تفسير سورة المرسلات

معاني القرآن للزجاج
تفسير سورة سورة المرسلات من كتاب معاني القرآن وإعرابه للزجاج المعروف بـمعاني القرآن للزجاج .
لمؤلفه الزجاج . المتوفي سنة 311 هـ

سُورَةُ الْمُرْسَلَاتِ
(مَكِّيَّة)

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

قال أبو إسحاق: قوله عزَّ وَجلَّ: (وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (١)
جاء في التفسير أنها الريَاح أرسلت كعرف الفرس، وكذلك: (فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (٢) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (٣).
الرياح تأتي بالمطر كما قال عزَّ وجلَّ: (وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) (١).
* * *
وقوله: (فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (٤)
يعنى به الملائكة جاءت بما يفرق بين الحق والبَاطلِ، وكذلك
* * *
(فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (٥)
يعنى الملائكة.
وقيل في تفسير (والمرسلات) أنها الملائكة أرسلت بالمعروف.
وقيل إنها لعرف الفرس.
وقيل - (فالعَاصِفَاتِ عَصْفاً) الملائكة تعصف بروح الكافِر؛ والباقي إلى آخر الآيات يعنى به الملائكة أيضاً.
وفيه وجه ثالث، (وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا) يعني به الرسل.
(فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا) الرياح، (فالناشرات نشراً) الرياح.
(فالفارقات فرقاً) على هذا - التفسير الرسل أيضاً.
وكذلك (فالملقيات ذِكراً).
وهذه كلها مجرورة على جهة القسم، وجواب القسم (إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (٧)
(١) قال السَّمين:
قوله: ﴿عُرْفاً﴾: فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنَّه مفعولٌ مِنْ أجلِه، أي: لأجلِ العُرْفِ وهو ضِدُّ النُّكْرِ. والمرادُ بالمُرْسَلاتِ: إمَّا الملائكةُ، وإمَّا الأنبياءُ، وإمَّا الرِّياحُ أي: والملائكةُ المُرْسَلاتُ، أو والأنبياء المُرْسَلات، أو والرياحُ المُرْسَلات. والعُرْفُ: المعروفُ والإِحسانُ. قال الشاعر:
٤٤٥٤ مَنْ يَفْعَلِ الخيرَ لا يَعْدَمْ جَوازِيَهُ... لا يَذْهَبُ العُرْفُ بينَ اللَّهِ والناسِ
وقد يُقال: كيف جَمَعَ صفةَ المذكرِ العاقلِ بالألفِ والتاءِ، وحقُّه أَنْ يُجْمَعَ بالواوِ والنونِ؟ تقول: الأنبياءُ المُرْسَلونَ، ولا تقولُ: المُرْسَلات. والجوابُ: أنَّ المُرْسَلات جَمْعُ مُرْسَلة، ومُرْسَلة صفةٌ لجماعةٍ من الأنبياء، فالمُرْسَلات جمعُ «مُرْسَلة» الواقعةِ صفةً لجماعة، لا جمعُ «مُرْسَل» المفردِ. الثاني: أَنْ ينتصِبَ على الحالِ بمعنى: متتابعة، مِنْ قولِهم: جاؤوا كعُرْفِ الفَرَس، وهم على فلانٍ كعُرْف الضَّبُع، إذا تألَّبوا عليه. الثالث: أَنْ ينتصِبَ على إسقاطِ الخافضِ أي: المُرْسَلاتِ بالعُرْفِ. وفيه ضَعْفٌ، وقد تقدَّمَ الكلامُ على العُرْف في الأعراف. والعامَّةُ على تسكينِ رائِه، وعيسى بضمِّها، وهو على تثقيلِ المخففِ نحو: «بَكُر» في بَكْر. ويُحتمل أَنْ يكونَ هو الأصلَ، والمشهورةُ مخففةٌ منه، ويُحْتَمَلُ أَنْ يكونا وزنَيْنِ مستقلَّيْن.
