تفسير سورة الحج

تفسير القاسمي
تفسير سورة سورة الحج من كتاب محاسن التأويل المعروف بـتفسير القاسمي .
لمؤلفه جمال الدين القاسمي . المتوفي سنة 1332 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

٢٢ – سورة الحج :
سميت به لاشتمالها على أصل وجوبه والمقصود من أركانه، وهو الطواف، إذ الإحرام نية، والوقوف بعرفات من استعداده، والسعي من تتمته، والحلق خروج عنه. وذكر فيها منافعه وتعظيم شعائره وغير ذلك، مما يشير إلى فوائده وأسراره. أفاده المهايمي.
وعن مجاهد، عن ابن عباس : أنها مكية سوى ثلاث آيات ١ ( هذان خصمان } إلى تمام الآيات الثلاث، فإنهن نزلن بالمدينة. وفي آثار أخرى أنها كلها مدنية، كما في ( الإتقان ). وآياتها ثمان وسبعون آية.
١ (٢٢ الحج ١٩ – ٢٢)..

القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (٢٢) : آية ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (١)
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يأمر تعالى عباده بتقواه التي هي من جوامع الكلم، في فعل المأمورات واجتناب المنهيات.
قال المهايمي: أي احفظوا تربيته عليكم، بصرف نعمه إلى ما خلقها لأجله، لئلا تقعوا في الكفران الموجب لانقلاب التربية عليكم، بالانتقام منكم.
انتهى.
أي فالتعرض لعنوان الربوبية المنبئة عن المالكية والتربية، مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين، لتأييد الأمر وتأكيد إيجاب الامتثال به ترغيبا وترهيبا. أي احذروا عقوبة مالك أموركم ومربيكم، وقوله تعالى إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ تعليل لموجب الأمر، بذكر بعض عقوباته الهائلة. فإن ملاحظة عظمها وهولها، وفظاعة ما هي من مبادئه ومقدماته، من الأحوال والأهوال، التي لا ملجأ منها سوى التدرع بلباس التقوى، مما يوجب مزيد الاعتناء بملابسته وملازمته لا محالة. و (الزلزلة) التحريك الشديد والإزعاج العنيف، بطريق التكرير بحيث يزيل الأشياء من مقارّها ويخرجها عن مراكزها. وإضافتها للساعة، من إضافة المصدر إلى فاعله مجازا، كأنها هي التي تزلزل. أو إلى ظرفه، وهي الزلزلة المذكورة في قوله تعالى: إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها [الزلزلة: ١]، وفي التعبير عنها ب (الشيء)، إيذان بأن العقول قاصرة عن إدراك كنهها، والعبارة لا تحيط بها إلا على وجه الإبهام. أفاده أبو السعود.
وقد وصف عظمها في كثير من السور والآيات. كسورة التكوير وسورة الانفطار وسورة الانشقاق وسورة الزلزال وغيرها. وقد أشير إلى شيء من بليغ هولها بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (٢٢) : آية ٢]
يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (٢)
يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ
أي عن إرضاعها. أو عن الذي أرضعته وهو الطفل وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها
أي ما في بطنها لغير تمام وَتَرَى النَّاسَ سُكارى
أي كأنهم سكارى وَما هُمْ بِسُكارى
أي على التحقيق وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ
أي ولكن ما رهقهم من خوف عذاب الله، هو الذي أذهب عقولهم، وطيّر تمييزهم، وردهم في نحو حال من يذهب السكر بعقله وتمييزه. قاله الزمخشريّ.
لطيفة:
قال الناصر في (الانتصاف) : العلماء يقولون: إن من أدلة المجاز صدق نقيضه، كقولك (زيد حمار) إذا وصفته بالبلادة. ثم يصدق أن تقول (وما هو بحمار) فتنفي عنه الحقيقة. فكذلك الآية. بعد أن أثبت السكر المجازيّ نفي الحقيقيّ أبلغ نفي مؤكّد بالباء. والسر في تأكيده التنبيه على أن هذا السكر الذي هو بهم في تلك الحالة، ليس من المعهود في شيء، وإنما هو أمر لم يعهدوا قبله مثله.
والاستدراك بقوله: وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ
راجع إلى قوله وَما هُمْ بِسُكارى
كأنه تعليل لإثبات السكر المجازيّ. كأنه قيل إذا لم يكونوا سكارى من الخمر، وهو السكر المعهود، فما هذا السكر الغريب وما سببه؟ فقال: سببه شدة عذاب الله تعالى. انتهى.
ثم أشير لحال المنكرين للساعة، بقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (٢٢) : آية ٣]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (٣)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ أي يخاصم في شأنه تعالى بغير علم.
فيزعم أنه غير قادر على إحياء من قد بلي وصار ترابا، ونحو ذلك من الأباطيل وَيَتَّبِعُ أي في جداله كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ أي عات متمرد. كرؤساء الكفر الصادّين
عن الحق. ثم أشار لوصف آخر لهذا الشيطان المتبع، بقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (٢٢) : آية ٤]
كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٤)
كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ أي قضى على الشيطان أنه يضل من تولاه بأن اتخذه وليا، وتبعه، ولا يهديه إلى الحق، بل يسوقه إلى عذاب جهنم الموقدة. وسوقه إياه إليه، بدعائه إلى طاعته ومعصية الرحمن.
تنبيه:
قيل: نزلت الآية في النضر بن الحارث، وكان جدلا قال الزمخشريّ: وهي عامة في كل من تعاطى الجدال فيما يجوز على الله وما لا يجوز، من الصفات والأفعال. ولا يرجع إلى علم، ولا يعض فيه بضرس قاطع.
وليس فيه اتباع للبرهان ولا نزول على النصفة فهو يخبط خبط عشواء، غير فارق بين الحق والباطل. انتهى.
ثم بين تعالى الحجة القاطعة لما يجادلون فيه، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (٢٢) : آية ٥]
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٥)
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ أي من إمكانه وكونه مقدورا له تعالى. أو من وقوعه فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ أي خلقنا أول آبائكم، أو أول موادّكم، وهو المنيّ، من تراب. إذ خلق من أغذية متولدة منه. وغاية أمر البعث أنه خلق من التراب ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ أي تولدت من الأغذية الترابية ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ أي قطعة من الدم جامدة ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ أي قطعة من اللحم بقدر ما يمضغ مُخَلَّقَةٍ
وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ
أي مصورة وغير مصورة والمراد تفصيل حال المضغة وكونها أولا قطعة لم يظهر فيها شيء من الأعضاء. ثم ظهرت بعد ذلك شيئا فشيئا لِنُبَيِّنَ لَكُمْ أي بهذا التدريج، قدرتنا وحكمتنا، وأن ما قبل التغير والفساد والتكوّن مرة، قبلها أخرى. وأن من قدر على تغييره وتصويره أولا، قدر على ذلك ثانيا. وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وهو وقت الوضع.
قال أبو السعود: استئناف مسوق لبيان حالهم، بعد تمام خلقهم. وعدم نظم هذا وما عطف عليه في سلك الخلق المعلل بالتبيين، مع كونهما من متمماته، ومن مبادئ التبيين أيضا. لما أن دلالة الأول على كمال قدرته تعالى على جميع المقدورات، التي من جملتها البعث المبحوث عنه، أجلى وأظهر. أي ونحن نقر في الأرحام بعد ذلك ما نشاء أن نقره فيها إلى أجل مسمى.
ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ أي كمال قوتكم وعقلكم. قال أبو السعود علة ل نُخْرِجُكُمْ معطوفة على علة أخرى مناصبة لها. كأنه قيل: ثم نخرجكم لتكبروا شيئا فشيئا. ثم لتبلغوا كمالكم في القوة والتمييز وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى أي بعد بلوغ الأشد أو قبله وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ وهو الهرم والخرف. والأرذل الأردأ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً
أي من بعد علم كثير، شيئا من الأشياء، أو شيئا من العلم، مبالغة في انتقاص علمه وانتكاس حاله واللام لام العاقبة.
قال البيضاويّ: والآية- يعني ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ إلخ- استدلال ثان على إمكان البعث، بما يعتري الإنسان في أسنانه من الأمور المختلفة والأحوال المتضادة. فإن من قدر على ذلك قدر على نظائره.
ثم أشار تعالى إلى حجة أخرى على صحة البعث، بقوله وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً أي ميتة يابسة فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ أي المطر اهْتَزَّتْ أي تحركت بالنبات وَرَبَتْ أي انتفخت وعلت، لما يتداخلها من الماء ويعلو من نباتها وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ أي صنف بَهِيجٍ أي حسن رائق يسر ناظره وهذه الحجة الثالثة، لظهورها وكونها مشاهدة معاينة، يكررها الله تعالى في كتابه الكريم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (٢٢) : الآيات ٦ الى ٧]
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٧)
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ أي ذلك الذي ذكر من خلق الإنسان على أطوار
مختلفة، وتصريفه في أحوال متباينة، وإحياء الأرض بعد موتها، حاصل بسبب أن الله هو الحق وحده في ذاته وصفاته وأفعاله. المحقق لما سواه من الأشياء، فهي من آثار ألوهيته وشؤونه الذاتية وحده وما سواه مما يبعد باطل، لا يقدر على شيء من ذلك وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى أي يقدر على إحيائها، إذ أحيى النطفة والأرض الميتة وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فإن القدرة التي جعل بها هذه الأشياء العجيبة، لا يمتنع عليها شيء وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها أي لاقتضاء الحكمة إياها. فهي في وضوح دلائلها التكوينية، بحيث ليس فيها مظنة أن يرتاب في إتيانها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ أي من الأموات، أحياء إلى موقف الحساب.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (٢٢) : الآيات ٨ الى ١٠]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٨) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (٩) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (١٠)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ أي يجادل في شأنه تعالى من غير تمسك بعلم ضروريّ، ولا باستدلال ونظر صحيح، يهدي إلى المعرفة. ولا بوحي مظهر للحق. أي بل بمجرد الرأي والهوى، وهذه الآية في حال الدعاة إلى الضلال من رؤوس الكفر المقلدين- بفتح اللام- كما أن ما قبلها في حال الضّلّال الجهال المقلدين- بكسر اللام- فلا تكرار أو أنهما في الدعاة المضلين واعتبر تغاير أوصافهم فيها، فلا تكرار أيضا.
قال في (الكشف) : والأول أظهر وأوفق بالمقام. وكذا اختاره أبو مسلم فيما نقله عنه الرازيّ، ثم قال: فإن قيل كيف يصح ما قلتم، والمقلد لا يكون مجادلا؟
قلنا: قد يجادل تصويبا لتقليده وقد يورد الشبهة الظاهرة إذا تمكن منها، وإن كان معتمده الأصليّ هو التقليد.
وقوله ثانِيَ عِطْفِهِ حال من فاعل (يجادل) أي عاطفا لجانبه إعراضا واستكبارا عن الحق، إذا دعي إليه.
قال الزمخشريّ: ثنى العطف عبارة عن الكبر والخيلاء. كتصعير الخدّ وليّ الجيد.
وقوله: لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي ليصد عن دينه وشرعه، متعلق ب (يجادل)
علة له لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ أي إهانة ومذلة، كما أصابه يوم بدر من الصغار والفشل وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ أي النار المحرقة ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ على الالتفات، أو إرادة القول. أي: يقال له يوم القيامة: ذلك الخزي والتعذيب بسبب ما اقترفته من الكفر والضلال والإضلال. وإسناده إلى (يديه)، لما أن الاكتساب عادة يكون بالأيدي. وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ أي بل هو العدل في معاقبة الفجار، وإثابة الصالحين.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (٢٢) : آية ١١]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١١)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ شروع في حال المذبذبين، إثر بيان حال المجاهرين. أي ومنهم من يعبده تعالى على طرف من الدين، لا في وسطه وقلبه.
وهذا مثل لكونهم على قلق واضطراب في دينهم، لا على سكون وطمأنينة. كالذي ينحرف إلى طرف الجيش. فإن أحسّ بظفر وغنيمة قرّ وإلّا فرّ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ أي دنيويّ من صحة وسعة اطْمَأَنَّ بِهِ أي ثبت على ما كان عليه ظاهرا وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ أي ما يفتتن به من مكروه ينزل به انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ أي رجع إلى ما كان عليه من الكفر خَسِرَ أي بهذا الانقلاب الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ أي ضيّعهما بذهاب عصمته، وحبوط عمله، بالارتداد ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ أي الواضح الذي لا يخفى على ذي بصيرة.
تنبيه:
قال ابن جرير: يعني جل ذكره بقوله وَمِنَ النَّاسِ إلخ أعرابا كانوا يقدمون على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، مهاجرين من باديتهم. فإن نالوا رخاء، من عيش بعد الهجرة، والدخول في الإسلام، أقاموا على الإسلام. وإلا ارتدوا على أعقابهم. وبنحو الذي قلنا قال أهل التأويل. ثم أسنده من طرق.
وهذا مما يؤيد أن السورة مدنية كما قاله جمع. وتقدم ذلك. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (٢٢) : آية ١٢]
يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٢)
يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ أي حال ثابتة من فاعل (انقلب)
والأولى (خسر) ولذلك قرئ (خاسر) أي ارتد عن دين الله يدعو من دونه آلهة لا تضره، إن لم يعبدها في الدنيا، ولا تنفعه في الآخرة إن عبدها- وقال أبو السعود (يدعو) استئناف مبين لعظيم الخسران ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ أي عن الحق والهدى. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (٢٢) : آية ١٣]
يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (١٣)
يَدْعُوا أي هذا المنقلب على وجهه، إذا أصابته فتنة لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ أي وثنا أو صنما، ضره في الدنيا بالذل والخزي وفي الآخرة بالعذاب، أسرع إليه من نفعه الذي يتوقعه بعبادته، وهو الشفاعة والتوسل به إلى الله تعالى. فاللام زائدة في المفعول به، وهو (من) كما زيدت في قوله تعالى: رَدِفَ لَكُمْ [النمل: ٧٢]، في وجه. وذكر أن ابن مسعود كان يقرؤه (يدعو من ضره) بغير لام. وهي مؤيدة للزيادة. و (ضره) مبتدأ، و (أقرب) خبر. وفي الآية وجوه كثيرة هذا أظهرها. وإثبات الضرر له هنا، باعتبار معبوديته. ونفيه قبل، باعتبار نفسه. والآية بمثابة الاستدراك أو الإضراب عما قبلها، بإثبات ضر محقق لاحق لعابده، تسفيها وتجهيلا لاعتقاده فيه أنه يستنفع به حين يستشفع به وإيراد صيغة التفضيل، مع خلوه عن النفع بالمرة، للمبالغة في تقبيح حاله، والإمعان في ذمه لَبِئْسَ الْمَوْلى أي الناصر له وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ أي المصاحب له.
