تفسير سورة المرسلات

حدائق الروح والريحان
تفسير سورة سورة المرسلات من كتاب حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن المعروف بـحدائق الروح والريحان .
لمؤلفه محمد الأمين الهرري . المتوفي سنة 1441 هـ

يوم القيامة.. أردفه بذكر ما يكون للمؤمنين من السعادة والكرامة حينئذٍ، فهم يكونون في ترفٍ ونعيم، ويأكلون فواكه مما يشتهون، ويقال لهم: كلوا واشربوا هنيئًا بما قدمتم في الأيام الخالية، وهذا جزاء كل محسن لعمله. ثم خاطب المكذّبين مهدِّدًا لهم، فقال: ﴿كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا﴾، ولا نصيب لكم في الآخرة لأنكم كافرون. ثم ذكر أن الكفار إذا أمروا بطاعة الله والخشوع له أبوا، وأصروا على ما هم عليه من الاستكبار، فويل لهم مما يعملون، وإذا لم يؤمنوا بالقرآن والنبيّ الذي جاء به مع تظاهر الأدلة على صدقه، فبأي كلام بعده يصدّقون.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (٤٨)﴾ سبب نزولها (١): ما أخرجه ابن المنذر عن مجاهد قال: هذه الآية نزلت في ثقيف.
التفسير وأوجه القراءة
١ - قوله تعالى: ﴿وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (١) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (٢) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (٣) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (٤) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (٥)﴾.
اعلم (٢): أن المفسرين ذكروا في هذه الكلمات الخمس وجوهًا:
الأول: أن المراد بأسرها الرياح، ومعنى ﴿الْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا﴾ الرياح التي أرسلت إرسالًا عرفًا؛ أي: إرسالًا متتابعًا كعرف الفرس. وقيل: معنى ﴿عُرْفًا﴾؛ أي: كثيرًا؛ أي: إرسالًا كثيرًا.
٢ - ﴿فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (٢)﴾؛ أي: الرياح الشديدة الهبوب؛ أي: فبالرياح التي تعصف عصفًا؛ أي: تهبّ هبوبًا شديدًا.
٣ - ﴿وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (٣)﴾؛ أي: فبالرياح التي تنشر نشرًا؛ أي: الرياح اللينة التي تهبّ هبوبًا ليّنًا. وقيل: الرياح التي أرسلها نشرًا بين يدي رحمته. وقيل: الرياح التي تنشر السحاب، وتأتي بالمطر.
٤ - ﴿فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (٤)﴾؛ أي: فبالرياح التي تفرّق السحاب وتبدده عند انقطاع المطر.
٥ - ﴿فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (٥)﴾؛ أي: فبالرياح التي تلقي في قلوب العباد ذكرًا وخوفًا من الله تعالى. يعني: أن الرياح إذا أرسلت عاصفة شديدة.. قلعت
(١) لباب النقول.
(٢) الخازن.
الأشجار، وخربت الديار، وغيرت الآثار، فيحصل بذلك خوف للعباد في القلوب، فيلجؤون إلى الله تعالى، ويذكرونه ذكرًا، فصارت تلك الرياح كأنها ألقت الذكر، والمعرفة في القلوب عند هبوبها.
٦ - وقوله: ﴿عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (٦)﴾ بدل من ﴿ذِكْرًا﴾؛ أي: اللاتي يلقين ذكر الله تعالى في قلوب العباد إما يلقين ﴿عُذْرًا﴾؛ أي: اعتذارًا إلى الله وتوبة في حق الذين يعتذرون إلى الله بتوبتهم واستغفارهم إذا رأوا نعمة الله في الغيث، ويشكرونه. وإمّا يلقين ﴿نُذْرًا﴾؛ أي: إنذارًا وتخويفًا من الله في حق الذين ينسبون ذلك إلى الأنواء، ويشكرونها.
والمعنى عليه: أقسم لكم أيها العباد بالرياح المرسلة المطلقة إرسالًا عرفًا؛ أي: متتابعًا أو كثيرًا كعرف الفرس، فبالرياح التي تعصف عصفًا؛ أي: تهب هبوبًا شديدًا، وبالرياح التي تنشر وتبسط السحاب نشرًا بين يدي رحمته، فبالرياح اللاتي تفرق السحاب وتبدده وتعدمه فرقًا وإعدامًا عند انقطاع المطر، فبالرياح التي تلقي في قلوب العباد ذكرا لله تعالى. إما تلقي ﴿عُذْرًا﴾؛ أي: اعتذارًا إليه تعالى بتوبتهم واستغفارهم في حق الشاكرين لنعمه، وإما تلقي ﴿نُذْرًا﴾؛ أي: إنذارًا وتخويفًا من عذابه في حق الكافرين لنعمه؛ أي: أقسم لك بصنوف هذه الرياح المذكورة إن الذي توعدون من البعث والجزاء الواقع لا محالة، وعلى هذا الوجه ذهب ابن مسعود وابن عباس ومجاهد وقتادة.
والوجه الثاني: أن المراد بأسرها الملائكة الذين أرسلهم الله تعالى، وبه قال ابن مسعود في رواية وأبو هريرة، وأبو صالح، ومقاتل، والفرّاء، وابن عباس في رواية. ومعنى ﴿الْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا﴾ الملائكة الذين أرسلوا عرفًا؛ أي: بالمعروف من أمر الله ونهيه، ﴿فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (٢)﴾ الملائكة تعصف في طيرانهم ونزولهم، وتسرع كعصف الرياح في السرعة، ﴿وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (٣)﴾ الملائكة الذين ينشرون أجنحتهم، ويبسطونها إذا نزلوا إلى الأرض. وقيل: هم الذين ينشرون الكتب ودواوين الأعمال يوم القيامة. ﴿فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (٤)﴾ الملائكة الذين يأتون بما يفترق بين الحق والباطل، ﴿فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (٥)﴾ الملائكة يلقون الذكر؛ أي: الوحي إلى الأنبياء إمّا بالاعتذار والتوبة، وإمّا بالإنذار والتخويف. وقيل: يجوز أن يكون الذكر هو القرآن خاصة، فعلى هذا يكون الملقي هو جبريل وحده، وإنما ذكره بلفظ الجمع على سبيل
531
التعظيم.
والمعنى عليه: أقسم لكم أيها العباد بالملائكة الذين أرسلوا بعرف؛ أي: بمعروف؛ أي: الذين أرسلتهم بالإحسان والشرع والمعروف، ليبلّغوا أنبيائي ورسلي، وبالملائكة الذين يعصفون عصفًا كعصف الرياح في السرعة إلى إنفاذ أمر الله أو المبعدين للباطل بسرعة كما تعصف الرياح التراب والتّبْنَ والهباء، وبالملائكة الذين ينشرون أجنحتهم عند النزول إلى الأرض، أو الذين ينشرون دواوين الأعمال يوم القيامة ﴿فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (٤)﴾؛ أي: فبالملائكة الذين يأتون بما يفرق بين الحقّ والباطل كإهلاك الكفرة وإنجاء المؤمنين، فبالملائكة الذين يلقون ذكرًا ووحيًا إلى الأنبياء إمّا ﴿عُذْرًا﴾ أو ﴿نُذْرًا﴾؛ أي: إمّا أمرًا أو نهيًا، ويقال: وعدًا أو وعيدًا، ويقال: تبشيرًا بالجنة أو إنذارًا بالعذاب؛ أي: أقسم بهؤلاء الطوائف من الملائكة إنّ ما وعدتم به من قيام الساعة لكائن لا محالة.
والوجه الثالث: أنّ المراد بأسرها آيات القرآن. ومعنى ﴿وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (١)﴾ آيات القرآن المتتابعة في النزول على محمد - ﷺ - بكل عرف وخبر ﴿فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (٢)﴾ يعني آيات القرآن تعصف القلوب وتحركها وتلينها بذكر الوعيد حتى تجعلها كالعصف، وهو النبت المتكسر، ﴿وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (٣)﴾ يعني: أنّ آيات القرآن تنشر أنوار الهداية والمعرفة في قلوب المؤمنين، ﴿فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (٤)﴾ يعني: آيات القرآن تفرّق بين الحق والباطل، ﴿فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (٥)﴾ يعني: آيات القرآن، وهي الذكر الحكيم الذي يلقي الإيمان والنور في قلوب المؤمنين.
والمعنى عليه: أقسم لكم يا عبادي بآيات القرآن التي أرسلت وأنزلت على محمد - ﷺ - بعرف وخير وهداية، فبالآيات التي تعصف وتدق وتلين القلوب بذكر الوعيد، وبالآيات التي تنشر أنوار الهداية والمعرفة في قلوب المؤمنين، فبالآيات الفارقة فرقًا؛ أي: تفرّق فرقًا بين الحق والباطل، فبالآيات التي تلقي ذكرًا؛ أي: نورًا وإيمانًا في قلوب المؤمنين، إما بذكر وعد أو وعيد. إنّما توعدون لواقع لا محالة.
والوجه الرابع: أنّه ليس المراد من هذه الكلمات الخمس شيئًا واحدًا بعينه، فعلى هذا يكون المراد بقوله تعالى: {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (١) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (٢) وَالنَّاشِرَاتِ
532
نَشْرًا (٣)} الرياح، ويكون المراد بقوله: ﴿فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (٤) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (٥)﴾ الملائكة.
فإن قلت: وما المجانسة بين الرياح والملائكة جمع بينهما في القسم؟
قلت: الملائكة روحانيّون، فهم بسبب لطافتهم وسرعة حركاتهم شابهوا الرياح، فحصلت المجانسة بينهما من هذا الوجه، فحسن الجمع بينهما في القسم. وقوله: ﴿عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (٦)﴾؛ أي: للإعذار والإنذار من الله تعالى. وقيل: عذرا من الله ونذرًا منه إلى خلقه اهـ من "الخازن" بتصرف.
وعبارة "الروح" هنا: قوله: ﴿وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (١)﴾ إلخ، ﴿الواو﴾: فيه للقسم والمرسلات بمعنى الطوائف المرسلات جمع مرسلة بمعنى طائفة مرسلة باعتبار أن ملائكة كل يوم أو كل عام أو كل حادثة طائفة. ﴿عُرْفًا﴾ بمعنى متتابعة من عرف الفرس، وهو الشعرات المتتابعة فوق عنقه، فهو من باب التشبيه البليغ بأن شبّهت الملائكة المرسلون في تتابعهم بشعر عرف الفرس. وانتصابه على الحالية؛ أي: وأقسم لكم بالطوائف المرسلة من الملائكة لتدبير العالم حالة كونهنّ جاريات بعضها إثر بعض كعرف الفرس. أو العرف بمعنى المعروف والإحسان، نقيض المنكر بمعنى المنكر؛ أي: الشيء القبيح، فإنهم إن أرسلوا للرحمة فظاهر، وإن أرسلوا لعذاب الكفّار فذلك معروف للأنبياء والمؤمنين. يعني: أنَّ عذاب الأعداء إحسان للأولياء فانتصابه حينئذٍ على العلّية.
والمعنى: وأقسم لكم بالطوائف المرسلة من الملائكة إلى الأنبياء لأجل تبليغ العرف والخبر والشرع، وإيصاله إليهم. ويقال: عصفت الريح إذا اشتدّ هبوبها، و ﴿عَصْفًا﴾ مصدر مؤكد، وكذا ﴿نَشْرًا﴾ ﴿فَرْقًا﴾. والفاء في قوله: ﴿فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (٢)﴾ للدلالة على اتصال سرعة جريهنّ في نزولهن وهبوطهنّ بالإرسال من غير مهلة، وهي أعني: الفاء لعطف الصفة على الصفة؛ إذ الموصوف متحد. والنشر في قوله: ﴿وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (٣)﴾ بمعنى البسط، والعدول فيه إلى الواو؛ لأنّها غير المرسلات. فالقسم الأول وصفهم الله تعالى بوصفين يتعقب أحدهما على الآخر، والقسم الثاني وصفهم بثلاثة أوصاف كذلك. والفرق والفصل والإلقاء هنا بمعنى الإيصال والإنزال لا الطرح. و ﴿ذِكْرًا﴾ بمعنى الوحي مفعول ﴿الملقيات﴾،
533
وترتيب الإلقاء بالفاء ينبغي أن يكون لتأويله برادة النشر والفرق، وسيأتي تمامه نقلًا عن ابن الشيخ.
والحاصل: أنه سبحانه وتعالى أقسم بطوائف من الملائكة أرسلهنّ بأوامره بنحو التدبير وإيصال الأرزاق بالتصرّف في الأمطار والرياح وكتابة أعمال العباد بالليل والنهار وقبض الأرواح، فعصفهنّ في مضيّهنّ عصف الرياح مسارعة في الامتثال بالأمر. وبطوائف أخرى نشرن أجنحتهن في الجوّ عند انحطاطهنّ بالوحي؛ أو نشرن الشرائع في الأقطار؛ أي؛ فرَّقن وأشعنَ أو نشرن النفوس الموتى بالكفر والجهل أي أحيينَ بما أوحين ففرَّقن بين الحق والباطل، فألقين ذكرًا إلى الأنبياء ﴿عُذْرًا﴾ لأهل الحق؛ أي: معذرة لهم في الدنيا والآخرة لاتباعهم الحقّ. ﴿أَوْ نُذْرًا﴾ لأهل الباطل لعدم اتباعهم الحقّ. وعذرًا مصدر من عذر إذا محا الإساءة، و ﴿نُذْرًا﴾ اسم مصدر من أنذر إذا خوّف، لا مصدر؛ لأنه لم يسمع فعل مصدرًا من أفعل. وانتصابهما على البدلية من ﴿ذِكْرًا﴾. قال ابن الشيخ: إذا كان الذكر المبدل منه بمعنى جميع الوحي يكون ﴿عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (٦)﴾ بدل البعض من الكلّ، فإنّ ما يتعلق بمغفرة المطيعين، وتخويف المعاندين بعض من جملة الوحي. وإن أريد بالذكر المبدل منه ما يتعلق بسعادة المؤمن وشقاوة الكافر خاصّة يكون بدل الكل من الكل، فإن إلقاء ما يتعلق بسعادة المؤمن متحد بالذات مع إلقاء عذره ومحو إساءته، وكذا إلقاء ما يتعلق بشقاوة الكافر متحد مع إلقاء إنذاره على كفره انتهى. أو انتصابهما على العلية للصفات المذكورة أو للأخيرة وحدها، وهو الأولى بمعنى فاللائي ألقين ذكرًا لمحو ذنوب المعتذرين إلى الله بالتوبة والاستغفار، ولتخويف المبطلين المصرّين. وفي "كشف الأسرار": لأجل الإعذار من الله إلى خلقه لئلا يكون لأحد حجة، فيقول: لم يأتني رسول، ولأجل إنذارهم من عذاب الله.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: ﴿عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (٦)﴾ قال: يقول الله: "يا ابن آدم إنّما أمرضكم لأذكّركم، وأمحص به ذنوبكم، وأكفر به خطاياكم، وربكم أعلم أن ذلك المرض يشتدّ عليكم، وأنا في ذلك معتذر إليكم". قال بعضهم: المعنى: ورب المرسلات إلخ.
