تفسير سورة الأنعام

أحكام القرآن
تفسير سورة سورة الأنعام من كتاب أحكام القرآن .
لمؤلفه ابن العربي . المتوفي سنة 543 هـ
سورة الأنعام
فيها ثمان عشرة آية

الْآيَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ من وَرَقَةٍ إلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾.
فِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَعِنْدَهُ ﴾ :
اعْلَمُوا أَنَّا قَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْآيَةَ فِي مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ إلَى مَعْرِفَةِ غَوَامِضِ النَّحْوِيِّينَ ( بِمَا الْمَقْصُودُ منه هَاهُنَا أَنَّ " عِنْدَهُ " كَلِمَةً يُعَبَّرُ بِهَا عَمَّا قَرُبَ منك. وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ دُنُوَّ الشَّيْءِ من الشَّيْءِ يُقَالُ فِيهِ قَرِيبٌ، وَنَأْيُهُ عَنْهُ يُقَالُ فِيهِ بَعِيدٌ، وَأَصْلُهُ الْمَكَانُ فِي الْمِسَاحَةِ، تَقُولُ : زَيْدٌ قَرِيبٌ منك، وَعَمْرو بَعِيدٌ عَنْك.
وَيُوضَعُ الْفِعْلُ مَوْضِعَ الِاسْمِ ؛ فَتَقُولُ : زَيْدٌ قُرْبُك، ثُمَّ يُنْقَلُ إلَى الْمَكَانَةِ الْمَعْقُولَةِ غَيْرِ الْمَحْسُوسَةِ، فَيُقَالُ : الْعِلْمُ منك قَرِيبٌ، وَعَلَيْهِ يُتَأَوَّلُ مَا يُخْبَرُ بِهِ عَنْ الْبَارِي سُبْحَانَهُ من ذَلِكَ، وَبِهِ يُفَسَّرُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ :﴿ وَإِذَا سَأَلَك عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ﴾ بِعِشْرِينَ مَعْنًى جَائِزَةٍ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، مِمَّا يَصِحُّ أَنْ يُوصَفَ بِهَا وَيُخْبَرُ عَنْهُ بِمَعْنَاهَا عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الْمُشْكِلَيْنِ.
وَتَقُولُ : زَيْدٌ قُدَّامُك، وَعَمْرو وَرَاءَك. فَإِذَا قُلْت زَيْدٌ قُدَّامُك احْتَمَلَ الْمَسَافَةَ من لَدُنْ جِسْمِهِ إلَى مَا لَا يَنْحَصِرُ مُنْتَهَاهُ قَدَمًا، وَكَذَلِكَ وَرَاءَك، فَصَغَّرُوهُ إذَا أَرَادُوا قُرْبَ الْمَسَافَةِ من الْمُخْبَرِ عَنْهُ، فَقَالُوا : قُدَيْدِيمَةُ. وَإِذَا أَرَادُوا تَخْلِيصَ الْقُرْبِ بِغَايَةِ الدُّنُوِّ قَالُوا : زَيْدٌ عِنْدَك، عَبَّرُوا بِهِ عَنْ نِهَايَةِ الْقُرْبِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُصَغِّرُوهُ، فَيَقُولُوا فِيهِ عُنَيْدَ.
وَقَدْ يُعَبَّرُ بِهَا أَيْضًا عَمَّا فِي مِلْكِ الْإِنْسَانِ، فَيُقَالُ : عِنْدَهُ كَذَا وَكَذَا ؛ أَيْ فِي مِلْكِهِ لِأَنَّ الْمِلْكَ يَخْتَصُّ بِالْمَرْءِ اخْتِصَاصَ الصِّفَةِ بِالْمَوْصُوفِ ؛ فَعَبَّرُوا بِأَقْرَبِ الْوُجُوهِ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ : عِنْدَهُ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ :( نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَك ) يَعْنِي فِي مِلْكِك.
إذَا ثَبَتَ هَذَا وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ ﴾ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ قُرْبَهَا منهُ قُرْبَ مَكَانَةٍ وَتَيْسِيرٍ، لَا قُرْبَ مَكَان. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ أَنَّهَا فِي مِلْكِهِ يُظْهِرُ منهَا مَا يَشَاءُ وَيُخْفِي مَا يَشَاءُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : هَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ من أُصُولِ عَقَائِدِ الْمُسْلِمِينَ، وَرُكْنٌ من قَوَاعِدِ الدِّينِ، مُعْظَمُهَا يَتَفَسَّرُ بِهَا، وَفِيهَا من الْأَحْكَامِ نُكْتَةٌ وَاحِدَةٌ ؛ فَأَمَّا مَنْزَعُهَا فِي الْأُصُولِ فَقَدْ أَوْضَحْنَاهُ فِي كِتَابِ الْمُشْكِلَيْنِ ؛ وَأَمَّا نُكْتَتُهَا الْأَحْكَامِيَّةُ فَنُشِيرُ إلَيْهَا فِي هَذَا الْمَجْمُوعِ ؛ لِأَنَّهَا من جِنْسِ مَضْمُونِهِ، وَمَعَ هَذَا فَلَا بُدَّ من الْإِشَارَةِ إلَى مَا تَضَمَّنَهُ كِتَابُ الْمُشْكِلَيْنِ لِيَنْفَتِحَ بِذَلِكَ غَلْقُ الْحُكْمِ الْمَطْلُوبِ فِي هَذَا الْمَجْمُوعِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ ﴾ وَاحِدُهَا مَفْتَحٌ وَمِفْتَاحٌ، وَجَمْعُهُ مَفَاتِحُ وَمَفَاتِيحُ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ كُلِّ مَعْنَى يَحِلُّ غَلْقًا، مَحْسُوسًا كَانَ كَالْقُفْلِ عَلَى الْبَيْتِ، أَوْ مَعْقُولًا كَالنَّظَرِ، وَالْخَبَرُ يَفْتَحُ قُفْلَ الْجَهْلِ عَنْ الْعِلْمِ وَالْغَيْبِ، وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : عِبَارَةٌ عَنْ مُتَعَلِّقٍ لَا يُدْرَكُ حِسًّا أَوْ عَقْلًا، وَكَمَا لَا يُدْرِكُ الْبَصَرُ مَا وَرَاءَ الْجِدَارِ أَوْ مَا فِي الْبَيْتِ الْمُقْفَلِ، كَذَلِكَ لَا تُدْرِكُ الْبَصِيرَةُ مَا وَرَاءَ الْمَحْسُوسَاتِ الْخَمْسِ، وَالْمَحْسُوسَاتُ مُنْحَصِرَةُ الطُّرُقِ بِانْحِصَارِ الْحَوَاسِّ وَالْمَعْقُولَاتُ لَا تَنْحَصِرُ طُرُقُهَا إلَّا من جِهَةِ قِسْمَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : مَا يُدْرَكُ بِبَدِيهَةِ النَّظَرِ.
الثَّانِي : مَا يَتَحَصَّلُ من سَبِيلِ النَّظَرِ.
أَمَّا إنَّهُ لَها أُمَّهَاتٌ خَمْسٌ وَقَعَتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهَا وَجَاءَتْ الْعِبَارَةُ عَنْهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ إنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾.
فَالْأُمُّ الْكُبْرَى : السَّاعَةُ ؛ وَمَا تَضَمَّنَتْ من الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ وَالْمَوْقِفِ، وَمَا فِيهِ من الْأَهْوَالِ، وَحَالُ الْخَلْقِ فِي الْحِسَابِ، وَ من قَلُهُمْ بَعْدَ تَفْضِيلٍ وَحَطٍّ وَتَفْصِيلِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ.
الْأُمُّ الثَّانِيَةُ : تَنْزِيلُ الْغَيْثِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ من الْإِحْيَاءِ وَالْإِنْبَاتِ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْأَثَرِ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَضَعَ ذَلِكَ عَلَى يَدَيْ مِيكَائِيلَ وَتَحْتَ نَظَرِهِ مَلَائِكَةٌ لَا يُحْصِيهَا إلَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ تَصْدُرُ عَنْ أَمْرِهِ فِي تَنْفِيذِ الْمَقَادِيرِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِذَلِكَ من إنْشَاءِ الرِّيَاحِ، وَتَأْلِيفِ السَّحَابِ، وَإِلْقَاحِهَا بِالْمَاءِ، وَفَتْقِهَا بِالْقَطْرِ، وَعَلَى يَدَيْ كُلِّ مَلِكٍ قَطْرَةٌ يُنْزِلُهَا إلَى بُقْعَةٍ مَعْلُومَةٍ لِيُنَمِّيَ بِهَا شَجَرَةً مَخْصُوصَةً ؛ لِيَكُونَ رِزْقًا لِحَيَوَانٍ مُعَيَّنٍ حَتَّى يَنْتَهِيَ إلَيْهِ.
الْأُمُّ الثَّالِثَةُ : مَا تَحْوِيهِ الْأَرْحَامُ، وَقَدْ وَكَّلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِذَلِكَ فِي مَوْرِدِ الْأَمْرِ مَلَكًا يُقَالُ لَهُ إسْرَافِيلُ، وَفِي زِمَامِهِ : من الْمَلَائِكَةِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَقَرَنَ بِكُلِّ رَحِمٍ مَلَكًا يَجْرِي عَلَى يَدَيْهِ تَدْبِيرُ النُّطْفَةِ فِي أَطْوَارِ الْخِلْقَةِ.
الْأُمُّ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا ﴾ :
وَهُوَ مَعْنًى خَبَّأَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْ الْخَلْقِ تَحْتَ أَسْتَارِ الْأَقْدَارِ، بِحِكْمَتِهِ الْقَائِمَةِ، وَحُجَّتِهِ الْبَالِغَةِ، وَقُدْرَتِهِ الْقَاهِرَةِ، وَمَشِيئَتِهِ النَّافِذَةِ، فَكَائِنَاتُ غَدٍ تَحْتَ حِجَابِ اللَّهِ، وَنَبَّهَ : بِالْكَسْبِ عَنْ تَعْمِيَتِهَا ؛ لِأَنَّهُ أَوْكَدُ مَا عِنْدَ الْمَرْءِ لِلْمَعْرِفَةِ، وَأَوْلَاهُ لِلتَّحْصِيلِ، وَعَلَيْهِ يَتَرَكَّبُ الْعُمْرُ وَالرِّزْقُ، وَالْأَجَلُ، وَالنَّجَاةُ، وَالْهَلَكَةُ، وَالسُّرُورُ، وَالْغَمُّ، وَالْغَرَائِزُ الْمُزْدَوِجَةُ فِي جِبِلَّةِ الْآدَمِيِّ من مَفْرُوحٍ بِهِ أَوْ مَكْرُوهٍ لَهُ.
الْأُمُّ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ﴾ :
نَبَّأَ بِهِ عَنْ الْعَاقِبَةِ الَّتِي انْفَرَدَ بِالِاطِّلَاعِ عَلَيْهَا رَبُّ الْعِزَّةِ.
وَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي تَأْكِيدِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَنْ جَمَاعَةٍ من الصَّحَابَةِ ؛ من هُمْ أَبُو ذَرٍّ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ ؛ قَالَا :{ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَجْلِسُ بَيْنَ ظَهْرَانِيْ أَصْحَابِهِ، فَيَجِيءُ الْغَرِيبُ فَلَا يَدْرِي أَيُّهُمْ هُوَ حَتَّى يَسْأَلَ عَنْهُ، فَطَلَبْنَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نَجْعَلَ لَهُ مَجْلِسًا يَعْرِفُهُ الْغَرِيبُ إذَا أَتَاهُ، فَبَنَيْنَا لَهُ دُكَّانًا من طِينٍ، كَانَ يَجْلِسُ عَلَيْهِ، وَكُنَّا نَجْلِسُ جَانِبَيْهِ، فَإِنَّا لَجُلُوسٌ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَجْلِسِهِ إذْ أَقْبَلَ رَجُلٌ من أَحْسَنِ النَّاسِ وَجْهًا، وَأَطْيَبِ النَّاسِ رِيحًا، وَأَنْقَى النَّاسِ ثَوْبًا، كَأَنَّ ثِيَابَهُ لَمْ يَمَسَّهَا دَنَسٌ، إذْ وَقَفَ فِي طَرَفِ السِّمَاطِ، فَقَالَ : السَّلَامُ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَرَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ ثُمَّ قَالَ : يَا مُحَمَّدُ، أَدْنُو ؟ قَالَ : ادْنُهْ. فَمَا زَالَ بِهِ يَقُولُ : أَدْنُو ؟ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ لَهُ : ادْنُهْ، حَتَّى وَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ أَخْبِرْنِي مَا الْإِسْلَامُ ؟ قَالَ : الْإِسْلَامُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا تُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ وَتَصُومَ رَمَضَانَ. قَالَ : فَإِذَا فَعَلْت ذَلِكَ فَقَدْ أَسْلَمْت ؟ قَالَ : نَعَمْ. قَالَ : صَدَقْت.