ولما بين سوء حال الكفرة من المجاهرين والمذبذبين، أعقبه بكمال حسن حال المؤمنين، بقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (٢٢) : آية ١٤]
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (١٤)
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ أي من الأفعال المبنيّة على الحكمة، التي من جملتها إثابة من أطاعه وتعذيب من عصاه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (٢٢) : آية ١٥]
مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (١٥)
مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ أي بحبل إلى ما يعلوه ثُمَّ لْيَقْطَعْ أي ليختنق فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ أي غيظه. والمعنى من استبطأ نصر الله وطلبه عاجلا، فليقتل نفسه. لأن له وقتا لا يقع إلا فيه. فالآية في قوم من المسلمين استبطئوا نصر الله، لاستعجالهم وشدة غيظهم، وحنقهم على المشركين. وجوز أن تكون في قوم من المشركين، والضمير في (ينصره) للنبيّ صلّى الله عليه وسلم. والمعنى: من كان منهم يظن أن لن ينصر الله نبيه، فليختنق وليهلك نفسه، ثم لينظر في نفسه، هل يذهبن احتياله هذا في المضارّة والمضادّة، ما يغيظه من النصرة؟ كلا. فإن الله ناصر رسوله لا محالة. قال تعالى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ [غافر:
٥١].
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (٢٢) : الآيات ١٦ الى ١٧]
وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (١٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١٧)
وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ أي القرآن الكريم آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ يخبر تعالى عن أهل هذه الأديان المختلفة، أنه يقضي بينهم في الآخرة بالعدل. فيدخل من آمن منهم به وعمل صالحا، الجنة. ومن كفر به، النار. فإنه تعالى شهيد على أفعالهم، حفيظ لأقوالهم، عليم بسرائرهم وما تكنه ضمائرهم. وتقدم في سورة البقرة التعريف ب (الصابئين) والمراد ب (الذين) أشركوا كفار العرب خاصة. لأن المشركين في إطلاق التنزيل، بمثابة العلم لهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (٢٢) : آية ١٨]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (١٨)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ بيان لعظمته تعالى وانفراده بألوهيته وربوبيته. بانقياد هذه العوالم العظمى له، وجريها على وفق أمره وتدبيره. فالسجود فيها مستعار من معناه المتعارف، لمطاوعة الأشياء له تعالى، فيما يحدث فيها من أفعاله، ويجريها عليه من تدبيره وتسخيره لها. ووجه الشبه الحصول على وفق الإرادة من غير امتناع منها فيهما. وقوله وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ إما معطوف على ما قبله، إن جوز استعمال اللفظ المشترك في مفهوميه جميعا، فيكون السجود في الجمادات الانقياد، وفي العقلاء العبادة. أو مبتدأ خبره محذوف. أو فاعل لمضمر، إن لم يجوز ذلك. وقوله تعالى:
وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ أي من الناس. أي بكفره واستعصائه وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ أي بأن كتب عليه الشقاوة حسبما علمه من صرف اختياره إلى الشر فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ أي يكرمه بالسعادة إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (٢٢) : آية ١٩]
هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (١٩)
هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ يعني فريق المؤمنين وفريق الكافرين المنقسم إلى الفرق الخمس المبينة في الآية قبل. و (الخصم) في الأصل مصدر.
ولذا يوحّد وينكر غالبا. ويستوي فيه الواحد المذكر وغيره ومعنى (اختصموا في ربهم) أي في دينه وعبادته. والاختصام يشمل ما وقع أحيانا من التحاور الحقيقيّ بين أهل الأديان المذكورة، والمعنويّ. فإن اعتقاد كل من الفريقين بحقيّة ما هو عليه، وبطلان ما عليه صاحبه، وبناء أقواله وأفعاله عليه، خصومة للفريق الآخر. وإن لم يجز بينهما التحاور والخصام. ثم أشار إلى فصل خصومتهم المذكور في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ بقوله سبحانه:
فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ أي قدرت لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ أي الماء الحارّ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (٢٢) : الآيات ٢٠ الى ٢٤]
يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (٢٠) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (٢١) كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٢٢) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٢٣) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ (٢٤)
يُصْهَرُ أي يذاب بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ أي من الأمعاء والأحشاء وَالْجُلُودُ وَلَهُمْ مَقامِعُ أي سياط يضربون بها مِنْ حَدِيدٍ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ كما قال تعالى: تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ [يونس: ١٠] و [إبراهيم: ٢٣]، وقولهم: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ [الزمر: ٧٤]، وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ أي المحمود، وهو الجنة. أو الحق تعالى، المستحق لغاية الحمد.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (٢٢) : آية ٢٥]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٢٥)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ أي مكة الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ أي المقيم فِيهِ وَالْبادِ أي الطارئ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ أي بميل عن القصد بِظُلْمٍ أي بغير حق نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ أي جزاء على هتكه حرمته. ويشمل الإلحاد الإشراك ومنع الناس من عمارته، واقتراف الآثام. وتدل الآية على أن الواجب على من كان فيه، أن يضبط نفسه، ويسلك طريق السداد والعدل في جميع ما يهمّ به ويقصده. وقد ذهب بعض السلف إلى أن السيئة في الحرم أعظم منها في غيره، وأنها تضاعف فيه. وأن همّ بها فيه أخذ بها. ومفعول
(يرد) إما محذوف، أي يرد شيئا أو مرادا ما، والباء للملابسة. أو هي زائدة و (إلحادا) مفعوله. أو للتعدية لتضمينه معنى (يتلبس). و (بظلم) حال مرادفة. أو بدل مما قبله، بإعادة الجار. أو صلة له. أي ملحدا بسبب الظلم. وعلى كلّ، فهو مؤكد لما قبله. ومن قوله نُذِقْهُ إلخ يؤخذ خبر (إنّ) ويكون مقدرا بعد قوله وَالْبادِ مدلولا عليه بآخر الآية، كما ارتضى ذلك أبو حيان في (البحر). ثم أشار تعالى إلى تقريع وتوبيخ من عبد غيره وأشرك به في البقعة المباركة، التي أسست من أول يوم على توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (٢٢) : آية ٢٦]
وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (٢٦)
وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أي واذكر إذ عيّناه وجعلناه له مباءة، أي منزلا ومرجعا لعبادته تعالى وحده ف (أن) في قوله تعالى أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً مفسرة ل بَوَّأْنا من حيث إنه متضمن لمعنى (تعبدنا) لأن التبوئة للعبادة. أي فعلنا ذلك لئلا تشرك بي شيئا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ أي من الأصنام والأوثان والأقذار لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ أي لمن يطوف به ويقيم ويصلّي. أو المراد بالقائمين وما بعده (المصلين)، ويكون عبّر عن الصلاة بأركانها، للدلالة على أن كل واحد منها مستقل باقتضاء ذلك، فكيف وقد اجتمعت؟.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (٢٢) : الآيات ٢٧ الى ٢٨]
وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (٢٧) لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (٢٨)
وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ أي ناد فيهم به، قال الزمخشريّ: والنداء بالحج أن يقول: حجّوا، أو عليكم الحج يَأْتُوكَ رِجالًا أي مشاة، جمع (راجل) وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ أي ركبانا على كل بعير مهزول، أتعبه بعد الشقة فهزله. والعدول عن (ركبانا) الأخصر، للدلالة على كثرة الآتين من الأماكن البعيدة، وقوله تعالى:
يَأْتِينَ صفة لكل ضامر، لأنه في معنى الجمع. وقرئ (يأتون) صفة للرجال
240
والركبان. أو استئناف، فيكون الضمير للناس مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ أي طريق واسع بعيد لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ أي ليحصروا منافع لهم دينية ودنيوية وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ أي على ما ملكهم منها، وذلّلها لهم، ليجعلوها هديا وضحايا. قال الزمخشريّ: كنى عن البحر والذبح، بذكر اسم الله. لأن أهل الإسلام لا ينفكون عن ذكر اسمه إذا نحروا أو ذبحوا. وفيه تنبيه على أن الغرض الأصليّ فيما يتقرب به إلى الله أن يذكر اسمه- زاد الرازيّ- وأن يخالف المشركون في ذلك. فإنهم كانوا يذبحونها للنصب والأوثان، قال القفال: وكأن المتقرب بها وبإراقة دمائها متصوّر بصورة من يفدي نفسه بما يعادلها. فكأنه يبذل تلك الشاة بدل مهجته، طلبا لمرضاة الله تعالى، واعترافا بأن تقصيره كاد يستحق مهجته. والأيام المعلومات أيام العشر. أو يوم النحر وثلاثة أيام أو يومان بعده. أو يوم عرفة والنحر ويوم بعده. أقوال للأئمة.
قال ابن كثير: ويعضد الثاني والثالث قوله تعالى عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ يعني به ذكر الله عند ذبحها. انتهى.
أقول- لا يبعد أن تكون (على) تعليلية، والمعنى: ليذكروا اسم الله وحده في تلك الأيام بحمده وشكره وتسبيحه، لأجل ما رزقهم من تلك البهم. فإنه هو الرزاق لها وحده والمتفضل عليهم بها: ولو شاء لحظرها عليهم ولجعلها أوابد متوحشة. وقد امتن عليهم بها في غير موضع من تنزيله الكريم. كقوله سبحانه:
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ [يس: ٧١- ٧٢] والسر في إفراده هذه النعمة، والتذكير بها دون غيرها من نعمه وأياديه، أن بها حياة العرب وقوام معاشهم. إذ منها طعامهم وشرابهم ولباسهم وأثاثهم وخباؤهم وركوبهم وجمالهم. فلولا تفضله تعالى عليهم بتذليلها لهم، لما قامت لهم قائمة.
لأن أرضهم ليست بذات زرع، وما هم بأهل صناعة مشهورة، ولا جزيرتهم متحضرة متمدنة. ومن كانوا كذلك، فيجدر بهم أن يذكروا المتفضل عليهم بما يبقيهم، ويشكروه ويعرفوا له حقه. من عبادته وحده وتعظيم حرماته وشعائره. فالاعتبار بها من ذلك، موجب للاستكانة لرازقها، والخضوع له والخشية منه. نظير الآية- على ما ظهر لنا- قوله تعالى: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش: ٣- ٤]، هذا أولا. وثانيا قد يقال: إنما أفردت لتتبع بما هو البر
241
الأعظم والخير الأجزل. وهو مواساة البؤساء منها. فإن ذلك من أجلّ ما يرضيه تعالى، ويثيب عليه. والله أعلم.
فَكُلُوا مِنْها أي من لحومها. والأمر للندب. وإزاحة ما كان عليه أهل الجاهلية من التحرج فيه. وقد ثبت «١» أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لما نحر هديه، أمر من كل بدنة ببضعة فتطبخ، فأكل من لحمها، وحسا من مرقها.
وعن إبراهيم قال: كان المشركون لا يأكلون من ذبائحهم. فرخص للمسلمين.
فمن شاء أكل ومن شاء لم يأكل.
قال في (الإكليل) : والأمر للاستحباب حيث لم يكن الدم واجبا بإطعام الفقراء. وأباح مالك الأكل من الهدى الواجب، إلا جزاء الصيد والأذى والنذر، وأباحه أحمد، إلا من جزاء الصيد والنذر. وأباح الحسن الأكل من الجميع تمسكا بعموم الآية. وذهب قوم إلى أن الأكل من الأضحية واجب، لظاهر الأمر. وقوم إلى أن التصدق منها ندب، وحملوا الأمر عليه. ولا تحديد فيما يؤكل أو يتصدق به، لإطلاق الآية. انتهى.
وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ أي الذي أصابه بؤس أي شدة الْفَقِيرَ أي الذي أضعفه الإعسار، والأمر هنا للوجوب. وقد قيل به في الأول أيضا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (٢٢) : الآيات ٢٩ الى ٣١]
ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٢٩) ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (٣٠) حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (٣١)
ثُمَّ أي بعد الذبح لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ أي ليؤدوا إزالة وسخهم من الإحرام، بالحق والتقصير وقصّ الأظفار ولبس الثياب وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ أي ما ينذرونه من أعمال البر في حجهم وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ أي طواف الإفاضة. وهو طواف
(١) أخرجه مسلم في: الحج، حديث ١٤٧، عن جابر بن عبد الله.
242
الزيارة الذي هو من أركان الحج. ويقع به تمام التحلل. و (العتيق) القديم. لأنه أول بيت وضع للناس. أو المعتق من تسلط الجبابرة ذلِكَ خبر محذوف. أي الأمر ذلك. وهو وأمثاله من أسماء الإشارة، تطلق للفصل بين الكلامين، أو بين وجهي كلام واحد.
قال الشهاب: والمشهور في الفصل (هذا) كقوله: هذا، وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ [ص: ٥٥]، واختيار (ذلك) هنا لدلالته على تعظيم الأمر وبعد منزلته. وهو من الاقتضاب القريب من التخلص، لملائمة ما بعده لما قبله، كما هنا وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ أي أحكامه. أو الحرم وما يتعلق بالحج من المناسك. و (الحرمات) جمع حرمة وهو ما لا يحل هتكه، بل يحترم شرعا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ أي ثوابا.
و (خير) اسم تفضيل حذف متعلقة. أي من غيره، أو ليس المراد به التفضيل فلا يحتاج لتقديره، قاله الشهاب. والثاني هو الأظهر، لأنه أسلوب التنزيل في مواضع لا يظهر التفاضل فيها. وإيثاره، مع ذلك، لرقة لفظه، وجمعه بين الحسن والروعة وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ أي آية تحريمه. وذلك قوله في سورة المائدة حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ [المائدة: ٣]، والمعنى: أن الله قد أحل لكم الأنعام كلها، إلا ما استثناه في كتابه. فحافظوا على حدوده. وإياكم أن تحرموا مما أحل لكم شيئا. كتحريم عبدة الأوثان البحيرة والسائبة وغير ذلك. وأن تحلوا مما حرم الله. كإحلالهم أكل الموقوذة والميتة وغير ذلك. أفاده الزمخشري. فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ تفريع على ما سبق من تعظيم حرماته تعالى. فإن ترك الشرك واجتناب الأوثان من أعظم المحافظة على حدوده تعالى. و (من) بيانية. أي فاجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان، كما تجتنب الأنجاس. وهو غاية المبالغة في النهي عن تعظيمها والتنفير عن عبادتها. قال الزمخشريّ: سمى الأوثان رجسا وكذلك الخمر والميسر والأزلام، على طريق التشبيه. يعني أنكم، كما تنفرون بطباعكم عن الرجس وتجتنبونه، فعليكم أن تنفروا عن هذه الأشياء مثل تلك النفرة. ونبه على هذا المعنى بقوله رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ [المائدة: ٩٠]، جعل العلة في اجتنابه أنه رجس، والرجس مجتنب. وقوله تعالى: وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ تعميم بعد تخصيص. فإن عبادة الأوثان رأس الزور. كأنه لما حث على تعظيم الحرمات، أتبعه ذلك، ردّا لما كانت الكفرة عليه من تحريم البحائر والسوائب. وتعظيم الأوثان والافتراء على الله تعالى بأنه حكم بذلك، وإعلاما بأن توحيد الله ونفي الشركاء عنه، وصدق القول، أعظم الحرمات وأسبقها خطوا حُنَفاءَ لِلَّهِ مخلصين له الدين،
243
منحرفين عن الباطل إلى الحق غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ أي شيئا من الأشياء. ثم ضرب للمشرك مثلا في ضلاله وهلاكه وبعده عن الهدى، فقال تعالى وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أي سقط منها فقطعته الطيور في الهواء أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ أي تقدمه فِي مَكانٍ سَحِيقٍ أي بعيد مهلك لمن هوى فيه. و (أو) للتخيير أو التنويع. قال الزمخشريّ: يجوز في هذا التشبيه أن يكون من المركب والمفرق. فإن كان تشبيها مركبا، فكأنه قال: من أشرك بالله فقد أهلك نفسه إهلاكا ليس بعده نهاية. بأن صور حاله بصورة حال من خرّ من السماء فاختطفته الطير، فتفرق مزعا في حواصلها. أو عصفت به الريح حتى هوت به في بعض المطاوح البعيدة. وإن كان مفرقا، فقد شبه الإيمان في علوه بالسماء، والذي ترك الإيمان وأشرك بالله، بالساقط من السماء. والأهواء التي تتوزع أفكاره، بالطير المختطفة.