وفي "الإرشاد": لعل تقديم نشر الشرائع ونشر النفوس والفرق على الإلقاء؛ أي: مع أن الظاهر أن الفرق بين الحق والباطل يكون مع النشر لا بعده، وأنّ إلقاء
534
الذكر إلى الأنبياء متقدم على نشر الشرائع في الأرض وإحياء النفوس الموتى والفرق بين الحق والباطل، فلا يظهر التعقيب بينهما. للإيذان بكونها غاية للإلقاء حقيقةً بالاعتناء بها، أو للإشعار بأن كلا من الأوصاف المذكورة مستقل بالدلالة على استحقاق الطوائف الموصوفة بها للتفخيم والإجلال بالإقسام بهنّ، ولو جيء بها على ترتيب الوقوع لربّما فهم أن مجموع الإلقاء والنشر والفرق هو الموجب لما ذكر من الاستحقاق، هذا وقد قيل في هذا المقام غير ذلك كما مرّ عن "الخازن"، لكن الحمل على الملائكة أوجه وأسدّ، لما ذكرنا في المدثر أن المحققين على أنه من الملائكة المرسلات والناشرات والملقيات وغير ذلك انتهى من "روح البيان".
وقرأ الجمهور (١): ﴿عُرْفًا﴾ بسكون الراء. وقرأ عيسى بن عمر بضمّها. وقرأ الجمهور ﴿فَالْمُلْقِيَاتِ﴾ بسكون اللام وتخفيف القاف، اسم فاعل من الإلقاء. وقرأ ابن عباس بفتح اللام وتشديد القاف اسم فاعل من التلقية، وهي أيضًا إيصال الكلام إلى المخاطب، يقال: لقيته الذكر فتلقاه. وقرأ أيضًا ابن عباس فيما ذكره المهدويّ بفتح اللام والقاف مشدّدة، اسم مفعول؛ أي: تلقّته من قبل الله تعالى. وقرأ إبراهيم التيميّ، والنحويان: أبو عمرو والكسائي، وحفص ﴿عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (٦)﴾ بسكون الذالين. وقرأ زيد بن ثابت، وابن خارجة بن زيد، وطلحة، وأبو جعفر، وأبو حيوة، وعيسى، والحسن بخلاف عنه، والأعشى عن أبي بكر بضمّهما. وقرأ أبو جعفر أيضًا، وشيبة، وزيد بن عليّ، والحرميّان. نافع وابن كثير، وابن عامر، وأبو بكر بسكونها في ﴿عُذْرًا﴾، وضمها في ﴿نُذْرًا﴾. فالسكون على أنهما مصدران مفردان، أو مصدران جمعان، فـ ﴿عُذْرًا﴾ جمع عذر بمعنى المعذرة، و ﴿نُذْرًا﴾ جمع نذير بمعنى الإنذار، وانتصابهما على البدل من ﴿ذِكْرًا﴾، كأنّه قيل: فالملقيات ﴿عُذْرًا﴾ أو ﴿نُذْرًا﴾ أو على المفعول من أجله، أو على أنهما مصدران في موضع الحال؛ أي: عاذرين، أو منذرين. ويجوز مع الإسكان أن يكونا جمعين على ما قرّرناه. وقرأ الجمهور (٢): ﴿عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (٦)﴾ على العطف بـ ﴿أو﴾ التفصيلية. وقرأ إبراهيم التيمي وقتادة على العطف بالواو بدون ألف.
٧ - ثم ذكر سبحانه جواب القسم، فقال: ﴿إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (٧)﴾؛ أي: إنّ الذي
(١) البحر المحيط.
(٢) البحر المحيط.
توعدونه من مجيء الساعة والبعث كائن لا محالة. فـ ﴿إِنَّمَا﴾ (١) هذه ليست هي الحصرية بل (ما) فيها موصولة، وإن كتبت متصلةً في خط المصحف. والموعود هو مجيء القيامة؛ لأن المذكور عقيب هذه الآية علامات يوم القيامة. وقال الكلبيّ: المراد أن كل ما توعدون به من الخير والشر لواقع نظرًا إلى عموم لفظ الموصول.
٨ - ثم أخبر عن ظهور آثار يوم القيامة وحصول دلائلها لأهل الشقاوة بقوله: ﴿فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (٨)﴾؛ أي: محيت ومحقت ذواتها، فإن الطمس: محو الأثر الدال على الشيء، وهو الموافق لقوله: ﴿وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (٢)﴾. أو محى نورها وأذهب ضوْءها، فاستوت مع جرم السماء. والأوّل أولى؛ لأنه لا حاجة فيه إلى الإضمار. والنجوم مرتفعة بفعل يفسره ما بعده أو بالابتداء، و ﴿طُمِسَتْ﴾ خبره، والأوّل أولى، لأنّ ﴿إذا﴾ فيها معنى الشرط والشرط بالفعل أولى، ومحل الجملة على الإعرابين الجرّ بـ ﴿إذا﴾، وجواب ﴿إذا﴾ محذوف تقديره: فإذا طمست النجوم وقع ما توعدون، أو بعثتم أو جوزيتم على أعمالكم، وحذف لدلالة قوله: ﴿إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (٧)﴾ عليه. وقرأ عمرو بن ميمون (٢): ﴿طمسّت﴾ ﴿فرّجت﴾ بتشديد الميم والراء، والجمهور بتخفيفهما.
٩ - ﴿وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (٩)﴾؛ أي: فتحت وشقّت، فكانت أبوابًا بالفرج، هو الشقّ، وكلّ مشقوق فرج، ومثله قوله تعالى: ﴿وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (١٩)﴾، والمعنى؛ أي: صدعت من خوف الرحمن، وشقّقت ووقعت فيها الفروج التي نفاها بقوله: ﴿وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ﴾ بسبب الإنفطار.
١٠ - ﴿وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (١٠)﴾؛ أي: قلعت من مكانها بسرعة، يقال: نسفت الشيء وأنسفته إذا أخذته بسرعة. وقال الكلبيّ: سويّت با لأرض، والعرب تقول: نسفت الناقة الكلأ إذا رعته، وقيل: جعلت كالحبّ الذي ينسف بالمنسف، وهو ما ينفض به الحب ويذرى، ومثله قوله: ﴿وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (٥)﴾ فالبس والنسف معناهما واحد، وقيل: فرقتها الرياح، وذلك بعد التيسيير، وقيل: كونها هباء.
١١ - ﴿وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (١١)﴾؛ أي: عين لهم الوقت الذي يحضرون فيه للشهادة على
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
أممهم. وذلك عند مجيء يوم القيامة وحضوره؛ إذ لا يتعين لهم قبل حصوله، فإن علم ذلك إلى الله تعالى. يعني: أن تبين وقت حضورهم لهم من جملة علامات القيامة من حيث إن ذلك التعيين والتبيين لم يكن حاصلًا في الدنيا لعدم حصول الوقت، فيقال لهم عند حصوله: أحضروا للشهادة فقد جاء وقتها. أو المعنى: وإذا الرسل بلغوا الميقات الذي ينتظرونه، وهو يوم القيامة، فإن التوقيت كما يجيء بمعنى تحديد الشيء وتعيين وقته فكذا يجيء بمعنى جعل الشيء منتهيًا إلى وقته المحدود، وعلى المعنى الأول لا يقع على الذوات بدون إضمار، فإن الموقت هو الأحداث لا الجثث، فلا يقال: زيد موقت إلا أن يراد موقت حضوره، وكذا توقيت الرسل إنما هو بالنسبة إلى حضورهم لا بالنسبة إلى ذواتهم؛ لأن الذوات قارة لا يعتبر فيها تعيين، بخلاف الزمانيات المتجددة، هكذا قالوا.
والمعنى (١): أي جعل لهم وقت للفصل والقضاء بنيهم وبين الأمم، كما في قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ﴾. وقيل: هذا في الدنيا؛ أي: جمعت الرسل لميقاتها الذي ضرب لها في إنزال العذاب بمن كذّبهم، والأوّل أولى. قال أبو علي الفارسي؛ أي: جعل يوم الفصل والدين لها وقتًا. وقيل: معنى ﴿أُقِّتَتْ﴾ أرسلت لأوقات معلومة على ما علم الله به.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿أُقِّتَتْ﴾ بالهمز وشدّ القاف. وقرأ النخعيّ، والحسن، وعيسى، وخالد بتخفيف القاف والهمز. وقرأ أبو الأشهب، وعمرو بن عبيد، وعيسى أيضًا، وأبو عمرو بالواو وشدّ القاف، قال عيسى: وهي لغة سفلى مضر. وقرأ عبد الله، والحسن، وأبو جعفر بواو واحدة وتخفيف القاف. وقرأ الحسن أيضًا ﴿ووقتت﴾ بواوين على وزن فوعلت، والواو في هذا كله هي الأصل، والهمزة بدل عنها؛ لأنه من الوقت.
١٢ - وقوله: ﴿لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (١٢)﴾ مقول لقول مقدر تقديره؛ أي: ويقال يومئذٍ؛ لأيّ يوم أخرت الأمور المتعلقة بالرسل من تعذيب الكفار وإهانتهم وتنعيم المؤمنين ورعايتهم، وظهور ما كانت الرسل تذكره من أمور الآخرة وأحوالها وفظاعة أهوالها. والمراد بهذا تهويل أمر هذا اليوم وتعظيم شأنه، كأنه قيل؛ أي: يوم هذا
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
الذي أجل اجتماع الرسل إليه إنه ليوم عظيم. قال الفاشاني ﴿وَإِذَا الرُّسُلُ﴾؛ أي: ملائكة الثواب والعقاب ﴿أُقِّتَتْ﴾؛ أي: عيّنت وبلغت ميقاتها الذي عيّن لها إما لإيصال البشرى والروح والراحة، صهاما لإيصال العذاب والكرب والذلة، يقال: ليوم عظيم أخرت عن معاجلة الثواب والعقاب في وقت الأعمال، ورسل البشر وهم الأنبياء عينت وبلغت ميقاتها الذي عين لهم فيه الفرق بين المطيع والعاصي والسعيد والشقي، يقال: ليوم عظيم أخرت عن نزول العذاب بمن كذبهم، فإن الرسل يعرف كلا بسيماهم انتهى.
١٣ - وقوله: ﴿لِيَوْمِ الْفَصْلِ (١٣)﴾ بيان ليوم التأجيل؛ أي: أخّرت ليوم يفصل الله فيه بين الخلائق ويقضي بالحقوق، ويحكم بين المحسن والمسيء. وقال بعضهم: يفصل فيه بين الحبيب وحبيبه إلا من كان معاملته في الله تعالى، وبين المرء وأمه وأبيه وأخيه إلا أن يكونوا متفقين على الحق والعدل.
١٤ - وقوله: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ﴾ ﴿ما﴾ (١) مبتدأ، وجملة ﴿أَدْرَاكَ﴾ خبره. وقوله: ﴿مَا يَوْمُ الْفَصْلِ﴾ إظهار في مقام الإضمار لزيادة تفظيع وتهويل، على أنّ ﴿ما﴾ خبر مقدم، و ﴿يَوْمُ الْفَصْلِ﴾ مبتدأ مؤخّر، لا بالعكس، ما اختاره سيبويه؛ لأنّ محط الفائدة بيان كون يوم الفصل أمرًا بديعًا هائلًا لا يقادر قدره ولا يكتنه كنهه كما يفيده خبرية ﴿ما﴾، لا بيان كون أمر بديع من الأمور يوم الفصل كما يفيده عكسه. والمعنى؛ أي: أيّ شيء جعلك داريًا وعالمًا ما هو وما كنهه؟ إذ لم تر مثله، وكذا لم ير أحد قبلك شدّته حتى تسمع منه.
١٥ - ثم صرح بالمراد وأبان من سيقع عليهم النكال والوبال حينئذٍ، فقال: ﴿وَيْلٌ﴾؛ أي: هلاك عظيم ثابت ﴿يَوْمَئِذٍ﴾؛ أي: في ذلك اليوم الهائل كائن ﴿لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ بيوم يفصل فيه الرحمن بين الخلائق؛ أي: الويل والهلاك ثابت فيه لهم. والويل في الأصل مصدر منصوب سادّ مسدَّ فعل لا من لفظه، فأصله: أهلكه الله إهلاكًا، أو هلك هو هلاكًا، عدل به إلى الرفع للدلالة على ثبات الهلاك ودوامه للمدعوّ عليه، و ﴿يَوْمَئِذٍ﴾ ظرفه أو صفته، ووضع الويل موضع الإهلاك، أو الهلاك، فجاز وقوعه مبتدأ مع كونه نكرة، فإنه لما كان مصدرًا سادًّا مسدَّ فعله المتخصّص بصدوره عن
(١) روح البيان.
فاعل معيّن كانت النكرة المذكورة متخصصة بذلك الفاعل، فساغ الابتداء بها لذلك، كما قالوا: في سلام عليك. وقال بعضهم: الويل واد في جهنم، لو أرسلت الجبال لماعت من حرّه؛ أي: ذابت.
والمعنى: أي هلاك شديد وعذاب عظيم يومئذٍ كائن لمن كذب بالله ورسله وبكتبه، وبكل ما ورد على ألسنة أنبيائه وأخبروا به.
وكرّر هذه (١) الآية في هذه السورة لأنّه قسم الويل بينهم على قدر تكذيبهم، فإن لكل مكذب بشيء عذابًا سوى تكذيبه بشيء آخر، ورب شيء كذب به هو أعظم جرمًا من التكذيب بغيره، فيقسم له من الويل على قدر ذلك التكذيب.
١٦ - ثم ذكر سبحانه ما فعل بالكفار من الأمم الخالية، فقال: ﴿أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (١٦)﴾ كقوم نوح وعاد وثمود وغيرهم ممن أهلكوا قبل بعثة محمد - ﷺ -، وذلك لتكذيبهم بيوم الفصل. وهو (٢) استئناف إنكار لعدم الإهلاك إثباتًا وتقريرًا له؛ لأنّ نفي النفي يثبت الإثبات ويحقق الإهلاك، فكأنه قيل: لم يكن عدم الإهلاك بل قد أهلكناهم، وقرأ الجمهور ﴿نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ﴾ بضم النون، وقتادة بفتحها، قال الزمخشري: من هلكه بمعنى أهلكه.
١٧ - ﴿ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (١٧)﴾ وهم الذين كانوا بعد بعثة محمد - ﷺ -.
وقرأ الجمهور ﴿نُتْبِعُهُمُ﴾ بالرفع على الاستئناف على معنى: ثم نحن نتبعهم الآخرين من نظرائهم السالكين مسلكهم في الكفر والتكذيب؛ أي: نجعلهم تابعين للأوّلين في الإهلاك. قال أبو البقاء: فليس بمعطوف على ما قبله، لأن العطف يوجب أن يكون المعنى: أهلكنا الأولين ثمّ أتبعناهم الآخرين في الإهلاك، وليس كذلك؛ لأنّ إهلاك الآخرين لم يقع بعد، فلذلك رفع ﴿نتبع﴾ على أن يكون مقطوعًا عمّا قبله، ويستأنف به الكلام على وجه الإخبار عمّا سيقع في المستقبل بإضمار المبتدأ. وفيه وعيد لكفّار مكة. ويدل على الرفع قراءة ابن مسعود ﴿ثم سنتبعهم الآخرين﴾ بسين الاستقبال. وقرأ الأعرج والعبّاس عن أبي عمرو ﴿نتبعهم﴾ بالجزم عطفًا على ﴿نُهْلِكِ﴾ ويحتمل (٣) تسكينه تخفيفًا، كما سكّن ﴿وَمَا يُشْعِرُكُمْ﴾، فهو
(١) الشوكاني.
