تفسير سورة سبأ

لطائف الإشارات
تفسير سورة سورة سبأ من كتاب تفسير القشيري المعروف بـلطائف الإشارات .
لمؤلفه القشيري . المتوفي سنة 465 هـ

سورة سبأ
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ».
«بسم الله كلمة سلّابة غلّابة، نهّابة وهابة تسلب القلوب.. ولكن لا كل قلب، وتغلب الألباب ولكن ليس كل لب، وتنهب الأرواح ولكن من الأحباب، وتهب الارتياح.. ولكن لقوم مخصوصين من الطلّاب.
قوله جل ذكره:
[سورة سبإ (٣٤) : آية ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١)
افتتح السورة بذكر الثناء على نفسه، ومدحه لنفسه إخبار عن جلاله، واستحقاقه لنعوت عزّه وجماله، فهو في الأزل حامد لنفسه محمود، وواحد موجود، فى الآزال معبود، وبالطلبات مقصود.
«الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ»
: الملك لا يكون بالشركة فلا ملك إلا الله.
وإن أجرى هذا الاسم على مخلوق فالزنجيّ لا يتغير لونه وإنّ سمّى كافورا! «وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ» من الذين أعتقهم، وفي النعمة أغرقهم.
«وَهُوَ الْحَكِيمُ» بتخليد قوم في الجنة، وتأبيد قوم في النار.
قوله جل ذكره:
[سورة سبإ (٣٤) : آية ٢]
يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (٢)
«يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ» من الحبّ تحت الأرض، والماء يرسب فيها،
والأشياء التي تلقى عليها، والناس يقبرون في الأرض.
«وَما يَخْرُجُ مِنْها» من النبات والأزهار، والموتى يبعثون.
«وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ» من القطر والملك، والبركة والرزق، والحكم «وَما يَعْرُجُ فِيها» من الصحف، وحوائج الناس: وهمم الأولياء.
«وَهُوَ الرَّحِيمُ» بعباده، «الْغَفُورُ» لجميع المذنبين من المسلمين.
قوله جل ذكره:
[سورة سبإ (٣٤) : آية ٣]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٣)
كرّر في القرآن تكذيبهم بالساعة، واستبعادهم لذلك، والردّ عليهم. وأخبر عن سابق علمه بهم، وأنه لا يخرج شىء من معلوماته عن علمه، فأثبت علمه بكل شىء وشموله لكل شىء.. لأنه لو لم يكن له علم لكان نقصا، ولأنه لو خرج معلوم واحد عن علمه لكان بقدرته نقص، والنقص- بأى وصف كان- لا يجوز في صفته بحال.
قوله جل ذكره:
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٤ الى ٩]
لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (٥) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٦) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (٧) أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (٨)
أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٩)
الآيات..
المحسنون منهم يجازيهم بالخيرات المتصلة، والكافرون منهم يكافئهم على كفرهم بالعقوبات غير منفصلة.
ويرى الذين أوتوا العلم كتابك الذي أتيت به حقا وصدقا. والذين كفروا قال بعضهم لبعض: إنّهم يرون أن هذا الذي تقول به من النشر والحساب والبعث كذب، أو أنّ بك جنّة، ثم أقام عليهم حجة التجويز بما أجرى به سنّته في الخلق والإبداع.. فما زادهم ذلك إلا جحودا، وما قابلوه إلا عنودا.
قوله جل ذكره:
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ١٠ الى ١١]
وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (١٠) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١)
«داوُدَ» اسم أعجمى، وقيل سمى داود لأنه داوى (جرحه، ورد في القصة أنه قال في إحدى مناجاته: يا رب، إنى أرى في التوراة ما أعطيت لأوليائك وأنبيائك من الرتب فأعطنيها) «١» فقال: إنى ابتليتهم فصبروا، فقال: إنى أصبر على بلائك، فأعطنى ما أعطيتهم، فأبلاه، فوقف، فأعطاه ما أعطاهم.
«وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا» : تكلموا في هذا الفضل فمنهم من أراد ما ذكره بعده وهو قوله للطير: «أَوِّبِي مَعَهُ»، وكذلك الجبال، وكان في ذلك تنفيس في وقت حزنه وبكائه. وقيل ذلك الفضل رجوعه إلى الله- فى حال ما وقع له «٢» - بالتنصل والاعتذار. ويقال هو شهوده موضع ضرورته وأنه لا يصلح أمره غيره. ويقال طيب صوته عند قراءة الزبور حتى كان ليرغب في متابعته من يسمع إليه «٣». ويقال حلاوة صوته فى المناجاة. ويقال حسن خلقه مع أمته الذين اتبعوه، ويقال توفيقه للحكم بين أمته بالعدل...
قوله: «يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ» أمر الجبال والطير بمجاوبته حتى خرج إلى الجبال والصحارى ينوح على نفسه.
ويقال أوحى الله له: يا داود، كانت تلك الزّلّة مباركة عليك! فقال. يا رب، وكيف؟ فقال: كنت تجىء قبلها (كما يجىء المطيعون والآن) «٤» تجىء كما يجىء أهل الذنوب!
(١) ما بين القوسين ساقط من ص موجود في م.
(٢) يشير القشيري بذلك إلى قصة داود مع زوجة أوريا، وكيف تاب وأناب.
(٣) يقول القرطبي: كان قد أعطى من الصوت ما يتزاحم الوحوش من الجبال على حسن صوته، وكانت الجبال تتجاوب صداه، والماء الجاري ينقطع جريه. ويضيف القرطبي: «أيد بمساعدة الجبال والطير لئلا يجد فترة، فإذا دخلت الفترة اهتاج أي ثار وتحرّك، وقوى بمساعدة الجبال والطير.
(٤) موجودة في ص وغير موجودة في م.
يا داود، إن أنين المذنبين أحبّ إلى من صراخ العابدين! ويقال، كان داود يقول. اللهم لا تغفر للخاطئين، غيرة منه وصلابة في الدين...
فلما وقع له ما وقع كان يقول. اللهم اغفر للمذنبين، فعسى أن تغفر لداود فيما بينهم.
ويقال لمّا تاب الله عليه، واجتمع الإنس والجنّ والطير بمجلسه، ورفع صوته، وأداره فى حنكه على حسب ما كان من عادته تفرّقت الطيور وقالوا: الصوت صوت داود والحال ليست تلك! فأوحى الله إليه هذه وحشة الزّلة، وتلك كانت أنس الطاعة.. فكان داود يبكى وينوح ويصيح والطير والجبال معه.
ويقال ليس كلّ من صاح وراءه معنى «١»، فالمعنى كان مع داود لا مع الجبال والطير...
«أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً». ألان له الحديد، وجعل ذلك معجزة له، وجعل فيه توسعة رزقه، ليجد في ذلك مكسبا، ليقطع طمعه عن أمته في ارتفاقه بهم ليبارك لهم في اتّباعه «٢».
قوله جل ذكره:
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ١٢ الى ١٤]
وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (١٢) يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (١٣) فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (١٤)
أي آتينا سليمان الريح أي سخّر ناها له، فكانت تحمل بساطة بالغدو مسيرة شهر وبالرواح مسيرة شهر.
وفي القصة أنه لا حظ يوما ملكه، فمال الريح ببساطه، فقال سليمان للريح: استو، فقالت الريح: استو أنت، فما دمت مستويا بقلبك كنت مستويا بك، فلما ملت ملت.
«وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ»
(١) هذه غمزة بمن يتظاهرون بالتواجد في مجالس السماع الصوفية، إذ ينبغى الصدق ليتحول التواجد إلى وجد ثم إلى وجود.
(٢) هذا تنبيه لمن يتصدر منزلة الإمامة: ألا يرتفق، وألا يطلب عوضا، وألا يطمع في الذين يتبعونه.
178
أي وآتيناه ذلك، فكانت الشياطين مسخّرة له، يعملون ما يشاء من الأشياء التي ذكرها سبحانه.
قوله جل ذكره: «اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ» «١».
