تفسير سورة الإنسان

صفوة البيان لمعاني القرآن
تفسير سورة سورة الإنسان من كتاب صفوة البيان لمعاني القرآن .
لمؤلفه حسنين مخلوف . المتوفي سنة 1410 هـ
سورة الإنسان
وتسمى سورة الدهر وهل أتى

﴿ هل أتى... ﴾ أي قد أتى على نوع الإنسان. والمراد بنو آدم. ﴿ حين من الدهر ﴾ طائفة محدودة من الزمان الممتد غير المحدود. والدهر : يطلق على كل زمان طويل غير معين. وعلى مدة العالم كله. ﴿ لم يكن شيئا مذكورا ﴾ بالإنسانية بل كان نطفة، ثم علقة، ثم مضغة.
﴿ من نطفة ﴾ من مني، وهو ماء الرجل وماء المرأة، ممتزج أحدهما بالآخر ؛ كما قال تعالى :﴿ أمشاج ﴾ أي أخلاط بمعنى مختلط من الماءين. أو من عناصر شتى يقال : مشج بينهما – من باب ضرب – خلط ومزج. وهو جمع مشج كسبب، أو مشيج ككتف، أو مشيج كنصير. وقيل : مختلطة، وأمشاج مفرد جاء على أفعاله ؛ كأعشار في قولهم : برمة أعشار، أي منكسرة. ﴿ نبتليه ﴾ مبتلين له ؛ أي مريدين ابتلاءه واختباره بالتكاليف حين يتأهل لذلك. ﴿ فجعلناه سميعا بصيرا ﴾ ليتمكن من الاستماع للآيات التنزيلية، والنظر في الآيات التكوينية.
﴿ إنا هديناه السبيل... ﴾ أي دللناه على ما يوصله إلى البغية ؛ بإنزال الآيات، ونصب الدلائل في حالتي شكره وكفره. أو دللناه على الهداية والإسلام ؛ فمنهم مهتد مسلم، ومنهم ضال كافر. فقوله " إما شاكرا وإما كفورا " حالان من مفعول هدينا. و " إما " للتفصيل ؛ باعتبار تعدد الأحوال مع اتحاد الذات. أو للتقسيم للمهدي باختلاف الذوات والصفات.
﴿ إنا أعتدنا للكافرين سلاسل ﴾ بها يقادون﴿ وأغلالا ﴾ تجمع أيديهم إلى أعناقهم، بها يقيدون. ﴿ وسعيرا ﴾ نارا مستعرة، بها يحرقون.
﴿ إن الأبرار ﴾ بيان لجزاء الشاكرين إثر بيان جزاء الكافرين. والأبرار : جمع بر، أو بار. والبر : المطيع المتوسع في فعل الخير. وقد ذكر الله من أوصافهم التي استحقوا بها هذه الكرامة : أنهم يوفون بالنذر، ويخافون الآخرة، ويواسون المساكين واليتامى والأسرى. وبين جزاءهم في الآيات التالية التي آخرها آية ٢٢﴿ يشربون من كأس ﴾ أي من خمر. أو من إناء فيه خمر. وإطلاق الكأس على الثاني حقيقة، وعلى الأول مجاز وهو المراد هنا ؛ لقوله تعالى :﴿ كان مزاجها كافورا ﴾ والكافور : لا يمزج بالإناء، وإنما يمزج بالخمر التي فيه. والمزاج : ما يمزج به. والكافور : طيب معروف فيه بياض وبرودة، وله رائحة طيبة. والمراد : كان شوبها ماء يشبه الكافور في أوصافه. أو أنه تعالى جعل في خمر الجنة الأوصاف المحمودة في الكافور. وعبر عن ذلك بالمزاج على سبيل التجوز. وعن ابن عباس : كل ما ذكر في القرآن مما في الجنة وسماه ليس له من الدنيا شبيه إلا في الاسم. فالكافور والزنجيل، والأشجار والقصور، والمأكول والمشروب، والملبوس والثمار، لا يشبه ما في الدنيا إلا في مجرد الاسم. والله سبحانه وتعالى يرغب الناس ويطعمهم بأن يذكر لهم أحسن شيء وألذه وأطيبه مما يعرفونه في الدنيا ؛ لأجل أن يرغبوا ويسعوا فيما يوصلهم إلى هذا النعيم المقيم.