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.
استئناف، فعلى الاستئناف يكون ﴿الْأَوَّلِينَ﴾ الأمم التي تقدمت قريشًا أجمع، ويكون ﴿الْآخِرِينَ﴾ من تأخّر من قريش وغيرهم، وعلى التشريك يكون ﴿الْأَوَّلِينَ﴾ قوم نوح إبراهيم عليهما السلام، ومن كان معهم، و ﴿الْآخِرِينَ﴾ قوم فرعون، ومن تأخر وقرب من بعثة محمد - ﷺ -. والإهلاك هنا إهلاك العذاب والنكال في الدنيا، ولذلك جاء بعده ﴿كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ﴾ فأتى بالصفة المقتضية لإهلاك العذاب، وهي الإجرام.
١٨ - ﴿كَذَلِكَ﴾؛ أي: فعلًا مثل ذلك الفعل الفظيع الذي هو الإهلاك، فصل الكاف النصب على أنه نعت لمصدر محذوف. ﴿نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ﴾؛ أي: بكل من أجرم وأشرك بالله سبحانه إمّا في الدنيا أو في الآخرة. وفيه تحذير من عاقبة الجرم وسوء أثره.
١٩ - ﴿وَيْلٌ﴾؛ أي: عذاب عظيم ﴿يَوْمَئِذ﴾ أي: يوم إذ أهلكناهم ﴿لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ بآيات الله وأنبيائه، وليس فيه تكرير، لما أن الويل الأول لعذاب الآخرة، وهذا لعذاب الدنيا.
ومعنى الآيات: ﴿أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (١٦)﴾؛ أي: ألم نهلك من كذّب الرسل قبلكم ونعذّبهم في الدنيا بشتى أنواع العذاب، فتارة بالغرق كما حدث لقوم نوح، وأخرى بالزلزال كما كان لقوم لوط، إلى أشباه ذلك من المثلات التي حلت بالأمم قبلكم جزاء لهم على قبيح أعمالهم وسيء أعمالهم، وان سنتنا في المكذبين لا تبديل فيها ولا تغيير، فاحذروا أن يحل بكم مثل ما حل بهم، وتندموا ولات ساعة مندم. ﴿ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (١٧)﴾؛ أي: ثم نحن نفعل بأمثالهم من الآخرين، ونسلك بهم سبيلهم؛ لأنّهم فعلوا مثل أفعالهم. ثم ذكر الحكمة في إلحاقهم بهم، فقال: ﴿كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ﴾؛ أي: سنتنا في جميع المجرمين واحدة، فكما أهلكنا المتقدمين لإجرامهم وتكذيبهم نفعل بالمتأخّرين الذين حذوا حذوهم، واستنوا سنّتهم، فسنتنا تجري على وتيرة واحدة. ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٥)﴾؛ أي: هؤلاء وإن عذبوا في الدنيا بأنواع من العذاب فالامة الكبرى معدّة لهم يوم القيامة. والتكرير للتوكيد شائع في كلام العرب، كما تقدم في سورة الرحمن.
وفي "برهان القرآن": كرّرها في هذه السورة عشر مرّات؛ لأن كل واحدة منها ذكرت عقيب آية غير الأولى، فلا يكون تكرارًا مستهجنًا، ولو لم يكرر كان متوعدًا
على بعض دون بعض. وقيل: إن من عادة العرب التكرار والإطناب كما أن عادتهم الاقتصار والإيجاز، ولأن بسط الكلام في الترغيب والترهيب أدعى إلى إدراك البغية من الإيجاز، وقد يجد كل أحد في نفسه من تأثير التكرار ما لا خفاء. قال في "فتح الرحمن": كرّر هنا عشر مرات، والتكرار في مقام الترغيب والترهيب مستحسن، لا سيما إذا تغايرت الآيات السابقة على المرّات المكرّرة كما هنا انتهى.
٢٠ - ثم ذكرهم بجزيل نعمه عليهم في خلقهم وإيجادهم مما يستدعي جزيل شكرانهم، فقال: ﴿أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ﴾؛ أي: ألم نحدثكم. واتفق (١) القرّاء على إدغام القاف في الكاف في هذا الحرف. وذكر النقاش أنه في قراءة ابن كثير ونافع برواية قالون، وعاصم في رواية حفص بالإظهار، قاله في الإيضاح. ﴿مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ﴾ بهوان الحدوث والإمكان والابتذال؛ أي: من نطفة قذرة مهينة حقيرة، والميم فيه أصلية كما سيأتي، ومهانته: قلته وخسته، وكل شيء ابتذلته فلم تصنه فقد امتهنته؛ أي: خلقناكم منه،
٢١ - ولذا عطف عليه قوله: ﴿فَجَعَلْنَاهُ﴾؛ أي: الماء ﴿فِي قَرَارٍ مَكِينٍ﴾؛ أي: في مكان حريز يحفظ فيه المني من الآفات المفسدة له كالهواء، وهو الرحم بكسر الحاء المهملة؛ أي وعاء الولد في بطن الأمّ. فالقرار موضع الاستقرار، والمكين: الحصين؛ أي (٢): جعلنا ذلك الماء في مقرٍّ حصينٍ يتمكن فيه الماء محفوظًا سالمًا من التعرض له، فمكين من المكانة بمعنى التمكن لا منها بمعنى المنزلة والمرتبة من الكون، يقال: رجل مكين في مكة؛ أي: متمكن فيها، ومكين عند الأمير؛ أي: ذو منزلة ومرتبة عنده، فيكون فعيلا لا مفيلا.
٢٢ - ﴿إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢٢)﴾؛ أي: مقدار معلوم من الوقت الذي قدّره الله تعالى للولادة تسعة أشهر أو أقل منها، أو أكثر، وهو في موضع الحال من الضمير المنصوب في قوله: ﴿فَجَعَلْنَاهُ﴾؛ أي: مؤخّرًا إلى مقدار معلوم من الزمان، وقيل: إلى أن يصور.
٢٣ - ﴿فَقَدَرْنَا﴾؛ أي: فقدرناه، والمراد تقدير خلقه وجوارحه وأعضائه وألوانه ومدة حمله وحياته. وقيل: المعنى: قدرناه قصيرًا أو طويلًا، وقيل معنى ﴿قدرنا﴾ ملكنا. وقرأ الجمهور ﴿فَقَدَرْنَا﴾ بالتخفيف. وقرأ علي بن أبي طالب ونافع والكسائي بالتشديد من التقدير، نظير (٣) قوله: ﴿مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (١٩)﴾. قال الكسائي
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.
والفرّاء: هما لغتان بمعنى واحد، تقول: قدرت كذا وقدرته. ﴿فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ﴾؛ أي: نعم المقدرون نحن، وإلى هذا المعنى ذهب ابن مسعود - رضي الله عنه -. ويجوز (١) أن يكون ﴿فَقَدَرْنَا﴾ من القدرة بمعنى فقدرنا على ذلك؛ أي: على خلقه وتصويره كيف شئنا وأردنا من مثل تلك المادة الحقيرة، على أن المراد بالقدرة ما يقارن وجود المقدور بالفعل، ويعضد هذا المعنى قوله: ﴿فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ﴾ حيث خلقناه بقدرتنا وجعلناه على أحسن الصور والهيئات.
والمعنى (٢): أي ألا تعترفون بأنكم خلقتم من نطفة مذرة منتنة وضعت في الأرحام إلى حين الولادة، ونحن قد قدرنا ذلك فنعم المقدرون، إذ خلقناكم في أحسن الصور والآيات، أفلا يستحق ذلك الخالق منكم الشكران لا الكفران والاعتراف بوحدانيته وإرساله للرسل والإقرار بالبعث، لكنكم كفرتم أنعمه، ونكلتم عن الاعتراف بوحدانيته، وعبدتم الأصنام والأوثان، وأنكرتم يوم الفصل والجزاء، فسترون في هذا اليوم عاقبة ما اجترحتم.
٢٤ - ﴿وَيْلٌ﴾؛ أي: خزي وعذاب عظيم ﴿يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾؛ أي: لمن كذب بهذه المنن العوالي، أو لمن كذب بقدرتنا على ذلك أو على الإعادة. قال أبو الليث؛ أي: الشدة من العذاب لمن يرى الخلق الأول، فأنكر الخلق الثاني اهـ.
٢٥ - وبعد أن ذكرهم بالنعم التي أنعم بها عليهم في الأنفس ذكرهم بما أنعم عليهم في الآفاق، وأرشد إلى أمور ثلاثة:
١ - ﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (٢٥)﴾؛ أي: مهادًا لكم، فتكفتكم وتجمعكم فيها
٢٦ - ﴿أَحْيَاءً﴾ على ظهرها ﴿وَأَمْوَاتًا﴾ في بطنها. فالأحياء يسكنون في منازلهم، والأموات يدفنون في قبورهم. عرفهم أوّلًا نعمه الأنفسية؛ لأنها كالأصل، ثم أتبعها النعم الآفاقية. والكفات (٣) اسم ما يكفت؛ أي: يضم ويجمع، من كفت الشيء إذا ضمه وجمعه كالضمام لما يضم، والجماع لما يجمع، نحو قولهم: التقوى جماع كل خير، والخمر جماع كل إثم. و ﴿كِفَاتًا﴾ مفعول ثان لـ ﴿نَجْعَلِ﴾؛ لأنه بمعنى: ألم نصيّرها ﴿كِفَاتًا﴾ تكفت وتضم ﴿أَحْيَاءً﴾ كثيرة على ظهرها، فهو منصوب بفعل مضمر، يدل عليه كفاتًا، وهو تكفت وإلا فالأسماء الجامدة، وكذا أسماء الزمان
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
والمكان والآلة، وإن كانت مشتقة لا تعمل، وفي اسم المصدر خلاف، وأما المصدر وجمع اسم الفاعل فهما من الأسماء العاملة، فمن جعل الكفات مصدرًا أو جمع اسم الفاعل، وهو كافت كصيام جمع صائم جعله عاملًا، ومن جعله اسما لما يكفت أو جمعًا للكفت بمعنى الوعاء منعه من العمل، غير الزمخشري فإنه جعل ﴿كِفَاتًا﴾ وهو اسم عاملًا، وقد طعن فيه. ﴿وَأَمْوَاتًا﴾ غير محصورة في بطنها، ولهذا كانوا يسمون الأرض أُمًّا تشبيهًا لها بالأم في ضمها للناس إلى نفسها أحياء وأمواتًا كالأم التي تضم أولادها إليها وتضبطهم.
واستدل بهذا القفال على أن النباش يقطع؛ لأن بطن الأرض حرز للكفن، فإذا نبش وأخذ منه فهو سارق. ولما كانوا ينضمون إنيها جعلت كأنها تضمهم، وأيضًا كما أن الأرض كفات الأحياء بمعنى أنهم يسكنون فيها كذلك أنها كفات لهم بمعنى أنها تكفت ما ينفصل من الأحياء من الأمور المستقذرة، وتنكيرهما في معنى التعريف الاستغراقي لا للأفراد والنوعية، ويجوز أن يقال: الأرض وإن كانت كفاتًا لجميع أحياء الإنس وأمواتهم، لكن الأحياء والأموات غير منحصرة فيها؛ لأن بعض الحيوان يكفته الهواء والبعض الآخر يكفته الماء، فلا تكون للجميع بل للبعض، فيصح التنكير.
٢ - ٢٧ ﴿وَجَعَلْنَا فِيهَا﴾؛ أي: في الأرض ﴿رَوَاسِيَ﴾؛ أي: جبالًا ثوابت مستقرّات، فمفعول ﴿جعلنا﴾ مقدر، و ﴿رَوَاسِيَ﴾ صفة له، من رسا الشيء يرسو إذا ثبت، والجبال ثوابت على ظهر الأرض، لا تزول ولا تزلزل. ﴿شَامِخَاتٍ﴾ صفة بعد صفة. والشامخ: العالي المرتفع؛ أي: طوالًا شواهق، ومنه: شمخ بأنفه عبارة عن الكبر. وفي عين المعاني: ﴿رَوَاسِيَ﴾؛ أي: ثوابت الأصول رواسخ العروق شامخات؛ أي: مرتفعات الفروع، ووصف جمع المذكر بجمع المؤنث في غير العقلاء مطرد كأشهر معلومات ونحوه. والتنكير للتفخيم أو للإشعار بأن ما يرى على ظهر الأرض من الجبال بعض منها، وإن في عداد الجبال ما لم يعرف ولم ير، فإن السماء فيها جبال أيضًا بدلالة قوله تعالى: ﴿مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَد﴾ انتهى.
والمعنى (١): أي وجعلنا جبالًا ثوابت عاليات على ظهرها، لئلا تميد بكم،
(١) المراغي.
وهذه الجبال متصلة بالطبقة الصوانية التي هي أبعد طبقات الأرض عن سطحها، وتلك الطبقة تضم في جوفها كرة النار المشتعلة التي في باطنها، وظاهرها هذه القشرة التي نحن عليها.
٣ - ﴿وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا﴾؛ أي: عذبًا جدًّا بأن خلقنا فيها أنهارًا ومنابع؛ أي: جعلناه سقيًا لكم، ومكناكم من شربه، وكذا من سقيه دوابكم ومزارعكم، وسمي نهر الكوفة فراتًا للذته. وقال أبو الليث: ماء عذبًا من السماء والأرض، ويقال: الفرات للواحد والجمع، وتاؤه أصل، والتنكير للتفخيم كما سيأتي، أو لإفادة التبعيض؛ لأنَّ في السماء ماء فراتًا أيضًا، بل هي معدنه ومصبه.
والمعنى (١): أي وأسقيناكم ماء عذبًا فراتًا تشربون منه، إمّا آتيا من السحاب الذي حفظته الجبال بارتفاعها، وإمّا من العيون النابعات منها، ويمدها الثلج الذي يذوب شيئًا فشيئًا فوق ظهر الأرض متنزلًا إلى بطنها متجهًا إلى عيونها الجارية.
٢٨ - ﴿وَيْلٌ﴾؛ أي: عذاب عظيم ﴿يَوْمَئِذٍ﴾؛ أي: يوم إذ وقع ما توعدون ﴿لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ في الدنيا بامتثال هذه النعم العظيمة.
٢٩ - وقوله: ﴿انْطَلِقُوا...﴾ إلخ، مقول لقول مقدر تقديره: يقال يومئذٍ للمكذّبين على سبيل التوبيخ والتقريع: انطلقوا واذهبوا، والقائلون هم خزنة النار وزبانية جهنم ﴿إِلَى مَا كُنْتُمْ﴾ في الدنيا ﴿بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾ من العذاب، و ﴿بِهِ﴾ متعلق بـ ﴿تُكَذِّبُونَ﴾ قدّم عليه لرعاية رؤوس الآية.
والمعنى: أي تقول لهم خزنة جهنم حينئذٍ: اذهبوا إلى ما كنتم تكذّبون به من العذاب في الدنيا.
٣٠ - ثم بين هذا العذاب، ووصفه بجملة صفات:
١ - ﴿انْطَلِقُوا﴾ واذهبوا خصوصًا ﴿إِلَى ظِلٍّ﴾؛ أي: إلى ظل دخان نار جهنم كقوله تعالى: ﴿وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (٤٣)﴾؛ أي: دخان غليظ أسود. ﴿ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ﴾؛ أي: ذي ثلاث ذوائب، جمع شعبة يتشعّب لعظمه ثلاث شعب كما هو شأن الدخان العظيم، تراه يتفرف ذوائب؛ أي: انطلقوا إلى ظل من دخان جهنم، قد سطع ثم
(١) المراغي.