قَالَ : فَلَمَّا أَنْ سَمِعْنَا قَوْلَهُ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ أَنْكَرْنَا ذَلِكَ.
ثُمَّ قَالَ : يَا مُحَمَّدُ، أَخْبِرْنِي مَا الْإِيمَانُ ؟ قَالَ : أَنْ تُؤْمِنَ بِاَللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ كُلِّهِ.
قَالَ : فَإِذَا فَعَلْت ذَلِكَ فَقَدْ آمَنْت ؟ قَالَ : نَعَمْ. قَالَ : صَدَقْت.
قَالَ : فَمَا الْإِحْسَانُ ؟ قَالَ : الْإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّك تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاك. قَالَ : صَدَقْت.
قَالَ : فَمَتَى السَّاعَةُ ؟ قَالَ : فَنَكَّسَ فَلَمْ يُجِبْهُ، ثُمَّ دَعَاهُ فَلَمْ يُجِبْهُ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، فَحَلَفَ بِاَللَّهِ، وَقَالَ : مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ من السَّائِلِ، وَلَكِنْ لَهَا عَلَامَاتٌ يَجِئْنَ، إذَا رَأَيْت رِعَاءَ الْغَنَمِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ، وَر
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَإِذَا رَأَيْت الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾.
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْإِعْرَاضِ عَنْ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ، وَفِي ذَلِكَ نَزَلَتْ. وَالْخَوْضُ هُوَ الْمَشْيُ فِيمَا لَا يَتَحَصَّلُ حَقِيقَةً، من الْخَائِضِ فِي الْمَاءِ الَّذِي لَا يُدْرَى بَاطِنُهُ، اُسْتُعِيرَ من الْمَحْسُوسِ لِلْمَعْقُولِ عَلَى مَا نَبَّهْنَا عَلَيْهِ فِي الْأُصُولِ، وَحَرَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْمُشَارَكَةَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ عَلَى رَسُولِهِ بِالْمُجَالَسَةِ، سَوَاءٌ تَكَلَّمَ مَعَهُمْ فِي ذَلِكَ أَوْ كَرِهَهُ.
وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مُجَالَسَةَ أَهْلِ الْمُنْكَرِ لَا تَحِلُّ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ :
قَالَ قَوْمٌ : هَذَا خِطَابٌ من اللَّهِ سُبْحَانَهُ لِنَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ الْأُمَّةُ، وَكَأَنَّ الْقَائِلِينَ بِذَلِكَ ذَهَبُوا إلَى تَنْزِيهِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ النِّسْيَانِ وَهُمْ كِبَارُ الرَّافِضَةِ، قَبَّحَهُمْ اللَّهُ، وَإِنْ عَذَرْنَا أَصْحَابَنَا فِي قَوْلِهِمْ : إنْ قَوْله تَعَالَى :﴿ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُك ﴾، خِطَابٌ لِلْأُمَّةِ بِاسْمِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لِاسْتِحَالَةِ الْإِشْرَاكِ عَلَيْهِ فَلَا عُذْرَ لَهُمْ فِي هَذَا لِجَوَازِ النِّسْيَانِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :﴿ سَنُقْرِئُك فَلَا تَنْسَى ﴾. وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُخْبِرًا عَنْ نَفْسِهِ :( إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ )، وَقَالَ وَقَدْ سَمِعَ قِرَاءَةَ رَجُلٍ [ يَقْرَأُ ] :( لَقَدْ أَذْكَرَنِي كَذَا وَكَذَا آيَةً كُنْت أُنْسِيتهَا ).
وَقَالَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ :( تَلَاحَى رَجُلَانِ فَنَسِيتهَا ).
وَقَالَ :( لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ نَسِيت آيَةَ كَذَا، بَلْ نُسِّيتهَا )، كَرَاهِيَةَ إضَافَةِ اللَّفْظِ إلَى الْقُرْآنِ ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ كَذَلِكَ أَتَتْك آيَاتُنَا فَنَسِيتهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ﴾. وَفَائِدَتُهُ : أَنَّ لَفْظَ " نَسِيت " يَنْطَلِقُ عَلَى تَرَكْت انْطِلَاقًا طِبْقِيًّا، ثُمَّ نَقُولُ فِي تَقْسِيمِ وَجْهَيْ مُتَعَلِّقِهِ سَهَوْت إذَا كَانَ تَرَكَهُ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ، وَعَمَدْت إذَا كَانَ تَرَكَهُ عَنْ قَصْدٍ ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إنَّ قَوْلَهُ :﴿ مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا ﴾ عَامٌّ فِي وَجْهَيْ النِّسْيَانِ الْعَمْدِ وَالسَّهْوِ.
وَقَوْلُهُ إذَا ذَكَرَهَا : يَعْنِي أَنَّ السَّاهِيَ يَطْرَأُ عَلَيْهِ الذِّكْرُ فَيَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ الْخِطَابُ، وَأَنَّ الْعَامِدَ ذَاكِرٌ أَبَدًا فَلَا يَزَالُ الْخِطَابُ يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ أَبَدًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إنَّ رَبَّك حَكِيمٌ عَلِيمٌ ﴾.
رَوَى ابْنُ وَهْبٍ، وَابْنُ الْقَاسِمِ، وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ، وَالْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ :( نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ) قَالَ : بِالْعِلْمِ. قَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ لَيْسَ الْعِلْمُ بِكَثْرَةِ الرِّوَايَةِ وَإِنَّمَا هُوَ نُورٌ يَضَعُهُ اللَّهُ فِي قَلْبِ مَنْ يَشَاءُ.
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : لَيْسَ الْعِلْمُ بِكَثْرَةِ الرِّوَايَةِ ؛ وَإِنَّمَا هُوَ خَشْيَةُ اللَّهِ تَعَالَى.
رَوَى الْمَنْصُورُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - :( هِمَّةُ السُّفَهَاءِ الرِّوَايَةُ، وَهِمَّةُ الْعُلَمَاءِ الدِّرَايَةُ ).
وَقَالَ مَالِكٌ، لِابْنَيْ أُخْتِهِ أَبِي بَكْرٍ وَإِسْمَاعِيلَ : إنْ أَحْبَبْتُمَا أَنْ يَنْفَعَكُمَا اللَّهُ بِهَذَا الشَّأْنِ فَأَقِلَّا من هُ، وَتَفَقَّهَا فِيهِ.
وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ : نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ فِي الدُّنْيَا.
قَالَ الْقَاضِي : وَصَدَقَ ؛ عِلْمُ الدُّنْيَا عِنْوَانُ الْآخِرَةِ وَسَبِيلُهَا.
وَاَلَّذِي أُوتِيَهُ إبْرَاهِيمَ من الْعِلْمِ بِالْحُجَّةِ، وَهِيَ الَّتِي تُذْكَرُ لِلْخَصْمِ عَلَى طَرِيقِ الْمُقَابَلَةِ كَانَ فِي الدُّنْيَا بِظُهُورِ دَلَالَةِ التَّوْحِيدِ وَبَيَانِ عِصْمَةِ إبْرَاهِيمَ عَنْ الْجَهْلِ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَالشَّكِّ فِيهِ، وَالْإِخْبَارِ أَنَّ مَا جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمِهِ إنَّمَا كَانَ احْتِجَاجًا، وَلَمْ يَكُنْ اعْتِقَادًا، وَقَدْ مَهَّدْنَا ذَلِكَ فِي الْمُشْكِلَيْنِ.
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إنْ هُوَ إلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ﴾.
قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ بْنُ الْعَرَبِيِّ : هَذِهِ الْآيَةُ أُصُولِيَّةٌ ؛ فَإِنَّهَا تُفِيدُ مَسْأَلَةً من الْأُصُولِ، وَهِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأُمَّتَهُ : هَلْ تَعَبَّدُوا بِشَرِيعَةِ مَنْ قَبْلَهُمْ أَمْ لَا ؟ وَقَدْ حَقَّقْنَاهَا فِي الْأُصُولِ، فَلْتُنْظَرْ هُنَاكَ.
وَفِيهَا من الْأَحْكَامِ الْعَمَلُ بِمَا ظَهَرَ من أَفْعَالِهِمْ، وَأَخْبَرَنَا عَنْهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ عَنْ الْعَوَّامِ قَالَ : سَأَلْت مُجَاهِدًا عَنْ سَجْدَةِ " ص " فَقَالَ : سَأَلْت ابْنَ عَبَّاسٍ من أَيْنَ سَجَدْت ؟ فَقَالَ : أَوَمَا تَقْرَأُ :﴿ وَ من ذُرِّيَّتِهِ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ. . . ﴾ إلَى قَوْلِهِ :﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ ﴾. وَكَانَ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ مِمَّنْ أُمِرَ نَبِيُّكُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِ، فَسَجَدَهَا دَاوُد، فَسَجَدَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ؛ وَسَتَرَاهَا مُسْتَوْفَاةً فِي سُورَةِ " ص " إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الْآيَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ اُنْظُرُوا إلَى ثَمَرِهِ إذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ ﴾ :
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي تَفْسِيرِ الْيَنْعِ.
فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : الطِّيبُ وَالنُّضْجُ ؛ يُقَال : أَيْنَعَ الثَّمَرُ يَيْنَعُ وَيُونِعُ، وَالثَّمَرُ يَانِعٌ وَمُونِعٌ، إذَا أَدْرَكَ.
الثَّانِي : قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ : الْيَنْعُ جَمْعُ يَانِعٍ، وَهُوَ الْمُدْرِكُ الْبَالِغُ.
الثَّالِثُ : قَالَ الْفَرَّاءُ :" يَنَعَ " أَقَلُّ من " أَيْنَعَ " وَمَعْنَاهُ احْمَرَّ، وَ من هُ مَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ الْمُلَاعَنَةِ :﴿ إنْ وَلَدَتْهُ أَحْمَرَ مِثْلَ الْيَنَعَةِ ﴾، وَهِيَ : خَرَزَةٌ حَمْرَاءُ، يُقَالُ : إنَّهُ الْعَقِيقُ، أَوْ نَوْعٌ من هُ ؛ وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ يَقِفُ جَوَازُ بَيْعِ الثَّمَرِ، وَبِهِ يَطِيبُ أَكْلُهَا، وَيَأْمَنُ الْعَاهَةَ، وَذَلِكَ عِنْدَ طُلُوعِ الثُّرَيَّا مَعَ الْفَجْرِ، بِمَا أَجْرَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي ذَلِكَ من الْعَادَةِ، وَأَحْكَمَهُ من الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ، وَفَصَّلَهُ من الْحُكْمِ وَالشَّرِيعَةِ ؛ وَ من أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ :﴿ نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ قَبْلَ أَنْ يُشَقَّحَ ﴾ قَالَ الْأَصْمَعِيُّ : إذَا تَغَيَّرَ الْبُسْرُ إلَى الْحُمْرَةِ قِيلَ : هَذِهِ شُقْحَةٌ، وَقَدْ أَشَقَحَتْ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ وَهْبٍ قَالَ مَالِكٌ وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ :﴿ إلَى ثَمَرِهِ إذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ ﴾ :
الْإِينَاعُ : الطِّيبُ بِغَيْرِ فَسَادٍ وَلَا نَقْشٍ. قَالَ مَالِكٌ : وَالنَّقْشُ أَنْ تَنْقُشَ أَسْفَلَ الْبُسْرَةِ حَتَّى تَرْطُبَ، يُرِيدُ يَثْقُبُ فِيهَا، بِحَيْثُ يُسْرِعُ دُخُولُ الْهَوَاءِ إلَيْهِ فَيَرْطُبُ مُعَجَّلًا ؛ فَلَيْسَ ذَلِكَ الْيَنْعُ الْمُرَادَ فِي الْقُرْآنِ، وَلَا هُوَ الَّذِي رَبَطَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْبَيْعَ ؛ وَإِنَّمَا هُوَ مَا يَكُونُ من ذَاتِهِ بِغَيْرِ مُحَاوَلَةٍ، وَفِي بَعْضِ بِلَادِ التِّينِ، وَهِيَ الْبِلَادُ الْبَارِدَةُ، لَا يَنْضَجُ حَتَّى يَدْخُلَ فِي فَمِهِ عَمُودٌ قَدْ دُهِنَ بِزَيْتٍ، فَإِذَا طَابَ حَلَّ بَيْعُهُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ ضَرُورَةُ الْهَوَاءِ وَعَادَةُ الْبِلَادِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا طَابَ فِي وَقْتِ الطِّيبِ.
وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ : قُلْت لِعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ الْمَلِكِ بْنِ الْمَاجِشُونِ وَقَدْ رَأَيْته يَأْكُلُ الرُّطَبَ يُقَصِّعُهُ، كَيْفَ تَفْعَلُ هَذَا، وَقَدْ ( نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ تَقْصِيعِ الرُّطَبِ ) ؟ فَقَالَ : إنَّمَا نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ تَقْصِيعِ الرُّطَبِ حَيْثُ كَانَ أَكْلُهُ : يَتَشَبَّعُ بِهِ ؛ وَقَدْ جَاءَ اللَّهُ بِالرَّخَاءِ وَالْخَيْرِ، وَالْمُرَادُ هَاهُنَا بِالتَّقْصِيعِ أَكْلُ الرُّطَبَةِ فِي لُقْمَةٍ، وَذَلِكَ يَكُونُ مَعَ الشِّبَعِ ؛ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ غَيْرُهَا فَأَكْلُهَا فِي لُقَمٍ أَثْبَتُ لِلشِّبَعِ.
الْآيَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ من دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾.
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ : لَا تَسُبُّوا آلِهَةَ الْكُفَّارِ فَيَسُبُّوا إلَهَكُمْ وَكَذَلِكَ هُوَ ؛ فَإِنَّ السَّبَّ فِي غَيْرِ الْحُجَّةِ فِعْلُ الْأَدْنِيَاءِ.
وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - :( لَعَنَ اللَّهُ الرَّجُلَ يَسُبُّ أَبَوَيْهِ. قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ وَكَيْفَ يَسُبُّ أَبَوَيْهِ ؟ قَالَ : يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ ) ؛ فَمَنَعَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ أَحَدًا أَنْ يَفْعَلَ فِعْلًا جَائِزًا يُؤَدِّي إلَى مَحْظُورٍ ؛ وَلِأَجْلِ هَذَا تَعَلَّقَ عُلَمَاؤُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي سَدِّ الذَّرَائِعِ، وَهُوَ كُلُّ عَقْدٍ جَائِزٍ فِي الظَّاهِرِ يُؤَوَّلُ أَوْ يُمْكِنُ أَنْ يُتَوَصَّلَ بِهِ إلَى مَحْظُورٍ ؛ وَسَتَرَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مُسْتَوْفَاةً فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ.
وَقَدْ قِيلَ : إنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا : لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِينَّ عَنْ سَبِّ آلِهَتِنَا لَنَسُبَّنَّ إلَهَكُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلْمُحِقِّ أَنْ يَكُفَّ عَنْ حَقٍّ [ يَكُونُ ] لَهُ إذَا أَدَّى ذَلِكَ إلَى ضَرَرٍ يَكُونُ فِي الدِّينِ ؛ وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ طَوِيلٌ، اخْتِصَارُهُ : أَنَّ الْحَقَّ إنْ كَانَ وَاجِبًا فَيَأْخُذُهُ بِكُلِّ حَالٍ، وَإِنْ كَانَ جَائِزًا فَفِيهِ يَكُونُ هَذَا الْقَوْلُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْآيَةُ السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَأَقْسَمُوا بِاَللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لِيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾.
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا :
رُوِيَ { أَنَّ قُرَيْشًا كَلَّمَهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا : يَا مُحَمَّدُ، تُخْبِرُنَا أَنَّ مُوسَى كَانَ مَعَهُ عَصًا يَضْرِبُ بِهَا الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ من هُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا، وَتُخْبِرُنَا أَنَّ عِيسَى كَانَ يُحْيِي الْمَوْتَى، وَتُخْبِرُنَا أَنَّ ثَمُودَ كَانَتْ لَهُمْ نَاقَةٌ ؛ فَأْتِنَا من الْآيَاتِ حَتَّى نُصَدِّقَك.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : أَيُّ شَيْءٍ تُحِبُّونَ أَنْ آتِيَكُمْ بِهِ ؟ قَالُوا : تَجْعَلُ لَنَا الصَّفَا ذَهَبًا. قَالَ لَهُمْ : فَإِنْ فَعَلْت تُصَدِّقُونِي ؟ قَالُوا : نَعَمْ ؛ وَاَللَّهِ لَئِنْ فَعَلْت لَنَتَّبِعَنَّكَ أَجْمَعُونَ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدْعُو، فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ مَا شِئْت، إنْ شِئْت أَصْبَحَ ذَهَبًا، وَلَئِنْ أَرْسَلَ اللَّهُ تَعَالَى آيَةً وَلَمْ يُصَدِّقُوا عِنْدَ ذَلِكَ لَيُعَذِّبَنَّهُمْ، وَإِنْ شِئْت فَاتْرُكْهُمْ حَتَّى يَتُوبَ تَائِبُهُمْ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - :( بَلْ يَتُوبُ تَائِبُهُمْ ) ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ إلَى قَوْلِهِ :﴿ يَجْهَلُونَ ﴾.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ ﴾ : يَعْنِي غَايَةَ أَيْمَانِهِمْ الَّتِي بَلَغَهَا عِلْمُهُمْ، وَانْتَهَتْ إلَيْهِ قُدْرَتُهُمْ ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الْإِلَهُ الْأَعْظَمُ، وَأَنَّ هَذِهِ الْآلِهَةَ إنَّمَا يَعْبُدُونَهَا ظَنًّا من هُمْ أَنَّهَا تُقَرِّبُهُمْ إلَى اللَّهِ زُلْفَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ بِاَللَّهِ ﴾ وَإِنْ كَانَ غَايَةُ أَيْمَانِ الْكُفَّارِ عَلَى اعْتِقَادِهِمْ الَّذِي قَدَّمْنَا، فَإِنَّهُ غَايَةُ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ ؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - :( مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ ). وَهَذَا يُفِيدُ الْمَنْعَ من الْحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ.
وَالْحَلِفُ بِغَيْرِ اللَّهِ عَلَى وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : عَلَى وَجْهِ التَّحْرِيمِ، بِأَنْ يَحْلِفَ بِغَيْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ تَعَالَى مُعَظِّمًا لَهُ مَعَ اللَّهِ، أَوْ مُعَظِّمًا لَهُ من دُونِهِ ؛ فَهَذَا كُفْرٌ.
الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ عَلَى وَجْهِ الْكَرَاهِيَةِ، بِأَنْ يُلْزِمَ نَفْسَهُ مَعْنًى مِمَّا يَلْزَمُهُ جِنْسُهُ فِي الشَّرْعِ ابْتِدَاءً بِوَجْهِ مَا إذَا رَبَطَهُ بِفِعْلٍ أَوْ تَرْكٍ، وَهُوَ مَعْنَى اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ فِيمَا إذَا قَالَ : إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَامْرَأَتِي طَالِقٌ، أَوْ عَبْدِي حُرٌّ، فَهَذِهِ يَمِينٌ مُنْعَقِدَةٌ، وَهِيَ أَصْلٌ لِغَيْرِهَا من الْأَيْمَانِ، وَقَدْ تَكَرَّرَتْ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ وَتَرَكَّبَ عَلَيْهَا مَسْأَلَةٌ رَابِعَةٌ : وَهِيَ : مَا إذَا قَالَ : الْأَيْمَانُ تَلْزَمُهُ إنْ كَانَ كَذَا وَكَذَا. وَقَدْ كَانَتْ هَذِهِ الْيَمِينُ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ مَعْرُوفَةً بِغَيْرِ هَذِهِ الصُّورَةِ ؛ كَانُوا يَقُولُونَ : عَلَيَّ أَشَدُّ مَا أَخَذَهُ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، فَقَالَ مَالِكٌ : يُطَلِّقُ نِسَاءَهُ، ثُمَّ تَكَاثَرَتْ الصُّوَرُ حَتَّى آلَتْ بَيْنَ النَّاسِ إلَى صُورَةٍ هَذِهِ أُمُّهَا.
وَقَدْ كَانَ شَيْخُنَا أَبُو بَكْرٍ الْفِهْرِيُّ يَقُولُ : يَلْزَمُهُ إطْعَامُ ثَلَاثِينَ مِسْكِينًا إذَا حَنِثَ فِيهَا ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ :" الْأَيْمَانُ " جَمْعُ يَمِينٍ، وَهُوَ لَوْ قَالَ : عَلَيَّ يَمِينٌ، وَحَنِثَ لَلَزِمَتْهُ كَفَّارَةٌ. وَلَوْ قَالَ : عَلَيَّ يَمِينَانِ لَلَزِمَتْهُ كَفَّارَتَانِ إذَا حَنِثَ. وَالْأَيْمَانُ جَمْعُ يَمِينٍ فَيَلْزَمُهُ فِيهَا ثَلَاثُ كَفَّارَاتٍ. وَكَانَ أَهْلُ الْقَيْرَوَانِ قَدْ اخْتَلَفُوا فِيهَا اخْتِلَافًا كَثِيرًا مَرْجِعُهُ إلَى قَوْلَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ الطَّلَاقَ فِيهَا ثَلَاثٌ.
وَالثَّانِي : أَنَّ الطَّلَاقَ فِيهَا وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ.
وَقَدْ جَمَعْت فِي الْمَسْأَلَةِ رِسَالَةً إبَّانَ كُنْت بِإِفْرِيقِيَّةَ، وَقَدْ كَثُرَ السُّؤَالُ فِيهَا عَلَيَّ، فَاسْتَخَرْت اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى مُتَوَسِّطٍ من الْأَقْوَالِ لَمْ أَخْرُجْ فِيهِ عَنْ جَادَّةِ الْأَدِلَّةِ، وَلَا عَنْ أَصْلِ إمَامِ الْأَئِمَّةِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ.
أَمَّا أَصْلُ مَالِكٍ فَقَوْلُهُ فِيمَنْ قَالَ : عَلَيَّ أَشَدُّ مَا أَخَذَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا : يُطَلِّقُ نِسَاءَهُ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّاسَ كَانُوا فِي زَمَانِهِ، وَقَبْلَ ذَلِكَ، يَحْلِفُونَ فِي الْبَيْعَةِ وَيَتَوَثَّقُونَ فِيمَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ من الْعُهُودِ فِي الْمُحَالَفَةِ، وَيُدْخِلُونَ فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ الْيَمِينَ بِالْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ وَالْحَجِّ وَغَيْرِهِ ؛ فَلَمَّا سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ هَذِهِ النَّازِلَةِ وَأَصْحَابُهُ رَأَوْا أَنَّ الْحَرَجَ عَلَيْهِمْ فِي أَنْ يَتْرُكُوا مَعَهُ أَزْوَاجَهُ مُحْتَبَسِينَ فِي النِّكَاحِ، وَمِمَّا يَأْخُذُهُ النَّاسُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ الطَّلَاقُ فَتَحَرَّجُوا فِي ذَلِكَ، وَقَالُوا : يُطَلِّقُ نِسَاءَهُ.
وَأَمَّا طَرِيقُ الْأَدِلَّةِ فَلِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ لَا يَخْلُو أَنْ يُرَادَ بِهَا هَاهُنَا الْجِنْسُ أَوْ الْعَهْدُ، فَإِنْ دَخَلَتْ لِلْعَهْدِ فَالْمَعْهُودُ قَوْلُك بِاَللَّهِ، فَيَكُونُ مَا قَالَهُ الْفِهْرِيُّ. وَإِنْ دَخَلَتْ لِلْجِنْسِ فَالطَّلَاقُ جِنْسٌ، فَيَدْخُلُ فِيهَا وَلَا يُسْتَوْفَى عَدَدُهُ ؛ فَإِنَّ الَّذِي يَكْفِي أَنْ يَدْخُلَ من كُلِّ جِنْسٍ مَعْنًى وَاحِدٌ، فَإِنَّهُ لَوْ دَخَلَ فِي الْجِنْسِ الْمَعْنَى كُلُّهُ لَلَزِمَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَالِهِ ؛ إذْ قَدْ تَكُونُ الصَّدَقَةُ بِجَمِيعِ الْمَالِ يَمِينًا، وَنَافِذَةً فِيمَا إذَا كَانَ الْمَالُ مُعَيَّنًا فِي دَارٍ أَوْ عَبْدٍ أَوْ دَابَّةٍ أَوْ كَبْشٍ وَتَصَدَّقَ بِذَلِكَ فَإِنَّهُ يَنْفُذُ إجْمَاعًا ؛ فَتَبَصَّرْنَا ذَلِكَ، وَأَخَذْنَا بِالْوَسَطِ من هُ، وَقَدْ بَسَطْنَا ذَلِكَ فِي الرِّسَالَةِ الْحَاكِمَةِ عَلَى الْأَيْمَانِ اللَّازِمَةِ، وَهُنَاكَ يَسْتَوْفِي النَّاظِرُ غَرَضَهُ من هَا، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ، وَبِهِ التَّوْفِيقُ.