والشيطان الذي يطوح به في وادي الضلالة، بالريح التي تهوي بما عصفت به في بعض المهاوي المتلفة. فكتب الناصر عليه: أما على تقدير أن يكون مفرّقا فيحتاج تأويل تشبيه المشرك بالهاوي من السماء، إلى التنبيه على أحد أمرين: إما أن يكون الإشراك المراد ردّته، فإنه حينئذ كمن علا إلى السماء بإيمانه ثم هبط بارتداده وإما أن يكون الإشراك أصليا، فيكون قد عدّ تمكن المشرك من الإيمان ومن العلوّ به ثم عدوله عنه اختيارا، بمنزلة من علا إلى السماء ثم هبط كما قال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ [البقرة: ٢٥٧]، فعدهم مخرجين من النور وما دخلوه قط، ولكن كانوا متمكنين منه. وفي تقريره تشبيه الأفكار المتوزعة للكافر، بالطير المختطفة، وفي تشبيه تطويح الشيطان بالهوي مع الريح في مكان سحيق- نظر. لأن الأمرين ذكرا في سياق تقسيم حال الكافر إلى قسمين. فإذا جعل الأول مثلا لاختلاف الأهواء والأفكار، والثاني مثلا لنزغ الشيطان، فقد جعلهما شيئا واحدا. لأن توزع الأفكار واختلاف الأهواء، مضاف إلى نزغ الشيطان، فلا يتحقق التقسيم المقصود. والذي يظهر في تقرير التشبيهين غير ذلك. فنقول: لما انقسمت حال الكفر إلى قسمين لا مزيد عليهما، الأول منهما المتذبذب والمتمادي على الشك وعدم التصميم على ضلالة واحدة. فهذا القسم من المشركين مشبه بمن اختطفته الطير وتوزعته، فلا يستولي طائر على مزعة منه إلا انتهبها منه آخر، وذلك حال المذبذب. لا يلوح له خيال إلا اتّبعه ونزل عما كان عليه. والثاني مشرك مصمم على معتقد باطل. لو نشر بالمنشار لم يكع ولم يرجع.
لا سبيل إلى تشكيكه، ولا مطمع في نقله عما هو عليه، فهو فرح مبتهج بضلالته.
244
فهذا مشبه في إقراره على كفره، باستقرار من هوت به الريح إلى واد سافل فاستقرّ فيه.
ويظهر تشبيهه بالاستقرار في الوادي السحيق، الذي هو أبعد الأحباء عن السماء، وصف ضلاله بالبعد في قوله تعالى: أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ [إبراهيم: ٣]، وضَلُّوا ضَلالًا بَعِيداً [النساء: ١٦٧]، أي صمموا على ضلالهم فبعد رجوعهم إلى الحق فهذا تحقيق القسمين والله أعلم. انتهى كلامه.
ولا يخفى أن في النظم الكريم مساغا له. إلا أنه لا قاطع به. نعم، هو من بديع الاستنباط، ورقيق الاستخراج. فرحم الله ناسجه.
قال ابن كثير: وقد ضرب تعالى للمشركين مثلا آخر في سورة الأنعام. وهو قوله تعالى: قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا، قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى [الأنعام: ٧١] الآية.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (٢٢) : آية ٣٢]
ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (٣٢)
ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ أي علائم هدايته، وهو الدين. أو معالم الحج ومناسكه. أو الهدايا خاصة، لأنها من معالم الحج وشعائره تعالى. كما تنبئ عنه آية وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ
[الحج: ٣٦]، وهو الأوفق لما بعده.
وتعظيمها أن يختارها عظام الأجرام حسانا سمانا، غالية الأثمان. ويترك المكاس في شرائها. فقد كانوا يغالون في ثلاث ويكرهون المكاس فيهن: الهدي والأضحية والرقبة.
وعن سهل «١» : كنا نسمن الأضحية في المدينة وكان المسلمون يسمنون.
رواه البخاريّ.
وعن أنس «٢» : أن رسول الله ﷺ ضحى بكبشين أملحين أقرنين. رواه البخاريّ
(١) أخرجه البخاري في: الأضاحي، ٧- باب في أضحية النبي صلى الله عليه وسلم، بكبشين أقرنين.
(٢) أخرجه البخاري في: الأضاحي، ٧- باب في أضحية النبي صلى الله عليه وسلم، بكبشين أقرنين. حديث رقم ٢٢١١. وأخرجه مسلم في: الأضاحي، حديث رقم ١٧.
وعن البراء «١» مرفوعا. أربع لا تجوز في الأضاحي، العوراء البيّن عورها، والمريضة البيّن مرضها، والعرجاء البيّن ظلعها، والكسيرة التي لا تنقي: رواه أحمد وأهل السنن.
فَإِنَّها أي فإن تعظيمها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ أي من أفعال ذوي التقوى.
والإضافة إلى القلوب، لأن التقوى وضدها تنشأ منها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (٢٢) : آية ٣٣]
لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٣٣)
لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ أي لكم في الهدايا منافع درّها ونسلها وصوفها وظهرها إلى وقت نحرها.
وقد روي في الصحيحين «٢» عن أنس أن رسول الله ﷺ رأى رجلا يسوق بدنة قال: اركبها. قال: إنها بدنة قال:
أركبها، ويحك. في الثانية أو الثالثة.
وقوله: ثُمَّ مَحِلُّها أي محل الهدايا وانتهاؤها إلى البيت العتيق وهو الكعبة كما قال تعالى: هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ [المائدة: ٩٥]، وقال: وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ [الفتح: ٢٥].
قال في (الإكليل) : فيه أن الهدي لا يذبح إلا بالحرم. وقيل: المعنى: محل هذه الشعائر كلها الطواف بالبيت العتيق. فيقتضي أن الحاج بعد طواف الإفاضة.
يحل له كل شيء. وكذا روي عن ابن عباس: ما طاف أحد بالبيت إلا حل، لهذه الآية. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (٢٢) : آية ٣٤]
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (٣٤)
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ.
أي شرعنا لكل أمة أن ينسكوا. أي يذبحوا لوجهه تعالى، على وجه التقرب.
وجعل العلة، أن يذكر اسمه. تقدست أسماؤه. على النسائك. ف (منسكا) مصدر
(١) أخرجه النسائي في: الضحايا ٥- باب ما هي عنه من الأضاحي.
(٢) أخرجه البخاري في: الحج، ١٠٣- باب ركوب البدن، حديث رقم ٨٧٨.
وأخرجه مسلم في: الحج، حديث رقم ٣٧٣.
ميميّ على أصله. أو بمعنى المفعول. وفي الآية تنبيه على أن القربان يجب أن يكون نعما.
فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا أي أخلصوا له الذكر خاصة، لا تشوبوه بإشراك. وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (٢٢) : الآيات ٣٥ الى ٣٦]
الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٥) وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٣٦)
الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ أي خافت لتأثرهم عند ذكره مزيد تأثر وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها
أي في ذبحها تضحية خَيْرٌ من المنافع الدينية والدنيوية فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ أي قائمات قد صففن أيديهن وأرجلهن. وعن ابن عباس: قياما على ثلاث قوائم، معقولة يدها اليسرى. يقول: بسم الله، والله أكبر، لا إله إلا الله: اللهم منك ولك. وفي الصحيحين «١» عن ابن عمر أنه أتى على رجل قد أناخ بدنة وهو ينحرها. فقال: ابعثها قياما مقيدة سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم:
وفي صحيح مسلم «٢» عن جابر في صفة حجة الوداع، قال فيه: فنحر رسول ﷺ بيده ثلاثا وستين بدنة
. جعل يطعنها بحربة في يده فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها أي سقطت على الأرض، وهو كناية عن الموت فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ أي السائل وَالْمُعْتَرَّ أي المتعرض بغير سؤال. أو القانع الراضي بما عنده وبما يعطي من غير سؤال، والمعتر المتعرض بسؤال وقد استنبط من الآية أن الأضحية تجزأ ثلاثة أجزاء: فيأكل ثلثا ويهدي ثلثا ويتصدق بثلث.
(١) أخرجه البخاري في: الحج، ١١٨- باب نحر الإبل مقيدة، حديث ٨٨٥.
وأخرجه مسلم في: الحج، حديث ٣٥٨.
(٢) أخرجه مسلم في: الحج، حديث رقم ١٤٧. [.....]
كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي ذللناها لكم، لتشكروا إنعامنا، والشكر صرف العبد ما أنعم عليه، إلى ما خلق لأجله.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (٢٢) : آية ٣٧]
لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (٣٧)
لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ أي لن يصيب رضاءه لحومها المتصدق بها، ولا دماؤها المهراقة، من حيث أنها لحوم ودماء. ولكن بمراعاة النية والإخلاص، ابتغاء وجهه الأعلى، ويقرب من هذه الآية قوله تعالى:
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ [البقرة: ١٧٧]، إلى آخرها كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ أي لتعرفوا عظمته فتوحدوه بالعبادة على ما أرشدكم إلى طريق تسخيرها، وكيفية التقرب بها على لسان أكرم رسله المبعوث بسعادة الدارين.
وإنما كرره تذكيرا للنعمة وتعليلا بما بعده. وفي التعليل المذكور شاهد لما قدمناه أولا في معنى قوله تعالى: وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ [الحج: ٢٨]، فتذكر. وقوله تعالى: وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ أي المخلصين في أعمالهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (٢٢) : آية ٣٨]
إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (٣٨)
إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا كلام مستأنف، مسوق لتوطين قلوب المؤمنين، ببيان أن الله تعالى ناصرهم على أعدائهم، بحيث لا يقدرون على صدهم عن الحج، ليتفرغوا إلى أداء مناسكه. كذا قاله أبو السعود. وسبقه الرازي إليه.
والأولى أن يقال: إنه طليعة لما بعده من الإذن بالقتال، مبشرة بغاية النصرة والحفظ والكلاءة والعاقبة للمؤمنين. تشجيعا لهم على قتال من ظلمهم، وتشويقا إلى استخلاص بيته الحرام، ليتسنى لهم إقامة شعائره وأداء مناسكه. وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ أي في أمانة الله كَفُورٍ أي لنعمته بعبادته غيره، فلا يرتضي فعلهم ولا ينصرهم. وصيغة المبالغة فيهما، لأنه في حق المشركين، وهم كذلك ولأن خيانة أمانة الله وكفران نعمته لا يكون حقيرا، بل هو أمر عظيم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (٢٢) : الآيات ٣٩ الى ٤٠]
أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (٣٩) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٤٠)
أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ أي يقاتلهم المشركون. والمأذون فيه محذوف، لدلالة المذكور عليه. وقرئ بكسر التاء. بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ أي بغير حق سوى التوحيد الذي ينبغي أن يكون موجب الإقرار والتمكين، لا موجب الإخراج والتسيير. ومثله هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ [المائدة: ٥٩]، وهو من تأكيد المدح بما يشبه الذم.
وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً أي لولا كفه تعالى المشركين بالمسلمين، وإذنه بمجاهدة المسلمين للكافرين، لاستولى المشركون على أهل الملل المختلفة في أزمنتهم، وعلى متعبداتهم فهدموها.
قال ابن جرير: ومنه كفه تعالى ببعضهم التظالم. كالسلطان الذي كف به رعيته عن التظالم بينهم ومنه كفه تعالى لمن أجاز شهادته بينهم ببعضهم عن الذهاب بحق من له قبله حق. ونحو ذلك. وكل ذلك دفع منه الناس بعضهم عن بعض. لولا ذلك لتظالموا. فهدم القاهرون صوامع المقهورين وبيعهم، وما سمى جل ثناؤه. و (الصوامع) مباني الرهبانية لخلوتهم. (والبيع) معابد النصارى. و (الصلوات) روي عن ابن عباس أنه عنى بها كنائس اليهود. سميت بها لأنها محلها. وقيل هي بمعناها الحقيقي. و (هدمت) بمعنى عطلت. أو فيه مضاف مقدر وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ أي ينصر دينه وأولياءه.
قال القاضي: وقد أنجز الله وعده، بأن سلط المهاجرين والأنصار على صناديد العرب وأكاسرة العجم وقياصرتهم، وأورثهم أرضهم وديارهم. إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (٢٢) : آية ٤١]
الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (٤١)
الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ أي مرجعها إلى حكمه وتقديره. وفيه تأكيد لما وعده من إظهار أوليائه وإعلاء كلمتهم. ثم أشار تعالى إلى تسلية نبيّه صلى الله عليه وسلم، عما يناله من أذى المشركين، وحاضّا له على الصبر على ما يلحقه منهم من التكذيب، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (٢٢) : الآيات ٤٢ الى ٤٤]
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (٤٢) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (٤٣) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٤٤)
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وهم قوم هود وَثَمُودُ وهم قوم صالح وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وهم قوم شعيب وَكُذِّبَ مُوسى وإنما لم يقل (وقوم موسى) كسابقه، لأن موسى ما كذبه قومه بنوا إسرائيل، وإنما كذبه غير قومه وهم القبط. وفيه شيء آخر كأنه قيل، بعد ما ذكر تكذيب كل قوم رسولهم وَكُذِّبَ مُوسى مع وضوح آياته وعظم معجزاته، فما ظنك بغيره؟ أفاده الزمخشري.
قال الناصر: ويحتمل عندي، والله أعلم، أنه لما صدّر الكلام بحكاية تكذيبهم، ثم عدّد أصناف المكذبين وطوائفهم، ولم ينته إلى موسى إلا بعد طول الكلام، حسن تكريره ليلي قوله فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ فيتصل المسبب بالسبب، كما قال في آية (ق) بعد تعديدهم كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ [ق: ١٤]، فربط العقاب والوعيد، ووصلهما بالتكذيب، بعد أن جدد ذكره، والله أعلم.
