تفسير سورة الأنعام

تفسير ابن عرفة - النسخة الكاملة
تفسير سورة سورة الأنعام من كتاب تفسير ابن عرفة المعروف بـتفسير ابن عرفة - النسخة الكاملة .
لمؤلفه ابن عرفة . المتوفي سنة 803 هـ

سُورَةُ الْأَنْعَامِ
قال ابن عطية: السورة مكية إلا آيات ستة.
قال ابن عرفة: كان ابن عبد السلام ينكر ما يفعله العوام من أنهم يقرأونها في مرة واحدة بناء على أنها منزلة دفعة واحدة، قال: لأن الذي في كتب التفسير وفي الحديث الصحيح أنها أنزلت في مكة إلا ست منها.
قوله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ... (١)﴾
أفرد الأرض إما لأنها واحدة، أو لأن المشاهد لنا منها أرض واحدة بخلاف السماوات.
قوله تعالى: (وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ).
جعل بمعنى صير، والظلمات إما أمر وجودي أو أمر عدمي بناء على أن العدم الإضافي جعلي فيصح أن يكون أثر القدرة أولا، وجمع الظلمات وأفرد النور إما لتشعب طرق الشرك وطريق الحق واحدة.
قال بعضهم: ويؤخذ منها أن في التوحيد والاعتقاد النور.
قوله تعالى: (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا).
العطف بـ ثم؛ لأن من ظهرت له الدلائل السمعية الظاهرة يبعد كفره مع وجودها.
قوله تعالى: ﴿ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ... (٢)﴾
قال ابن عرفة: الظاهر عندي أنه الأجل هو الأول هو الأجل المعتاد كقولهم في المفقود: أنه يعمر سبعين سنة، وقيل: ثمانين أو تسعين أو مائة وعشرين فهذا أجل مقتضى معتاد، والأجل المسمى عنده هو أجله الحقيقي الذي قدر له في اللوح المحفوظ، وكذلك أصحاب الصنائع كلها.
قوله تعالى: (وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ).
قال الزمخشري: فإن قلت: الكلام السائر أن يقال: عندي ثوب جديد ولي بعد كيس، قال: أوجب التقديم، قلت: أوجبه أن المعنى: وأي أجل مسمى عنده تعظيما لشأن الساعة فلما جرى فيه هذا المعنى وجب التقديم.
ابن عرفة: فإن قلت: الذي نص سيبويه وغيره على أن الأصل تقديم المبتدأ المسند إليه على المسند، قلنا: إما باعتبار حقيقة ذلك فهو الأصل، وإما باعتبار الكلام فالأكثر في كلامهم تقديم المسند فيقال: عندي ثوب جديد.
قوله تعالى: ﴿وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ... (٣)﴾
ابن عرفة: احتج بها من يقول بالتجسيم، واحتج آخرون على منعه باستحالة حلول الجوهر الواحد والجسم الواحد في مكانين في زمن واحد، قيل لابن عرفة: لعله غير متناه فيحل في السماوات، وفي الأرض، يقال: جعل بعضه في هذه وبعضه في هذه، أو الآية اقتضت [... ] كله في الأرض [... ] وأنها لقوله تعالى: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ) أي بعلمه وإحاطته.
قوله تعالى: (يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ).
هذه دليل على أن متعلق الحواس الخمس من قبيل المعلومات بعد تقرير أن صفة السمع مغايرة لصفة البصر.
وقوله تعالى: (يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى)
قيل: هو كلام النفس، وقال بعضهم: هو الكلام قبل كونه سرا.
قوله تعالى: ﴿وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (٤)﴾
قال الزمخشري: من الثانية للتبعيض.
ابن عرفة: ويحتمل أن يكون لبيان الجنس تعظيما للآية وتنزيلا لها منزلة كل الآيات إشارة إلى أن كل آية في نفسها عظيمة تقوم مقام الآيات الكثيرة.
قوله تعالى: (إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ).
من شرط قيام الصفة بالموصوف عدم اتصافه بضدها وهم لما أتتهم الآية الثالثة على صدق الرسول المشروطة بالنظر أعرضوا عنها، ولم ينظروا فلو نظروا لآمنوا فشرط الإيمان النظر في الآية فاتصفوا بضد شرطها وهو الإعراض.
قوله تعالى: ﴿فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ... (٥)﴾... إشارة إلى غوايتهم وشدة تعنتهم في مبادرتهم بالتكذيب بنفس المجيء من غير تأن ولا تأمل.
قوله تعالى: ﴿مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ... (٦)﴾
التمكين فيها هو جوزها جوزا يستلزم التصرف فيها بما شاء من أنواع التصرفات.
قال الزمخشري: مكن لعاد وثمود وغيرهم في البسطة في الأجسام والسعة في الأموال واستظهار بأسباب الدنيا.
قوله تعالى: ﴿وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ... (٧)﴾
قال ابن عطية: يشبه أن يكون سبب نزول هذه اقتراح عبد الله بن أبي أمية وتعنته إذ قال للنبي صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم: لا أومن لك حتى تصعد إلى السماء ثم تنزل بكتاب فيه من رب العزة إلى عبد الله بن أبي أمية، يأمرني بتصديقك.
قال ابن عرفة: سبب في ما لَا يصح أن يقرر به مناسبتها لما قبلها بوجه، قال: وإنما سبب نزولها عندي أحد أمرين، إما لأنه لما تقدمها التنبيه على وعظهم وتخوفهم بأنه أرضيته وهو وجود أعم قبلهم تعنتوا وخالفوا فأهلكوا، ومع ذلك فلم يتعظوا بهم ولم ينفع ذلك فيهم عقبه ببيان أنهم لو نزل عليهم آية سماوية لما آمنوا، وإمَّا لأن الأول إخبار لهم عن قوم مضوا كانوا كفروا عقبه ببيان أنهم كما لم ينفع فيهم الإخبار عمن هلكوا بعد أن كفروا كذلك لَا ينفع فيهم الأمر الغريب المشاهد الذي لمسوه بأيديهم.
قال ابن عرفة: والآية تدل على أن العلوم تتفاوت فالعلم المحسوس هو أقرب وهذا نظير ما قرروه من أن النظر يعرض له الغلط والاختلاف خلاف اللمس.
قوله تعالى: (لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا). هذا من وضع الظاهر موضع المضمر، أي: لقالوا.
قوله تعالى: ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا... (٩)﴾
قال ابن عرفة: هذا من القياس المقسم أي لو جعلناه ملكا لما آمنوا؛ لأنه إما أن يجعل ملكا على صورة الملائكة، أو ملكا على صورة رجل، فإن جعل على صورة الملائكة فلا يستطيعون النظر إليه وإن نظروا إليه هلكوا، وإن جعل ملكا في صورة رجل فإنهم يتشككون فيه ويدعون أنه غير رسول.
قال ابن عرفة: وعادتهم يوردون أن هذا من ترتيب الشيء على نقيضه إذ لَا يقال: لو كان البحر متحركا لكان ساكنا؛ لأن اجتماعهما محال، قال: وأجيب بوجهين:
إما أنه من الترتيب على المحال والمحال قد يستلزم محالات، وإما أن ذلك في الأمر العقلي وهذا أمر جعلي شرعي فيصح كون النتيجة مناقضة للمقدم.
قوله تعالى: (وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ).
قال ابن عرفة: كان بعضهم يقول: انظر هل هذا مثل: ضربته ضربا، أو مثل: ضربته ضرب الأمير، قال: والجواب أنا إذا بنينا على مذهب المعتزلة في أن العبد يخلق أفعاله فهو مثل: ضربت ضرب الأمير، وكذلك إن بنينا على مذهب أهل السنة في [إثبات*] الكسب، وأما إن بنينا على مذهبه من [نفى الكسب*] وقال: لَا فاعل إلا الله فهو مثل: ضربته ضربا.
قوله تعالى: ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا... (١١)﴾
قلت: معناه إباحة السير للتجارة وغيرها في الأرض، وإيجاب النظر في آثار الهالكين، وعطف بـ ثم لتباعد ما بين الواجب والمباح.
وقوله تعالى: (فَانْظُرُوا).
جعل النظر مسببا عن السير لم يسيروا لأجل النظر فجعل السير عن النظر فيكون السير سببا ومسببا، وهذا تناقض، وأجاب ابن عرفة بأنه سبب بوجهين واعتبارين فالنظر سبب في السير بأن يكون هو [العلة الغائية*] فهو سبب ذهني، والسير سبب وجودي موصول إلى النظر.
قوله تعالى: ﴿فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (١٢)﴾
الصواب أن يرجع إلى ما تقدم أي فهم لَا يؤمنون بالمعاد وبجميع ما سبق فلذلك كانوا خاسرين.
قوله تعالى: ﴿وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣)﴾
إما أن يراد نفس السكون وهو أكثر من نفس الحركة، إذ لَا حركة إلا وقبلها سكون، ولأن الحركة نفسها دالة على الحدوث وأن لها خالقا بخلاف السكون.
قوله تعالى: (وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ).
لف ونشر.
قوله تعالى: ﴿قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا... (١٤)﴾
هذا ما يفهمه إلا من قرأ أصول الدين وعلم أن الغيرين يطلقان على المثلين.
قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥)﴾
وفيه دليل على أن عظم المظروف يستلزم عظم الظرف، أبو حيان: هذه جملة شرطية فلا موضع لها كالاعتراض بالقسم.
وقيل: هي في موضع نصب على الحال، أي قل: إني أخاف عاصيا ربي، وأبطله ابن عرفة: من جهة المعنى، قال: والصواب أن يقول: قل إني أخاف مفروضا عصياني (رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ).
قال ابن عرفة: والآية دالة على صحة المقدمة الكبرى.
وقول الفخر في المعالم: تارك المأمور به عاص، وكل عاص يستحق العذاب، فأفاد ترتيب العذاب العظيم على مطلق العصيان، وفيه رد على من يقول إن العصيان على تارك المندوب، لقوله تعالى: (عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)، وفيه دليل على أن عظم المظروف يستلزم عظم الظرف، ولولا ذلك لما وصف اليوم بقوله (عَظِيم)، وفي لفظ الرب إشارة إلى شدة خوفه. لأنه إذا خاف من الله حالة استحضار رأفته ورحمته فأحرى أن يخاف منه حالة استحضار عزته وقهره.
قوله تعالى: ﴿مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ... (١٦)﴾
أبو حيان: مفعول يصرف محذوف اختصارا تقديره: أي شيء يصرف الله العذاب عنه.
وجعل أبو علي المفعول المحذوف متميزا عائدا على العذاب، قال: وليس حذف الضمير بالسهل.
قال ابن عرفة: لَا صعوبة فيه؛ لأنه إن رد الصعوبة بحذف المفعول فلا صعوبة فيه، وإن ردها بحذف الضمير العائد على من فليس بمحذوف بل هو المجرور بـ عن ومن يصرف عنه العذاب عنه.
قوله تعالى: ﴿فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ... (١٧)﴾
إن قلت: لم حصر كشف الضر في الله تعالى ولم يخص [غيره*] بالصرفية، قال: والجواب بما تقرر في علم أصول الدين أن [الموصوف*] بالشيء قادر على الاتصاف بنقيضه، فلما حصر كشف الصرفية؛ دل على أن غيره لَا يكشف الضر إذا لم يقدر على
كشف الضر، لم يقدر على نقيضه، وهو إيقاع الضر؛ لأن القادر على الشيء قادر على نقيضه، قيل له: أنا قادر على إدخال إصبعي في الخاتم، ولا يقدر على إخراجه، وقال: لم يقدر قط على إدخاله.
قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ... (١٨)﴾
ابن عرفة: الفوقية إما إشارة إلى قهره واستيلائه على العباد، أو بمعنى أنه فوق ما يظن من القهر والغلبة.
قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ... (٢٠)﴾
قال ابن عطية: قيل: الضمير عائد على التوحيد، وهو استشهاد في ذلك على مشركي كفار قريش بأهل الكتاب وهو منقطع عن الأول؛ لأنه يصح أن يستشهد بأهل الكتاب ويأتون في آية أخرى.
ابن عطية: يصح ذلك لوجهين واعتبارين، والحسن ما شهدت به الأعداء، والمعرفة:
قال الفخر: إنها راجعة إلى التصويرات، والعلم للتصديق، وأورد أن قولك: عرفت زيدا تصديق لَا تصور؛ لأنه حكم واجب بأن المراد المتعلق متعلق العلم محكوم به ومحكوم عليه؛ لكونه يتعدى إلى مفعولين، ومتعلق المعرفة محكوم عليه فقط، ورد بأن المراد تصور المحكوم به والمحكوم عليه وتصور النسبة التي بينهما.
قوله تعالى: (يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ).
ولم يقل: أولادهم؛ لأن محبة الإنسان ابنه أكثر من محبة ابنته، وموالاته لابنه أقوى من موالاته لابنته، فمعرفته بذكور بنيه أقوى من معرفته بإناثهم.
قال ابن عرفة: ودلت الآية على أن الصفة تنزل منزلة العين فأخذوا منها مطلبين:
الأول: أنها حجة للقول بجواز الغائب على الصفة إذا كانت تحيط به من جميع الوجوه.
الثاني: جواز الاكتفاء في الشهادة بالصفة عن التعريف، قال: وأجيب بأن الصفة إنما تتنزل منزلة الموصوف إذا كانت صفة خاصة، وهي التي تجب بها قرينة تخصها، والقرينة هنا هي المعجزة التي أوتيها الرسول دليلا على صدقه.
قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا... (٢١)﴾
قال ابن عرفة: هذه الآية رد على الجاحظ القائل بأن الكذب لَا يطلق إلا على من تعمد الإخبار بالشيء على خلاف ما هو به؛ لأنه إذا كان الكذب لَا يطلق إلا على من تعمد ذلك فما هو افتراء الكذب، وإذا جعل الكذب عاما في الأمرين، فنقول: افتراء الكذب هو التعمد على الشيء بخلافه، والكذب المطلق هو أن يجريه ناسيا فهذا كذب من غير افتراء.
قال ابن عرفة: أجابوا عن الجاحظ بأن الكذب على قسمين كذب في أمر ظاهر لا نشك فيه فهذا افتراء وكذب في أمر يمكن أن يكون حقا أو باطلا فهذا كذب من غير افتراء، قال: وهذا اللفظ تأسيس؛ لأن الكذب على الله بمنزلة من تجرأ على متاع السلطان فتصرف فيه ويكون كلامه بمنزلة من لم يصدق بما أتى من السلطان من الخبر فالأول أقوى جرأة.
قوله تعالى: (إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ).
دليل على شدة شر الظالم وعلى شؤم عدم الفلاح؛ لأنه ختم على هؤلاء به وعلل عذابهم بذلك، أو بمعنى بل أو بمعنى الواو، قيل لابن عرفة: إن جعلنا أو بمعنى الواو يبقى من اتصف بأحد الأمرين فقط غير دليل في الآية، قال: وإن لم يجعلها بمعنى الواو ولم يعن الآية؛ لأن المتصف بالأمرين هذا أظلم ممن اتصف بأحدهما بلا شك فيبقى من اتصف بأحدهما بلا شك أظلم من جميع النَّاس بل أظلم من بعضهم فقط.
قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا... (٢٢)﴾
ابن عرفة: اختلف في العامل في يوم، فقيل: قوله (لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) وعبر بالشركاء إما لأن المراد ظلمهم.
قوله تعالى: (شُرَكَاؤُكُمُ).
سؤال توبيخ وتبكيت.
ابن عرفة: وتقدم لنا في الآية سؤال وهو أن جوابها مخالف للسؤال لوقوع السؤال بالفعل مثبتا وهو (ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشرَكُوا)، والجواب بالاسم منفيا وهو (وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (٢٣).. ، ولم يقل: ما أشركنا مع أن نفي الأخص لَا يستلزم نفي الأعم فلا يلزم منه نفي مطلق الإشراك عنهم، قال: وتقدم الجواب بأن المراد نفي الإشراك الأخص الموجب للخلود في النار، وهو الإشراك المتصل بالنار، وأما نفي مطلق الإشراك فلا لأن من أشرك وتاب من شركه لَا يعذب.
قوله تعالى: ﴿انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ... (٢٤)﴾
قال ابن عرفة: تقدمنا فيها سؤال، وهو أنهم كذبوا لأنفسهم لَا عليها لكونهم قصدوا به منفعة أنفسهم لَا مضرتها، قال: والجواب أن الكذب هو الإخبار بالشيء على خلاف ما هو به فهم أخبروا عن أنفسهم بغير ما اتصفوا به فهم كاذبون عليها، فإن قلت: هلا قيل: كذبوا وضل عنهم، وما أفاد زيادة قوله (أَنْفُسِهِم)، قلنا: فائدة التشنيع عليهم في أنفسهم؛ لأنهم كذبوا عمدا عدوانا؛ لأن الكذب على الأجنبي يوهم فيه النسيان والخطأ، وهؤلاء كذبوا على من هم عاملون حقيقة.
ابن عطية: وقال كذبوا في أمر لم يقع إذ هو حكاية عن يوم القيامة، فوضع الماضي موضع المستقبل تحقيقا لوقوع الفعل، وإن كان في الدنيا فظاهر.
ابن عطية: وأضاف الشرك إليهم؛ لأنه لَا شركة في الحقيقة بين الأصنام وبين شيء.
قال ابن عرفة: وكان بعضهم يقول: إذا بنينا على الخلاف المذكور في الأصول في التقييد، بالحكم المشتمل على وصف مناسب إما أن يراعى فيه ذات الشيء، أو الوصف المناسب فإن روعي هنا ذات الشيء فهو سؤال عن الشركاء حقيقة وهم موجودون، وإن روعي هنا الوصف فليس ثم شركه ولا شركاء بوجه.
قوله تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٥)﴾
قال الزمخشري: سبب نزولها أن أبا سفيان والوليد، والنضر، وعقبة، وشيبة، وأبا جهل استمعوا قراءة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقالوا للنضر: يا أبا [قتيلة *] ما يقول محمد؟ قال: والذي جعلها [بيته*] يعني مكة ما أرى ما يقول محمد إلا أنه يحرك لسانه ويقول أساطير الأولين، فقال أبو سفيان: إني لا أراه إلا حقا، فقال أبو جهل: كلا فنزلت الآية، قال ابن عرفة: قول أبي سفيان إني لَا أراه إلا حقا محتمل أن يكون تصديقا كقول النضر، وهو الظاهر، أو لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو الظاهر لقول أبي جهل كلا، ابن عرفة: والآية إما حكاية حال ماضية للتصوير مثل (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً)، أو حال حقيقة؛ لأن ذلك وقع ولم يزل مشاهدا.
قوله تعالى: (وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً).
قرره الزمخشري على مذهبه.
قيل لابن عرفة: أكنة جمع قلة، وقلوبهم جمع كثرة، فكيف يسر القليل الكثير؟ فقال: استعمل جمع القلة هنا من أدائه الكثرة.
قال ابن عرفة: وتقدمنا سؤال وهو أن السمع متقدم في الوجود على الفهم إذ لا يفهم الإنسان الشيء حتى يسمعه، فقدم في اللفظ ما هو متأخر في الوجود.
قيل لابن عرفة: فقد يفهم من لَا يسمع وذلك من الكتب، فقال: الكتب من السمع إلا يرى أن الدلائل السمعية منها مسموع ومنها مكتوب، وكلها راجعة للسمع؛ لأن المكتوب يسمع قبل كتبه وحينئذ يكتب، وتقدم الجواب بما أجيب به في قوله تعالى: (فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ) من أن نفي الأعم يستلزم نفي الأخص، وثبوت الأخص يستلزم ثبوت الأعم ولا ينعكس، والمسموع أعم؛ لأن منه ما يفهم، ومنه ما لَا يفِهم، فلو قدم أولا لكان نفي الفهم عنه تأكيدا، فلما قيل (وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ) انتفى عنهم الفهم، وبقي السمع بلا فهم، فبقي ثانيا وكان تأسيسا، قلت: وأجاب بعضهم بأن المراد الفهم بقصد والسمع وصله، والمقصد أشرف من الوسيلة فقدر للاهتمام.
قوله تعالى: (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا).
هذا زيادة في التشنيع عليهم بأنهم لَا يؤمنون إلا بالمسموع أو بالمرئي، وعبر بأن الدلالة على الشك وعدم الوقوع؛ لأن رؤيتهم لكل الآية لم تقع وإنما الواقع رؤيتهم لبعضها، قال ابن عرفة: وكل هذه كما ذكر النحويون أنها إن ارتفعت تقتضي العموم، وإن انتصبت لم تعم، ذكروه في قوله:
قَدْ أصبحَتْ أمُّ الخِيارِ تَدَّعي عليَّ ذَنْباً كلُّه لم أَصْنعِ
وقال السكاكي: من البيانين أنها إن دخلت على كلام منفي اقتضت العموم، وإن دخل المنفي عليها لم تقتضي العموم.