الْآيَةُ الثَّامِنَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ﴾.
فِيهَا عَشْرُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : في سبب نزولها :
رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ :( أَتَى أُنَاسٌ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ أَنَأْكُلُ مَا نَقْتُلُ، وَلَا نَأْكُلُ مَا قَتَلَ اللَّهُ ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى :﴿ فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إنْ كُنْتُمْ. . . ﴾ إلَى قَوْلِهِ :﴿ لَمُشْرِكُونَ ﴾.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ﴾ يَقْضِي بِدَلِيلِ الْخِطَابِ عَلَى رَأْيِ مَنْ قَرَأَ أَلَّا يُؤْكَلَ مَا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْحُكْمَ وَهُوَ جَوَازُ الْأَكْلِ عَلَى أَحَدِ وَصْفَيْ الشَّيْءِ، وَهُوَ مَا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْآخَرَ بِخِلَافِهِ، بَيْدَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ الْحُكْمَيْنِ بِنَصَّيْنِ، وَتَكَلَّمَ فِيهِمَا بِكَلَامَيْنِ صَرِيحَيْنِ، فَقَالَ فِي الْمُقَابِلِ الثَّانِي :﴿ وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ. . . ﴾.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إلَّا مَا اُضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ ﴾.
الْمَعْنَى : مَا الْمَانِعُ لَكُمْ من أَكْلِ مَا سَمَّيْتُمْ عَلَيْهِ رَبَّكُمْ، وَإِنْ قَتَلْتُمُوهُ بِأَيْدِيكُمْ ؛ وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ لَكُمْ الْمُحَرَّمَ، وَأَوْضَحَ لَكُمْ الْمُحَلَّلَ، فَإِنَّ مَنْ حَرَّمَ عَلَيْك مَعْنًى خَاصِّيًّا أَبَاحَ مَا سِوَاهُ، فَكَيْفَ وَقَدْ أَذِنَ لَهُ فِي الْقَتْلِ وَالتَّسْمِيَةِ عَلَيْهِ وَأَكْلِهِ، فَكَيْفَ يُقَابَلُ ذَلِكَ من تَفْصِيلِ اللَّهِ وَحُكْمِهِ وَإِيضَاحِهِ وَشَرْحِهِ بِهَوًى بَاطِلٍ وَرَأْيٍ فَاسِدٍ، صَدَرَا عَنْ غَيْرِ عِلْمٍ وَكَانَا بِاعْتِدَاءٍ وَإِثْمٍ، وَرَبُّك أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ ﴾.
الْمَعْنَى : قَدْ فَصَّلَ لَكُمْ الْمُحَرَّمَ فَذَرُوهُ وَهُوَ الْإِثْمُ ظَاهِرًا، وَبَاطِنًا، وَفِي ذَلِكَ لِلْعُلَمَاءِ سِتَّةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : ظَاهِرُهُ وَبَاطِنُهُ : سِرُّهُ وَعَلَانِيَتُهُ ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ.
الثَّانِي : قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ : ظَاهِرُ الْإِثْمِ نِكَاحُ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ، وَبَاطِنُهُ الزِّنَا.
الثَّالِثُ : ظَاهِرُ الْإِثْمِ أَصْحَابُ الرَّايَاتِ من الزَّوَانِي، وَبَاطِنُهُ ذَوَاتِ الْأَخْدَانِ ؛ قَالَهُ السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ.
الرَّابِعُ : ظَاهِرُ الْإِثْمِ طَوَافُ الْعُرْبَانِ، وَبَاطِنُهُ الزِّنَا ؛ قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ.
وَقَدْ قَالَتْ طَائِفَةٌ : إنَّ الْإِثْمَ اسْمٌ من أَسْمَاءِ الْخَمْرِ ؛ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ فِي الْقَوْلِ الْخَامِسِ ظَاهِرُ الْإِثْمِ الْخَمْرُ، وَبَاطِنُهُ الْمُثَلَّثُ وَالْمُنَصَّفُ، وَسَنُبَيِّنُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَيُحْتَمَلُ وَجْهًا سَادِسًا، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ ظَاهِرُ الْإِثْمِ وَاضِحَ الْمُحَرَّمَاتِ. وَبَاطِنُهُ الشُّبُهَاتِ وَ منهَا الذَّرَائِعُ، وَهِيَ الْمُبَاحَاتُ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا إلَى الْمُحَرَّمَاتِ ؛ وَسَيَأْتِي ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ﴾ :
يَعْنِي : فَمُطْلَقُ سَبَبِ الْآيَةِ الْمَيْتَةُ، وَهِيَ الَّتِي قَالُوا هُمْ فِيهَا : وَلَا نَأْكُلُ مِمَّا قَتَلَ اللَّهُ. فَقَالَ اللَّهُ لَهُمْ : لَا تَأْكُلُوا من هَا ؛ فَإِنَّكُمْ لَمْ تَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا. فَإِنْ قِيلَ وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : هَذَا هُوَ السَّبَبُ الَّذِي خَرَجَتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ، وَقَصْرُ اللَّفْظِ الْوَارِدِ عَلَى السَّبَبِ الْمَوْرُودِ عَلَيْهِ إذَا كَانَ اللَّفْظُ مُسْتَقِلًّا دُونَ عَطْفِهِ عَلَيْهِ لَا يَجُوزُ لُغَةً وَلَا حُكْمًا.
قُلْنَا : قَدْ آنَ أَنْ نَكْشِفَ لَكُمْ نُكْتَةً أُصُولِيَّةً وَقَعَتْ تَفَارِيقَ فِي أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ تَلَقَّفْتهَا جُمْلَةً من فَكٍّ شَدِيدٍ ؛ وَذَلِكَ أَنَّا نَقُولُ : مَهْمَا قُلْنَا : إنَّ اللَّفْظَ الْوَارِدَ عَلَى سَبَبٍ، هَلْ يَقْصُرُ عَلَيْهِ أَمْ لَا ؟ فَإِنَّا لَا نُخْرِجُ السَّبَبَ عَنْهُ، بَلْ نُقِرُّهُ فِيهِ، وَنَعْطِفُ بِهِ عَلَيْهِ، وَلَا نَمْتَنِعُ أَنْ يُضَافَ غَيْرُهُ إلَيْهِ إذَا احْتَمَلَهُ اللَّفْظُ، أَوْ قَامَ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ ؛ فَقَوْلُهُ :﴿ وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ﴾ ظَاهِرٌ فِي تَنَاوُلِ الْمَيْتَةِ بِعُمُومِ لَفْظِهِ، وَكَوْنِهَا سَبَبًا لِوُرُودِهِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ مَا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ اسْمَ غَيْرِ اللَّهِ من الْآلِهَةِ الْمُبْطَلَةِ وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : بِعُمُومِ أَنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَبِزِيَادَةِ ذِكْرِ غَيْرِ اللَّهِ عَلَيْهِ الَّذِي يَقْتَضِي تَحْرِيمُهُ هَذَا اللَّفْظَ عُمُومًا وَمَعْنَاهُ تَنْبِيهًا من طَرِيقِ الْأَوْلَى، وَيَقْتَضِي تَحْرِيمُهُ نَصًّا قَوْلُهُ :﴿ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ﴾، فَقَدْ تَوَارَدَ عَلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ النَّصُّ وَالْعُمُومُ وَالتَّنْبِيهُ من طَرِيقِ الْأَوْلَى بِالتَّحْرِيمِ لِظَاهِرِ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ عَلَيْهِ أَوَّلًا.
وَهَذَا من بَدِيعِ الِاسْتِنْبَاطِ فِي مَوَارِدِ الْأَدِلَّةِ الْمُمَاثَلَةِ فِي اقْتِضَاءِ الْحُكْمِ الْوَاحِدِ عَلَيْهِ، وَهَلْ يَدْخُلُ فِيهِ مَا تَرَكَ الْمُسْلِمُ التَّسْمِيَةَ عَلَيْهِ عَمْدًا من الذَّبَائِحِ أَمْ لَا ؟ مَسْأَلَةٌ مُشْكِلَةٌ جِدًّا قَدْ مَهَّدْنَا الْقَوْلَ فِيهَا فِي تَخْلِيصِ الطَّرِيقَتَيْنِ، وَلَكِنَّنَا نُشِيرُ فِيهَا هَاهُنَا إلَى نُكْتَةٍ تَتَعَلَّقُ بِالْمَقْصُودِ ؛ فَنَقُولُ : اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ عَلَى سِتَّةِ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : إنْ تَرَكَهَا سَهْوًا أُكِلَتْ. وَإِنْ تَرَكَهَا عَمْدًا لَمْ تُؤْكَلْ ؛ قَالَهُ فِي الْكِتَابِ مَالِكٌ وَابْنُ الْقَاسِمِ وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَعِيسَى، وَأَصْبَغُ.
الثَّانِي : إنْ تَرَكَهَا عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا تُؤْكَلُ ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ، وَالشَّافِعِيُّ.
الثَّالِثُ : أَنَّهُ إنْ تَرَكَهَا عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا حَرُمَ أَكْلُهَا ؛ قَالَهُ ابْنُ سِيرِينَ، وَأَحْمَدُ. الرَّابِعُ : إنْ تَرَكَهَا مُتَعَمِّدًا كُرِهَ أَكْلُهَا وَلَمْ تُحَرَّمْ ؛ قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو الْحَسَنِ، وَالشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ من أَصْحَابِنَا، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ.
الْخَامِسُ : قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ : التَّسْمِيَةُ شَرْطٌ فِي إرْسَالِ الْكَلْبِ دُونَ السَّهْمِ فِي إحْدَى رِوَايَتَيْهِ.
السَّادِسُ : قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : يَجِبُ أَنْ تُعَلَّقَ هَذِهِ الْأَحْكَامُ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَالدَّلَائِلِ الْمَعْنَوِيَّةِ الَّتِي أَسَّسَتْهَا الشَّرِيعَةُ.
فَأَمَّا الْقُرْآنُ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى :﴿ فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ﴾. ﴿ وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ﴾ ؛ فَبَيَّنَ الْحَالَيْنِ وَأَوْضَحَ الْحُكْمَيْنِ.
وَقَوْلُهُ :﴿ وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ﴾ نَهْيٌ مَحْمُولٌ عَلَى التَّحْرِيمِ، وَلَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى الْكَرَاهَةِ ؛ لِتَنَاوُلِهِ فِي بَعْضِ مُقْتَضَيَاتِهِ الْحَرَامَ الْمَحْضَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَبَعَّضَ. وَهَذَا من نَفِيسِ عِلْمِ الْأُصُولِ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الصِّحَاحِ :( مَا أَنْهَرَ الدَّمَ، وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلْ ). وَقَالَ أَيْضًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - :( إذَا أَرْسَلْت كَلْبَك الْمُعَلَّمَ، وَذَكَرْت اسْمَ اللَّهِ [ عَلَيْهِ ] فَكُلْ ). وَقَالَ أَيْضًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - :{ وَإِنْ وَجَدْت مَعَ كَلْبِك كَلْبًا آخَرَ فَلَا تَأْكُلْ ؛ فَإِنَّك إنَّمَا سَمَّيْت عَلَى كَلْبِك وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى الْآخَرِ ).
وَهَذِهِ أَدِلَّةٌ ظَاهِرَةٌ غَالِبَةٌ عَالِيَةٌ، وَذَلِكَ من أَظْهَرِ الْأَدِلَّةِ. وَأَعْجَبُ لِرَأْسِ الْمُحَقِّقِينَ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ يَقُولُ فِي مُعَارَضَةِ هَذَا :[ وَذِكْرُ اللَّهِ ] إنَّمَا شُرِعَ فِي الْقُرَبِ، وَالذَّبْحُ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ.
قُلْنَا : هَذَا فَاسِدٌ من ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّهُ يُعَارِضُهُ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ، كَمَا قُلْنَا.
الثَّانِي : أَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ مَشْرُوعٌ فِي كُلِّ حَرَكَةٍ وَسَكْنَةٍ، حَتَّى فِي خُطْبَةِ النِّكَاحِ، وَإِنَّمَا تَخْتَلِفُ دَرَجَاتُهُ : بِالْوُجُوبِ وَالِاسْتِحْبَابِ.
الثَّالِثُ : أَنَّ الذَّبِيحَةَ قُرْبَةٌ بِدَلِيلِ افْتِقَارِهَا إلَى النِّيَّةِ عِنْدَنَا وَعِنْدَك، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :﴿ لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى من كُمْ ﴾.
فَإِنْ قِيلَ : الْمُرَادُ بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ بِالْقَلْبِ ؛ لِأَنَّ الذِّكْرَ يُضَادُّ النِّسْيَانَ، وَمَحَلُّ النِّسْيَانِ الْقَلْبُ، فَمَحَلُّ الذِّكْرِ الْقَلْبُ.