وإيراد من زعم بأن موسى كذبه قومه بعبادة العجل، إيراد من لم يفهم معنى التكذيب الذي هو ردّ دعوة النبيّ وعدم الإيمان به والإصرار على الكفر بوحيه، والقيام في وجهه وصد الناس عن اتباعه. وما وقع من قوم موسى هو تخليط، وخطأ اجتهاد، وتعنت ولجاج مع الاستظلال بظل دعوته، والانتظام في سلك إجابته. وقوله
تعالى: فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ أي أمهلتهم ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ أي بالعقوبة فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ أي إنكاري عليهم بالإهلاك.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (٢٢) : آية ٤٥]
فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (٤٥)
فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أي فكم من أهالي قرية أَهْلَكْناها أي بالعذاب وَهِيَ ظالِمَةٌ أي مشركة كافرة فَهِيَ خاوِيَةٌ أي ساقطة عَلى عُرُوشِها أي سقوفها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ أي وكم من بئر متروكة لا يستقى منها، لهلاك أهلها وَقَصْرٍ مَشِيدٍ أي مرفوع. من (شاد البناء) رفعه. أو معناه مطليّ ومعمول بالشيد، بالكسر، وهو الجص، أي مجصص، أخليناه عن ساكنيه، ومن شواهد الأول قول عديّ بن زيد:
شاده مرمرا وجلّله كل سا، فللطير في ذراه وكور
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (٢٢) : آية ٤٦]
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (٤٦)
أَفَلَمْ يَسِيرُوا أي أهل مكة في تجارتهم فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ أي بما يشاهدونه من مواد الاعتبار قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أي ما يجب أن يعقل من التوحيد أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها أي ما يجب أن يسمع من الوحي والتخويف فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ الضمير في (فإنها) للقصة. أو مبهم يفسره (الأبصار). والمعنى: ليس الخلل في مشاعرهم، وإنما هو في عقولهم باتباع الهوى والانهماك في الغفلة. وفائدة ذكر (الصدور) هو التأكيد مثل يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ [آل عمران: ١٦٧]، وطائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الأنعام: ٣٨]، إلا أنه لتقرير معنى الحقيقة، وهنا لتقرير معنى المجاز.
وقال الزمخشري: الفائدة زيادة التصوير والتعريف وعبارته: الذي قد تعورف واعتقد أن العمى على الحقيقة مكانه البصر، وهو أن تصاب الحدقة بما يطمس نورها. واستعماله في القلب استعارة ومثل. فلما أريد إثبات ما هو خلاف المعتقد من نسبة العمى إلى القلوب حقيقة، ونفيه عن الأبصار، احتاج هذا التصوير إلى زيادة
تعيين وفضل تعريف، ليتقرر أن مكان العمى هو القلوب لا الأبصار. كما تقول (ليس المضاء للسيف، ولكنه للسانك الذي بين فكيك)، فقولك (الذي بين فكيك) تقرير لما ادعيته للسانه، وتثبيت. لأن محل المضاء هو هو لا غير. وكأنك قلت: ما نفيت المضاء عن السيف. وأثبته للسانك، فلتة ولا سهوا مني، ولكن تعمدت به إياه بعينه تعمدا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (٢٢) : آية ٤٧]
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٤٧)
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ أي المبيّن في آية وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الأنفال:
٣٢]، وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ أي فيصيبهم ما أوعدهم به، ولو بعد حين وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ أي هو تعالى حليم لا يعجل، فإن مقدار ألف سنة عند خلقه، كيوم واحد عنده، بالنسبة إلى حلمه. لعلمه بأنه على الانتقام قادر، وأنه لا يفوته شيء. وإن أنظر وأملى. ولهذا قال بعده:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (٢٢) : آية ٤٨]
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (٤٨)
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها أي أمهلتها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ إلى حكمي مرجع الكل فأجزيهم بأعمالهم. فتأثر هذه الآية ما قبلها صريح في بيان خطئهم في الاستعجال المذكور، ببيان كمال سعة حلمه تعالى، وإظهار غاية ضيق عطنهم، المستتبع لكون المدة القصيرة عنده تعالى، مددا طوالا عندهم، حسبما ينطق به قوله تعالى: إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً [المعارج: ٦- ٧]، ولذلك يرون مجيئه بعيدا، ويتخذونه ذريعة إلى إنكاره، ويجترءون على الاستعجال به، ولا يدرون أن معيار تقدير الأمور كلها، وقوعا وإخبارا، ما عنده تعالى من المقدار. أفاده ابن كثير وأبو السعود.
وفي (العناية) : لما ذكر استعجالهم، وبيّن أنه لا يتخلف ما استعجلوه، وإنما أخر حلما، لأن اليوم ألف سنة عنده. فما استطالوه ليس بطويل بالنسبة إليه، بل هو أقصر من يوم. فلا يقال: إن المناسب حينئذ أن ألف سنة كيوم، والقلب لا وجه له.
وقال الرازي: لما حكى تعالى من عظم ما هم عليه من التكذيب، أنهم يستهزءون باستعجال العذاب، بيّن أن العاقل لا ينبغي أن يستعجل عذاب الآخرة فقال: وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ يعني فيما ينالهم من العذاب وشدته كَأَلْفِ سَنَةٍ لو عدّ في كثرة الآلام وشدتها. فبيّن سبحانه أنهم لو عرفوا حال عذاب الآخرة، وأنه بهذا الوصف لما استعجلوه.
قال الرازي: وهذا قول أبي مسلم، وهو أولى الوجوه. انتهى.
وقد حكاه الزمخشريّ بقوله: وقيل معناه: كيف يستعجلون بعذاب من يوم واحد من أيام عذابه، في طول ألف سنة من سنيكم. لأن أيام الشدائد مستطالة، أي تعدّ طويلة كما قيل:
تمتع بأيام السرور فإنّها قصار. وأيام الهموم طوال
أو كان ذلك اليوم الواحد، لشدة عذابه، كألف سنة من سني العذاب. انتهى.
واعتمد الوجه الأول أبو السعود. وناقش فيما بعده بأنه لا يساعده سياق النظم الجليل ولا سياقه. فإن كلا منهما ناطق بأن المراد هو العذاب الدنيوي. وأن الزمان الممتد هو الذي مرّ عليهم قبل حلوله بطريق الإملاء والإمهال. لا الزمان المقارن له.
ألا يرى إلى قوله تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ إلخ، فإنه صريح في أن المراد هو الأخذ العاجل الشديد، بعد الإملاء المديد. انتهى. وفيه قوة. فالله أعلم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (٢٢) : الآيات ٤٩ الى ٥١]
قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٤٩) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٥٠) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (٥١)
قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وهي الجنة وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ أي والذين سعوا في ردّ آياتنا، وصدّ الناس عنها مشاقّين. فالمعاجزة مستعارة للمشاقة مع المؤمنين ومعارضتهم. فكلما طلبوا إظهار الحق طلب هؤلاء إبطاله. كما يقال (جاراه في كذا). قال تعالى أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا [العنكبوت: ٤]، وقرئ (معجّزين) بتشديد الجيم. بمعنى أنهم عجّزوا الناس
وثبطوهم عن اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والإيمان بالقرآن. وكلتا القراءتين متقاربة المعنى.
وذلك أن من عجّز عن آيات الله، فقد عاجز الله. ومن معاجزة الله التعجيز عن آيات الله، والعمل بمعاصيه، وخلاف أمره. وكان من صفة القوم الذين نزلت فيهم الآيات أنهم كانوا يبطّئون الناس عن الإيمان بالله واتباع رسوله. ويغالبون رسول الله صلى الله عليه وسلم، يحسبون أنهم يعجزونه ويغلبونه. وقد ضمن الله له نصره عليهم. فكان ذلك معاجزتهم الله. كذا في الشهاب وابن جرير. ثم أشار تعالى إلى تسلية رسوله صلوات الله عليه، عما كان يلاقيه من صدّ شياطين قومه عن سبيل الله، بأن تلك سنة كل رسول وأن العاقبة له، فقال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (٢٢) : آية ٥٢]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٢)
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أي رغب في انتشار دعوته، وسرعة علوّ شرعته أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ أي بما يصدّ عنها، ويصرف المدعوّين عن إجابتها فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ أي يبطله ويمحقه ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ أي يثبتها فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً، وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ [الرعد: ١٧]، وَاللَّهُ عَلِيمٌ يعلم الإلقاءات الشيطانية، وطريق نسخها من وجه وحيه. حَكِيمٌ يحكم آياته بحكمته. ثم أشار إلى أن من مقتضيات حكمته أنه يجعل الإلقاء الشيطانىّ فتنة للشاكّين المنافقين والقاسية قلوبهم عن قبول الحق، ابتلاء لهم ليزدادوا إثما. ورحمة للمؤمنين ليزدادوا ثباتا واستقامة، فقال تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (٢٢) : آية ٥٣]
لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٣)
لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي شك وارتياب وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وهم العتاة المتمردون وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ أي خلاف للحق بَعِيدٍ عن موافقته جدا، بسبب ظلمهم وشركهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (٢٢) : آية ٥٤]
وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٤)
254
وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ أي بالانقياد، والخشية. والضمير للقرآن أو لله تعالى: وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي إلى طريق الحق والاستقامة، فلا تزلّ أقدامهم بقبول ما يلقي الشيطان، ولا تقبل قلوبهم إلا ما يلقي الرحمن، لصفائها. هذا هو الصواب في تفسير الآية. ولها نظائر تظهر المراد منها كما أشرنا إليه، لو احتاجت إلى نظير. ولكنها بيّنة بنفسها، غنية عن التطويل في التأويل، لولا ما أحوج المحققين إلى ردّ ما دسه بعض الرواة هنا من الأباطيل. ونحن نسوق ما قيل فيها من ذلك، ثم نتبعه بنقد المحققين، لئلا يبقى في نفس الواقف حاجة.
قال ابن جرير الطبري: قيل: إن السبب الذي من أجله أنزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن الشيطان كان ألقى على لسانه، في بعض ما يتلوه مما أنزل الله عليه من القرآن، ما لم ينزل الله عليه. فاشتد ذلك على رسول الله ﷺ واغتم به، فسلّاه الله مما به من ذلك، بهذه الآيات
. ثم ذكر من قال ذلك.
فأسند عن محمد بن كعب القرظي ومحمد بن قيس وغيرهما أن رسول الله ﷺ جلس في ناد من أندية قريش، كثير أهله، فتمنى يومئذ ألا يأتيه من الله شيء فينفروا عنه. فأنزل الله عليه وَالنَّجْمِ إِذا هَوى ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى [النجم: ١- ٢]، فقرأها رسول الله ﷺ حتى إذا بلغ أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى [النجم: ١٩- ٢٠]، ألقى عليه الشيطان كلمتين (تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى) فتكلم بها، ثم مضى فقرأ السورة كلها. فسجد في آخر السورة وسجد القوم جميعا معه، ورضوا بما تكلم به.
قالا: فلما أمسى أتاه جبريل عليه السلام فعرض عليه السورة. فلما بلغ الكلمتين المذكورتين قال: ما جئتك بهاتين. فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأنزل الله تبارك وتعالى عليه يعزيه وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ الآية.
وقال القاضي عياض في (الشفا) : اعلم أن لنا في الكلام على مشكل هذا الحديث مأخذين: أحدهما في توهين أصله، والثاني على تسليمه.
أما المأخذ الأول، فيكفيك أن هذا لم يخرّجه أحد من أهل الصحة، ولا رواه ثقة بسند سليم متصل. وإنما أولع به وبمثله المفسرون والمؤرخون المولعون بكل غريب، المتلقفون من الصحف كل صحيح وسقيم. وصدق القاضي بكر بن العلاء المالكي حيث قال: لقد بلي الناس ببعض أهل الأهواء والتفاسير. وتعلق بذلك
255
الملحدون مع ضعف بعض نقلته، واضطراب رواياته، وانقطاع إسناده، واختلاف كلماته. ومن حكيت عنه هذه الحكاية من المفسرين والتابعين، لم يسندها أحد منهم ولا رفعها إلى صاحب. وأكثر الطرق عنهم فيها، واهية ضعيفة، والمرفوع فيه حديث شعبة عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس فيما أحسب (الشك في الحديث) أن النبيّ ﷺ كان بمكة، وذكر القصة.
قال أبو بكر البزّار: هذا الحديث لا نعلمه يروى عن النبيّ ﷺ بإسناد متصل، يجوز ذكره إلا هذا، ولم يسنده عن شعبة إلا أمية بن خالد. وغيره يرسله عن سعيد ابن جبير. وإنما يعرف عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس. فقد بين لك أبو بكر رحمه الله أنه لا يعرف من طريق يجوز ذكره سوى هذا. وفيه من الضعف ما نبه عليه، مع وقوع الشك فيما ذكرناه، الذي لا يوثق به ولا حقيقة معه. وأما حديث الكلبي فما لا تجوز الرواية عنه ولا ذكره، لقوة ضعفه وكذبه، كما أشار إليه البزار رحمه الله: والذي منه
في الصحيح أن النبيّ ﷺ قرأ سورة (النجم) وهو بمكة.
فسجد معه المسلمون والمشركون والإنس والجن.
هذا توهينه من طريق النقل.
وأما من جهة المعنى فقد قامت الحجة وأجمعت الأمة على عصمته عليه السلام، ونزاهته عن مثل هذه الرذيلة. إما من تمنيه أن ينزل عليه مثل هذا من مدح غير الله وهو كفر، أو أن يتسوّر عليه الشيطان ويشبه عليه القرآن حتى يجعل فيه ما ليس منه، حتى ينبهه عليه جبريل عليهما السلام. وذلك كله ممتنع في حقه عليه السلام. أو يقول ذلك النبيّ ﷺ من قبل نفسه عمدا، وذلك كفر. أو سهوا وهو معصوم من هذا كله. ووجه ثان- وهو استحالة هذه القصة نظرا وعرفا. وذلك أن الكلام، لو كان كما روي، بعيد الالتئام، متناقض الأقسام ممتزج المدح بالذم، متخاذل التأليف. ولما كان النبيّ ﷺ ولا من بحضرته من المسلمين وصناديد المشركين، ممن يخفى عليه ذلك، وهذا لا يخفى على أدنى متأمل. فكيف بمن رجح حلمه، واتسع في باب البيان ومعرفة فصيح الكلام علمه؟ ووجه ثالث- أنه قد علم من عادة المنافقين ومعاندي المشركين وضعفة القلوب والجهلة من المسلمين، نفورهم من أول وهلة، وتخليط العدوّ على النبيّ ﷺ لأقل فتنة، وتعييرهم المسلمين والشمّات بهم الفينة بعد الفينة. وارتداد من في قلبه مرض ممن أظهر الإسلام لأدنى شبهة. ولم يحك أحد في هذه القصة شيئا سوى هذه الرواية الضعيفة الأصل. ولو كان
256
ذلك لوجدت قريش بها على المسلمين الصولة. ولأقامت بها اليهود عليهم الحجة.