أي اعملوا يا آل داود للشكر، فقوله: «شُكْراً» منصوب لأنه مفعول له.
ويقال شكرا منصوب لأنه مفعول به مثل قوله تعالى: «وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ» «٢».
وقد مضى طرف من القول في الشكر. والشكور كثير الشكر، والأصل في الشكر الزيادة، والشكيرة اسم لما ينبت تحت الأشجار منها، ودابة شكور إذا أظهرت من السّمن فوق ما تعطى من العلف فالشكور الذي يشكر على النعمة فوق ما يشكر أمثاله وأضرابه. وإذا كان الناس يشكرونه على الرخاء فالشكور يشكره في البلاء.
والشاكر يشكر على البذل، والشكور على المنع «٣»... فكيف بالبذل؟
والشكور يشكر بقلبه ولسانه وجوارحه وماله، والشاكر ببعض هذه.
ويقال فى «وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ» قليل من يأخذ النعمة منى ولا يحملها على الأسباب فلا يشكر الوسائط ويشكرنى. والأكثرون يأخذون النعمة من الله، ويجدون الخير من قبله ثم يتقلدون المنّة من غير الله، ويشكرون غير الله.
قوله جل ذكره: «فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ».
(١) يقول السهروردي في عوارفه: «فى أخبار داود عليه السلام: إلهى كيف أشكرك وأنا لا أستطيع أن أشكرك إلا بنعمة ثانية من نعمك؟ فأوحى إليه إذا عرفت هذا فقد شكرتنى. (عوارف المعارف ص ٣٤٤) »
(٢) آية ٤ سورة المؤمنين.
(٣) وردت العبارة في الرسالة هكذا: الشاكر يشكر عند البذل والشكور عند المطل (الرسالة ص ٨٩).
179
كان سليمان- عليه السلام- يتكىء على عصاه وقتما قبض، وبقي على ذلك الوصف مدة، والشياطين كانوا مسخّرين يعملون ما أمرهم به، ويتصرفون على الوجه الذي رسم لهم، وينتهون عمّا زجرهم، فقد كانوا يتوهمّون أنه حيّ. ثم إنّ الأرضة «١» أكلت عصاه فخرّ سليمان فعلم الشياطين عندئذ أنه مات، فرجعوا إلى أعمالهم الخبيثة، وانفكّ عنهم ما كانوا عليه من التسخير وهكذا الملك الذي يقوم ملكه بغيره، ويكون استمساكه بعصا.. فإنه إذا سقط سقط بسقوطه، ومن قام بغيره زال بزواله.
قوله جل ذكره:
[سورة سبإ (٣٤) : آية ١٥]
لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (١٥)
كانوا في رغد من العيش وسلامة الحال ورفاهته، فأمروا بالصبر على العافية والشكر على النعمة، وهذا أمر سهل يسير، ولكنهم أعرضوا عن الوفاق، وكفروا بالنعمة، وضيّعوا الشكر، فبدّلوا وبدّل بهم الحال، كما قالوا:
تبدلت وتبدلنا يا حسرة لمن ابتغى عوضا لسلمى فلم يجد
قوله جل ذكره:
[سورة سبإ (٣٤) : آية ١٦]
فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (١٦)
كذلك من الناس من يكون في رغد من الحال، واتصال من التوفيق، وطرب من القلب، ومساعدة من الوقت، فيرتكب زلّة أو يسىء أدبا أو يتبع شهوة، ولا يعرف قدر ما هو به، فيتغير عليه الحال فلا وقت ولا حال، ولا طرب ولا وصال يظلم عليه النهار وقد كانت لياليه مضيئة، كما قلنا «٢» :
(١) الأرضة- دودة تأكل الخشب.
(٢) هكذا في ولكنها في ص: كما قالوا.
ما زلت أختال في زمان وحال حتى أمنت الزمان مكره
حال عليّ الصدود حتى لم تبق مما شهدت ذرّة
قوله جل ذكره:
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ١٧ الى ١٩]
ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (١٧) وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (١٨) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (١٩)
ما عوملوا إلا بما استوجبوا، ولا سقوا إلّا ممّا ثبطوا «١»، وما وقعوا إلّا في الوهدة التي حفروا، وما قتلوا إلا بالسيف الذي صنعوا! «وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى..» : ما كان من شأنهم إلا التمادي في عصيانهم، والإصرار على غيهم وطغيانهم.
«فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ» فرّقناهم تفريقا حتى اتخذهم الناس مثلا مضروبا يقولون. ذهبوا أيدى سبأ، وتفرّقوا أيادى سبأ. وفي قصتهم آيات لكل صبّار على العاقبة، شكور على النعمة.
قوله جل ذكره:
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٢٠ الى ٢١]
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٠) وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٢١)
. صدّق عليهم إبليس ظنّه- وإن كان لا يملك لنفسه أمرا، فإبليس مسلّط على أتباعه
(١) ثبط- حمق في عمله.
من الجنّ والإنس، وليس به من الإضلال شىء، ولو أمكنه أن يضرّ غيره لأمكنه أن يمسك على الهداية نفسه، قال تعالى: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ «١» ».
«وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ» : يهدى من يشاء ويضل من يشاء. ثم أخبر- سبحانه وتعالى- أنه بملكه متفرّد، وفي الألوهية متوحّد، وعن الأضداد والأنداد متعزّز، وأنهم لا يملكون مثقال ذرّة، ولا مقياس حبّة، وليس منهم نصير، ولا شريك ولا ظهير، لا في الدنيا ولا في الآخرة، وأن الملائكة في السماء بوصف الهيبة فزعون، وفي الموقف الذي أثبتهم الحقّ واقفون، لا يفترون عن عبادته ولا يعضون.
ثم قال جل ذكره:
[سورة سبإ (٣٤) : آية ٢٤]
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤)
لم يقل أحد- مع شركه- إنه يحيل في الرزق على أحد غيره، فكما لا شريك له فى الرزق ولا شريك له في الخلق فلا شريك له في استحقاق العبادة والتعظيم.
قوله جل ذكره:
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٢٥ الى ٢٦]
قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٢٥) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (٢٦)
ولا تسألون عما أجرمنا ولا نحن نسأل عن إجرامكم.. ويوم الجمع يحاسب الله كلّا على أعماله، ويطالب كلا بشأنه، لا يؤاخذ أحدا بعمل غيره، وكلّ يعطى كتابه، ويطلب الله من كلّ واحد حسابه.
وقد أجرى الله سنّته بأن يجمع بين عباده، ثم يعاملهم في حال اجتماعهم بغير ما يعاملهم فى حال افتراقهم. فللاجتماع أثر كبير في الشريعة، وللصلاة بالجماعة أثر مخصوص. وقد عاتب الله- سبحانه- الذين يتفرقون عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومدح من لا يتفرّق إلا عن استئذان.
(١) آية ٦٥ سورة الإسراء. [.....]
والشيوخ ينتظرون في الاجتماع زوائد، ويستروحون إلى هذه الآية:
«قُلْ يَجْمَعُ... »
قوله جل ذكره:
[سورة سبإ (٣٤) : آية ٢٧]
قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧)
كانوا يقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك، هو لك، تملكه وما ملك «١»، لانهما كهم فى ضلالتهم. وبعد تحققهم بأنها جمادات لا تفقه ولا تقدر، ولا تسمع ولا تبصر، وقعت لهم شهة استحقاقها العبادة، فإذا طولبوا بالحجة لم يذكروا غير أنهم يقلدون أسلافهم...
وهذا هو الضلال البعيد والخسران المبين.
قوله جل ذكره:
[سورة سبإ (٣٤) : آية ٢٨]
وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢٨)
أرسلناك مؤيّدا بالمعجزات، مشرّفا بجميع الصفات، سيدا في الأرضين والسماوات، ظاهرا لأهل الإيمان، مستورا عن بصائر أهل الكفران- وإن كنت ظاهرا لهم من حيث العيان، قال تعالى: «وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ» «٢» قوله جل ذكره:
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٢٩ الى ٣٠]
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٩) قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ (٣٠)
لكثرة ما يقولون هذا كرّره الله في كتابه خبرا عنهم، والجواب إن لكم ميعاد يوم، وفي هذا الميعاد لا تستأخرون ساعة ولا تستقدمون.