وَقَدْ رَوَى الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ وَغَيْرُهُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - :( اسْمُ اللَّهِ عَلَى قَلْبِ كُلِّ مُؤْمِنٍ يُسَمِّي أَوْ لَمْ يُسَمِّ )، وَلِهَذَا تُجْزِئُهُ الذَّبِيحَةُ إذَا نَسِيَ التَّسْمِيَةَ تَعْوِيلًا عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ من اسْمِ اللَّه
الْآيَةُ التَّاسِعَةُ : وَالْعَاشِرَةُ، وَالْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ من الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ. وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ من الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ، فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ. وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ، سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمْ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ﴾.
فِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : رَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : مَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْلَمَ جَهْلَ الْعَرَبِ فَلْيَقْرَأْ مَا فَوْقَ الثَّلَاثِينَ وَالْمِائَةِ من سُورَةِ الْأَنْعَامِ إلَى قَوْله تَعَالَى :﴿ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَلَامٌ صَحِيحٌ، فَإِنَّهَا تَصَرَّفَتْ بِعُقُولِهَا الْقَاصِرَةِ فِي تَنْوِيعِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ سَفَاهَةً بِغَيْرِ مَعْرِفَةٍ وَلَا عَدْلٍ ؛ وَاَلَّذِي تَصَرَّفَتْ بِالْجَهْلِ فِيهِ من اتِّخَاذِ آلِهَةٍ أَعْظَمَ جَهْلًا وَأَكْبَرَ جُرْمًا ؛ فَإِنَّ الِاعْتِدَاءَ عَلَى اللَّهِ أَعْظَمُ من الِاعْتِدَاءِ عَلَى الْمَخْلُوقِينَ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَاحِدٌ فِي ذَاتِهِ، وَاحِدٌ فِي صِفَاتِهِ، وَاحِدٌ فِي مَخْلُوقَاتِهِ أَبْيَنُ وَأَوْضَحُ من الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ هَذَا حَلَالٌ، وَهَذَا حَرَامٌ.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لعمرو بْنِ الْعَاصِ : إنَّكُمْ عَلَى كَمَالِ عُقُولِكُمْ وَوُفُورِ أَحْلَامِكُمْ كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ الْحَجَرَ. فَقَالَ عَمْرو : تِلْكَ عُقُولٌ كَادَهَا بَارِيهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : هَذَا الَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ من سَخَافَةِ الْعَرَبِ وَجَهْلِهَا أَمْرٌ أَذْهَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْإِسْلَامِ، وَأَبْطَلَهُ بِبَعْثَةِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَكَانَ من الظَّاهِرِ لَنَا أَنْ نُمِيتَهُ حَتَّى لَا يَظْهَرَ، وَنَنْسَاهُ حَتَّى لَا يُذْكَرَ إلَّا أَنَّ رَبَّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى ذَكَرَهُ بِنَصِّهِ، وَأَوْرَدَهُ بِشَرْحِهِ، كَمَا ذَكَرَ كُفْرَ الْكَافِرِينَ بِهِ. وَكَانَتْ الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ -وَاَللَّهُ أَعْلَمُ- أَنَّ قَضَاءَهُ قَدْ سَبَقَ، وَحُكْمَهُ قَدْ نَفَذَ، بِأَنَّ الْكُفْرَ وَالتَّخْلِيطَ لَا يَنْقَطِعَانِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَقَدْ قَضَى اللَّهُ أَلَّا يَصُدَّ كَافِرٌ عَنْ ذِكْرِ الْكُفْرِ، وَلَا مُبْتَدِعٌ عَنْ تَغْيِيرِ الدِّينِ، قَصَدَهُ بِبَيَانِ الْأَدِلَّةِ، ثُمَّ وَفَّقَ مَنْ سَبَقَ لَهُ عِنْدَهُ الْخَيْرُ فَيَسَّرَ لَهُ مَعْرِفَتَهَا، فَآمَنَ وَأَطَاعَ، وَخَذَلَ مَنْ سَبَقَ لَهُ عِنْدَهُ الشَّرُّ فَصَدَفَهُ عَنْهَا، فَكَفَرَ وَعَصَى ﴿ لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ ﴾ ؛ فَتَعَيَّنَ عَلَيْنَا أَنْ نُشِيرَ إلَى بَسْطِ مَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى من ذَلِكَ وَهِيَ
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ من الْحَرْثِ ﴾ أَيْ : أَظْهَرَ بِالْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ من الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا، وَجَمِيعُهُ لَهُ لَا شَرِيكَ مَعَهُ فِي خَلْقِهِ، فَكَيْفَ فَعَلُوا لَهُ شَرِيكًا فِي الْقُرْبَانِ بِهِ من الْأَوْثَانِ الَّتِي نَصَبُوهَا لِلْعِبَادَةِ مَعَهُ، وَشَرُّ الْعَبِيدِ كَمَا يَأْتِي [ بَيَانُهُ ] فِي الْأَثَرِ مَنْ أَنْعَمَ عَلَيْهِ سَيِّدُهُ بِنِعْمَةٍ فَجَعَلَ يَشْكُرُ غَيْرَهُ عَلَيْهَا، وَكَانَ هَذَا النَّصِيبُ الَّذِي لِلْأَوْثَانِ جَعَلُوهُ لِلَّهِ من الْحَرْثِ مَصْرُوفًا فِي النَّفَقَةِ عَلَيْهَا وَعَلَى خُدَّامِهَا، وَكَذَلِكَ نَصِيبُ الْأَنْعَامِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَجْعَلُونَهَا قُرْبَانًا لِلْآلِهَةِ.
وَقِيلَ : كَانَ لِلَّهِ الْبَحِيرَةُ وَالسَّائِبَةُ وَالْوَصِيلَةُ وَالْحَامُ، وَكَانَ مَا جَعَلُوهُ لِلَّهِ إذَا اخْتَلَطَ بِأَمْوَالِهِمْ لَمْ يَرُدُّوهُ، وَإِذَا اخْتَلَطَ مَا لِلْأَوْثَانِ بِهَا رَدُّوهُ وَذَلِكَ قَوْلُهُ :﴿ فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ. . . ﴾ الْآيَةَ.
وَقِيلَ : كَانَ ذَلِكَ إذَا هَلَكَ مَا جَعَلُوهُ لِلَّهِ لَمْ يَغْرَمُوهُ، وَإِذَا هَلَكَ مَا جُعِلَ لِلْأَوْثَانِ غَرِمُوهُ.
وَقِيلَ : كَانُوا يَذْكُرُونَ اسْمَ الْأَوْثَانِ عَلَى نَصِيبِ اللَّهِ، وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ عَلَى نَصِيبِ الْأَوْثَانِ، وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : فَإِنَّ تَرْكَهُمْ لِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ مَذْمُومٌ من هُمْ وَفِيهِمْ ؛ فَكَانَ ذَلِكَ أَصْلًا فِي تَرْكِ أَكْلِ مَا لَمْ يُسَمَّ اللَّهُ عَلَيْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ :﴿ وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ من الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ ﴾.
يَعْنِي : فِي الْوَأْدِ لِلْبَنَاتِ مَخَافَةَ السِّبَاءِ وَعَدَمِ الْحَاجَةِ وَمَا حُرِمْنَ من النُّصْرَةِ، كَمَا كَانَتْ الْجَاهِلِيَّةُ تَفْعَلُهُ.
وَقِيلَ : كَمَا فَعَلَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ حِينَ نَذَرَ ذَبْحَ وَلَدِهِ عَبْدَ اللَّهِ.
وَحَقِيقَةُ التَّزْيِينِ إظْهَارُ الْجَمِيلِ، وَإِخْفَاءُ الْقَبِيحِ، وَقَدْ يَتَغَلَّبُ بِخِذْلَانِ اللَّهِ لِلْعَبْدِ، كَمَا يَتَحَقَّقُ بِتَوْفِيقِهِ لَهُ. وَ من الْبَاطِلِ الَّذِي ارْتَكَبُوهُ بِتَزْيِينِ الشَّيْطَانِ تَصْوِيرَهُ عِنْدَهُمْ جَوَازُ أَكْلِ الذُّكُور من الْقَرَابِينِ، وَمَنْعُ الْإِنَاثِ من أَكْلِهَا، كَالْأَوْلَادِ وَالْأَلْبَانِ، وَكَانَ تَفْضِيلُهُمْ لِلذُّكُورِ لِأَحَدِ وَجْهَيْنِ، أَوْ بِمَجْمُوعِهِمَا : إمَّا لِفَضْلِ الذَّكَرِ فِي نَفْسِهِ عَلَى الْأُنْثَى، وَإِمَّا لِأَنَّ الذُّكُورَ كَانُوا سَدَنَةَ بُيُوتِ الْأَصْنَامِ ؛ فَكَانُوا يَأْكُلُونَ مِمَّا جُعِلَ لَهُمْ من هَا ؛ وَذَلِكَ كُلُّهُ تَعَدٍّ فِي الْأَفْعَالِ، وَابْتِدَاءٌ فِي الْأَقْوَالِ، وَعَمَلٌ بِغَيْرِ دَلِيلٍ من الشَّرْعِ ؛ وَلِذَلِكَ أَنْكَرَ جُمْهُورٌ من النَّاسِ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ الْقَوْلَ بِالِاسْتِحْسَانِ وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : فَقَالُوا : إنَّهُ يُحَرِّمُ وَيُحَلِّلُ بِالْهَوَى من غَيْرِ دَلِيلٍ، وَمَا كَانَ لِيَفْعَلَ ذَلِكَ أَحَدٌ من أَتْبَاعِ الْمُسْلِمِينَ، فَكَيْفَ أَبُو حَنِيفَةَ !
وَعُلَمَاؤُنَا من الْمَالِكِيَّةِ كَثِيرًا مَا يَقُولُونَ : الْقِيَامُ كَذَا فِي مَسْأَلَةٍ، وَالِاسْتِحْسَانُ كَذَا، وَالِاسْتِحْسَانُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ الْعَمَلُ بِأَقْوَى الدَّلِيلَيْنِ.
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. نُكْتَتُهُ الْمُجْزِئَةُ هَاهُنَا أَنَّ الْعُمُومَ إذَا اسْتَمَرَّ وَالْقِيَاسُ إذَا اطَّرَدَ فَإِنَّ مَالِكًا وَأَبَا حَنِيفَةَ يَرَيَانِ تَخْصِيصَ الْعُمُومِ بِأَيِّ دَلِيلٍ كَانَ من ظَاهِرٍ أَوْ مَعْنًى، وَيَسْتَحْسِنُ مَالِكٌ أَنْ يَخُصَّ بِالْمَصْلَحَةِ، وَيَسْتَحْسِنُ أَبُو حَنِيفَةَ أَنْ يَخُصَّ بِقَوْلِ الْوَاحِدِ من الصَّحَابَةِ الْوَارِدِ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ.
وَيَرَى مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ تَخْصِيصَ الْقِيَاسِ بِبَعْضِ الْعِلَّةِ، وَلَا يَرَى الشَّافِعِيَّ الْعِلَّةَ الشَّرْعَ إذَا ثَبَتَ تَخْصِيصًا، وَلَمْ يَفْهَمْ الشَّرِيعَةَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِالْمَصْلَحَةِ وَلَا رَأَى تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ، وَقَدْ رَامَ الْجُوَيْنِيُّ رَدَّ ذَلِكَ فِي كُتُبِهِ الْمُتَأَخِّرَةِ الَّتِي هِيَ نُخْبَةُ عَقِيدَتِهِ وَنَخِيلَةُ فِكْرَتِهِ فَلَمْ يَسْتَطِعْهُ، وَفَاوَضْت الطُّوسِيَّ الْأَكْبَرَ فِي ذَلِكَ وَرَاجَعْته حَتَّى وَقَفَ، وَقَدْ بَيَّنْت ذَلِكَ فِي الْمَحْصُولِ وَالِاسْتِيفَاءُ بِمَا فِي تَحْصِيلِهِ شِفَاءٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
فَإِنْ قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : فَقَدْ تَاخَمْتُمْ هَذِهِ الْمَهْوَاةَ، وَأَشْرَفْتُمْ عَلَى التَّرَدِّي فِي الْمَغْوَاةِ ؛ فَإِنَّكُمْ زَعَمْتُمْ أَنَّ الْيَمِينَ يُحَرِّمُ الْحَلَالَ وَيَقْلِبَ الْأَوْصَافَ الشَّرْعِيَّةَ، وَنَحْنُ بَرَاءٌ من ذَلِكَ ؟
قُلْنَا : هَيْهَاتَ، مَا حَرَّمْنَا إلَّا مَا حَرَّمَ اللَّهُ، وَلَا قُلْنَا إلَّا مَا قَالَ اللَّهُ، أَلَمْ تَسْمَعُوا قَوْلَهُ :﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَك ﴾، وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : وَسَنُبَيِّنُهَا فِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ إنْ شَاءَ اللَّهُ.
الْآيَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا من ثَمَرِهِ إذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾.
فِيهَا خَمْسَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى :﴿ أَنْشَأَ ﴾ : أَيْ : ابْتَدَأَ الْفِعْلَ من غَيْرِ احْتِذَاءِ مِثَالٍ ؛ وَكَانَ ذَلِكَ فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ عَلَى مَا وَرَدَ فِي الْخَبَرِ الصَّحِيحِ، وَأَوْضَحْنَاهُ فِي كِتَابِ الْمُشْكِلَيْنِ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ أَنْشَأَ فِي كُلِّ فِعْلٍ كَانَ عَلَى مِثَالٍ أَوْ لَمْ يَكُنْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : الْجَنَّاتُ : هِيَ : الْبَسَاتِينُ الَّتِي يَجِنُّهَا الشَّجَرُ، أَيْ : يَسْتُرُهَا ؛ وَ من هُ جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ، وَ من هُ سُمِّيَ الْجِنُّ، لِاجْتِنَانِهِمْ عَنْ الْأَبْصَارِ، وَكَذَلِكَ الْجِنَّةُ فِي قَوْله تَعَالَى :﴿ وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا ﴾ ؛ سُمُّوا بِذَلِكَ لِاجْتِنَانِهِمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ ﴾ يَعْنِي : رُفِعَتْ عَلَى الْأَعْوَادِ، وَصِينَتْ عَنْ تَدَلِّي الثَّمَرِ عَلَى الْأَرْضِ، وَأُظْهِرَتْ لِلْإِدْرَاكِ، وَسَهُلَ جَمْعُهَا دُونَ انْحِنَاءٍ. وَالْعَرْشُ : كُلُّ مَا ارْتَفَعَ فَوْقَ غَيْرِهِ. وَقِيلَ : تَعْرِيشُهَا حِيَاطَتُهَا بِالْجُدُرِ، وَمَا قَامَ مَقَامَهَا، حَتَّى لَا يَكُونَ فِيهَا مَدْخَلٌ لِأَحَدٍ ؛ وَالْأَوَّلُ أَقْوَى فِي الِاشْتِقَاقِ.
وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْلِهِ :﴿ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا ﴾ : يَعْنِي عَلَى أَعَالِيهَا، وَلَعَلَّهُ عَلَى جُدْرَانِهَا، وَأَشَارَ بِذَلِكَ إلَى حَدَائِقِ الْأَعْنَابِ الَّتِي هِيَ الْكُرُومُ فِي أَلْسِنَةِ الْعَرَبِ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ :﴿ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ ﴾، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّهُمَا أَصْلَا الْمَعَاشِ، وَعِمَادَا الْقُوتِ، ثُمَّ فَرَّقَ بَيْنَ الزَّيْتُونِ وَالرُّمَّانِ فِي وِزَانٍ آخَرَ وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : وَوَصْفُهَا بِأَنَّهَا مُتَشَابِهَةٌ وَغَيْرُ مُتَشَابِهَةٍ ؛ يَعْنِي : أَنَّ من هَا مَا يَتَشَابَهُ فِي الظَّاهِرِ، وَيُخَالِفُهُ فِي الْبَاطِنِ ؛ وَ من هَا مَا يَشْتَبِهُ فِي اللَّوْنِ، وَيَخْتَلِفُ فِي الطَّعْمِ ؛ وَفِي ذَلِكَ دَلِيلَانِ عَظِيمَانِ :
أَحَدُهُمَا : عَلَى الْمِنَّةِ من هُ سُبْحَانَهُ عَلَيْنَا وَالنِّعْمَةِ الَّتِي هَيَّأَهَا لَنَا وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : فَلَوْ شَاءَ رَبُّنَا إنْ خَلَقَنَا أَحْيَاءً أَلَّا يَخْلُقَ لَنَا غِذَاءً، أَوْ إذَا خَلَقَهُ أَلَّا يَكُونَ جَمِيلَ الْمَنْظَرِ طَيِّبَ الطَّعْمِ، أَوْ إذَا خَلَقَهُ كَذَلِكَ أَلَّا يَكُونَ سَهْلَ الْجَنْيِ، فَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ ابْتِدَاءً لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَإِنْ فَعَلَهُ فَبِفَضْلِهِ، كَابْتِدَاءِ خَلْقِهِ : فِي تَعْدِيدِ النِّعَمِ وَتَقْرِيرِ الْفَضْلِ وَالْكَرْمِ وَالشَّهَادَةِ عَلَى الِابْتِدَاءِ بِالثَّوَابِ قَبْلَ الْعِقَابِ، وَبِالْعَطَاءِ قَبْلَ الْعَمَلِ.
الدَّلِيلُ الثَّانِي عَلَى الْقُدْرَةِ فِي أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ الَّذِي من شَأْنِهِ الرُّسُوبُ يَصْعَدُ بِقُدْرَةِ الْوَاحِدِ الْقَادِرِ عَلَّامِ الْغُيُوبِ من أَسَافِلِ الشَّجَرِ إلَى أَعَالِيهَا، وَيَتَرَقَّى من أُصُولِهَا إلَى فُرُوعِهَا، حَتَّى إذَا انْتَهَى إلَى آخِرِهَا نَشَأَ فِيهَا أَوْرَاقٌ لَيْسَتْ من جِنْسِهَا، وَثِمَارٌ خَارِجَةٌ عَنْ صِفَتِهَا، فِيهَا الْجِرْمُ الْوَافِرُ، وَاللَّوْنُ الزَّاهِرُ، وَالْجَنْيُ الْجَدِيدُ، وَالطَّعْمُ اللَّذِيذُ ؛ فَأَيْنَ الطَّبَائِعُ وَأَجْنَاسُهَا ؟ وَأَيْنَ الْفَلَاسِفَةُ وَأُنَاسُهَا ؟ هَلْ فِي قُدْرَةِ الطَّبِيعَةِ -إذَا سَلَّمْنَا وَقُلْنَا لَهَا قُدْرَةٌ عَلَى طَرِيقِ الْجَدَلِ- أَنْ تُتْقِنَ هَذَا الْإِتْقَانَ الْبَدِيعَ، أَوْ تُرَتِّبَ هَذَا التَّرْتِيبَ الْعَجِيبَ ؟ كَلًّا، لَا يَتِمُّ ذَلِكَ فِي الْمَعْقُولِ إلَّا لِحَيٍّ عَالِمٍ قَادِرٍ مُرِيدٍ، فَقَدْ عَلِمَ الْأَلِبَّاءُ أَنَّ أُمِّيًّا لَا يَنْظِمُ سُطُورَ الْكِتَابَةِ، وَأَنَّ سَوَادِيًّا لَا يَقْدِرُ عَلَى مَا فِي الدِّيبَاجِ من التَّزَيُّنِ وَالنِّسَاجَةِ ؛ فَسُبْحَانَ مَنْ لَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ آيَةُ بِدَايَةٍ وَنِهَايَةٍ، فَ من اللَّهِ الِابْتِدَاءُ، وَإِنَّ إلَى رَبِّك الْمُنْتَهَى، تَقَدَّسَ وَتَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ كُلُوا من ثَمَرِهِ إذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ﴾ فَهَذَانِ بِنَاءَانِ جَاءَا بِصِيغَةِ أَفْعَلَ، وَأَحَدُهُمَا مُبَاحٌ لِقَوْلِهِ :﴿ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ ﴾.
وَالثَّانِي : وَاجِبٌ عَلَى مَا يَأْتِي تَفْصِيلُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ، وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ فِي الشَّرِيعَةِ اقْتِرَانُ الْمُبَاحِ وَالْوَاجِبِ ؛ لِمَا يَأْتِي فِي ذَلِكَ من الْفَوَائِدِ، وَيَتَرَكَّبُ عَلَيْهِ من الْأَحْكَامِ، فَأَمَّا الْأَكْلُ فَلِقَضَاءِ اللَّذَّةِ، وَأَمَّا إيتَاءُ الْحَقِّ فَلِقَضَاءِ حَقِّ النِّعْمَةِ، فَلِلَّهِ تَعَالَى عَلَى الْعَبْدِ نِعْمَةٌ فِي الْبَدَنِ بِالصِّحَّةِ، وَاسْتِقَامَةِ الْأَعْضَاءِ، وَسَلَامَةِ الْحَوَاسِّ، وَنِعْمَةٌ فِي الْمَالِ بِالتَّمْلِيكِ وَالِاسْتِغْنَاءِ، وَقَضَاءِ اللَّذَّاتِ، وَبُلُوغِ الْآمَالِ ؛ فَفَرْضُ الصَّلَاةِ كِفَاءُ نِعْمَةِ الْبَدَنِ، وَفَرْضُ الزَّكَاةِ كِفَاءُ نِعْمَةِ الْمَالِ، وَبَدَأَ بِذِكْرِ نِعْمَةِ الْأَكْلِ قَبْلَ الْأَمْرِ بِإِيتَاءِ الْحَقِّ ؛ لِيُبَيِّنَ أَنَّ الِابْتِدَاءَ بِالنِّعْمَةِ كَانَ من فَضْلِهِ قَبْلَ التَّكْلِيفِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَآتُوا حَقَّهُ ﴾ :
اُخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْحَقِّ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلِ : أَنَّهُ الصَّدَقَةُ الْمَفْرُوضَةُ ؛ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَغَيْرُهُ، وَرَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ، وَابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ.
الثَّانِي : أَنَّهَا الصَّدَقَةُ غَيْرُ الْمَفْرُوضَةِ تَكُونُ يَوْمَ الْحَصَادِ وَعِنْدَ الصِّرَامِ ؛ وَهِيَ إطْعَامُ مَنْ حَضَرَ وَالْإِيتَاءُ لِمَنْ غَبَرَ ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ.
الثَّالِثِ : أَنَّ هَذَا مَنْسُوخٌ بِالزَّكَاةِ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ.
وَقَدْ زَعَمَ قَوْمٌ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ مُجْمَلٌ وَلَمْ يَخْلُصُوا الْقَوْلَ فِيهِ، وَحَقِيقَةُ الْكَلَامِ عَلَيْهِ أَنَّ قَوْلَهُ :﴿ آتُوا ﴾ مُفَسَّرٌ، وَقَوْلُهُ :﴿ حَقَّهُ ﴾ مُفَسَّرٌ فِي الْمُؤْتَى، مُجْمَلٌ فِي الْمِقْدَارِ ؛ إنَّمَا يَقَعُ النَّظَرُ فِي رَفْعِ الْإِشْكَالِ الَّذِي أَنْشَأَهُ احْتِمَالُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ ؛ وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَبَقَ وَجْهَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ، وَتَحْقِيقُهُ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي من عُلُومِ الْقُرْآنِ، وَفِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ من هَذَا التَّأْلِيفِ، وَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ هَاهُنَا الصَّدَقَةُ الْمَفْرُوضَةُ.
وَقَدْ أَفَادَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِيمَا سَمَّى اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَأَفَادَتْ بَيَانَ مَا يَجِبُ فِيهِ من مُخْرَجَاتِ الْأَرْضِ الَّتِي أَجْمَلهَا فِي قَوْلِهِ :﴿ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ من الْأَرْضِ ﴾، وَفَسَّرَهَا هَاهُنَا ؛ فَكَانَتْ آيَةُ الْبَقَرَةِ عَامَّةً فِي الْمُخْرَجِ كُلِّهِ مُجْمَلَةً فِي الْقَدْرِ ؛ وَهَذِهِ الْآيَةُ خَاصَّةٌ فِي مُخْرَجَاتِ الْأَرْضِ مُجْمَلَةٌ فِي الْقَدْرِ، فَبَيَّنَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِي أُمِرَ بِأَنْ يُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ، فَقَالَ :﴿ فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ، وَمَا سُقِيَ بِنَضْحٍ أَوْ دَالِيَةٍ نِصْفُ الْعُشْرِ ﴾ ؛ فَكَانَ هَذَا بَيَانًا لِمِقْدَارِ الْحَقِّ الْمُجْمَلِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَقَالَ أَيْضًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - :﴿ لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ من حَبٍّ أَوْ تَمْرٍ صَدَقَةٌ ﴾. خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ، فَكَانَ هَذَا بَيَانًا لِلْمِقْدَارِ الَّذِي يُؤْخَذُ من هُ الْحَقُّ، وَاَلَّذِي يُسَمَّى فِي أَلْسِنَةِ الْعُلَمَاءِ نِصَابًا.
