ﰡ
مكية إلا قوله: (قُلْ يا عِبادِيَ) الآية وآيها خمس وسبعون أو اثنتان وسبعون آية
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ١ الى ٢]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (٢)تَنْزِيلُ الْكِتابِ خبر محذوف مثل هذا أو مبتدأ خبره. مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ وهو على الأول صلة ل تَنْزِيلُ، أو خبر ثان أو حال عمل فيها معنى الإِشارة أو ال تَنْزِيلُ، والظاهر أن الْكِتابِ على الأول السورة وعلى الثاني القرآن، وقرئ «تَنزِيلَ» بالنصب على إضمار فعل نحو اقرأ أو الزم.
إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ ملتبساً بالحق أو بسبب إثبات الحق وإظهاره وتفصيله. فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ ممحضا له الدين من الشرك والرياء، وقرئ برفع «الدين» على الاستئناف لتعليل الأمر وتقديم الخبر لتأكيد الاختصاص المستفاد من اللام كما صرح به مؤكداً وإجراؤه مجرى المعلوم المقرر لكثرة حججه وظهور براهينه فقال:
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٣]
أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (٣)
أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ أي ألا هو الذي وجب اختصاصه بأن يخلص له الطاعة، فإنه المتفرد بصفات الألوهية والاطلاع على الأسرار والضمائر. وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ يحتمل المتخذين من الكفرة والمتخذين من الملائكة وعيسى والأصنام على حذف الراجع وإضمار المشركين من غير ذكر لدلالة المساق عليهم، وهو مبتدأ خبره على الأول. مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى بإضمار القول. إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ وهو متعين على الثاني، وعلى هذا يكون القول المضمر بما في حيزه حالاً أو بدلاً من الصلة وزُلْفى مصدر أو حال، وقرئ «قالوا ما نعبدهم» و «ما نعبدكم إلا لتقربونا إلى الله» حكاية لما خاطبوا به آلهتهم و «نَعْبُدُهُمْ» بضم النون اتباعاً. فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ من الدين بإدخال المحق الجنة والمبطل النار والضمير للكفرة ومقابليهم، وقيل لهم ولمعبوديهم فإنهم يرجون شفاعتهم وهم يلعنونها. إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي لا يوفق للاهتداء إلى الحق. مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ فإنهما فاقدا البصيرة.
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٤ الى ٥]
لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٤) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٥)
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ يغشى كل واحد منهما الآخر كأنه يلفه عليه لف اللباس باللابس، أو يغيبه به كما يغيب الملفوف باللفافة، أو يجعله كاراً عليه كروراً متتابعاً تتابع أكوار العمامة. وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى هو منتهى دوره أو منقطع حركته. أَلا هُوَ الْعَزِيزُ القادر على كل ممكن الغالب على كل شيء. الْغَفَّارُ حيث لم يعاجل بالعقوبة وسلب ما في هذه الصنائع من الرحمة وعموم المنفعة.
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٦]
خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٦)
خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها استدلال آخر بما أوجده في العالم السفلي مبدوءا به من خلق الإِنسان لأنه أقرب وأكثر دلالة وأعجب، وفيه على ما ذكره ثلاث دلالات: خلق آدم أولاً من غير أب وأم، ثم خلق حواء من قصيراه، ثم تشعيب الخلق الفائت للحصر منهما. وثُمَّ للعطف على محذوف هو صفة نَفْسٍ مثل خلقها أو على معنى واحدة أي من نفس وحدت ثم جعل منها زوجها فشفعها بها، أو على خَلَقَكُمْ لتفاوت ما بين الآيتين، فإن الأولى عادة مستمرة دون الثانية. وقيل أخرج من ظهره ذريته كالذر ثم خلق منها حواء. وَأَنْزَلَ لَكُمْ وقضى أو قسم لكم، فإن قضاياه وقسمه توصف بالنزول من السماء حيث كتبت في اللوح المحفوظ، أو أحدث لكم بأسباب نازلة كأشعة الكواكب والأمطار. مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ ذكرا وأنثى من الإِبل والبقر والضأن والمعز. يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ بيان لكيفية ما ذكر من الأناسي والأنعام إظهاراً لما فيها من عجائب القدرة، غير أنه غلب أولي العقل أو خصهم بالخطاب لأنهم المقصودون. خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ حيواناً سوياً من بعد عظام مكسوة لحماً من بعد عظام عارية من بعد مضغ من بعد علق من بعد نطف. فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ظلمة البطن والرحم والمشيمة، أو الصلب والرحم والبطن.
ذلِكُمُ الذي هذه أفعاله. اللَّهُ رَبُّكُمْ هو المستحق لعبادتكم والمالك. لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إذ لا يشاركه في الخلق غيره. فَأَنَّى تُصْرَفُونَ يعدل بكم عن عبادته إلى الإشراك.
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٧]
إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧)
إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ عن إِيمانكم. وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ لاستضرارهم به رحمة عليهم.
وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ لأنه سبب فلا حكم، وقرأ ابن كثير ونافع في رواية وأبو عمرو والكسائي بإشباع ضمة الهاء لأنها صارت بحذف الألف موصولة بمتحرك، وعن أبي عمرو ويعقوب إسكانها وهو لغة فيها.
وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ بالمحاسبة والمجازاة. إِنَّهُ عَلِيمٌ
فلا تخفى عليه خافية من أعمالكم.
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٨]
وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (٨)
وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ لزوال ما ينازع العقل في الدلالة على أن مبدأ الكل منه. ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ أعطاه من الخول وهو التعهد، أو الخول وهو الافتخار. نِعْمَةً مِنْهُ من الله. نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ أي الضر الذي كان يدعو الله إلى كشفه، أو ربه الذي كان يتضرع إليه وما مثل الذي في قوله:
وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى. مِنْ قَبْلُ من قبل النعمة. وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ورويس بفتح الياء، والضلال والإِضلال لما كانا نتيجة جعله صح تعليله بهما وإن لم يكونا غرضين. قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا أمر تهديد فيه إشعار بأن الكفر نوع تشه لا سند له، وإقناط للكافرين من التمتع في الآخرة ولذلك علله بقوله: إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ على سبيل الاستئناف للمبالغة.
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٩]
أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (٩)
أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ قائم بوظائف الطاعات. آناءَ اللَّيْلِ ساعاته وأم متصلة بمحذوف تقديره الكافر خير أم من هو قانت، أو منقطعة والمعنى بل أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ كمن هو بضده، وقرأ الحجازيان وحمزة بتخفيف الميم بمعنى أمن هو قانت لله كمن جعل له أنداداً. ساجِداً وَقائِماً حالان من ضمير قانِتٌ، وقرئا بالرفع على الخبر بعد الخبر والواو للجمع بين الصفتين يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ في موضع الحال أو الاستئناف للتعليل. قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ نفى لاستواء الفريقين باعتبار القوة العلمية بعد نفيه باعتبار القوة العملية على وجه أبلغ لمزيد فضل العلم. وقيل تقرير للأول على سبيل التشبيه أي كما لا يستوي العالمون والجاهلون لا يستوي القانتون والعاصون. إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ بأمثال هذه البيانات، وقرئ «يذكر» بالإدغام.
[سورة الزمر (٣٩) : آية ١٠]
قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (١٠)
قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ بلزوم طاعته. لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ أي للذين أحسنوا بالطاعات في الدنيا مثوبة حسنة في الآخرة. وقيل معناه للذين أحسنوا حسنة في الدنيا هي الصحة والعافية، وفي هذه بيان لمكان حَسَنَةٌ. وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ فمن تعسر عليه التوفر على الإِحسان في وطنه فليهاجر إلى حيث يتمكن منه. إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ على مشاق الطاعات من احتمال البلاء ومهاجرة الأوطان لها. أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ أجراً لا يهتدي إليه حساب الحساب،
وفي الحديث إنه «ينصب الموازين يوم القيامة لأهل الصلاة والصدقة والحج فيوفون بها أجورهم، ولا ينصب لأهل البلاء بل يصب عليهم الأجر صباً حتى يتمنى أهل العافية في الدنيا أن أجسادهم تقرض بالمقاريض مما يذهب به أهل البلاء من الفضل».
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ١١ الى ١٣]
قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (١١) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (١٢) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣)
وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ وأمرت بذلك لأجل أن أكون مقدمهم في الدنيا والآخرة، لأن قصب السبق في الدين بالإِخلاص أو لأنه أول مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ من قريش ومن دان بدينهم، والعطف لمغايرة الثاني الأول بتقييده بالعلة، والإشعار بأن العبادة المقرونة بالإِخلاص وإن اقتضت لذاتها أن يؤمر بها فهي أيضاً تقتضيه لما يلزمها من السبق في الدين، ويجوز أن تجعل اللام مزيدة كما في أردت لأن أفعل فيكون أمر بالتقدم في الإِخلاص والبدء بنفسه في الدعاء إليه بعد الأمر به.
قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي بترك الإخلاص والميل إلى ما أنتم عليه من الشرك والرياء. عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ لعظمة ما فيه.
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ١٤ الى ١٦]
قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (١٤) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١٥) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (١٦)
قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي أمر بالإِخبار عن إخلاصه وأن يكون مخلصاً له دينه بعد الأمر بالإِخبار عن كونه مأموراً بالعبادة والإِخلاص خائفاً عن المخالفة من العقاب قطعاً لأطماعهم، ولذلك رتب عليه قوله:
فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ تهديداً وخذلاناً لهم. قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الكاملين في الخسران. الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بالضلال. وَأَهْلِيهِمْ بالإِضلال. يَوْمَ الْقِيامَةِ حين يدخلون النار بدل الجنة لأنهم جمعوا وجوه الخسران. وقيل وخسروا أهليهم لأنهم إن كانوا من أهل النار فقد خسروهم كما خسروا أنفسهم، وإن كانوا من أهل الجنة فقد ذهبوا عنهم ذهاباً لا رجوع بعده. أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ مبالغة في خسرانهم لما فيه من الاستئناف والتصدير ب أَلا، وتوسيط الفصل وتعريف الخسران ووصفه ب الْمُبِينُ.
لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ شرح لخسرانهم. وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ أطباق من النار هي ظلل للآخرين. ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ ذلك العذاب هو الذي يخوفهم به ليجتنبوا ما يوقعهم فيه. يَا عِبادِ فَاتَّقُونِ ولا تتعرضوا لما يوجب سخطي.