قوله جل ذكره:
[سورة سبإ (٣٤) : آية ٣١]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (٣١)
(١) وردت التلبية مضطربة الكتابة وقد صححناها طبقا لما جاء في المحبر لابن حبيب.
(٢) آية ١٩٨ سورة الأعراف.
لو رأيتهم يومذاك لرأيت منظرا فظيعا يرجع بعضهم إلى بعض القول، ويحيل بعضهم على بعض الجرم يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا: أنتم أضللتمونا، وينكر الذين استكبروا ويقولون: بل أنتم اتبعتمونا.. وهكذا أصحاب الزلات الأخلاء في الفساد، قال تعالى: «بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ» «١».
وكذلك الجوارح والأعضاء غدا يشهد بعضها على بعض فاليد تقول للجملة أخذت، والعين تقول أبصرت، والاختلاف في الجملة عقوبة، ومن عمل بالمعاصي أخرج الله عليه كل من هو أطوع له، ولكنهم لا يعلمون ذلك، ولو علموا لا عتبروا، ولو اعتبروا لتابوا ووفّقوا.. ولكن ليقضى الله أمرا كان مفعولا.
قوله جل ذكره:
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٣٤ الى ٣٥]
وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٣٤) وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٣٥)
أي قابلوا رسلنا بالتكذيب، وصبر رسلنا.. وماذا على هؤلاء الكفار لو آمنوا بهم؟
فهم لنجاتهم أرسلوا، ولصلاحهم دعوا وبلّغوا، ولو وافقوهم لسعدوا.. ولكنّ أقساما سبقت، وأحكاما حقت، والله غالب على أمره.
«وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ» ليس هذا بكثرة الأموال والأولاد، وإنما هي بصائر مفتوحة لقوم، وأخرى مسدودة لقوم.
(١) آية ٦٧ سورة الزخرف.
قوله جل ذكره:
[سورة سبإ (٣٤) : آية ٣٧]
وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (٣٧)
لا تستحقّ الزّلفى عند الله بالمال والأولاد، ولكن بالأعمال الصالحة والأحوال الصافية والأنفاس الزاكية، بل بالعناية السابقة، والهداية اللاحقة، والرعاية الصادقة، فأولئك لهم جزاء الضعف: يضاعف على ما كان لمن تقدمهم من الأمم «وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ» من تكدر الصفوة والإخراج من الجنة.
قوله جل ذكره:
[سورة سبإ (٣٤) : آية ٣٨]
وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (٣٨)
هم الذين لا يحترمون الأولياء، ولا يراعون حقّ الله في السرّ، فهم في عذاب الاعتراض على أولياء الله، وعذاب الوقوع بشؤم ذلك في ارتكاب محارم الله، ثم في عذاب السقوط من عين الله.
قوله جل ذكره:
[سورة سبإ (٣٤) : آية ٣٩]
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٣٩)
من الخلف في الدنيا الرضا بالعدم والفقد، وهو أتمّ من السرور بالموجود «١» ومن ذلك الأنس بالله في الخلوة ولا يكون ذلك إلا مع التجريد.
قوله جل ذكره:
[سورة سبإ (٣٤) : آية ٤٠]
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (٤٠)
قوم كانوا يعبدون الملائكة فيختبرهم عنهم فيتبرأون منهم وينزّهون الله ويسبحونه،
(١) استعمل القشيري هنا كلمة (الموجود) بالميم وكان المفروض حسب السياق أن يستعمل (الوجود)، وبهذا يتأيد رأينا في هامش سابق أن من الخير قصر اصطلاح (الوجود) على الوجود الحق.