قال ابن عرفة: والصحيح أيضا إن دخلت على أعم كانت كلية فلم تقتضى نحو كل حيوان، وإن دخلت على شخص كانت تقتضي العموم نحو: كل الرغيف أكلته.
قوله تعالى: [(وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٢٩) *] قال الزمخشري: إما أنه من تمام الأول، ولو ردوا لقالوا: (مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا)، وإما أنه قولهم في الآخرة، فيرجع لقوله (وَإِنَّهُم لَكَاذِبُونَ).
ابن عرفة: أو استئناف كلام أي واساهم هذا، فيرجع إلى قولهم في الدنيا.
قال ابن عرفة: والنَّاس على ثلاثة أقسام:
قوله: يقول هذا بلسان مقاله والآخر يقول بلسان حاله
وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو، وآخر لَا يقول شيئا، وحال النَّاس على ثلاثة أقسام: فالظالم المنهمك في ظلمه بأخذ أموال النَّاس ويفعل المحرمات شرعا مع علمه بتحريمها حاله كحال، من قال: (مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا)..
والزاهد في الدنيا المقبل على عبادة ربه والوقوت عند أمره ونهيه حاله كحال من قال: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ).
والمتوسط الحال كمن لم ينطق.
قوله تعالى: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ... (٣٠)﴾
أتى بلفظ الرب مع أن المقام مقام عذاب وانتقام.
قال ابن عرفة: فيجاب بما أجابوا في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) بأن كرمه ورحمته يوحيان الغرور به فلا سبيل يضل عنه، فأجابوا ثم إن المراد: ما غرك بربك المنعم عليك بإرسال الرسل، وبيان الدلائل والمواعظ والزواجر بحيث لَا عذر لك في المخالفة وكذلك هنا.
قوله تعالى: (أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ). إنما قاله لهم مباشرة وهو ظاهر الآية أو على لسان ملك وهو المناسب لحال المواددين.
قوله تعالى: (فَذُوقُوا الْعَذَابَ).
إلى شدة عذابهم؛ لأنه لما سمى هذا [عذابا *] دل على أن ما بعده أشد منه.
قوله تعالى: (بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ).
قيل لابن عرفة: احتج بها الفخر الخطيب على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، فقال: هذا كفر أخص.
قوله تعالى: ﴿قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً... (٣١)﴾
قال أبو حيان: الغاية هنا مجاز؛ لأن ما قبلها لَا ينقطع هنا عندها.
قال ابن عرفة: بل يقول: ينقطع ويكون من باب تأكيد الذم بما يشبه المدح كقوله:
هو الكلبُ إلاَّ أنَّ فيه ملالةً... وسوءَ مراعاةٍ وما ذاكَ في الكلبِ
قوله تعالى: (يَا حَسْرَتَنَا).
قلت: الحسرة اللائقة بهم فلذلك أضافوها إليهم.
قوله تعالى: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ... (٣٢)﴾
اللعب: الاشتغال بما لَا يفيد بأمر عن أمر ملائم، ولذلك أكثر ما يطلق اللعب على فعل الأطفال واللهو على الرجال.
قوله تعالى: (أَفَلا تَعْقِلُونَ).
المراد عقل النجاة والفوز لَا عقل التكليف وفعل المجانين من غير قصد، وفعل العقلاء عن قصد وكسب وأعذار، كان الكسب الرأي وهو العلم بما في العمل من مصلحة أو مفسدة، فالفعل إن كانت فيه مصلحة لَا يشهد الشرع باعتبارها فهو لعب ولهو، فمن يأكل ليتقوى على الطاعة فهو مندوب إليه وله فيها الثواب، ومن يأكل لإقامة بدنه خاصة فهذا لمصلحة خاصة فهو سبب النهي، ومن يأكل لمجرد الالتذاذ فهذا يشبه، ووقع في القرآن اللعب مقدما على اللهو مرة، ومؤخرا عنه أخرى فهو دليل على التسوية بينهما في المفسدة.
قوله تعالى: ﴿فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ... (٣٣)﴾
احتجوا لهذا القائل بأن الكذب إنما يطلق على من تعمد الإخبار بالشيء على خلاف ما هو به.
وأجاب ابن عرفة: بأن هذا تكذيب لَا كذب، والتكذيب قد يكون فيما قد طابق وفيما وافق.
قوله تعالى: ﴿وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ... (٣٤)﴾
قال ابن عرفة: وجه مناسبتها لما قبلها عندي أن الإنسان إذا استحضر مقام التوحيد علم أن الأشياء كلها خلق الله تعالى وفعله واختراعه، قيل لابن عرفة: قد يحتج بها من يمنع النسخ في القرآن، فقال: النسخ بحقيقة؛ لأن المنسوخ لم يزل ثابتا في الذهن فلم ينسخ من جميع الوجوه، قيل له: فاليهود بدلوا وغيروا في التوراة، يقال: بدلوا ألفاظها، وأما معناها وهو الكلام القديم الأزلي فلم يقع فيه تبديل بوجه.
قوله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى... (٣٥)﴾
المراد الهداية بالفعل واعتزل [المهدوي*] هنا، فقال: لاضطرهم إلى الهداية فاهتدوا.
قيل لابن عرفة: قال بعضهم: لو شاء الله لنصب لهم الدلائل المتوسطة ليظهر الحكمة في ذلك فيؤمن بعضهم ويكفر بعضهم فيقع الثواب والعقاب بسبب.
قوله تعالى: (فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ).
وقال لنوح: (إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) فأورد المفسرون سؤالا من ناحية أن [الخطاب للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم*]، والمراد أمته، وإما أن نوحا خوطب بهذا السند وسببه، وإما لأن القريب المحبوب ليشدد عليه النهي أكثر ممن ليس كذلك كراهة أن يقع المحظور، قلت: ونحوه نقل القاضي عياض في مداركه عن بعضهم لمن عرف بالسهروردي المالكي فقيه بغداد، وأنشدوا:
[لا تصيب*] الصديق قارعة التأنيب... إلا من الصديق الرغيب
وأخبر ابن عطية بأن الأمر الذي نهى عنه نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم أكبر وأعظم من الذي نهى عنه نوح عليه السلام، فكان النهي في [الأمرين اللذين وقع النهي عنهما والعتاب فيهما*] بحسب تعلقه (١)، ابن عرفة: وعادتهم يجيبون بوجهين:
أحدهما أن نوحا خوطب بهذا حيث لم يكن هنالك كفار بوجه؛ لأنه خوطب به بعد أن غرق الكفار، ولم يبق سوى هو وقومه، والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم خوطب بذلك في محل الكفار. [ليعتبروا*] بهم، فشدد عليه في النهي لينزجر الكفار ويتعظوا.
الثاني: أن هذا ينتج العكس سواء، فيعجل نهيه مقرونا بالتخويف، لقوله (إِنِّي أَعِظُكَ) هو أكثر من نهي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، قلت: وكذا قال القاضي عياض في مداركه لما ذكر ما نقلنا عنه، ثم قال: والصحيح أن الآيتين بمعنى وانظر كتاب الشفاء لعياض.
قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى... (٣٦)﴾
قال ابن عرفة: هذا يحتمل وجهين:
(١) قال القاضي أبو محمد: والوجه القوي عندي في الآية هو أن ذلك لم يجئ بحسب النبيين، وإنما جاء بحسب الأمرين اللذين وقع النهي عنهما والعتاب فيهما، وبين أن الأمر الذي نهى عنه محمد ﷺ أكبر قدرا وأخطر مواقعة من الأمر الذي واقعه نوح صلى الله عليه وسلم. اهـ (المحرر الوجيز. ٢/ ٢٨٨).
أحدهما: أن المراد الذين يسمعون السماع النافع.
والثاني: أن يريد نفي السماع عنهم من أصل إشارة إلى أنهم لما لم ينفعهم السماع صاروا كأنهم لَا يسمعون شيئا.
قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ... (٣٧)﴾
قال ابن عرفة: فيه سؤالان:
الأول: أنهم طلبوا تنزيل آية فما جوابهم إلا أن يقال: إن الله يفعل ما يشاء؛ لأنهم لا ينكرون أن الله قادر على تنزيل آية، وإنما طلبوا أن ينزل الله على نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم آية فهذا راجع للإرادة لَا للقدرة، فكيف أجيبوا بالقدرة، قال: والجواب أن القدرة تستلزم الإرادة له لَا قدرة إلا بإرادة، وإن أريد التعلق الصلاحي فليست مستلزمة لها.
السؤال الثاني: أن الاسم إذا كرر فإنما يكون معرفا، كقوله تعالى: (كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (١٥) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ) والجواب أنه قصد هنا عدم المبالاة بكلامهم، فالمراد أن الله قادر على أن ينزل آية، فالإطلاق أعم من الآية التي طلبوا إنزالها أو غيرها، فإن قلت: النكرة في سياق الثبوت، فهلا قيل: إن الله قادر على تنزيل الآية، فالجواب أنهم طلبوا آية خاصة عظيمة.
قوله تعالى: ﴿إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ... (٣٨)﴾
في الافتقار والخلق.
قوله تعالى: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ).
قال أبو البقاء: في موضع المصدر أي تفريطا، فيبطل القول بأن الكتاب يحتوي على شيء مثل: لَا يضركم كيدهم شيئا أي ضرا.
واعترضه أبو حيان بأن النفي إذا تسلط على المصدر انتفى.
وأجاب ابن عرفة بأنه رآها أن النفي دخل على الفعل المؤكد بالمصدر فنفاه، ونحن نقول: دخل على الذي قبل التأكيد ثم أكد بعد ذلك، وهو نفي أعم لَا نفي أخص.
قوله تعالى: ﴿صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ... (٣٩)﴾
قال ابن عرفة: الصمم ظاهر والبكم إما لَا كلام لهم في الظاهر، وإن أريد النطق القولي فليس مبين، وإن أريد النطق القلبي فبين.
قوله تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ... (٤٠)﴾
قال ابن عرفة: إن قلت: لم أعاد الفعل والأصل في المعطوفات المتفقة الألفاظ الاكتفاء بالأول، فيقال: أرأيتم إن أتاكم عذاب اللَّه أن الساعة، فأجاب بأنه إذا كان صدور الفعل الأول من فاعله أقوى بالمعنى من صدور الثاني عن فاعله أو العكس فيعاد لفظ الفعل الأول، وإن لم يكن بينهما تفاوت ولا اختلاف في إحداث الفعل فيكتفى بالأول، ولا شك أن إتيان عذاب الله مغاير لإتيان الساعة، قوله (إِنَّ كُنْتُمْ صَادِقِينَ). جوابه محذوف أي فبينوا ذلك أو قدموه على تكذيبكم أو كفركم.
قوله تعالى: (أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ).
قال: الساعة إما يوم القيامة أو موت كل إنسان، قال: وكان يجيء لنا فيها سؤال بياني، وهو أنه إذا عطفت جملة فعلية على جملة فعلية موافقة لها في اللفظ وفي المعنى فإنه يحذف الفعل الثاني اكتفاء بالأول، فتقول: قام زيد وعمرو فلم أعيد الفعل هنا في الجملة الثانية، قال: وتقدم الجواب بوجهين:
أما إذا كان اللفظان متفاوتين في المعنى فيعاد الثاني إشعارا بالتفاوت، ولا شك أن إتيان العذاب أشد من إتيان الساعة، وإما إشعار لما بينهما من البعد فإنه إن أريد بالساعة القيامة، وبعذاب الله المحق والرزايا في الدنيا فيعقبها بعد كثير ومهلة تامة، وإن أريد بالساعة الموت فالمحن الدنيوية كثير منها متقدم ومنها متأخر إلى الموت فالبعد ظاهر.
قيل لابن عرفة: وكيف يحسن أن يعاقب ذلك، بقوله تعالى: (أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ) سواء فسرنا الساعة بالقيامة أو الموت إذ لَا يكون الدعاء إلا في الدنيا، قال: قد قالوا (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ) (وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ) قيل: هذا دعاء لَا يفيد، فقد قال: فيكشف ما تدعون إليه، قلت: ويمكن الجواب بأن يهلك بعضهم فيتعظ به من يبقى منهم ويدعوا.
قوله تعالى: (إِنَّ كُنْتُمْ صَادِقِينَ).
جوابه فدوموا على كفركم وإلا فتبينوا إلى ذلك.
قوله تعالى: ﴿فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ... (٤١)﴾
قال ابن عرفة: قلت: علق هنا بالمشيئة، وقال في البقرة (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) ولم يقل: إن شئت، قال: وتقدم الجواب بوجهين:
الأول: أن تلك في المؤمنين، وهذه في الكفار.
الثاني: إن ذاك السؤال تضرع وتذلل في الدنيا لتعجيل الإجابة المحققة التي لَا يرد فيها وهذا ليس كذلك، فناسب أن يكون معلقا على المشيئة.
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ... (٤٢)﴾
هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: (فَأَخَذْنَاهُمْ).
ابن عطية: أي فكذبوا فأخذناهم.
ابن عرفة: ويحتمل أن لَا حذف فيها؛ لأن الكل عبيده يفعل فيهم ما شاء، هذا مذهب أهل السنة، قال تعالى: (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) قيل له: قلى قال: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) فقال: هذا بلاء.
قوله تعالى: (لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ).
أي أخذناهم أخذا متراخيا معه الناظر لحالهم تضرعهم.
قوله تعالى: ﴿وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ... (٤٣)﴾
إما راجع إلى نفس التضرع فهو ترك فيكون دليلا على أن الترك فعلا، لقوله تعالى: (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).
قوله تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ... (٤٦)﴾.. ابن عرفة: وقال قبلها: (قُلْ أرَأَيْتَكُمْ) ووجهه أنه لما كانت الأولى مبدأ الخطاب بولغ في الخطاب فيها، والثانية: اكتفى فيها بالخطاب الأول فلم يحتج إلى المبالغة، والثانية: وقع الفصل بينها وبين الأول [وفيه شبه طول*]؛ فأعيدت الكاف فيها للخطاب، وقدم السمع إشارة إلى أنه أشرف لتعلقه بالغائب، والبصير لَا يرى إلا الحاضر.
ابن عرفة: وعادتهم يقولون في هذه الآية دليل لمن يقول: إن العرض ينفى زمانين؛ لأن السمع والبصر صفتان ليس منهما الحدقة بل الصفة المتعلقة بهما عرضان، فالذي تعلق به الآخر إما موجود أو معدوم، فالمعدوم لَا يتعلق به أحد وإنما
يتعلق الآخر بالموجود، وهذا هو عين القول بأن العرض يبقى زمانين، قيل: معنى عدم الأخذ عدم الإيراد بعرض آخر، فقال: ليس هذا هو حقيقة الأخذ فيلزمك المجاز، والأصل حمل اللفظ على حقيقته.
قوله تعالى: (وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُم).
فيه سؤال وهو هلا قيل: أخذ الله سمعكم وأبصاركم وعقولكم، أو كما قال في البقرة (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِم وَعَلَى سَمْعِهِم وَعَلَى أَبْصَارِهِم)؟ وأجيب بوجهين:
الأول: أن العقل شرط في التكليف فلو أخذ العقل لسقط التكليف.
الثاني: أن العقول بها تنافي العقوبة على السمع والبصر، ألا ترى أن في المدونة في جلد من يجن أحيانا ويفيق أحيانا أنه إنما يجلد حالة إفاقته من سكره، فإذا أخذ السمع والبصر بقي العقل يتألم بما فيه، ويذوق العقوبة ويعلم قدرها، وأما المجنون أخذ له لذلك عنده بوجه.
قوله تعالى: (مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ).
إشارة إلى أنكم كما تعلمون أن الله خالق كل شيء فاعلموا أن من تمام ذلك توحيده ونفي الشريك عنه.
قوله تعالى: (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ).
إن أريد الصفة التي وقعت بها الشركة فالتصرف بمعنى [التقريع*]، وإن أريد أشخاص الآيات فالتصرف بمعنى التنكير والتكوين.
قوله تعالى: (ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ).
العطف بثم إشارة إلى أنهم بعد تأملهم وتأنيهم يبعدون عن الآيات.
قوله تعالى: ﴿هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (٤٧)﴾
وقال في الحديث: "أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث"، فالجواب أن ذلك إهلاك بموت، وفي الآية إهلاك عقوبة.
قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (٤٩)﴾
قال ابن عرفة: تقدم لنا فيها سؤال وهو أنهم كفار فعبر عن عذابهم بالمس وهو أوائل العذاب، فهلا قيل: محيط بهم العذاب؟ قال: وتقدم لنا الجواب بأنه يناله مقدمات العذاب بأعم وصف، وإن شئت أن تقول وصفهم بأخص وصف وهو التكذيب، والكفر اعتبارا بأعمه وهو الفسق، ومجرد الخروج عن طاعة الله، ورتب على ذكر الأعم مقدمات العذاب وعلله بالوصف الأعم وهو الفسق فيتناول ما فوقه من باب أحرى.
وقال الزمخشري: جعل العذاب ماسا كأنه يفهم بهم ما يرى من الألم، ومنه قوله: ليست الأوامر إلا بعد مسّ.
قال ابن عرفة: هذا خلاف ما قاله ابن رشد في المقدمات في الفرق بين الملامسة والمماسة، فقال: الملامسة لَا تكون إلا عن قصد بخلاف المماسة، فيقال: تماس الحجران، ولا يقال: تلامس الحجران، ابن عرفة: إلا أن يجاب بأن العذاب يعقل فيه الفاعلية، والحجر لَا يعقل فيه الفاعلية فلا يلامس الحجر الحجر، ويقال: تماس الحجران.
قوله تعالى: ﴿قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ... (٥٠).. ابن عطية: سببها أن الكفار، قالوا (لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (٧) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا)، (وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (٩٠)﴾ أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ).
قال ابن عرفة: عادتهم يقولون: هذا بسبب ماض، فهلا قال: ما قلت لكم خزائن الله؟، قال: وتقدم الجواب بأنه لو قال كذلك لما تناول النهي إلا القول اللفظي الماضي فقط، وقد ينفي الإنسان الشيء فيما مضى ويفهم من حاله أنه سيقوله في المستقبل، إذ دل الحال على أنه يقول ذلك لهم فيه فقد نفى، بقوله الصدق: لَا أقول لكم عندي كذا، فإن قلت: هلا قال لهم: ليست عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب فهو أقوى وأبلغ من نفي القول، أو لعلهم يتوهمون أن ذلك عنده وإنما دليل حالهم أنهم نسبوا إليه أنه ادعى أن ذلك في قدرته.
قوله تعالى: (إِنَّ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ)
وقد يحتج بها من ينفي القياس، فيجاب بأن القياس من الوحي، لقوله تعالى: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ) وقد يحتج بها من ينفي كونه
مجتهدا فيه، فيجاب بأن الاجتهاد من الوحي، لقوله تعالى: (لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا).
قوله تعالى: ﴿وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ... (٥١)﴾
ابن عرفة: الإنذار عام للجميع وتخصيصه [في هؤلاء*] إما لأنه إنذار خاص وهو الإنذار المؤثر النافع، أو لأن مفهومه عدم إنذار غيرهم فيعارض منطوق الآية الأخرى المتطابق لإنذار الجميع، أو بين المفهوم والإنذار لغير الخائنين من باب أحرى.
ابن عرفة: وتقدم في قوله تعالى: (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ) إما أنه راجع لملازمين فهم في كل زمان لَا يطمعون في الحياة إلى الوقت الذي بعده، وكذلك حري هاهنا، قال: وعبر بلفظ الرب تنبيها على أنهم إذا خافوا مولاهم مع استحضارهم ما عنده من الحنان والشفقة فأحرى أن يخافوا مع استحضارهم أنه عزيز ذو انتقام.
قوله تعالى: (لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ).
الولي هو الناصر مقيد بكونه قريبا، أو يكون بينه وبين وليه لحمة بوجه، والشفيع هو الناصر مطلقا قريبا كان أو أجنبيا وهو من عطف الأعم على الأخص.
قوله تعالى: ﴿وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ... (٥٢)﴾
لما ذكر ابن عرفة اختلاف طريق المفسرين في سبب نزول الآية، وأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يحكم أحيانا باجتهاده من غير وحي عملا بتقديم أرجح المصلحتين ودرء المفسدتين؛ لأنه لَا يرى إبعاد أولئك يوجب كفرهم لقوة إيمانهم، ويوجب إيمان كثير من صناديد قريش.