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ١٧ الى ١٨]
وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (١٧) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٨)
وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ البالغ غاية الطغيان فعلوت منه بتقديم اللام على العين بني للمبالغة في المصدر كالرحموت، ثم وصف به للمبالغة في النعت ولذلك اختص بالشيطان. أَنْ يَعْبُدُوها بدل اشتمال منه. وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ وأقبلوا إليه بشراشرهم عما سواه. لَهُمُ الْبُشْرى بالثواب على ألسنة الرسل، أو الملائكة عند حضور الموت. فَبَشِّرْ عِبادِ.
الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ وضع فيه الظاهر موضع ضمير الَّذِينَ اجْتَنَبُوا للدلالة على مبدأ اجتنابهم وأنهم نقاد في الدين يميزون بين الحق والباطل ويؤثرون الأفضل فالأفضل. أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ لدينه. وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ العقول السليمة عن منازعة الوهم والعادة، وفي ذلك دلالة على أن الهداية تحصل بفعل الله وقبول النفس لها.
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ١٩ الى ٢٠]
أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (١٩) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ (٢٠)
لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ علالي بعضها فوق بعض. مَبْنِيَّةٌ بنيت بناء النازل على الأرض. تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أي من تحت تلك الغرف. وَعْدَ اللَّهِ مصدر مؤكد لأن قوله لَهُمْ غُرَفٌ في معنى الوعد. لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ ولأن الخلف نقص وهو على الله محال.
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٢١]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاء فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٢١)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاء هو المطر. فَسَلَكَهُ فأدخله. يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ هي عيون ومجاري كائنة فيها، أو مياه نابعات فيها إذ الينبوع جاء للمنبع وللنابع فنصبها على الظرف أو الحال. ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ أصنافه من بر وشعير وغيرهما، أو كيفياته من خضرة وحمرة وغيرهما. ثُمَّ يَهِيجُ يتم جفافه لأنه إذا تم جفافه حان له أن يثور عن منبته. فَتَراهُ مُصْفَرًّا من يبسه. ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً فتاتاً. إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لتذاكيراً بأنه لا بد من صانع حكيم دبره وسواه، أو بأنه مثل الحياة الدنيا فلا تغتر بها. لِأُولِي الْأَلْبابِ إِذْ لاَ يَتَذكر به غيرهم.
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٢٢]
أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٢)
أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ حتى تمكن فيه بيسر عبر به عمن خلق نفسه شديدة الاستعداد لقبوله غير متأبية عنه من حيث أن الصدر محل القلب المنبع للروح المتعلق للنفس القابلة للإِسلام. فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ يعني المعرفة والاهتداء إلى الحق.
وعنه عليه الصلاة والسلام «إذا دخل النور القلب انشرح وانفسح، فقيل فما علامة ذلك قال: الإِنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والتأهب للموت قبل نزوله».
وخبر مِنْ محذوف دل عليه فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ من أجل ذكره وهو أبلغ من أن يكون عن مكان من، لأن القاسي من أجل الشيء أشد تأبياً عن قبوله من القاسي عنه لسبب آخر، وللمبالغة في وصف أولئك بالقبول وهؤلاء بامتناع ذكر شرح الصدر وأسنده إلى الله وقابله بقساوة القلب وأسنده إليه. أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ يظهر للناظر بأدنى نظر، والآية نزلت في حمزة وعلي وأبي لهب وولده.
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٢٣]
اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٢٣)
اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ يعني القرآن،
روي أن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم ملوا ملة فقالوا له حدثنا فنزلت.
وفي الابتداء باسم الله وبناء نزل عليه تأكيد للإسناد إليه وتفخيم للمنزل واستشهاد على حسنه. كِتاباً
بدل من أَحْسَنَ أو حال منه، وتشابهه تشابه أبعاضه في الإِعجاز وتجاوب النظم وصحة المعنى والدلالة على المنافع العامة. مَثانِيَ جمع مثنى أو مثنى أو مثن على ما مر في «الحجر»، وصف به كتاباً باعتبار تفاصيله كقولك: القرآن سور وآيات، والإِنسان: عظام وعروق وأعصاب، أو جعل تمييزاً من مُتَشابِهاً كقولك: رأيت رجلاً حسناً شمائله. تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ تشمئز خوفاً مما فيه من الوعيد، وهو مثل في شدة الخوف واقشعرار الجلد تقبضه وتركيبه من حروف القشع وهو الأديم اليابس بزيادة الراء ليصير رباعياً كتركيب أقمطر من القمط وهو الشد. ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ بالرحمة وعموم المغفرة، والإِطلاق للإشعار بأن أصل أمره الرحمة وأن رحمته سبقت غضبه، والتعدية ب إِلى لتضمين معنى السكون والاطمئنان، وذكر القلوب لتقدم الخشية التي هي من عوارضها. ذلِكَ أي الكتاب أو الكائن من الخشية والرجاء. هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ هدايته. وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ ومن يخذله.
فَما لَهُ مِنْ هادٍ يخرجهم من الضلال.
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٢٤ الى ٢٦]
أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٢٤) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ (٢٥) فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٢٦)
أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ يجعله درقة يقي به نفسه لأنه يكون يداه مغلولة إلى عنقه فلا يقدر أن يتقي إلا بِوَجْهِهِ. سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ كمن هو آمن منه، فحذف الخبر كما حذف في نظائره.
وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ أي لهم فوضع الظاهر موضعه تسجيلاً عليهم بالظلم وإشعاراً بالموجب لما يقال لهم وهو: ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ أي وباله، والواو للحال وقد مقدرة.
كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ من الجهة التي لا يخطر ببالهم أن الشر يأتيهم منها.
فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ الذل. فِي الْحَياةِ الدُّنْيا كالمسخ والخسف والقتل والسبي والإِجلاء. وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ المعد لهم. أَكْبَرُ لشدته ودوامه. لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ لو كانوا من أهل العلم والنظر لعلموا ذلك واعتبروا به.
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٢٧ الى ٢٨]
وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٧) قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٢٨)
وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ يحتاج إليه الناظر في أمر دينه. لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ يتعظون به.
قُرْآناً عَرَبِيًّا حال من هذا والاعتماد فيها على الصفة كقولك: جاءني زيد رجلاً صالحاً، أو مدح له.
غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لا اختلال فيه بوجه ما، وهو أبلغ من المستقيم وأخص بالمعاني. وقيل بالشك استشهاداً بقوله:
وَقَدْ أَتَاكَ يَقِينٌ غَيْرُ ذِيْ عِوَجٍ | مِنَ الإِلَهِ وَقَوْلٌ غَيْرُ مَكْذُوبِ |
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٢٩]
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (٢٩)
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٣٠ الى ٣٢]
إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (٣٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (٣١) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٣٢)
إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ فإن الكل بصدد الموت وفي عداد الموتى، وقرئ «مائت» و «مائتون» لأنه مما سيحدث.
ثُمَّ إِنَّكُمْ على تغليب المخاطب على الغيب. يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ فتحتج عليهم بأنك كنت على الحق في التوحيد وكانوا على الباطل في التشريك، واجتهدت في الإرشاد والتبليغ ولجوا في التكذيب والعناد، ويعتذرون بالأباطيل مثل أَطَعْنا سادَتَنا ووَجَدْنا آباءَنا. وقيل المراد به الاختصام العام يخاصم الناس بعضهم بعضاً فيما دار بينهم في الدنيا.
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ بإضافة الولد والشريك إليه. وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ وهو ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم. إِذْ جاءَهُ من غير توقف وتفكر في أمره. أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ وذلك يكفيهم مجازاة لأعمالهم، واللام تحتمل العهد والجنس، واستدل به على تكفير المبتدعة فإنهم يكذبون بما علم صدقه وهو ضعيف لأنه مخصوص بمن فاجأ ما علم مجيء الرسول به بالتكذيب.
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٣٣ الى ٣٥]
وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (٣٣) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٣٤) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٣٥)
وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ اللام للجنس ليتناول الرسل والمؤمنين لقوله: أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ وقيل هو النبي صلّى الله عليه وسلم والمراد هو ومن تبعه كما في قوله: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ. وقيل الجائي هو الرسول والمصدق أبو بكر رضي الله عنه، وذلك يقتضي إضمار الذى وهو غير جائز. وقرئ «وَصَدَّقَ بِهِ» بالتخفيف أي صدق به الناس فأداه إليهم كما نزل من غير تحريف، أو صار صادقاً بسببه لأنه معجز يدل على صدقه «وَصَدَّقَ بِهِ» على البناء للمفعول.
لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ في الجنة. ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ على إحسانهم.
لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا خص الأسوأ للمبالغة فإنه إذا كفر كان غيره أولى بذلك، أو
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٣٦ الى ٣٧]
أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٦) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ (٣٧)
أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ استفهام إنكار للنفي مبالغة في الإِثبات، والعبد رسول الله صلّى الله عليه وسلم ويحتمل الجنس ويؤيده قراءة حمزة والكسائي «عباده»، وفسر بالأنبياء صلوات الله عليهم. وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ يعني قريشاً فإنهم قالوا له إنا نخاف أن تخبلك آلهتنا بعيبك إياها. وقيل إنه بعث خالداً ليكسر العزى فقال له سادنها أُحَذِّرْكَهَا فإن لها شدة، فعمد إليها خالد فهشم أنفها فنزل تخويف خالد منزلة تخويفه لأنه الآمر له بما خوف عليه. وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ حتى غفل عن كفاية الله له وخوفه بما لا ينفع ولا يضر. فَما لَهُ مِنْ هادٍ يهديهم إلى الرشاد.
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ إذ لا راد لفعله كما قال: أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ غالب منيع. ذِي انْتِقامٍ ينتقم من أعدائه.
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٣٨]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَّا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (٣٨)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ لوضوح البرهان على تفرده بالخالقية. قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَّا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أي أرأيتم بعد ما تحققتم أن خالق العالم هو الله تعالى وأن آلهتكم إن أراد الله أن يصيبني بضر هل يكشفنه. أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ بنفع. هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ فيمسكنها عني، وقرأ أبو عمرو كاشِفاتُ ضُرِّهِ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ بالتنوين فيهما ونصب ضره ورحمته. قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ كافياً في إصابة الخير ودفع الضر إذ تقرر بهذا التقرير أنه القادر الذي لا مانع لما يريده من خير أو شر.