كما فعلوه مكابرة في قصة الإسراء حتى كانت في ذلك لبعض الضعفاء ردّة. وكذلك ما روي في قصة القضية. ولا فتنة أعظم من هذه البلية لو وجدت. ولا تشغيب للمعادي حينئذ أشد من هذه الحادثة لو أمكنت. فما روي عن معاند فيها كلمة.
ولا عن مسلم بسببها بنت شفة. فدل على بظلها، واجتثاث أصلها. ولا شك في إدخال بعض شياطين الإنس والجن، على بعض مغفلي المحدثين، ليلبس به على ضعفاء المسلمين.
ووجه رابع- ذكر الرواة لهذه القضية أن فيها نزلت: وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ [الإسراء: ٧٣] الآيتين. وهاتان الآيتان تردّان الخبر الذي رووه.
لأن الله تعالى ذكر أنهم كادوا يفتنونه حتى يفتري، وأنه لولا أن ثبّته لكاد يركن إليهم. فمضمون هدا ومفهومه، أن الله تعالى عصمه من أن يفتري، وثبته حتى لم يركن إليهم قليلا، فكيف كثيرا؟ وهم يروون في أخبارهم الواهية أنه زاد على الركون والافتراء بمدح آلهتهم. وهذا ضد مفهوم الآية، ويضعّف الحديث، لو صح، فكيف ولا صحة له؟ وأما المأخذ الثاني فهو مبنيّ على تسليم الحديث، لو صح. وقد أعاذنا الله من صحته. ولكن على كل حال فقد أجاب عن ذلك أئمة المسلمين بأجوبة منها الغث والسمين. فمنها ما رواه قتادة ومقاتل أن النبيّ ﷺ أصابته سنة عند قراءة هذه السورة. فجرى هذا الكلام على لسانه بحكم النوم. وهذا لا يصح. إذ لا يجوز على النبيّ ﷺ مثله في حالة من أحواله. ولا يخلقه الله على لسانه ولا يستولي الشيطان عليه في نوم ولا يقظة، لعصمته في هذا الباب من جميع العمد والسهو.
وقد قال عليه السلام «١»
(إن عينيّ تنامان ولا ينام قلبي).
وفي حديث الكلبي أن النبيّ ﷺ حدّث نفسه، فقال ذلك الشيطان على لسانه.
وفي رواية ابن شهاب عن أبي بكر بن عبد الرحمن قال: ومنها لما أخبر بذلك قال: إنما ذلك من الشيطان
. وكل هذا لا يصح أن يقوله عليه السلام لا سهوا ولا قصدا. ولا يتقوّله الشيطان على لسانه.
وقيل: لعلّ النبيّ ﷺ قاله أثناء تلاوته، على تقدير التقرير والتوبيخ للكفار. كقول إبراهيم هذا رَبِّي [الأنعام: ٧٧]، على أحد التأويلات. وكقوله:
(١) أخرجه البخاري في: التهجد، ١٦- باب قيام النبي ﷺ بالليل في رمضان وغيره، حديث رقم ٦٣١، عن عائشة.
وأخرجه مسلم في: صلاة المسافرين وقصرها، حديث رقم ١٢٥.
257
بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا [الأنبياء: ٦٣]، بعد السكت وبيان الفصل بين الكلامين. ثم رجع إلى تلاوته. وهذا ممكن مع بيان الفصل وقرينة تدل على المراد، وأنه ليس من المتلوّ. وهو أحد ما ذكره القاضي أبو بكر.
ومما يظهر في تأويله، إن سلمنا القصة، أن يراد بالغرانيق الملائكة. ورجاء الشفاعة من الملائكة صحيح. فلما تأوّله المشركون على أن المراد بها آلهتهم، ولبّس عليهم الشيطان ذلك وزيّنه في قلوبهم، وألقاه إليهم، نسخ الله ما ألقى الشيطان وأحكم آياته ورفع تلاوة تلك اللفظتين. انتهى كلام القاضي ملخصا.
وقال أبو بكر الباقلاني: وقيل: كان ﷺ يرتل القرآن، فارتصده الشيطان في سكتة من السكتات. ونطق بتلك الكلمات، محاكيا نغمته، بحيث سمعه من دنا إليه، فظنها من قوله تعالى وأشاعها.
قال: وهذا أحسن الوجوه. ويؤيده ما روي عن ابن عباس من تفسير (تمنى) ب (تلا) وكذا استحسن ابن العربي هذا التأويل. وقال قبله: إن هذه الآية نص في براءة النبيّ ﷺ مما نسب إليه، وأن الشيطان زاده في قوله صلوات الله عليه، لا أنه عليه السلام قاله.
قال: وقد سبق إلى ذلك الطبري فصوب هذا المعنى وحوّم عليه. واستحسان ابن العربي ذلك، على فرض صحة القصة، وإلا فقد قال: ذكر الطبري في ذلك روايات كثيرة باطلة لا أصل لها. وقال تقي الدين بن تيمية: في الآية قولان والمأثور عن السلف يوافق القرآن بذلك. والذين منعوا ذلك من المتأخرين طعنوا فيما ينقل من الزيادة في سورة النجم بقوله (تلك الغرانيق العلى وإنّ شفاعتهنّ لترتجى) وقالوا: إن هذا لم يثبت. ومن علم أنه ثبت قال: هذا ألقاه الشيطان في مسامعهم، ولم يلفظ به الرسول صلى الله عليه وسلم. ولكن السؤال وارد على هذا التقدير أيضا.
وقالوا في قوله: إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ: هو حديث النفس وأما الذين قرروا ما نقل عن السلف، فقالوا: هذا منقول نقلا ثابتا لا يمكن القدح فيه وقالوا: الآثار في تفسير هذه الآية معروفة ثابتة في كتب التفسير والحديث.
والقرآن يوافق ذلك. فإن نسخ الله لما يلقي الشيطان، وإحكامه آياته، إنما يكون لرفع ما وقع في آياته، وتمييز الحق عن الباطل حتى لا تختلط آياته بغيرها. وجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم، إنما يكون ذلك ظاهرا يسمعه الناس، لا باطنا في النفس. والفتنة التي تحصل بهذا النوع من النسخ، من جنس
258
الفتنة التي تحصل بالنوع الآخر من النسخ. وهذا النوع أدلّ على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، وبعده عن الهوى، من ذلك النوع. فإنه إذا كان يأمر بأمر ثم يأمر بخلافه وكلاهما من عند الله، وهو مصدق في ذلك، فإذا قال عن نفسه أن الثاني هو الذي من عند الله وهو الناسخ، وإن ذلك المرفوع الذي نسخه الله ليس كذلك، كان أدل على اعتماده للصدق وقول الحق. وهذا كما قالت عائشة «١» رضي الله عنها: لو كان محمد كاتما شيئا من الوحي لكتم هذه الآية وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ ألا ترى أن الذي يعظم نفسه بالباطل يريد أن ينصر كل ما قاله ولو كان خطأ. فبيان الرسول ﷺ أن الله أحكم آياته ونسخ ما ألقاه الشيطان، هو أدل على تحريه للصدق وبراءته من الكذب. وهذا هو المقصود بالرسالة. فإنه الصادق المصدوق ﷺ تسليما. انتهى.
وفي كلامه رحمه الله نظر من وجوه:
أولا- دعواه أن المأثور يوافق القرآن. فإنه ذهاب إلى أن الإلقاء إلقاء في الآيات. ولا تدل الآية عليه، لا مطابقة ولا التزاما. بل القول بذلك ينافي التنزيل والوحي منافاة النار للماء، كما ستراه.
وثانيا- دعواه أن تلك الرواية نقلها ثابت لا يمكن القدح فيه. فقد قدح فيها من لا يحصى من المتقدمين والمتأخرين. ويكفي أن تلميذه الحافظ ابن كثير قال:
قد ذكر كثير من المفسرين ها هنا قصة الغرانيق. وما كان من رجوع كثير من المهاجرة إلى أرض الحبشة، ظنا منهم أن مشركي قريش أسلموا. ولكنها من طرق كلها مرسلة. ولم أرها مسندة من وجه صحيح. وتعداد طرقها، بعد ضعف أصلها، لا يفيد. وهذه شبهة يعتمدها كثير من الواقفين مع الروايات. يظنون أن الضعيف بكثرة طرقه يقوى. والحال أن الضعيف ضعيف كيفما جاء. وقد سرت هذه الشبهة للحافظ ابن حجر. فأخذ يقوي بعض طرقها ويصححها من جهة الإسناد. كما ستمر بك مناقشته. ولو كان لها أدنى رائحة من الصحة لأخرجها البخاري معلقة أو موقوفة، أو أرباب السنن.
وثالثا- اعترافه بأن السؤال وارد على تقدير ثبوتها، وإلقاء الشيطان ذلك في مسامعهم، مما يبرهن أن فيها مغامز تنبذها العقول، كما نبذتها صحة النقول.
(١) أخرجه الترمذي في: التفسير، ٣٣- سورة الأحزاب، حدثنا علي بن حجر.
259

فصل


وقال الفخر الرازي في (تفسيره) : هذه الرواية باطلة موضوعة، عند أهل التحقيق. واحتجوا عليه بالقرآن والسنة والمعقول. أما القرآن فوجوه:
أحدها- قوله تعالى وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ [الحاقة: ٤٤- ٤٦].
وثانيها- قوله: قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي، إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ [يونس: ١٥].
وثالثها- قوله وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى [النجم: ٣- ٤].
ورابعها- قوله تعالى: وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ، وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا [الإسراء: ٧٣]، وكلمة (كاد) عند بعضهم معناها أنه لم يحصل.
وخامسها- قوله: وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا [الإسراء: ٧٤]، وكلمة (لولا) تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره. فدل على أن ذلك الركون القليل لم يحصل.
وسادسها- قوله: كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ [الفرقان: ٣٢].
وسابعها- قوله: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى [الأعلى: ٦].
وأما السنة فهي ما روي عن محمد بن إسحاق بن خزيمة، أنه سئل عن هذه القصة فقال: هذا وضع من الزنادقة. وصنف فيه كتابا.
وقال الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي: هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل. ثم أخذ يتكلم في أن رواة هذه القصة مطعون فيهم. وأيضا فقد روى البخاري «١» في صحيحه أن النبيّ عليه السلام قرأ سورة (النجم) وسجد فيها المسلمون والمشركون والإنس والجن. وليس فيه حديث الغرانيق. وروي هذا الحديث من طرق كثيرة وليس فيها البتة حديث الغرانيق.
وأما المعقول فمن وجوه:
أحدها- أن من جوّز على الرسول ﷺ تعظيم الأوثان، فقد كفر لأن من المعلوم بالضرورة أن أعظم سعيه كان في نفي الأوثان.
(١) أخرجه البخاري في: التفسير، ٣٥- سورة النجم، ٤- باب فاسجدوا لله واعبدوا، حديث رقم ٥٩٠.
260
وثانيها- أنه عليه السلام ما كان يمكنه في أول الأمر أن يصلي ويقرأ القرآن عند الكعبة آمنا أذى المشركين له. حتى كانوا ربما مدّوا أيديهم إليه. وإنما كان يصلي، إذا لم يحضروها، ليلا، أو في أوقات خلوة. وذلك يبطل قولهم.
وثالثها- أن معاداتهم للرسول كانت أعظم من أن يقروا بهذا القدر من القراءة، دون أن يقفوا على حقيقة الأمر. فكيف أجمعوا على أنه عظّم آلهتهم حتى خروا سجدا؟ مع أنه لم يظهر عندهم موافقته لهم.
ورابعها- قوله: فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وذلك لأن إحكام الآيات بإزالة ما يلقيه الشيطان عن الرسول، أقوى من نسخة بهذه الآيات التي تبقى الشبهة معها. فإذا أراد الله إحكام الآيات، لئلا يلتبس ما ليس بقرآن قرآنا، فبأن يمنع الشيطان من ذلك أصلا، أولى.
وخامسها- وهو أقوى الوجوه، أنا لو جوّزنا ذلك ارتفع الأمان عن شرعه.
وجوّزنا في كل واحد من الأحكام والشرائع أن يكون كذلك، ويبطل قوله تعالى:
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ فإنه لا فرق في العقل بين النقصان عن الوحي، وبين الزيادة فيه. فبهذه الوجوه عرفنا على سبيل الإجمال، أن هذه القصة موضوعة.
أكثر ما في الباب أن جمعا من المفسرين ذكرها. لكنهم ما بلغوا حد التواتر.
وخبر الواحد لا يعارض الدلائل النقلية والعقلية المتواترة.
ثم أطال الرازي في تفصيل المباحث. ونقل عن أبي مسلم الأصفهاني ما توسع به البحث فانظره إن شئت.

فصل


وكتب الأستاذ الإمام مفتي مصر، الشيخ محمد عبده رحمه الله في هذه الآية مقالة بديعة، نقتبس منها شذرات.
قال: يعلم كل ناظر في كتابنا الإلهيّ (القرآن) ما رفع الإسلام من شأن الأنبياء والمرسلين، والمنزلة التي أحلهم من حيث هم حملة الوحي وقدوة البشر، في الفضائل وصالح الأعمال. وتنزيهه إياهم عما رماهم به أعداؤهم وما نسبه إليهم المعتقدون بأديانهم. ولا يخفى على أحد من أهل النظر، في هذا الدين القويم، أنه
261
قد قرر عصمة الرسل كافة من الزلل في التبليغ، والزيغ عن الوجهة التي وجه الله وجوههم نحوها من قول أو عمل. وخص خاتمهم محمدا ﷺ فوق ذلك بمزايا فصلت في ثنايا الكتاب العزيز. وعصمة الرسل في التبليغ عن الله، أصل من أصول الإسلام. شهد به الكتاب وأيدته السنة، وأجمعت عليه الأمة. وما خالف فيه بعض الفرق، فإنما هو في غير الإخبار عن الله وإبلاغ وحيه إلى خلقه. ذلك الأصل الذي اعتمدت عليه الأديان، حق لا يرتاب فيه ملّيّ يفهم ما معنى الدنى. ومع ذلك لم يعدم الباطل فيه أعوانا يعملون على هدمه وتوهين ركنه. أولئك عشاق الرواة وعبدة النقل. نظروا نظرة في قوله تعالى وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ الآية وفيما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما من أن (تمنى) بمعنى (قرأ) و (الأمنية القراءة) فعمي عليهم وجه التأويل، على فرض صحة الرواية عن ابن عباس، فذهبوا يطلبون ما به يصح التأويل في زعمهم. فقيض لهم من يروي في ذلك أحاديث تختلف طرقها وتتباين ألفاظها وتتفق في أن النبيّ ﷺ عند ما بلغ منه أذى المشركين ما بلغ، وأعرضوا عنه، وجفاه قومه وعشيرته، لعيبه أصنامهم وزرايته على آلهتهم، أخذه الضجر من إعراضهم. ولحرصه على إسلامهم تمنى ألا ينزل عليه ما ينفرهم، لعله يتخذ ذلك طريقا إلى استمالتهم. فاستمر به ما تمناه حتى نزلت عليه سورة (النجم) إلى آخر ما رواه ابن جرير أولا. وقد شايعه عليه كثير من المفسرين، وفي طباع الناس إلف الغريب، والتهافت على العجيب. فولعوا بهذه التفاسير، ونسوا ما رآه جمهور المحققين في تأويلها. وذهب إليه الأئمة في بيانها.