قال أبو نعيم في الحلية: وكان سفيان الثوري يتحلى بهذه الصفة المذكورة في هذه الآية فيفضل في مجلسه الفقراء على الأغنياء، ابن عرفة: إنما دلت الآية على التسوية بين الأصلح والصالح، وبين الفقير الصالح والغني.
قال ابن عرفة: وشرفوا هؤلاء بأمرين بالنهي عن طردهم، وبالثناء عليهم لصلاتهم بالغدو والعشي، قال ابن الخطيب: وأخذ منها بعضهم كلمن قوله (فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ) حجة القول بإمكان الخطأ عليه صلى الله عليه وعلى آله وسلم في اجتهاده ووقوعه، وهو قول حكاه ابن الحاجب، ورده ابن عرفة بأنه هم بذلك ولم يفعله فعصمه الله من فعله فكيف يأخذ منه وقوع ذلك.
قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ... (٥٣)﴾
قال ابن عرفة: أكثر المفسرين على أن الكاف للتشبيه أي مثل طلب صناديد الكفار منك أن تطرد ضعفاء المؤمنين فتنا بعضهم ببعض طلبوا منك طرد المؤمنين، كما نقول: لأجل فتنة زيد لعمرو قتله.
قوله تعالى: (أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا).
قال ابن عطية: اللام للصيرورة.
ابن عرفة: هذا إنما يقوله الفلاسفة الطبائعيون، ولا يقوله سني ولا معتزلي لاستلزامه نسبة الجهل إلى الله تعالى لمخالفته لقواعد أهل السنة من وجهين: من نسبة الجهل إلى الله تعالى، ومن تعليل أفعال الله تعالى ومخالفته لغير أهل السنة من نسبة الجهل إلى الله تعالى فقط.
قوله تعالى: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ).
قالوا: دخل النفي على الأخص فكان نفي أخص، فدخلت الهمزة عليه فأثبته على ما هو عليه فصار إثباتا لبعض.
قوله تعالى: ﴿فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ... (٥٤)﴾
قال ابن عرفة: يحتمل أن يكون أمر بأن يقول لهم ذلك على أنه من عند نفسه تحية لهم، أو يقوله تبليغا عن الله تعالى، كما تقول لصاحبك: إذا رأيت فلانا فسلم عليه أي عني فبلغه سلامي، والظاهر الثاني لوجهين: لأن فيه تشريفا لهم وتعظيما، وأيضا فإن الأول مخالف للحكم الشرعي بأن الداخل هو المأمور بالسلام على المدخول عليه.
قال ابن عرفة: وتقدمنا في ذلك قوله تعالى: (إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) إن الرفع أبلغ من النصب لاقتضاء الاسم الثبوت بخلاف الفعل، قال السكاكي: فسلام إبراهيم صلى الله على نبينا محمد وعليه وعلى آلهما وسلم أبلغ من سلام الملائكة، وتقدم الجواب بأن الملائكة لما دخلوا
على إبراهيم وكان جاهلا بهم ففزع منهم حسبما قال (قَوْمٌ مُنْكَرُونَ)، فقالوا (سَلامًا) بلفظ المصدر المؤكد بفعل مقرر منسوب إليهم، أي قالوا: سلمنا سلاما فنطقوا بالسلام ونسبوا الفعل إلى أنفسهم مؤكدا بالمصدر لتحصل له الطمأنينة منهم، فلذلك أكده بالمصدر المقتضي لإزالة الشك عن الحديث من حيث نسبته للمحدث عنه ليزول عنه فزعه ويعتقد سلامته منهم، بخلاف ما لو قال: سلام لاحتمال أن يكون منسوبا لهم أولا فالنصب أبلغ.
قوله تعالى: (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ).
قال إمام الحرمين في باب الصفات الصحيح جواز إطلاق النفس على الله تعالى واحتج بهذه الآية، والواجب قسمان: واجب لذاته، وواجب لعارض كالمعاد فإنه لذاته جائز وبإخبار الشرع واجب، وكذلك الرحمة واجبة بإيجاب الله تعالى لها.
قوله تعالى: (ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ).
ابن عرفة: التوبة بذاتها كافية في حصول المغفرة، فما أفاد قوله (وَأَصْلَحَ)؟، قال: وتقدم لنا الجواب بأن هذه توبة لغوية، ومجموع قوله (ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ) توبة إصلاحية، قيل له: ألفاظ الشرع إنما تحمل على حقائقها الشرعية، فقال: ليس بمعنى الاصطلاح اصطلاح الشارع، وإنما يعني اصطلاح جملة الشريعة.
قوله تعالى: (فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
إما تفسير الكتاب نفسه، أو تفسير لبعض جزئياته.
قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ... (٥٥)﴾
قال ابن عرفة: عادتهم يقولون: ما الفرق بين قولك: عليٌّ كالأسد، وقولك: كالأسد عليٌّ، وضربت زيدا في الدار، وفي الدار ضربت زيدا؟، الفرق بينهما إنما هو الاهتمام بالشيء والاعتناء به، فإن كان المقصود الأهم الاعتبار بالتشبيه العارض للذات، والذات معلومة للمخاطب لكن مخاطب به قريب المخبر عنه أو صديقه قدم المجرور، فيقال: كالأسد علي، وإن كان المقصود الأمران وهو التعريف بالذات بوصفها العارض وهو الشبه قدم المبتدأ، فيقال: عليٌّ كالأسد، وكذلك قولك: ضربت زيدا في الدار كان الأهم الإخبار بالضرب فقدم، وإن كان المقصود الإخبار بمحله، قلت: في الدار ضربت زيدا، والخطاب هنا للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والآية هي الآية البينة الواضحة معلومة.
قوله تعالى: (وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ).
في كلام الشاطبي هنا إشكال؛ لأنه قال: [وَإِنَّ بِفَتْحٍ... *] البيت، وهذا البيت للتأنيث وأصحابه قرأوا (يستبين) بالياء والباقون بالتاء، لكن نافع منهم بتاء الخطاب لنصبه سبيل، وغيره بتاء التأنيث لكن [الشاطبي*] اعتبر اللفظ، ولفظ (تَسْتَبِينَ) في القراءتين واحد.
قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ... (٥٦)﴾
قال ابن عرفة: أتت هذه الجملة مفصولة غير معطوفة. لأن الأول خبر وهذه طلب.
وقال المازري: الخلاف في قول الراوي نهى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن كذا هل يحمل على التحريم أم على الكراهة.
قوله تعالى: (قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ).
جمعها إما لتفرقها واختلافها فمن لوازم اتباعها الجمع بين النقيضين وهو محال.
قوله تعالى: (قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ).
انظر ما أفاد هذا العطف، أجاب ابن عرفة: بأنه أفاد التنبيه على أنه متصف بأخص الهداية على سبيل الاحتراز خوف أن يتوهم أدناها؛ لأن قولك: زيد من المهتدين أخص من قولك زيد مهتد، فالأول أفاد مطلق نفي الضلال عنه، والثاني أفاد أيضا أنه بأخص الهداية فدخل النفي عليه فنفاه على حالته، بخلاف مها لو قال: ومها أهتديت؛ لأئه يكون داخلا في الأول لَا يفيد ما قلناه.
قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي... (٥٧)﴾
قال ابن عرفة: تقرر في علم البيان أن الوصف الذي يتوهم حصوله بأنه إذا نفي عمن نسب إليه تارة يكون نفيه محصلا، وتارة يكون مفروضا مقدرا، فيقول لمن تَوَهّم أنك أسأت إليه: ما أسأت إليك إذا كان النفي مفروضا مقدرا إن قصد الاعتبار بالنفي عنه بعد النفي بجائز، لذلك النفي يقول: لو أسأت إلي عاقبتك لكني بذاك منك، هذا جائز يزيل الروع عن قلب المخاطب، وتارة يقول: لو أسأت عاقبتك ولا يذكر له جائزا، وهنا قال: (قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا) أي: لو اتبعت أهواءكم لضللت وما اهتديت وما بجائز، فقال: ولكني على بينة من ربي وأنتم لستم كذلك.
قوله تعالى: (وَكَذَّبْتُمْ بِهِ).
قال ابن عطية: الضمير عائد على بينة أو على البيان، أو على الرب، أو على القرآن، أو على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
ابن عرفة: والصواب عندي أن يعود على الكون أو على الاتصاف فيتناول الجميع، أو كذبتم بكوني على بينة وكذبتم باتصافي بذلك.
قوله تعالى: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ).
أي باعتبار الأصالة والحقيقة، وإما باعتبار الظهور والوجود فهو له فليظهر على يديه، وأخذ الخوارج على علي بن أبي طالب رضي الله عنه بظاهر هذه الآية في قضية التحكيم.
قوله تعالى: (يَقُصُّ الْحَقَّ).
قال الزمخشري: يتبع الأمر والحكمة فاعتزل في قوله: والحكمة.
قال ابن عرفة: ومن هنا كان بعضهم يقول: لَا يحل نظره إلا لمن شارك في أصول الدين مشاركة جيدة وقرئ (يقض الحق)، فأعربه الزمخشري إعرابين:
أحدهما: أن الحق مصدر أي يقضي القضاء.
والثاني: أنه مفعول فلا يصح صنعه هذا على مذهبنا وهو على مذهبنا ظاهر لا يحتاج إلى تأويل.
قوله تعالى: (وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ).
خير إما فعل أو افعل في هذا وهذا احتراز يرد به على الخوارج في قضية التحكيم في استدلالهم، بقوله تعالى: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) والجمع بين الآيتين، مما تقدم من أن ذلك باعتبار الحقيقة، وهذا باعتبار قوله تعالى: (قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ... (٥٨).. ، أي: لو مكنت على عقوبتكم لفعلت من ذلك التعجيل فأعاجلكم غضبه عز وجل ولكني ليس ذلك إلي.
قوله تعالى: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ).
ولم يقل: أعلم بالمؤمنين مع أن الظالمين أكثر، وقد تقدم في قوله تعالى: (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ)؛ لأن الأقل المخرج من الأكثر، فالجواب أن ذلك باعتبار الأمر الظاهر، وهذا باعتبار الباطن.
قوله تعالى: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ... (٥٩)﴾
يحتمل أن يكون مما أمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بتبليغه، أي قل لهم (قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ)، وقل لهم (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ) أو هو كلام ابتداء الكلام، فإن قيل: المفاتح يوهم السبب، والله عالم بالغيب من غير احتياج إلى سبب لذلك ولا إلى مفتاح، قلنا: هذا إشارة إلى وصوله إلى ما لَا يقدرون على التوصل إليه فهو تنزل معهم على ما يفهمونه، وقوله (لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ) دليل على أن الله عالم بالجزئيات كما يعلم بالكليات، ففيه رد على الحكماء بالجزئيات والطبائعيين، ورد على المنجمين وأجابوا هم بأن الغيب ما لم ينصب عليه دليل.
قوله تعالى: (وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ).
من عطف التسوية.
قوله تعالى: (وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ).
ابن عرفة: يحتمل أن يكون من التقسيم المستوي، ويحتمل أن يكون مثل: مطرنا السهل والجبل، وضربت الظهر والبطن بناء على أن الرطب واليابس هل بينهما واسطة أم لَا؟.
قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ... (٦١)﴾
قال ابن عطية: القاهر إن كان صفة فعل أي مظهر القدرة بالرياح والصواعق فيصح أن يجعل فوق نظر قاله؛ لأن هذه الأشياء تتنزل من فوق، وإن جعل صفة ذات من القدرة والاستيلاء كانت الفوقية معنوية.
فرده ابن عرفة بأن ذلك إنما هو في القهر، وأما القاهر فهو صفة لله تعالى واسم من أسمائه فلا يصح تعلق الفوقية به على أنه حقيقة؛ لأنا إذا قلنا: زيد القائم فوق السطح فالسطح ظرف له وللقيام.
وابن عطية أخذ الصفة مجردة عن الذات، فقيل له: عد المتكلمون في الأسماء القادر والقاهر، فعل القادر أعم؛ لأن فاعل الفعل تارة يكون محبا فيه، وتارة يفعله كارها له، وتارة يتوسط حاله، فالقدرة تشمل الثلاثة، والقهر يختص بفعله كارها له، والقادر إن كان معناه مظهر القدرة فهو صفة فعل حادث، وإن كان بمعنى القدرة فهو صفة معنى قوية.
قوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ... (٦٣)﴾
هذا من الكلام الذي لَا يسمع سامعه إلا الواقعة، والآية محتملة لثلاثة معان:
أحدها: أن تكون مشتملة على وعظ مشعر بأن الله هو المستحق للعبادة فحقكم ألا تشركوا به أحدا.
الثاني: أن يكون فيها التذكير بنعمته رفع المؤلم وغلب الملائم بما قبلها تخويف بأنه هو القاهر الضار، والتذكير بذلك على قسمين: تذكير باتصافه بذلك على الإطلاق، وتذكير باتصافه بذلك فيما يرجع إلى نفس المذكر، كذلك قولهم: إن زيدا شجاع فاضل عندي وأنقذك عن المهالك فالتذكير يعد أقوى من الأول.
قوله تعالى: (تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً)
هذا تقسيم بين الشيء ولهم عنهم؛ لأن التضرع ملزوم للاحتياج والتكرار والإلحاح مظنة للجهرية، فكأنه تدعونه جهرة وخفية، ولا يكون فيه الحذف من الأول لدلالة الثاني لئلا يكون تكرارا.
قوله تعالى: ﴿قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا... (٦٤)﴾
إن عاد الضمير على المهلكة الشخصية النازلة منها يريد في البلد الفلاني في الوقت الفلاني فيكون، ومن كل كرب تأسيسا، وإن جعلناه على نوع البلايا والرزايا دون شخصها فيكون العطف تأكيدا.
قوله تعالى: ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ... (٦٥)﴾
قال ابن عرفة: وصانهم عن إشراكهم بأمرين:
أحدهما: (قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا)، أي: الله هو الذي أذهب منكم الآلام الواقعة بكم ثم خوفوا بأمر آخر وهو أن الله قادر على أن ينزل عليكم عذابا لَا تطيقونه.
قوله تعالى: ﴿وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ... (٦٦)﴾
أي: كذبوا بما خوفهم من أنواع الهلاك ثم أتى بالفاعل ظاهرا، فإن قلت: هلا قال: وكذبوا به؟ قال ابن عرفة: فعادتهم يجيبون بأنه إشارة إلى أنهم مخالطون لك عالمون بما جئت عليه من الصدق والأمانة، ومع هذا فهم يكذبون لك.
قوله تعالى: (قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ).
إما أن المراد لست برافع عنكم ما نزل بكم من العذاب، أو لست مطالبا بمخالفتكم ومعاندتكم.
قوله تعالى: ﴿لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٦٧)﴾
أي لكل نبإٍ ثبوت وخبر صدق وقوع إشارة إلى أن جميع ما خوفهم وتوعدهم بوقوعه بهم في المستقبل فإنه يقع لَا محالة، وكل خبر صدق فهو واقع لَا محالة، والمراد لكل نبإٍ عن المستقبل، وأما الماضي فمعلوم.
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا... (٦٨)﴾
ابن عرفة: إنما قال: رأيت يصدق على كل من كان بعيدا منهم بحيث لَا يسمع كلامهم لكنهم علموا بالقرائن الحالية أنهم يخوضون في آيات الله تعالى، واشتملت الآية على مطلبين:
الأول: رؤيتهم، والثاني: الجلوس معهم في قوله تعالى: (فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُم) والخطاب خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، وعام فيه وفي كل مؤمن هذا في اللفظ، وأما في المعنى وهو عام في الجميع.
قوله تعالى: (فِي آيَاتِنَا). الخوض في الآيات إما البحث فيها بالنظر والاستدلال، وإما الخوض فيها بالأمر الباطن وهو المراد هنا.
قوله تعالى: (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ).
إن قلت: الإعراض عنهم مرتفع بأحد أمرين:
إما بخوضهم في حديث آخر، وإما بسكوتهم فلم خصصه بالأول دون الثاني؟ فأجيب بوجهين:
أحدهما: أن الاجتماع مظنة لعدم السكوت فعلل بما هو الأكثر الإيجاب.
الثاني: أن السكوت لَا يؤمن منه الرجوع إلى الحديث الأول الذي كانوا فيه بخلاف ما إذا خرجوا إلى حديث آخر، فإِن ذلك قاطع على الرجوع إلى الأول.
قوله تعالى: (وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ).
قال أبو حيان: قرئ بالتشديد والتخفيف.
قال بعضهم: هما بمعنى واحد فمن جعلها بمعنى واحد راعى المعنى، ومن خالف بينهما راعى اللفظ والمقدمة، والنسيان إن استلزم مفسدة بينة فهو من الشيطان وإلا فهو، وهذا من النفس عليه قول أبي بكر رضي الله عنه: أقول هذا فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فهو مني ومن الشيطان.
قوله تعالى: (فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى).
إما أن تكون هذه تذكير ووعظ للمؤمنين في عدم الجلوس معهم، أو تذكير ووعظ للكافرين.
قوله تعالى: (مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).
قيل لابن عرفة: هذا عدول عن المضمر إلى الظاهر فهو يستحيل عليهم بوصف الظلم.
ابن عرفة: ليس كذلك إنما عبر بالظلم إشارة إلى أن هذا النهي يتناول كل من اتصف بمطلق الظلم، فمن جلس مع المؤمنين يغتاب يتناوله هذا النهي.
قوله تعالى: ﴿وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ... (٦٩)﴾
قال ابن عرفة: (مِن) الثانية زائدة، أي: ما عليهم شيء من حسابهم.
قوله تعالى: (وَلَكِن ذِكرَى).
إما تذكيرا للمؤمنين أو للكافرين، قال أبو حيان: ولا يصح رجوع القيد إلى الثاني وعطفه عليه.
ابن عرفة: يصح إذا جعلنا الذكرى للكافرين، ويكون من في (مِن حِسَابِهِم) للسبب أي ولكن ذكر السبب حسابهم.
قوله تعالى: ﴿وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا... (٧٠)﴾
ابن عرفة: هذا عندي راجع للذين يخوضون في آيات الله، فالمراد بذكرهم في هذه الحالة عدم المبالاة بما هم عليه وأنهم على أنفسهم.
وقال الزمخشرى: معناه لَا تبال بتكذيب المشركين واستهزائهم فجعل ابتداء كلام لهم.
وقال ابن عطية عن قتادة: إنها منسوخة بآية السيف، وعن مجاهد إنها تهديد ووعيد ولا نسخ فيها لتضمنها الخبر وهو التهديد.
ابن عرفة: ليست منسوخة لَا لأصل كونها خبرا بل لكون التهديد لَا ينافي القتال.
قال ابن عطية: و (دِينَهُم) هو المفعول الأول، و (لَعِبًا). هو المفعول الثاني.
أبو حيان: الصواب العكس، ولم يبين وجهه بأن قال الجملة الابتدائية إذا نصبها الفعل ينظر المقصود الأهم فيها، والذي يكون المقصود منها يجعل مفعولا أولا
ويكون الثاني خبره بالتبعية [... ] [والفرض*]، فقولك: اتخذت زيدا رفيقا؛ إن كان المراد بقرينة، [إذا سافرت*]، وقلت: اتخذت زيدا رفيقا كان السفر إما [بالفرض*]؛ لكونه رفيقا، إذا كان كذلك، لَا أن مراده بقرينة مطلقا، وتارة يكون المقصود الأهم اتخاذ الرفيق زيدا، وكذلك ركبت فرسا وأعطيتها، تقول: أعطيت الفرس زيدا إلا إن قصدت إعطاءه [... ] [وأردت الامتنان*] عليه بفرس [تحبه*]، قلت: أعطيت زيدا الفرس؛ وهذا بياني لا يراعى فيه كون الأول فاعلا في المعنى كما يقول النحويون: وهؤلاء لم يكن مقصدهم اتخاذ اللعب واللهو بوجه وإنَّمَا مقصدهم التدين والإيمان فصيروه لعبا ولهوا، فالمفعول الأول هو دينهم وإضافته إليهم إشارة إلى أن دينهم اللائق.
قوله تعالى: (وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ).
ابن عرفة: هذه موصولة بمعنى الذي أو مصدرية، قال: كان بعض الشيوخ يرجح كونها مصدرية؛ لأن التعليل بالموصوف أولى من التعليل بالذات.
قوله تعالى: (لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ).
الولي أخص من الشفيع فجاء على الأخص؛ لأن نفي الأخص [بالكسب*] وشرابهم الحميم وتعذيبهم العقاب الأليم بالكفر، وأجاب بأنه في غاية المناسبة؛ لأن الإبسال هو الجنس المطلق فعلق بالكسب المطلق المتناول بجميع المعاصي من الكفر وما دونه، وشراب الحميم العذاب الأليم؛ عذابه أخص فعلل بعقاب أخص وهو الكفر؛ ففيه أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة.