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافًا مُتَبَايِنًا قَدِيمًا وَحَدِيثًا ؛ فَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ : أَنَّ الزَّكَاةَ فِي كُلِّ مُقْتَاتٍ لَا قَوْلَ لَهُ سِوَاهُ. وَقَدْ أَوْرَدْنَاهُ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ وَشَرَحْنَاهُ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : تَجِبُ فِي كُلِّ مَا تُنْبِتُهُ الْأَرْضُ من الْمَأْكُولَاتِ من الْقُوتِ وَالْفَاكِهَةِ وَالْخُضَرِ، وَبِهِ قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْمَاجِشُونِ فِي أُصُولِ الثِّمَارِ دُونَ الْبُقُولِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ أَقْوَالًا ؛ أَظْهَرُهَا أَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِي كُلِّ مَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إذَا كَانَ يُوسَقُ، فَأَوْجَبَهَا فِي اللَّوْزِ ؛ لِأَنَّهُ مَكِيلٌ دُونَ الْجَوْزِ لِأَنَّهُ مَعْدُودٌ، مُعَوِّلًا عَلَى قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - :( لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ من تَمْرٍ أَوْ حَبٍّ صَدَقَةٌ ) ؛ فَبَيَّنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ مَحَلَّ الْوَاجِبِ هُوَ الْمُوسَقُ، وَبَيَّنَ الْقَدْرَ الَّذِي يَجِبُ إخْرَاجُ الْحَقِّ من هُ.
وَتَعَلَّقَ الشَّافِعِيُّ بِالْقُوتِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّوْسِيقَ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْمُقْتَاتِ غَالِبًا دَائِمًا. وَأَمَّا الْخُضَرُ فَأَمْرُهَا نَادِرٌ.
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ { فَتَعَلَّقَتْ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – ( لَمْ يَأْخُذْ من خُضَرِ ال
الْآيَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ، فَمَنْ اُضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّك غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾. فِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :﴿ قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا ﴾ :
قَدْ بَيَّنَّا فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ أَنَّ الْوَحْيَ يَنْقَسِمُ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَقْسَامٍ : من هَا مَجِيءُ الْمَلَكِ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ اللَّهِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْخَبَرِ ؛ فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ الْمَلَكَ لَمْ يَأْتِ إلَيْهِ الْآنَ إلَّا بِهَذَا ؛ إذْ قَدْ جَاءَ إلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ بِالْمُحَرَّمَاتِ وَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : هَذِهِ الْآيَةُ مَدَنِيَّةٌ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ الْأَكْثَرِ، نَزَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْت لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْت عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ﴾ ؛ وَذَلِكَ يَوْمُ عَرَفَةَ، وَلَمْ يَنْزِلْ بَعْدَهَا نَاسِخٌ ؛ فَهِيَ مُحْكَمَةٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ عَلَى طَاعِمٍ ﴾ :
الْمُحَرَّمَاتُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : مَطْعُومَاتٌ، وَمَنْكُوحَاتٌ، وَمَلْبُوسَاتٌ.
فَأَمَّا الْمَطْعُومَاتُ وَالْمَنْكُوحَاتُ فَقَدْ اسْتَوْفَى اللَّهُ بَيَانَهَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرًا، وَ من هَا فِي السُّنَّةِ تَوَابِعُ.
وَأَمَّا الْمَلْبُوسَاتُ فَ من هَا فِي الْقُرْآنِ إشَارَاتٌ وَتَمَامُ ذَلِكَ فِي السُّنَّةِ ؛ وَقَالَ اللَّهُ :﴿ قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إلَيَّ. . . ﴾ الْآيَةَ.
فَأَمَّا الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِمَا فِي الْبَقَرَةِ وَالْمَائِدَةِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ :﴿ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ ﴾. وَكَانَ وُرُودُ ذِكْرِ الدَّمِ مُطْلَقًا هُنَالِكَ وَوَرَدَ هَاهُنَا مُقَيَّدًا بِالسَّفْحِ.
وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي حَمْلِ الْمُطْلَقِ هَاهُنَا عَلَى الْمُقَيَّدِ عَلَى قَوْلَيْنِ :
فَ من هُمْ مَنْ قَالَ : إنَّ كُلَّ دَمٍ مُحَرَّمٌ إلَّا الْكَبِدَ وَالطِّحَالَ، بِاسْتِثْنَاءِ السُّنَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَ من هُمْ مَنْ قَالَ : إنَّ التَّحْرِيمَ يَخْتَصُّ بِالْمَسْفُوحِ ؛ قَالَتْهُ عَائِشَةُ، وَعِكْرِمَةُ، وَقَتَادَةُ.
وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ : لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ قَالَ :﴿ أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا ﴾ لَتَتَبَّعَ النَّاسُ مَا فِي الْعُرُوقِ.
قَالَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ : الصَّحِيحُ أَنَّ الدَّمَ إذَا كَانَ مُفْرَدًا حَرُمَ من هُ كُلُّ شَيْءٍ، وَإِنْ خَالَطَ اللَّحْمَ جَازَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ من هُ، وَإِنَّمَا حَرُمَ الدَّمُ بِالْقَصْدِ إلَيْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلِ : أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِالسُّنَّةِ، وَحَرَّمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لُحُومَ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ، وَحَرَّمَ كُلَّ ذِي نَابٍ من السِّبَاعِ وَذِي مِخْلَبٍ من الطَّيْرِ ؛ خَرَّجَهُ الْأَئِمَّةُ كُلُّهُمْ.
الثَّانِي : أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ لَا حَرَامَ فِيهَا إلَّا فِيمَا قَالَتْهُ عَائِشَةُ.
الثَّالِثِ : قَالَ الزُّهْرِيُّ وَمَالِكٌ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ : هِيَ مُحْكَمَةٌ، وَيَضُمُّ إلَيْهَا بِالسُّنَّةِ مَا فِيهَا من مُحَرَّمٍ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِالسُّنَّةِ فَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ كَمَا اخْتَلَفُوا فِي نَسْخِ السُّنَّةِ بِهَا.
وَالصَّحِيحُ جَوَازُ ذَلِكَ كُلِّهِ : كَمَا فِي تَفْصِيلِ الْأُصُولِ، لَكِنْ لَوْ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ مُحَرَّمٌ غَيْرُ هَذِهِ لَمَا كَانَ ذَلِكَ نَسْخًا ؛ لِأَنَّ زِيَادَةَ مُحَرَّمٍ عَلَى الْمُحَرَّمَاتِ أَوْ فَرْضٍ عَلَى الْمَفْرُوضَاتِ لَا يَكُونُ نَسْخًا بِإِجْمَاعٍ من الْمُسْلِمِينَ، لَا سِيَّمَا وَمَا وَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ مُخْتَلَفٌ فِي تَأْوِيلِهِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلِ : أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ كَمَا قَالُوا.
الثَّانِي : أَنَّهَا حُرِّمَتْ بِعِلَّةِ ( أَنَّ جَائِيًا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ : فَنِيَتْ الْحُمُرُ. فَنِيَتْ الْحُمُرُ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : يُنَادَى بِتَحْرِيمِهَا ) لِعِلَّةٍ من خَوْفِ الْفَنَاءِ عَلَيْهَا ؛ فَإِذَا كَثُرَتْ وَلَمْ يَضُرَّ فَقْدُهَا بِالْحُمُولَةِ جَازَ أَكْلُهَا ؛ فَإِنَّ الْحُكْمَ يَزُولُ بِزَوَالِ الْعِلَّةِ.
الثَّالِثِ : أَنَّهَا حُرِّمَتْ لِأَنَّهَا طُبِخَتْ قَبْلَ الْقِسْمَةِ.
الرَّابِعِ : أَنَّهَا حُرِّمَتْ لِأَنَّهَا كَانَتْ جَلَّالَةً خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُد.
وَقَدْ ( نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَكْلِ جَلَّالَةِ الْبَقَرِ ). وَهَذَا بَدِيعٌ فِي وَجْهِ الِاحْتِجَاجِ بِهَا، وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَاهُ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ.
وَكَذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْهُ فِي كُلِّ ذِي نَابٍ من السِّبَاعِ وَمِخْلَبٍ من الطَّيْرِ إنَّمَا وَرَدَ فِي الْمُسْنَدِ الصَّحِيحِ بِقَوْلِهِ نَهَى، وَيَحْتَمِلُ ذَلِكَ النَّهْيُ التَّحْرِيمَ، وَيَحْتَمِلُ الْكَرَاهِيَةَ، مَعَ اخْتِلَافِ أَحْوَالِ السِّبَاعِ فِي الِافْتِرَاسِ. أَلَا تَرَى إلَى الْكَلْبِ وَالْهِرِّ وَالضَّبُعِ فَإِنَّهَا سِبَاعٌ، وَقَدْ وَقَعَ الْأُنْسُ بِالْهِرِّ مُطْلَقًا وَبِبَعْضِ الْكِلَابِ، وَجَاءَ الْحَدِيثُ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ الضَّبُعَ صَيْدٌ، وَفِيهَا كَبْشٌ.
وَلَسْنَا نَمْنَعُ أَنْ يُضَافَ إلَيْهَا بِالسُّنَّةِ مَا صَحَّ سَنَدُهُ، وَتَبَيَّنَ مَوْرِدُهُ، وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - :( لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ : رَجُلٌ زَنَى بَعْدَ إحْصَانٍ، أَوْ كَفَرَ بَعْدَ إيمَانٍ، أَوْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ ). وَهَذَا كُلُّهُ عَلَى أَنَّ مَوْرِدَ الْآيَةِ مَجْهُولٌ. فَأَمَّا إذَا تَبَيَّنَّا أَنَّ مَوْرِدَهَا يَوْمُ عَرَفَةَ فَلَا يَحْرُمُ إلَّا مَا فِيهَا، وَإِلَيْهِ أَمِيلُ، وَبِهِ أَقُولُ.
قَالَ لعمرو بْنُ دِينَارٍ : قُلْت لِجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ : إنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ ( النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ ). قَالَ : قَدْ كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ الْحَكَمُ بْنُ عمرو الْغِفَارِيُّ، وَلَكِنْ أَبَى ذَلِكَ الْحَبْرُ يَعْنِي ابْنَ عَبَّاسٍ، وَقَرَأَ :﴿ قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ. . . ﴾ الْآيَةَ، وَكَذَلِكَ يُرْوَى عَنْ عَائِشَةَ مِثْلُهُ. وَقَرَأَتْ الْآيَةَ كَمَا قَرَأَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : تَقْدِيرُ الْآيَةِ : قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا مِمَّا كُنْتُمْ تَسْتَخْبِثُونَهُ وَتَجْتَنِبُونَهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ [ مَيْتَةً ]. . . الْآيَةَ. فَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ من الْمُحَرَّمَاتِ فَلَا ؛ بِدَلِيلِ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ أَشْيَاءَ من هَا الْمُنْخَنِقَةُ وَأَخَوَاتُهَا. وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى تَحْرِيمِ أَشْيَاءَ غَيْرِ ذَلِكَ، من هَا الْقَاذُورَاتُ، وَ من هَا الْخَمْرُ وَالْآدَمِيُّ.
الْجَوَابُ عَنْهُ من سَبْعَةِ أَوْجُهٍ :
الْجَوَابُ الْأَوَّلُ : أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَدْ رَدَّ هَذَا وَأَوْضَحَ الْمُرَادَ من هُ وَالْحَقَّ فِيهِ، وَهُوَ الْحبْرُ الْبَحْرُ التُّرْجُمَانُ.
الْجَوَابُ الثَّانِي : دَعْوَى وُرُودِ الْآيَةِ عَلَى سُؤَالٍ لَا يُقْبَلُ من غَيْرِ نَقْلٍ يُعَوَّلُ عَلَيْهِ.
الْجَوَابُ الثَّالِثُ : لَوْ صَحَّ السُّؤَالُ لَمَا آثَرَ خُصُوصَ السُّؤَالِ فِي عُمُومِ الْجَوَابِ الْوَارِدِ عَلَيْهِ.
وَقَدْ أَجْمَعْنَا عَلَيْهِ وَبَيَّنَّاهُ فِيمَا قَبْلُ.
الْجَوَابُ الرَّابِعُ : وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ غَيْرَ ذَلِكَ كَالْمُنْخَنِقَةِ وَأَخَوَاتِهَا فَإِنَّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي الْمَيْتَةِ إلَّا أَنَّهُ بَيَّنَ أَنْوَاعَ الْمَيْتَةِ وَشَرَحَ مَا يُسْتَدْرَكُ ذَكَاتُهُ مِمَّا تَفُوتُ ذَكَاتُهُ لِئَلَّا يَشْكُلَ أَمْرُهُ وَيُمْزَجَ الْحَلَالُ بِالْحَرَامِ فِي حُكْمِهَا.