روي أن النبي عليه الصلاة والسلام سألهم فسكتوا فنزل ذلك
، وإنما قال كاشِفاتُ ومُمْسِكاتُ على ما يصفونها به من الأنوثة تنبيهاً على كمال ضعفها. عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ لعلمهم بأن الكل منه تعالى.
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٣٩ الى ٤١]
قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٩) مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (٤٠) إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٤١)
قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ على حالكم، اسم للمكان استعير للحال كما استعير هنا وحيث من المكان للزمان، وقرئ «مكاناتكم». إِنِّي عامِلٌ أي على مكانتي فحذف للاختصار والمبالغة في الوعيد، والإشعار بأن حاله لا يقف فإنه تعالى يزيده على مر الأيام قوة ونصرة ولذلك توعدهم بكونه منصوراً عليهم في الدارين فقال: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ.
إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ لأجلهم فإنه مناط مصالحهم في معاشهم ومعادهم. بِالْحَقِّ متلبساً به. فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ إذ نفع به نفسه. وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها فإن وباله لا يتخطاها. وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ وما وكلت عليهم لتجبرهم على الهدى وإنما أمرت بالبلاغ وقد بلغت.
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٤٢]
اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٤٢)
اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها أي يقبضها عن الأبدان بأن يقطع تعلقها عنها وتصرفها فيها إما ظاهراً وباطناً وذلك عند الموت، أو ظاهراً لا باطناً وهو في النوم. فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ ولا يردها إلى البدن، وقرأ حمزة والكسائي قَضى بِضَم القاف وكسر الضاد والموت بالرفع. وَيُرْسِلُ الْأُخْرى أي النائمة إلى بدنها عند اليقظة. إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى هو الوقت المضروب لموته وهو غاية جنس الإرسال.
وما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن في ابن آدم نفساً وروحاً بينهما مثل شعاع الشمس، فالنفس التي بها العقل والتمييز، والروح التي بها النفس والحياة، فيتوفيان عند الموت وتتوفى النفس وحدها عند النوم. قريب مما ذكرناه.
إِنَّ فِي ذلِكَ من التوفي والإِمساك والإِرسال. لَآياتٍ دالة على كمال قدرته وحكمته وشمول رحمته.
لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ في كيفية تعلقها بالأبدان وتوفيها عنها بالكلية حين الموت، وإمساكها باقية لا تفنى بفنائها، وما يعتريها من السعادة والشقاوة والحكمة في توفيها عن ظواهرها وإرسالها حيناً بعد حين إلى توفي آجالها.
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٤٣ الى ٤٤]
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (٤٣) قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٤٤)
أَمِ اتَّخَذُوا بل اتخذ قريش. مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ تشفع لهم عند الله. قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ ولو كانوا على هذه الصفة كما تشاهدونهم جمادات لا تقدر ولا تعلم.
قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لعله رد لما عسى يجيبون به وهو أن الشفعاء أشخاص مقربون هي تماثيلهم، والمعنى أنه مالك الشفاعة كلها لا يستطيع أحد شفاعة إلا بإذنه ورضاه، ولا يستقل بها ثم قرر ذلك فقال:
لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فإنه مالك الملك كله لا يملك أحد أن يتكلم في أمره دون إذنه ورضاه. ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ يوم القيامة فيكون الملك له أيضاً حينئذ.
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٤٥]
وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٥)
وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ دون آلهتهم. اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ انقبضت ونفرت. وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ يعني الأوثان. إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ لفرط افتتانهم بها ونسيانهم حق الله، ولقد بالغ في الأمرين حتى بلغ الغاية فيهما، فإن الاستبشار أن يمتلئ قلبه سروراً حتى تنبسط له بشرة وجهه، والاشمئزاز أن يمتلئ غماً حتى ينقبض أديم وجهه، والعامل في إِذا ذُكِرَ العامل في إذ المفاجأة.
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٤٦]
قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٤٦)
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٤٧ الى ٤٨]
وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (٤٧) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ مَا كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ مَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٤٨)
وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وعيد شديد وإقناط كلي لهم من الخلاص. وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ زيادة مبالغة فيه وهو نظير قوله:
فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُمْ في الوعد.
وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ مَا كَسَبُوا سيئات أعمالهم أو كسبهم حين تعرض صحائفهم. وَحاقَ بِهِمْ مَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ وأحاط بهم جزاؤه.
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٤٩ الى ٥٠]
فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (٤٩) قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ مَّا كانُوا يَكْسِبُونَ (٥٠)
فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا إخبار عن الجنس بما يغلب فيه، والعطف على قوله وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ بالفاء لبيان مناقضتهم وتعكيسهم في التسبب بمعنى أنهم يشمئزون عن ذكر الله وحده ويستبشرون بذكر الآلهة، فإذا مسهم ضر دعوا من اشمأزوا من ذكره دون من استبشروا بذكره، وما بينهما اعتراض مؤكد لإنكار ذلك عليهم. ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا أعطيناه إياه تفضلاً فإن التخويل مختص به. قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ مني بوجوه كسبه، أو بأني سأعطاه لما لي من استحقاقه، أو من الله بي واستحقاقي، والهاء فيه لما إن جعلت موصولة وإلا فللنعمة والتذكير لأن المراد شيء منها. بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ امتحان له أيشكر أم يكفر، وهو رد لما قاله وتأنيث الضمير باعتبار الخير أو لفظ ال نِعْمَةً، وقرئ بالتذكير. وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ذلك، وهو دليل على أن الإِنسان للجنس.
قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ الهاء لقوله إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ لأنها كلمة أو جملة، وقرئ بالتذكير والَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قارون وقومه فإنه قال ورضي به قومه فَما أَغْنى عَنْهُمْ مَّا كانُوا يَكْسِبُونَ من متاع الدنيا.
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٥١ الى ٥٢]
فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ مَا كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥١) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢)
فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ مَا كَسَبُوا جزاء سيئات أعمالهم أو جزاء أعمالهم، وسماه سيئة لأنه في مقابلة أعمالهم السيئة رمزاً إلى أن جميع أعمالهم كذلك. وَالَّذِينَ ظَلَمُوا بالعتو. مِنْ هؤُلاءِ المشركين ومِنْ للبيان أو للتبعيض. سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ مَا كَسَبُوا كما أصاب أولئك، وقد أصابهم فإنهم قحطوا سبع سنين وقتل ببدر صناديدهم. وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ بفائتين.
أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ حيث حبس عنهم الرزق سبعاً ثم بسط لهم سبعاً.
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٥٣ الى ٥٤]
قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥٣) وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لاَ تُنْصَرُونَ (٥٤)
قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أفرطوا في الجناية عليها بالإِسراف في المعاصي، وإضافة العباد تخصصه بالمؤمنين على ما هو عرف القرآن. لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ لا تيأسوا من مغفرته أولاً وتفضله ثانياً. إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً عفواً ولو بَعْدَ بُعْدٍ وتقييده بالتوبة خلاف الظاهر ويدل على إطلاقه فيما عدا الشرك قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ الآية، والتعليل بقوله: إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ على المبالغة وإفادة الحصر والوعد بالرحمة بعد المغفرة، وتقديم ما يستدعي عموم المغفرة مما في عِبادِيَ من الدلالة على الذلة، والإِختصاص المقتضيين للترحم، وتخصيص ضرر الإِسراف بأنفسهم والنهي عن القنوط مطلقاً عن الرحمة فضلاً عن المغفرة، وإطلاقها وتعليله بأن الله يغفر الذنوب جميعا، ووضع اسم اللَّهِ موضع الضمير لدلالته على أنه المستغني والمنعم على الإِطلاق والتأكيد بالجميع. وما
روي أنه عليه الصلاة والسلام قال «ما أحب أن تكون لي الدنيا وما فيها بها، فقال رجل يا رسول الله ومن أشرك فسكت ساعة ثم قال: ألا ومن أشرك ثلاث مرات».
وما
روي أن أهل مكة قالوا: يزعم محمد أن من عبد الوثن وقتل النفس بغير حق لم يغفر له فكيف ولم نهاجر وقد عبدنا الأوثان وقتلنا النفس فنزلت.
وقيل في عياش والوليد بن الوليد في جماعة افتتنوا أو في الوحشي لا ينفي عمومها وكذا قوله:
وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لاَ تُنْصَرُونَ فإنها لا تدل على حصول المغفرة لكل أحد من غير توبة وسبق تعذيب لتغني عن التوبة والإِخلاص في العمل وتنافي الوعيد بالعذاب.
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٥٥ الى ٥٦]
وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ (٥٥) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (٥٦)
وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ القرآن أو المأمور به دون المنهي عنه، أو العزائم دون الرخص أو الناسخ دون المنسوخ، ولعله ما هو أنجى وأسلم كالإنابة والمواظبة على الطاعة. مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ بمجيئه فتتداركوا.
أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ كراهة أن تقول وتنكير نَفْسٌ لأن القائل بعض الأنفس أو للتكثير كقول الأعشى:
وَرُبَّ بَقِيعَ لَوْ هَتَفْتُ بِجَوِّه | أَتَانِي كَرِيمٌ يَنْفُضُ الرَّأْسَ مُغْضبا |
أَمَا تَتَّقِينَ الله فِي جَنْبٍ وَامِق | لَهُ كبدٌ حَرّى عَلَيْكَ تَقَطَّع |
إِنَّ السَّمَاحَةَ وَالمُرُوءَةَ وَالنَّدَى | فِي قُبَّةٍ ضُرِبَتْ عَلَى ابْنِ الحَشْرَجِ |
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٥٧ الى ٥٩]
أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٥٧) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (٥٩)أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي بالإرشاد إلى الحق. لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ الشرك والمعاصي.
أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ في العقيدة والعمل، وأو للدلالة على أنها لا تخلوا من هذه الأقوال تحيراً وتعللاً بما لا طائل تحته.
بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ رد من الله عليه لما تضمنه قوله لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي من معنى النفي وفصله عنه لأن تقديمه يفرق القرائن وتأخير المودود يخل بالنظم المطابق للوجود لأنه يتحسر بالتفريط ثم يتعلل بفقد الهداية ثم يتمنى الرجعة، وهو لا يمنع تأثير قدرة الله فعل العبد ولا ما فيه من إسناد الفعل إليه كما عرفت وتذكير الخطاب على المعنى، وقرئ بالتأنيث للنفس.