قوله تعالى: ﴿قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا... (٧١)﴾
قال ابن عرفة: هذا تلطف في العبارة؛ لأنهم لما أخبروا عنهم فعلوا فعلا قصدوا به تنقيص معبود النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بقوله تعالى: (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا) رد عليهم بما يوجب تنقيص معبودهم، وهذا تقسيم ومعاندة بين الشيء ولازم ضده؛ لأنه ليس المعنى ندعو من دون الله ما لَا يحصل لنا نفعا ولا يدفع عنا ضرا.
ابن عرفة: وانظر هل هنا من باب السلب والإيجاب مثل: الحائط لَا يبصر، أو من باب العدم والملكة مثل: زيد لَا يبصر؛ والظاهر الأول أتدعو من دون الله ما ليس
بقابل لأن ينفع ولا يضر، قيل: يلزمك المفهوم فيمن هو قابل لذلك من البهائم وغيرها على مذهب الآخرين ينفع ويضر، فقال: يكون في اللفظ من باب العدم والملكة.
قوله تعالى: (وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا).
قيل: فما فائدة قوله: (وَنُرَدُّ) ولم يقل: ونرجع مع أن نرجع مقصد قال تعالى (فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُم) قال: فائدة ذلك أن نرد لذاته يقتضي الانفعال سواء بني للمفعول أو للفاعل ونرجع لَا يقتضي الانفعال إلا إذا بني للمفعول فنرد أقوى في الانفعال.
قوله تعالى: ﴿وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ... (٧٢)﴾
ابن عرفة: خصت بالذكر؛ لأنها أهم شرائع الإسلام، ولذلك قال عمر: لَا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة.
ابن عرفة: قال: وإنما لم يقل: صلوا مع أنه أخص لوجهين:
أحدهما: أن الصلاة لما كانت متكررة فهى مطلقة أن تترك فأفاد لفظ الإقامة المواظبة عليها وعدم الإخلال بشيء منها.
الثاني: إنما يحتاج إلى شرائط وأركان من الطهارة وستر العورة وغير ذلك فأفاد لفظ الإقامة التوفية لجميع شرائطها وأركانها.
ابن عرفة: (وَأَن أَقِيمُوا) إما من عطف المفردات أو من عطف الجمل؛ فهو إما معطوف على أمرنا أو معمول داخل تحت متعلق لفظ أمرنا.
ابن عطية: ولا يصح عطفه على التسليم إذ لا يجوز عطف المبني على المعرب.
فتعقبه أبو حيان بجواز قام زيد وهذا.
وأجاب السفاقسي بأن المعطوف شريك المعطوف عليه ومن شرط المعطوف أن يجعل محل المعطوف عليه، وهذا لَا يجوز أن يقال وأمرنا لأن أقيموا، ورده ابن عرفة بأن أجازوا رُبَّ شاة ومخلتها مع أن رُبَّ لَا تدخل إلا على النكرات، أبو حيان وقال: المعطوف إن وحدها وفيه خلاف.
ابن عرفة: كيف يعطف الحرف وحده، قال: فأجاب بعضهم: بأن مراده أن الحرف هو أن لكونها مصدرية فالمعطوف المصدر وحده فكأنها هي المعطوفة وحدها.
قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ).
قيل لابن عرفة: إنما خالف الكفار في الحشر من أصله، ولم يقل أحد منهم ممن أثبت الحشر أن غير الله فهو الذي يحشرهم، فأجيب بوجهين:
الأول: الحصر لمطلق الربط مثل:
[هما تفلا في فيَ من فمويهما... على النابح العاوي أشد رجام*]
قاله الزمخشري في (وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ).
الثاني: أن الكفار لما عبدوا الأصنام كانت عبادتهم لها مستلزمة لاعتقادهم فيها حصول مجازاتها إياهم على ذلك من الثواب أو العقاب، والجزاء إنما هو في الدار الآخرة فكان إثبات الشر له في الحشر لغير الله من لازم فعلهم لَا من نفس فعلهم فلذلك احتيج لأداة الحصر.
قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ... (٧٣)﴾
ففي جمعه ضمنه أنه خلقكم، قال تعالى (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) فكذلك تعلمون أنكم إليه تحشرون فأتت الجملة الثانية دليلا على الأولى.
قوله تعالى: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ).
ابن عرفة: الباء للمصاحبة أي مصاحبة للجواز.
الزمخشري يناسب أن يكون على مذهبه المسبب؛ لأنه يقول تعليل الأفعال ووجوب مراعاة الأصلح والخفاء في اللغة هو مقرر أمر مطابق للاعتقاد متفقد تقرره، وفي الاصطلاح كذلك بزيادة لمصلحة دينية فينبغي كفر الكافر على الأول حق وعلى الثاني باطل، وهو هنا باعتبار اللغة وقولنا تقرر أمر ليدخل الوجودي والعدمي كقولك دفع النقيضين حق.
قوله تعالى: (قَوْلُهُ الْحَقُّ).
المراد بالحق الصدق الثابت.
قال الزمخشري: وقوله محتمل لأن يكون فاعلا بقوله (فَيَكُونُ).
ورده ابن عرفة بأنه يلزم عليه حدوث القول لكنه جاز على مذهب الزمخشري، قال: وجاوبنا نحن إما أن المراد بقوله (فَيَكُونُ) ظهور ذلك أو المراد متعلق القول لا تفسير القول، قال: وتقدمنا معارضتها، بقوله تعالى: (يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا) ولم يقل: تبدلوا قول الله، ولم يقل هنا: علامة
الحق والقول أعم من الكلام، قال: وجوابه أن القول أعم باعتبار فهمنا لمفهوم الأعم فقدم الأعم ولازم الأخص يلزم الأخص باعتبار فهمنا.
قوله تعالى: (وَلَهُ الْمُلْكُ).
هذا من باب تكميل التكميل؛ لأن الأول أفاد أن قوله نافذ، والثاني أفاد أن فعل نافذ فصح أنه هو لَا إله غيره؛ لأن له الملك والملك يستلزم الملك فهو له الملك، وحقيقته التصرف في الشيء لَا نفس التصرف فيه؛ لأن له الملك في الأزل، ولا تصرف هنالك بالفعل فيه، والمراد: الملك المنفرد عن الدعوى وإلا فله الملك الآن وفي كل وقت لكنه معه دعوى المخلوق له.
قال: وهو ملك خاص لَا يدعيه أحد.
قال ابن عطية: وقرأ الحسن والأعمش: (عَالِم الْغَيبِ) بالخفض على النعت للمضمر الذي في له أو على البدل منه.
ابن عرفة: انظر لهذا كان بعضهم يقول أن ابن عطية ضعيف في العربية أن الضمير لا ينعت ولا ينعت به، قلت له: قد قاله الزمخشري في آخر سورة العقود.
قوله تعالى: ﴿وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ... (٨٠)﴾
قال ابن عرفة: تقدم لنا في مثل هذا أن الفاعل البادئ بالفعل واستشكلوا قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ)، ثم قال (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) فدل على أن إبراهيم هو البادئ، وتقدير الجواب بأن إبراهيم بدأ بالمقاولة وهي الدعوى ونمرود بدأ بالمحاجة في تلك الدعوى والرد عليها، أو نقول: إن قوله: (إِذ قَالَ إِبْرَاهِيمُ) ظرف للمحاجة أي حاج إبراهيم حين قال إبراهيم: (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) فحاجه في ذلك الوقت فلا يلزم فيه تقدم كلام إبراهيم.
قوله تعالى: (أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ).
المتبادر للفهم إن كان يقال: وقد هداكم وأما هدايته فلا تصح المحاجة بها، والجواب أن المراد وقد هداني بالدلائل الظاهرة الواضحة البينة التي لَا تخفى على أحد، قال: وقد تقدم الخلاف في قراءة علم أصول الدين وقد يحتج بهذه الآية من يتبع قراءته، ويجاب بأن المحاجة في الله لمن هو محق جائزة، أعني أن المحاجة
لإظهار الحق وتكريمه عما يقدح في التوحيد جائزة، والمحاجة لمن هو مبطل وهي المؤديات إلى القدح في قواعد العقائد باطلة ممنوعة.
قوله تعالى: ﴿وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ... (٨٧)﴾
أخذوا من عموم الضمير المضاف إلى الذرية أن الحال أب؛ لأنه يعود على جميع ما تقدم وذريتهم عيسى عليه الصلاة والسلام ولا ذرية له.
قال ابن عرفة: والآية حجة لمالك في أن الرجل يعتق عليه عمود النسب والأخوة دون نبيهم فلاختصاصهم بالذكر في التشريف.
قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي... (٨٨)﴾
قال ابن عرفة: المهدي يحتمل أن يكون اسما، وأن يكون مصدرا، والظاهر الأول؛ لأنه إذا كان مصدرا، [وعاد*] عليه الضمير في قوله تعالى: [(يَهْدِي) *] [ففيه*] إيهام التسلسل وهذه الآية احتراس؛ لأنه قد يتوهم أن الوصف في القرابة هو الذي حصل للذرية، والأخوة هنا للتشريف والاختصاص فاحترس من ذلك، بقوله (يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ) هذا يتم أنه يجيء بتوفيق الله ومشيئته لَا بوصف القرابة.
قوله تعالى: ﴿قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى... (٩١)﴾
قال ابن عرفة: حكوا عن الفخر ابن الخطيب أن هذه الآية دليل على أن السالبة الكلية تناقضها الموجبة الجزئية.
قوله تعالى: ﴿وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ... (٩٢)﴾
قال أبو حيان: هذه الآية تبطل قول ابن عصفور في النعت أنه يبدأ فيه بالمفرد ثم بالمجرور ثم بالجملة.
وأجاب ابن عرفة: بأن يكون (مُبَارَكٌ) خبر مبتدأ تقديره أي فهو مبارك قال: وإنما الرد عليه بقوله تعالى: (فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ).
قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ... (٩٣)﴾
ابن عرفة: هذا من عطف الخاص على العام؛ لأنه من افتراء الكذب.
وحكى ابن عطية عن سيدي عبد الله بن سعد بن أبي سرح أنه كان يكتب للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فلما نزلت (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَان مِنْ سُلالَةٍ مِن طِينٍ) إلى قوله (ثُمَّ أَنشَأنَاهُ خَلْقًا آخَرَ). فقال ابن سعد (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) فقال له النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "اكتبها فهكذا نزلت، فقال عبد الله: أنا أصنع مثل القرآن" وارتد ولحق بدار الحرب ثم أسلم وحسن إسلامه وهذا توهم خطأ؛ لأن من قواعد علم البيان الإرصاد وهو أن يكون الكلام دالا على معنى الذي بعده وهذا أحد معجزات النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأحد معجزات القرآن، فجعل هذا عبد الله بن سعد وتوهم أن ذلك من عنده.
قال ابن عطية: وروي أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أملى عليه (وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فبدلها هو (وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) فقال له النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "ذلك هوى".
قال ابن عرفة: هذا لَا يصح وعبد الله بن سعد هو الذي افتتح إفريقية في زمن عثمان بن عفان رضي الله عنه، وببركته المسلمون فيها إلى الآن.
قوله تعالى: (وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ).
هذا ممن افتري على الله الكذب فهو يوهم أن كلام الله غير معجز فصح عدم إمكان معارضته، ولو علم أنه معجز لافتقد العجز عن مصارحته.
قوله تعالى: (بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ).
قال: فعادتهم يجيبون بأنه لو قال: تقولون على الله الباطل لما تناول إلا من قال متعمدا متحققا أنه باطل ويبقى المتصف بالوهم والشك، أو من قاله غير مستند لدليل فهذا قال غير الحق، ولا يصدق أنه قال الباطل.
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى... (٩٤)﴾
قالوا: هذا القول من الملائكة لهم إما عند الموت أو يوم القيامة.
ابن عرفة: قالوا: فإن قلت القسم إنما هو لمن ينكر أو ظهر عليه مخايل الإنكار؛ فأجيب التشبيه في الانفراد بالخلق لَا من جميع الوجوه.
قوله تعالى: (وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ).
إسناد التحويل إليه مجاز.
قوله تعالى: (وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ).
نقل أبو حيان عن بعضهم: أن معكم حال من شفعاءكم، وألزمه أبو حيان المفهوم، وهو وجود شفعائهم لَا في حال كونهم معهم.
وأجاب ابن عرفة: النفي إذا تسلط على مركب من جزأين قد يكون أحد جزئيه موجودا، وقد لَا يكون كذلك؛ لأنه مطلق في الأجزاء فقد تنتفي الأجزاء وقد لا تنتفي.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى... (٩٥)﴾
قال ابن عرفة: وجه التأكيد بإن مع أن المخاطب غير منكر ولا عليه مخايل الإنكار، ولكنه نافل من ذلك مشتغل بدنياه، فالتأكيد تشبيه له من فعلته فكأنه كالمنكر.
قوله تعالى: (الْحَبِّ).
القمح والشعير ونحوهما، (وَالنَّوَى) نوى التمر والخوخ ونحوهما.
قوله تعالى: (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ).
قيل لابن عرفة: لم قال (فَالِقُ الْحَبِّ) بلفظ الاسم؛ فأجاب بأنه مخرج للتصوير والتعجيب، وإخراج الحي من الميت أغرب وأعجب من إخراج الميت من الحي، وفلق الحب والنوي إنما يكون تحت الأرض فهو غير مشاهد. فلذلك لم يؤت فيه بلفظ البقل؛ لأنه يقتضي التصوير والمشاهدة، كقوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) قلت: وأجاب أبو جعفر الزبير بأن هذه الآية توسطت بين أسماء الفاعلين الواقعة إخبارا؛ لأن قبلها (إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى) وبعدها (فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا) فلذلك قال: (وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ). بلفظ الاسم، قال: وإنَّمَا قال: (يُخْرِجُ الْحَيَّ) بلفظ الفعل لما أجاب به الزمخشري من أنه أتي بيانا، لقوله تعالى: (فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى)؛ لأن فالق الحب اليابس بالنبات من جنس إخراج الحي من الميت.
قوله تعالى: (ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ).
قال ابن عرفة: أورد فيها سؤالا نحويا هو: أن المبتدأ لَا يكون إلا معلوما والخبر مجهولا لم يجز جعله في الجملة الأولى مبتدأ، قال: وأجيب بأنه معلوم من جهة ذاته
مجهول من جهة اتصافه بهذه الأمور، وهذا ينتهي عليه لكن يرد على هذا أنه لما أخبر عنه بهذه الأشياء صار معلوما من الجهتين، فلم تكن للجملة الثانية فائدة؛ فأجيب بأنها أفادت الحصر وهذا معلوم لمن قرأ علم المنطق؛ لأن القضايا على قسمين فمنها قضية تنعكس كنفسها وأخرى تنعكس فتقول كل حيوان متحرك بالإرادة وكل متحرك بالإرادة حيوان، وتقول: كل إنسان حيوان، وأن المتسبب بذلك هو الله تعالى لَا غير.
قوله تعالى: ﴿وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا... (٩٦)﴾
لما كان الحسبان يقع بهما والشمس راجعة للحسبان، الشمس والقمر للحساب القمري برؤية الأهلة.
قوله تعالى: (ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ).
قال ابن عرفة: إن قلت: هل قيل: ذلك خلق العزيز العليم كما قال (هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) فالجواب أن التقدير بمعنى الإرادة، والإرادة فائدتها التخصيص، فلو قيل: ذلك خلق العزيز العليم لما أفاد تخصيصهم صفة دون صفة، وقيدت من بعض كلام أصحابنا في هذه الآية ما نصه:
قال الزمخشري: يصح عطف الشمس على موضع والليل؛ لأن موضعه نصب، فإِن قلت: كيف صح عطفه عليه واسم الفاعل للمضي فلا يعمل، فأجاب بأنه إذا عمل لكونه دالا على معنى في الأزمنة المختلفة.
قال أبو الحسن الطيبي: يعني أن في إضافته اعتبارين:
أحدهما: أنها محضة باعتبار معنى المضي فيه وبهذا الاعتبار يقع صفة للمعرفة.
وثانيها: أنها غير محضة باعتبار معنى الاستقبال فهذا الاعتبار يعمل فيما أضيف إليه، ونظيره قوله تعالى: (أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) كان (أَيًّا). من حيث تضمنها معنى الشرط عاملة في تدعوا ومن جهة كون إنما متعلقا بـ تدعوا معمولا له.
قال ابن القصار: وهذا في غاية الإشكال؛ لأن اعتبارين متضادين في حيز واحد في محل واحد غير مفعول وإضافة الشيء الواحد في خبر واحد لَا تكون متصلة؛ لأنها باعتبار المضي حقيقة وباعتبار الاستقبال غير حقيقة فكيف يلاحظ فيها اعتباران متضادان بخطاب (أَيًّا مَا تَدْعُوا). لأن المحل مختلف والعمل كذلك فأحد المحلين العاملين أي وعلة الجزم، والآخر تدعوا ومحله النصب وهنا المحل واحد وهو الإضافة، انتهى.
174
ورد الشيخ أبو حيان على الزمخشري بأن اسم الفاعل إذا لم يتقيد بزمان فلا يعمل وليس المجرور في محل، كقولك:
أَلْقَيْتَ كَاسِبَهَمْ فِي [قَعْرٍ*] مَظْلَمَةٍ
أجاب أبو إسحاق إبراهيم السفاقسي بأن مراد الزمخشري إنما هو بدلالته على الاستمرار في الأزمنة أبدا ومستقبلا؛ لأنه في كل آنٍ جاعل الليل سكنا إما حالا أو مستقبلا لعمل؛ لأنه بمعنى الحال والاستقبال.
قال صاحبنا ابن القصار: والحق ما قاله أبو حيان؛ لأن مراد النحاة بقولهم اسم الفاعل إذا لم يقيد بالزمان لَا يعمل أي إذا لم يتقيد بزمان متعين إما حال أو مستقبل، فقول الزمخشري: أنه دال على جعل معتبر في الأزمنة المختلفة تقتضي غيرها اعتبره النحاة من كونه لا يعمل؛ لأنه قيد بزمان معين وهو نظير قول الحطيئة:
أَلْقَيْتَ كَاسِبَهَمْ فِي [قَعْرٍ*] مَظْلَمَةٍ
أي الذي من شأنهم أي يكسب لهم في الماضي والحال والاستقبال فهو أيضا لم يتعين بزمان معين إذ الكسب لابد أن يكون في زمان فالمراد غير دال على زمان معين فهو مراد الزمخشري بقوله: دال على عمل مستمر في الأزمنة المختلفة أي أنه مسلوب الدلالة على الزمان المعين، انتهى.
ولما ذكر ابن القصار في شرح سر الخلاف في اسم الفاعل المتعدي لمفعولين إذا كان بمعنى المضي هو الناصب للمفعول الثاني، أو فعل مقدر دل عليه. الأول للسيرافي، قال: قلت لابن عصفور: لَا يوجد هذا في كلامهم أصلا، فاستشهد بقوله تعالى: (وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا) فقلت له: لعلها بمعنى خلق، و (سَكَنًا) حال، فقال: إنه كان من الليل سكنا لَا في حينه، فقلت له: هي حال مقدرة، فقال: يلزمك ادعاء كون الله تعالى موصوفا بهذه الصفة، وصفات الله تعالى توقيفية فلا يوصف إلا بما ورد أنه وصف به نفسه، فقلت: الذي يدل على وصفه يقدر أنه الآن كذلك قد قدره، فقال: لَا دليل لك إذ يمكن أن يكون خلقه أولا لهذا ثم جعله هكذا يعني الخلق، انتهى.
قلت: قال ابن القصار: هذا البحث بناء على إنما جعل سكنا حالا من اسم الفاعل وهو غير جائز عند البصريين؛ لأنها تكون صفة جرت على غير من هي له، فيجب إبراز الضمير عند البصريين؛ لأن السكون من جهة الليل والمعنى جاعل الليل ذا سكون
175
أو سكونا فيه، وليس المعنى جاعل الليل مقدرا فيه السكون حتى يلزم منه وصف الله تعالى، المعنى جاعل الليل مقدرا فيه السكون ومقدرا اسم مفعول، فلا يلزم منه هذا بالنص لكن باللزوم من جهة أن الله هو الفاعل لكل شيء، قال: ونص النحويون في خبر المبتدأ والحال والصفة إنما يمتنع جريانها على غير من هي له وإنَّمَا يجب إبراز الضمير فيها مطلقا، والكوفيون يجوزونه إذا أمن اللبس، انتهى.
قوله تعالى: ﴿قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٩٧)﴾
قال الزمخشري: خصص الأول (يَعْلَمُونَ)، والثاني (يَفْقَهُونَ)؛ لأن إنشاء الإنسان من نفس واحدة، ونظيره إلى حالات مختلفة ألطف وأدق صنعة وتدبيرا فناسب تخصيصه بالفقه المقتضي لاستعمال الفطنة وتدقيق النظر.