فيفتضح هؤلاء- والافتضاح عند السؤال من شديد العقوبة، وفي بعض الأخبار:
أن غدا من يسألهم الحقّ فيقع عليهم من الخجل ما يجعلهم يقولون: عذّبنا ربنا بما شئت من ألوان العقوبة ولا تعذبنا بهذا السؤال! قوله جل ذكره:
[سورة سبإ (٣٤) : آية ٤٢]
فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (٤٢)
الإشارة في هذا أنّ من علق قلبه بالأغيار وظنّ صلاح حاله بالاحتيال «١» والاستعانة بالأمثال والأشكال ينزع الله الرحمة من قلوبهم ويتركهم، ويشوش أحوالهم، فلا لهم من الأمثال والأشكال معونة. ولا لهم من عقولهم في أمورهم استبصار، ولا إلى الله رجوع، وإن رجعوا لا يرحمهم ولا يجيبهم، ويقول لهم: ذوقوا وبال ما به استوجبتم هذه العقوبة.
قوله جل ذكره:
[سورة سبإ (٣٤) : آية ٤٣]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٤٣)
الحكماء، والأولياء- الذين هم الأئمة في هذه الطريقة- إذا دلوا الناس على الله.
قال بعض إخوان السوء- مثل بعض المتنصحين من أهل الغفلة وأبناء الدنيا «٢» لمريد:
ما هذا؟ من الذي يطيق كل هذا؟ ربما لا تتمّم الطريق! لا بد من الدنيا ما دمت تعيش!... وأمثال ذلك، حتى يميل هذا المسكين عند قبول النصح، وربما كان له هذا من خواطره الدنية... فيهلك ويضلّ.
(١) الاحتيال هنا معناه الاعتماد على جهده الإنسانى، وتفريغ الوسع فيه دون التعويل على فضل الله ومنته، فالواجب إسقاط التدبير والاعتماد على التقدير.
(٢) يشبههم القشيري في موضع آخر بمن كان يعوق المجاهدين قبيل القتال.
قوله جل ذكره:
[سورة سبإ (٣٤) : آية ٤٤]
وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (٤٤)
الإشارة من هذا إلى أهل الغفلة يعارضون أصحاب القلوب فيما يجرى من الأمور، بما تشوّش إليهم نفوسهم، ويخطر ببالهم من هواجسهم عن مقتضى تفرقة قلوبهم- على قياس ما يقع لهم- من غير استناد إلى إلهام، أو اعتماد على تقدير من الله وإفهام.
وأهل الحقائق- الذين هم لسان الوقت- إذا قالوا شيئا أو أطلقوا حديثا، فلو طولبوا بإقامة البرهان عليه لم يمكنهم لأن الذي يتكلم عن الفراسة أو عن الإلهام، أو كان مستنطقا فليس يمكن لهؤلاء إقامة الحجة على أقوالهم «١». وأصحاب الغفلة ليس لهم إيمان بذلك، فإذا سمعوا شيئا منه عارضوهم فيهلكون، فسبيل هؤلاء الأكابر عند ذلك أن يسكتوا، ثم الأيام «٢» تجيب أولئك.
قوله جل ذكره:
[سورة سبإ (٣٤) : آية ٤٦]
قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٤٦)
يقول: إذا سوّلت لكم أنفسكم تكذيب الرسول فأنعموا النظر.. هل ترون فيه آثار ما رميتوه به؟ هذا محمد صلى الله عليه وسلم.. قلتم إنه ساحر- فأين آثار السحر
(١) انظر ص ٣٤٨ من المجلد الثاني من هذا الكتاب.
وقد يظن أن هذا محل طعن فيما يصدر عن المعارف من أقوال وأحوال، والواقع أن مرد عجز العارف عن إقامة الحجة إلى أن ما ينثال عليه من كشوفات ليس من تدبيره أو احتياله، ولا نتيجة مهارته أو ذكائه... وإلا كان مطلوبا منه أن يسوق حجة أو يقدم برهانا.. إنما هي أنوار إلهية تنبجس في عالمه الباطن.. وليست تجربة الإمام الغزالي إلا نموذجا للعارف الذي نهل من العلوم العقلية قدرا عظيما، ولكن ذلك لم يهدىء سورة غليله، ولم يقده إلى الراحة والسكينة.. حتى قيض الله له في علوم القوم ما شفاه وكفاه (انظر الصفحات الأولى من: «المنقذ من الضلال» للإمام الغزالي).