جاء في صحيح البخاريّ «١» : وقال ابن عباس في إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ إذا حدث ألقي الشيطان في حديثه فيبطل الله ما يلقي الشيطان ويحكم الله آياته. ويقال (أمنيته قراءته) إِلَّا أَمانِيَّ يقرءون ولا يكتبون. انتهى.
فتراه حكى تفسير الأمنية بالقراءة بلفظ (يقال) بعد ما فسرها بالحديث رواية عن ابن عباس. وهذا يدل على المغايرة بين التفسيرين. فما يدعيه الشراح أن الحديث في رأي ابن عباس بمعنى التلاوة يخالف ظاهر العبارة. ثم حكاية تفسير الأمنية بمعنى القراءة بلفظ (يقال) يفيد أنه غير معتبر عنده. وسيأتي أن المراد بالحديث حديث النفس.
(١) أخرجه البخاري في: التفسير، ٢٢- سورة الحج، في الترجمة.
262
وقال صاحب الإبريز: إن تفسير (تمنى) بمعنى (قرأ) و (الأمنية) بمعنى (القراءة) مروي عن ابن عباس في نسخة علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. ورواها عليّ بن صالح كاتب الليث عن معاوية بن صالح عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس. وقد علم ما للناس في ابن أبي صالح كاتب الليث، وأن المحققين على تضعيفه. انتهى.
وهذا ما في الرواية عن ابن عباس وهي أصل هذه الفتنة وقد رأيت أن المحققين يضعفون راويها. وأما قصة الغرانيق، فمع ما فيها من الاختلاف، فقد طعن فيها غير واحد من الأئمة، حتى قال ابن إسحاق: إنها من وضع الزنادقة. كما تقدم عن الرازيّ، ونحوه عن القاضي عياض رحمه الله، من وهنها وسقوطها من عدة أوجه.
وأما ما ذكره ابن حجر من أن القصة رويت مرسلة من طرق على شرط الصحيح، وأنه يحتج بها من يرى الاحتجاج بالمرسل، فقد ذهب عليه كما قال في الإبريز أن العصمة من العقائد التي يطلب فيها اليقين. فالحديث الذي يريد خرمها ونقضها، لا يقبل على أي وجه جاء. وقد عدّ الأصوليون الخبر الذي يكون على تلك الصفة، من الأخبار التي يجب القطع بكذبها. هذا لو فرض اتصال الحديث، فما ظنك بالمراسيل؟ وإنما الخلاف في الاحتجاج بالمرسل وعدم الاحتجاج به، فيما هو من قبيل الأعمال وفروع الأحكام، لا في أصول العقائد ومعاقد الإيمان بالمرسل وما جاءوا به. فهي هفوة من ابن حجر يغفرها الله له.
هذا ما قاله الأئمة، جزاهم الله خيرا، في بيان فساد هذه القصة، وأنها لا أصل لها. ولا عبرة برأى من خالفهم. فلا يعتد بذكرها في بعض كتب التفسير، وإن بلغ أربابها من الشهرة ما بلغوا. وشهرة المبطل في بطله، لا تنفخ القوة في قوله. ولا تحمل على الأخذ برأيه.
ثم قال الأستاذ رحمه الله: والآن أرجع إلى تفسير الآيات على الوجه الذي تحتملها ألفاظها وتدل عليه عباراتها. والله أعلم:
لا يخفى على كل من يفهم اللغة العربية، وقرأ شيئا من القرآن، أن قوله تعالى وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ الآيات، يحكي قدرا قدّر للمرسلين كافة، لا يعدونه ولا يقفون دونه. ويصف شنشنة عرفت فيهم، وفي أممهم. فلو صح ما قال أولئك المفسرون لكان المعنى: أن جميع الأنبياء والمرسلين قد سلط الشيطان عليهم فخلط في الوحي المنزل إليهم. ولكنه بعد هذا الخلط ينسخ الله كلام
263
الشيطان ويحكم الله آياته إلخ، وهذا من أقبح ما يتصور متصور في اختصاص الله تعالى لأنبيائه، واختيارهم من خاصة أوليائه! فلندع هذا الهذيان، ولنعد إلى ما نحن بصدده.
ذكر الله لنبيه حالا من أحوال الأنبياء والمرسلين قبله، ليبين له سنته فيهم.
وذلك بعد أن قال: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ [الحج: ٤٢]، إلى آخر الآيات ثم قال: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ [الحج:
٤٩- ٥٢]، إلخ، فالقصص السابق كان في تكذيب الأمم لأنبيائهم. ثم تبعه الأمر الإلهيّ بأن يقول النبي ﷺ لقومه: إنني لم أرسل إليكم إلا لأنذركم بعاقبة ما أنتم عليه، ولأبشر المؤمنين بالنعيم. وأما الذين يسعون في الآيات والأدلة التي أقيمها على الهدى وطرق السعادة، ليحوّلوا عنها الأنظار ويحجبوها عن الأبصار، ويفسدوا أثرها الذي أقيمت لأجله، ويعاجزوا بذلك النبيّ ﷺ والمؤمنين، أي يسابقوهم ليعجزوهم ويسكتوهم عن القول بذلك. وذلك بلعبهم بالألفاظ وتحويلها عن مقصد قائلها، كما يقع عادة من أهل الجدل والمماحكة- هؤلاء الضالون المضلون هم أصحاب الجحيم. وأعقب ذلك بما يفيد أن ما ابتلي به النبيّ ﷺ من المعاجزة في الآيات، قد ابتلي به الأنبياء السابقون. فلم يبعث نبي في أمة إلا كان له خصوم يؤذونه بالتأويل والتحريف، ويضادّون أمانيه، ويحولون بينه وبين ما يبتغي، بما يلقون في سبيله من العثرات. فعلى هذا المعنى الذي يتفق مع ما لقيه الأنبياء جميعا، يجب أن تفسر الآية. وذلك يكون على وجهين:
الأول- أن يكون (تمنّى) بمعنى (قرأ) و (الأمنية) بمعنى (القراءة) وهو معنى قد يصح. وقد ورد استعمال اللفظ فيه قال حسان بن ثابت في عثمان رضي الله عنهما:
تمنّى كتاب الله أوّل ليله وآخره لاقى حمام المقادر
وقال آخر:
تمنّى كتاب الله أوّل ليله تمنّي داود الزبور على رسل
غير أن الإلقاء لا يكون على المعنى الذي ذكروه، بل على المعنى المفهوم من قولك (ألقيت في حديث فلان) إذا أدخلت فيه ما ربما يحتمله لفظه، ولا يكون قد أراده. أو نسبت إليه ما لم يقله تعللا بأن ذلك الحديث يؤدي إليه. وذلك من عمل
264
المعاجزين الذين ينصبون أنفسهم لمحاربة الحق، يتبعون الشبهة، ويسعون وراء الريبة، فالإلقاء بهذا المعنى دأبهم، ونسبة الإلقاء إلى الشيطان لأنه مثير الشبهات بوساوسه، مفسد القلوب بدسائسه، وكل ما يصدر من أهل الضلال يصح أن ينسب إليه. ويكون المعنى: وما أرسلنا قبلك من رسول ولا نبيّ إلا إذا حدّث قومه عن ربّه، أو تلا وحيا أنزل إليه في هدى لهم، قام في وجهه مشاغبون، يحوّلون ما يتلوه عليهم عن المراد منه. ويتقوّلون عليه ما لم يقله، وينشرون ذلك بين الناس، ليبعدوهم عنه، ويعدلوا بهم عن سبيله، ثم يحق الله الحق ويبطل الباطل. وما زال الأنبياء يصبرون على ما كذّبوا وأوذوا، ويجاهدون في الحق، ولا يعتدّون بتعجيز المعجّزين، ولا بهزء المستهزئين إلى أن يظهر الحق بالمجاهدة، وينتصر على الباطل بالمجالدة. فينسخ الله تلك الشبه ويجتثها من أصولها، ويثبت آياته ويقررها. وقد وضع الله هذه السنّة في الناس ليتميز الخبيث من الطيب، فيفتتن الذين في قلوبهم مرض، وهم ضعفاء العقول، بتلك الشبه والوساوس، فينطلقون وراءها. ويفتتن بها القاسية قلوبهم من أهل العناد والمجاحدة، فيتخذونها سندا يعتمدون عليها في جدلهم. ثم يتمحص الحق عند الذين أوتوا العلم، ويخلص لهم بعد ورود كل شبهة عليه، فيعلمون أنه الحق من ربك فيصدقون به، فتخبت وتطمئن له قلوبهم. والذين أوتوا العلم هم الذين رزقوا قوة التمييز بين البرهان القاطع الذي يستقرّ بالعقل في قرارة اليقين. وبين المغالطات وضروب السفسطة التي تطيش بالفهم، وتطير به مع الوهم، وتأخذ بالعقل تارة ذات الشمال وأخرى ذات اليمين. وسواء أرجعت الضمير في (أنه الحق) إلى ما جاءت به الآيات المحكمات من الهدى الإلهيّ أو إلى القرآن، وهو أجلّها، فالمعنى من الصحة على ما يراه أهل التمكين. هؤلاء الذين أوتوا العلم هم الذين آمنوا. وهم الذين هداهم الله إلى الصراط المستقيم. ولم يجعل للوهم عليها سلطانا، فيحيد بهم عن ذلك النهج القويم. وأما الذين كفروا وهم ضعفاء العقول ومرضى القلوب، أو أهل العناد وزعماء الباطل وقساة الطباع، الذين لا تلين أفئدتهم ولا تبش للحق قلوبهم، فأولئك لا يزالون في ريب في الحق أو الكتاب. لا تستقر عقولهم عليه، ولا يرجعون في متصرفات شؤونهم إليه. حتى تأتي ساعة هلاكهم بغتة، فيلاقوا حسابهم عند ربهم. أو إن امتد بهم الزمن، ومادّهم الأجل، فسيصيبهم عذاب يوم عقيم. يوم حرب يسامون فيه سوء العذاب، القتل أو الأسر. ويقذفون إلى مطارح الذل وقرارات الشر.
فلا ينتج لهم من ذلك اليوم خير ولا بركة، بل يسلبون ما كان لديهم ويساقون إلى مصارع الهلكة. وهذا هو العقم في أتم معانيه وأشأم درجاته. ما أقرب هذه الآيات في
265
مغازيها، إلى قوله تعالى في سورة آل عمران: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ، فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا، وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ [آل عمران: ٧]، وقد قال بعد ذلك إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ
[آل عمران: ١١٦]، ثم قال: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ [آل عمران: ١٢]، إلخ الآيات. وكأن إحدى الطائفتين من القرآن شرح للأخرى. فالذين في قلوبهم زيغ هم الذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم. والراسخون في العلم هم الذين أوتوا العلم، وهؤلاء هم الذين يعلمون أنه الحق من ربهم. فيقولون آمنا به كلّ من عند ربنا، فتخبت له قلوبهم، وإن الله لهاديهم إلى صراط مستقيم. وأولئك هم الذين يفتتنون بالتأويل، ويشتغلون بقال وقيل بما يلقي إليهم الشيطان، ويصرفهم عن مرامي البيان، ويميل بهم عن محجة الفرقان. وما يتكئون عليه من الأموال والأولاد، لن يغني عنهم من الله شيئا.
فستوافيهم آجالهم، وتستقبلهم أعمالهم. فإن لم يوافهم الأجل على فراشهم.
فسيغلبون في هراشهم. وهذه سنة جميع الأنبياء مع أممهم، وسبيل الحق مع الباطل من يوم أن رفع الله الإنسان إلى منزلة يميز فيها بين سعادته وشقائه، وبين ما يحفظه وما يذهب ببقائه. وكما لا مدخل لقصة الغرانيق في آيات آل عمران، لا مدخل لها في آيات سورة الحج، هذا هو الوجه الأول في تفسير الآيات وَما أَرْسَلْنا إلى آخرها، على تقدير أن (تمنّى) بمعنى (قرأ) وأن (الأمنية) بمعنى (القراءة) والله أعلم.
الوجه الثاني في تفسير الآيات- أن التمني على معناه المعروف. وكذلك الأمنية. وهي أفعولة بمعنى المنية. وجمعها. أمانيّ كما هو مشهور. قال أبو العباس أحمد بن يحيى: التمني حديث النفس بما يكون وبما لا يكون. قال: والتمني سؤال الرب.
وفي الحديث (إذا تمنى أحدكم فليتكثر فإنما يسأل ربه)
وفي رواية (فليكثر) قال ابن الأثير: (التمني) تشهّي حصول الأمر المرغوب فيه، وحديث النفس بما يكون وبما لا يكون. وقال أبو بكر: تمنيت الشيء إذا قدرته وأحببت أن يصير إليّ. وكل ما قيل في معنى التمني على هذا الوجه، فهو يرجع إلى ما ذكرناه ويتبعه معنى الأمنية. ما أرسل الله من رسول ولا نبيّ ليدعو قوما إلى هدي جديد، أو شرع سابق شرعه لهم، ويحملهم على التصديق بكتاب جاء به نفسه إن كان رسولا
266
أو جاء به غيره إن كان نبيا بعث ليحمل الناس على اتباع من سبقه، إلا وله أمنية في قومه. وهي أن يتبعوه وينحازوا إلى ما يدعوهم إليه، ويستشفوا من دائهم بدوائه، ويعصوا أهواءهم بإجابة ندائه. وما من رسول أرسل إلا وقد كان أحرص على إيمان أمته. وتصديقهم برسالته، منه على طعامه الذي يطعم، وشرابه الذي يشرب، وسكنه الذي يسكن إليه. ويغدو عنه ويروح علينا. وقد كان نبينا ﷺ من ذلك في المقام الأعلى، والمكان الأسمى. قال الله تعالى: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً [الكهف: ٦]، وقال وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف: ١٠٣]، وقال: أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [يونس: ٩٩]، وفي الآيات ما يطول سرده، مما يدل على أمانيه ﷺ المتعلقة بهداية قومه، وإخراجهم من ظلمات ما كانوا فيه، إلى نور ما جاء به. وما من رسول ولا نبيّ إلا إذا تمنى هذه الأمنية السامية، ألقى الشيطان في سبيله العثرات، وأقام بينه وبين مقصده العقبات. ووسوس في صدور الناس. وسلبهم الانتفاع بما وهبوا من قوة العقل والإحساس، فثاروا في وجهه، وصدوه عن قصده، وعاجزوه حتى لقد يعجزونه، وجادلوه بالسلاح والقول حتى لقد يقهرونه. فإذا ظهروا عليه، والدعوة في بدايتها،.
