تفسير سورة المسد

تفسير المراغي
تفسير سورة سورة المسد من كتاب تفسير المراغي .
لمؤلفه المراغي . المتوفي سنة 1371 هـ
آياتها خمس
هي مكية، نزلت بعد سورة الفتح.
ومناسبتها لما قبلها : أنه ذكر في السورة السابقة أن ثواب المطيع حصول النصر والاستعلاء في الدنيا، والثواب الجزيل في العقبى. وهنا ذكر أن عاقبة العاصي الخسار في الدنيا، والعقاب في الآخرة.
أسباب نزول هذا السورة :
روى البخاري عن ابن عباس أنه قال : خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى البطحاء فصعد الجبل فنادى :" يا صباحاه "، فاجتمعت إليه قريش، فقال :" أرأيتم إن حدثتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم أكنتم تصدقوني " ؟ قالوا : نعم، قال :" فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد ". فقال أبو لهب : ألهذا جمعتنا ؟ تبا لك  ! ! وفي رواية : إنه قام ينفض يديه ويقول : تبا لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا ؟ فأنزل الله ﴿ تبت يدا أبي لهب وتب ﴾ [ المسد : ١ ].

بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير المفردات : التباب : الهلاك والخسران : قال تعالى :﴿ وما كيد فرعون إلا في تباب ﴾ [ غافر : ٣٧ ] وأبو لهب : أحد أعمام النبي صلى الله عليه وسلم، واسمه عبد العزى بن عبد المطب، وتب : أي قد تب وخسر.
الإيضاح :﴿ تبت يدا أبي لهب ﴾ هذا دعاء عليه بالخسران والهلاك، ونسب الهلاك إلى اليدين ؛ لأنهما آلة العمل والبطش، فإذا هلكتا وخسرتا كان الشخص كأنه معدوم هالك.
﴿ وتب ﴾ أي وقد تب وهلك.
والجملة الأولى دعاء عليه بالخسران والهلاك، والجملة الثانية إخبار من الله بأن هذا الدعاء قد حصل، وقد خسر الدنيا والآخرة.
ثم ذكر أن ما كان يعتز به في الدنيا من مال وجاه لم يغن عنه من الله شيئا يوم القيامة فقال :﴿ ما أغنى عنه ماله وما كسب ﴾، أي لم يفده حينئذ ماله ولا عمله الذي كان يأتيه في الدنيا من معاداته رسول الله طلبا للعلو والظهور ؛ فكما أن ذلك لم يجد شيئا في الدنيا، إذ لم يتغلب على الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يقطع ما أراد الله أن يوصل لم يفده في الآخرة ؛ بل لحقه البوار والنكال وعذاب النار.
وقد كان أبو لهب شديد العداوة للنبي صلى الله عليه وسلم، شديد التحريض عليه، شديد الصد عنه.
روى أحمد عن ربيعة بن عباد قال : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في الجاهلية في سوق ذي المجاز، وهو يقول :" قولوا : لا إله إلا الله تفلحوا "، والناس مجتمعون عليه، ووراءه رجل وضيء الوجه، أحول، ذو غديرتين، يقول : إنه صابئ كاذب، يتبعه حيث ذهب، فسألت عنه فقالوا : هذا عمه أبو لهب.
ومن ذلك تعلم أن أبا لهب كان يصد عن الحق، وينفر عن اتباعه، وذاع عنه تكذيبه للرسول صلى الله عليه وسلم، وتحديه، واتباع خطواته لدحض دعوته، والحط من شأن دينه، وما جاء به.
تفسير المفردات : يصلى نارا : أي يجد حرها ويذوقه، ولهب النار : ما يسطع منها عند اشتعالها وتوقدها.
﴿ سيصلى نارا ذات لهب ﴾ أي سيذوق حر النار، ويعذب بلظاها.
وخلاصة ما سلف : خسر أبو لهب وضل عمله، وبطل سعيه الذي كان يسعاه للصد عن دين الله، ولم يغن عنه ماله الذي كان يتباهى به، ولا جده واجتهاده في ذلك، فإن الله أعلى كلمة رسوله، ونشر دعوته، وأذاع ذكره، وأنه سيعذب يوم القيامة بنار ذات شرر ولهيب، وإحراق شديد، أعدها الله لمثله من الكفار المعاندين، فوق تعذيبه في الدنيا بإبطال سعيه، ودحض عمله ؛ وستعذب معه امرأته التي كانت تعاونه على كفره وجحده، وكانت عضده في مشاكسة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإيذائه، وكانت تمشي بالنميمة للإفساد، وإيقاد نار الفتنة والعداوة، كما قال :﴿ وامرأته حمالة الحطب ﴾.
﴿ وامرأته حمالة الحطب ﴾ أي وستعذب أيضا بهذه النار امرأته أروى بنت حرب أخت سفيان بن حرب، جزاء لها على ما كانت تجترحه من السعي بالنميمة إطفاء لدعوة رسوله صلى الله عليه وسلم. والعرب تقول لمن يسعى في الفتنة ويفسد بين الناس : هو يحمل الحطب بينهم، كأنه بعمله يحرق ما بينهم من صلات.
وقيل : إنها كانت تتحمل حزم الشوك والحسك والسعدان، وتنثرها بالليل في طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم لإيذائه.
تفسير المفردات : الجيد : العنق، والمسد : الليف.
وقد زاد سبحانه في تبشيع عملها وتقبيح صورته فقال :﴿ في جيدها حبل من مسد ﴾ أي في عنقها حبل مما مسد من الجبال، أي أحكم فتله، وقد صورها الله بصورة من تحمل تلك الحزمة من الشوك، وتربطها في جيدها، كبعض الحطابات الممتهنات احتقارا لها، واحتقارا لبعلها، حين اختارت ذلك لنفسها.
وقصارى أمرها : إنها في تكليف نفسها المشقة الفادحة، للإفساد بين الناس، وإيقاد نيران العداوة بينهم، بمنزلة حاملة الحطب التي في عنقها حبل خشن تشد به ما تحمله إلى عنقها حين تستقل به، وهذه أبشع صورة تظهر بها امرأة تحمل الحطب، وهي على تلك الحال.
ويرى بعض العلماء أن المراد بيان حالها، وهي في نار جهنم ؛ إذ تكون على الصورة التي كانت عليها في الدنيا، حين كانت تحمل الشوك إيذاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فهي لا تزال تحمل حزمة من حطب النار، ولا يزال في جيدها حبل من سلاسلها، ليكون جزاؤها من جنس عملها ؛ فقد روي عن سعيد بن المسيب أنه قال : كانت لأم جميل قلادة فاخرة فقالت : لأنفقنها في عداوة محمد، فأعقبها الله حبلا في جيدها من مسد النار.
نسأل الله الوقاية من النار، والبعد من الصد عن دينه وكتابه، إنه هو السميع العليم.
Icon