افترق ثلاث فرق، وصار ثلاث شعب: شعبة عن يمينهم، وشعبة عن شمالهم، وشعبة من فوقهم حتى يفرغ من الحساب، والمراد أنّه أحاط بهم من كل جانب كما جاء في الآية الأخرى ﴿أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا﴾.
فقوله: ﴿ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ﴾ كناية (١) عن كون ذلك الدخان عظيمًا بناءً على أن التشعب من لوازمه. وقيل: يخرج لسان من النار، فيحيط بالكفار كسرادق، وهو ما يمد فوق صحن البيت. ويتشعب من دخانها ثلاث شعب، فتظلهم حتى يفرغ من حسابهم، والمؤمنون في ظل العرش.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿انْطَلِقُوا﴾ في الموضعين بكسر اللام على صيغة الأمر، وكرره بيانًا للمنطلق إليه أو للتأكيد. وقرأ روش عن يعقوب بصيغة الماضي في الثاني على معنى الخبر، فكأنهم لما أمروا بالإنطلاق امتثلوا ذلك فانطلقوا.
٣١ - ثم وصف سبحانه هذا الظل تهكمًا بهم: فقال:
٢ - ﴿لَا ظَلِيلٍ﴾؛ أي: ليس بمظل، فلا يبقى من حر ذلك اليوم، فهو وصف أخذ من الظل للتأكيد كنوم نائم لأنه في تقدير: لا ظل ظليل؛ أي: ليس بظل مظل من الحر. وتوصيف (٣) الظل بأنه لا يظل من حر ذلك اليوم، وهو حر النار، للدلالة على أن تسمية ما يغشاهم من العذاب بالظل استهزاء بهم، فإن شأن الظل أن يدفع عمن يستظل به مقاساة شدة الحر، وأن ينفعه ببرده ونسيمه، والذي أمروا بالانطلاق إليه يضاعف عليهم ما هم فيه من الحر والعذاب، فضلًا عن أن يستريحوا ببرده أو رد لما أوهمه لفظ الظل من الاسترواح.
٣ - ﴿وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ﴾ أي: ولا يدفع من حرّ النار شيئًا؛ لأنّه في جهنم، فلا يظلهم من حرها، ولا يسترهم من لهيبها.
والمعنى: أي غير مغن لهم من حر اللهب كما يغني ظل الدنيا من الحر، فقوله: ﴿لَا ظَلِيلٍ﴾ في موضع الجر على أنه صفة لـ ﴿ظِلٍّ﴾، ولفظ لا غير مانع للصفتية؛ أي: ظل غير ظليل، وغير مغن ومفعول ﴿يُغْنِي﴾ محذوف هو شيئًا، و ﴿مِنَ﴾ لبيانه، ويغني من أغنى عني وجهه؛ أي؛ أبعده؛ لأن الغني عن الشيء
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
(٣) روح البيان.
يباعده كما أن المحتاج إليه يقربه، فصح أن يعبر بإغناء شيء عن شيء عن إبعاده عنه، فكأن المعنى أن هذا الظل لا يظلكم من حرّ الشمس، ولا يدفع عنكم لهب النار. واللهب: ما يعلو على النار إذا اضطرصت من أحمر وأصفر وأخضر.
٣٢ - ثم وصف النار التي تحدث هذا الظل من الدخان، فقالى: ﴿إِنَّهَا﴾ أي: إنّ هذه النار، فالضمير للنار، وقيل: إنه عائد على الشعب؛ لأنها هي المذكورة لا النار. ﴿تَرْمِي بِشَرَرٍ﴾ كثيرة، كل واحدة منها ﴿كَالْقَصْرِ﴾؛ أي: كقصر من القصور في عظمها، كما يدل على هذا التفسير قوله: ﴿كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (٣٣)﴾؛ أي: إن هذه النار يتطاير منها شرر متفرقة في جهات كثيرة كأن كل واحدة منها القصر عظمًا وارتفاعًا. والشرر: جمع شررة، وهي ما تطاير من النار في الجهات متفرّقًا كالنجوم، كما قال في "القاموس": الشرار والشرر ككتاب وجبل ما يتطاير من النار، واحدتهما بهاء انتهى. وقوله: ﴿كَالْقَصْرِ﴾ في موضع الصفة للشرر، والقصر هو البناء العالي، ووصف به الجمع باعتبار كل واحد من آحاده، والقصر أيضًا: الحطب الجزل، ولذا قال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير الآية: هي الخشب العظام المقطعة، وكنا نعمد إلى الخشب فنقطعها ثلاثة أذرع، وفوق ذلك، ودونه ندخرها للشتاء، فكنا نسميها القصر؛ أي: لكونها مقصورة مقطوعة من الممدودة الويلة، تأمل في أن نارًا دخانها وشررها هكذا، فما بالك بحالى أهلها؟ وعلى هذا المعنى الأخير القصر جمع قصرة ساكنة الصاد مثل: جمر وجمرة وتمر وتمرة، وهي الواحدة من جزل الحطب الغليظ.
وقرأ الجمهور (١): ﴿بِشَرَر﴾ وقرأ عيسى ﴿بشَرَار﴾ بألف بين الرائين. وقرأ ابن عباس وابن مقسم كذلك، إلا أنه كسر الشين، فاحتمل أن يكون جمع شرر؛ أي: بشرار من العذاب. وأن يكون صفة أقيمت مقام موصوفها؛ أي؛ بشرار من الناس كما تقول: قوم شرار جمع شر غير أفعل التفضيل، قوم خيار جمع خير غير أفعل التفضيل، ويؤنث هذا فيقال للمؤنث: شرة وخيرة، بخلافهما إذا كانا للتفضيل، فلهما أحكام مذكورة في النحو. وقرأ الجمهور؛ ﴿كَالْقَصْرِ﴾ بإسكان الصاد وهو واحد القصور. وقرأ ابن عباس، وابن جبير، ومجاهد، والحسن، وابن مقسم،
(١) البحر المحيط.
والسلمي، وحميد بفتح القاف والصاد. وقرأ ابن جبير أيضًا، والحسن أيضًا ﴿كالقصر﴾ بكسر القاف وفتح الصاد جمع قصرة، مثل: بدر وبدرة وقصع وقصعة. وبعض القرّاء بفتح القاف وكسر الصاد، وابن مسعود بضمهما، كأنه مقصور من القصور كما قصروا النجم والنمر من النجوم والنمور، كما قال الراجز:
فِيْهَا عَنَابِيْلُ أُسُوْدٌ ونُمُرْ
٣٣ - ﴿كَأَنَّهُ﴾؛ أي: (١) كأن ذلك الشرر، وفي "فتح الرحمن"؛ ثم رد الضمير إلى لفظ النار دون معناها، فقال: كأنه؛ أي: النار ﴿جِمَالَتٌ صُفْرٌ﴾ جمع جمل كحجارة في جمع حجر، والتاء لتانيث الجمع أو اسم جمع كالحجارة. والجمل: ذكر الإبل، والناقة أنثاه، وإذا لم يكن في جماعة الإبل أنثى يقال: جمالة بالكسر. والصفر: جمع أصفر، والصفرة لون من الألوان التي بين السواد والبياض، وهي إلى البياض أقرب، ولذلك قد يعبر بها عن السواد. والمعنى: كان كل شررة جمل أصفر أو كجمل أسود؛ لأن سواد الإبل يضرب إلى الصفرة، ولأن صفر الإبل يشوب رؤوس أشعارها سواد، وفي الحديث: "شرار جنهم أسود كالقير". فالأول وهو التشبيه بالقصر تشبيه في العظم، والثاني وهو التشبيه بالجمل تشبيه في اللون والكثرة والتتابع والاختلاط والحركة. وفي "المفردات": قوله تعالى: ﴿كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (٣٣)﴾ قيل: جمع أصفر، وقيل: بل أراد به الصفر المخرج من المعادن، ومنه قيل للنحاس: صفر.
وقرأ الجمهور ومنهم (٢): عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ﴿جمالات﴾ بكسر الجيم وبالألف والتاء، جمع جمال جمع جمل، وهي الإبل كقولهم: رجالات قريش. وقرأ ابن عباس (٣) وقتادة، وابن جبير، والحسن، وأبو رجاء بخلاف عنهم كذلك، إلّا أنهم ضموا الجيم، وهي جمال السفن الواحد منها جملة لكونه جملة من الطاقات، ثم جمع على جمل وجمال، ثم جمع جمال ثانيًا جمع سلامة، فقالوا: جما لات. وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص، وأبو عمرو في رواية الأصمعيّ، وهارون عنه ﴿جمالة﴾ بكسر الجيم، لحقت جمالًا التاء لتأنيث الجمع كحجر وحجارة كما مرّ. وقرأ ابن عباس، والسلمي، والأعمش، وأبو حيوة، وأبو
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
(٣) البحر المحيط.
بحرية، وابن أبي عبلة، ورويس كذلك إلا أنهم ضموا الجيم. قال ابن عباس وابن جبير: الجمالات قلوص السفن، وهي حبالها العظام إذا اجتمعت مستديرة بعضها إلى بعض، جاء منها أجرام عظام. وقال ابن عباس أيضًا: الجمالات: قطع النحاس الكبار، وكأن اشتقاق هذه من اسم الجملة. وقرأ الحسن ﴿صفر﴾ بضمّ الفاء، والجمهور بإسكانها. قال الواحدي (١): والصفر معناها في قول المفسرين قال الفرّاء: الصفر: سواد الإبل لا يرى أسود من الإبل إلا وهو مشرب صفرةً، ولذلك سمت العرب سود الإبل صفرًا، قيل: والشرر إذا تطاير وسقط وفيه بقية من لون النار أشبه شيء بالإبل السود، ومنه قول الشاعر:
تِلْكَ خيْلِيْ وَتلْكَ رِكَابِيْ هُنَّ صُفْرٌ أَوْلَادُهَا كَالزَّبِيْبِ
أي: هن سود. هذا القول بعيد عند أهل اللغة والعجب لمن قال بهذا القول، وقد قال تعالى: ﴿جمالات صفر﴾.
٣٤ - ﴿وَيْلٌ﴾؛ أي: خزي عظيم ﴿يَوْمَئِذٍ﴾؛ أي: يوم إذ وقعت المجازاة بتلك النار ﴿لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ بهذا اليوم الذي لا يجدون فيه لدفع العذاب عنهم محيصًا.
٣٥ - ثم وصف اليوم الذي فيه العذاب، فقال: ﴿هَذَا﴾ إشارة إلى وقت دخولهم النار. و ﴿يَوْمُ﴾ مرفوع عى أنه خبر ﴿هَذَا﴾؛ أي: هذا يوم ﴿لَا يَنْطِقُونَ﴾ فيه بشيء، لما (٢) أن السؤال والجواب والحساب قد إنقضت قبل ذلك، وأيضًا يوم القيامة يوم طويل له مواطن ومواقيت ينطقون في وقت دون وقت. فعبر عن كل وقت بيوم. أو لا ينطقون بشيء ينفعهم، فإن ذلك كلا نطق. قال الفاشاني: لا ينطقون لفقدان آلات النطق وعدم الإذن فيه بالختم على الأفواه. وقال بعضهم: لا ينطقون لشدّة تحيرهم وقوة دهشتهم. وقال أبو عثمان رحمه الله: أسكتهم هيبة الربوبية، وحياء الذنوب.
وقرأ الجمهور (٣) برفع ﴿يَوْمُ﴾ على أنه خبر لاسم الإشارة. وقرأ الأعمش، والأعرج، وزيد بن علي، وعيسى، وأبو حيوة، وعاصم في رواية بفتحه على البناء لإضافته إلى الفعل، ومحله الرفع على الخبرية، والجملة المصدرة بمضارع مثبت أو
(١) الشوكاني.
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.
منفي، لا يجيز البصريون في الظرف المضاف إليها البناء بوجه، وإنما هذا مذهب كوفيّ. وقيل: هو منصوب على الظرفية، والإشارة بهذا إلى ما تقدم من الوعيد، كأنّه قيل: هذا العذاب المذكور كائن يوم لا ينطقون.
٣٦ - ﴿وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ﴾ في الاعتذار ﴿فَيَعْتَذِرُونَ﴾ معطوف (١) على ﴿يُؤْذَنُ﴾ منتظم في سلك النفي؛ أي: لا يكون لهم إذن واعتذار، متعقّب له من غير أن يجعل الاعتذار مسبّبًا عن الإذن، كما لو نصب فيقال: فيعتذروا، والنصب يوهم أنّ لهم عذرًا وقد منعوا من ذكره، وهو خلاف الواقع، إذ لو كان لهم عذر لم يمنعوا. وأيّ عذر لمن أعرض عن منعمه، وكفر بأياديه ونعمه؟
وقرأ الجمهور (٢): ﴿يُؤْذَنُ﴾ على البناء للمفعول. وقرأ زيد بن عليّ ﴿ولا يأذن﴾ على البناء للفاعل؛ أي: لا يأذن الله لهم؛ أي: لا يكون لهم إذن من الله فيكون لهم اعتذار. قال الفرّاء: الفاء في ﴿فَيَعْتَذِرُونَ﴾ عاطفة على ﴿يُؤْذَنُ﴾ وأجيز ذلك؛ لأن أواخر الكلام بالنون، ولو قال: فيعتذروا لم يوافق الآيات. وقد قال: ﴿لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا﴾ بالنصب، والكل صواب.
والمعنى: أي هذا يوم لا يتكلمون من الحيرة والدهشة، ولا يؤذن لهم في الاعتذار؛ لأنه ليس لديهم عذر صحيح، ولا جواب مستقيم. وقد يكون المعنى: هذا يوم لا ينطقون بما يفيد فكأنّهم لا ينطقون. وتقول العرب لمن ذكر ما لا يفيد: ما قلت شيئًا.
٣٧ - ﴿وَيْلٌ﴾؛ أي: كرب عظيم ﴿يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ بما دعتهم إليه الرسل، وأنذرتهم عاقبته.
وقال القاضي في كشف ما يلتبس في القرآن: إن قلت: نفي النطق عنهم يدل على انتفاء الاعتذار منهم؛ إذ الاعتذار لا يكون إلا بالنطق، فما فائدة قوله عقبه: ﴿وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (٣٦)﴾؟
قلت: معناه: لا ينطقون ابتداء بعذر مقبول، ولا بعد أن يؤذن لهم في الاعتذار.. لو أذن لهم فيه؛ إذ الخائف عادة قد لا ينطق لسانه بعذر وحجة لخوفه،
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
لكن إذا أذن له فيه نطق. ففائدة ذلك نفي هذا المعنى؛ أي: لا ينطقون ابتداء بعذر ولا بعد الإذن.
فإن قلت: ما ذكر ينافيه ما دل عليه قوله تعالى: ﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ﴾ من وقوع الاعتذار منهم.
قلت: لا ينافيه؛ لأنّ يوم القيامة يوم طويل، فيعتذرون في وقت ولا يعتذرون في آخر. والجواب: بأن المراد بتلك الآية الظالمون من المسلمين وبما هنا الكافرون ضعيف، لتعقيب تلك الآية بقوله تعالى: ﴿وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾ انتهى.
٣٨ - ﴿هَذَا﴾ اليوم الذي شاهدتم أهواله وأحواله ﴿يَوْمُ الْفَصْلِ﴾ بين الحقّ والباطل. والجملة على تقدير القول؛ أي: يقال للمكذبين: هذا اليوم يوم يفصل فيه بين الخلائق، ويتميّز فيه الحقّ من الباطل، فيؤتى كل عامل جزاء عمله من ثواب وعقاب، ويفصل بين العباد بعضهم مع بعض، فيقتصّ من الظالم للمظلوم وتردّ له حقوقه. ﴿جَمَعْنَاكُمْ﴾ يا أمّة محمد ﴿وَالْأَوَّلِينَ﴾ من الأمم الماضية. وهذا تقرير وبيان للفصل؛ إذ الفصل بين المحقّ والمبطل والرسل لا يستحق إلا بجمع الكل، فلا بد من إحضارهم لا سيما عند من لا يجوز القضاء على الغائب.
أي: (١) جمعنا بينكم وبين من تقدمكم من الأمم في صعيد واحد ليمكن الفصل بينكم، فيقضى لهذا على هذا، ولولا ذلك الجمع.. ما أمكن؛ إذ لا يقضى على غائب.
٣٩ - ﴿فَإِنْ كَانَ لَكُمْ﴾ أيّها المكذّبون ﴿كَيْدٌ﴾ في هذا اليوم، كما كان لكم في الدنيا ما تكيدون به دين الله وأولياءه؛ أي: حيلة تدفعون بها عنكم العذاب. والظاهر: أن هذا خطاب من الله للكفار. ﴿فَكِيدُونِ﴾ اليوم، أصله: فيكيدوني حذف ياء المتكلم اجتزاء عنها بالكسرة والنون للوقاية، وهو أمر من كاد يكيد كيدًا، وهو المكر والاحتيال والخديعة. والمعنى: واحتالوا لأنفكسم، وتخلصوا من عذابي إن قدرتم، فإن جميع من كنتم تقلّدونهم وتقتدون بهم حاضرون.
(١) المراغي.
وهذا أمر (١) إهانة وخطاب تعجيز، وتقريع لهم على كيدهم للمؤمنين في الدنيا، وتخجيل لهم بأنهم كانوا في الدنيا يدفعون الحقوق عن أنفسهم، ويبطلون حقوق الناس بضروب الحيل والمكايد والتلبيسات. فخاطبهم الله تعالى حين علموا أنّ الحيل منقطعة والتلبيسات غير ممكنة بقوله: ﴿فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (٣٩)﴾. لما ذكر من التقريع والتخجيل ولإظهار عجزهم عن الكيد، فإن لمثل هذا الكلام لا يتكلم به إلا من تيقن بعجز مخاطبه عما هو بصدده. وفي بعض التفاسير؛ أي: فإن وجد كيد نافع لكم، على أن ﴿لَكُمُ﴾ متعلق بـ ﴿كَانَ﴾ أو نافعًا لكم على أنه حال من ﴿كَيْدٌ﴾. وقيل: المعنى فإن قدرتم على حرب فحاربون. وقيل: إنّ هذا من قول النبي - ﷺ -، فيكون كقول هود عليه السلام لقومه: ﴿فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ﴾.
٤٠ - ﴿وَيْلٌ﴾؛ أي: غمّ وغصّة ﴿يَوْمَئِذٍ﴾؛ أي: يوم إذ يقال للكفّار ما ذكر ﴿لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ بالبعث؛ لأنه قد ظهر لهم عجزهم وبطلان ما كانوا عليه في الدنيا، فعلموا أنَّ لا حيلة لهم في الخلاص من العذاب.
٤١ - ثم ذكر سبحانه المؤمنين فقال: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ﴾ من الكفر والتكذيب للرسل، لأنهم في مقابلة المكذّبين، ففيه رد على المعتزلة. وقال مقاتل والكلبيّ: المراد بالمتقين الذين يتقون الشرك بالله؛ لأن السورة من أولها إلى آخرها في تقريع الكفّار على كفرهم. ﴿فِي ظِلَالٍ﴾ ظليلة على الحقيقة، كما يدلس عليه الإطلاق؛ أي: في ظلال الأشجار وظلال القصور، لا كالظل الذي للكفّار من الدخان، أو من النار، كما تقدم. قال بعضهم: الظاهر أنه إخبار عن كونهم تحت أشجار مثمرة لهم في جنانهم. يقول الفقير: الأظهر كونهم في ظلال كناية عن راحتهم العظمى؛ لأن الظل للراحلة، وكذا قوله تعالى: ﴿وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا﴾ ونحوه. وإنما ذكر الله سبحانه الظل تشويقًا للقلوب، لأنّ من البلاد ما هي حارّة قليلة المياه والأشجار والظلال. وقرأ الجمهور ﴿فِي ظِلَالٍ﴾ جمع ظلّ، والأعمش ﴿في ظلل﴾ جمع ظلّة، وكذا وافقه الزهري، وطلحة، والأعرج. ﴿و﴾ في ﴿عيون﴾ عذبة دافعة عنهم العطش
٤٢ - ﴿وَ﴾ في ﴿فَوَاكِهَ﴾ لذيذة متنوّعة ﴿مِمَّا يَشْتَهُونَ﴾ ويتمنّون، فيتناولونها تلذّذًا لا
(١) روح البيان.
عن جوع، والمراد بالعيون الأنهار، وبالفواكه ما يتفكّه به مما تطلبه أنفسهم
وتستدعيه شهواتهم.
والحاصل: أنهم مستقرّون في فنون الترفّه وأنواع التنعم خلاف مما عليه مخالفوهم.
والمعنى (١): أي إنّ المتقين في ظلال ظليلة وكن كنين وعيون عذبة وأنهار جارية، فلا يصيبهم أذى حرٍّ ولا قرٍّ، بخلاف الكافرين، فإنهم في ظل ذي ثلاث شعب لا ظليل، ولا يغني من اللهب، كما تقدم، ولديهم فواكه يأكلون منها كلّما اشتهت نفوسهم، لا يخافون ضرَّها ولا عاقبة مكروهها.
٤٣ - وجملة قوله: ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣)﴾ في الدنيا، مقدّرة بقول هو حال من ضمير المتقين في الخبر؛ أي: مقولًا لهم: كلوا أيّها الأبرار من نعم الجنة وثمراتها، واشربوا من مائها، وشرابها كلّما شئتم أكلًا وشربًا هنيئًا سائغًا رافهًا خالص اللذة، لا يشوبه سقم ولا تخم، ولا يكدّره تنغيص، وهو دائم لا يزول، ولا يورثكم أذًى في أبدانكم بسبب ما كنتم تعملونه في الدنيا من الأعمال الصالحة خصوصًا الصيام كما مرّ في الحاقّة. وهذا أمر إكرام إظهارًا للرضى عنهم والمحبّة لهم. تمسّك (٢) القائلون بإيجاب العمل للثواب بالباء السببية، والجواب: أنّ السببية إنما هي بفضل الله سبحانه ووعده الذي لا يخلف لا بالذات بحيث يمتنع عدمه أو يوجب النقص أو الظلم.
٤٤ - ﴿إِنَّا كَذَلِكَ﴾ الجزاء العظيم ﴿نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ لطاعتنا بالإخلاص في عقائدهم وأعمالهم لا جزاء أدنى منه.
والمعنى: أي إنّا كما جزينا هؤلاء المتقين بما وصفنا من الجزاء على طاعتهم إيانا في الدنيا نجزي أهل الإحسان والإخلاص لطاعتهم وعبادتهم لنا، فلا نضيع لهم أجرًا كما قال: ﴿إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا﴾.
٤٥ - ﴿وَيْلٌ﴾؛ أي: حسرةٌ وندامةٌ ﴿يَوْمَئِذٍ﴾؛ أي: يوم إذ جوزي المتقون بما ذكر من الجزاء الأوفى ﴿لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ بما أخبر الله تعالى به في كتابه من تكريم هؤلاء المتقين
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
بما أكرمهم به يوم القيامة، حيث نال أعداؤهم هذا الثواب الجزيل، وهم بقوا في العذاب المخلّد الوبيل.
٤٦ - ثم خاطب المكذبين مهدّدًا لهم، فقال: ﴿كُلُوا﴾ من نعيم الدنيا الفاني ﴿وَتَمَتَّعُوا﴾ بمتاعها تمتّعا ﴿قَلِيلًا﴾ أو زمانًا قليلًا؛ أي: عيشوا مدّة قليلةً إلى منتهى آجالكم؛ لأن زمان الدنيا قليل كمتاعها. ﴿إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ﴾؛ أي: كافرون مستحقّون للعذاب في الآخرة. وجملة ﴿كُلُوا﴾ في محل النصب مقول لقول مقدّر وقع حالًا من المكذبين. قال في "الكواشي": لا أحب الوقف على ﴿المكذبين﴾ إن نصبت ﴿كُلُوا﴾ إلخ، حالًا منه.
والمعنى (١): الويل ثابت لهم مقولًا لهم ذلك في الآخرة تذكيرًا لهم بحالهم في الدنيا بما جنوا على أنفسهم من إيثار المتاع الفاني عن قريب على النعيم الخالد، فلا يرد كيف يقال لهم ذلك ولا تمتع لهم فيها؟ يعني: أنّ هذا القول لهم في الآخرة لا يكون لطلب الأكل والتمتع منهم بنعيم الدنيا حقيقةً لعدم إمكانه بل إنّما يقال لهم للتذكير المذكور، فيكون الأمر أمر توبيخ وتحسير وتحزين. وعلل ذلك بإجرامهم دلالةً على أن كل مجرم مآله هذا؛ أي: ليس له إلّا الأكل والتمتع أيّامًا قلائل ثم البقاء في الهلاك الأبدي. أو يقال لهم هذا في الدنيا.
والمعنى عليه: أي كلوا بقية آجالكم وتمتعوا بقية أعماركم، وهي قليلة المدى، وسنستن بكم سنة من قبلكم من مجرمي الأمم الخالية التي متعت إلى حين ثم انتقمنا منهم بكفرهم وتكذيبهم لرسلنا. وهذا، وإن كان في اللفظ أمرًا فهو في المعنى تهديد وزجر عظيم.
٤٧ - ﴿وَيْلٌ﴾؛ أي: هلاك أبديّ وحزن سرمدي ﴿يَوْمَئِذٍ﴾؛ أي: يوم إذ وقعت المجازاة على الأعمال ﴿لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ الذين عرّضوا أنفسهم للعذاب الدائم بالتمتع القليل، وكذّبوا بما أخبرهم الله تعالى أنّه فعل بهم.
٤٨ - ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ﴾؛ أي: للمكذبين: ﴿ارْكَعُوا﴾؛ أي: أطيعوا الله، واخشعوا، وتواضعوا له بقبول وحيه واتباع دينه، وارفضوا هذا الاستكبار والنخوة؛ لأنّ الركوع
(١) روح البيان.
والانحناء تواضع له وتعظيم، والسجود أبلغ منه في التواضع والتعظيم، ومن ذلك قالوا: إن السجود لغير الله كفر إن كان للعبادة، وخطر عظيم إن كان للتعظيم. وفي "حواشي ابن الشيخ": الركوع في اللغة حقيقة في مطلق الانحناء الحسّيّ، وركوع الصلاة من جملة أفراده، وتفسيره بالإطاعة والخضوع مجاز لغويّ تشبيهًا له بالانحناء الحسّي. ﴿لَا يَرْكَعُونَ﴾؛ أي: لا يخضعون، ولا يقبلون ذلك، ويصرون على ما هم عليه من الاستكبار.
وقيل المعنى: إذا أمروا بالصلاة، أو بالركوع لا يفعلون، لما روى مقاتل: أنه نزل حين أمر رسول الله - ﷺ - ثقيفًا بالصلاة، فقالوا: إنّا لا نخرّ ولا نحني؛ أي: لا نقوم قيام الراكع، فإنها سبة علينا؛ أي: إنّ هيئة التجبية هيئة تظهر وترفع فيها السبّة، وهي الاست؛ أي: الدبر. وهو عار وعيب علينا، فقال - ﷺ -: "لا خير في دين ليس فيه ركوع ولا سجود".
وفي بعض التفاسير: كانوا في الجاهلية يسجدون للأصنام ولا يركعون لها، فصار الركوع من أعلام صلاة المسلمين لله تعالى. وفيه دلالة على أنّ الكفّار مخاطبون بالفروع في حقّ المؤاخذة في الآخرة، كما مرّ مرارًا. وفيه ذمّ عظيم لتارك الصلاة حيث لا يجيب داعي الله، أي: المؤذّن. فإنه يدعو في الأوقات الخمسة المؤمنين إلى بيت الله وإقامة الصلاة، وقس عليه سائر الداعين.
والخلاصة (١): أي وإذا قيل لهؤلاء المكذّبين: أعبدوا الله وأطيعوه واخشوا يومًا تتقلّب فيه القلوب والأبصار استكبروا، وأصرّوا على عنادهم.
وروى ابن جرير عن ابن عباس: أنه قال: ما يقال هذا في الآخرة حين يدعون إلى السجود، فلا يستطيعون من جراء أنهم لم يكونوا يسجدون في الدنيا.
٤٩ - ﴿وَيْلٌ﴾؛ أي: توبيخ عظيم وعذاب شديد ﴿يَوْمَئِذٍ﴾؛ أي: يوم إذ يوبّخ المكذبين، ويُعنّفون على أعمالهم الخبيثة ﴿لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ بأوامر الله سبحانه ونواهيه.
٥٠ - وبعد أن بالغ في زجر الكفّار بما تقدم ذكره، وحثّ على الانقياد للدين الحقّ ختم السورة بالتعجيب من هؤلاء المشركين الذين لم يسمعوا نصيحة الداعي، ولم
(١) المراغي.
554
يتّبعوا عظاته وما فيه رشدهم وصلاحهم في آخرتهم ودنياهم، فقال: ﴿فَبِأَيِّ حَدِيثٍ﴾؛ أي: (١) فبأيّ خبر يخبر بالحقّ، وينطق بما كان وما يكون على الصدق؟ ﴿بَعْدَهُ﴾؛ أي: بعد القرآن الناطق بأحاديث الدارين وأخبار النشأتين على نمط بديع معجز مؤسّس على حجج قاطعة وبراهبن ساطعة ﴿يُؤْمِنُونَ﴾ إذا لم يؤمنوا به؛ أي: بالقرآن الجامع لجميع الأحاديث والأخبار. فقوله: ﴿فَبِأَيِّ...﴾ إلخ، جواب شرط محذوف، وكلمة ﴿بعد﴾ بمنزلة ثمّ في إفادة التراخي الرتبي، أي: فإذا لم يؤمنوا به وهو موصوف بما ذكر فبأي كتاب يؤمنون؟ أي: إذا لم يؤمنوا بهذه الدلائل على تجلّيها ووضوحها فبأي كلام بعد هذا يصدقون؟
وقصارى ذلك: أنَّ القرآن قد اشتمل على البيان الشافي، والحق الواضح، فما بالهم لا يبادرون إلى الإيمان به قبل الفوت وحلول الموت وعدم الانتفاع بعسى ولعل وليت؟. وقرأ الجمهور (٢) ﴿يُؤْمِنُون﴾ بالتحتية على الغيبة. وقرأ ابن عامر في رواية عنه، ويعقوب بالفوقية على الخطاب.
