الْأَمْرِ عَلَى النَّهْيِ وَالنَّهْيِ عَلَى الْأَمْرِ كَمَا قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
يَقُولُونَ لَا تَهْلِكْ أَسًى وَتَجَمَّلِ وَهَذَا لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا بِخِلَافِ الْجُمَلِ الْمُتَبَايِنَةِ بِالْخَبَرِ وَالِاسْتِفْهَامِ وَالْإِنْشَاءِ فَإِنَّ فِي جَوَازِ الْعَطْفِ فِيهَا خِلَافًا وَقَدْ جَوَّزُوا فِي أَنْ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً لَا تَفْسِيرِيَّةَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ وَفِي مَوْضِعِ نَصْبٍ. فَأَمَّا الرَّفْعُ فَعَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ دَلَّ عليه المعنى أو التقدير المتلو أَلَّا تُشْرِكُوا. وَأَمَّا النَّصْبُ فَمِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِقَوْلِهِ: عَلَيْكُمْ وَيَكُونُ مِنْ بَابِ الْإِغْرَاءِ وَتَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ أَيِ الْتَزِمُوا انْتِفَاءَ الْإِشْرَاكِ وَهَذَا بَعِيدٌ لِتَفْكِيكِ الْكَلَامِ عَنْ ظَاهِرِهِ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا مِنْ أَجْلِهِ أَيْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا وَهَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّ مَا جَاءَ بَعْدَهُ أَمْرٌ مَعْطُوفٌ بِالْوَاوِ وَمُنَاهُ هِيَ مَعْطُوفَةٌ بِالْوَاوِ فَلَا يُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ تَبْيِينًا لِمَا حَرَّمَ، أَمَّا الْأَوَامِرُ فَمِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَأَمَّا الْمَنَاهِي فَمِنْ حَيْثُ الْعَطْفِ. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ أُوصِيكُمْ أَنْ لَا تُشْرِكُوا لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً مَحْمُولٌ عَلَى أوصيكم بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَهَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّ الْإِضْمَارَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ. وَهَذِهِ الْأَوْجُهُ الثَّلَاثَةُ لَا فِيهَا بَاقِيَةٌ عَلَى أَصْلِ وَضْعِهَا مِنَ النَّفْيِ وَهُوَ مُرَادٌ. الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ مَا حَرَّمَ أَوْ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَحْذُوفِ مِنْ مَا حَرَّمَ إِذْ تَقْدِيرُهُ مَا حَرَّمَهُ وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ لَا فِيهِمَا زَائِدَةٌ كَهِيَ فِي قَوْلِهِ:
مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ «١» وَهَذَا ضَعِيفٌ لِانْحِصَارِ عُمُومِ الْمُحَرَّمِ فِي الْإِشْرَاكِ إِذْ مَا بَعْدَهُ مِنَ الْأَمْرِ لَيْسَ دَاخِلًا مِنَ الْمُحَرَّمِ وَلَا بَعْدَ الْأَمْرِ مِمَّا فِيهِ لَا يُمْكِنُ ادِّعَاءُ زِيَادَةٍ لَا فِيهِ لِظُهُورِ أَنْ لَا فِيهَا لِلنَّهْيِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) هَلَّا قُلْتَ هِيَ الَّتِي تَنْصِبُ الْفِعْلَ وَجَعَلْتَ أَلَّا تُشْرِكُوا بَدَلًا مِنْ مَا حَرَّمَ (قُلْتُ) : وَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَا تُشْرِكُوا وَلَا تَقْرَبُوا وَلَا تَقْتُلُوا وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ نَوَاهِيَ لِانْعِطَافِ الْأَوَامِرِ عَلَيْهَا وَهِيَ قَوْلُهُ: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً لِأَنَّ التَّقْدِيرَ وأحسنوا بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَأَوْفُوا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفَوْا انتهى. ولا يتعين
(١) سورة الأعراف: ٧/ ١٢.
686
أَنْ تَكُونَ جَمِيعُ الْأَوَامِرِ مَعْطُوفَةً عَلَى جَمِيعِ مَا دَخَلَ عَلَيْهِ لَا لِأَنَّا بَيَّنَّا جَوَازَ عَطْفِ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً عَلَى تَعالَوْا وَمَا بَعْدَهُ مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ، وَلَا يَكُونُ قَوْلُهُ: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً معطوفا على أَلَّا تُشْرِكُوا وأَلَّا تُشْرِكُوا شَامِلٌ لِمَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ الْأَصْنَامَ كَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ الْجِنَّ وَمَنْ أَشْرَكَ بَنِينَ وَبَنَاتٍ. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: قِيلَ ادِّعَاءَ شَرِيكٍ لِلَّهِ. وَقِيلَ: طَاعَةَ غَيْرِ اللَّهِ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ مِنْ هُنَا سَبَبِيَّةٌ أَيْ مِنْ فَقْرٍ لِقَوْلِهِ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ «١» وَقَتْلُ الْوَلَدِ حَرَامٌ إِلَّا بِحَقِّهِ وَإِنَّمَا ذُكِرَ هَذَا السَّبَبُ لِأَنَّهُ كَانَ الْعِلَّةَ فِي قَتْلِ الْوَلَدِ عِنْدَهُمْ، وَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ هُوَ الرَّازِقُ لَهُمْ وَلِأَوْلَادِهِمْ وَإِذَا كَانَ هُوَ الرَّازِقَ فَكَمَا لَا تَقْتُلْ نَفْسَكَ كَذَلِكَ لَا تَقْتُلْ وَلَدَكَ. وَلَمَّا أَمَرَ تَعَالَى بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْوَالِدَيْنِ نَهَى عَنِ الْإِسَاءَةِ إِلَى الْأَوْلَادِ وَنَبِّهَ عَلَى أَعْظَمِ الْإِسَاءَةِ لِلْأَوْلَادِ هُوَ إِعْدَامُ حَيَاتِهِمْ بِالْقَتْلِ خَوْفَ الْفَقْرِ كَمَا قَالَ
فِي الْحَدِيثِ وَقَدْ سُئِلَ عَنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ فَذَكَرَ الشِّرْكَ بِاللَّهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: «أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ» ثُمَّ قَالَ: «وَأَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ مَخَافَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ» وَقَالَ: «وَأَنَّ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ»
وَجَاءَ هَذَا الْحَدِيثُ مُنْتَزَعًا مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ وَجَاءَ التَّرْكِيبُ هُنَا نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ، وَفِي الْإِسْرَاءِ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ «٢» فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنَ التَّفَنُّنِ فِي الْكَلَامِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ جَاءَ مِنْ إِمْلاقٍ فَظَاهِرُهُ حُصُولُ الْإِمْلَاقِ لِلْوَالِدِ لَا تَوَقُّعُهُ، وَخَشْيَتُهُ وَإِنْ كَانَ وَاجِدًا لِلْمَالِ فَبَدَأَ أَوَّلًا بِقَوْلِهِ: نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ خِطَابًا لِلْآبَاءِ وَتَبْشِيرًا لَهُمْ بِزَوَالِ الْإِمْلَاقِ وَإِحَالَةِ الرِّزْقِ عَلَى الْخَلَّاقِ الرَّزَّاقِ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَادَ. وَأَمَّا فِي الْإِسْرَاءِ فَظَاهِرُ التَّرْكِيبِ أَنَّهُمْ مُوسِرُونَ وَأَنَّ قَتْلَهُمْ إِيَّاهُمْ إِنَّمَا هُوَ لِتَوَقُّعِ حُصُولِ الْإِمْلَاقِ وَالْخَشْيَةِ مِنْهُ فَبُدِئَ فِيهِ بِقَوْلِهِ: نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ إِخْبَارًا بِتَكَفُّلِهِ تَعَالَى بِرِزْقِهِمْ فَلَسْتُمْ أَنْتُمْ رَازِقِيهِمْ وَعَطَفَ عَلَيْهِمُ الْآبَاءَ وَصَارَتِ الآيتان مفيدتان مَعْنَيَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْآبَاءَ نُهُوا عَنْ قَتْلِ الْأَوْلَادِ مَعَ وُجُودِ إِمْلَاقِهِمْ. وَالْآخَرُ: أَنَّهُمْ نُهُوا عَنْ قَتْلِهِمْ وَإِنْ كَانُوا مُوسِرِينَ لِتَوَقُّعِ الْإِمْلَاقِ وَخَشْيَتِهِ وَحَمْلُ الْآيَتَيْنِ عَلَى مَا يُفِيدُ مَعْنَيَيْنِ أَوْلَى مِنَ التَّأْكِيدِ.
وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ الْمَنْقُولُ فيما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ كَالْمَنْقُولِ فِي وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ وَتَقَدَّمَ فَأَغْنَى عن إعادته.
(١) سورة الإسراء: ١٧/ ٣١. [.....]
(٢) سورة الإسراء: ١٧/ ٣١.
687
وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ هَذَا مُنْدَرِجٌ تَحْتَ عُمُومِ الْفَوَاحِشِ إِذِ الْأَجْوَدُ أَنْ لَا يَخُصَّ الْفَوَاحِشَ بِنَوْعٍ مَا، وَإِنَّمَا جَرَّدَ مِنْهَا قَتْلَ النَّفْسِ تَعْظِيمًا لِهَذِهِ الْفَاحِشَةِ وَاسْتِهْوَالًا لِوُقُوعِهَا وَلِأَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى الِاسْتِثْنَاءُ بِقَوْلِهِ: إِلَّا بِالْحَقِّ إِلَّا مِنَ الْقَتْلِ لَا مِنْ عُمُومِ الْفَوَاحِشِ، وَقَوْلُهُ: الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ حَوَالَةٌ عَلَى سَبْقِ الْعَهْدِ فِي تَحْرِيمِهَا فَلِذَلِكَ وُصِفَتْ بِالَّتِي، وَالنَّفْسُ الْمُحَرَّمَةُ هِيَ الْمُؤْمِنَةُ وَالذِّمِّيَّةُ وَالْمُعَاهَدَةُ وبِالْحَقِّ بِالسَّبَبِ الْمُوجِبِ لِقَتْلِهَا كَالرِّدَّةِ وَالْقِصَاصِ وَالزِّنَا بَعْدَ الْإِحْصَانِ وَالْمُحَارَبَةِ.
ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أَشَارَ إِلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ وَفِي لَفْظِ وَصَّاكُمْ
مِنَ اللُّطْفِ وَالرَّأْفَةِ وَجَعْلِهِمْ أَوْصِيَاءَ لَهُ تَعَالَى مَا لَا يَخْفَى مِنَ الْإِحْسَانِ، وَلَمَّا كَانَ الْعَقْلُ مَنَاطَ التَّكْلِيفِ قَالَ تَعَالَى: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أَيْ فوائد هذا التَّكَالِيفِ وَمَنَافِعَهَا فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَالْوَصَاةِ الْأَمْرِ الْمُؤَكَّدِ الْمُقَرَّرِ. وَقَالَ الْأَعْشَى:
أَجِدَّكَ لَمْ تَسْمَعْ وَصَاةَ مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الْإِلَهِ حِينَ أَوْصَى وَأَشْهَدَا
وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ
هَذَا نَهْيٌ عَنِ الْقُرْبِ الَّذِي يَعُمُّ جَمِيعَ وُجُوهِ التَّصَرُّفِ، وَفِيهِ سَدُ الذَّرِيعَةِ.
إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
أَيْ بِالْخَصْلَةِ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فِي حَقِّ الْيَتِيمِ وَلَمْ يَأْتِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ حَسَنَةٌ، بَلْ جَاءَ بِأَفْعَلَ التَّفْضِيلِ مُرَاعَاةً لِمَالِ الْيَتِيمِ وَأَنَّهُ لَا يَكْفِي فِيهِ الْحَالَةُ الْحَسَنَةُ بَلِ الْخَصْلَةُ الْحُسْنَى وَأَمْوَالُ النَّاسِ مَمْنُوعٌ مِنْ قُرْبَانِهَا، وَنَصَّ عَلَى الْيَتِيمِ
لِأَنَّ الطَّمَعَ فِيهِ أَكْثَرُ لِضَعْفِهِ وَقِلَّةِ مُرَاعَاتِهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ زيد بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
هُوَ أَنْ يَعْمَلَ لَهُ عَمَلًا مُصْلِحًا فَيَأْكُلُ مِنْهُ بِالْمَعْرُوفِ وَقْتَ الْحَاجَةِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: حِفْظُهُ وَزِيَادَتُهُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ:
حِفْظُ رِبْحِهِ بِالتِّجَارَةِ وَلَا يَأْخُذُ مِنْهُ شَيْئًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
التِّجَارَةُ فَمَنْ كَانَ مِنَ النَّاظِرِينَ لَهُ مَالٌ يَعِيشُ بِهِ فَالْأَحْسَنُ إذ أَثْمَرَ مَالُ الْيَتِيمِ أَنْ لَا يَأْخُذَ مِنْهُ نَفَقَةً وَلَا أُجْرَةً وَلَا غَيْرَهَا، وَمَنْ كَانَ مِنَ النَّاظِرِينَ لَا مَالَ لَهُ وَلَا يَتَّفِقُ لَهُ نَظَرٌ إِلَّا بِأَنْ يُنْفِقَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْفَقَ مِنْ رِبْحِ نَظَرِهِ. وَقِيلَ: الِانْتِفَاعُ بِدَوَابِّهِ وَاسْتِخْدَامُ جَوَارِيهِ لِئَلَّا يَخْرُجَ الْأَوْلِيَاءُ بِالْمُخَالَطَةِ ذَكَرَهُ الْمَرْوَزِيُّ. وَقِيلَ: لَا يَأْكُلُ مِنْهُ إِلَّا قَرْضًا وَهَذَا بِعِيدٌ وَأَيُّ أَحْسَنِيَّةٍ فِي هَذَا.
حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ
هَذِهِ غَايَةٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لَا مِنْ حَيْثُ هَذَا التَّرْكِيبِ اللَّفْظِيِّ، وَمَعْنَاهُ احْفَظُوا عَلَى الْيَتِيمِ مَالَهُ إِلَى بُلُوغِ أَشُدِّهِ فَادْفَعُوهُ إِلَيْهِ. وَبُلُوغُ الْأَشُدِّ هُنَا لِلْيَتِيمِ هُوَ بُلُوغُ الْحُلُمِ قَالَهُ الشَّعْبِيُّ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَيَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ وَرَبِيعَةُ وَمَالِكٌ. وَحَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ عَنِ
688
الشَّعْبِيِّ وَرَبِيعَةَ وَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ إِنَّهُ الْبُلُوغُ مَعَ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ فِسْقُهُ وَقَدْ نُقِلَ فِي تَفْسِيرِ الْأَشُدِّ أَقْوَالٌ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَجِيءَ هُنَا وَكَأَنَّهَا نُقِلَتْ فِي قَوْلِهِ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ «١» فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا بَيْنَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ إِلَى ثَلَاثِينَ وَعَنْهُ ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ، وَعَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ وَمُقَاتِلٍ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ وَعَنِ السُّدِّيِّ ثَلَاثُونَ وَعَنِ الثَّوْرِيِّ أَرْبَعٌ وَثَلَاثُونَ، وَعَنْ عِكْرِمَةَ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ وَعَنْ عَائِشَةَ أَرْبَعُونَ وَعَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ عَقْلُهُ وَاجْتِمَاعُ قُوَّتِهِ، وَعَنْ بَعْضِهِمْ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ إِلَى ثَلَاثِينَ وَعَنْ بَعْضِهِمْ سِتُّونَ سَنَةً ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ. وَأَشُدُّ جَمْعُ شِدَّةٍ أَوْ شَدٍّ أَوْ شُدٍّ أَوْ جَمْعٌ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ أَوْ مُفْرَدٌ لَا جَمْعَ لَهُ أَقْوَالٌ خَمْسَةٌ، اخْتَارَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي آخَرِينَ الْأَخِيرَ وَلَيْسَ بِمُخْتَارٍ لِفِقْدَانِ أَفْعَلَ فِي الْمُفْرَدَاتِ وَضْعًا وَأَشُدُّ مُشْتَقٌّ مِنَ الشِّدَّةِ وَهِيَ الْقُوَّةُ وَالْجَلَّادَةُ. وَقِيلَ: أَصْلُهُ الِارْتِفَاعُ مَنْ شَدَّ النَّهَارُ إِذَا ارْتَفَعَ. قَالَ عَنْتَرَةُ:
عَهْدِي بِهِ شَدَّ النَّهَارِ كَأَنَّمَا خُضِبَ اللَّبَانُ وَرَأَسُهُ بِالْعِظْلِمِ
وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ
أَيْ بِالْعَدْلِ وَالتَّسْوِيَةِ. وَقِيلَ: الْقِسْطُ هُنَا أَدْنَى زِيَادَةٍ لِيَخْرُجَ بِهَا عَنِ الْعُهْدَةِ بِيَقِينٍ لِمَا
رُوِيَ «إِذَا وَزَنْتُمْ فَأَرْجِحُوا».
لَا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها
أَيْ إِلَّا مَا يَسَعُهَا وَلَا تَعْجِزُ عَنْهُ، وَلَمَّا كَانَتْ مُرَاعَاةُ الْحَدِّ مِنَ الْقِسْطِ الَّذِي لَا زِيَادَةَ فِيهِ وَلَا نُقْصَانَ يَجْرِي فِيهَا الْحَرَجُ ذَكَرَ بُلُوغَ الْوُسْعِ وَأَنَّ مَا وَرَاءَهُ مَعْفُوٌّ عَنْهُ، فَالْوَاجِبُ فِي إِيفَاءِ الْكَيْلِ وَالْمِيزَانِ هُوَ الْقَدْرُ الْمُمْكِنُ وَأَمَّا التَّحْقِيقُ فَغَيْرُ وَاجِبٍ قَالَ مَعْنَاهُ الطَّبَرِيُّ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَا نُكَلِّفُ مَا فِيهِ تَلَفُهُ وَإِنْ جَازَ كَقَوْلِهِ: أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ «٢» فَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ رَاجِعًا إِلَى إِيفَاءِ الْكَيْلِ وَالْمِيزَانِ، وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
يَقْتَضِي أَنَّ هَذِهِ الْأَوَامِرَ إِنَّمَا هِيَ فِيمَا يَقَعُ تَحْتَ قُدْرَةِ الْبَشَرِ مِنَ التَّحَفُّظِ وَالتَّحَرُّزِ لَا أَنَّهُ مُطَالَبٌ بِغَايَةِ الْعَدْلِ فِي نَفْسِ الشَّيْءِ الْمُتَصَرِّفِ فِيهِ.
وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبى
أَيْ وَلَوْ كَانَ الْمَقُولُ لَهُ أَوْ عَلَيْهِ ذَا قَرَابَةٍ لِلْقَائِلِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَزِيدَ وَلَا يُنْقِصَ، وَيَدْخُلُ فِي ذِي الْقُرْبَى نَفْسُ الْقَائِلِ وَوَالِدَاهُ وَأَقْرَبُوهُ فَهُوَ يَنْظُرُ إِلَى قَوْلِهِ: وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ «٣» أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ، وَعَنَى بِالْقَوْلِ هُنَا مَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ إِلَّا بِالْقَوْلِ مِنْ أَمْرٍ وَحُكْمٍ وَشَهَادَةِ زَجْرٍ وَوَسَاطَةٍ بَيْنَ النَّاسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ لِكَوْنِهَا مَنُوطَةً بِالْقَوْلِ، وَتَخْصِيصُهُ بِالْحُكْمِ أَوْ بِالْأَمْرِ أَوْ بِالشَّهَادَةِ أَقْوَالٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا على التخصيص.
(١) سورة القصص: ٢٨/ ١٤.
(٢) سورة النساء: ٤/ ٦٦.
(٣) سورة النساء: ٤/ ١٣٥.
689
وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُضَافًا إِلَى الْفَاعِلِ أَيْ بِمَا عَهِدَكُمُ اللَّهُ عَلَيْهِ أَوْفُوا وَأَنْ يَكُونَ مُضَافًا إِلَى الْمَفْعُولِ أَيْ بِمَا عَهِدْتُمُ اللَّهَ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْعَهْدُ بَيْنَ الْإِنْسَانَيْنِ وَتَكُونُ إِضَافَتُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ حَيْثُ أَمَرَ بِحِفْظِهِ وَالْوَفَاءِ بِهِ. قَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: أَمْرُهُ وَنَهْيُهُ فِي التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ. وَقَالَ التِّبْرِيزِيُّ بِعَهْدِهِ يَوْمَ الْمِيثَاقِ. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: يَشْمَلُ مَا عَهِدَهُ إِلَى الْخَلْقِ وَأَوْصَاهُمْ بِهِ وَعَلَى مَا أَوْجَبَهُ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ نَذْرٍ وَغَيْرِهِ.
ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
وَلَمَّا كَانَتِ الْخَمْسَةُ الْمَذْكُورَةُ قَبْلَ هَذَا مِنَ الْأُمُورِ الظَّاهِرَةِ الْجَلِيَّةِ وَجَبَ تَعَلُّقُهَا وَتَفَهُّمُهَا فَخُتِمَتْ بِقَوْلِهِ: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَهَذِهِ الْأَرْبَعَةُ خَفِيَّةٌ غَامِضَةٌ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ الِاجْتِهَادِ وَالذِّكْرِ الْكَثِيرِ حَتَّى يَقِفَ عَلَى مَوْضِعِ الِاعْتِدَالِ خُتِمَتْ بِقَوْلِهِ: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
. وَقَرَأَ حَفْصٌ وَالْأَخَوَانِ تَذَكَّرُونَ
حَيْثُ وَقَعَ بِتَخْفِيفِ الذَّالِ حُذِفَتِ التَّاءُ إِذْ أَصْلُهُ تَتَذَكَّرُونَ، وَفِي الْمَحْذُوفِ خِلَافٌ أَهِيَ تَاءُ الْمُضَارَعَةِ أَوْ تَاءُ تَفَعَّلَ.
وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ تَذَكَّرُونَ
بِتَشْدِيدِهِ أُدْغِمَ تَاءُ تَفْعَلُ فِي الذال.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٥٣ الى ١٦٥]
وَأَنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٥٣) ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (١٥٤) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٥٥) أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (١٥٦) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ (١٥٧)
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٥٨) إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (١٥٩) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (١٦٠) قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٦١) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٢)
لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (١٦٣) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (١٦٤) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٥)
690
وَأَنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ قَرَأَ الْأَخَوَانِ وَأَنَّ هَذَا بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، فَاتَّبِعُوهُ جُمْلَةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْجُمْلَةِ الْمُسْتَأْنَفَةِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا وَخَفَّفَ ابْنُ عَامِرٍ النُّونَ وَشَدَّدَهَا الْبَاقُونَ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وإن كقراءة ابن عمر، فَأَمَّا تَخْفِيفُ النُّونِ فَعَلَى أَنَّهُ حُذِفَ اسْمُ إِنَّ وَهُوَ ضَمِيرُ الشَّأْنِ وَخَرَجَتْ قِرَاءَةُ فَتْحِ الْهَمْزَةِ عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ تَعْلِيلًا حُذِفَ مِنْهَا اللَّامُ تَقْدِيرُهُ وَلِأَنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ كَقَوْلِهِ: وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً «١» وَقَدْ صَرَّحَ بِاللَّامِ فِي قَوْلِهِ لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ لْيَعْبُدُوا
«٢». قَالَ الْفَارِسِيَّ: قِيَاسُ قَوْلِ سِيبَوَيْهِ فِي فَتْحِ الْهَمْزَةِ أَنْ تَكُونَ الْفَاءُ زَائِدَةً بِمَنْزِلَتِهَا فِي زَيْدٌ فَقَامَ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى أَلَّا تُشْرِكُوا أَيْ أَتْلُ عَلَيْكُمْ نَفْيَ الْإِشْرَاكِ وَالتَّوْحِيدَ وَأَتْلُ عَلَيْكُمْ أَنَّ هَذَا صِرَاطِي وَهَذَا عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ في أَلَّا تُشْرِكُوا مَصْدَرِيَّةٌ قَالَهُ الْحَوْفِيُّ هَكَذَا قَرَّرُوا هَذَا الْوَجْهَ فَجَعَلُوهُ مَعْطُوفًا عَلَى الْبَدَلِ مِمَّا حَرَّمَ وَهُوَ أَنْ لَا تُشْرِكُوا. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: إِنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى الْمُبْدَلِ مِنْهُ أَيْ أَتْلُ الَّذِي حَرَّمَ وَأَتْلُ أَنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقِيماً وَهُوَ تَخْرِيجٌ سَائِغٌ فِي الْكَلَامِ، وَعَلَى هَذَا فَالصِّرَاطُ مُضَافٌ لِلْمُتَكَلِّمِ وَهُوَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصِرَاطُهُ هُوَ صِرَاطُ اللَّهِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ عَطْفًا عَلَى الضَّمِيرِ فِي بِهِ قَالَهُ الْفَرَّاءُ، أَيْ وَصَّاكُمْ بِهِ وبأن
(١) سورة الجن: ٧٢/ ١٨.