ابن عرفة: وتقدمنا تقريره بوجهين: المعنى أن العلم راجع للتصور، والفقه راجع للتصديق فتناسب أن يعقب الأول بـ (يَعْلَمُونَ)؛ لأنه بدئ به فعقبه بما هو سابق على التصدق.
قال: وعكس آخرون، فقالوا: العلم راجع لعلم الكلام وغيره من العلوم، وعلم الكلام إنما يتكلم فيه باليقين المحقق لَا بالظن، والفقه أحكامه كلها ظنية فيعلمون أبلغ من يفقهون.
قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ... (٩٩)﴾
ابن عرفة: وقع التذكير بآية سماوية، ثم تخلف أنفسهم، ثم تقوم أنفسهم.
قوله تعالى: (فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ).
هذا التفات، فإن قلت: ما فائدة الالتفات هنا في الانتقال من الغيبة إلى المتكلم، قلنا: فائدته أن هذا الباب أعجب وأغرب من الأول ففيه رد على [الطبائعيين*] إذ لو كانت هذه الأشياء أصل بالطبيعة لكان الشجر المسقي بالماء الحلو حلو أكله، والمسقي بالماء المالح مالحا أكله، قال تعالى (يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) فأسند تعالى فعلها إليه إشارة إلى أنه خالق كل شيء.
قوله تعالى: (فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا).
لأن الجداول ما ينشق يخرج نباته أبيض، ثم يخرج من هذا الأبيض شيء أخضر وانظر نواة التمر كيف يخرج منها بالجمار.
قوله تعالى: (نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا).
هذا زيادة وعظ وتذكير بهذه النعمة.
قوله تعالى: (انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ).
قال ابن عرفة: النظر للتمر فيه في فائدتان: وهي النظر فيه للذة الأكل في الدنيا، والاعتبار والاستدلال على أن له خالقا موجودا وهذا منفعة أخروية ويستوي فيه العظيم والحقير والمالك وغيره، فنظر الإنسان في ملك غيره ليعتبر والأولى قاعدة على المالك.
قوله تعالى: ﴿وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ... (١٠٠)﴾.. قال: هذا يدل على أن أقل الجمع اثنان.
وأجاب ابن عرفة بما قال ابن التلمساني في قوله [(بَنِينَ) *] خيار للرجال بالنكاح وهي إنما يتوجب لواحد.
قوله تعالى: (بِغَيْرِ عِلْمٍ).
قال ابن عرفة: إن قلت: ما أفاد قوله: (بِغَيْرِ عِلْمٍ) مع أن هذا ليس من قبيل المعلوم؛ لأنه محال؟، فالجواب بوجهين:
الأول: أن هذا مما لَا يصح فيه إلا بعلم وليس هذا من الأمر الذي يتكلم فيه بالظن، والحدس.
الثاني: التنبيه على أن ليس لهم في ذلك شبهة ولا مستند بل هو مجرد افتراء وجهالة.
قوله تعالى: (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى).
ابن عرفة: قالوا: فإن قوله (وَتَعَالَى) نفي القابلية، فسبحان لنفي الواقع الموجود (وَتَعَالَى) لنفي القابلية، كقولك: حاش لزيد أن يفعل القبائح.
قوله تعالى: (عَمَّا يَصِفُونَ).
أتى فيه بلفظ المضارع مع أن ذلك ماض قد وقع، ابن عرفة: الجواب أن فيه تسلية للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وإعلام بأنهم ندموا على ذلك فلا يتأسف على كفرهم فإِن الله تعالى منزه عن ذلك لَا يضره شيء من فعلهم.
قوله تعالى: ﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ... (١٠١)﴾
قال الزمخشري: هذه صفة مشبهة باسم الفاعل أي بديعة سماواته، مثل: حسن الوجه أي حسن وجهه، أو خبر لمبتدأ مضمر أي: هو بديع السماوات، كقولك: فلان ثبت العذر.
ابن عرفة: قال صاحب مختصر العين: العذر هو الموضع الكثير الحجارة، وثبت العذر أي لَا نظير معنى أنه لَا يغلب في القتال والحروب أشار إلى أن موضع الأحجار موضع الزهو وعدم الثبات فلا يقدر فيه على متابعة العذر إلا الرجل النحرير الشجاع فهذا الرجل يثبت وكذلك هنا لَا نظير له في إبداعه.
قوله تعالى: (أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ).
استدل في الآية على نفي الولد إما بالبرهان العقلي أو بالخطابة أما البرهان فتقديره أنه مبتدع الشهوات إبداعا لَا نظير له، فدل على أنه الإله والإله موصوف بالكمال منزه عن النقائص، والولد مناف لذلك، وأما الخطابة: فلأن الولد من صفات الأجسام إذ لا ولد في الحقيقة إلا لمن له صاحبة وهو سبحانه منزه عن المجانس.
قوله تعالى: (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ).
قال ابن عطية: هذا اللفظ عام لكل ما يجوز أن يدخل تحته ولا يجوز أن يدخل تحته صفات الله تعالى وكلامه، فليس هو عموما عن مخصوص كما ذهب إليه قوم. لأن العموم المخصوص أن يتناول العام شيئا يخرجه التخصيص فهذا لم يتناوله قط، وإنما هو قولك: قتلت كل فارس وأثخنت كل خصيم فلم يدخل المتكلم بهذا بوجه.
ابن عرفة: هذا خطا؛ لأنه فهم أنه داخل في متعلق لفظ خلق، ونحن نقول هو داخل في قوله: (كُلَّ شَيْءٍ)؛ لأن ذاته تعالى تدخل فيه إن قلنا إنها يصدق عليها لفظ شيء، وإسناد الخلق إلى ذاته قرينة في أنه عام مخصوص لَا يتناوله الذات ولا ما اتصف به.
قوله تعالى: (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).
قيل لابن عرفة: أن ابن دهمان قال في شرح الإرشاد: أن هذا عام مخصوص؛ لأنه تعالى لَا يعلم له صاحبة، ولا يعلم له شريك، فقال ابن عرفة: يريد أنه مخصوص بالمستحيل فهذا غير صحيح؛ لأن المستحيل لَا يطلق عليه لفظ شيء بوجه.
قوله تعالى: ﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ... (١٠٢)﴾
أعاده بلفظ الاسم؛ لأنه أبلغ وليرتب عليه الأمر بالعبادة.
قوله تعالى: (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ).
وعد ووعيد.
قوله تعالى: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ... (١٠٣)﴾
إن قلت: الإدراك أخص من الرؤية فهي نفي للجواز ويتم على مذهبنا ومذهب المعتزلة، وإن قنا: إن الإدراك مساو للرؤية فهي نفي للوقوع عندنا في دار الدنيا على قول عائشة رضي الله عنها وغيرها خلافا لابن عباس - رضي الله عنه -.
قال أثير الدين الأبهري في تأليفه في أصول الدين: لَا تدركه بالأبصار وإنما يدركه ذو الأبصار.
قوله تعالى: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ... (١٠٤)﴾
قال ابن عرفة: هذا من إقامة السبب مقام مسببه أي قد جاءتكم الآية البينة التي ليست في البصائر، ولفظ الرب مناسب على مذهبنا؛ لأن بعثه الرسل محض بفضل من الله تعالى إذ لَا يجب عليه شيء، ولفظة (قَدْ) هنا مناسبة؛ لأن المؤمنين كانوا يتوقعون مجيء ذلك وتذكير العقل.
قال أبو حيان: إما للفصل، وإما لأن التأنيث غير حقيقي.
ابن عرفة: ويرجح الثاني بقوله تعالى: (هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ) إلا أن يقال: أن الإشارة للمتقدم لَا إلى ما بعده.
قوله تعالى: (فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ).
قال أبو حيان: (فَلِنَفْسِهِ) إما خبر عن مبتدأ مقدر أي إبصاره لنفسه، وإما متعلق بفعل مقدر أي فلنفسه أبصر، ورجح الأول ثلاثة أوجه:
الأول: أنه على تضمن كلمتين مضاف ومضافا إليه، وعلى الثاني: تضمن كلمة واحدة وهي أبصر.
الثاني: أن الفاء لَا تدخل في جواب الشرط إذا كان ماضيا إلا بشرطين:
أحدهما: أن يكون مستفهما عنه والآخر وليس هنا.
وأجاب ابن عرفة بأنهم زادوا شرطا ثالثا، وهو: أن يكون ماضيا، ومعنى قوله تعالى: (وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ... (١٠٥)
قال الزمخشري: واللام للصيرورة.
قال ابن عرفة: هذا يناسب مذهب المعتزلة؛ لأنهم يقولون: إن الله تعالى لَا يخلق الشر ولا أراده؟ لأنه قبيح فجعلها للصيرورة أي فعل ذلك ليؤمنوا، قال: أمرهم إلى الكفر.
قال ابن عرفة: ولا يناسب أن يكون للصيرورة لَا عندنا ولا عند المعتزلة؛ لأن من لوازم لام الصيرورة الجهل بالعاقبة، والله تعالى عالم بكل شيء مستحيل عليه الجهل بالعاقبة.
قوله تعالى: ﴿اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ... (١٠٦)﴾
قال ابن عرفة: لما تقدم التنبيه على انقسام الأمة إلى قسمين: فمنهم قسم مكذب يقول: إن تلك الآية يسمعها من غيره ودرسها عليه، ومنهم: مؤمن مصدق لكل ما جاء به أنه من عند الله، أتى بهذا الأمر في معرض الرد على الفريق الأول إشارة إلى أن ذلك وحي من الله تعالى؛ لأنه يسمعه من غيره ودرسه عليه.
قوله تعالى: (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ).
أمر بالتوحيد على سبيل التوحيد أو دليل على الأمر بالاتباع، أي إذا كان منفردا بالألوهية وجب عليك اتباعه فيما كلفك به، قالوا: وهذا دليل على عدم ورود النسخ في القرآن؛ لأنه أمر باتباع الوحي ناسخه ومنسوخه فيفيد الجمع بين النقيضين، وأجاب الآخرون بأنه أمر باتباع المنسوخ إلى وقت معين وباتباع النَّاسخ دائما.
قوله تعالى: (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ).
ابن عرفة: ارض بفعلهم باعتبار الخلق والاختراع، واعلم أن الله تعالى قدره عليهم وأراده منهم وأقدرهم عليه، وإما باعتبار الحكم الشرعي فهو مأمور بقتالهم ونظيره تغيير المنكر واجب مع اعتقاد أن الله تعالى قدر المعصية وأرادها من فاعلها وأقدر عليها، قلت: وجرت هذه الآية في ميعاد الفقيه أبي القاسم الغبريني.
قوله تعالى: (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ).
أن يكون حالا وأن يكون اعتراضا.
فرده عليه الفقيه أبو زيد عبد الرحمن الحلواني بأن ابن أم قاسم نص في شرح ألفية ابن مالك على أن الجملة المنفية بـ لا لَا تأتي حالا إلا بالواو، وأن المضارع بالنفي لا
يستعمل بالواو إلا قياسا، فأجابه أبو العباس أحمد بن القصار عن قوله الأول بقول الشاعر:
رب مهزولٍ سمين [عرضه*]... وسمين [الجسم*] مهزول [الحسب*]
أكسبته الورق البيض أباً... ولقد كان وما يدعى لأب
وأجاب عن قوله ولا تستعمل إلا قياسا بقول الشاعر:
تفانى مصعب وبنو أبيه... وكنت لا ينهنهني الوعيد
أنشدها ابن عصفور في شرح مقربه.
قوله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا... (١٠٧)﴾
ابن عرفة: لو شاء الله عدم إشراكهم.
قوله تعالى: (وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ).
لأن الوصي أخص من الوكيل، ونفي الأخص لَا يستلزم نفي الأعم؛ لأنه إذا أطلق في الوصية عمت في كل شيء، وإذا أطلق في الوكالة لم تعم إلا على رأي الأندلسيين، والوصية من فعل غير المنوب؛ لأنها من فعل الأدب، والوكالة شيء من فعل المنوب عنه لَا من فعل الشخص نفسه فليس هذا تأكيدا وإنما هو تأسيس، قلت: وقال الفقيه الغبريني: لو قال قابل وصالح لأن تكون وكيلا عليهم، قال: ولا يكون تكرارا فحمل الحفيظ على الوكيل.
ابن عرفة: وفيه تسلية للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، كما قال تعالى (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ).
قوله تعالى: ﴿وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ... (١٠٨)﴾
إبلاغ هذا إما راجع للعصاة وإما للمشركين، وظاهر الآية رجوعه للمشركين، لقوله تعالى: (فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ)، وأورد الزمخشري سؤالا سب الآلهة طاعة فكيف نهي عنه، وأجاب بأنها تستلزم مفسدة فكذلك شرع كتغيير المنكر إذا أدى إلى الوقوع في مفسدة.
قال: وحضر الحسن ومحمد بن سيرين في جنازة فرأى محمد بن سيرين نساء فرجع، فقال الحسن: لو تركنا الطاعة لأجل المعصية لأسرع ذلك في ديننا.
ابن عرفة: لأسرع في ديننا بالنقض والاختلال بالطاعة إن كان فعلها يقارن المعصية لم ينبغِ تركها، وإن فعلها يوجب نهي عنها ولم ينبغِ فعلها كما قالوا في حضور الوليمة.
قوله تعالى: (كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ).
قال الفخر: فيها حجة لأهل السنة في قولهم: إن الله خالق الخير والشر، ابن عرفة: بل هي حجة للمعتزلة لقوله (عَمَلَهُمْ) فنسبة العمل إليهم، وإنما فيها حجة لأهل السنة من وجه آخر وهي قاعدة مراعاة الأصلح، بمعنى أن الله يجب عليه مراعاة الأصلح للعبد؛ لأن كفر الكافر ليس بأصلح شرعا.
قوله تعالى: ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ... (١٠٩)﴾
قال أبو حيان: الجهد بالفتح هو المشقة، وبالضم بلوغ الطاعة.
ابن عرفة: المناسب العكس وعليه تدل الآية إلا أن يقولوا: يصح إيقاع أحدهما موقع الآخر، حسبما قال ابن قتيبة في (أدب الكاتب) وذكر أبو حيان في إعراب جهد أيمانهم وجوها، وزاد ابن عرفة أن يكون معنى المصدر محذوفا أي قسما جهد أيمانهم.
قوله تعالى: (لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا).
ذكرا المفسرون في سبب نزولها أن المشركين طلبوا من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يصير لهم الصفاء ذهبا ويؤمنوا.
وأورد ابن عرفة هنا سؤالا قال: أنه لو جاءتك آية على وفق تمنيهم لكانت معرفة، فكان يقال: (لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا) فلم نكرت؟، وأجيب بأنها نكرت تنكير تعظيم وتخصيص بالصفة أي آية مصرحة، كما قالوا في قوله تعالى: (وَالْفَجْرِ (١) وَلَيَالٍ عَشْرٍ).
قوله تعالى: (وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ).
قال ابن عرفة: الشعور: هو إدراك أوائل الشيء، فالشعور هو أوائل التصور ومبادئه فهو أعم من التصور الحقيقي والتصديق، فكذلك النفي؛ لأن نفي الأعم يستلزم نفي الأخص.
قال ابن عرفة: وأشعر من أخوات ظننت، قلت: [رده*]، وقال: بل هو من أخوات [دريت*]، قلت: وفي صحاح الجوهري ما نصه أشعرته فشعر أي من أدريته فدرى، وأشعرته ألبسته الشعار، وأشعره فلان شرا: غشيه به، يقال: أشعره الحبُّ مرضا.
وذكر أبو حيان في إعرابه وجوها: منها: أن لَا زائدة وأن بمعنى لعل،
ابن عرفة: والخطاب على هذا لم يجز بعدم إيمانهم فيكون في هذا عذر لهم. في طلبهم الآية المتقدمة.
قوله تعالى: ﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ... (١١٠)﴾
وقال في سورة الأحقاف (وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً) فقدم الأفئدة هنا على الأبصار وأخرها هناك في الأحقاف، قال: وعادتهم يجيبون أن السمع والبصر طريقان إلى القلب، وآية الأحقاف خرجت مخرج نفي الطرق والأسباب لقوله تعالى: (فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ) فاعتبرت فيه السببية، وهذه الآية خرجت مخرج إثبات المعنى الذي في القلب والإعدام بأن حصوله فيه إنما هو من الله تعالى لَا من غيره، فالله تعالى خلق في قلوبهم ضد الإيمان فلا يقابل غيره بوجه؛ لأن المقصود فيه الضد، فلا فائدة في الوسيلة أثر بوجه؛ لأن المقصود فيه الضد فلا فائدة في الوسيلة.
قوله تعالى: (كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ).
في هذا تنبيه على أن الإنسان ينبغي له أن يعتقد كمال التوحيد لله عز وجل، وأن لا فرق بين حالتهم قبل نزولها ولا بعد نزولها فدل على أن جميع ذلك بخلق الله تعالى وإرادته فلا يؤمنون بعد صيرورة الصفاء ذهبا كما لم يؤمنوا قبل ذلك، ومنهم من جعل الكاف للتعليل ويكون من المعاقبة بالذنب على الذنب.
قوله تعالى: (وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ).
هذا أيضا من المعاقبة من الذنب بذنب آخر وهو أشد من العقوبة بالفعل لاستلزامه العقوبة على الأول والثاني.
قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ... (١١١)﴾
ابن عرفة: أخذا به؛ لأن قوله (وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) يقتضي في غمة وحيرة، فقد يتوهم أن عدم إيمانهم بعد مجيء الآية التي طلبوا من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لأجل شبهة تعرض لهم فيكون في غمة وحيرة بسببها، وإلا فقد حصل لهم العلم، فأفاد هذا أنهم يمتنعون لَا لأجل شبهة بل لكون الله تعالى أحيا لهم الأموات فكلموهم.
قيل لابن عرفة: هذا إن أريد الكلام من الحجر والحمار وهو الحروف والأصوات لا كلام النفس.
قوله تعالى: ﴿وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ... (١١٣)﴾
هذا راجع إلى استماع الآية.
قوله تعالى: (وَلِيَرْضَوْهُ).
راجع إلى التصديق بها.
قوله تعالى: (وَلِيَقْتَرِفُوا).
راجع إلى العمل بمقتضاها.
قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا... (١١٤)﴾
هذا إما لعلة الحكم، كما تقول: أتزني وأنت شيخ، أتكذب وأنت ملك، أتتكبر وأنت عائل، والخطاب عام في المسلمين وأهل الكتاب.
قوله تعالى: (فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ).
فهي أخص، فإن قلت: هلا قيل فلا تكونن ممتريا؟، فالجواب أنه شبه ما قالوه في قوله تعالى: (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) أي لو وقع منه [ظلم*] [كان كذلك*].
قوله تعالى: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا... (١١٥)﴾
قال ابن عطية: تمت أي استمرت، وصحت في الأول وليس بتمام من نقص عارض لها في ذاتها.
ابن عرفة: أو يكون من نقص يتوهمه متوهم؛ لأنه من نقص عارض لها في ذواتها، وقرئ كلمة بالإفراد.
ابن عرفة: فالجمع؛ لأنها متعددة باعتبار متعلقها، والإفراد بكونها مفردة بالنوع، كذلك تقول: قرأت كلمة فلان يعني قصدته.
قوله تعالى: (صِدْقًا وَعَدْلًا).
قال الزمخشري، وابن عطية عن الطبري: إنهما على التمييز زاد ابن عطية إنها مصدر في موضع الحال، أبو حيان: حال من ربك أي حال كونها من ذي صدق أو حال من كلمات، أو مفعول من أجله، ورده ابن عرفة بأنه لَا يقال: ثم صدقها [فتمت*]
هي في نفسها والصدق من صفاتها بعد التمام، وقال: وصدقا راجعا للخبر وبعضها أخبار وبعضها أحكام.
قوله تعالى: (لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ).
قال ابن عرفة: فيه حجة لأهل السنة القائلين بأن الأمر ملزوم للإرادة فلا يأمر إلا بما يريد، فالكفار مأمورون بالإسلام وقد كفروا وكذلك العصاة، فقد وقع التبديل فكيف ينفي التبديل، قال ابن عرفة: هذه الآية خرجت مخرج التهييج والإلهاب (فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) تهييج وإلهاب على الأمور العلية.
قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ... (١١٦)﴾
قال ابن عرفة: هذه الآيات خرجت مخرج التهييج على الأمور العملية، وعبر بأن الداخلة على المحال والمشكوك فيه دون إذا الداخلة على المحقق الوقوع أو الراجح الوقوع، ابن عرفة: وفي الآية حجة لمذهب أهل السنة القائلين بأن الأمر يشترط فيه الاستعلاء دون العلو؛ لأن الطاعة من موافقة الأمر، والآمرون هنا متصفون بالاستعلاء فقط؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أعلى منهم.