وقد ختم سبحانه (٣) السورة بالتعجيب من الكفّار؛ لأن الاستفهام للتعجيب وبين أنهم في أقصى درجات التمرد والعناد، حيث لم ينقادوا لمثل هذا البرهان الساطع والدليل القاطع على حقّيّة الدين القويم من حيث كونه في أرفع درجات الفصاحة والبلاغة، وفي أقصى طبقات الإعجاز. واستدل بعض المعتزلة على أنّ القرآن ليس بقديم بقوله تعالى: ﴿فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ﴾؛ إذ الحديث ضدّ القديم؛ لأنّ الحدوث والقدم لا يجتمعان في شيء واحد، ورد بأن الحديث هنا بمعنى الخبر لا بمعنى الحادث، ولو سلم فالعبارة لا تدل على أنّ القرآن محدث لاحتمال أن يكون المراد فبأيّ حديث بعد القديم يؤمنون؟ وروي: أنّ المرسلات نزلت في غار قرب مسجد الخيف بمنى، يسمّى غار والمرسلات.
خاتمة (٤): وجاء في هذه السورة بعد كل جملة قوله: ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٥)﴾؛ لأنّ كل جملة منها فيها إخبار الله تعالى عن أشياء من أحوال الآخرة، وتقريرات من أحوال الدنيا، فناسب أن يذكر الوعيد عقيب كلّ جملة منها للمكذّب
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
(٣) روح البيان.
(٤) البحر المحيط.
555
بالويل في يوم الآخرة.
ولما كان في سورة الإنسان ذكر نزرًا من أحوال الكفّار في الآخرة، وأطنب في وصف أحوال المؤمنين فيها جاء في هذه السورة الإطناب في وصف الكفّار والإيجاز في وصف المؤمنين، فوقع بذلك الاعتدال بين السورتين.
الإعراب
﴿وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (١) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (٢) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (٣) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (٤) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (٥) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (٦) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (٧)﴾.
﴿وَالْمُرْسَلَاتِ﴾ ﴿الواو﴾: حرف جرّ وقسم، ﴿المرسلات﴾ مجرور بواو القسم، الجار والمجرور متعلق بفعل قسم محذوف تقديره: أقسم بالمرسلات، وجملة القسم مستأنفة استئنافًا نحويًّا. و ﴿عُرْفًا﴾، إما حال من الضمير المستكن في المرسلات إن كان مأخوذًا من عرف الفرس؛ أي: شعر عنق الفرس، والمعنى على التشبيه؛ أي: أقسم بالرياح المرسلات حال كونها شبيهة بعرف الفرس من حيث تلاحقها وتتابعها كما أنّه كذلك. أو منصوب على المصدرية؛ أي: والمرسلات إرسالًا عرفًا؛ أي: متتابعًا متلاحقًا. أو على أنّه مفعول لأجله إن كان بمعنى المعروف؛ أي: والمرسلات لأجل العرف؛ أي؛ أرسلت للإحسان والمعروف. وجواب القسم وما عطف عليه قوله الآتي: ﴿إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (٧)﴾. ﴿فَالْعَاصِفَاتِ﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة للتعقيب، ﴿العاصفات﴾ معطوف على ﴿المرسلات﴾، وهي اسم فاعل من العصف بمعنى الشدّة، ﴿عَصْفًا﴾ مصدر مؤكّد منصوب على المفعولية المطلقة بـ ﴿العاصفات﴾، ﴿وَالنَّاشِرَاتِ﴾ معطوف أيضًا على ﴿وَالْمُرْسَلَاتِ﴾، ﴿نَشْرًا﴾ مفعول مطلق منصوب بـ ﴿الناشرات﴾، ﴿فَالْفَارِقَاتِ﴾ معطوف على ﴿الناشرات﴾، ﴿فَرْقًا﴾ منصوب على المفعولية المطلقة بـ ﴿الفارقات﴾، ﴿فَالْفَارِقَاتِ﴾ معطوف على ﴿الفارقات﴾، ﴿ذِكْرًا﴾ مفعول به لـ ﴿الملقيات﴾. ﴿عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (٦)﴾ منصوبان على البدلية من ﴿ذِكْرًا﴾ أو على أنّهما مفعولان لأجله أو على الحال من الضمير المستكن في ﴿الملقيات﴾ أي: معذرين ومنذرين. ﴿إِنَّمَا﴾ إنّ حرف نصب وتوكيد، ﴿مَا﴾ اسم موصول بمعنى الذي في محل النصب اسمها، ولا تكون ﴿مَا﴾ هنا مصدرية ولا كافّة، وقد مرّ لك أنها كتبت هنا متصلة بـ ﴿إن﴾ إتباعًا لرسم المصحف الإمام.
556
وجملة ﴿تُوعَدُونَ﴾ من الفعل المغيّر ونائب فعله صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة، والعائد محذوف تقديره: إنّ الذي توعدونه من البعث والحشر، ﴿لَوَاقِعٌ﴾ خبر ﴿إنّ﴾، واللام المزحلقة حرف ابتداء، وجملة ﴿إنّ﴾ من اسمها وخبرها جواب القسم، لا محل لها من الإعراب.
﴿فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (٨) وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (٩) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (١٠) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (١١) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (١٢) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (١٣) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (١٤) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٥) أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (١٦) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (١٧) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (١٨) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٩)﴾.
﴿فَإِذَا النُّجُومُ﴾ ﴿الفاء﴾ استئنافية، ﴿إذا﴾ ظرف لما يستقبل من الزمان مضمّن معنى الشرط، ﴿النُّجُومُ﴾ نائب فاعل لفعل محذوف وجوبًا يفسّره ما بعده، تقديره: فإذا طمست النجوم طمست. وجملة ﴿طُمِسَتْ﴾ من الفعل المغيّر ونائب فاعله جملة مفسّرة لا محل لها من الإعراب.
وفي جواب ﴿إذا﴾ قولان:
أحدهما: أنّه محذوف تقديره: فإذا طمست النجوم وقع ما توعدون لدلالة قوله: ﴿إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (٧)﴾ عليه.
والثاني: أنّ جوابها قوله: ﴿لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (١٢)﴾ على إضمار القول؛ أي: يقال: لأيّ يوم أجّلت. فالفعل في الحقيقة هو الجواب، وجملة ﴿إذا﴾ من فعل شرطها وجوابها على كلا القولين مستأنفة لا محل لها من الإعراب. وقوله: ﴿وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (٩) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (١٠) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (١١)﴾ جمل معطوفة على جملة قوله: ﴿فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (٨)﴾، وجرى فيها ما جرى فيه من الإعراب من الاشتغال؛ أي: وإذا فرجت السماء فرجت، وإذا نسفت الجبال نسفت، وإذا أقتت الرسل أقتت وقع ما توعدون من البعث والمجازاة. ﴿لِأَيِّ يَوْمٍ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿أُجِّلَتْ﴾؛ أي: أجلت لأيّ يوم، والجملة مقول لقول محذوف في محل نصب على الحال من مرفوع ﴿أُقِّتَتْ﴾؛ أي: ماذا أقتت الرسل مقولًا فيهم: لأيّ يوم أجلت وقع ما توعدون، أو مقول لقول محذوف وقع جوابًا لـ ﴿إذا﴾، فلا محل لها من الإعراب كما تقدم؛ أي: يقال لأيّ يوم أجلت. ﴿لِيَوْمِ الْفَصْلِ (١٣)﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه، بدل من الجار والمجرور في قوله: ﴿لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (١٢)﴾ بإعادة
557
العامل، ولك أن تعلقه بفعل محذوف؛ أي: أجلت ليوم الفصل. ﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿ما﴾ اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ، ﴿أَدْرَاكَ﴾ فعل ماض ومفعول به أوّل، وفاعله ضمير يعود على ﴿ما﴾، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، تقديره: وأي شيء مدر إياك جواب ﴿مَا يَوْمُ الْفَصْلِ﴾، والجملة الاسمية جملة إنشائية مستأنفة لا محل لها من الإعراب. ﴿مَا﴾ استفهامية في محل الرفع مبتدأ، ﴿يَوْمُ الْفَصْلِ﴾ خبره، والجملة الاسمية في محل النصب سادّة مسد المفعول الثاني لـ ﴿أَدْرَاكَ﴾؛ أي: شيء جعلك داريًا، جواب استفهام ﴿مَا يَوْمُ الْفَصْلِ﴾، والاستفهام الأول معناه الاستبعاد والإنكار، والثاني للتهويل والتعظيم. ﴿وَيْلٌ﴾ مبتدأ سوغ الابتداء به مع كونه نكرة ما فيه من معنى الدعاء، ﴿يَوْمَئِذٍ﴾ ظرف أضيف إلى مثله، متعلق بـ ﴿وَيْلٌ﴾؛ لأنّه بمعنى هلاك، أو صفة له، والتنوين عوض عن جمل محذوفة تقتبس من السياق.
والتقدير: يوم إذ طمست النجوم وفرجت السماء إلخ، ﴿لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ خبر عن ﴿وَيْلٌ﴾، والجملة الاسمية مستأنفة. ﴿أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (١٦)﴾ الهمزة للاستفهام التقريري؛ لأنّ الاستفهام في الأصل إنكاري، وقد دخل على نفي، ونفي النفي إثبات، ويعبّر عنه بالاستفهام التقريري. ﴿لم نهلك﴾ جازم وفاعل مضارع، مجزوم بـ ﴿لم﴾، وفاعله ضمير مستتر تقديره: نحن، يعود على الله، ﴿الْأَوَّلِينَ﴾ مفعول به، والجملة جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب. ﴿ثُمَّ﴾ حرف عطف وترتيب مع التراخي ﴿نتبعهم﴾ فعل مضارع ومفعول به، مرفوع على الاستئناف لتجرّده عن الناصب والجازم، وفاعله ضمير يعود على الله، ﴿الْآخِرِينَ﴾ مفعول به ثان، أي: ثمّ نحن نتبعهم الآخرين. ﴿كَذَلِكَ﴾ صفة لمصدر محذوف؛ أي: فعلا مثل ذلك الفعل الفظيع، ﴿نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ﴾. ﴿نَفْعَلُ﴾ فعل مضارع وفعل مستتر يعود على الله، ﴿بِالْمُجْرِمِينَ﴾ متعلق بـ ﴿نَفْعَلُ﴾، والجملة مستأنفة. وقوله: ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٩)﴾ تقدم إعرابه آنفًا فلا عود ولا إعادة، وسيأتي سر تكرارها في مبحث البلاغة.
﴿أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (٢٠) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (٢١) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢٢) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (٢٣) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٤) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (٢٥) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (٢٦) وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا (٢٧) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٨)﴾.
﴿أَلَمْ﴾ ﴿الهمزة﴾ للاستفهام التقريري: ﴿لم﴾ حرف جزم، ﴿نَخْلُقْكُمْ﴾ فعل
558
مضارع مجزوم بـ ﴿لم﴾، وفاعله ضمير مستتر فيه يعود على الله، ﴿مِنْ مَاءٍ﴾ متعلق بـ ﴿نَخْلُقْكُمْ﴾، ﴿مَهِينٍ﴾ نعت لـ ﴿مَاءٍ﴾ ومن الابتدائية إشارة إلى أنه تعالى قادر على الابتداء، والقادر على الابتداء قادر على الإعادة، والجملة الاستفهامية جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب. ﴿فَجَعَلْنَاهُ﴾ فعل وفاعل ومفعول أوّل، معطوف على الجملة الاستفهامية، ﴿فِي قَرَارٍ﴾ في موضع المفعول الثاني، ﴿مَكِينٍ﴾ صفة لـ ﴿قَرَارٍ﴾، ﴿إِلَى قَدَرٍ﴾ جار ومجرور متعلق بمحذوف وقع حالًا من مفعول ﴿جعلناه﴾؛ أي: مؤخّرًا إلى قدر معلوم، و ﴿مَعْلُومٍ﴾ صفة لـ ﴿قَدَرٍ﴾، ﴿فَقَدَرْنَا﴾ فعل وفاعل، معطوف على ﴿جعلناه﴾، ﴿فَنِعْمَ﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿نعم﴾ فعل ماض جامد لإنشاء المدح، ﴿الْقَادِرُونَ﴾ فاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿قدرنا﴾، والمخصوص بالمدح محذوف تقديره: نحن. ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٤)﴾ تقدم إعرابها. ﴿أَلَمْ نَجْعَلِ﴾ ﴿الهمزة﴾ للاستفهام التقريريّ، ﴿لم نجعل الأرض كفاتًا﴾ جازم وفعل مضارع وفاعل مستتر ومفعولان، والجملة الاستفهامية جملة إنشائية، لا محل لها من الإعراب. ﴿أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (٢٦)﴾ مفعولان به لـ ﴿كِفَاتًا﴾ إن قلنا: إنّه مصدر أو جمع كافت لأنّه اسم فاعل، و ﴿جعلنا﴾ فعل وفاعل معطوف على الجملة الاستفهامية، ﴿فِيهَا﴾ متعلق بـ ﴿جعلنا﴾ إن كان بمعنى ﴿خلقنا﴾، وفي موضع المفعول الثاني إن كان بمعنى صيرنا، ﴿رَوَاسِىَ﴾ مفعول ﴿جعلنا﴾، ﴿شَامِخَاتٍ﴾ صفة لـ ﴿رَوَاسِىَ﴾، ﴿وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً﴾ فعل وفاعل ومفعولان، معطوف على ﴿جعلنا﴾، ﴿فُرَاتًا﴾ صفة لـ ﴿مَاءً﴾. ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٨)﴾ تقدم إعرابها.
﴿انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٩) انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (٣٠) لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (٣١) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (٣٢) كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (٣٣) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٤)﴾.
﴿انْطَلِقُوا﴾ فعل أمر، مبني على حذف النون، ﴿والواو﴾: فاعل، والجملة في محل النصب مقول لقول محذوف، تقديره: ويقال لهم: ﴿انْطَلِقُوا﴾ إلخ. وجملة القول مستأنفة، ﴿إِلَى مَا﴾ متعلق بـ ﴿انْطَلِقُوا﴾، ﴿كُنْتُمْ﴾ فعل ناقص واسمه، ﴿بِهِ﴾ متعلق بـ ﴿تُكَذِّبُونَ﴾، وجملة ﴿تُكَذِّبُونَ﴾ خبر ﴿كَانَ﴾، وجملة ﴿كُنْتُمْ﴾ صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة، والعائد الضمير في ﴿به﴾. ﴿انْطَلِقُوا﴾ فعل وفاعل، توكيد لفظيّ لـ ﴿انْطَلِقُوا﴾ الأول، ﴿إِلَى ظِلٍّ﴾ معلق بـ ﴿انْطَلِقُوا﴾، ﴿ذِي ثَلَاثِ﴾ صفة لـ ﴿ظِلٍّ﴾،
559
﴿ذِي﴾ مضاف، ﴿ثَلَاثِ﴾ مضاف إليه، ﴿ثَلَاثِ﴾ مضاف، ﴿شُعَبٍ﴾ مضاف إليه، ﴿لَا ظَلِيلٍ﴾ صفة لـ ﴿ظِلٍّ﴾، و ﴿وَلَا﴾ متوسطة بين الصفة والموصوف لإفادة النفي؛ أي: إلى ظلّ غير ظليل. وجملة ﴿لا يغني من اللهب﴾ صفة ثانية لـ ﴿ظِلٍّ﴾؛ أي: إلى ظل غير ظليل غير مغنٍ من اللهب، و ﴿مِنَ اللَّهَبِ﴾ متعلق بـ ﴿يغني﴾، وجيء بالصفة الأولى اسمًا وبالثانية فعلًا دلالة على نفي ثبوت هذه الصفة ونفي التجدّد والحدوث للإغناء عن اللهب، كما في "السمين". ﴿إِنَّهَا﴾ ناصب واسمه، وجملة ﴿تَرْمِي﴾ خبره، وجملة إنّ جملة تعليلية لا محل لها من الإعراب مسوقة لتعليل عدم غناء الظلّ غير الظليل. ﴿بِشَرَرٍ﴾، متعلق بـ ﴿تَرْمِي﴾، ﴿كَالْقَصْرِ﴾ نعت لـ ﴿شرر﴾، ﴿كَأَنَّهُ﴾ ناصب واسمه، ﴿جِمَالَتٌ﴾ خبره، ﴿صُفْرٌ﴾ صفة لـ ﴿جمالة﴾، وجملة ﴿كأن﴾ في محل الجر صفة ثانية لـ ﴿شرر﴾. ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٤)﴾ تقدم إعرابها.