(٢) سورة قريش: ١٠٦/ ١- ٣.
691
حُذِفَتِ الْبَاءُ لِطُولِ أَنَّ بِالصِّلَةِ. قَالَ الْحَوْفِيُّ: وَهِيَ مُرَادَّةٌ وَلَا يَكُونُ فِي هَذَا عَطْفُ مُظْهَرٍ عَلَى مُضْمَرٍ لِإِرَادَتِهَا. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: هَذَا فَاسِدٌ لِوَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: عَطَفَ الْمُظْهَرَ عَلَى الْمُضْمَرِ مِنْ غَيْرِ إِعَادَةِ الْجَارِّ وَالثَّانِي أَنَّهُ يَصِيرُ الْمَعْنَى وَصَّاكُمْ بِاسْتِقَامَةِ الصِّرَاطِ. وقرأ الأعمش:
وهذا صِراطِي وَكَذَا فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ وَلَمَّا فَصَلَ فِي الْآيَتَيْنِ قَبْلُ أَجْمَلَ فِي هَذِهِ إِجْمَالًا يَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ مَا تَقَدَّمَ وَجَمِيعُ شَرِيعَتِهِ، وَالْإِشَارَةُ بِهَذَا إِلَى الْإِسْلَامِ أَوِ الْقُرْآنِ أَوْ مَا وَرَدَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ لِأَنَّهَا كُلَّهَا فِي التَّوْحِيدِ وَأَدِلَّةِ النُّبُوَّةِ وَإِثْبَاتِ الدِّينِ وَإِلَى هَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي أَعْقَبَتْهَا هَذِهِ الْآيَةُ لِأَنَّهَا الْمُحْكَمَاتُ الَّتِي لَمْ تُنْسَخْ فِي مِلَّةٍ مِنَ الْمِلَلِ أَقْوَالٌ أَرْبَعَةٌ.
فَاتَّبِعُوهُ أَمْرٌ بِاتِّبَاعِهِ كُلِّهِ وَالْمَعْنَى: فَاعْمَلُوا بِمُقْتَضَاهُ مِنْ تَحْرِيمٍ وَتَحْلِيلٍ وَأَمْرٍ وَنَهْيٍ وَإِبَاحَةٍ.
وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ الضَّلَالَاتُ، قَالَ مُجَاهِدٌ: الْبِدَعُ وَالْأَهْوَاءُ وَالشُّبَهَاتُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: مَا حَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنَ الْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ. وَقِيلَ: سُبُلُ الْكُفْرِ كَالْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ وَالْمَجُوسِيَّةِ وَمَا يَجْرِي مُجْرَاهُمْ فِي الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ
وَفِي مُسْنَدِ الدَّارِمِيِّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: خَطَّ لَنَا رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا خَطًّا ثُمَّ قَالَ:
«هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ» ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَيَسَارِهِ ثُمَّ قَالَ: «هَذِهِ سُبُلٌ عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهَا». ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ وَعَنْ جَابِرٍ نَحْوٌ مِنْهُ فِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ
وَانْتَصَبَ فَتَفَرَّقَ لِأَجْلِ النَّهْيِ جَوَابًا لَهُ أَيْ فَتَفَرَّقَ فَحَذَفَ التَّاءَ. وَقُرِئَ فَتَفَرَّقَ بِتَشْدِيدِ التَّاءِ.
ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ كَرَّرَ التَّوْصِيَةَ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ وَلَمَّا كَانَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ هُوَ الْجَامِعَ لِلتَّكَالِيفِ وَأَمَرَ تَعَالَى بِاتِّبَاعِهِ وَنَهَى عَنْ بُنَيَّاتِ الطُّرُقِ خَتَمَ ذَلِكَ بِالتَّقْوَى الَّتِي هي اتقاد النَّارِ، إِذْ مَنِ اتَّبَعَ صِرَاطَهُ نَجَّاهُ النَّجَاةَ الْأَبَدِيَّةَ وَحَصَلَ عَلَى السَّعَادَةِ السَّرْمَدِيَّةِ.
قال ابن عطية: ومن حَيْثُ كَانَتِ الْمُحَرَّمَاتُ الْأُوَلُ لَا يَقَعُ فِيهَا عَاقِلٌ قَدْ نَظَرَ بِعَقْلِهِ جَاءَتِ الْعِبَادَةُ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَالْمُحَرَّمَاتُ الْأُخَرُ شَهَوَاتٌ وَقَدْ يَقَعُ فِيهَا مِنَ الْعُقَلَاءِ مَنْ لَمْ يَتَذَكَّرْ وَرُكُوبُ الْجَادَّةِ الْكَامِلَةِ تَتَضَمَّنُ فِعْلَ الْفَضَائِلِ وَتِلْكَ دَرَجَةُ التَّقْوَى.
ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ثُمَّ تَقْتَضِي الْمُهْلَةَ فِي الزَّمَانِ هَذَا أَصْلُ وَضْعِهَا ثُمَّ تَأْتِي لِلْمُهْلَةِ فِي الْإِخْبَارِ. فَقَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى أَتْلُ تَقْدِيرُهُ أَتْلُ مَا حَرَّمَ ثُمَّ أَتْلُ آتَيْنا. وَقِيلَ: مَعْطُوفٌ عَلَى قُلْ عَلَى إِضْمَارِ قل أي ثم قال آتَيْنا. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ
692
ثُمَّ إِنِّي أُخْبِرُكُمْ أَنَّا آتَيْنَا. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: رَتَّبَتْ ثُمَّ التِّلَاوَةَ أَيْ تَلَوْنَا عَلَيْكُمْ قِصَّةَ مُحَمَّدٍ ثُمَّ نَتْلُو عَلَيْكُمْ قِصَّةَ مُوسَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَهَّلَتْهَا فِي تَرْتِيبِ الْقَوْلُ الَّذِي أَمَرَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَأَنَّهُ قَالَ: ثُمَّ مِمَّا وَصَّيْنَا أَنَّا آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَيَدْعُو إِلَى ذَلِكَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مُتَقَدِّمٌ بِالزَّمَانِ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيِّ: فِي الْكَلَامِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ ثُمَّ كُنَّا قَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ قَبْلَ إِنْزَالِنَا الْقُرْآنِ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ عَطْفٌ عَلَى وَصَّاكُمْ بِهِ (فَإِنْ قُلْتَ) : كَيْفَ صَحَّ عَطْفُهُ عَلَيْهِ بِثُمَّ وَالْإِيتَاءُ قَبْلَ التَّوْصِيَةِ بِدَهْرٍ طَوِيلٍ؟ (قُلْتُ) : هَذِهِ التَّوْصِيَةُ قَدِيمَةٌ لَمْ تَزَلْ تَوَاصَاهَا كُلُّ أُمَّةٍ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهَا كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مُحْكَمَاتٌ لَمْ يَنْسَخْهُنَّ شَيْءٌ مِنْ جَمِيعِ الْكُتُبِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ يَا بَنِي آدَمَ قَدِيمًا وَحَدِيثًا ثُمَّ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّا آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَأَنْزَلْنَا هَذَا الْكِتَابَ الْمُبَارَكَ؟ وَقِيلَ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ قَبْلَ شَطْرِ السُّورَةِ مِنْ قَوْلِهِ: وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ «١» انْتَهَى. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا مُتَكَلَّفَةٌ وَالَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُذْهَبَ إِلَيْهِ أَنَّهَا اسْتُعْمِلَتْ لِلْعَطْفِ كَالْوَاوِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ مُهْلَةٍ، وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ بعض النحاة والْكِتابَ هُنَا التَّوْرَاةُ بِلَا خِلَافٍ وَانْتَصَبَ تَمَامًا عَلَى الْمَفْعُولِ لَهُ أَوْ عَلَى الْمَصْدَرِ أَتْمَمْنَاهُ تَماماً مَصْدَرٌ عَلَى حَذْفِ الزَّوَائِدِ أَوْ عَلَى الْحَالِ إِمَّا مِنَ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ وَكُلٌّ قَدْ قِيلَ.
وَقِيلَ: مَعْنَى تَماماً أَيْ دُفْعَةً وَاحِدَةً لَمْ نُفَرِّقْ إِنْزَالَهُ كَمَا فَرَّقْنَا إِنْزَالَ الْقُرْآنِ قَالَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ. والَّذِي أَحْسَنَ جِنْسٌ أَيْ عَلَى مَنْ كَانَ مُحْسِنًا مِنْ أَهْلِ مِلَّتِهِ قَالَهُ مُجَاهِدٌ أَيْ إِتْمَامًا لِلنِّعْمَةِ عِنْدَهُمْ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالَّذِي أَحْسَنَ مَخْصُوصٌ. فَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِبْرَاهِيمُ كَانَتْ نُبُوَّةُ مُوسَى نِعْمَةً عَلَى إِبْرَاهِيمَ لِأَنَّهُ مِنْ وَلَدِهِ وَالْإِحْسَانُ لِلْأَبْنَاءِ إِحْسَانٌ لِلْآبَاءِ. وَقِيلَ: مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ تَتِمَّةً لِلْكَرَامَةِ عَلَى الْعَبْدِ الَّذِي أَحْسَنَ الطَّاعَةَ فِي التَّبْلِيغِ وَفِي كُلِّ مَا أُمِرَ بِهِ، وَالَّذِي فِي هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ وَاقِعَةٌ عَلَى مَنْ يَعْقِلُ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ مُوسَى مِنَ الْعِلْمِ وَكُتُبِ اللَّهِ الْقَدِيمَةِ وَنَحْوٌ مِنْهُ قَوْلُ ابْنِ قُتَيْبَةَ، قَالَ: مَعْنَى الْآيَةِ تَماماً عَلَى مَا كَانَ أَحْسَنَ مِنَ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ مِنْ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةُ مِنْ قَوْلِهِمْ: فُلَانٌ يُحْسِنُ كَذَا أَيْ يَعْلَمُهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي هَذَا التَّأْوِيلِ: تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ مُوسَى مِنَ الْعِلْمِ وَالشَّرَائِعِ مِنْ أَحْسَنَ الشَّيْءَ إِذَا أَجَادَ مَعْرِفَتَهُ أَيْ زِيَادَةً عَلَى عِلْمِهِ عَلَى وَجْهِ التَّتْمِيمِ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: عَلَى مَا أَحْسَنَ هُوَ مِنْ عِبَادَةِ رَبِّهِ وَالِاضْطِلَاعِ بِأُمُورِ نُبُوَّتِهِ يُرِيدُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هَذَا تَأْوِيلُ الرَّبِيعِ وَقَتَادَةَ انْتَهَى.
وَالَّذِي فِي هَذَا التَّأْوِيلِ وَاقِعَةُ عَلَى غَيْرِ الْعَاقِلِ. وَقِيلَ: الَّذِي مَصْدَرِيَّةٌ وَهُوَ قَوْلٌ كُوفِيٌّ وَفِي
(١) سورة الأنبياء: ٢١/ ٧٢.