ابن عرفة: وقد يجيبون بأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أعلى من الكفار في نفس الأمر باعتبارهم دعواهم أنهم أعلى.
قال ابن عرفة: والأكثر يطلق باعتبار الكمية وباعتبار الصفة والكيفية ومثله إذا جعلت دنانير مغربية في جهة، ودنانير تونسية [هي*] أقل عددا من المغربية، وقلت لرجل أعط لفلان أكثر تلك الدنانير فإن حملت الأكثر على الكمية صح أن تعطيه من هذه ومن هذه عددا يكون أكثر من باقي مجموعها، وإن حملت على الكيفية إنما تعطيه الدنانير المغربية والكثرة هنا إنما هي باعتبار الكيفية وهم المشركون وكثرتهم إما باعتبار أن يكونوا رؤساء قومهم فهم أكثر باعتبار الشهرة والرفعة، كما قال تعالى (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا)، وإما باعتبار عددهم.
قوله تعالى: (إِنَّ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ).
أخذوا منه نفي العمل بخبر الواحد ونفي العمل بالقياس، وأجيب بأن المراد إلا الظن الذي دل على بطلانه.
قوله تعالى: (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ).
إن كان حالا من ضمير [لهم*] فيكون جوابا لمن استدل بها على إبطال الخبر بعمل الواحد والقياس، وإن لم يكن حالا منه، فيجاب عن ذلك بما قلناه.
قوله تعالى: ﴿هُوَ أَعْلَمُ... (١١٧)﴾
ابن عرفة: هذا فعل من يقتضي المشاركة لكن باعتبار الحقيقة لَا مشاركة، وباعتبار القسم المشاركة حاصلة.
قوله تعالى: (مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ)
عبر هنا بالفعل، ثم قال (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) فعبر بالاسم؛ لأنه لما كان الاهتداء مأمورا به مطلوبا تحصيله جعل كالأمر الثابت المحقق فعبر فيه بأخص أوصافه وهو الاسم الدال على ثبوته وتحققه، ولما كان الضلال منهيا عنه مطلوبا عدمه عبر فيه باللفظ الأعم الدال على المطلق على ضلال منه، فجعل على ما قالوا من استعمال الأعم في النفي؛ لأن نفيه يستلزم نفي الأخص في الثبوت؛ لأن ثبوته يستلزم ثبوت الأعم؛ لأنه إذا نهي عن مطلق ضلال فأحرى أن ينهي عن الحصة الثابت المحقق، وإذا أمر بالهداية الكاملة المحققة فأحرى أن يؤمر بما دونها.
قوله تعالى: ﴿فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ... (١١٨)﴾
ذكره الزمخشري هنا للمشركين دليلا خطابيا وهو أنهم قالوا: أنتم تعبدون الله فحقكم أن تأكلوا الميتة؛ لأن أكلكم مما قتل الله أولى مما قتلتموه أنتم؛ لأن الشيء يشرف بفاعله فنزلت الآية، وهذا الأمر إما للإباحة والامتنان إن لم يعتبر فيه قيده، وإما للندب أو الوجوب إن اعتبرناه؛ لأن التسمية إما مندوب إليها أو واجبة، فإن جعلناه مأمورا بالأكل كما أمر بالتسمية، كان الأكل واجبا، أو مندوبا، فلا يحل له إذا ذبح شاة أن يتركها؛ لأنها من باب إضاعة المال، ونظيره قولك: [ادخل المسجد*] فإن [اعتبرت قيده*] كنت قد أمرته بالدخول والصلاة، وإن لم يعتبر القيد، [فقد*] أمرته بالدخول فقط.
قوله تعالى: ﴿وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ... (١١٩)﴾.. حمله ابن عطية
بوجهين:
أحدهما: أنه نهى عن ترك الأكل مما ذكر اسم الله عليه وفي ضمنه الأمر بالأكل مما ذكر اسم الله، بناء على أن النهي عن الشيء أمر بضده.
والثاني: أنه أمر بالتسمية بناء على أن الأمر بالشيء أمر بما لَا يتم ذلك الشيء إلا به كالأمر بالأكل مما ذكر اسم الله أمر بالتسمية عليه عند الذبح.
قوله تعالى: (إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ).
الاستثناء إما متصل أو منفصل، فإن كان متصلا فهو مستثنى من الضمير القائم مقام الفاعل في (حَرَّمَ عَلَيْكُمْ) على قراءة البناء للمفعول، أو في الضمير للمفعول به على قراءة البناء للفاعل..
قوله تعالى: (بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ).
قال ابن عرفة: الفعل على الميتة أقسام فإن كان لمجرد هوى النفس من غير اتباع علم لم يجز، وإن كان لمجرد العلم من غير اتباع هوى فهو المطلوب المثاب عليه وإن كان لهما معا فإن كان الوارد على فعله هوى النفس فهو مأثوم بما فعل منها كالقاضي يحكم بالحق تشيعا فيه وإذا كان الوارد على فعله العلم فهو جائز.
قوله تعالى: ﴿وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ... (١٢٠)﴾
قالوا: ورود النهي عن الشيء بصيغة لَا تفعل أبلغ من وروده بصيغة اترك، فقولك: لَا تقم أبلغ من قولك: اترك القيام فما الحكمة في العدول عنها في هذه الآية، قال: وأجيب بأن ذلك إنما هو إذا لم يعقب لك الأمر بجزاء يقتضي تأكيده، وهنا عقب الأمر بجزاء، ولا شك أن ترتيب الجزاء على الفعل باعتبار الوجود الخارجي أظهر من أن يغفل ترتيبه على الترك.
قوله تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ... (١٢١)﴾
قال ابن عرفة: الآية دليل على أن الاسم غير المسمى؛ لأنه ما المراد هنا إلا الذكر اللفظي واختلفوا، فقال بعضهم: الآية إنما هي في الميتة وحجته أن المفسرين ذكروا في سبب نزولها أن الكفار قالوا: كيف تأكلون مما قتلتم ولا تأكلون مما قتله الله؟؛ فنزلت الآية ردا عليهم؛ فدل على أن المراد بما مات حتف أنفه لَا ما ذبح ولم يسم عليه.
قوله تعالى: (وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ).
قال ابن عرفة: القاعدة أن يأتوا به مفصولا لَا موصولا بحرف العطف، قال: والجواب أن الأول أتى للتعليل؛ لأن ذكره الوصف المناسب عقيب الحكم يشعر بكونه علة للحكم؛ فلذلك عطف عليه هذا ليفيد أن الحكم معلل بعلتين:
أحدهما: الترك وهي عدم التسمية، والأخرى منصوص عليها.
قوله تعالى: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ... (١٢٢)﴾
هذا إنكار للتسمية؛ فانظر هل هو من عكس التشبيه؛ لأنه تشبيه الحقير بالعظيم لا تشبيه العظيم بالحقير أو لَا؟.
قوله تعالى: (كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ).
إن قلت: هلا قيل كمن هو في الظلمات؟ قال: والجواب أن هذا أبلغ، لأن قولك: مثلك لَا يفعل أبلغ من قولك: أنت لَا تفعل هذا؛ لاقتضاء الأول نفي الفعل ونفي القابلية للفعل، والثاني إنما يقتضي نفي الفعل، وجمعت الظلمات لتشعب طرق الشرك وتعددها، وأفرد النور لَا في طريقة واحدة، قلت: لأنه إذا أنكر تشبيه أيما شيء في مطلق كالمخلد في الظلمات.
قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا... (١٢٣)﴾
قال ابن عرفة: انظر هل المراد أكابرهم مجرمون فيكون من إضافة الصفة للموصوف، مثل دار الآخرة وجانب الكرسي؛ أي جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها فعلى الأول يكون ليس في كل قرية مجرمون إلا أكابرها، وعلى الثاني المجرمون منها أعم.
ابن عرفة: والظاهر الأول تنعمهم وإترافهم وجاههم يحملهم على الإجرام والمعصية، قال تعالى (وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ)
قوله تعالى: (لِيَمْكُرُوا فِيهَا).
قال ابن عطية: (لِيَمْكُرُوا) نصب بلام الصيرورة.
قال ابن عرفة: هذا اعتزال؛ لأن المعتزلة يقولون: إن الله تعالى [يجب عليه مراعاة الأصْلح*]، يخصهم [به*] ليطيعوه.
ابن عرفة: أي أن تكرار أن لام الصيرورة من لوازمها الجهل بالعاقبة، والله تعالى عالم بكل شيء؛ فلا يتم هذا التفسير لَا على مذهبنا ولا على مذهب المعتزلة.
قوله تعالى: ﴿لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ... (١٢٤)﴾
قال ابن عرفة: حتى أبلغ في الغاية من إلى، قال: وهذا تهكم وإخبار بأن إيمانهم به محال؛ لأنهم إذا أوتوا مثل ما أوتي رسل الله فلم يؤمنوا بالرسل وإنما آمنوا بما أوتوا إلا بما جاء به الرسول؛ فكأنهم يقولون: لن نؤمن أبدا.
قوله تعالى: ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ... (١٢٥)﴾
قال ابن عرفة: المراد الغاية الأخصية لَا الأعمية المذكورة أي (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) والإسلام هنا بمعنى الإيمان إذا لوَ لم يكن بمعناه للزم عليه وجود الإيمان دون هداية، واللازم باطل فالملزوم مثله بيان والملازمة؛ إذ الآية دلت على أن [كلما وجدت إرادة الهداية وجد الإسلام*]، والإسلام راجع إلى الأعمال الصالحة، والإيمان راجع إلى الاعتقاد القلبي وهو مجرد التصديق فلو لم يكن هناك شيء لكانت الهداية مستلزمة لوجود الإسلام الذي هو من فعل الجوارح فيكون الإيمان وجد قبلها دون هداية.
قال: والجواب أن الهداية مستلزمة لشرح الصدر للإسلام كأنها مستلزمة للإسلام يكون محصول الإيمان قبل الإسلام.
قوله تعالى: (يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا).
قال ابن عرفة: كان بعض الشيوخ يقول: إن الضيق راجع إلى أمر محسوس وهو أن المظروف فيه أكثر من الظرف حسا، والحرج راجع إلى أمر معنوي وهو نفي القابلية عن اتساع الظرف للمظروف إما بعدم خلق الهداية في القلب؛ وإما بخلق الضد فيه فلا يقبل الهداية، قال: وكان مثل الضيق الحسي بيت صغير أردت أن تدخل فيه جملا فلم يسعه، وكذلك دخول الجمل في سم الخياط فإنه يضيق عنه، ومثل الحرج المعنوي ببيت كبير يسع الجمل حسا، وعدم هدايته لَا يسمع بمعنى أنه لَا يستطيع يقاوم فيه؛ فكذلك قلب من أضله الله.
قوله تعالى: (كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ).
عبر هنا بالإيمان وهو أعم، وقال قبله (يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ) فأتى هذا كله على الأصل مثل استعمال الأخص وهو الأعم في الثبوت والأَعم في النفي، (فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ).
قوله تعالى: ﴿وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا... (١٢٦)﴾
الإشارة إلى مطلق حكم الله الأعم في إضلال من أضل الله وهداية من اهتدى.
وكان بعضهم يقول: إنه لف ونشر، فالصراط المستقيم لقوله تعالى: (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا) أي هذا حكم العذر في عباده.
قوله تعالى: (قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ).
راجع لقوله (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ) بأن التذكير راجع للاهتداء، وتفصيل الآيات يحتمل أن يكون ابتدائيا، ويحتمل أن يكون مسبوقا بإجمال، فإن كان التفصيل يستلزم تقدم الإجمال فيكون حجة لمن يقول من المبتدعة: إن العلوم كلها تذكيرية.
وحكى الأصوليون الخلاف في البيان يقتضي تقدم الإجمال أم لا.
قوله تعالى: ﴿لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ... (١٢٧)﴾
إن كان تقديم المجرور لحصر الضمير عاما في المؤمنين طائعهم وعاصيهم؛ أي دار السلام والنجاة ليست إلا لهم لَا لغيرهم، وإن يكن للحصر فيكون الضمير عائدا على المؤمنين الطائعين فدار السلام لهم ولا بد أن يكون ذلك لغيرهم وهم العصاة من المؤمنين.
قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا... (١٢٨)﴾
قيل: العامل فيه وليهم.
ابن عرفة: فلابد من إضمار بما يعطف عليه، أي: وهو وليهم في الدنيا ويوم نحشرهم.
قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا... (١٢٩)﴾
وتبعه في دخول النار، والاثنان راجعان للدنيا
أحدهما: العبادة أيضا بعضهم ولي بعض في الكفر والظلم، والثاني عكسه لابن زيد أن يسلط بعضهم على بعض ويجعله وليا في القهر منتقما منه.
ابن عرفة: فاسم الإشارة على الأول راجع لقوله تعالى: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا)؛ لأنه أمر أخروي، وعلى الوجه الثاني والثالث يرجع لقوله تعالى: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ)، (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ)؛ لأنه أمر دنيوي، والآية تدل على إطلاق البعض على الأكثر، فإن قلت: قد يكون نفي بعض ثالث مسكوت عنه كما تقدم في قوله تعالى: (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُم عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ) قلنا: هنالك يمكن الجواب بهذا، وأما هنا فهذا تقسيم مستوي.
قوله تعالى: ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ... (١٣٠)﴾
المعشر هم الجماعة، وتصدير الآية بها توطئة لما رتب عليها وبه يترجم تأويلها، بأن المراد بقوله (رُسُلٌ مِنْكُمْ) أنهم من الإنس فقط، كقوله (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ) وهو إنما يخرج من البحر المالح.
قوله تعالى: (قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا).
ابن عطية: هذا إقرار منهم بالكفر.
ابن عرفة: باعتبار شهادة كل واحد على نفسه، ويحتمل أن يكون شهادة حقيقية باعتبار شهادة كل واحد على غيره.
قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ... (١٣١)﴾
ابن عطية: حملته على معنيين:
أحدهما: أن الله تعالى لم يكن ليظلم القرى فيهلكهم دون أن يبعث إليهم رسولا يبين لهم الشرائع والأحكام وينذرهم والباء على هذا للسبب، ابن عطية: وهذا هو البين القوي.
ابن عرفة: هذا المعنى لَا يهلك القرى بظلم منه لهم أو بظلم من بعضهم لبعض، ابن عرفة: والتأويل الأول لَا بشيء إلا على قواعد المعتزلة القائلين بوجوب بعثة الرسل عقلا، ونحن نقول: إنما يجب شرعا وهي محض تفضل من الله تعالى عز وجل، وفي الجائز أن يعذب الطائع وينعم العاصي وليس ذلك [ظلما*] بوجه؛ لأن الكل ملكه وهم يقولون: ذلك قبيح ويستحيل عليه فعله، ونحن نقول: الحسن ما حسنه الشرع، والقبيح ما قبحه، وحتى ابن عطية كان يبين هذا.
قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ... (١٣٨)﴾
قال ابن عرفة: ذكر ابن العربي هنا في الأحكام والقرافي وغيرهما أن هذه الآية احتج بها من أنكر الاستحسان، ووجه الدليل ما قاله أشهب في كتاب الخيار فيما إذا ورث قوم خيارا فاختلفوا فالقياس أن لهم ألا يأخذوا جميعا أو يردوا جميعا، والاستحسان إن لمن أراد منهم أن يأخذ نصيب الراد إن شاء يفرق بينه وبين القياس وما الفرق بينهما إلا أن القياس مستند إلى حكم شرعي معبر عنه مصرح به، والاستحسان مستند إلى شيء قليل.
ابن عرفة: بل الفرق بينهما أن القياس مستند إلى حكم شرعي معبر عنه مصرح، والاستحسان مستند إلى ذلك لكنه في خاطر المجتهد ولا يقدر على التعبير عنه، فقد خالف بينهما أشهب فجعلهما متباينتين وما قلتموه ليس بمخالفة.
قوله تعالى: (وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا).
قيل لابن عرفة: وهلا قيل: وأنعام يذبحونها لآلهتهم ويذكرون اسم آلهتهم عليها، فقال: ذموا على الوصف الأعم ليدل على الأخص من باب أحرى.
قيل لابن عرفة: أول الآية حكاية من مقالتهم وآخرها خبر عنهم، لقوله تعالى: (هَذِهِ أَنْعَامٌ)، ثم قال (وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا) فقال: هذا التفات في الأخبار وهذا كثير شائع، وعنه قوله تعالى: (افْتِرَاءً عَلَيْهِ).
قال ابن التلمساني في باب الفتح: اختلف في تكذيب من كذب على الله وأجمعوا على تكفير من كذب على الله تعالى.
قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا... (١٣٩)﴾
ابن عرفة: إن قلت: ما أفاد قوله تعالى: (وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا)، فالجواب أن الأول أفاد وجوده للذكور وبقي الأمر محتمل هو مباح للإناث أم لَا، كما قال مالك: واجب لك ولا يمنع أن تعطيه لغيرك هبة أو صدقة أو تبيعه له.
قوله تعالى: (وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ).
ابن عرفة: قد يقال: إن أول الآية مناقض لآخرها فأولها مقتضٍ خلوصه للذكور دون الإناث مطلقا، وآخرها يقتضي اشتراك الكل في الميتة منه شركة التساوي، لكن الجواب قوله تعالى: (سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ)، وقال تعالى (سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ)، والجواب بأن الأول راجع للذوات وهذا حكم راجع لأوصاف الذوات؛ لأن الأول (وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ) (لَا يَطْعَمُهَا) فهذا راجع لذوات الأنعام، وقال هنا: (وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ) فهو وصف بالمحرمات، وفي حكمها لقوله (وَمُحَرَّمٌ) والتحريم وصف شرعي، وما في بطون وصف في المحرم، وهناك لم يقل: ومحرم إطعامها، وإنما قال: (لَا يَطعَمُهَا) فناسب الأول لفظ الافتراء، والثاني الوصف.
قوله تعالى: ﴿سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ... (١٤٠)﴾
القتل قسمان: قتل مستند إلى شبهة، وقتل غير مستند إلى شبهة فهذا تغيير لاحتمال أن يظن أحد أنهم قبل ذلك مهتدين.
قوله تعالى: ﴿وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا... (١٤٢)﴾
(مِن) إما للتبعيض أو لبيان الجنس.
قيل لابن عرفة: شرطها تقدم الجنس البين، قال؛ إن لم يتقدم لفظا فهو متقدم معنى، والحمولة: ما تحمل الأثقال من الإبل والبقر عند من عادتهم يحملون عليها.
قال أبو حيان: واتفقوا، قال ابن عرفة: إنما يريد واتفقوا أنهم اتفقوا على دخولها هنا معها لَا على أنها تصدق عليها لغة.
قال ابن عرفة: ويحتمل عندي أنه يريد بالحمولة ما يحمل المشقة عن الإنسان بتناول البقر وإلإبل؛ لأنها تحمل عليها مشقة الحرث، فلا يريد بالحمل الحسي بل يريد الحمل المعنوي، قال: وجعلها ابن عطية من عطف الموصوفات، والزمخشري من عطف الصفات.
فعلى قول الزمخشري يرد السؤال؛ لأن القاعدة في الصفات أنها إن كانت متناقضات فالأصل بالواو، كقولك: زيد قائم وقاعد ولا يذكر بغير واو إلا على سبيل المجاز، وإن كانت غير متناقضة فالأصل إثباتها غير معطوفة، كقولك: زيد قائم ضاحك مثلا، وهذه الصفات غير متناقضة فلم جيء بها معطوفة؟، قال: وأجيب بأن الصفات لها اعتباران: اعتبار من حيث ذاتها، واعتبار من حيث نسبتها للموصوف بها؛ فمن حيث نسبتها للموصوف بها هي واحدة فتكون غير معطوفة، ومن حيث ذواتها هي متعددة مختلفة فتأتي معطوفة.
قوله تعالى: (كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ).
هذا الأمر للإنسان، وجعلها الفخر حجة للمعتزلة في أن الرزق لَا يطلق إلا على الحلال، وقرره ابن عرفة بالشكل المثالي وهو أن الرزق مأمور بأكله ولا شيء من الحرام مأمور بأكله فينتج لَا شيء من الحرام برزق، وزاده بأن ذلك إذا لم يكن للتبعيض، وإن جعلها للتبعيض لم تكن فيه دليل لهم.
قوله تعالى: (وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ).
قال ابن عرفة: الخطوة ما بين القدمين، والخطوة ما بين نقل القدم إلى القدم.
قوله تعالى: (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ).
هذا أخف من قوله تعالى: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا).