وسهل عليهم إيذاؤه وهو قليل الأتباع ضعيف الأنصار، ظنوا الحق من جانبهم، وكان فيما ألقوه من العوائق بينه وبين ما عمد إليه، فتنة لهم.
غلبت سنة الله في أن يكون الرسل من أواسط قومهم، أو من المستضعفين فيهم، ليكون العامل في الإذعان بالحق محض الدليل وقوة البرهان. وليكون الاختيار المطلق هو الحامل لمن يدعى إليه على قبوله. ولكيلا يشارك الحق الباطل في وسائله، أو يشاركه في نصب شراكه وحبائله. أنصار الباطل في كل زمان، هم أهل الأنفة والقوة والجاه والاعتزاز بالأموال والأولاد والعشيرة والأعوان، والغرور بالزخارف.
والزهو بكثرة المعارف. وتلك الخصال إنما تجتمع كلها أو بعضها في الرؤساء وذوي المكانة من الناس فتذهلهم عن أنفسهم، وتصرف نظرهم عن سبيل رشدهم. فإذا دعا إلى الحق داع، عرفته القلوب النقية من أوضار هذه الفواتن، وفزعت إليه النفوس الصافية والعقول المستعدة لقبوله، بخلوصها من هذه الشواغل. وقلما توجد إلا عند الضعفاء وأهل المسكنة فإذا التف هؤلاء حول الداعي وظافروه على دعوته، قام أولئك المغرورون يقولون ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ [هود: ٢٧]، فإذا استدرجهم الله على سنته، وجعل الجدال بينهم وبين المؤمنين سجالا، افتتن الذين
267
في قلوبهم مرض من أشياعهم، وافتتنوا هم بما أصابوا من الظفر في دفاعهم. ولكن الله غالب على أمره. فيمحق ما ألقاه الشيطان من هذه الشبهات، ويرفع هذه الموانع وتلك العقبات، ويهب السلطان لآياته فيحكمها ويثبت دعائمها، وينشئ من ضعف أنصارها قوة، ويخلف لهم من ذلتهم عزة، وتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الشيطان هي السفلى فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً، وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ [الرعد: ١٧]، وفي حكاية هذه السنة الإلهية التي أقام عليها الأنبياء والمرسلين، تسلية لنبينا ﷺ عما كان يلاقي من قومه، ووعد له بأنه سيكمل له دينه، ويتم عليه وعلى المؤمنين نعمته، مع استلفاتهم إلى سيرة من سبقهم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ [العنكبوت: ٢]، أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ، مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ، أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:
٢١٤].
هذا هو التأويل الثاني في معنى الآية. يدل عليه ما سبق من الآيات، ويرشد إلى سياق القصص السابق في قوله وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ [الحج:
٤٢]، إلخ. وأنت ترى أن قصة الغرانيق لا تتفق مع هذا المعنى الصحيح.
وهناك تأويل ثالث ذكره صاحب الإبريز. وإني أنقله بحروفه، وما هو بالبعيد عن هذا بكثير. قال (بعد ذكر أمانيّ الأنبياء في أممهم، وطمعهم في إيمانهم، وشأن نبينا ﷺ في ذلك، على نحو يقرب مما ذكرناه في الوجه الثاني) :
ثم إن الأمة تختلف كما قال تعالى: وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ [البقرة: ٢٥٣]، فأما من كفر فقد ألقى إليه الشيطان الوساوس القادحة له في الرسالة، الموجبة لكفره. وكذا المؤمن أيضا لا يخلو أيضا من وساوس، لأنها لازمة للإيمان بالغيب في الغالب، وإن كانت تختلف في الناس بالقلة والكثرة، وبحسب المتعلقات إذا تقرر هذا فمعنى (تمنى) أنه يتمنى لهم الإيمان ويحب لهم الخير والرشد والصلاح والنجاح، فهذه أمنية كل رسول ونبيّ. وإلقاء الشيطان فيها، يكون بما يلقيه في قلوب أمة الدعوة من الوساوس الموجبة لكفر بعضهم، ويرحم الله المؤمنين فينسخ ذلك من قلوبهم، ويحكم فيها الآيات الدالة على الوحدانية والرسالة، ويبقي ذلك عزّ وجل في قلوب المنافقين والكافرين ليفتتنوا به. فخرج من
268
هذا أن الوساوس تلقى أولا في قلوب الفريقين معا، غير أنها لا تدوم على المؤمنين، وتدوم على الكافرين. انتهى.
وأنت إذا نظرت بين هذا التفسير وبين ما سبقه، تتبين الأحق بالترجيح. ولو صح ما قاله نقلة قصة الغرانيق لارتفعت الثقة بالوحي وانتقض الاعتماد عليه، كما قاله القاضي البيضاويّ وغيره. ولكان الكلام في الناسخ كالكلام في المنسوخ. يجوز أن يلقي فيه الشيطان ما يشاء، ولانهدم أعظم ركن للشرائع الإلهية وهو العصمة. وما يقال في المخرج عن ذلك، ينفر منه الذوق ولا ينظر إليه العقل على أن وصف العرب لآلهتهم بأنها الغرانيق العلى لم يرد لا في نظمهم ولا في خطبهم. ولم ينقل عن أحد أن ذلك الوصف كان جاريا على ألسنتهم. إلا ما جاء في معجم ياقوت غير مسند ولا معروف بطريق صحيح. وهذا يدل على أن القصة من اختراع الزنادقة، كما قال ابن إسحاق. وربما كانت منشأ ما أورده ياقوت. ولا يخفى أن الغرنوق والغرنيق لم يعرف في اللغة إلا اسما لطائر مائي أسود أو أبيض. أو هو اسم الكركيّ أو طائر يشبهه والغرنيق (بالضم وكزنبور وقنديل وسموأل وفردوس وقرطاس وعلابط) معناه الشاب الأبيض الجميل. وتسمى الخصلة من الشعر المفتلة (الغرنوق) كما يسمى به ضرب من الشجر. ويطلق الغرنوق والغرانيق على ما يكون في أصل العوسج اللين النبات.
ويقال (لمة غرانقة) و (غرانقية) أي ناعمة تفيئها الريح. أو الغرنوق الناعم المستتر من النبات إلخ. ولا شيء في هذه المعاني يلائم الآلهة والأصنام، حتى يطلق عليها في فصيح القول الذي يعرض على ملوك البلاغة وأمراء الكلام. فلا أظنك تعتقد إلا أنها من مفتريات الأعاجم ومختلقات الملبسين، ممن لا يميز بين حر الكلام، وما استعبد منه لضعفاء الأحلام. فراج ذلك على من يذهله الولوع بالرواية، عما تقتضيه الدراية رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران: ٨]. انتهى كلام الأستاذ رحمه الله.
وممن جزم بوضع هذه القصة جزما باتّا، الإمام ابن حزم رحمه الله، حيث قال في كتابه (الملل) في الرد على من لم يوجب العصمة على الأنبياء ما مثاله: استدلوا بالحديث الكاذب الذي لم يصح قط في قراءته عليه السلام في وَالنَّجْمِ إِذا هَوى وذكروا تلك الزيادة المفتراة التي تشبه من وضعها من قولهم (وإنها لهي الغرانيق العلى وإن شفاعتها لترتجى) ثم قال بعد: وأما الحديث الذي فيه (الغرانيق) فكذب بحت موضوع. لأنه لم يصح قط من طريق النقل، ولا معنى للاشتغال به، إذ وضع الكذب لا يعجز عنه أحد. وأما قوله تعالى وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ
269
إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ
الآية، فلا حجة لهم فيها. لأن الأمانيّ الواقعة في النفس لا معنى لها. وقد تمنى النبيّ ﷺ إسلام عمه أبي طالب، ولم يرد الله عزّ وجلّ كون ذلك. فهذه الأمانيّ التي ذكرها الله عزّ وجلّ لا سواها، وحاشا لله أن يتمنى نبيّ معصية. وبالله تعالى التوفيق.
وهذا الذي قلنا هو ظاهر الآية دون مزيد تكلف، ولا يحل خلاف الظاهر إلا بظاهر آخر وبالله تعالى التوفيق. انتهى، وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (٢٢) : آية ٥٥]
وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (٥٥)
وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ أي في شك وجدال من التنزيل الكريم، لما طبع على قلوبهم حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ أي القيامة بَغْتَةً أي فجأة أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ أي يوم لا يوم بعده. كأن كل يوم يلد ما بعده من الأيام، فما لا يوم بعده يكون عقيما. والمراد به الساعة أيضا. كأنه قيل (أو يأتيهم عذابها) فوضع ذلك موضع ضميرها لمزيد التهويل. أفاده أبو السعود. أي لأنه بمعنى (شديد) لا مثل له في شدته. وتقدم فيما نقلنا وجه آخر وهو أن المعنى: لا يزال الذين كفروا في ريب من الحق أو الكتاب، لا تستقر عقولهم عليه حتى تأتي ساعة هلاكهم بغتة، فيلاقون حسابهم عند ربهم. أو إن امتد بهم الزمن، ومادّهم الأجل، فسيصيبهم عذاب يوم عقيم. يوم حرب يسامون فيه سوء عذاب القتل أو الأسر. فلا ينتج لهم من ذلك اليوم خير ولا بركة. بل يسلبون ما كان لديهم، ويساقون إلى مصارع الهلكة، وهذا هو العقم في أتم معانيه وأشأم درجاته. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (٢٢) : آية ٥٦]
الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٥٦)
الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ أي يوم تزول مريتهم لِلَّهِ أي وحده، بحيث لا يكون لأحد تصرف لا حقيقة ولا صورة يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ أي بالمجازاة، ثم فسر الحكم
بقوله تعالى فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (٢٢) : الآيات ٥٧ الى ٥٩]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٥٧) وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٥٨) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (٥٩)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أي في الجهاد أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً أي من الجنة ونعيمها وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ، وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ.
قال في الإكليل: استدل بقوله تعالى ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا فضالة بن عبيد الأنصاري الصحابيّ على أن المقتول والميت في سبيل الله سواء في الفضل. أخرجه ابن أبي حاتم وهو رأي قاله جماعة. وخالفه آخرون ففضلوا المقتول وأخرجه ابن أبي حاتم عن سليمان قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: (فمن مات مرابطا أجرى الله عليه مثل ذلك الأمر، وأجرى عليه الرزق، وأمن من الفتانين. واقرءوا ما شئتم وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ إلى حَلِيمٌ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (٢٢) : آية ٦٠]
ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٦٠)
ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ أي ومن جازى ظالما بمقدار ظلمه، ولم يزد في الاقتصاص منه، ثم تعدى عليه الظالم ثانيا، لينصرن الله ذلك المظلوم. وإنما سمي الابتداء بالعقاب، الذي هو الجزاء، للازدواج والمشاكلة. أو لأنه سبب الجزاء وفي قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ تعريض بالحث على العفو والمغفرة. فإنه تعالى مع كمال قدرته، لمّا كان يعفو ويغفر، فغيره أولى بذلك. وتنبيه على قدرته على النصر. إذ لا يوصف بالعفو إلا القادر على ضده.
فظهر سر مطابقة (العفوّ الغفور) لهذا الموضع.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (٢٢) : الآيات ٦١ الى ٦٢]
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٦١) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٦٢)
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ أي ذلك النصر بسبب أنه قادر. ومن آيات قدرته البالغة، إيلاج أحد الملوين في الآخر، بزيادته في أحدهما ما ينقص من ساعات الآخر وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ أي ذلك الصنع الباهر بأنه المعبود الحق الذي لا مثل له ولا ندّ، وأن الذي يدعوه المشركون هو الباطل الذي لا يقدر على صنعة شيء. بل هو المصنوع. أي فتتركون عبادة من منه النفع وبيده الضر، وتعبدون الباطل الذي لا تنفعكم عبادته. وأن الله هو ذو العلوّ على كل شيء، والعظيم الذي كل شيء دون عظمته، فلا أعلى منه ولا أكبر. ثم أشار إلى آية من آيات صنعه الباهر، تقريرا لألوهيته، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (٢٢) : الآيات ٦٣ الى ٦٥]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (٦٣) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٦٥)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ أي جعلها معدّة لمنافعكم وَالْفُلْكَ أي وسخر لكم البحر، حتى أن الفلك تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ أي بتيسيره لمنافعكم وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ أي بمشيئته وقدرته. أي ما يمسكها ويحفظها إلا ذلك، رحمة بكم، فاشكروا آلاءه وحده إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ أي في آلائه وآياته المذكورة، وما أبان فيها من طرق الاستدلال على وحدانيته، لا إله إلا هو. وكذلك من آيات ألوهيته ما تضمنه قوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (٢٢) : آية ٦٦]
وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ (٦٦)
وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ أي جحود للنعم، بعبادة غير بارئها. أو إشراكه معه، مع أنه هو الخالق لكل ذلك، والقادر عليه، وغيره لا يملك شيئا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (٢٢) : آية ٦٧]
لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (٦٧)
لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا أي وضعنا مَنْسَكاً أي شريعة ومتعبدا هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ أي في ذلك الجعل والوضع والحوار في تنوعه في كل أمة، وعدم وحدته، أو في أمر ما جئتهم به، زعما بأنه يستغني عنه بما شرع قبله. لأنه جهل بحكمته تعالى في تكوين الأمم وتربيتها بالشرائع المناسبة لزمنها ومكانها، وحياتها ومنشئها. ولذلك كانت هذه الشريعة أهدى الشرائع للامتنان بها، حينما بلغ الإنسان أعلى طور الرشد ولذلك وجبت الدعوة إليها خاصة كما قال سبحانه وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ أي اثبت على دينك ثباتا لا يطمعون أن يخدعوك عنه. أو معناه: ثابر على الدعوة إلى ما أمرت به. فلا تضرك منازعتهم. وعلى الكل اتباعك وعدم مخالفتك، لاستقرار الأمر على شرعتك. لأنها الطريق القويم.
هذا، وقال ابن جرير: أصل المنسك في كلام العرب، الموضع المعتاد الذي يعتاده الرجل ويألفه، لخير أو شر. يقال (إن لفلان منسكا يعتاده) يراد مكانا يغشاه ويألفه لخير أو شر. وقد اختلف أهل التأويل في معنى (النسك) هنا، فقيل: عيدا.
وقيل: إراقة الدم (ثم استظهر) أن المعنى إراقة الدم أيام النحر بمنى. لأن المناسك التي كان المشركون جادلوا فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت إراقة الدم في هذه الأيام، أي فلا ينازعك هؤلاء المشركون في ذبحك ومنسكك بقولهم (أتأكلون ما قتلتم، ولا تأكلون الميتة التي قتلها الله) ؟ انتهى.