﴿ عينا يشرب بها... ﴾ بدل من " كأس " على المحل بتقدير مضاف ؛ أي يشربون كأسا أي خمرا خمر عين يشرب منها المؤمنون، يجرونها حيث شاءوا من منازلهم بسهولة.
﴿ كان شره مستطيرا ﴾ كان عذابه فاشيا منتشرا غاية الانتشار ؛ من استطار الفجر : إذا انتشر ضوءه. واستطار الغبار : انتشر في الهواء وتفرق ؛ كأنه طار في نواحيه.
﴿ إنما نطعمكم لوجه الله ﴾ أي قائلين ذلك لمن أعطوهم الطعام، بلسان الحال أو بلسان المقال.
﴿ إنا نخاف من ربنا... ﴾ أي القائلين : إنا نخاف من ربنا عذاب يوم شديد الهول، عظيم الأمر، تعبس فيه الوجوه وتكلح ؛ من شدة مكارهه وطول بلائه [ آية ٢٢ المدثر ص ٤٨١ ]. ووصف اليوم بالعبوس – وهو وصفه لأهله – مجاز في الإسناد ؛ من باب : نهاره صائم. ﴿ قمطريرا ﴾ شديدا كريها. يقال : اقمطرّ يومنا، اشتد. ويوم مقمطر وقمطرير : إذا كان شديدا غليظا. أو شديدا في العبوس، يقبض ما بين العينين لشدته.
﴿ ولقاهم نضرة وسرورا ﴾ أعطاهم حسنا وبهجة في الوجوه، وسرورا في القلوب ؛ بدل عبوس الكفار وحزنهم.
﴿ متكئين فيها على الأرائك ﴾ على السرور في الجبال. أو على ما يتكأ عليه من سرير أو فراش ونحوه [ آية ٣١ الكهف ص ٤٧٦ ]. ﴿ ولا زمهريرا ﴾ بردا مفرطا ؛ ومنه زمهر اليوم : اشتد برده. والمراد أن هواء الجنة معتدل ؛ وفي الحديث : إن هواء الجنة سجسج لاحر ولا برد. والسجسج : الظل الممتد ما بين الفجر وطلوع الشمس.
﴿ ودانية عليهم ظلالها ﴾ عطف على الجملة قبلها الواقعة حالا من الضمير في " متكئين " أي أن ظلال الأشجار قريبة منهم، مظلة عليهم ؛ زيادة في نعيمهم. ﴿ وذللت قطوفها ﴾ سخرت لهم ثمارها تسخيرا، وسهل تناولها لهم تسهيلا ؛ بحيث يتناولهم القائم والقاعد والمضطجع، لا يرد أيديهم عنها بعد ولا شوك ؛ من قولهم : ذلل الكرم – بالضم – أي دليت عناقيده. وأصله من الذل – بالضم والكسر – ضد الصعوبة. والقطوف : جمع قطف – بكسر القاف – وهو النقود حين يقطف. أو الثمار المقطوفة.
﴿ كانت قواريرا... ﴾ جعلت هذه الأكواب جامعة بين صفاء الزجاج وشفيفه وبريقه، وبياض الفضة وحسنها ولينها وشرفها ؛ بحيث يرى ما فيها من خارجها. جمع قارورة، وهي في الأصل : إناء رقيق صاف من الزجاج، توضع فيه الأشربة ونحوها وتستقر فيه. وعن ابن عباس : ليس في الجنة شيء إلا أعطيتم في الدنيا شبهة إلا قوارير من فضة.
﴿ قدروها تقديرا ﴾ قدر الطائفون بها شرابها على مقدار ريّ الشاربين من غير زيادة ولا نقصان ؛ وذلك ألذ وأشهى.
﴿ كان مزاجها زنجبيلا ﴾ أي كان مزاج الخمر التي يسقونها زنجبيلا ؛ والعرب تستلذ الشراب الممزوج به. أو ماء يشبه الزنجبيل في طيب رائحته [ آية ٥ من هذه السورة ].