قوله: ﴿عَصْفاً﴾: مصدرٌ مؤكِّدٌ لاسمِ الفاعلِ، والمرادُ بالعاصفات: الرياحُ أو الملائكةُ، شُبِّهَتْ بسُرْعة جَرْيِها في أمرِ الله تعالى بالرياحِ، وكذلك «نَشْراً» و «فَرْقاً» انتصبا على المصدرِ أيضاً. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
وقال بعض أهل اللغة: المعنى وربِّ المرسلات، وهذه الأشياء كما
قال: (فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ).
وقرئت عَرْفاً وَعُرفاً والمعنى واحد في العرف والعرف.
* * *
وقوله: (عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (٦)
وقرئت عُذُراً أَو نُذُراً. فمعناهما المصدَرُ، والعذْرُ والعُذارُ بمعنى وَاحِدٍ.
ونصب (عُذْرًا أَوْ نُذْرًا) على ضربين:
أحدهما مفعول على البدل من قوله ذِكراً.
المعنى فالملقيات عذراً أو نُذْراً، ويكون نصباً بِذِكراً، فالمعنى فالملقيات أن
ذكرت عذراً ونذراً.
ويجوز أن يكون نصب عُذْراً أَو نُذْراً على المفعول له، فيكون المعنى
فالملقيات ذكراً للإعذار والإنذار.
* * *
وقوله: (فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (٨)
معناه أُذْهِبَتْ وغُطيَتْ.
* * *
(وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (٩)
معناه شقَّت كما قال عزَّ وجلَّ: (إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ).
* * *
(وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (١٠)
ذهب بها كلها بسرعة، يقال انتسفت الشيء إذَا أَخذته كله بسرعة.
* * *
(وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (١١)
وقرئت (وُقِّتَتْ) بالواو، والمعنى واحد، فمن قرأ (أُقِّتَتْ) بالهمز فإنه أبدل
الهمزة من الواو لانضمام الواو، فكل واو انضمت وكانت ضمتها لازمةً جاز أن تبدل منها همزة، ومعنى (وُقِّتَتْ) جعل لها وقت وأجل.
* * *
قوله: (لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (١٢)
ثم بَينَ فقال: (لِيَوْمِ الْفَصْلِ (١٣)
أي أجلت القضاء فيما بينها وبين الأمم
ليوم الفصل.
* * *
قوله: (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٥)
(ويلٌ) مرفوع بالابتداء. و (لِلْمُكَذِّبِينَ) الخبر، ويجوز في العربية
(وَيْلاً يَوْمَئِذٍ) ولا يجيزه القراء لمخالفة المصحف
* * *
قوله عزَّ وجلَّ: (أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (١٦) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (١٧)
على الاستئناف، ويقرأ ثم نتبعْهم - بالجزم عطف على نهلك، ويكون
المعنى أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ أي أَولًا وَآخِراً.
ومن رفع فعلى معنى ثم نُتبع الأول الآخر من كل مجرم.
* * *
قوله عزَّ وجلَّ: (كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (١٨)
موضع الكاف نصب، المعنى مثل ذلك نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ
* * *
قوله: (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (٢٥) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (٢٦)
(كفاتاً) ذات جمع، المعنى تضمهم أَحْيَاءً على ظُهُورِها، وأمواتاً في
بطنها، و (أحياء) منصوب بقوله (كِفَاتَاً)، يقال كفت الشيء أكفته إذا جمعته
وضممته.
(وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا (٢٧)
أي جبالاً ثوابت، يقال رسا الشيء يَرْسُو إذا ثبت
(شَامِخَاتٍ) مرتفعات.
(وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا)
أَي عَذْبأ.
* * *
قوله: (انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٩)
يعنى النار لأنهم كذَبوا بالبعث والنشور والنار
(انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (٣٠)
يعنى بالظل ههنا دُخَانُ جَهَنَّمَ، ثم أعلم عزَّ وجلَّ أنه ليس بظليل ولا
يدفع من لهب النار شيئاً فقال:
(لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (٣١) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (٣٢)
جاء في التفسير أنه القصرُ مِنْ هذِه القُصُورِ، وقيل القصر جمع قَصَرة.