(٢) هكذا في م وهي في ص (الأنام) ونحن نرجح (الأيام) على معنى أن الدهر كفيل بتوضيح الحقيقة- وإن خفيت زمنا.
على أحواله وأفعاله وأقواله؟ قلتم إنه شاعر- فمن أي قسم من أقسام الشعر كلامه؟ قلتم إنه مجنون- فأى جنون ظهر منه؟
وإذ قد عجزتم عن ذلك... فهلّا عرفتم أنه صادق؟! قوله جل ذكره:
[سورة سبإ (٣٤) : آية ٤٨]
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (٤٨)
يقذف بالحقّ على باطل أهل الغفلة فتزول حيلهم، ويظهر عجزهم. ويقذف بالحقّ على أحوال أهل الخلاف فيضمحل اجتراؤهم، ويحيق بهم شؤم معاصيهم.
ويقذف بالحقّ- إذا حضر أصحاب المعاني- على ظلمات أصحاب الدعاوى فيخمد ثائرتهم، ويفضحهم في الحال، ويفضح عوارهم.
قوله جل ذكره:
[سورة سبإ (٣٤) : آية ٤٩]
قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (٤٩)
الباطل على ممرّ الأيام لا يزيد إلا زهوقا، والحقّ على ممرّ الأيام لا يزداد إلا قوة وظهورا.
قوله جل ذكره:
[سورة سبإ (٣٤) : آية ٥٠]
قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (٥٠)
إن كنت مهتديا فبربّى لا بجهدي. وإن كنت عندكم من أهل الضلال فوبال ضلالتى عائد عليّ، ولن يضرّكم ذلك. فانظروا أنتم إلى أنفسكم.. أين وقعتم؟ وأي ضرر يعود عليكم لو أطعتمونى؟ لا في الحال تخسرون، ولا في أنفسكم تتعبون، ولا في جاهكم تنقصون.
وما أخبركم به عن نقص أصنامكم فبالضرورة «١» أنتم تعلمون! فما لكم لا تبصرون؟
ولا لأنفسكم تنظرون؟
(١) أي لا جدال في أنكم تجدونها لا تنفع ولا تضر ولا تستطيع أن تدفع عنها مكروها، فهى لا تليق بتأليه ولا تقديس.
قوله جل ذكره:
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٥١ الى ٥٢]
وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٥١) وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٢)
أي لو رأيت ذلك لرأيت منظرا فظيعا، وأمرا عظيما إذا أخذهم بعد الإمهال فليس إلا الاستئصال.
«وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ» إذا تابوا- وقد أغلقت الأبواب، وندموا- وقد تقطّعت الأسباب.. فليس إلا الحسرات والندم، ولات حين ندامة! كذلك من استهان بتفاصيل فترته، ولم يستفق من غفلته يتجاوز عنه مرة، ويعفى عنه كرّة، فإذا استمكنت منه القسوة وتجاوز سوء الأدب حدّ الغفلة، وزاد على مقدار الكثيرة «١».. يحصل له من الحقّ ردّ، ويستقبله حجاب، وبعد ذلك لا يسمع له دعاء، ولا يرحم له بكاء، كما قيل:
فخلّ سبيل العين بعدك للبكا فليس لأيام الصفاء رجوع
قوله جل ذكره:
[سورة سبإ (٣٤) : آية ٥٤]
وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (٥٤)
التوبة يشتهونها في آخر الأمر وقد فات الوقت، والخصم يريد إرضاءه فيستحيى أن يذكر فى ذلك الوقت، وينسدّ لسانه ويعتقل فلا يمكنه أن يفصح بما في قلبه، ويودّ أن لو كان بينه وبين ما أسلفه بعد بعيد، ويتمنى أن يطيع فلا تساعده القوة، ويتمنى أن يكون له- قبل خروجه من الدنيا- نفس.. ثم لا يتفق.
(١) فى رأى القشيري: الثلاثة- آخر حد القلة، وأول حد الكثرة-.
Icon