﴿ عينا فيها... ﴾ بدل من " كأس " بتقدير مضاف، أي خمر عين في الجنة تسمى سلسبيلا ؛ أي توصف بأنها سلسة في الانسياغ، سهلة المذاق. وأصل السلسبيل : ما كان من الشراب غاية في السلالة، وسهولة الانحذار في الحلق. فيشربون تارة خمرا ممزوجة بما يشبه الكافور. وتارة خمرا ممزوجة بما يشبه الزنجبيل في غاية السلاسة والسهولة.
﴿ ولدان مخلدون ﴾ دائمون على ما هم عليه من الطراوة والبهاء. ﴿ حسبتهم لؤلؤا... ﴾ ظننتهم من حسنهم، وصفاء ألوانهم، وإشراق وجوههم، وانبثائهم في مجالسهم – درا مفرقا في عرصات المجالس. واللؤلؤ إذا نثر على البساط كان أصفى منه منظوما.
﴿ وإذا رأيت ثم ﴾ أي هناك ؛ يعنى في
الجنة.
﴿ عاليهم ثياب سندس... ﴾ أي فوقهم ثياب مخضرة من سندس : وهو ما رق من الديباج. ﴿ وإستبرق ﴾ وهو ما غلظ منه. وهما لفظان معربان. ﴿ شرابا طهورا ﴾ أي نوعا آخر من الشراب بالغا في الطهر غايته. أو أن الخمر التي سيسقونها في الجنة شراب طاهر، لا نجاسة فيه ولا قذارة كخمر الدنيا التي وصفها الله تعالى بأنها رجس.
﴿ ولا تطع منهم... ﴾ أي لا تطع منهم داعيا إلى الإثم، ولا داعيا إلى الكفر. ولم يؤت بالواو لاحتمال الكلام عليه النهي عن المجموع، ويحصل الامتثال بالانتهاء عن واحد دون الآخر. قال الزجاج : إن " أو " هاهنا أوكد من الواو ؛ لأنك إذا قلت : لا تطع زيدا وعمرا ؛ فأطاع أحدهما كان غير عاص، فإذا أبدلتها بأو فقد دللت على أن كل واحد منهما أهل لأن يعصى، ويعلم منه النهى عن إطاعتهما معا.
﴿ واذكر اسم ربك... ﴾ أي دم على ذكره في جميع الأوقات. أو دم على الصلاة في البكرة وهي صلاة الفجر، وفي الأصيل وهي صلاة الظهر والعصر. ومن الليل وهي صلاة المغرب والعشاء. وإطلاق السجود على الصلاة مجاز ؛ من إطلاق اسم الجزء على الكل.
﴿ وسبحه ليلا طويلا ﴾ وتهجد له هزيعا طويلا من الليل. والأمر للوجوب على القول ببقاء وجوب قيام الليل عليه خاصة وعدم نسخه. وللندب على القول بنسخه في حقه صلى الله عليه وسلم ؛ كم نسخ عن أمته بفرضية الصلوات الخمس. فالمراد به : نافلة الليل.
﴿ يحبون العاجلة... ﴾ أي الدنيا ولذائذها. وينبذون وراء ظهورهم﴿ يوما ثقيلا ﴾ شديد الهول – وهو يوم القيامة – فلا يحسبون له حسابا.
﴿ وشددنا أسرهم ﴾ قوينا وأحكمنا خلقهم بإعطائهم جميع القوى. ومنها ربط مفاصلهم وأوصالهم بعضها ببعض بالعروق والأعصاب. يقال : أسره الله، خلقه ؛ وبابه ضرب. وفرس شديد الأسر : أي الخلق. والأسر : القوة ؛ مشتق من الإسار – بالكسر – وهو القد الذي تشد به الأقتاب. يقال : أسرت القتب أسرا، شددته وربطته ؛ ومنه الأسير لأنه يكتف بالأسار والمراد : الامتنان عليهم بأن الله تعالى سوى خلقهم وأحكمه ؛ ثم كفروا به.
﴿ إن هذه تذكرة... ﴾ إن هذه الآيات التي اشتملت عليها هذه السورة : موعظة بالغة ؛ فمن شاء أن يتخذ إلى الله تعالى وسيلة يتقرب بها إليه اتخذها، وما تشاءون شيئا إلا وقت مشيئة الله لمشيئتكم.
والله أعلم.
Icon