693
أَحْسَنَ ضَمِيرُ مُوسَى أَيْ تَمَامًا عَلَى إِحْسَانِ مُوسَى بِطَاعَتِنَا وَقِيَامِهِ بِأَمْرِنَا وَنَهْيِنَا، وَيَكُونُ فِي عَلَى إِشْعَارٌ بِالْعِلْيَةِ كَمَا تَقُولُ: أَحْسَنْتُ إِلَيْكَ عَلَى إِحْسَانِكَ إِلَيَّ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي أَحْسَنَ يَعُودُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ زَيْدٍ، وَمُتَعَلَّقُ الْإِحْسَانِ إِلَى أَنْبِيَائِهِ أَوْ إِلَى مُوسَى قَوْلَانِ:
وَأَحْسَنُ مَا فِي هَذِهِ الْأَقْوَالِ كُلِّهَا فِعْلٌ. وَقَالَ بَعْضُ نُحَاةِ الْكُوفَةِ: يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ أَحْسَنَ اسْمًا وَهُوَ أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ وَهُوَ مَجْرُورٌ صِفَةٌ لِلَّذِي وَإِنْ كَانَ نَكِرَةً مِنْ حَيْثُ قَارَبَ الْمَعْرِفَةَ إِذْ لَا يَدْخُلُهُ أَلْ كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: مَرَرْتُ بِالَّذِي خَيْرٌ مِنْكَ، وَلَا يَجُوزُ مَرَرْتُ بِالَّذِي عَالِمٌ انْتَهَى. وَهَذَا سَائِغٌ عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ فِي الْكَلَامِ وَهُوَ خَطَأٌ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ. وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ مَعْمَرٍ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ أَحْسَنَ بِرَفْعِ النُّونِ وَخُرِّجَ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ هُوَ أحسن وأَحْسَنَ خبر صلة كَقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً «١» أَيْ تَمَامًا عَلَى الَّذِي هُوَ أَحْسَنُ دِينٍ وَأَرْضَاهُ أَوْ تَامًّا كَامِلًا عَلَى أَحْسَنِ مَا تَكُونُ عَلَيْهِ الْكُتُبُ، أَيْ عَلَى الْوَجْهِ وَالطَّرِيقِ الَّذِي هو أحسن وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الْكَلْبِيِّ: أَتَمَّ لَهُ الْكِتَابَ عَلَى أَحْسَنِهِ. وَقَالَ التِّبْرِيزِيُّ: الَّذِي هُنَا بِمَعْنَى الْجَمْعِ وَأَحْسَنَ صِلَةُ فِعْلٍ مَاضٍ حُذِفَ مِنْهُ الضَّمِيرُ وَهُوَ الْوَاوُ فَبَقِيَ أَحْسَنَ أَيْ عَلَى الَّذِينَ أَحْسَنُوا، وَحَذْفُ هَذَا الضَّمِيرِ وَالِاجْتِزَاءُ بِالضَّمَّةِ تَفْعَلُهُ الْعَرَبُ. قَالَ الشَّاعِرُ:
فَلَوْ أَنَّ الْأَطِبَّاءَ كَانَ حَوْلِي وقال آخر:
إذا شاؤوا أَضَرُّوا مَنْ أَرَادُوا وَلَا يَأْلُوهُمُ أَحَدٌ ضِرَارًا
وَقَالَ آخَرُ:
شَبُّوا عَلَى الْمَجْدِ شابوا وَاكْتَهَلَ يُرِيدُ وَاكْتَهَلُوا فَحَذَفَ الْوَاوَ ثُمَّ حَذَفَ الضَّمِيرَ لِلْوَقْفِ انْتَهَى. وَهَذَا خَصَّهُ أَصْحَابُنَا بِالضَّرُورَةِ فَلَا يُحْمَلُ كِتَابُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ أَيْ لَعَلَّهُمْ بِالْبَعْثِ يُؤْمِنُونَ، فَالْإِيمَانُ بِهِ هُوَ نِهَايَةُ التَّصْدِيقِ إِذْ لَا يَجِبُ بِالْعَقْلِ لَكِنَّهُ يَجُوزُ فِي الْعَقْلِ وَأَوْجَبَهُ السَّمْعُ وَانْتِصَابُ تَفْصِيلًا وَمَا بَعْدَهُ كَانْتِصَابِ تَماماً.
وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى الْقُرْآنِ وأَنْزَلْناهُ ومُبارَكٌ صفتان لكتاب أَوْ خَبَرَانِ عَنْ هَذَا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُجِيزُ تَعْدَادَ الْأَخْبَارِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى خَبَرٍ وَاحِدٍ وَكَانَ الْوَصْفُ بِالْإِنْزَالِ آكَدَ مِنَ الْوَصْفِ بِالْبَرَكَةِ
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢٦.
694
فَقُدِّمَ لِأَنَّ الْكَلَامَ مَعَ مَنْ يُنْكِرُ رِسَالَةَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيُنْكِرُ إِنْزَالَ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ وَكَوْنَهُ مُبَارَكًا عَلَيْهِمْ هُوَ وَصْفٌ حَاصِلٌ لَهُمْ مِنْهُ مُتَرَاخٍ عَنِ الْإِنْزَالِ فَلِذَلِكَ تَأَخَّرَ الْوَصْفُ بِالْبَرَكَةِ، وَتَقَدَّمَ الْوَصْفُ بِالْإِنْزَالِ وَكَانَ الْوَصْفُ بِالْفِعْلِ الْمُسْنَدِ إِلَى نُونِ الْعَظَمَةِ أَوْلَى مِنَ الْوَصْفِ بِالِاسْمِ لِمَا يَدُلُّ الْإِسْنَادُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنِ التَّعْظِيمِ وَالتَّشْرِيفِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي الِاسْمِ لَوْ كَانَ التَّرْكِيبُ مُنَزَّلٌ أَوْ مُنَزَّلٌ مِنَّا وَبِرْكَةُ الْقُرْآنِ بِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ النَّفْعِ وَالنَّمَاءِ بِجَمْعِ كَلِمَةِ الْعَرَبِ بِهِ وَالْمَوَاعِظِ وَالْحِكَمِ وَالْإِعْلَامِ بِأَخْبَارِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ وَالْأُجُورِ التَّالِيَةِ وَالشِّفَاءِ مِنَ الْأَدْوَاءِ.
وَالشَّفَاعَةِ لِقَارِئِهِ وَعَدِّهِ مِنْ أَهْلِ اللَّهِ وَكَوْنِهِ مَعَ الْمُكْرَمِينَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْبَرَكَاتِ الَّتِي لَا تُحْصَى، ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِاتِّبَاعِهِ وَهُوَ الْعَمَلُ بِمَا فِيهِ وَالِانْتِهَاءُ إِلَى مَا تَضَمَّنَهُ وَالرُّجُوعُ إِلَيْهِ عِنْدَ الْمُشْكِلَاتِ، وَالظَّاهِرُ فِي قَوْلِهِ: وَاتَّقُوا أَنَّهُ أَمْرٌ بِالتَّقْوَى الْعَامَّةِ فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ. وَقِيلَ وَاتَّقُوا مخالفته لرجاء الله الرَّحْمَةِ. وَقَالَ التِّبْرِيزِيُّ: اتَّقُوا غَيْرَهُ فَإِنَّهُ مَنْسُوخٌ وَقَالَ التِّبْرِيزِيُّ فِي الْكَلَامِ إِشَارَةٌ وَهُوَ وَصْفُ اللَّهِ التَّوْرَاةَ بِالتَّمَامِ وَالتَّمَامُ يُؤْذِنُ بِالِانْصِرَامِ قَالَ الشَّاعِرُ:
إِذَا تَمَّ أَمَرٌ بَدَا نَقْصُهُ تَوَقَّعْ زَوَالًا إِذَا قِيلَ تَمَّ
فَنَسَخَهَا اللَّهُ بِالْقُرْآنِ وَدَيَّنَهَا بِالْإِسْلَامِ وَوَصَفَ الْقُرْآنَ بِأَنَّهُ مُبَارَكٌ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ، وَالْمُبَارَكُ هُوَ الثَّابِتُ الدَّائِمُ فِي ازْدِيَادٍ وَذَلِكَ مُشْعِرٌ بِبَقَائِهِ وَدَوَامِهِ.
أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ أَنْ تَقُولُوا مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ فَقَدَّرَهُ الْكُوفِيُّونَ لِئَلَّا تَقُولُوا وَلِأَجْلِ أَنْ لَا تَقُولُوا وَقَدَّرَهُ الْبَصْرِيُّونَ كَرَاهَةَ أَنْ تَقُولُوا وَالْعَامِلُ فِي كِلَا الْمَذْهَبَيْنِ أَنْزَلْناهُ مَحْذُوفَةٌ يَدُلُّ عَلَيْهَا قَوْلُهُ قَبْلُ أَنْزَلْناهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ أَنْزَلْناهُ هَذِهِ الملفوظة بِهَا لِلْفَاصِلِ بَيْنَهُمَا وَهُوَ مُبارَكٌ الَّذِي هُوَ وَصْفٌ لكتاب أَوْ خَبَرٌ عَنْ هَذَا فَهُوَ أَجْنَبِيٌّ مِنَ الْعَامِلِ وَالْمَعْمُولِ. وَظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ عَطِيَّةَ أَنَّ الْعَامِلَ فِيهِ أَنْزَلْناهُ الْمَلْفُوظُ بِهَا. وَقِيلَ: أَنْ تَقُولُوا مَفْعُولٌ وَالْعَامِلُ فِيهِ وَاتَّقُوا أَيْ وَاتَّقُوا أَنْ تَقُولُوا لِأَنَّهُ لَا حُجَّةَ لَكُمْ فِيهِ وَالْكِتَابُ هُنَا جِنْسٌ وَالطَّائِفَتَانِ هُمَا أَهْلُ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى بِلَا خِلَافٌ، وَالْخِطَابُ مُتَوَجِّهٌ إِلَى كَفَّارِ قُرَيْشٍ بِإِثْبَاتِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِإِنْزَالِ هَذَا الْكِتَابِ لِئَلَّا يَحْتَجُّوا هُمْ وَكُفَّارُ الْعَرَبِ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ كِتَابٌ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَهَذَا الْقُرْآنُ يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ أُنْزِلَ حُجَّةً عَلَيْكُمْ لِئَلَّا تَقُولُوا: إِنَّمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ بِغَيْرِ لِسَانِنَا عَلَى غَيْرِنَا وَنَحْنُ لَمْ نَعْرِفْ ذَلِكَ فَهَذَا كِتَابٌ بِلِسَانِكُمْ مَعَ رَجُلٍ مِنْكُمْ.
695
وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ: أَنْ يَقُولُوا بِيَاءِ الْغَيْبَةِ وَيَعْنِيَ كُفَّارَ قُرَيْشٍ. وَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: الْمَعْنَى إِنَّمَا ظَهَرَ نُزُولُ الْكِتَابِ عِنْدَ الْخَلْقِ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَلَمْ يَكُونُوا وَقْتَ نُزُلِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَهُودًا وَلَا نَصَارَى، وَإِنَّمَا حَدَثَ لَهُمَا هَذَانِ الِاسْمَانِ لِمَا حَدَثَ مِنْهُمَا ودِراسَتِهِمْ قِرَاءَتُهُمْ وَدَرْسُهُمْ وَالْمَعْنَى عَنْ مِثْلِ دِراسَتِهِمْ وَأَعَادَ الضَّمِيرَ جَمْعًا لِأَنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ جَمْعٌ كَمَا أَعَادَهُ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا «١» وَإِنْ هُنَا هِيَ الْمُخَفِّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: إِنْ نَافِيَةً وَاللَّامُ بِمَعْنَى إِلَّا وَالتَّقْدِيرُ وَمَا كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ إِلَّا غَافِلِينَ. وَقَالَ قُطْرُبٌ: فِي مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ إِنْ بِمَعْنَى قَدْ وَاللَّامُ زَائِدَةٌ وَلَيْسَ هَذَا الْخِلَافُ مَقْصُورًا عَلَى مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، بَلْ هُوَ جَارٍ فِي شَخْصِيَّاتِ هَذَا التَّرْكِيبِ وَتَقْرِيرُهُ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِنْ كُنَّا هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ وَاللَّامُ هِيَ الْفَارِقَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّافِيَةِ وَالْأَصْلُ وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ غَافِلِينَ عَلَى أَنَّ الْهَاءَ ضَمِيرٌ انْتَهَى.
وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنْ أَنَّ أَصْلَهُ وَإِنْ كُنَّا وَالْهَاءُ ضَمِيرُ الشَّأْنِ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّ إِنِ الْمُخَفَّفَةَ مِنَ الثَّقِيلَةِ عَامِلَةٌ فِي مُضْمَرٍ مَحْذُوفٍ حَالَةَ التَّخْفِيفِ كَمَا قَالَ النَّحْوِيُّونَ فِي أَنَّ الْمُخَفَّفَةَ مِنَ الثَّقِيلَةِ عَامِلَةٌ فِي مُضْمَرٍ مَحْذُوفٍ حَالَةَ التَّخْفِيفِ كَمَا قَالَ النَّحْوِيُّونَ فِي أَنَّ الْمُخَفَّفَةَ مِنَ الثَّقِيلَةِ وَالَّذِي نَصَّ النَّاسُ عَلَيْهِ أَنَّ إِنِ الْمُخَفَّفَةَ مِنَ الثَّقِيلَةِ إِذَا لَزِمَتِ اللام في أحد الجزأين بَعْدَهَا أَوْ فِي أَحَدِ مَعْمُولَيِ الْفِعْلِ النَّاسِخِ الَّذِي يَلِيهَا، أَنَّهَا مُهْمِلَةٌ لَا تَعْمَلُ فِي ظَاهِرٍ وَلَا مُضْمَرَ لَا مُثْبَتَ وَلَا مَحْذُوفَ فَهَذَا الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ مُخَالِفٌ لِلنُّصُوصِ وَلَيْسَتْ إِذَا وَلِيَهَا النَّاسِخُ دَاخِلَةٌ فِي الْأَصْلِ عَلَى ضَمِيرِ شأن البتة.
وعَنْ دِراسَتِهِمْ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: لَغافِلِينَ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ فِي دَعْوَاهُمْ أَنَّ اللَّامَ بِمَعْنَى إِلَّا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْمَلَ مَا بَعْدَ إِلَّا فِيمَا قَبْلَهَا، وَكَذَلِكَ اللَّامُ الَّتِي بِمَعْنَاهَا وَلَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا عَنْهَا مُتَعَلِّقًا بِمَحْذُوفٍ وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ اللَّامَ لَامُ ابْتِدَاءٍ لَزِمَتْ لِلْفَرْقِ، فَجَازَ أَنْ يَتَقَدَّمَ مَعْمُولُهَا عَلَيْهَا لَمَّا وَقَعَتْ فِي غَيْرِ مَا هُوَ لَهَا أَصْلٌ كَمَا جَازَ ذَلِكَ فِي إِنْ زَيْدًا طَعَامَكَ لَآكِلٌ حَيْثُ وَقَعَتْ فِي غَيْرِ مَا هُوَ لَهَا أَصْلٌ وَلَمْ يَجُزْ ذَلِكَ فِيهَا إِذَا وَقَعَتْ فِيمَا هُوَ لَهَا أَصْلٌ وَهُوَ دُخُولُهَا عَلَى الْمُبْتَدَأِ.
أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ انْتِقَالٌ مِنَ الْإِخْبَارِ لِحَصْرِ إِنْزَالِ الْكِتَابِ عَلَى غَيْرِهِمْ وَأَنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِمْ إِلَى الْإِخْبَارِ بِحُكْمٍ عَلَى تَقْدِيرٍ وَالْكِتَابُ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْكِتَابُ السَّابِقُ ذِكْرُهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ الْكِتَابُ الَّذِي تَمَنَّوْا أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِمْ وَمَعْنَى أَهْدى مِنْهُمْ أَرْشَدَ وَأَسْرَعَ اهْتِدَاءً لِكَوْنِهِ نَزَلَ عَلَيْنَا بِلِسَانِنَا فَنَحْنُ نَتَفَهَّمُهُ وَنَتَدَبَّرُهُ وندرك ما
(١) سورة الحجرات: ٤٩/ ٩.
696
تَضَمَّنَهُ مِنْ غَيْرِ إِكْدَادِ فِكْرٍ وَلَا تَعَلُّمِ لِسَانٍ بِخِلَافِ الْكِتَابِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الطَّائِفَتَيْنِ، فَإِنَّهُ بِغَيْرِ لِسَانِنَا فَنَحْنُ لَا نَعْرِفُهُ وَلَا نَغْفُلُ عَنْ دِرَاسَتِهِ أَوْ أَهْدى مِنْهُمْ لِكَوْنِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى قَدِ افْتَرَقَتْ فِرَقًا مُتَبَايِنَةً فَلَا نَعْرِفُ الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ.
فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ هَذَا قَطْعٌ لِاعْتِذَارِهِمْ بِانْحِصَارِ إِنْزَالِ الْكِتَابِ عَلَى الطَّائِفَتَيْنِ وَبِكَوْنِهِمْ لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِمْ كِتَابٌ، وَلَوْ نَزَلَ لَكَانُوا أَهْدَى مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْبَيِّنَةَ هِيَ الْقُرْآنُ وَهُوَ الْحُجَّةُ الْوَاضِحَةُ الدَّالَّةُ النَّيِّرَةُ حَيْثُ نَزَلَ عَلَيْهِمْ بِلِسَانِهِمْ وَأَلْزَمَ الْعَالَمَ أَحْكَامَهُ وَشَرِيعَتَهُ وَإِنَّ الْهُدَى وَالنُّورَ مِنْ صِفَاتِ الْقُرْآنِ. وَقِيلَ: الْبَيِّنَةُ الرَّسُولُ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ أَيْ حُجَّةٌ وَهُوَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقُرْآنُ. وَقِيلَ: آيَاتُ اللَّهِ الَّتِي أَظْهَرَهَا فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ. وَقِيلَ: دِينُ اللَّهِ وَالْهُدَى وَالنُّورُ عَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ مِنْ صِفَاتِ مَا فُسِّرَتِ الْبَيِّنَةُ بِهِ وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَقَدْ جاءَكُمْ عَلَى مَا قَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ جَوَابُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ. قَالَ الزمخشري: والمعنى أن صَدَقْتُمْ فِيمَا كُنْتُمْ تَعُدُّونَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَحُذِفَ الشَّرْطُ وَهُوَ مِنْ أَحَاسِنِ الْحُذُوفِ انْتَهَى. وَقَدَّرَهُ غَيْرُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَمَا تَزْعُمُونَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْكُمْ كِتَابٌ تَكُونُونَ أَهْدَى مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَقَدْ جاءَكُمْ وَأَطْبَقَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ الْغَرَضَ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ إِقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَقَطْعُ احْتِجَاجِهِمْ.
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها أَيْ بَعْدَ مَجِيءِ الْبَيِّنَةِ وَالْهُدَى وَالنُّورِ لَا يَكُونُ أَحَدٌ أَشَدَّ ظُلْمًا مِنَ الْمُكَذِّبِ بِالْأَمْرِ الْوَاضِحِ النَّيِّرِ الَّذِي لَا شُبْهَةَ فِيهِ والمعرض عنه بعد ما لَاحَتْ لَهُ صِحَّتُهُ وَصِدْقُهُ وَعَرَفَهُ أَوْ تَمَكَّنَ مِنْ مَعْرِفَتِهِ، وَتَأَخَّرَ الْإِعْرَاضُ لِأَنَّهُ نَاشِئٌ عَنِ التَّكْذِيبِ وَالْإِعْرَاضُ عَنِ الشَّيْءِ هُوَ بَعْدَ رُؤْيَتِهِ وَظُهُورِهِ. وَقِيلَ: قَبْلَ الْفَاءِ شَرْطٌ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ فَإِنْ كَذَّبْتُمْ فَلَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِنْكُمْ وَآيَاتُ اللَّهِ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهَا الْقُرْآنُ وَالرَّسُولُ وَالْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْعُمُومِ، وَصَدَفَ لَازِمٌ بِمَعْنَى أَعْرَضَ وَقَدْ شَرَحْنَاهُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى وَمُتَعَدٍّ أَيْ صَدَفَ عَنْهَا غَيْرَهُ بِمَعْنَى صَدَّهُ وَفِيهِ مُبَالَغَةٌ فِي الذَّمِّ حَيْثُ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَجَعَلَ غَيْرَهُ يُعْرِضُ عَنْهَا وَيُكَذِّبُ بِهَا. وَقَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ مِمَّنْ كَذَّبَ بِتَخْفِيفِ الذَّالِ.
سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ عَلَّقَ الْجَزَاءَ عَلَى الصُّدُوفِ لِأَنَّهُ هُوَ نَاشِئٌ عن التكذيب، وسُوءَ الْعَذابِ شَدِيدَهُ كَقَوْلِهِ الَّذِينَ
697
كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ
«١» وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ يَصْدِفُونَ بِضَمِّ الدَّالِ.
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ الضَّمِيرُ فِي يَنْظُرُونَ عَائِدٌ عَلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ وَهُمُ الْعَادِلُونَ بِرَبِّهِمْ مِنَ الْعَرَبِ الَّذِينَ مَضَى أَكْثَرُ السُّورَةِ فِي جِدَالِهِمْ أَيْ مَا يَنْتَظِرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ إِلَى قَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ وَتَعْذِيبِهَا وَهُوَ وَقْتٌ لَا تَنْفَعُ فِيهِ تَوْبَتُهُمْ وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَابْنِ جُرَيْجٍ. وَقِيلَ: أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ الَّذِينَ يَنْصَرِفُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ. وَقِيلَ: ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِمْ: أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا «٢» أَيْ رُسُلًا مِنَ اللَّهِ إِلَيْهِمْ كَمَا تَمَنَّوْا، أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ فِيهِمْ بِالْقَتْلِ أَوْ غَيْرِهِ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ بِعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ بِلَا أَيْنَ وَلَا كَيْفَ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ بَيْنَ خَلْقِهِ فِي الْمَوْقِفِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أَوْ يَأْتِيَ إِهْلَاكُ رَبِّكَ إِيَّاهُمْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَعَلَى كُلِّ تَأْوِيلٍ فَإِنَّمَا هُوَ بِحَذْفِ مُضَافٍ تَقْدِيرُهُ أَمْرُ رَبِّكَ وَبَطْشُ وَحِسَابُ رَبِّكَ، وَإِلَّا فَالْإِتْيَانُ الْمَفْهُومُ مِنَ اللُّغَةِ مُسْتَحِيلٌ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا «٣» فَهَذَا إِتْيَانٌ قَدْ وَقَعَ وَهُوَ عَلَى الْمَجَازِ وَحُذِفَ الْمُضَافُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ يَأْتِيَ كُلُّ آيَاتِ رَبِّكَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يُرِيدُ آيَاتِ الْقِيَامَةِ وَالْهَلَاكَ الْكُلِّيَّ وبَعْضُ آياتِ رَبِّكَ أَشْرَاطُ السَّاعَةِ كَطُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا وَغَيْرِهَا انْتَهَى.
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عُمَرَ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: إِنَّهُ طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا وَرَوَاهُ أَبُو سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَإِذَا طَلَعَتْ وَرَآهَا النَّاسُ آمَنَ مَنْ عَلَيْهَا فَذَلِكَ حِينَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا».
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِيمَا رَوَى عَنْهُ مَسْرُوقٌ:
طُلُوعُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ مِنْ مَغْرِبِهِمَا. وَقِيلَ: إِحْدَى الْآيَاتِ الثَّلَاثِ طلوع الشمس من مغربها وَالدَّابَّةُ وَفَتْحُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ رَوَاهُ الْقَاسِمُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: طُلُوعُهَا وَالدَّجَّالُ وَالدَّابَّةُ وَفَتْحُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ. وَقِيلَ: الْعَشْرُ الْآيَاتِ الَّتِي فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا وَالدَّجَّالُ وَالدَّابَّةُ وَخَسْفٌ بِالْمُشْرِقِ وَخَسْفٌ بِالْمَغْرِبِ وَخَسْفٌ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَنُزُولُ عِيسَى وَفَتْحُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَنَارٌ تَخْرُجُ مِنْ قَعْرِ عَدَنَ تسوق الناس إلى
(١) سورة النحل: ١٦/ ٨٨.
(٢) سورة الإسراء: ١٧/ ٩٢.
(٣) سورة الحشر: ٥٩/ ٢.