وهو الغليظ من الشجر، وقرئت كالقَصَرِ - بفتح الصاد - جمع قَصَرَةُ أي كأنَّها أعناق الإبِلَ.
* * *
وقوله: (كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (٣٣)
يقرأ (جِمَالاتٌ) وجُمَالاتٌ، - بضم الجيم وكسرها - يُعْنَى أن الشرر
كالجمال السُّودِ، يقال للإبل التي هي سود تضرب إلى الصُّفْرَةِ: إبل صُفْر.
فمن قرأ (جِمَالاتٌ) بالكسر فهو جمع جِمَال، كما تقول بُيُوت وبيوتات وهو جمع الجمع، ومن قرأ (جُمَالاتٌ) بالضم فهو جمع جمالة.
وهو القَلْسُ من قلوس سفن البحر، ويقال كالقَلْسِ من قلوس الجسر.
ويجوز أن يكون جمع جَمَل وجمالٍ وجمالات، كما قيل رجال جمع رجل، وقرئت (جِمَالَة صُفْر) على جمع جمل وجمالة كما قيل حجر وحجارة، وَذَكَر وذِكارة، وقُرئت (جُمالة صُفْر) على ما فسَّرنا في جُمَالَات (١).
* * *
وقوله: (هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (٣٥) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (٣٦)
يوم القيامة له مواطن ومواقيتُ، فهذا من المواقيت التي لا يتكلمون
فيها.
* * *
وقوله: (هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (٣٨)
أي هذا يوم يفصل فيه بين أهل الجنة والنار وأهل الحق والبَاطِلِ.
* * *
وقوله: (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣)
(١) قال السَّمين:
قوله: ﴿إِنَّهَا﴾: أي: إنَّ جهنَّم؛ لأنَّ السياقَ كلَّه لأجلها. وقرأ العامَّةُ: «بَشرَرٍ» بفتح الشينِ وعَدَمِ الألفِ بين الراءَيْن. وورش يُرَقِّقُ الراءَ الأولى لكسرِ التي بعدها. وقرأ ابن عباس وابن مقسم بكسرِ الشين وألفٍ بين الراءَيْنِ. وعيسى كذلك، إلاَّ أنَّه فتح الشين. فقراءةُ ابنِ عباس يجوزُ أَنْ تكونَ جمعاً لشَرَرَة، وفَعَلة تُجْمَعُ على فِعال نحو: رَقَبة ورِقاب ورَحَبة ورِحاب، وأَنْ تكونَ جمعاً لشَرِّ، لا يُراد به أَفْعَلُ التفضيلِ. يقال: رجلٌ شَرٌّ ورجالٌ شِرارٌ، ورجلٌ خيرٌ ورجالٌ خِيار، ويؤنثان فيقال: امرأة شَرَّةٌ، وامرأةٌ خَيْرةٌ. فإن أُريد بهما التفضيلُ امتنعَ ذلك فيهما، واختصَّا بأحكامٍ مذكورةٍ في كتبِ النحْويين أي: تَرمي بشِرارٍ من العذابِ أو بشِرار من الخَلْق.
وأمَّا قراءةُ عيسى/ فهي جمعُ شَرارَةٍ بالألفِ وهي لغةُ تميمٍ. والشَّرَرَةُ والشَّرارَة: ما تطايَرَ من النارِ متفرِّقاً.