قوله تعالى: ﴿ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ... (١٤٣)﴾
قال ابن عرفة: الزوج هو الواحد باعتبار ما أضيف إليه، ولذلك كانت ثمانية أزواج وإلا أربعة خاصة، ومنه النقيضين داخلين، ولذلك [من سرق لرجل فردة فرق، ولم يكن عنده غيرها، فإنه يغرم له قيمتها مفردة، وإن سرق له فردة واحدة من فردتين فرق كانتا عنده فإنه يغرم له قيمتها باعتبار كونها مع أخرى؛ لأنه أفسده عليه وهو أكثر من قيمتها، وبه يفهم قول إمام الحرمين: الجوهران إذا تآلفا كانا جسمين، وهكذا آخرون؛ لأنه أطلق على كل واحد منهما أنه جسم.
قوله تعالى: (قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ).
كأنه يقول الذكرين حرم بالتعيين أم الأنثيين أم أحدهما من غير تعيين، والاستفهام للإنكار، قيل لابن عرفة: قال ابن خروف: إن (أم) المتصلة لَا يتقدمها الاستفهام الحقيقي، قال ابن عرفة: وأخذوا من الآية إبطال الحسي المشكل وأنه ليس في المأخوذ، [فالإنسان*] إما ذكر أو أنثى.
قوله تعالى: (نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ).
يرد عليه أن هذا إنشائي لَا خبري، والصدق والكذب من عوارض الخبر فقط، والجواب أنه خبر عما حكم به آباؤهم من تحريم السائبة والوصيلة والحام.
قوله تعالى: ﴿وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ... (١٤٤)﴾
قال ابن عرفة: وجه الترتيب في هذا بين الحمولة والفرش مراعاة كون استعمال الإنسان بالنقلة إلى الموضع الذي تعلق غرضه به أنهم عليه من اشتغاله بالأكل فترتيب الانتقال من موضع إلى موضع عن الأكل أولى من العكس، وجه الترتيب بين الضأن والمعز والإبل والبقر أن الضأن فيها منفعة الأكل ومنفعة الأكل عامة. وهي أعم على الإنسان من منفعة الحمل؛ ولأن الأجمل في الضحايا الضأن، ووجه تقديم الإبل والبقر أن الحمل عليها أكثر وأعم من البقر وهي أقوى على الحمل من البقر.
قوله تعالى: (إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا).
قال ابن عرفة: الوصية على الشيء أقوى من الأمر به.
قوله تعالى: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا).
أي لَا أظلم ممن كذب على الله كذبا لَا شبهة له فيه؛ فهذا هو الافتراء وله نظائر في القرآن، وتقدم لنا في الجمع مثلها أن ينتج مساواتها في الظلم إلا ما قام الدليل فيه على عدم المساواة.
قوله تعالى: (لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ).
كان بعض الشيوخ يقول: إنه لَا يتناول من يقضي بغير علم ومن يدرس بغير علم؛ لأنه يقتدى به في ذلك ويعمل عليه فينتج مفسدة عظيمة، قال: وأما العلم الديني فكان ابن عبد السلام يقول: هو جائز عقلا لكنه لم يقع بوجه، فما رأينا ولا سمعنا وليا صالحا لم يحضر ميعادا قط، ولا قرأ على شيخ صار فقيها بوجه، وإنَّمَا يخلق الله له العلم مسألة مخصوصة معينة فيتكلم فيها بالصواب إما أنه يعلم مسائل المدونة كلها من أولها إلى آخرها، ومسائل البخاري كلها، فهذا أمر جائز عقلا محال عادة لم يقع بوجه.
قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).
إن كانت الألف واللام للعهد يبقى الذي علم دوام ظلمهم فهو عام، وإن كانت للجنس فهو مخصوص.
قوله تعالى: ﴿قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ... (١٤٥)﴾
قال ابن عرفة: هذا أمر قاض به بخلاف سائر الأمور، مثل (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ)، (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) فإنه أمر لَه ولسائر أمته بالتبعية له، وتقدم الكلام هو مأمور بتتابع الآية بكمالها، أو مأمور بقوله (لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا). إلى آخر الآية، وتقدم أن لَا لنفي المستقبل بالذات وقد ينفي الحال، وهي هنا لنفي الحال؛ لأن الوحي إليه ماض ولا يصح أن يريد ما أوحي إليه به في المستقبل؛ لأنه قد أوحي إليه بعد بتحريم أمر آخر ليست في هذه الآية، قالوا: وأخذوا من الآيتين مطلبين:
أحدهما: أن الأشياء على الإباحة بدليل استثناء ما استثنى منها، والقاعدة أنه إنما يخرج القليل من الكثير ولا يخرج الكثير من القليل، وأجيب بأنه قيل بأنها للحصر، وذكرت المحرمات فكونه استثنى منها حالة الاضطرار.
الأمر الثاني: الآية دالة على أن أحكامه صلى الله عليه وعلى آله وسلم كلها مسندة إلى الوحي لَا إلى الاجتهاد بوجه، وأجيب بأن الاجتهاد مستند أصله إلى الوحي.
ورده ابن عرفة؛ لأن ظاهر الآية استثناؤه في أحكامه إلى الوحي بالنص على كل حكم لَا بالاجتهاد، فإن قلت: ما أفاد قوله: (يَطعَمُهُ) مع أنه لو أسقط لم يختل المعنى.
قال ابن عرفة: عادتهم يجيبون بأنه أفاد دخول ما يطعمه الوصي لولده من مال محجوره، وقوله: (عَلَى طَاعِمٍ) إنما يتناول أكله هو بنفسه، ورد بأن ذلك إنما يتجه لو قال: على طاعم يطعمه بالفم، وأجاب ابن عرفة: بأن طاعم [تعدَّى*] بنفسه، وأجاب ابن المنير بأنه أتى به ليدخل فيه المأكول والمشروب، قال تعالى (فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي)، ورده ابن عرفة: بأن ذلك مستفاد من لفظ طاعم، فإن قلت: ما أفاد قوله: (إلا أَنْ يَكُونَ). وأنت إنما تقول: أكرم الرجال إلا الجاهل، ولا تقول: إلا أن يكون جاهلا؟ قال: قلت: الجواب أن هذا فيمن اتصف بكون التناول، اتصف بكون الذبح، فهو حلال، أو اتصف بكون موته حتف أنفه، فهو حرام، فهو كون مختلف.
قوله تعالى: (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ).
غير باغٍ في سفره ولا عاد في أكله في الميتة فوق الحاجة منها مقدار الحاجة فقط.
قوله تعالى: ﴿وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا... (١٤٦)﴾
ابن عرفة: إنما استثنى هذه الصعوبة تخليصه من اللحم والعظم لاختلاطه بهما.
قوله تعالى: (وَإِنَّا لَصَادِقُونَ).
قال ابن عرفة: المراد به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، كقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ) أي: وإنك لصادق إثباته على المعجزة لَا يصح نسبته إلى السمع؛ إذ لو صح ذلك للزم الدور أو التسلسل.
قيل لابن عرفة: نص المقترح وابن التلمساني على أن الكلام النفسي لَا يقال في صدق ولا كذب، وفرق بين التصديق والصدق، وأنه لَا يلزم من الصدق التصديق بوجه.
قوله تعالى: ﴿فَإِنْ كَذَّبُوكَ... (١٤٧)﴾
قال ابن عرفة: تكذيبهم له حق واقع، فإن عبر عنه بأن على جهة التلطف في العبارة؛ لأن في خطابه التكذيب المعبر عنه بما يدل على وقوعه حقيقة إيحاش وجفاء وغلظة، كما تقول لمن مات أخوه: إن أخاك شديد المرض فامض إليه.
قوله تعالى: (ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ).
ابن عرفة: منهم من قال الخطاب بذو أبلغ من اسم الفاعل، ومنهم من عكس فحجة الأولين قوله تعالى: (وَفَوْقَ كُل ذِي عِلْم عَلِيمٌ)، وقوله تعالى: (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ) لأنه لو قيل: وفوق كل عالم عليم لم يكن فيه فائدة وإنَّمَا الفائدة في الإخبار بأن من يظن بلوغه النهي في الغاية في العلم فوقه من هو أعلم منه، وكذلك ليس المراد بمن اتصف بمطلق الإعسار إنما المراد من به اعتبار متحقق ثابت فهو الذي قال بإنظاره.
وحمله الزمخشري على أنه ذو رحمة لمن أطاعه وعقابه لمن أجرم، وحمله ابن عطية إلى أنه إشارة إلى إمهاله لهم وعدم معاجلته لهم بالعقوبة، ثم أتى بقوله (وَلَا يُرَدُّ) احتراسا خشية أن يتوهم أنه يرحمهم دائما فأفاد أنه سيعاقبهم بعد إمهالهم.
قوله تعالى: ﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا... (١٤٨)﴾
السين إما للتحقيق والاستقبال، والظاهر الأول؛ لأنهم قالوا ذلك في الآية، والآية تقديرها بإضمار مقدمة لابد من تقديره أي: سيقولون إشراكنا مراد الله تعالى فهو غير فهي عنه، وإشراكنا غير منهي عنه، وقرره الزمخشري بمنع الصغرى جريا على مذهبه في أن الله تعالى لم يرد القبائح، وتقديره على مذهب أهل السنة بمنع الكبرى، ورد التكذيب إليها فيعارض من الإقرار لكن دليلنا نحن أنه لو كان راجعا إلى منع الصغرى لقال: (كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ) بتخفيف الذال من (كَذَّبَ) وإنما التلاوة بتشديد الذال وهو تكذيب لَا كذب إشارة إلى أنهم قالوا: وكل مراد الله غير منهي عنه، وأخبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالنهي عن هذه الأشياء المحرمة على اليهود، وبالنهي عن الميتة، والدم المسفوح، ولحم الخنزير فكذبوه فيما أخبر به، وقالوا: كل مراد الله غير منهي عنه، وقال الله تعالى (بمِثْلِ) تكذيبهم يا محمد كذبت الأمم المتقدمة لأنبيائهم، فإن قلت: قد قرئ في الشاذ (كَذَبَ) بالتخفيف، قلنا: القراءة النادرة ليست معتبرة في الأمور الظنية فأحرى الاعتقادية.
قوله تعالى: (حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا).
إما غاية للتكذيب، أو غاية للاحتمال على إضمار فأهملناهم حتى ذاقوا بأسنا.
قوله تعالى: ﴿فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (١٤٩)﴾
ابن عرفة: أقل الجمع هنا إثباتا لآية جاءت تعجيزا لهم، وتعجيزهم بأن يطلب منهم الإتيان بشاهدين يعجزون عنهما أبلغ مما طلب منهم الإتيان بأكثر من الشاهدين فعجزوا عن ذلك.
قيل له: إنما جمع الشهداء لتعدد أنواع المحرمات فلهم على كل محرم شاهدان، فقال: قد قال الزمخشري: فإِن قلت: لم أضاف الشهداء إليهم، ولم يقل: شهداءه بالإطلاق؟ فأجاب بأن المراد شهداؤكم المتعصبون لكم الذين هم من جهتكم، فرده ابن عرفة: بأنه لَا يلزم من عجزهم عن الشهداء المتعصبين لهم عجزهم عن الشهداء بالإطلاق.
قيل له: يلزم ذلك من باب أحرى، فقال: إنما عادتهم يجيبون بأن المراد شهدائكم الذين تنفعكم شهادتهم، بخلاف ما لو قال: هم شهداء بالإطلاق؛ فإِن حرص الإنسان على طلب الشهادة لمن تنفعه شهادته أقوى من حرصه على شهادته لمن لَا تنفعه شهادته، من قوله (الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا... (١٥٠).. فقال: إما المراد الإتيان بلفظ خبر يفيد ذلك المعنى، قال: والآية دلت على تعجيزهم بالدليل العقلي وبالدليل السمعي وإمَّا بالشهادة أو بالخبر كلاهما كما في قوله: (هَلْ عِنْدَكُم مِنْ عِلْمٍ) راجع للدليل العقلي.
وقوله (هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ) راجع للدليل السمعي على قسمين منه ما يستند للشهادة، ومنه ما يستند بخبر الواحد، فلم عجزوا بعلم الإتيان بالشهادة مع أنه أجدر من الإتيان بالخبر، ونفي الأخص لَا يستلزم نفي الأعم، والجواب أن هذا في مقام الخصومة بينه وبينهم، ومقام الخصومة إما طلب فيه الشهادة لَا الخبر، قيل له: وأيضا فمتعلق الخبر عام، ومتعلق الشهادة خاص فهذه شهادة تقوية، ومعناها الخبر الاصطلاحي لعموم متعلقها؛ لأنه تحريم عام في جميعهم، فقال: وكذلك إذا شهد على شخص أنه قال: كل مملوك أملكه حر فهو عام، فكذلك هلا قيل لهم: من يشهد لكم على الله على أنه حرم ذلك عليكم.
قال: قلت: لم قال: (فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ)، فهلا قيل: فإن شهدوا فلا تقبل شهادتهم؛ لأنه نفي الشهادة معهم لَا يستلزم نفي قبولها، والجواب في عدم قبول الشهادة لأحد أمرين:
إما لفسق الشاهد، وإما لظنه أو تهمة كشهادة الولد لأبيه أو لأخيه.
وقوله (فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ)
وهو حاكم، والحاكم يقبل شهادة الشك إما لعلمه بعدالته أو بكونه عدله غيره عنده أو يعلم عدالته الحاكم بعلمه في التعديل والتجريح جائز، ولو قيل: فلا يقبل شهادتهم أمرين:
أحدهما: فسقهم مع احتمال كونهم شهدوا بالحق، أو عدالتهم مع التهمة لمن يتهم العدل على الشهادة له، فلم قال: (فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ) أفاد عدم قبولها؛ لأن تعديل الحاكم الشاهد شهادة معه بدليل قوله: (مَعَهُم)، ولم يقل: فلا تشهد بالإطلاق.
قوله تعالى: ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا... (١٥١)﴾
قال ابن عرفة: المحرم إنما هو الإشراك لَا عدم الإشراك، فكان يقال: أن تشركوا، قال: وجوابه إما أن يكون مفسدة للمحرم فهي بدل من تلك الحجة؛ أي أتل عليكم أن لَا تشركوا بالله شيئا، وعبر عنه منفيا؛ لأن المراد عدم الإشراك فهو مكروه شرعا، وإما أن تكون ناهية معمولة المحرم ولا زائدة، قال: ويؤخذ من الآية أن دليل الوحدانية يصح إثباته بالسمع؛ لأن الآية نهي عن الشرك بالله.
قال: وجوابه أنها خاصة بقريش، وقريش كانوا يتخذون شركاء ليقربوهم إلى الله، قيل له: أو يجاب بأن النهي لَا يدل على عدم وجود المنهي. عنه بل يدل على وجوده، كنهي العصاة عن شرب الخمر والشركاء غير موجودين في نفس الأمر بوجه، قال: وإنما قال: (عَلَيْكُم)، ولم يقل: حرم بالإطلاق مع أنه محرم على الجميع؛ لأن الخطاب وهم الذين كانوا عصوا بذلك وغيرهم لم يعص.
وقوله (شَيْئًا).
مصدر أو نعت لمصدر محذوف، وهو نهي أخص لَا نهي عن أخص فالمصدر دخل على الفعل فأكده؛ لأن النهي دخل على الفعل المؤكد.
قوله تعالى: (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا).
قال ابن عرفة: هذا أبلغ من أن لو نهوا عن عصيان الوالدين؛ لأنه يقبل عدم العقوق وزيادة الأمر بالإحسان إليهم.
قوله تعالى: (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ).
وقال في سبحان (١) (وَلَا تَقْتُلُوا أَوَّلادَكُم خَشيَةَ إِمْلاقٍ) ووجهه أن الإملاق هنا موجود وهناك متوقع؛ فلما كان موجودا أو الإنسان قبل نزول البلاء به ينوي الخلاص من بغى عليه ويناضل عنه بنفسه، وبعد نزول البلاء إنما الأهم خلاص نفسه؛ كما ذكروا في قصة أصحاب الأخدود في المرأة التي ألقيت في النار أو في الماء أنها كانت ترفع ولدها على عنقها لئلا يناله [الماء*] والماء يعلو لصدرها حتى لا يصل الماء إلى ترائبها، فلذلك قال (نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) فقدم ضمير المخاطبين، ودلت هذه الآية على حفظ الكليات الخمس التي اجتمعت الملل على حفظها.
قوله تعالى: (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ).
لما كانت مفسدة هذه الأمور ضرورية مدركة بالبديهة يدركها كل أحد لَا تخفى عليه، قال: ولعلكم تعقلون بخلاف مفسدة ما بعدها؛ فإنها خفية لَا تدرك إلا بعد تأمل ونظر.
قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ... (١٥٢)﴾
بمبالغة، ولم ينه عن قرب القتل، فالجواب من وجهين:
الأول: أن القتل له صائن؛ لأن كل أحد يصون نفسه منه ومال اليتيم لَا صائن له.
الثاني: أن القتل لَا منفعة فيه للقاتل بل هو مجرد مفسدة تنشأ عن عدم خوف، وأخذ مال اليتيم مفسدة ينشأ عنها منفعة لأخذه في أكله والتلذذ به؛ فبولغ النهي عنه بلفظ القرب.
قوله تعالى: (إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ).
ليدخل خلط الوصي مال بمال يتيمه، فإنه جائز إذا كانت فيه منفعة لليتيم، وهي الحالة التي هي أحسن، ولو اتجر الوصي بمال اليتيم فربح فيه فالمذهب على أن الربح للوصي، وكذلك الناصب المذهب أن الربح له لَا لليتيم.
قوله تعالى: (حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ).
مذهبنا أنه إذا بلغ اليتيم فإن تحقق رشده أو سفهه عمل ذلك، وإن شك في أمره فهو محمول على الرشد حتى يتبين الثقة.
قيل لابن عرفة: إن عندنا يتيم يقرأ في الكتاب وعليه وصي يوفي للمؤدب في أجرته ويزيد على القدر المعتاد، فقال ابن عرفة: إذا كان الوصي ذو مال فللمؤدب قبول تلك الزيادة.
(١) سبحان: يعني سورة الإسراء [قاله معد الكتاب للشاملة]
قوله تعالى: (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ).
فإن قلت: ما أفاد قوله تعالى: (بِالْقِسْطِ). قلنا: فائدته لو لم يذكر للزم عليه أن لَا يخرج من العهدة إلا بالزيادة الكثيرَة على الواجب، فلما قال (بِالْقِسْطِ) أفاد أن أول جزء زائد يخرجه عن عهدة الوفاء بالعدد الواجب؛ لأن ما لَا يتوصل إلى الواجب إلا به فهو واجب؛ كأخذ جزء من الرأس في غسل الوجه، والزيادة على المرفقين في غسل الذراعين، وصوم جزء من الليل في رمضان، فإن قلت: عبر في الكيل بالمصدر دون لفظ الآلة التي يقع بها الكيل، وعبر في الوزن باسم الآلة دون المصدر، هلا قيل: فأوفوا المكيال والميزان، أو يقال: أوفوا الكيل والوزن بالقسط؛ فما السر في ذلك؟ فعادتهم يجيبون بوجهين:
الأول: أنه من حذف التقابل، أي وأوفوا الكيل والميزان بالقسط.
والثاني: أن الخبث يقع في الكيل باعتبار الوجود الخارجي أكثر من الخبث في الوزن، والخبث في الميزان باعتبار الوجود الخارجي أكثر من المكيال؛ فالخبث أكثر وجودا يقع في الكيل لَا في المكيال وفي الميزان لَا في الوزن.
قوله تعالى: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) ظاهره
تكليف ما لَا يطاق غير واقع، وهذه تدل على عدم جوازه أم لا؛ الظاهر أنها دالة على اعتقاد جوازه إذ لو لم يكن جائزا لما احتيج إلى نفيه، وهل هو راجع للجزء الثاني أو للجميع، الظاهر رجوعه للجميع بأن الأحسنية في قرب مال اليتيم مقولة بالتشكيك ولها درجة، ثم أحسن من شيء في أول درجة الحسن، وأن التكليف إنما وقع في الدرجة الأولى في الأحسنية.
قوله تعالى: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا).
هذا في حفظ الأعراض وهو واجب، فهو راجع إلى عدم القرب بالقول.
قوله تعالى: (وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا).
إما أن المراد الوفاء بالأيمان وعدم الحنث فيها أو العهد هو الحكم (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ).
قوله تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ... (١٥٣)﴾
ابن عرفة: فيه قراءات:
فمن فتح الهمزة وشدد النون فمعناه: ولأن هذا صراطي مستقيما؛ أي اتبعوه لكونه مستقيما، هذا عطف جملة على جملة.