وعليه، فيكون المراد بالجعل في قوله تعالى جَعَلْنا الجعل القدريّ لا التشريعيّ. كما قال: لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها
[البقرة: ٤٨]، أي هؤلاء إنما
يفعلون هذا عن قدر الله وإرادته. فلا تتأثر بمنازعتهم لك، ولا يصرفك ذلك عما أنت عليه من الحق. وهذا كقوله تعالى: وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ [القصص: ٨٧]، أشار له ابن كثير. ونقل الرازيّ عن ابن عباس، في رواية عطاء، أن المراد بالمنسك الشريعة والمنهاج. قال: وهو اختيار القفال، لقوله تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً [المائدة: ٤٨]، وهو الذي آثرناه أولا لظهوره فيه. والله أعلم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (٢٢) : الآيات ٦٨ الى ٧١]
وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (٦٨) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٦٩) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (٧٠) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٧١)
وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ أي من أمر الدين أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ، إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً أي حجة وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ أي من ضرورة العقل أو استدلاله وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ أي يدفع عنهم ما يراد بهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (٢٢) : الآيات ٧٢ الى ٧٤]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٢) يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (٧٣) ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٧٤)
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ أي حال كونها واضحة الدلالة على حقيقتها وما تضمنته تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ أي الإنكار أو الفظيع من التهجم
والبسور. أو الشر الذي يقصدونه بظهور مخايله يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا أي يبطشون بهم من فرط الغيظ والغضب. قال في (فتح البيان) : وكذلك أهل البدع المضلة، إذا سمع الواحد منهم ما يتلوه العالم عليه، من آيات الكتاب العزيز أو من السنة الصحيحة، مخالفا لما اعتقده من الباطل، رأيت في وجهه من المنكر، ما لو تمكن من أن يسطو بذلك لفعل به ما لا يفعله بالمشركين والله يقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ، النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ «أي بيّن» مَثَلٌ أي حال مستغرب فَاسْتَمِعُوا لَهُ أي تدبروه حق تدبره. فإن الاستماع بلا تدبر وتعقل لا ينفع إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني الأصنام لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ أي لخلقه متعاونين. وتخصيصه الذباب، لمانته وضعفه واستقذاره. وهذا من أبلغ ما أنزل في تجهيل المشركين. حيث وصفوا بالإلهية التي تقتضي الاقتدار على المقدورات كلها، والإحاطة بالمعلومات عن آخرها، صورا وتماثيل، يستحيل منها أن تقدر على أقل ما خلقه الله تعالى وأذله، ولو اجتمعوا لذلك وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ أي هذا الخلق الأقل الأذل، لو اختطف منهم شيئا فاجتمعوا على أن يستخلصوه منه، لم يقدروا ضَعُفَ الطَّالِبُ أي الصنم يطلب ما سلب منه وَالْمَطْلُوبُ أي الذباب بما سلب. وهذا كالتسوية بينهم وبين الذباب في الضعف. ولو حققت وجدت الطالب أضعف وأضعف. فإن الذباب حيوان وهو جماد. وهو غالب وذلك مغلوب.
وجوز أن يراد بالطالب عابد الصنم، وبالمطلوب معبوده. قيل: وهو أنسب بالسياق لأنه لتجهيلهم وتحقير معبوداتهم. فناسب إرادتهم والأصنام من هذا التذييل. واختار الوجه الأول الزمخشريّ. لما فيه من التهكم، بجعل الصنم طالبا على الفرض تهكما وأنه أضعف من الذباب لأنه مسلوب وجماد، وذلك حيوان بخلافه.
وهذه الجملة التذييلية إخبار أو تعجب. وقوله تعالى ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ أي ما عرفوه حق معرفته، حيث أشركوا به ما لا يمتنع من الذباب ولا ينتصف منه إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ أي قادر وغالب. فكيف يتخذ العاجز المغلوب شبيها به. أو لقويّ بنصر أوليائه، عزيز ينتقم من أعدائه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (٢٢) : الآيات ٧٥ الى ٧٦]
اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٧٥) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٧٦)
اللَّهُ يَصْطَفِي أي يختار مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ أي فلا نكران لاصطفائه من البشر من شاء لرسالته. ولا وجه لقولهم: أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا [ص: ٨]، قال أبو السعود: كأنه تعالى. لما قرر وحدانيته، في الألوهية، ونفى أن يشاركه فيها شيء من الأشياء بيّن أن له عبادا مصطفين للرسالة، يتوسل بإجابتهم والاقتداء بهم، إلى عبادته عزّ وجلّ. وتقدمه بنحوه البيضاويّ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ أي ما عملوه وما سيعملونه وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ أي لأنه مالكها. فلا يسأل عما يفعل، من الاصطفاء وغيره، وهم يسألون.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (٢٢) : آية ٧٧]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٧٧)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا أي صلّوا. وعبر عن الصلاة بهما، لأنهما أعظم أركانها. أو اخضعوا له تعالى، وخروا له سجدا، لا لغيره وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ أي تحرّوه. كصلة الأرحام ومواساة الأيتام والحض على الإطعام والاتصاف بمكارم الأخلاق لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي لكي تسعدوا وتفوزوا بالجنة.
تنبيهات:
الأول- لم يختلف العلماء في السجدة الأولى من هذه السورة. واختلفوا في السجدة الثانية- هذه- فروي عن عمر وعليّ وابن عمر وابن مسعود وابن عباس وأبي الدرداء وأبي موسى أنهم قالوا: في الحج سجدتان. وبه قال ابن المبارك والشافعيّ وأحمد وإسحاق، يدل عليه ما
روي «١» عن عقبة بن عامر قال: قلت: يا رسول الله أفي الحج سجدتان؟ قال: نعم ومن لم يسجدهما فلا يقرأهما. أخرجه الترمذيّ وأبو داود
. وعن عمر بن الخطاب «٢» أنه قرأ سورة الحج فسجد فيها سجدتين وقال: إن هذه السورة فضلت بسجدتين. أخرجه مالك في (الموطأ) وذهب قوم إلى أن في الحج سجدة واحدة، وهي الأولى، وليست هذه بسجدة وهو قول الحسن وسعيد بن
(١) أخرجه أبو داود في: سجود القرآن، ١- باب تفريع أبواب السجود، وكم سجدة في القرآن، حديث رقم ١٤٠٢.
وأخرجه الترمذي في: الجمعة، ٥٤- باب ما جاء في السجدة في الحج.
(٢) أخرجه في الموطأ في: ١٥- باب الأمر بالوضوء لمن مسّ القرآن، حديث رقم ١٣.
276
المسيب وسعيد بن جبير وسفيان الثوريّ وأبي حنيفة ومالك. بدليل أنه قرن السجود بالركوع. فدل ذلك أنه سجدة صلاة، لا سجدة تلاوة- كذا في (لباب التأويل) أي لأن المعهود في مثله من كل آية، قرن الأمر بالسجود فيها بالركوع، كونه أمرا بما هو ركن للصلاة، بالاستقراء نحو وَاسْجُدِي وَارْكَعِي [آل عمران: ٤٣]، وإذا جاء الاحتمال سقط الاستدلال.
وما روي من الحديث المذكور، قال الترمذيّ رحمه الله: إسناده ليس بالقويّ.
وكذا قال غيره كما في (شرح الهداية) لابن الهمام.
قال الخفاجيّ: لكن يرد عليه ما في (الكشف) أن الحق أن السجود حيث ثبت، ليس من مقتضى خصوص في تلك الآية، لأن دلالة الآية غير مقيدة بحال التلاوة البتة. بل إنما ذلك بفعل رسول الله ﷺ أو قوله. فلا مانع من كون الآية دالة على فرضية سجود الصلاة. ومع ذلك يشرع السجود عند تلاوتها، لما ثبت من الرواية فيه.
الثاني- قال في (اللباب) اختلف العلماء في عدّة سجود التلاوة. فذهب الشافعي وأحمد وأكثر أهل العلم إلى أنها أربع عشرة سجدة. لكن الشافعي قال: في الحج سجدتان. وأسقط سجدة (ص). وقال أبو حنيفة في الحج سجدة. وأثبت سجدة (ص) وبه قال أحمد، في إحدى الروايتين عنه. فعنده أن السجدات خمس عشرة سجدة. وذهب قوم إلى أن المفصل ليس فيه سجود. يروى ذلك عن أبيّ بن كعب وابن عباس. وبه قال مالك.
فعلى هذا يكون سجود القرآن إحدى عشرة سجدة. يدل عليه ما
روي عن أبي الدرداء «١» أن النبيّ ﷺ قال: في القرآن إحدى عشرة سجدة. أخرجه أبو داود
وقال:
إسناده واه. ودليل من قال (في القرآن خمس عشرة سجدة) ما
روي عن عمرو بن العاص قال: أقرأني رسول الله ﷺ في القرآن خمس عشرة سجدة. منها ثلاث في المفصل. وفي سورة الحج سجدتان أخرجه أبو داود «٢».
وصح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سجدنا مع رسول الله ﷺ في اقْرَأْ وإِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ أخرجه مسلم «٣»
. انتهى.
(١) أخرجه الترمذي في: الجمعة، ٤٧- باب ما جاء في سجود القرآن.
(٢) أخرجه في: السجود، ١- باب تفريع أبواب السجود، وكم سجدة في القرآن، حديث رقم ١٤٠١.
(٣) أخرجه الترمذي في: الجمعة، ٥٠- باب ما جاء في السجدة في اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ وإِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ.
277
والخمس عشرة: في الأعراف، والرعد، والنحل، والإسراء، ومريم، والحج، والفرقان، والنمل، والم تنزيل، وص، وحم، السجدة، والنجم، والانشقاق، واقرأ.
والمفصل من سورة الحجرات إلى آخر القرآن، في أصح الأقوال. سمي مفصلا لكثرة الفصل بين سوره.
الثالث- سجود التلاوة سنة للقاري والمستمع. وبه قال مالك والشافعي وأحمد.
لقول ابن عمر: كان النبيّ ﷺ يقرأ علينا السورة فيها السجدة، فيسجد ونسجد معه، حتى ما يجد أحدنا موضعا لجبهته. رواه الشيخان «١».
وقال عمر «٢» : إن الله لم يفرض علينا السجود إلا أن نشاء. رواه البخاري وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (٢٢) : آية ٧٨]
وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٧٨)
وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ عامّ في جهاد الكفار والظلمة والنفس. و (حق) منصوب على المصدرية. والأصل (جهادا فيه حقا) فعكس، وأضيف الحق إلى الجهاد مبالغة، ليدل على أن المطلوب القيام بمواجبه وشرائطه على وجه التمام والكمال بقدر الطاقة. وعن الرضيّ: إن (كلّ) و (جدّ) و (حقّ) إذا وقعت تابعة لاسم جنس، مضافة لمثل متبوعها لفظا ومعنى، نحو (أنت عالم كلّ عالم) أو (جدّ عالم) أو (حق عالم) أفادت أنه تجمع فيه من الخلال ما تفرّق في الكل. وأن ما سواه باطل أو هزل. وقوله تعالى: هُوَ اجْتَباكُمْ أي اختاركم لدينه ولنصرته. وفيه تنبيه
(١) أخرجه البخاري في: سجود القرآن، ٨- باب من سجد لسجود القارئ، حديث رقم ٥٩٢.
وأخرجه مسلم في: المساجد ومواضع الصلاة، حديث رقم ١٠٣.
(٢)
أخرجه البخاري في: سجود القرآن، ١٠- باب من رأى أن الله عز وجل لم يوجب السجود، حديث رقم ٥٩٣ ونصه: «يا أيها الناس إنا نمرّ بالسجود، فمن سجد فقد أصاب. ومن لم يسجد فلا إثم عليه».
278
على المقتضى للجهاد والداعي إليه. لأن المختار إنما يختار من يقوم بخدمته. وهي بما ذكر. ولأن من قرّ به العظيم، يلزمه دفع أعدائه ومجاهدة نفسه، بترك ما لا يرضاه وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ أي في جميع أمور الدين من ضيق، بتكليف ما يشق القيام به. كما كان على من قبلنا، فالتعريف في (الدين) للاستغراق. قال في (الإكليل) : هذا أصل القاعدة (المشقة تجلب التيسير) مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ منصوب على المصدرية، بفعل دل عليه ما قبله من نفي الحرج. بعد حذف مضاف أي وسع دينكم توسيع ملة أبيكم إبراهيم. أو على الإغراء بتقدير (اتبعوا أو الزموا) أو الاختصاص بتقدير (أعني) ونحوه. أو هو بدل أو عطف بيان مما قبله. فيكون مجرورا بالفتح، أفاده الشهاب. قال القاضي وإنما جعله أباهم لأنه أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو كالأب لأمته، من حيث إنه سبب لحياتهم الأبدية. أو لأن أكثر العرب كانوا من ذريته. فغلبوا على غيرهم.
وقال القاشاني: معنى أبوّته كونه مقدما في التوحيد، مفيضا على كل موحد، فكلهم من أولاده. وقوله تعالى: هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ أي من قبل نزول القرآن في الكتب المتقدمة. والجملة مستأنفة. وقيل: إنها كالبدل من قوله هُوَ اجْتَباكُمْ ولذا لم يعطف وَفِي هذا أي القرآن. أي فضلكم على الأمم وسماكم بهذا الاسم الأكرم وقيل: الضمير ل (إبراهيم) عليه السلام.
قال القاضي: وتسميتهم ب (مسلمين) في القرآن، وإن لم يكن منه، كان بسبب تسميته من قبل، في قوله وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ [البقرة: ١٢٨]، أي لدخول أكثرهم في الذرية. فجعل مسميا لهم مجازا. لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ أي بأنه قد بلغكم رسالات ربكم وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ أي بتبليغ الرسل رسالات الله إليهم فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ أي: وإذ خصكم بهذه الكرامة والأثرة، فاعبدوه وأنفقوا مما آتاكم بالإحسان إلى الفقراء والمساكين، وثقوا به، ولا تطلبوا النصرة والولاية إلا منه، فهو خير مولى وناصر.
279

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة المؤمنون
سميت بهم لاشتمالها على جلائل أوصافهم ونتائجها، في أولها وفي قوله:
إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ [المؤمنون: ٥٧]، إلى قوله: سابِقُونَ أفاده المهايميّ. وهي مكية. واستثنى بعضهم منها آية حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ [المؤمنون: ٦٤]، إلى قوله: مُبْلِسُونَ وآيها مائة وثماني عشرة.
وقد روى الإمام أحمد ومسلم «١» وغيرهما عن عبد الله بن السائب قال: صلّى النبيّ ﷺ بمكة الصبح. فاستفتح سورة المؤمنون. حتى إذا جاء ذكر موسى وهارون، أو ذكر عيسى، أخذته سعلة فركع.
(١) أخرجه في المسند ٣/ ٤١١.
وأخرجه البخاري تعليقا في: الأذان، ١٠٦- باب الجمع بين السورتين في الركعة.
وأخرجه مسلم في: الصلاة، حديث رقم ١٦٣.
280
Icon