قوله: ﴿كالقصر﴾ العامَّةُ على فتح القافِ وسكونِ الصادِ، وهو القَصْرُ المعروف، شُبِّهَتْ به في كِبَرِه وعِظَمِه. وابن عباس وتلميذاه ابن جُبَيْر وابنُ جَبْر، والحسن، بفتحِ القافِ والصادِ، وهي جمعُ قَصَرة بالفتح والقَصَرَةُ: أَعْناقُ الإِبلِ والنخلِ، وأصولُ الشجرِ. وقرأ ابن جبير والحسن أيضاً بكسرِ القافِ وفتحِ الصاد جمع «قَصَرة» يعني بفتح القافِ. قال الزمخشريُّ: «كحاجةٍ وحِوَج» وقال الشيخ: «كحَلَقة من الحديدِ وحِلَق». وقُرىء «كالقَصِرِ» بفتح القاف وكسرِ الصادِ، ولم أَرَ لها توجيهاً. ويظهرُ أنَّ ذلك مِنْ بابِ الإِتباعِ، والأصلُ: كالقَصْرِ بسكونِ الصادِ، ثم أتبعَ الصادَ حركةَ الراءِ فكسَرها، وإذا كانوا قد فَعَلُوا ذلك في المشغولِ بحركة نحو: كَتِف وكَبِد، فلأَنْ يَفْعلوه في الخالي منها أَوْلَى. ويجوزُ أَنْ يكون ذلك للنقل بمعنى: أنه وَقَفَ على الكلمةِ فَنَقَل كسرةَ الراءِ إلى الساكنِ قبلَها. ثم أَجْرَى الوَصْلَ مُجْرَى الوقفِ، وهو بابٌ شائِعٌ عند القُرَّاءِ والنحاة. وقرأ عبدُ الله بضمِّهما. وفيها وجهان، أحدُهما: أنَّه جمعُ قَصْرٍ كرَهْن وَرُهُن، قاله الزمخشريُّ. والثاني: أنَّه مقصورٌ من قُصور كقولِه:
٤٤٥٨ فيها عيايِيْلُ أُسودٍ ونُمُرْ... يريد: ونُمور. فقصَر وكقوله: «النُّجُم» يريد النجوم. وتخريجُ الزمخشريِّ أَوْلَى؛ لأنَّ محلَّ الثاني: إمَّا الضرورةُ، وإمَّا النُّدُور.
قوله: ﴿جِمَالَةٌ﴾: قرأ الأخَوان وحَفْصٌ «جِمالَةٌ». والباقون «جِمالات». فالجِمالَةُ فيها وجهان، أحدُهما: أنَّها جمعٌ صريحٌ، والتاءُ لتأنيثِ الجمعِ. يُقال: جَمَلٌ وجِمال وجِمالَة نحو: ذَكَر وذِكار وذِكارة، وحَجَر وحِجارة. والثاني: أنه اسمُ جمعٍ كالذِّكارة والحِجارة، قاله أبو البقاء، والأولُ قولُ النُّحاةِ. وأمَّا جِمالات فيجوزُ أَنْ يكونَ جمعاً ل «جِمالة» هذه، وأَنْ يكونَ جمعاً ل جِمال، فيكون جمعَ الجمعِ. ويجوزُ أَنْ يكونَ جمعاً ل جَمَل المفردِ كقولهم: «رجِالات قريش» كذا قالوه. وفيه نظرٌ؛ لأنَّهم نَصُّوا على أنَّ الأسماءَ الجامدةَ غيرَ العاقلةِ لا تُجْمَعُ بالألفِ والتاءِ، إلاَّ إذا لم تُكَسَّرْ. فإنْ كُسِّرَْتْ لَم تُجْمَعْ. قالوا: ولذلك لُحِّن المتنبيُّ في قولِه:
٤٤٥٩ إذا كان بعضُ الناسِ سَيْفاً لدولةٍ... ففي الناسِ بُوْقاتٌ لها وطُبولُ
فجمع «بُوقاً» على «بُوقات» مع قولِهم: «أَبْواق»، فكذلك جِمالات مع قولهم: جَمَل وجِمال. على أنَّ بعضَهم لا يُجيزُ ذلك، ويَجْعَلُ نحو «: حَمَّامات وسِجلاَّت شاذَّاً، وإنْ لم يُكَسَّرْ.