698
الْمَحْشَرِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ تَوَعَّدُوا بِالشَّيْءِ الْعَظِيمِ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ لِيَذْهَبَ الْفِكْرُ فِي ذَلِكَ كُلَّ مَذْهَبٍ لَكِنْ أَتَى بَعْدَ ذَلِكَ الْإِخْبَارُ عَنْهُ عَنْ هَذَا الْبَعْضِ بِعَدَمِ قَبُولِ التَّوْبَةِ فِيهِ إِذَا أَتَى، وَتَصْرِيحُ الرَّسُولِ بِأَنَّ طُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا وَقْتٌ لَا تَنْفَعُ فِيهِ التَّوْبَةُ فَيَظْهَرُ أَنَّهُ هَذَا الْبَعْضُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْبَعْضُ غَرْغَرَةَ الْإِنْسَانِ عِنْدَ الْمَوْتِ فَإِنَّهَا تَكُونُ فِي وَقْتٍ لَا تَنْفَعُ فِيهِ التَّوْبَةُ. قَالَ تَعَالَى: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ «١»
وَفِي الْحَدِيثِ «أَنَّ تَوْبَةَ الْعَبْدِ تُقْبَلُ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ»
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ غَيْرَ قَوْلِهِ: أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ فَيَكُونُ هَذَا عِبَارَةً عَنْ مَا يُقْطَعُ بِوُقُوعِهِ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ وَيَكُونُ قَوْلُهُ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ فِيهِ وَصْفٌ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى تَقْدِيرُهُ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ الَّتِي يَرْتَفِعُ مَعَهَا التَّوْبَةُ. وَثَبَتَ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ طُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا وَقْتٌ لَا تُقْبَلُ فِيهِ التَّوْبَةُ وَيَدُلُّ عَلَى التَّغَايُرِ إِعَادَةُ آيَاتُ رَبِّكَ إِذْ لَوْ كَانَتْ هَذِهِ تِلْكَ لَكَانَ التَّرْكِيبُ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُهَا أَيْ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ.
يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً مَنْطُوقُ الْآيَةِ أَنَّهُ إِذَا أَتَى هَذَا الْبَعْضُ لَا يَنْفَعُ نَفْساً كَافِرَةً إِيمَانُهَا الَّذِي أَوْقَعَتْهُ إِذْ ذاك ولا يَنْفَعُ نَفْساً سَبَقَ إِيمَانُهَا وَمَا كَسَبَتْ فِيهِ خَيْرًا فَعَلَّقَ نَفْيَ الْإِيمَانِ بِأَحَدِ وَصْفَيْنِ: إِمَّا نَفْيُ سَبْقِ الْإِيمَانِ فَقَطْ وَإِمَّا سَبْقُهُ مَعَ نَفْيِ كَسْبِ الْخَيْرِ، وَمَفْهُومُهُ أَنَّهُ يَنْفَعُ الْإِيمَانُ السَّابِقُ وَحْدَهُ أَوِ السَّابِقُ وَمَعَهُ الْخَيْرُ وَمَفْهُومُ الصِّفَةِ قَوِيٌّ فَيُسْتَدَلُّ بِالْآيَةِ لِمَذْهَبِ أهل السنة من أن الْإِيمَانَ لَا يُشْتَرَطُ فِي صِحَّتِهِ الْعَمَلُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ صِفَةٌ لِقَوْلِهِ: نَفْساً وَقَوْلُهُ: أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً عَطْفٌ عَلَى آمَنَتْ وَالْمَعْنَى أَنَّ أَشْرَاطَ السَّاعَةِ إِذَا جَاءَتْ وَهِيَ آيَاتٌ مُلْجِئَةٌ مُضْطَرَّةٌ ذَهَبَ أَوَانُ التَّكْلِيفِ عِنْدَهَا فَلَمْ يَنْفَعِ الْإِيمَانُ حِينَئِذٍ نَفْسًا غَيْرَ مُقَدِّمَةٍ إِيمَانَهَا مِنْ قَبْلِ ظُهُورِ الْآيَاتِ أَوْ مُقَدِّمَةً إِيمَانَهَا غَيْرَ كَاسِبَةٍ خَيْرًا فِي إِيمَانِهَا، فَلَمْ يُفَرَّقْ كَمَا تَرَى بَيْنَ النَّفْسِ الْكَافِرَةِ إِذَا آمَنَتْ فِي غَيْرِ وَقْتِ الْإِيمَانِ وَبَيْنَ النَّفْسِ الَّتِي آمَنَتْ فِي وَقْتِهَا وَلَمْ تَكْسِبْ خَيْرًا لِيُعْلَمَ أَنَّ قَوْلَهُ: الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ «٢» جَمَعَ بَيْنَ قَرِينَتَيْنِ لَا يَنْبَغِي أَنْ تَنْفَكَّ إِحْدَاهُمَا عَنِ الْأُخْرَى حَتَّى يَفُوزَ صَاحِبُهَا وَيَسْعَدَ وَإِلَّا فَالشَّقَاوَةُ وَالْهَلَاكُ انْتَهَى. وَهُوَ جَارٍ عَلَى مَذْهَبِهِ الاعتزالي.
(١) سورة النساء: ٤/ ١٨.
(٢) سورة مريم: ١٩/ ٩٦، وسورة الحج: ٢٢/ ١٤. [.....]
699
وَقَرَأَ الْأَخَوَانِ: إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمْ بِالْيَاءِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَمْرٍو وَابْنُ سِيرِينَ وَأَبُو الْعَالِيَةِ يَوْمَ تَأْتِي بَعْضُ بِالتَّاءِ مِثْلَ تَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ وَابْنُ سِيرِينَ لَا تَنْفَعُ نَفْسًا. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: ذَكَرُوا أَنَّهَا غَلَطٌ مِنْهُ. وَقَالَ النَّحَّاسُ: فِي هَذَا شَيْءٌ دَقِيقٌ ذَكَرَهُ سِيبَوَيْهِ وَذَلِكَ أَنَّ الْإِيمَانَ وَالنَّفْسَ كُلٌّ مِنْهُمَا مُشْتَمِلٌ عَلَى الْآخَرِ فَأَنَّثَ الْإِيمَانَ إِذْ هُوَ مَنَّ النَّفْسِ وَبِهَا وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ رَحِمَهُ اللَّهُ:
مَشَيْنَ كَمَا اهْتَزَّتْ رِمَاحٌ تَسَفَّهَتْ أَعَالِيَّهَا مَرَّ الرِّيَاحِ النَّوَاسِمِ
انْتَهَى.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَرَأَ ابْنُ سِيرِينَ لَا تَنْفَعُ بِالتَّاءِ لِكَوْنِ الْإِيمَانِ مُضَافًا إِلَى ضَمِيرِ الْمُؤَنَّثِ الَّذِي هُوَ بَعْضُهُ لِقَوْلِهِ: ذَهَبَتْ بَعْضُ أَصَابِعِهِ انْتَهَى. وَهُوَ غَلَطٌ لِأَنَّ الْإِيمَانَ لَيْسَ بَعْضًا لِلنَّفْسِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أُنِّثَ عَلَى مَعْنَى الْإِيمَانِ وَهُوَ الْمَعْرِفَةُ أَوِ الْعَقِيدَةُ، فَكَانَ مِثْلَ جَاءَتْهُ كِتَابِي فَاحْتَقَرَهَا عَلَى مَعْنَى الصَّحِيفَةِ وَنُصِبَ يوم تأتي بِقَوْلِهِ: لَا يَنْفَعُ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَقَدُّمِ مَعْمُولِ الْفِعْلِ الْمَنْفِيِّ بِلَا عَلَى لَا خِلَافًا لِمَنْ مَنَعَ. وَقَرَأَ زُهَيْرٌ الْقَرَوِيُّ يَوْمَ يَأْتِي بِالرَّفْعِ وَالْخَبَرُ لَا يَنْفَعُ وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ أَيْ لَا يَنْفَعُ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ صِفَةً وَجَازَ الْفَصْلُ بِالْفَاعِلِ بَيْنَ الْمَوْصُوفِ وَصْفَتِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَجْنَبِيٍّ إِذْ قَدِ اشْتَرَكَ الْمَوْصُوفُ الَّذِي هُوَ الْمَفْعُولُ وَالْفَاعِلُ فِي الْعَامِلِ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ ضَرَبَ هِنْدًا غُلَامُهَا التَّمِيمِيَّةَ وَمَنْ جَعَلَ الْجُمْلَةَ حَالًا أَبْعَدَ وَمَنْ جَعَلَهَا مُسْتَأْنَفَةً فَهُوَ أَبْعَدُ.
قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ أَيِ انْتَظَرُوا مَا تَنْتَظِرُونَ إِنَّا مُنْتَظِرُونَ مَا يَحُلُّ بِكُمْ وَهُوَ أَمْرُ تَهْدِيدٍ وَوَعِيدٍ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ أَمْرٌ بِالْكَفِّ عَنِ الْقِتَالِ فَهُوَ مَنْسُوخٌ عِنْدَهُ بِآيَةِ السَّيْفِ.
إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ صِرَاطَهُ مُسْتَقِيمٌ وَنَهَى عَنِ اتِّبَاعِ السُّبُلِ وَذَكَرَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْهِ وَذَكَرَ الْقُرْآنَ وَأَمَرَ بِاتِّبَاعِهِ وَذَكَرَ مَا يَنْتَظِرُ الْكُفَّارُ مِمَّا هُوَ كَائِنٌ بِهِمُ، انْتَقَلَ إِلَى ذِكْرِ مَنِ اتَّبَعَ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَتْ بِهِ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لِيُنَبِّهَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الِائْتِلَافِ عَلَى الدِّينِ الْقَوِيمِ، وَلِئَلَّا يَخْتَلِفُوا كَمَا اخْتَلَفَ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ بَعْدَ أَنْ كَانُوا مُتَّفِقِينَ عَلَى الشَّرَائِعِ الَّتِي بُعِثَ أَنْبِيَاؤُهُمْ بِهَا وَالَّذِينَ فَرَّقُوا دَيْنَهُمُ الْحَرُورِيَّةُ أَوْ أَهْلُ الضَّلَالَةِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَوْ أَصْحَابُ الْبِدَعِ أَوِ الْأَهْوَاءِ مِنْهُمْ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَحْوَصِ وَأُمِّ سَلَمَةَ أَوِ الْيَهُودُ أَوْ هُمْ وَالنَّصَارَى وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ والضحاك وقتادة، أَيْ فَرَّقُوا دِينَ إِبْرَاهِيمَ الْحَنِيفَ أَوْ هُمْ مُشْرِكُو الْعَرَبِ أَوِ الْكُفَّارُ وَأَهْلُ الْبِدَعِ أَقْوَالٌ سِتَّةٌ. وَافْتِرَاقُ النَّصَارَى إِلَى مِلْكِيَّةٍ وَيَعْقُوبِيَّةٍ وَنَسْطُورِيَّةٍ
700
وَتَشَعَّبُوا إِلَى اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَافْتِرَاقُ الْيَهُودِ إِلَى مُوسَوِيَّةٍ وَهَارُونِيَّةٍ وَدَاوُدِيَّةٍ وَسَامِرِيَّةٍ وَتَشَعَّبُوا إِلَى اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَافْتِرَاقُ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا مَنْ كَانَ عَلَى مَا عَلَيْهِ الرَّسُولُ وَأَصْحَابُهُ. وَقِيلَ: مَعْنَى فَرَّقُوا دِينَهُمْ آمَنُوا بِبَعْضٍ وَكَفَرُوا بِبَعْضٍ، وَأَضَافَ الدِّينَ إِلَيْهِمْ مِنْ حَيْثُ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَلْتَزِمُوهُ إِذْ هُوَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي أَلْزَمَهُ الْعِبَادَ فَهُوَ دِينُ جَمِيعِ النَّاسِ بِهَذَا الْوَجْهِ.
وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَالْأَخَوَانِ فَارَقُوا هُنَا وَفِي الرُّومِ بِأَلِفٍ
وَمَعْنَاهَا قَرِيبٌ مِنْ قِرَاءَةِ بَاقِي السَّبْعَةِ بِالتَّشْدِيدِ تَقُولُ ضَاعَفَ وَضَعَّفَ. وَقِيلَ: تَرَكُوهُ وَبَايِنُوهُ، وَمَنْ فَرَّقَ دِينَهُ فَآمَنَ بِبَعْضٍ وَكَفَرَ بِبَعْضٍ فَقَدْ فَارَقَ دِينَهُ الْمَطْلُوبَ مِنْهُ. وَقَرَأَ إِبْرَاهِيمُ وَالْأَعْمَشُ وَأَبُو صَالِحٍ فَرَّقُوا بِتَخْفِيفِ الرَّاءِ وَكانُوا شِيَعاً أَيْ أَحْزَابًا كُلٌّ مِنْهُمْ تَابِعٌ لِشَخْصٍ لَا يَتَعَدَّاهُ لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ أَيْ لَسْتَ مِنْ تَفْرِيقِ دَيْنِهِمْ أَوْ مِنْ عِقَابِهِمْ أَوْ مِنْ قِتَالِهِمْ، أَوْ هُوَ إِخْبَارٌ عَنِ الْمُبَايَنَةِ التَّامَّةِ وَالْمُبَاعَدَةِ كَقَوْلِ النَّابِغَةِ:
إِذَا حَاوَلَتَ فِي أَسَدٍ فُجُورًا فَإِنِّي لَسْتُ مِنْكَ وَلَسْتَ مِنِّي
احْتِمَالَاتٌ أَرْبَعَةٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَيْ لَا تَشْفَعُ لَهُمْ وَلَا لَهُمْ بِكَ تَعَلُّقٌ وَهَذَا عَلَى الْإِطْلَاقِ فِي الْكُفَّارِ وَعَلَى جِهَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْعُصَاةِ وَالْمُتَنَطِّعِينَ فِي الشَّرْعِ إِذْ لَهُمْ حَظٌّ مِنْ تَفْرِيقِ الدِّينِ، وَلَمَّا نَفَى كَوْنَهُ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ حَصَرَ مَرْجِعَ أَمْرِهِمْ مِنْ هَلَاكٍ أَوِ اسْتِقَامَةِ إِلَيْهِ تَعَالَى وَأَخْبَرَ أَنَّهُ مُجَازِيهِمْ بِأَفْعَالِهِمْ وَذَلِكَ وَعِيدٌ شَدِيدٌ لَهُمْ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: هَذِهِ آيَةٌ لَمْ يُؤْمَرْ فِيهَا بِقِتَالٍ وَهِيَ مَنْسُوخَةٌ بِالْقِتَالِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا كَلَامٌ غَيْرُ مُتْقَنٍ فَإِنَّ الْآيَةَ خَبَرٌ لَا يَدْخُلُهُ نَسْخٌ وَلَكِنَّهَا تَضَمَّنَتْ بِالْمَعْنَى أَمْرًا بِمُوَادَعَةٍ فَيُشْبِهُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ النَّسْخُ وَقَعَ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى الَّذِي قَدْ تَقَرَّرَ فِي آيَاتٍ أُخَرَ.
مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ رَوَى الْخُدْرِيُّ وَابْنُ عُمَرَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْأَعْرَابِ الَّذِينَ آمَنُوا بَعْدَ الْهِجْرَةِ ضُوعِفَتْ لَهُمُ الْحَسَنَةُ بِعَشْرٍ وَضُوعِفَ لِلْمُهَاجِرِينَ تِسْعَمِائَةٍ ذَكَرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقَالَ: يُحْتَاجُ إِلَى إِسْنَادٍ يَقْطَعُ الْعُذْرَ انْتَهَى. وَلَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ يُنَبِّئُهُمْ بِفِعْلِهِمْ ذَكَرَ كَيْفِيَّةَ الْمُجَازَاةِ وَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا مُشْعِرًا بِقِسْمَيْهِ مِمَّنْ ثَبَتَ عَلَى دِينِهِ قَسَّمَ الْمُجَازِينَ إِلَى جَاءَ بِحَسَنَةٍ وَجَاءَ بِسَيِّئَةٍ، وَفُسِّرَتِ الْحَسَنَةُ بِالْإِيمَانِ وَعَشْرُ أَمْثَالِهَا تَضْعِيفُ أُجُورِهِ أَيْ ثَوَابُ عَشْرِ أَمْثَالِهَا فِي الْجَنَّةِ، وَفُسِّرَتِ السَّيِّئَةُ بِالْكُفْرِ وَمِثْلُهَا النَّارُ وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنِ الْخُدْرِيِّ وَابْنِ عُمَرَ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَمُجَاهِدٌ وَالْقَاسِمُ بْنُ أَبِي بَزَّةَ وَغَيْرُهُمْ: الْحَسَنَةُ هُنَا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَالسَّيِّئَةُ الْكُفْرُ،
701
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْعَدَدَ مُرَادٌ. وَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: لَيْسَ عَلَى التَّحْدِيدِ حَتَّى لَا يُزَادَ عَلَيْهِ وَلَا يُنْقَصَ مِنْهُ بَلْ عَلَى التَّعْظِيمِ لِذَلِكَ إِذْ هَذَا الْعَدَدُ لَهُ خَطَرٌ عِنْدَ النَّاسِ أَوْ عَلَى التَّمْثِيلِ كَقَوْلِهِ:
كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ «١». وَقَالَ: مَنْ جاءَ وَلَمْ يَقُلْ مَنْ عَمِلَ لِيُعْلَمَ أَنَّ النَّظَرَ إِلَى مَا خُتِمَ بِهِ وَقُبِضَ عَلَيْهِ دُونَ مَا وُجِدَ مِنْهُ مِنَ الْعَمَلِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: مَنْ خُتِمَ لَهُ بِالْحَسَنَةِ وَكَذَلِكَ السَّيِّئَةُ انْتَهَى. وَأَنَّثَ عَشْرًا وَإِنْ كَانَ مُضَافًا إِلَى جَمْعٍ مُفْرَدٍ مِثْلٌ وَهُوَ مُذَكَّرٌ رَعْيًا لِلْمَوْصُوفِ الْمَحْذُوفِ، إِذْ مُفْرَدُهُ مُؤَنَّثٌ وَالتَّقْدِيرُ فَلَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ أَمْثَالِهَا وَنَظِيرُهُ فِي التَّذْكِيرِ مَرَرْتُ بِثَلَاثَةِ نَسَّابَاتٍ رَاعَى الْمَوْصُوفَ الْمَحْذُوفَ أَيْ بِثَلَاثَةِ رِجَالٍ نَسَّابَاتٍ. وَقِيلَ: أَنَّثَ عَشْرًا وَإِنْ كَانَ مُضَافًا إِلَى مَا مُفْرَدُهُ مُذَكَّرٌ لِإِضَافَةِ أَمْثَالٍ إِلَى مُؤَنَّثٍ وَهُوَ ضَمِيرُ الْحَسَنَةِ كَقَوْلِهِ: يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ «٢» قَالَهُ أَبُو عَلِيٍّ وَغَيْرُهُ. وَقِيلَ: الْحَسَنَةُ وَالسَّيِّئَةُ عَامَّانِ وَهُوَ الظَّاهِرُ وَلَيْسَا مَخْصُوصَيْنِ بِالْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ وَيَكُونُ وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ مَخْصُوصًا بِمَنْ أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى وَقَضَى بِمُجَازَاتِهِ عَلَيْهَا، وَلَمْ يَقَضِ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ وَكَوْنُهُ لَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُزَادُ إِنْ كَانَ مَفْهُومُ الْعَدَدِ قَوِيًّا فِي الدَّلَالَةِ إِذْ تَكُونُ الْعَشْرَ هِيَ الْجَزَاءُ عَلَى الْحَسَنَةِ وَمَا زَادَ فَهُوَ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ كَمَا قَالَ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ وَالْأَعْمَشُ وَيَعْقُوبُ وَالْقَزَّازُ عَنْ عَبْدِ الْوَارِثِ عَشْرٌ بِالتَّنْوِينِ أَمْثَالُهَا بِالرَّفْعِ عَلَى الصِّفَةِ لِعَشْرٍ وَلَا يَلْزَمُ مِنَ الْمِثْلِيَّةِ أَنْ يَكُونَ فِي النَّوْعِ بَلْ يُكْتَفَى أَنْ يَكُونَ فِي قَدْرٍ مُشْتَرَكٍ، إِذِ النَّعِيمُ السَّرْمَدِيُّ وَالْعَذَابُ الْمُؤَبَّدُ لَيْسَا مُشْتَرِكَيْنِ فِي نَوْعِ مَا كَانَ مَثَلًا لَهُمَا لَكِنَّ النَّعِيمَ مُشْتَرِكٌ مَعَ الْحَسَنَةِ فِي كَوْنِهِمَا حَسَنَتَيْنِ وَالْعَذَابَ مُشْتَرِكٌ مَعَ السَّيِّئَةِ فِي كَوْنِهِمَا يَسُوءَانِ، وَظَاهِرُ مَنْ جَاءَ الْعُمُومُ. وَقِيلَ:
يَخْتَصُّ بِالْأَعْرَابِ الَّذِينَ أَسْلَمُوا كَمَا ذُكِرَ فِي سَبَبِ النُّزُولِ. وَقِيلَ: بِمَنْ آمَنَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ. وَقِيلَ: بِهَذِهِ الْأُمَّةِ وَهِيَ أَدْنَى الْمُضَاعَفَةِ. وَقِيلَ: الْعَشْرُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْمَالِ وَالسَّبْعُونَ عَلَى بَعْضِهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ لَا يُنْقَصُ مِنْ ثَوَابِهِمْ وَلَا يُزَادُ فِي عِقَابِهِمْ.
قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أَمَرَهُ تَعَالَى بِالْإِعْلَانِ بِالشَّرِيعَةِ وَنَبْذِ مَا سِوَاهَا وَوَصَفَهَا بِأَنَّهَا طَرِيقٌ مُسْتَقِيمٌ لَا عِوَجَ فِيهَا وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ: وَأَنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلَمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْفِرَقِ أَمَرَهُ أَنْ يُخْبِرَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ تِلْكَ الْفِرَقِ بَلْ هُوَ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ وَأَسْنَدَ الْهِدَايَةَ إِلَى رَبِّهِ لِيَدُلَّ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِعِبَادَتِهِ إِيَّاهُ كأنه قيل: هداني
(١) سورة الحديد: ٥٧/ ٢١.
(٢) سورة يوسف: ١٢/ ١٠.
702
مَعْبُودِي لَا مَعْبُودُكُمْ مِنَ الْأَصْنَامِ وَمَعْنَى هَدانِي خَلَقَ فِيَّ الْهِدَايَةَ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ:
دَلَّنِي. قَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: وَهَذَا بَاطِلٌ إِذْ لَا فَائِدَةَ فِي تَخْصِيصِهِ لِأَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ كَذَلِكَ.
دِيناً قِيَماً بِالْحَقِّ وَالْبُرْهَانِ.
مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَذْكَرَهُمْ أَنَّ هَذَا الدِّينَ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ هُوَ مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ وَهُوَ النَّبِيُّ الَّذِي يُعَظِّمُهُ أَهْلُ الشَّرَائِعِ وَالدِّيَانَاتِ وَتَزْعُمُ كُفَّارُ قُرَيْشٍ أَنَّهُمْ عَلَى دِينِهِ، فَرَدَّ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَانْتَصَبَ دِيناً عَلَى إِضْمَارِ عَرَّفَنِي لِدَلَالَةِ هَدَانِي عَلَيْهِ أَوْ بِإِضْمَارِ هَدَانِي أَوْ بِإِضْمَارِ اتَّبِعُوا وَالْزَمُوا، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ لِهَدَانِي عَلَى الْمَعْنَى كَأَنَّهُ قَالَ: اهْتِدَاءً أَوْ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ إِلَى صِرَاطٍ عَلَى الْمَوْضِعِ لِأَنَّهُ يُقَالُ:
هَدَيْتُ الْقَوْمَ الطَّرِيقَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً «١». وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ وَابْنُ عَامِرٍ قِيَمًا وَتَقَدَّمَ تَوْجِيهُهُ فِي أَوَائِلِ سُورَةِ النِّسَاءِ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ قَيِّمًا كسيد وملة بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: دِيناً وحَنِيفاً تَقَدَّمَ إِعْرَابُهُ فِي قَوْلِهِ: بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً «٢» فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وحَنِيفاً نُصِبَ عَلَى الْحَالِ مِنَ إِبْرَاهِيمَ.
قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ الظَّاهِرُ أَنَّ الصَّلَاةَ هِيَ الَّتِي فُرِضَتْ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: صَلَاةُ اللَّيْلِ. وَقِيلَ: صَلَاةُ الْعِيدِ لِمُنَاسَبَةِ النُّسُكِ. وَقِيلَ: الدُّعَاءُ وَالتَّذَلُّلُ وَالنُّسُكُ يُطْلَقُ عَلَى الصَّلَاةِ أَيْضًا وَعَلَى الْعِبَادَةِ وَعَلَى الذَّبِيحَةِ، وَأَمَّا فِي الْآيَةِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ وَابْنُ قُتَيْبَةَ: هِيَ الذَّبَائِحُ الَّتِي تُذْبَحُ لِلَّهِ وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا كَمَا قَالَ:
فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ «٣» وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّهَا نَازِلَةٌ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا، وَالْجِدَالُ فِيهَا فِي السُّورَةِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: الدِّينُ وَالْمَذْهَبُ. وَقِيلَ: الْعِبَادَةُ الْخَالِصَةُ وَمَعْنَى وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُمَا إِلَّا اللَّهُ أَوْ حَيَاتِي لِطَاعَتِهِ وَمَمَاتِي رُجُوعِي إِلَى جَزَائِهِ أَوْ مَا آتِيهِ فِي حَيَاتِي مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَمَا أَمُوتُ عَلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ لِلَّهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: مَعْنَى كَوْنِهِمَا لِلَّهِ لِخَلْقِ اللَّهِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ طَاعَةَ الْعَبْدِ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَمَرَهُ تَعَالَى أَنْ يُعْلِنَ أَنَّ مَقْصِدَهُ فِي صَلَاتِهِ وَطَاعَاتِهِ مِنْ ذَبِيحَةٍ وَغَيْرِهَا وَتَصَرُّفِهِ مُدَّةَ حَيَّاتِهِ وَحَالِهِ مِنَ الْإِخْلَاصِ وَالْإِيمَانِ عِنْدَ مَمَاتِهِ إِنَّمَا هُوَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِرَادَةِ وَجْهِهِ وَطَلَبِهِ رِضَاهُ، وَفِي إِعْلَانِ النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ مَا يُلْزِمُ الْمُؤْمِنِينَ التَّأَسِّي بِهِ حَتَّى يَلْزَمُوا فِي جَمِيعِ أَعْمَالِهِمْ قَصْدَ وَجْهِهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَهُ تَصَرُّفُهُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ كَيْفَ شَاءَ. وقرأ الحسن
(١) سورة الفتح: ٤٨/ ٢.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ١٣٥.
(٣) سورة الكوثر: ١٠٨/ ٢.
703
وَأَبُو حَيْوَةَ وَنُسُكِي بِإِسْكَانِ السِّينِ وَمَا رُوِيَ عَنْ نَافِعٍ مِنْ سُكُونِ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ فِي مَحْيايَ هُوَ جَمْعٌ بَيْنَ سَاكِنَيْنِ أُجْرِيَ الْوَصْلُ فِيهِ مَجْرَى الْوَقْفِ وَالْأَحْسَنُ فِي الْعَرَبِيَّةِ الْفَتْحُ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ:
هِيَ شَاذَّةٌ فِي الْقِيَاسِ لِأَنَّهَا جَمَعَتْ بَيْنَ سَاكِنَيْنِ وَشَاذَّةٌ فِي الِاسْتِعْمَالِ وَوَجْهُهَا أَنَّهُ قَدْ سُمِعَ مِنَ الْعَرَبِ الْتَقَتْ حَلَقَتَا الْبِطَانِ وَلِفُلَانٍ بَيْتَا الْمَالِ، وَرَوَى أَبُو خَالِدٍ عَنْ نَافِعٍ وَمَحْيايَ بِكَسْرِ الْيَاءِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَعِيسَى وَالْجَحْدَرِيُّ وَمَحْيَيَّ عَلَى لُغَةِ هُذَيْلٍ كَقَوْلِ أَبِي ذُؤَيْبٍ:
سَبَقُوا هَوَيَّ.
وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي بِفَتْحِ الْيَاءِ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَاصِمٍ مِنْ سُكُونِ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ.
لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ الظَّاهِرُ نَفْيُ كُلِّ شَرِيكٍ فَهُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ شَرِيكٍ فَتَخْصِيصُ ذَلِكَ بِمَا قِيلَ مِنْ أَنَّهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي الْعَالَمِ أَوْ لَا شَرِيكَ لَهُ فِيمَا أَتَقَرَّبُ بِهِ مِنَ الْعِبَادَةِ أَوْ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي الْخَلْقِ وَالتَّدْبِيرِ أَوْ لَا شَرِيكَ فِيمَا شَاءَ مِنْ أَفْعَالِهِ الْأَوْلَى بِهَا أَنْ تَكُونَ عَلَى جِهَةِ التَّمْثِيلِ لَا عَلَى التَّخْصِيصِ حَقِيقَةً، وَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى مَا بَعْدَ الْأَمْرَيْنِ قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَمَا بَعْدَهَا أَوْ إِلَى قَوْلِهِ: لَا شَرِيكَ لَهُ فَقَطْ أَقْوَالٌ ثَلَاثَةٌ أَظْهَرُهَا الْأَوَّلُ، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الْمُسْلِمِينَ لِلْعَهْدِ وَيَعْنِي بِهِ هَذِهِ الْأُمَّةَ لِأَنَّ إِسْلَامَ كُلِّ نَبِيٍّ سَابِقٌ عَلَى إِسْلَامِ أُمَّتِهِ لِأَنَّهُمْ مِنْهُ يَأْخُذُونَ شَرِيعَتَهُ قَالَهُ قَتَادَةُ. وَقِيلَ: مِنَ الْعَرَبِ. وَقِيلَ: مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: أَوَّلُهُمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ. وَقِيلَ: أَوَّلُهُمْ فِي الْمَزِيَّةِ وَالرُّتْبَةِ وَالتَّقَدُّمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: مُذْ كُنْتُ نَبِيًّا كُنْتُ مُسْلِمًا كُنْتُ نَبِيًّا وَآدَمُ بَيْنَ الْمَاءِ وَالطِّينِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: مَعْنَاهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ إِذْ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَيْسَ أَوَّلًا لِكُلِّ مُسْلِمٍ انْتَهَى. وَفِيهِ إِلْغَاءُ لَفْظِ أَوَّلٍ وَلَا تُلْغَى الْأَسْمَاءُ وَالْأَحْسَنُ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ. قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ
حَكَى النَّقَّاشُ أَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ الْكُفَّارَ قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ارْجِعْ يَا مُحَمَّدُ إِلَى دِينِنَا وَاعْبُدْ آلِهَتَنَا وَاتْرُكْ مَا أَنْتَ عَلَيْهِ وَنَحْنُ نَتَكَفَّلُ لَكَ بِكُلِّ مَا تُرِيدُ فِي دُنْيَاكَ وَآخِرَتِكَ فَنَزَلَتْ
هَذِهِ الْآيَةُ وَالْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ وَمَعْنَاهُ الْإِنْكَارُ وَالتَّوْبِيخُ وَهُوَ رَدٌّ عَلَيْهِمْ إِذْ دَعَوْهُ إِلَى آلِهَتِهِمْ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ كَيْفَ يَجْتَمِعُ لِي دَعْوَةُ غَيْرِ اللَّهِ رَبًّا وَغَيْرُهُ مَرْبُوبٌ لَهُ. وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها أَيْ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ شَيْئًا يَكُونُ عَاقِبَتُهُ عَلَى أَحَدٍ إِلَّا عَلَيْهَا. وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى أَيْ لَا تُذْنِبُ نَفْسٌ مُذْنِبَةٌ ذَنْبَ نَفْسٍ أُخْرَى وَالْمَعْنَى لا تؤاخذ بِغَيْرِ وِزْرِهَا فَهُوَ تَأْكِيدٌ لِلْجُمْلَةِ قَبْلَهُ وَهُوَ جَوَابٌ لِقَوْلِهِمُ اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلِنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ.
704
ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ أَيْ مَرْجِعُكُمْ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالتَّنْبِئَةُ عِبَارَةٌ عَنِ الْجَزَاءِ وَالَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ هُوَ مِنَ الْأَدْيَانِ وَالْمَذَاهِبِ يُجَازِيكُمْ بِمَا تَرَتَّبَ عَلَيْهَا مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَسِيَاقُ هَذِهِ الْجُمَلِ سِيَاقُ الْخَبَرِ وَالْمَعْنَى عَلَى الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ، وَقِيلَ: بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ فِي أَمْرِي مِنْ قَوْلِ بَعْضِكُمْ هُوَ شَاعِرٌ سَاحِرٌ وَقَوْلِ بَعْضِكُمُ افْتَرَاهُ وَبَعْضِكُمُ اكْتَتَبَهُ وَنَحْوِ هَذَا.
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ أَذْكَرَهُمْ تَعَالَى بِنِعْمَتِهِ عَلَيْهِمْ إِذْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُبْعَثَ وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ فَأُمَّتُهُ خَلَفَتْ سَائِرَ الْأُمَمِ وَلَا يَجِيءُ بَعْدَهَا أُمَّةٌ تَخْلُفُهَا إِذْ عَلَيْهِمْ تَقُومُ السَّاعَةُ،
وَقَالَ الْحَسَنُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «تُوفُونَ سَبْعِينَ أُمَّةً أَنْتُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ»
وَرُوِيَ «أَنْتُمْ آخِرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ»
وَرَفْعُ الدَّرَجَاتِ هُوَ بِالشَّرَفِ فِي الْمَرَاتِبِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْعِلْمِ وَسَعَةِ الرِّزْقِ ولِيَبْلُوَكُمْ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ وَرَفَعَ فِيمَا آتَاكُمْ مِنْ ذَلِكَ جَاهًا وَمَالًا وَعِلْمًا وَكَيْفَ تَكُونُونَ فِي ذَلِكَ، وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِبَنِي آدَمَ خُلِّفُوا فِي الْأَرْضِ عَنِ الْجِنِّ أَوْ عَنِ الْمَلَائِكَةِ، وَقِيلَ: يَخْلُفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَقِيلَ: خُلَفَاءُ الْأَرْضِ تَمْلِكُونَهَا وَتَتَصَرَّفُونَ فِيهَا.
إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ لَمَّا كَانَ الِابْتِلَاءُ يَظْهَرُ بِهِ الْمُسِيءُ وَالْمُحْسِنُ وَالطَّائِعُ وَالْعَاصِي ذَكَرَ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ وَخَتَمَ بِهِمَا وَلَمَّا كَانَ الْغَالِبُ عَلَى فَوَاصِلِ الْآيِ قَبْلَهَا هُوَ التَّهْدِيدُ بَدَأَ بِقَوْلِهِ سَرِيعُ الْعِقَابِ يَعْنِي لِمَنْ كَفَرَ مَا أَعْطَاهُ اللَّهُ تَعَالَى وَسُرْعَةُ عِقَابِهِ إِنْ كَانَ فِي الدُّنْيَا فَالسُّرْعَةُ ظَاهِرَةٌ، وَإِنْ كَانَ فِي الْآخِرَةِ فَوُصِفَ بِالسُّرْعَةِ لِتَحَقُّقِهِ إِذْ كُلُّ مَا هُوَ آتٍ آتٍ وَلَمَّا كَانَتْ جِهَةُ الرَّحْمَةِ أَرْجَى أَكَّدَ ذَلِكَ بِدُخُولِ اللَّامِ فِي الْخَبَرِ وَيَكُونُ الْوَصْفَيْنِ بُنِيَا بِنَاءَ مُبَالَغَةٍ وَلَمْ يَأْتِ فِي جِهَةِ الْعِقَابِ بِوَصْفِهِ بِذَلِكَ فَلَمْ يَأْتِ إِنَّ رَبَّكَ مُعَاقِبٌ وَسَرِيعُ الْعِقَابِ مِنْ بَابِ الصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ.
705
Icon