﴿هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (٣٥) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (٣٦) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٧) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (٣٨) فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (٣٩) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٠)﴾.
﴿هَذَا﴾ مبتدأ، و ﴿يَوْمُ﴾ خبره، والجملة الاسمية مستأنفة، وجملة ﴿لَا يَنْطِقُونَ﴾ في محل جر بإضافة الظرف إليه، وقرىء بفتح الميم نصبًا على الظرفية، وهو متعلق بمحذوف خبر المبتدأ. ﴿وَلَا يُؤْذَنُ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿لا﴾ نافية، ﴿يُؤْذَنُ﴾ فعل مضارع مغيّر الصيغة، ﴿لَهُم﴾ جار ومجرور في محل الرفع نائب فاعل لـ ﴿يُؤْذَنُ﴾، والجملة الفعلية في محل الجر معطوفة على جملة ﴿لَا يَنْطِقُونَ﴾. ﴿فَيَعْتَذِرُونَ﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿يعتذرون﴾ فعل وفاعل، معطوف على ﴿يُؤْذَنُ﴾، منتظم في سلك النفي من غير تسبّب عنه، ولهذا لم ينصب؛ لأنّه لو نصب لـ كان مسبّبًا عنه لا محالة. ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٧)﴾ تقدم إعرابها. ﴿هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ﴾ مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة. ﴿جَمَعْنَاكُمْ﴾ فعل وفاعل ومفعول به، ﴿وَالْأَوَّلِينَ﴾ معطوف على الكاف أو مفعول معه، والجملة الفعلية جملة مفسرة لا محل لها من الإعراب، لأنّها فسرت جملة قوله: ﴿هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ﴾. ﴿فإن﴾ الفاء: عاطفة، ﴿إنْ﴾ حرف شرط، ﴿كَانَ﴾ فعل ماض ناقص في محل الجزم بـ ﴿إنْ﴾ الشرطية على كونها فعل شرط لها، ﴿لَكُمْ﴾ خبرها مقدم، ﴿كَيْدٌ﴾ اسمها مؤخّر، ﴿فَكِيدُونِ﴾ ﴿الفاء﴾: رابطة الجواب، ﴿كيدون﴾ فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعل، والنون للوقاية،
560
وياء المتكلم المحذوفة اجتزاء عنها بالكسرة مفعول به، وجملة ﴿كيدون﴾ في محل الجزم بـ ﴿إنْ﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية معطوفة على جملة ﴿جَمَعْنَاكُمْ﴾. ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٠)﴾. تقدم إعرابها.
﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (٤١) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٤٢) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٤٤) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٥) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (٤٦) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٧) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (٤٨) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٩) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (٥٠)﴾.
﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ﴾ ناصب واسمه، ﴿فِي ظِلَالٍ﴾ خبره، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة مسوقة لذكر أحوال المؤمنين على سبيل الإيجاز، ﴿وَعُيُونٍ﴾ معطوف على ﴿ظِلَالٍ﴾، ﴿وَفَوَاكِهَ﴾ معطوف على ﴿ظلال﴾، مجرور بالفتحة، لأنّه على صيغة منتهى المجموع، ﴿مِمَّا﴾ جار ومجرور نعت لـ ﴿فواكه﴾، وجملة ﴿يَشْتَهُونَ﴾ صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: مما يشتهونه. ﴿كُلُوا﴾ فعل أمر وفاعل، والجملة في محل النصب مقول لقول محذوف وقع حالًا من الضمير المستكن في خبر ﴿إنّ﴾ الذي هو قوله: ﴿فِي ظِلَالٍ﴾؛ أي: مستقرّون في ظلال مقولا لهم: ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا﴾ إلخ. ﴿وَاشْرَبُوا﴾ معطوف على ﴿كُلُوا﴾، ﴿هَنِيئًا﴾ صفة لمصدر محذوف؛ أي: أكلًا وشربًا هنيئين، أو منصوب على الحال من فاعل ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا﴾، أي: حال كونكم متهنّئين. ﴿بِمَا﴾ متعلق بـ ﴿هَنِيئًا﴾ ﴿كنتم﴾ فعل ناقص واسمه، وجملة ﴿تَعْمَلُونَ﴾ خبرها، وجملة ﴿كان﴾ صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة. ﴿إِنَّا﴾ ناصب واسمه، ﴿كَذلِكَ﴾ صفة لمصدر محذوف مقدم على عامله؛ أي: جزاء مثل ذلك الجزاء العظيم. ﴿نَجْزِي﴾ فعل مضارع وفاعل مستتر، ﴿الْمُحْسِنِينَ﴾ مفعول به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إنّ﴾ جملة تعليليّة، لا محل لها من الإعراب. ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٥)﴾ تقدم إعرابها. ﴿كُلُوا﴾ فعل أمر وفاعل، ﴿وَتَمَتَّعُوا﴾ معطوف عليه، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لقول محذوف وقع حالًا من ﴿المكذبين﴾، والتقدير: الويل ثابت للمكذبين حال كونهم مقولًا لهم: ﴿كُلُوا وَتَمَتَّعُوا﴾. قَلِيلًا صفة لظرف محذوف تقديره: زمانًا قليلًا، والظرف تنازع فيه ﴿كُلُوا وَتَمَتَّعُوا﴾، أو صفة لمصدر محذوف أي: أكلًا قليلًا وتمتعًا قليلًا. ﴿إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ﴾ ناصب واسمه وخبره، والجملة تعليلية لا محل لها من الإعراب مسوقة لتعليل التهديد المفهوم من الأمر
561
بالأكل والتمتع. ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٧)﴾ تقدم إعرابها. ﴿وَإِذَا﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿إذا﴾ ظرف لما يستقبل من الزمان، ﴿قِيلَ﴾ فعل ماض مغير الصيغة، ﴿لَهُمُ﴾ متعلق بـ ﴿قِيلَ﴾، ﴿ارْكَعُوا﴾ نائب فاعل محكيّ لـ ﴿قِيلَ﴾، وجملة ﴿قيل﴾ في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إذا﴾ على كونها فعل شرط لها، وجملة ﴿لَا يَرْكَعُونَ﴾ جواب ﴿إذا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿إذا﴾ مستأنفة. ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٩)﴾ تقدم إعرابها. ﴿فَبِأَيِّ حَدِيثٍ﴾ ﴿الفاء﴾: استئنافية، الباء، حرف جر. ﴿أيّ﴾ اسم استفهام للاستفهام التعجبي، مجرور بالباء، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿يؤمنون﴾، ﴿أي﴾ مضاف، ﴿حَدِيثٍ﴾ مضاف إليه، ﴿بَعْدَهُ﴾ ظرف متعلق بمحذوف صفة لحديث، ﴿يُؤْمِنُونَ﴾ فعل وفاعل، والجملة الفعلية جملة استفهامية مستأنفة لا محل لها من الإعراب.
التصريف ومفردات اللغة
﴿عُرْفًا﴾ وفي "القاموس": والعرف بالضمّ: شعر عنق الفرس اهـ. ثم قال: والمعرفة كمرحلة: موضع العرف من الفرس اهـ. ﴿فَالْعَاصِفَاتِ﴾ من العصف بمعنى الشدّة، وفي "المصباح": عصفت الريح عصفًا من باب ضرب وعصوفًا أيضًا: اشتدت. ﴿نَشْرًا﴾ مصدر نشر من باب نصر، يقال: نشرت الريح المطر إذا فرقته حيث شاء الله تعالى، وفرق بين الحق والباطل فرقًا من باب نصر، كما في "المختار". ﴿عُذْرًا﴾ مصدر من عذر إذا محا الإساءة. ﴿أَوْ نُذْرًا﴾ اسم من أنذر إذا خوّف، لا مصدر؛ لأنّه لم يسمع فعل مصدرًا من أفعل. ﴿طُمِسَتْ﴾؛ أي: محيت ومحقت وذهب نورها. ﴿فُرِجَتْ﴾؛ أي: فتحت فكانت أبوابًا. ﴿نُسِفَتْ﴾؛ أي: تفتتت فصارت كالرمل السائل، وفي "المصباح": نسفت الريح التراب نسفًا من باب ضرب: اقتلعته وفرقته اهـ. ﴿أُقِّتَتْ﴾ قرأه أبو عمرو البصري ﴿وُقّتَتْ﴾ بالواو من الوقت، فالواو هي الأصل فاء الكلمة. وقرأه الباقون ﴿أقتت﴾ بالهمزة، وفيه إبدال الواو همزة؛ لأن الضمة من جنس الواو، فالجمع بينهما يجري مجرى الجمع بين المثلين، فيكون ثقيلًا، ولهذا السبب تستثقل الكسرة على الياء، ولم تبدل في نحو: ﴿وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ﴾، لأنّ ضمة الواو ليست بلازمةٍ فيه. وفي "كشف الأسرار": الألف والواو لغتان، والعرب تبدل الألف من الواو، تقول: وسادة
562
وإسادة وكتاب مورخ ومؤرخ وقوس موتر ومؤتر. ﴿وَمَا أَدْرَاكَ﴾ فيه إعلال بقلب الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، أصله: أدريك بوزن أفعل. ﴿مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ﴾ والميم فيه أصلية، ومهانته قلته وخسته، وكل شيء ابتذلته فلم تصنه فقد امتهنته؛ أي: خلقناكم منه. ﴿فِي قَرَارٍ مَكِينٍ﴾ فالقرار موضع الاستقرار، والمكين: الحصين الحفيظ له مما يفسده كالهواء. ﴿كِفَاتًا﴾ والكفات اسم ما يكفت؛ أي: يضم ويجمع من كفت الشيء إذا ضمه وجمعه كالضمام، لما يضم والجماع لما يجمع، نحو: التقوى جماع كل خير، والخمر جماع كل إثم. ﴿رَوَاسِيَ﴾؛ أي: جبالًا ثوابت من وما الشيء يرسو؛ أي: ثبت. ﴿شَامِخَاتٍ﴾ جمع شامخة، والشامخ: العالي المرتفع؛ أي: مرتفعات. ووصف جمع المذكر بجمع المؤنث في غير العقلاء مطرد كأشهر معلومات ونحوه.
﴿مَاءً فُرَاتًا﴾ يقال: الفرات للواحد والجمع، وتاؤه أصلية ﴿ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ﴾ جمع شعبة بمعنى قطعة وفرقة. ﴿وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ﴾؛ أي: لا يدفعه، واللهب: ما يعلو على النار إذا اضطرمت من أحمر وأصفر وأخضر. ترمي بشرر فالشرر جمع شررة، وهي ما تطاير من النار في الجهات متفرقًا كالنجوم. قال في "القاموس": الشرر والشرار كجبلٍ وكتاب: ما يتطاير من النار، واجدتهما بهاء انتهى. ﴿كَالْقَصْرِ﴾ في العظم، مفرد جمعه قصور، وهو البناء العالي، ووصف به الجمع باعتبار كل واحد من أفراده، كما مرّ. ﴿جمالة صفر﴾ جمع جمل كحجارة في جمع حجر، ويقال: جمل وجمال وجمالة نحو: ذكر وذكارٍ وذكارة وحجر وحجار وحجارة. والتاء فيه لتأنيث الجمع أو اسم جمع كالحجارة. والجمل: ذكر الإبل، والناقة أنثاه. والصفر: جمع أصفر، والصفرة: لون من الألوان التي بين السواد والبياض، وهي إلى البياض أقرب، ولذلك قد يعبر بها عن السواد. ﴿فَكِيدُونِ﴾ أمر من كاد يكيد، وأصل يكيد يكيد بوزن يفعل، نقلت حركة الياء إلى الكاف فسكنت الياء إثر كسرة فصارت حرف مدّ، فلما بني منه الأمر حذف حرف المضارعة، وحذفت نون الرفع كما حذفت ياء المتكلم لرعاية الفواصل. والكيد: هو المكر والاحتيال والخديعة. ﴿فِي ظِلَالٍ﴾ جمع ظل كشعاب وشعب أو ظلة كقباب وقبة. ﴿يَشْتَهُونَ﴾ أصله: يشتهيون، استثقلت الضمة على الياء فحذفت، فلما حذفت حركتها سكنت فالتقى ساكنان فحذفت الياء، وضمت الهاء لمناسبة الواو.
563
البلاغة
وقد تضمنت هذه السورة الكريمة ضروبًا من البلاغة وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع.
فمنها: التأكيد بذكر المصادر زيادة في البيان وتقوية للكلام في قوله: ﴿فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (٢) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (٣) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (٤)﴾. وهو من المحسنات اللفظية.
ومنها: الطباق بين ﴿عُذْرًا﴾ و ﴿نُذْرًا﴾ وبين ﴿أَحْيَاءً﴾ و ﴿وَأَمْوَاتًا﴾ وبين ﴿الْأَوَّلِينَ﴾ و ﴿الْآخِرِينَ﴾.
ومنها: وضع الظاهر موضع المضمر مع الإتيان بصيغة الاستفهام في قوله: ﴿لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (١٢) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (١٣) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (١٤)﴾ لزيادة تفظيع الأمر وتهويله، وكان مقتضى السياق وما أدراك ما هو.
ومنها: تكرار آية ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٥)﴾ في عشر مواضع لزيادة الترهيب والتهديد؛ لأن التكرار في مقام الترغيب والترهيب مستساغ حسن، لا سيما إذا تغايرت الآيات السابقة على المرّات المكررة كما هنا.
ومنها: الاستفهام التقريري في قوله: ﴿أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (١٦)﴾ وفي قوله: ﴿أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (٢٠)﴾.
ومنها: الجناس الناقص بين لفظي ﴿مَهِينٍ﴾ و ﴿مَكِينٍ﴾.
ومنها: التنكير في قوله: ﴿رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ﴾ للتفخيم، أو للإشعار بأنّ ما يرى على ظهر الأرض من الجبال بعض منها، وإنّ في عداد الجبال ما لم يعرف ولم ير، فإن في السماء جبالًا أيضًا بدلالة قوله تعالى: ﴿وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ﴾.
ومنها: التنكير في قوله: ﴿مَاءً فُرَاتًا﴾ للتفخيم أو لإفادة التبعيض؛ لأنّ في السماء ماء فراتًا أيضًا، بل هي معدنه ومصبه.
ومنها: تقديم الجار والمجرور على متعلق في قوله: ﴿إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾ لرعاية رؤوس الفواصل.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ﴾؛ لأنّه كناية عن كون ذلك الدخان عظيمًا بناءً على أن التشعب من لوازمه.