وقرأ ابنُ عباس والحسنُ وابن جبير وقتادةُ وأبو رجاء، بخلافٍ عنهم، كذلك، إلاَّ أنَّهم ضَمُّوا الجيمَ وهي حِبالُ السفنِ. وقيل: قُلوس الجسورِ، الواحدةِ»
جُمْلة «لاشتمالِها على طاقاتِ الحِبال. وفيها وجهان، أحدهما: أَنْ تكونَ» جُمالات «جمعَ جُمال، وجُمال جَمْعَ جُمْلة، كذا قال الشيخ، ويَحْتاجُ في إثباتِ أنَّ جُمالاً بالضمِّ جمعُ جُمْلة بالضمِّ إلى نَقْلٍ. والثاني: أنَّ» جُمالات «جمعُ جُمالة قاله الزمخشري، وهو ظاهرٌ. وقرأ ابنُ عباس والسُّلَمِيُّ وأبو حيوةَ» جُمالة «بضمِّ الجيم، وهي دالَّةٌ لِما قاله الزمخشريُّ آنِفاً.
قوله: ﴿صُفْرٌ﴾ صفةٌ لجِمالات أو لِجمالة؛ لأنَّه: إمَّا جمعٌ أو اسمُ جمعٍ. والعامَّة على سكونِ الفاءِ جمعَ صفْراء. والحسنُ بضمِّها، وكأنَّه إتْباعٌ. وَوَقَعَ التشبيهُ هنا في غايةِ الفصاحةِ. قال الزمخشريُّ:»
وقيل: صُفْرٌ سُوْدٌ تَضْرِبُ إلى الصُّفرة. وفي شعرِ عمرانَ بنِ حِطَّانَ الخارجيِّ:
٤٤٦٠ دَعَتْهُمْ بأعلَى صوتِها ورَمَتْهُمُ... بمثل الجِمال الصفر نَزَّاعةِ الشَّوى
وقال أبو العلاء المعري:
٤٤٦١ حمراءُ ساطِعَةُ الذوائب في الدُّجَى... تَرْمي بكل شَرارةٍ كطِرافٍ
فشبَّهها/ بالطِّراف، وهو بيت الأُدَم في العِظَمِ والحُمْرَةِ، وكأنه قَصَدَ بخُبْثِه أَنْ يزيدَ على تشبيهِ القرآن. ولتبجُّحه بما سُوِّل له مِنْ تَوَهُّم الزيادة جاءَ في صَدْرِ بيتِه بقولِه: «حمراءُ» توطئةً لها ومناداةً عليها، وتَنْبيهاً للسامِعين على مكانِها. ولقد عَمِيَ جمع الله له عَمى الدَّارَيْن عن قولِه عزَّ وجلَّ: «كأنه جِمالةٌ صُفْرٌ» فإنه بمنزلةِ قولِه كبيتٍ أحمر. وعلى أنَّ في التشبيهِ بالقَصْر وهو الحِصْنُ تشبيهاً مِنْ جهتَين: مِنْ جهةِ العِظَمِ، ومن جهةِ الطولِ في الهواءِ، وفي التشبيه بالجِمالات وهي القُلُوسُ تشبيهٌ مِنْ ثلاثِ جهاتٍ: الطُّولِ والعِظَمِ والصُّفْرةِ «انتهى. وكان قد قال قبلَ ذلك بقليلٍ:» شُبِّهَتْ بالقُصورِ ثم بالجِمال لبيانِ التشبيهِ، ألا ترى أنَّهم يُشَبِّهون الإِبلَ بالأَفْدان «قلت: الأَفْدانُ: القصورُ، وكأنه يُشيرُ إلى قولِ عنترة:
٤٤٦٢ فوقَفْتُ فيها ناقتي وكأنَّها... فَدَنٌ لأَقْضِيَ حاجةَ المُتَلَوِّمِ
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
ههنا إضمار القول، المعنى (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (٤١) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٤٢)
يقال لهم: (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).
* * *
قوله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (٤٨)
إذا أمروا بالصلَاةِ لَمْ يُصَلُّوا.
* * *
وقوله: (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (٥٠)
أي: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بعد القرآن الذي أتاهم فيه البيان وأَنَهُ مُعْجِزَة وهو آية
قائمة، دليلة على الإسلام مما جاء به النبي عليه السلام.
Icon