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٦٠ الى ٦١]
وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (٦٠) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لاَ يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦١)
وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ بأن وصفوه بما لا يجوز كاتخاذ الولد. وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ بما ينالهم من الشدة أو بما يتخيل عليها من ظلمة الجهل، والجملة حال إذ الظاهر أن ترى من رؤية البصر واكتفى فيها بالضمير عن الواو. أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً مقام. لِلْمُتَكَبِّرِينَ عن الإِيمان والطاعة وهو تقرير لأنهم يرون كذلك.
وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا وقرئ «وَيُنَجّي». بِمَفازَتِهِمْ بفلاحهم مفعلة من الفوز وتفسيرها بالنجاة تخصيصها بأهم أقسامه وبالسعادة والعمل الصالح إطلاق لها على السبب، وقرأ الكوفيون غير حفص بالجمع تطبيقاً له بالمضاف إليه والباء فيها للسببية صلة لينجي أو لقوله: لاَ يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وهو حال أو استئناف لبيان المفازة.
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٦٢ الى ٦٣]
اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (٦٢) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٦٣)
اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ من خير وشر وإيمان وكفر. وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ يتولى التصرف.
لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يملك أمرها ولا يتمكن من التصرف فيها غيره، وهو كناية عن قدرته وحفظه لها وفيها مزيد دلالة على الاختصاص، لأن الخزائن لا يدخلها ولا يتصرف فيها الا من بيده مفاتيحها، وهو جمع مقليد أو مقلاد من قلدته إذا ألزمته، وقيل جمع إقليد معرب إكليد على الشذوذ كمذاكير.
وعن عثمان رضي الله عنه: أنه سأل النبي صلّى الله عليه وسلم عن المقاليد فقال «تفسيرها لا إله إلا الله والله أكبر، وسبحان الله وبحمده وأستغفر الله ولا حول ولا قوة إلا بالله، هو الأول والآخر والظاهر والباطن، بيده الخير يحيي ويميت وَهُوَ على كُلّ شَىْء قدير».
والمعنى على هذا إن لله هذه الكلمات يوحد بها ويمجد، وهي مفاتيح خير السموات والأرض من تكلم بها أصابه. وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ متصل بقوله وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا وما بينهما اعتراض للدلالة على أنه مهيمن على العباد مطلع على أفعالهم مجاز عليها، وتغيير
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٦٤ الى ٦٥]
قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (٦٤) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٥)
قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ أي أفغير الله أعبد بعد هذه الدلائل والمواعيد، وتَأْمُرُونِّي اعتراض للدلالة على أنهم أمروه به عقيب ذلك وقالوا استلم بعض آلهتنا ونؤمن بإلهك لفرط غباوتهم، ويجوز أن ينتصب غير بما دل عليه تَأْمُرُونّى أَنْ أَعْبُدَ لأنه بمعنى تعبدونني على أن أصله تأمرونني أن أعبد فحذف إن ورفع كقوله:
أَلا أَيّهذا الزَّاجِرِي أحضر الوغى ويؤيده قراءة أَعْبُدُ بالنصب، وقرأ ابن عامر «تأمرونني» بإظهار النونين على الأصل ونافع بحذف الثانية فإنها تحذف كثيراً.
وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ أي من الرسل. لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ كلام على سبيل الفرض والمراد به تهييج الرسل وإقناط الكفرة والإِشعار على حكم الأمة، وإفراد الخطاب باعتبار كل واحد واللام الأولى موطئة للقسم والأخريان للجواب، وإطلاق الإِحباط يحتمل أن يكون من خصائصهم لأن شركهم أقبح، وأن يكون على التقييد بالموت كما صرح به في قوله وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وعطف الخسران عليه من عطف المسبب على السبب.
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٦٦ الى ٦٧]
بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٦) وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٧)
بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ رد لما أمروه به ولولا دلالة التقديم على الاختصاص لم يكن كذلك. وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ إنعامه عليك وفيه إشارة الى موجب الاختصاص.
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ما قدروا عظمته في أنفسهم حق تعظيمه حيث جعلوا له شركاء ووصفوه بما لا يليق به، وقرئ بالتشديد. وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ تنبيه على عظمته وحقارة الأفعال العظام التي تتحير فيها الأوهام بالإِضافة إلى قدرته، ودلالة على أن تخريب العالم أهون شيء عليه على طريقة التمثيل والتخييل من غير اعتبار القبضة واليمين حقيقة ولا مجازاً كقولهم: شابت لمة الليل، والقبضة المرة من القبض أطلقت بمعنى القبضة وهي المقدار المقبوض بالكف تسمية بالمصدر أو بتقدير ذات قبضة. وقرئ بالنصب على الظرف تشبيهاً للمؤقت بالمبهم، وتأكيد الْأَرْضُ بالجميع لأن المراد بها الأرضون السبع أو جميع أبعاضها البادية والغائرة. وقرئ «مطويات» على أنها حال والسَّماواتُ معطوفة على الْأَرْضُ منظومة في حكمها. سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ما أبعد وأعلى من هذه قدرته وعظمته عن إشراكهم، أو ما يضاف إليه من الشركاء.