564
ومنها: وصف الظل بالظليل في قوله: ﴿لَا ظَلِيلٍ﴾ للتأكيد كنومٍ نائمٍ، وللدلالة على أن تسمية ما يغشاهم من العذاب بالظل استهزاء بهم.
ومنها: التشبيه المرسل المجمل في قوله: ﴿تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ﴾ والمرسل المفصّل في قوله: ﴿كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (٣٣)﴾. فالأول وهو التشبيه بالقصر تشبيه في العظم، والثاني وهو التشبيه بالجمل تشبيه في اللون والكثرة والتتابع والاختلاط والحركة.
ومنها: الإهانة والتعجيز والتقريع في قوله: ﴿فَكِيدُونِ﴾؛ لأنّ الأمر فيه أمر إهانة، والخطاب فيه خطاب تعجيز وتقريع لهم على كيدهم للمؤمنين في الدنيا.
ومنها: الأسلوب التهكمي في قوله: ﴿انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (٣٠) لَا ظَلِيلٍ﴾، سمّي العذاب ظلًّا تهكّمًا وسخرية بهم.
ومنها: المقابلة بين نعيم الأبرار وعذاب الفجّار في قوله: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (٤١) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٤٢) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣)﴾، قابل ذلك بقوله: ﴿كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (٤٦)﴾.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (٤١) وَفَوَاكِهَ﴾ إلخ، من إطلاق الحال وإرادة المحل، وهو الجنة، علاقته المحلية؛ لأنّ الظلال تمتدّ فيها، والعيون تجري فيها، والفواكه تنضج فيها.
ومنها: المجاز المرسل أيضًا في قوله: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا﴾ علاقته البعضيّة، لأنّه سمى الصلاة باسم جزء من أجزائها، وهو الركوع، وإنما خص الركوع بالذكر مع أن الصلاة تشتمل على أفعال كثيرة؛ لأنّ العرب كانوا يأنفون من الركوع والسجود.
ومنها: التنكير في قوله: ﴿أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (٢٦)﴾، فقد نكّرهما مع أنها تكفت الأحياء والأموات جميعًا للتفخيم، كأنّه قيل: أحياء لا يعدون وأمواتًا لا يحصون على أنّ أحياء الإنس وأمواتهم ليسوا بجميع الأحياء والأموات.
ومنها: الزيادة والحذف في عدّة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
565
خلاصة ما اشتملت عليه هذه السورة من المقاصد
١ - الإخبار بأنّ يوم الفصل آتٍ لا شكّ فيه، وقد أكد ذلك بالقسم بملائكته الكرام.
٢ - وعيد الكافرين بأنه سيستن بهم سنة الأولين من المكذبين.
٣ - توبيخ المكذّبين على نكران نعم الله عليهم في الأنفس والآفاق.
٤ - وصف عذاب الكافرين بما تشيب من هوله الولدان.
٥ - وصف نعيم المتقين، وما يلقونه من الكرامة في جنات النعيم، ويتخلل ذلك وصف خلق الإنسان، والأرض والجبال وبيان عظمة الخالق وكمال قدرته (١).
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
(١) إلى هنا تمت سورة المرسلات بعون خالق البريات، وصل اللهم على عبدك ورسولك محمدٍ النبيّ الأمّي، وعلى آله وصبحه وسلم.
وكان الفراغ من مسودة هذا الجزء في يوم الثلاثاء قبيل الغروب اليوم السابع من شهر الجمادى الأخيرة من شهورة سنة ألف وأربع مئة وست عثرة من الهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية. بعد أن عاقني عن موالاته شواغل الدهر، فلله الحمد على كماله، والشكر له على نواله. وصلى الله تعالى على سيّدنا ومولانا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين آمين آمين يا ربّ العالمين ألف ألف آمين.
566
شعرٌ
إِنّيْ إِذَا مَا خَتَمْتُ خَتْمًا أَقُوْلُ يا اللَّهُمَّ يَا اللَّهُمَّا
لَكَ الحَمْدُ حَمْدًا يُوَافِي وَلَكَ الشُّكْرُ شُكْرًا يُكَافِي
عَلَى مَا بِهِ مِنَ التَّفْسِيْرِ أَكْرَمْتَنِي وَمَا بِهِ مِنَ الفُنُوْنِ أَلْهَمْتَنِييْ
آخرُ
يَا خَادِمَ الْجِسْمِ كَمْ تَسْعَى لِخِدْمَتِهِ وَتَطْلُبُ الرِّبْحَ مِمَّا فِيْهِ خُسْرَانُ
عَلَيْكَ بِالنَّفْسِ فَاسْتَكْمِلْ فَضَائِلَهَا فَأَنْتَ بِالنَّفْسِ لَا بِالْجِسْمِ إِنْسَانُ
آخرُ
وَمِنْ عَجَبِ الأَيَّامِ أنَّكَ قَاعِدُ عَلَى الأَرْضِ فِيْ الدُّنْيَا وَأَنْتَ تَسِيْرُ
فَسَيْرُك يَا هَذَا كَسَيْرِ سَفِيْنَةِ بِقَوْمٍ قُعُوْدٍ وَالقُلُوْبُ تَطِيْرُ
آخرُ
567
تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن
تأليف
الشيخ العلامة محمد الأمين بن عبد الله الأرمي العلوي الهرري الشافعي
المدرس بدار الحديث الخيرية في مكة المكرمة
إشراف ومراجعة
الدكتور هاشم محمد علي بن حسين مهدي
خبير الدراسات برابطة العالم الإسلامي - مكة المكرمة
«المجلد الحادي والثلاثون»
حقوق الطبع محفوظة للناشر
الطبعة الأولى
١٤٢١ هـ - ٢٠٠١ م
دار طوق النجاة
بيروت - لبنان
2
تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن
[٣١]
3

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

4

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله الذي جعل القرآن منهلًا عذبًا للورود والصدور، وأنزله موعظةً وشفاءً لما في الصدور، جمع فيه علوم الأولين والآخرين، فلا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين، والصلاة والسلام على من أوحي إليه ذلك القرآن، من لوح الوجوب والأمر والشأن، سيدنا محمد الذي أجرى من مسجله ما يحاكي السلسبيل والرحيق، وأفحم ببلاغته كل متكلم منطيق، وفسر الآيات في الأنفس والآفاق على مراد الله سبحان الملك الخلاق، وعلى آله وصحبه المقتبسين من مشكاة أنواره، المغترفين من بحار أسراره، ومن تبعهم بإحسان ممن تخلق بالقرآن في كل زمان.
أما بعد: فيقول العبد المعترف بذنبه وخطئه، المنادي لربه في عفوه وعطائه: إني لما فرغت من تفسير الجزء التاسع والعشرين من القرآن الكريم.. عزمت إن شاء الله تعالى على الشروع في تفسير الجزء الثلاثين، وإن كان علم التفسير لا يقحم في معاركه كل ذمير، وإن كان أسدًا، ولا يحمل لواءه كل أمير، وإن مات حسدًا، وذلك أظهر من أن يورد عليه دليل، كالنيرين لغير كليل، ومع خطر ذاك فالأمد قصير، وفي العبد تقصير، وكم ترى من نحرير كامل في التحرير والتقرير، قد أصابه سهم القضاء قبل بلوغ الأمل، وذلك بحلول ريب المنون والأجل، أو بتطاول يد الزمان، فإن الدنيا لا تصفو لشاربٍ وإن كانت ماء الحيوان، وأي وجود لا ينسج عليه عناكب الآفات والعاهات، وأي نعيم لا يكدره الدهر هيهات هيهات.
اللهم كما عودتني في الأول خيرًا كثيرًا، فيسر لي الأمر في الآخر تيسيرًا، واجعل رقيمي هذا سببًا لبياض الوجه، كما تبيض وجوه أولئك، وامح مسودات أعمالي بحق كتابك الكريم، واجعل قراري في جنات النعيم، ولم أكن بدعائك رب شقيًا، بكرة وعشيًا، ما دمت حيًا، فلك الحمد يا إلهي في الأولى والأخرى، على عنايتك الكبرى، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وأقول مستمدًا من الله سبحانه التوفيق والهداية لأقوم الطريق:
5
سورة النبأ
سورة النبأ، وتسمى سورة عمَّ، وسورة المعصرات، وسورة التساؤل، مكية عند الجميع (١)، نزلت بعد سورة المعارج، وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال: نزلت سورة عم يتساءلون بمكة، وأخرج ابن مردويه عن الزبير مثله. وهي أربعون آية، وقيل: إحدى وأربعون آية، وكلماتها مئة وثلاث وسبعون كلمة، وحروفها تسع مئة وسبعون حرفًا.
المناسبة: مناسبتها لما قبلها من وجوه (٢):
١ - اشتمالها على إثبات القدرة على البعث الذي ذكر في السورة السالفة أن الكافرين كذبوا به.
٢ - أن في هذه وما قبلها تأنيبًا وتقريعًا للمكذبين، فهناك قال: ﴿أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (٢٠)﴾، وهنا قال: ﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (٦)﴾.
٣ - أن في كل منهما وصف الجمة والنار، وما ينعم به المتقون، ويعذب به المكذبون.
٤ - أن في هذه تفصيل ما أجمل في تلك من يوم الفصل، فهناك قال: ﴿لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (١٢) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (١٣) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (١٤)﴾ وهنا قال: ﴿إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (١٧)﴾ إلى آخر السورة.
وقال أبو حيان (٣): مناسبتها لما قبلها ظاهرة لما ذكر في ما قبله ﴿فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ﴾ أي: بعد الحديث الذي هو القرآن، وكانوا يتجادلون فيه ويتساءلون عنه.. قال: ﴿عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (١)﴾.
الناسخ والمنسوخ فيها: وقال أبو عبد الله محمد بن حزم في "الناسخ والمنسوخ": سورة النبأ محكم كلها، ليس فيها ناسخ ولا منسوخ.
(١) الشوكاني.
(٢) المراغي.
(٣) البحر المحيط.
6
تسميتها: سميت سورة النبأ، وسورة التساؤل؛ لذكر النبأ العظيم، أو التساؤل فيها.
فضلها: ومما ورد في فضلها (١): ما روى أبي بن كعب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - ﷺ - "من قرأ عم يتساءلون.. سقاه الله برد الشراب يوم القيامة". وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: قال النبي - ﷺ -: "تعلموا سورة ﴿عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (١) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (٢)﴾، وتعلموا ﴿ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (١)﴾، ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (١)﴾، ﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (١)﴾، ﴿وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (١)﴾، فإنكم لو تعلمون ما فيهن.. لعطلتم ما أنتم عليه وتعلمتموهن، وتقربوا إلى الله بهن، إن الله يغفر بهن كل ذنب إلا الشرك بالله". ولكن فيه مقال.
وعن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - قال قلت: يا رسول الله، لقد أسرع إليك الشيب قال: "شيبتني هودٌ، والواقعة، والمرسلات، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت"، وفيه إشارة إلى أن من تعلم هذه السور، ينبغي له أن يتعلم معانيها أيضًا، إذ لا يحصل المقصود إلا به، وتصريح بأن الآخرة ومطالعة الوعيد يشيب الإنسان.
والله أعلم
* * *
(١) الخازن.
7

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (١) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (٢) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (٣) كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (٤) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (٥) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (٦) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (٧) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (٨) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (٩) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (١٠) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (١١) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (١٢) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (١٣) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (١٤) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (١٥) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (١٦) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (١٧) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (١٨) وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (١٩) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (٢٠) إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (٢١) لِلطَّاغِينَ مَآبًا (٢٢) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (٢٣) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (٢٤) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (٢٥) جَزَاءً وِفَاقًا (٢٦) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (٢٧) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (٢٨) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (٢٩) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (٣٠) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (٣١) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (٣٢) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (٣٣) وَكَأْسًا دِهَاقًا (٣٤) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (٣٥) جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (٣٦) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (٣٧) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (٣٨) ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (٣٩) إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (٤٠)﴾.
المناسبة
لما اختتم الله سبحانه وتعالى سورة المرسلات بذكر يوم القيامة، ووعيد المكذبين؛ حيث قال: ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٩) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (٥٠)﴾. افتتح هذه السورة بذكر النبأ العظيم، ويوم القيامة، ودلائل القدرة الربانية على البعث والنشور، والإعادة بعد الإبادة، والإحياء بعد الإماتة؛ ليقوم الناس لرب العالمين، فيلقى كل منهم جزاء علمه.
وقد ذكر لهم من مظاهر قدرته أمورًا تسعة يشاهدونها بأعينهم، لا يخفى عليهم شيء منها:
١ - انبساط الأرض وتمهيدها لتصلح لسير الناس والأنعام.
٢ - ثبات الجبال صاعدة في الجو.
8
٣ - تنوع الآدميين إلى ذكور وإناث.
٤ - جعل النوم راحةً للإنسان من عناء الأعمال التي يزاولها عامة نهاره.
٥ - جعل الليل ساترًا للخلق.
٦ - جعل النهار وقتًا لشؤون الحياة والمعاش.
٧ - ارتفاع السموات فوقنا مع إحكام الوضع ودقة الصنع.
٨ - وجود الشمس المنيرة المتوهجة.
٩ - نزول المطر وما ينشأ عنه من النبات، فكل ذلك داع لهم أن يعترفوا أن من قدر على كل هذا.. فلا تعجزه إعادتهم إلى النشأة الآخرة.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما نبه عباده إلى هذه الظواهر الباهرة، ولفت أنظارهم إلى آياته القاهرة.. أخذ يبين ما اختلفوا فيه ونازعوا في إمكان حصوله، وهو يوم الفصل، ويذكر لهم بعض ما يكون فيه، تخويفًا لهم من الاستمرار على التكذيب بعدما وضحت الأدلة، واستبان الحق، ثم أبان لهم أن هذا يوم شأن عظيم، وأمر الكائنات فيه على غير ما تعهدون، ثم ذكر منزلة المكذبين الذين جحدوا آيات الله واتخذوها هزوًا، وأن جهنم مرجعهم الذي ينتهون إليه، وأنهم سيقيمون فيها أحقابًا طوالًا لا يجدون شيئًا من النعيم والراحة، ولا يذوقون فيها روحًا ينفس عنهم حر النار، ولا يذوقون من الشراب إلا الماء الحار، والصديد الذي يسيل من أجسادهم جزاء سيء أعمالهم، إذ هم كانوا لا ينظرون يوم الحساب، ومن ثم اقترفوا السيئات، وارتكبوا مختلف المعاصي، وكذبوا الدلائل التي أقامها الله تعالى على صدق رسوله أشد التكذيب، وقد أحصى الله كل شيء في كتاب علمه، فلم يغب عنه شيء صدر منهم، وسيوفيهم جزاء ما صنعوا، وستكون له كلمة الفصل، فيقول لهم ﴿فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (٣٠)﴾.
قوله تعالى ﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لما بين حال المكذبين.. أردفه ما يفوز به المتقون من الجنات التي وصفها ووصف ما فيها، وذكر أنها عطاء من الله تعالى، وفي هذا استنهاض لعوالي الهمم بدعوتهم إلى المثابرة على أعمال الخير، وازديادهم من القربات والطاعات، كما أن فيها
9
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
كُنْ مِنَ الْخَلْقِ جَانِبَا وَارْضُ بِاللهِ صَاحِبَا
قَلِّبِ الْخَلْقِ كَيْفَ شِئْـ ـتَ تَجِدْهُ عَقَارِبَا