قال بعضهم: ويحتمل أن يكون هناك مقدر. أي: لأن هذا صراطي مستقيما يتبع فاتبعوه، فلو أن الفاء عاطفة ما بعدها على فعل مقدر وهو أولى من الأول؛ لأنه علة لما بعده فلا يتقدم على الفاء، ابن عطية: وصف الله تعالى طريقا واحدة هو صراطا مستقيما طريق محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم وشرعه ونهايته الجنة، وتتشعب منه طرق في سلك المارة فحال من خرج إلى تلك الطرق ابعث به إلى النار.
ابن عرفة: هذا كما تقدم في أول السورة، في قوله تعالى: (وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ) فقيل له: كيف تعمل في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) طريق الحق متعددة، فقال: نعم ولكنها مآلها إلى شي واحد وهو التوحيد بالله والتصديق بأنبيائه، وطرق الباطل كل واحد منها مستقل بنفسه لا يؤول إلى شيء واحد؛ لأن قوما يعبدون النجوم، وآخرون يعبدون الأصنام، وآخرون يعبدون الربوبية.
قوله تعالى: ﴿لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (١٥٤)﴾
دليل على أن المعاد مستفاد من السمع؛ لأن الإيمان هو التصديق، والتصديق على أنه مصدق به وهو الدليل السمعي الخبري لَا العقلي.
قوله تعالى: ﴿وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ... (١٥٥)﴾
قال ابن عرفة: لما تضمن الكلام السابق تفضيل بني إسرائيل بإرسال موسى إليهم، وتفضيل موسى بالكتاب المنزل عليه؛ عقبه ببيان تفضيل هذه الأمة بإرسال محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم إليهم وأنزل القرآن عليه، وظاهر كلام المفسرين أن الإشارة إلى جميع القرآن وليست الآية من آخر ما أنزل، فيكون كقول سيبويه: هذا باب كذا فهو إشارة إلى المستقبل المقدر الوجود، كقول الموثقين: هذا ما أصدق فلان.
قوله تعالى: (فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا).
يحتمل أن يرجع اتبعوه إلى امتثال أوامره، (وَاتَّقُوا) إلى اجتناب مناهيه، ويحتمل أن يكون الأمر بالاتباع عاما في امتثال أوامره واجتناب نواهيه، واتقوا راجعة إلى التحرز من عقاب الله عند عدم امتثال أمره ونهيه.
قوله تعالى: ﴿أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا... (١٥٦)﴾
أي: أنزلنا القرآن عليكم لئلا تقولوا: أنزلنا الكتاب على موسى ولم ينزل علينا ولا قرأه علينا أحد من الطائفة المنزل عليهم بحيث نسمعه، والكتاب هنا واحد بالنوع فيتناول هنا اليهود والنصارى.
قوله تعالى: ﴿فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ... (١٥٧)﴾
القرآن بينة لكونه بإعجازه شاهدا على صدق الرسول فالرسول مدع له على دعواه، بينة وهدى؛ لأنه مرشد إلى الطريق الحق، ورحمة إشارة إلى أن بعثه الرسل وإنزال الكتاب محض تفضل من الله تعالى أن لَا يجب عليه شيء.
قيل لابن عرفة: أو يريد البينة دليل التوحيد، وبالهدى الأحكام، وبالرحمة المواعظ والمذكرات على الثلاثة.
قوله تعالى: (سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ).
قال ابن عرفة: تقدمنا فيها سؤال أن التكذيب بالآية أعم من الصدف عنها؛ لأن المكذب بالآية قد يصدف وقد لَا يصدف، والمصدف هنا مكذب بها لَا محالة، وترتيب الجزاء على الأعم يستلزم ترتيبه على الأخص من باب أحرى، فهلا قيل: سنجزي الذين يكذبون بآياتنا سوء العذاب؟، قال: وعادتهم يجيبون بأن الصدق أعم وبيانه بامتثال إذا سألت عن القراءة على زيد، فتقول: إنه لَا يدري شيئا بوجه، فهذا التكذيب يستلزم الصدق بلا شك، وتارة تقول للسائل بالإجابة لك بالقراءة عليه: اترك ذلك واشتغل بما هو أهم عليك فأنت صدقته ولم تكذب بعلمه، ويحتمل أن يكون معتقدا علمه وكرهت قراءته عليه، ويحتمل أن يكون معتقدا أنه جاهل فظهر أن الصدق أعم من التكذيب.
قيل لابن عرفة: بأن ذلك لو رتب على الأخص مطلق الجزاء فلا يرد السؤال إلا لو قيل: (سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا) وهنا إنما رتب على الأخص من العذاب، فقال: بل الأخص هو أخذ سوء العذاب لَا العذاب.
قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا... (١٥٨)﴾
قرئ لَا تنفع.
قال ابن عطية: وأنث الفعل؛ لأن فاعله مضاف إلى ضمير النفس وهي مؤنثة، ورده أبو حيان بأن ذلك إذا كان المضاف جزءا من المضاف إليه، كقولهم: ذهبت بعض أصابعه، قال: وإنما وجهه عندي أنه على تقدير لَا تنفع نفسا ثبوت إيمانها
203
ومنفعة إيمانها، وأجاب ابن القصار بأنه لما أضيف الفاعل إلى الضمير حصلت بينهما ملابسة بالإضافة فأنث الفعل لأجل ذلك، ونظير قول الشاعر، وقول الآخر:
لما أتَى خبرُ الزبيرِ تواضعتْ سورُ المدينةِ والجبالُ الخشعُ
وقوله:
[إذا بعض السنين تعرقتنا*]
فيصح تأنيث الفعل إذا كان فاعله المذكر مضافا إلى مؤنث بشرطين:
أحدهما: أن يكون المضاف بعض المضاف إليه، أو كبعضه.
والثاني: أن يصح إطلاق الثاني، والمراد الأول.
قوله تعالى: (لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا).
قال الزمخشري: (أَوْ كَسَبَتْ) عطف على (آمَنَتْ) والمعنى أن اشتراط الساعة إذا جاءت وهي آية ملجئة ذهب أوان التكليف عندنا فلم ينفع الإيمان غير متقدمة إيمانها غير كاسبة خيرا ولا بين النفس الكافرة إذا آمنت في غير وقت الإيمان.
قال الطيبي عن صاحب الإنصاف: أراد الزمخشري الاستدلال على أن الكافر والعاصي في الخلق سواء حيث سوَّى بينهما في الآية في عدم الانتفاع إنما يستدرك أنه بعد ظهور الآية ولا يتم ذلك، فإن هذا في البلاغة يلقب في اللف والنشر وأصله: يوم تأتي بعض آيات ربك لَا ينفع نفسا لم تكن مؤمنة من قبل إيمانها بعد ولا نفس لم تكسب في إيمانها خيرا، قيل: ما تكسب من الخير بعد، ويظهر بذلك أنها لَا تخالف مذهب أهل الحق فلا ينفع بعد ظهور الآية اكتساب الخير وإن نفع الإيمان المتقدم، انتهى.
قال ابن القصار: وما قاله تفسير بالمعنى وهو حق، وأما ما يقتضيه الإعراب على هذا التغيير فإنه والله أعلم حذف حرف العطف والمعطوف لدلالة ما بعده عليه، والتقدير لَا ينفع نفسا إيمانها أو كسبتها في إيمانها خيرا ما لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا، فيكون كما قال: من باب اللف والنشر، فعطف كسبتها على إيمانها الفاعل في ينفع، ثم حذف لدلالة قوله: (أَوْ كَسَبَتْ) وحذف حرف العطف والمعطوف جائز إذا فهم المعنى، قال: (وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) أي: والبرد، ومنه قول العبيدي:
204
فما أدري إذا [وجهت*] وجهاً أريد الخير [أيهما*] يليني
[أالخير*] الذي أنا أبتغيه [أم*] الشر الذي هو يبتغيني
أي أريد الخير أو الشر.
قال الطيبي، وقال ابن الحاجب: في الأمالي قيل: معنى الآية الإيمان نافع وإن لم يكن معه عمل صالح، ومعنى الآية لَا تنفع نفسا إيمانها ولا كسبها وهو العمل الصالح، (لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ) الآية.
قال ابن القصار: هذا ما يقتضي أن قوله: (أَوْ كَسَبَتْ) معطوف على إيمانها فهو فاعل مثله وهذا مذهب كوفي.
ذهبت طائفة من الكوفيين منهم: هشام، ومحمد بن يحيى إلى أن الجملة تكون فاعلا، فأجازوا [يعجبني يقوم زيد، ويسرني قيام عمرو*]، وظهر لي أقام زيد أم عمرو، واحتجوا بقوله تعالى: (ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ).
قال الشاعر:
[وما راعني إلّا يسير بشرطة*]
ومنع من ذلك البصريون، وتأولوا الآية إذا الفاعل بدا مضمر تقديره: بدا لهم بدا، وليسجننه تفسيرا لذلك البداء المضمر وما قوله: وما راعني الأيسر بشرطه، فالتقدير عندهم الأيسر بشرطه فإن مع الفعل بتأويل المصدر فاعل راع، ابن عرفة: ثم حذفت أن فارتفع الفعل والدليل على حذف أن المصدرية وقعا مع الفعل قول الشاعر:
أَلا أَيُّهَذَا الزَّاجِرِي أحْضُرُ الوَغَى وَأَن أشْهَدَ اللَّذَّاتِ هَلْ أَنْت مُخْلِدِي
التقدير: إن أحضر بدليل عطف المنصوب عليه ويمكن تأويل الآية على هذا التقدير: لَا ينفع نفسا وإن اكتسبت في إيمانها خيرا فحذف إن، كما حذف في قوله: أحضر الوغا، ولا تحذف من الماضي كما حذفت في المستقبل حسبما أنشد عليه ابن عصفور في شرح الإيضاح:
قَالَت أُمَامَة لما جِئْت زائرها هلا رميت بِبَعْض الأسهم السود
لَا در دَرك إِنِّي قد رميتهم لَوْلَا حددت وَلَا عذرى لمحدود
قال ابن عصفور: لولا جددت فحذف إن والمعنى يدل عليها أي لولا مدى أنشده في لولا أنها لَا تقع بعدها عند البصريين إلا المبتدأ، انتهى.
205
وقال أبو حيان: قوله تعالى: (أَو كَسَبَتْ) عطف على قوله (آمَنَتْ) والظاهر من الآية أن نفي سبق الإيمان فقط، وإما نفيه مع نفي كسبت الخبر، ومفهومه أنه يقع الإيمان السابق وحده أو سبق ومعه الخبر، انتهى.
قال ابن القصار: معناه أنه إذا انتفى الإيمان السابق قبل ظهور الآية كان معناه الخبر أو لم يكن ينفي أيضا الإيمان الذي معه الخبر لَا ينفعها ما أحدثت منهما بعد ظهور الآية؛ أي من الإيمان المقارن للخير أو غير المقارن، أو من الإيمان المقارن للخير، وانظر كيف يفهم هذا من الآية فإن هذا التفسير بعيد من الأعراب جدا والذي يلتمس له، والله أعلم أنه لما جعل (أَو كسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا) معطوفا على (آمَنَتْ) الذي هو خبر، لقوله: (لَمْ تَكُنْ) فهو منفي مثله صار تقديره: أو لم تكن كسبت في إيمانها خيرا وهو من باب.
عَلَى لَاحِبٍ لَا يَهْتَدِي بِمَنَارِهِ
أي لَا يتأوله ولا يقع الهداية، ومنه: هذا يوم لَا ينادي وليده؛ أي لَا يحضر وليد فيناديه، فيكون التقدير: لم يكن لها إيمان فيقع بسببه كسب الخير، قال ابن القصار: والآية يجب تأويلها وإخراجها عن ظاهرها، لقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "من كان آخر قوله لَا إله إلا الله دخل الجنة". أما ما ورد من أحاديث الشفاعة التي كادت أن تبلغ مبلغ التواتر والعموم.
قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ).
قال الطيبي: قال الإمام ابن الخطيب يعني أن أشراط الساعة إذا ظهرت ذهب أوان التكليف عندها لَا ينفع الإيمان نفسا ما آمنت من قبل وما كسبت في إيمانها خيرا من قبل ذلك، قال ابن القصار: مراده لَا ينفع الإيمان نفسا لم تجمع بين أمرين لَا ينفعها إيمان بعد ذلك، ولو أراد توزيع الصنفين على شخصين للزمه مذهب المعتزلة.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا... (١٥٩)﴾
قال ابن عرفة: أفاد قوله أنهم تنوعوا طوائف طوائف وهو أشنع ممن لو كان كل واحد منهم يتبع دينا؛ لأنهم في هذه الحالة اجتمعوا جماعة الضلال.
قوله تعالى: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ... (١٦٠)﴾
قال ابن عرفة: هذا على سبيل الفرض والتقدير لئلا يلزم عليه التسلسل.
قوله تعالى: (وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ).
لئلا يتوهم أن جزاء السيئة عشرة أمثالها.
قوله تعالى: (وَهُمْ لَا يُظلَمُونَ).
أما بالنسبة إلى السيئة فظاهر، وأما بالنسبة إلى الحسنة فجعل كأن الجزاء عليها بعشرة أمثالها واجب أوجبه الله تعالى على نفسه تفضلا، وكأنه واجب بالأصالة فالنقص منه ظلم فلذلك وهم لَا يظلمون.
قوله تعالى: ﴿دِينًا قِيَمًا... (١٦١)﴾
يحتمل وجهين:
أحدهما: أنه قائم دائم إلى قيام الساعة لَا ينسخه شيء من الأديان.
الثاني: أن برهانه دائم والأدلة الدالة على حقيقته قائمة يوصف هو بوصف دليله ويجعل قائما.
قوله تعالى: (مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ).
أي المتمسك به إبراهيم، ولذلك قال الأثيري في كشف الحقائق لما تكلم في التوحيد: قال المليون المتمسكون بشريعة ما بالإطلاق.
قوله تعالى: (وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).
إن قيل: يلزم عليه المفهوم، فهلا قيل: وما كان مشركا، فيجاب بأنه كما قيل (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) والجواب كالجواب أي لو تصور في حقه إشراك لما كان إلا هكذا؛ لأن قليل الذنب من العظيم عظيم.
قوله تعالى: ﴿وَمَحْيَايَ... (١٦٢)﴾
فيه التقاء الساكنين على قراءة قالون، ومن وافقه في التقاء الساكنين وهو كثير في حروف المد واللين، وأما في غيرها فورد في إدغام أبي عمرو.
وقال الشاطبي في قراءة البزي: [وَفي التَّوْبَةِ الْغَرَّاءِ قُلْ هَلْ تَرَبَّصُو... نَ عَنْهُ وَجَمْعُ السَّاكِنَيْنِ هُنَا انْجَلَى*] وجمع الساكنين هذا بخلاف، كذلك ذكروا في (مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ) على أحد الروايتين عن أبي عمرو.
وقوله تعالى: (رَبِّ الْعَالَمِينَ).
ابن عرفة: هذا من المذهب وهو الإتيان بالحكم مقرونا بدليله؛ لأنه إذا كان رب العالمين والصلاة والنسك له لَا لغيره.
قوله تعالى: ﴿وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ... (١٦٣)﴾
فيه أن النهي عن الشيء غير الأمر بضده، بقوله (لَا شَرِيكَ لَهُ) فهو منهي عن الإشراك فسمي النهي عن الإشراك أمر بتركه، قيل له: هذا إذا كان مأمورا بهذا اللفظ، وهو أن يقول: (لَا شَرِيكَ لَهُ).
قال ابن عرفة: وفيها أن المندوب غير مأمور به؛ لأن ظاهر الآية وجوب التبري من الشرك، ولو كان المندوب مأمورا به لما اقتضت الآية وجوب التبري من الشرك واللازم باطل، والملزوم مثله.
قوله تعالى: (وَأَنَا أَوَّل الْمُسْلِمِينَ).
الأولية إما حقيقة، وإما باعتبار الشرف، قيل له: إبراهيم هو الأول، فقال: الإسلام راجع للأحكام التكليفية وشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم مخالفة لشريعة إبراهيم صلى الله على نبينا محمد وعليه وعلى آلهما وسلم.
قيل له: قد قال (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا) فقال: إسلامه غير إسلام نبينا، وشرعه مخالف لشرعه.
[... ] (١)
قوله تعالى: ﴿قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا... (١٦٤)﴾
قال ابن عرفة: الغيران أعم من المخالفين ونفي الأعم يستلزم نفي الأخص.
قوله تعالى: (وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ).
يؤخذ من ظاهر الآية مرجوحية إطلاق لفظ أبغي على الله تعالى، ومرجوحية إطلاق لفظ الرب على غير الله تعالى، ولا يقال: رب الجنان ولا رب الدار؛ وقيل الأولى ملك الجنان ومالك الدار.
قيل له: قد قال تعالى (قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ)، وقال النبي صَلى الله عليه وعلى آله وسلم: " [تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ، وَالدِّرْهَمِ*] " وهذا دليل على الجواز، فقال: إنما قلنا الأولى عدمه.
(١) ما بين المعكوفين مكرر في الآية التالية. اهـ (مصحح نسخة الشاملة).
قوله تعالى: (وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ).
لا تدخل فيه ذات الله ولا صفاته لئلا يلزم حدوثها.
قوله تعالى: (وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا).
أخذ منه ابن العربي أن بيع الفضولي لَا يصح وإن أجازه ربه.
ابن عرفة: والمفعول محذوف أي ولا تكسب كل نفس سيئة إلا عليها.
قوله تعالى: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى).
فيكون الفاعل ضميرا عائدا على النفس وهو أحرى؛ لأن النفس الوازرة معلوم أنها لا تحمل؛ لأنها مثقلة، والنفس المثقلة لَا تحمل شيئا شرعا. لأن من أتى بضامن أو حميل إنما يقبل من حميل له ذمة خالية من الدين ولا يقبل منه حميل مديان بوجه، وأما هنا فلأن النفس المثقلة بالحمل لَا يستطيع أن يزاد عليها غيره.
قيل لابن عرفة: ينكر عليك هذا، فيقال: قد التزمت الوازرة الحمل فهي قادرة على الزيادة وعلى الحمل، أو يقول: ولا تزر وازرة أو قابلة الوزر، قلت: الجواب بحديث "من سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة لَا ينقص من أوزارهم شيئا" فلو لم توازه لتوهم أن النفس لَا تحمل وزر غيرها هي التي لم تتسبب في فعل معصيته ولا حديث ظلما، فلما قال: (وَازِرَةٌ). أفاد أن النفس التي أحدثت المعصية فاتصفت بسببها بالوزر لَا لحمله.
قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ... (١٦٥)﴾
يخلف بعضكم بعضا.
قوله تعالى: (وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ).
ابن عرفة: (بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ) في العلم ودونه في الدين، والآخر فوقه من الدين ودونه من المال إذا لم يكن أخذ في شيء.
قوله تعالى: (لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ).
ابن عطية: أي ليختبر الله تعالى الخلق فيرى المحسن من المسيء.
ابن عرفة: هذا خطأ والصواب أن يقال كما عادة الزمخشري يقول في كل موضع يفعل بكم فعل المختبر.
قوله تعالى: (إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ).
209
أكد المغفرة باللام ولم يؤكد بها سريع العقاب، لحديث: "سبقت رحمتي غضبي".
قلت: قال القاضي أبو بكر بن العربي في شرح الأسماء الحسنى في الاسم الثالث والأربعين، وفي كتابه المسمى بقانون التأويل: كنا يوما بمجلس الكوفي في الثغر فتذاكرنا، فسئل الشيخ أبو بكر بن الفهري والطرطوسي عن الفرق بين قوله تعالى: (إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ) بغير لام، وفي الأعراف (لَسَرِيعُ الْعِقَابِ) باللام؟، فقال الطرطوسي: حكم اللام التأكيد، وآية الأنعام دخلت أمة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيها في الخطاب وهي أمة مرحومة معصومة في الدنيا لَا تعاقب إلا في الآخرة فسقطت اللام، وآية الأعراف خوطب بها بنو إسرائيل وقد عجلت عقوبتهم في الدنيا بالمسخ والخسف فدخلت اللام المؤكدة للخبر.
وأجاب أبو جعفر أحمد بن الزبير بأن آية الأنعام تقدمها (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ) وهو خطاب له صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولأمته في الخبر بغير لام التأكيد لكونهم ليسوا بحملتهم ممن استحق عقابا، ومن عوقب من أهل القبلة فعقابه منقطع بفضل الله عز وجل، وآية الأعراف قبلها (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ) فهي لبني إسرائيل [مفصحة*] بكفرهم وعنادهم؛ فجاءت اللام مؤكدة للجنس المبين بعقابهم كلهم دائما وسوء ما لهم.
* * *
210
Icon