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٦٨]
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (٦٨)
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٦٩ الى ٧٠]
وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ (٦٩) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (٧٠)
وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها بما أقام فيها من العدل، سماه «نور» لأنه يزين البقاع ويظهر الحقوق كما سمى الظلم ظلمة.
وفي الحديث «الظلم ظلمات يوم القيامة».
ولذلك أضاف اسمه إلى الْأَرْضُ أو بنور خلق فيها بلا واسطة أجسام مضيئة ولذلك أضافه الى نفسه. وَوُضِعَ الْكِتابُ للحساب والجزاء من وضع المحاسب كتاب المحاسبة بين يديه، أو صحائف الأعمال في أيدي العمال، واكتفى باسم الجنس عن الجمع.
وقيل اللوح المحفوظ يقابل به الصحائف وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ الذين يشهدون للأمم وعليهم من الملائكة والمؤمنين، وقيل المستشهدون. وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بين العباد. بِالْحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ بنقص ثواب أو زيادة عقاب على ما جرى به الوعد.
وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ جزاءه. وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ فلا يفوته شيء من أفعالهم، ثم فصل التوفية فقال:
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٧١ الى ٧٢]
وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (٧١) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٢)
وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً أفواجاً متفرقة بعضها في أثر بعض على تفاوت أقدامهم في الضلالة والشرارة، جمع زمرة واشتقاقها من الزمر وهو الصوت إذ الجماعة لا تخلو عنه، أو من قولهم شاة زمرة قليلة الشعر ورجل زمر قليل المروءة وهي الجمع القليل. حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها ليدخلوها وحَتَّى وهي التي تحكي بعدها الجملة، وقرأ الكوفيون فُتِحَتْ بتخفيف التاء. وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها تقريعاً وتوبيخاً. أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ من جنسكم. يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وقتكم هذا وهو وقت دخولهم النار، وفيه دليل على أنه لا تكليف قبل الشرع من حيث إنهم عللوا توبيخهم بإتيان الرسل وتبليغ الكتب. قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ كلمة الله بالعذاب علينا وهو الحكم عليهم بالشقاوة، وأنهم من أهل النار ووضع الظاهر فيه موضع الضمير للدلالة على اختصاص ذلك بالكفرة، وقيل هو قوله وقيل هو قوله لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ.
قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أبهم القائل لتهويل ما يقال لهم. فَبِئْسَ مَثْوَى مكان.
الْمُتَكَبِّرِينَ اللام فيه للجنس والمخصوص بالذم سبق ذكره، ولا ينافي إشعاره بأن مثواهم في النار لتكبرهم عن الحق أن يكون دخولهم فيها لأن كلمة العذاب حقت عليهم، فإن تكبرهم وسائر مقابحهم مسببة عنه كما
قال عليه الصلاة والسلام «إِن الله تعالى إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة، حتى يموت على عمل
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٧٣ الى ٧٤]
وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (٧٣) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٧٤)
وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ إِسراعاً بهم إلى دار الكرامة، وقيل سيق مراكبهم إذ لا يذهب بهم إلا راكبين. زُمَراً على تفاوت مراتبهم في الشرف وعلو الطبقة. حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها حذف جواب إذا للدلالة على أن لهم حينئذ من الكرامة والتعظيم ما لا يحيط به الوصف، وأن أبواب الجنة تفتح لهم قبل مجيئهم غير منتظرين، وقرأ الكوفيون فُتِحَتْ بالتخفيف. وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا يعتريكم بعد مكروه. طِبْتُمْ طهرتم من دنس المعاصي. فَادْخُلُوها خالِدِينَ مقدرين الخلود فيها، والفاء للدلالة على أن طيبهم سبب لدخولهم وخلودهم، وهو لا يمنع دخول العاصي بعفوه لأنه مطهره.
وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ بالبعث والثواب. وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ يريدون المكان الذي استقروا فيه على الاستعارة، وإيراثها تمليكها مخلفة عليهم من أعمالهم أو تمكينهم من التصرف فيها تمكين الوارث فيما يرثه. نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ أي يتبوأ كل منا في أي مقام أراده من جنته الواسعة، مع أن في الجنة مقامات معنوية لا يتمانع واردوها. فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ الجنة.
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٧٥]
وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٧٥)
وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ محدقين. مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ أي حوله ومِنْ مزيدة أو لابتداء الحفوف.
يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ملتبسين بحمده. والجملة حال ثانية أو مقيدة للأولى، والمعنى ذاكرين له بوصفي جلاله وإكرامه تلذذاً به، وفيه إشعار بأن منتهى درجات العليين وأعلى لذائذهم هو الاستغراق في صفات الحق. وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ أي بين الخلق بإدخال بعضهم النار وبعضهم الجنة، أو بين الملائكة بإقامتهم في منازلهم على حسب تفاضلهم. وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ أي على ما قضي بيننا بالحق. والقائلون هم المؤمنون من المقضي بينهم أو الملائكة وطي ذكرهم لتعينهم وتعظيمهم.
عن النبي صلّى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الزمر لم يقطع رجاءه يوم القيامة وأعطاه الله ثواب الخائفين».
عن عائشة رضي الله عنها: «أنه عليه الصلاة والسلام كان يقرأ كل ليلة بني إسرائيل والزمر»
والله أعلم.