الْجَوَابُ الْخَامِسُ : وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى تَحْرِيمِ الْقَاذُورَاتِ فَلَا قَاذُورَ مُحَرَّمٌ عِنْدَنَا إلَّا أَنْ يَكُونَ رِجْسًا فَيَدْخُلَ فِي عِلَّةِ تَحْرِيمِ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ، وَكَذَلِكَ الْخَمْرُ، وَهُوَ :
الْجَوَابُ السَّادِسُ : دَخَلَتْ فِي تَعْلِيلِ الرِّجْسِيَّةِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ السَّابِعُ : عَنْ الْآدَمِيِّ فَهَيْهَاتَ أَيُّهَا الْمُتَكَلِّمُ، لَقَدْ حَطَطْت مُسَمَّاك إذْ أَبْعَدْت مَرْمَاك، مَنْ أَدْخَلَ الْآدَمِيَّ فِي هَذَا ؟ وَهُوَ الْمُحَلَّلُ لَهُ الْمُحَرَّمُ، الْمُخَاطَبُ الْمُثَابُ الْمُعَاقَبُ، الْمُمْتَثِلُ الْمُخَالِفُ، فَبَيْنَمَا كَانَ مُتَصَرِّفًا جَعَلْته مُصَرِّفًا، انْصَرِفْ عَنْ الْمَقَامِ فَلَسْت فِيهِ بِإِمَامٍ، فَإِنَّ الْإِمَامَ هَاهُنَا وَرَاءٌ، وَالْوَرَاءُ أَمَامٌ، وَقَدْ انْدَرَجَتْ :
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : فِي هَذَا الْكَلَامِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : رَوَى مُجَاهِدٌ ( أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَرِهَ من الشَّاءِ سَبْعًا : الدَّمَ، وَالْمِرَارَ، وَالْحَيَاءَ، وَالْغُدَّةَ، وَالذَّكَرَ، وَالْأُنْثَيَيْنِ ). وَهَذِهِ زِيَادَاتٌ عَلَى هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ.
قُلْنَا : عَنْهُ جَوَابَانِ :
الْأَوَّلُ : أَنَّ الْكَرَاهِيَةَ غَيْرُ التَّحْرِيمِ، وَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ كَالنَّدْبِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْوُجُوبِ.
الثَّ
الْآيَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَ من الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوْ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ﴾.
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ :﴿ وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا ﴾ :
فِيهَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : هَادُوا : تَابُوا. هَادَ يَهُودُ : تَابَ.
الثَّانِي : هَادَ : إذَا سَكَنَ.
الثَّالِثُ : هَادَ : فَتَرَ.
الرَّابِعُ : هَادَ : دَخَلَ فِي الْيَهُودِيَّةِ. وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْله تَعَالَى :﴿ كُونُوا هُودًا ﴾ أَيْ يَهُودًا. ثُمَّ حَذَفَ الْيَاءَ.
فَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ التَّائِبُ يَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ :﴿ إنَّا هُدْنَا إلَيْك ﴾ ؛ أَيْ تُبْنَا، وَكُلُّ تَائِبٍ إلَى رَبِّهِ : سَاكِنٌ إلَيْهِ فَاتِرٌ عَنْ مَعْصِيَتِهِ. وَهَذَا مَعْنَى مُتَقَارِبٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي قَوْلِهِ :﴿ كُلَّ ذِي ظُفُرٍ ﴾ :
يَعْنِي مَا لَيْسَ بِمُنْفَرِجِ الْأَصَابِعِ، كَالْإِبِلِ وَالنَّعَامِ وَالْإِوَزِّ وَالْبَطِّ ؛ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَا يَصِيدُ بِظُفْرِهِ : من [ سِبَاعِ ] الطَّيْرِ وَالْكِلَابِ.
وَالْحَوَايَا : وَاحِدُهَا حَاوِيَاءُ أَوْ حَوِيَّةٌ ؛ وَهِيَ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلِ : الْمَبَاعِرُ.
الثَّانِي : أَنَّهَا خَزَائِنُ اللَّبَنِ.
الثَّالِثُ : أَنَّهَا الْأَمْعَاءُ الَّتِي عَلَيْهَا الشُّحُومُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّهُ كَتَبَ عَلَيْهِمْ تَحْرِيمَ هَذَا فِي التَّوْرَاةِ، وَقَدْ نَسَخَ اللَّهُ ذَلِكَ كُلَّهُ بِشَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبَاحَ لَهُمْ مَا كَانَ مُحَرَّمًا عَلَيْهِمْ ؛ عُقُوبَةً لَهُمْ عَلَى طَرِيقِ التَّشْدِيدِ فِي التَّكْلِيفِ لِعَظِيمِ الْحُرْمِ، وَزَوَالِ الْحَرَجِ بِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - [ وَأُمَّتِهِ ]، وَأَلْزَمَ جَمِيعَ الْخَلِيقَةِ دِينَ الْإِسْلَامِ بِحِلِّهِ وَحُرْمِهِ، وَأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ ؛ فَإِذَا ذَبَحُوا أَنْعَامَهُمْ فَأَكَلُوا مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي التَّوْرَاةِ، وَتَرَكُوا مَا حَرَّمَ، فَهَل يَحِلُّ لَنَا ؟ فَقَالَ مَالِكٌ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ : هِيَ مُحَرَّمَةٌ [ عَلَيْهِمْ ].
وَقَالَ فِي سَمَاعِ الْمَبْسُوطِ : هِيَ مُحَلَّلَةٌ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ نَافِعٍ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : أَكْرَهُهُ. وَالصَّحِيحُ أَكْلُهَا ؛ لِأَنَّ اللَّهَ رَفَعَ ذَلِكَ التَّحْرِيمَ بِالْإِسْلَامِ.
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ بَقِيَ اعْتِقَادُهُمْ فِيهِ عِنْدَ الذَّكَاةِ.
قُلْنَا : هَذَا لَا يُؤَثِّرُ ؛ لِأَنَّهُ اعْتِقَادٌ فَاسِدٌ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : فَلَوْ ذَبَحُوا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ ؛ فَقَالَ أَصْبَغُ : كُلُّ مَا كَانَ مُحَرَّمًا فِي كِتَابِ اللَّهِ من ذَبَائِحِهِمْ فَلَا يَحِلُّ أَكْلُهُ. وَقَالَهُ أَشْهَبُ وَابْنُ الْقَاسِمِ وَأَجَازَهُ ابْنُ وَهْبٍ. وَالصَّحِيحُ تَحْرِيمُهُ ؛ لِأَنَّ ذَبْحَهُ من هُمْ لَيْسَ بِذَكَاةٍ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ ﴾ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّحْرِيمَ إنَّمَا يَكُونُ عَنْ ذَنْبٍ ؛ لِأَنَّهُ ضَيِّقٌ فَلَا يُعْدَلُ عَنْ السِّعَةِ إلَيْهِ إلَّا عِنْدَ الْمَوْجِدَةِ.
الْآيَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمْ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِذَا شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ، وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاَلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ﴾.
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ إذَا قَالَ : رَضِيت بِفُلَانٍ فَإِذَا شَهِدَ أَنْكَرَهُ، وَقَالَ : ظَنَنْت أَنَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ ؛ فَ من هُمْ مَنْ قَالَ : يَلْزَمُهُ ذَلِكَ. وَقَالَ آخَرُونَ : لَا يَلْزَمُهُ مَا قَالَ. وَلِلْمَالِكِيَّةِ الْقَوْلَانِ. وَمَشْهُورٌ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ الرِّضَا بِالشَّهَادَةِ ثُمَّ الْإِنْكَارُ ؛ إنَّمَا فِيهَا طَلَبُ الدَّلِيلِ وَاسْتِدْعَاءُ الْبُرْهَانِ عَلَى الدَّعْوَى ؛ فَإِنَّ الْعَرَبَ تَحَكَّمَتْ بِالتَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ، فَقَالَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ : قُلْ لَهُمْ : هَاتُوا شُهَدَاءَكُمْ بِأَنَّ هَذَا من عِنْدِ اللَّهِ، أَيْ حُجَّتَكُمْ حَتَّى نَسْمَعَهَا، وَنَنْظُرَ فِيهَا.
فَإِنْ قِيلَ : فَمَا فَائِدَةُ قَوْلِهِ :﴿ فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ ﴾ ؟
قُلْنَا : هَذَا تَحْذِيرٌ من اللَّهِ لِنَبِيِّهِ لِتَعْلَمَ أُمَّتُهُ الْمَعْنَى. فَإِنْ قَالَ شُهَدَاؤُهُمْ مِثْلَ مَا يَقُولُونَ فَلَا تَقُلْهُ مَعَهُمْ ؛ فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الشَّاهِدَ إذَا قَالَ مَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى بُطْلَانِهِ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ.
الْآيَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إلَّا بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾.
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَدْ تَقَدَّمَ حَالُ الْوَلِيِّ مَعَ الْيَتِيمِ فِي مَالِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ عَمَلِ الْوَصِيِّ فِي مَالٍ الْيَتِيمِ إذَا كَانَ حَسَنًا حَتَّى يَبْلُغَ الْغُلَامُ أَشُدَّهُ، زَادَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ وَيُونُسَ رُشْدَهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبُلُوغَ أَشُدٌّ، وَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الْأَشُدُّ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ عَامًا، وَعَجَبًا من أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ يَرَى أَنَّ الْمُقَدَّرَاتِ لَا تَثْبُتُ نَظَرًا وَلَا قِيَاسًا، وَإِنَّمَا تَثْبُتُ نَقْلًا عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَهُوَ يُثْبِتُهَا بِالْأَحَادِيثِ الضَّعِيفَةِ، وَلَكِنَّهُ سَكَنَ دَارَ الضَّرْبِ فَكَثُرَ عِنْدَهُ الْمُدَلِّسُ، وَلَوْ سَكَنَ الْمَعْدِنُ كَمَا قَيَّضَ اللَّهُ لِمَالِكٍ لِمَا صَدَرَ عَنْهُ إلَّا إبْرِيزُ الدِّينِ وَإِكْسِيرُ الْمِلَّةِ كَمَا صَدَرَ عَنْ مَالِكٍ.
الْآيَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ قُلْ إنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْت وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾.
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى :﴿ إنَّ صَلَاتِي. . . ﴾ الْآيَةَ :
مَقَامُ التَّسْلِيمِ لِلَّهِ وَدَرَجَةُ التَّفْوِيضِ إلَى اللَّهِ بِنَاءً عَنْ مُشَاهَدَةِ تَوْحِيدٍ وَمُعَايَنَةِ يَقِينٍ وَتَحْقِيقٍ ؛ فَإِنَّ الْكُلَّ من الْإِنْسَانِ لِلَّهِ أَصْلٌ وَوَصْفٌ، وَظَاهِرٌ وَبَاطِنٌ، وَاعْتِقَادٌ وَعَمَلٌ، وَابْتِدَاءٌ وَانْتِهَاءٌ، وَتَوَقُّفٌ وَتَصَرُّفٌ، وَتَقَدُّمٌ وَتَخَلُّفٌ، لَا شَرِيكَ لَهُ فِيهِ، لَا من هُ وَلَا من غَيْرِهِ يُضَاهِيهِ أَوْ يُدَانِيهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ ( أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَسْتَفْتِحُ بِهِ صَلَاتَهُ، وَثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي اسْتِفْتَاحِهَا أَيْضًا : سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك ).
وَاخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ بِذَلِكَ ؛ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : لَمْ يَرَ مَالِكٌ هَذَا الَّذِي يَقُولُ النَّاسُ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ : سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك.
وَفِي مُخْتَصَرِ مَا لَيْسَ فِي الْمُخْتَصَرِ أَنَّ مَالِكًا يَقُولُ : وَإِنَّمَا كَانَ يَقُولُ فِي خَاصَّتِهِ لِصِحَّةِ الْحَدِيثِ بِهِ ؛ وَكَانَ لَا يُرِيهِ لِلنَّاسِ مَخَافَةَ أَنْ يَعْتَقِدُوا وُجُوبَهُ. وَرَآهُ الشَّافِعِيُّ من سُنَنِ الصَّلَوَاتِ، وَهُوَ الصَّوَابُ ؛ لِصِحَّةِ الْحَدِيثِ ؛ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : إذَا قُلْنَا إنَّهُ يَقُولُهَا فِي افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُتَقَدِّمِ فَإِنَّهُ يَقُولُ فِي آخِرِهَا : وَأَنَا من الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَقُولُ : وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ؛ إذْ لَيْسَ أَحَدٌ بِأَوَّلِهِمْ إلَّا مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
فَإِنْ قِيلَ : أَوَلَيْسَ إبْرَاهِيمُ قَبْلَهُ ؟ قُلْنَا : عَنْهُ أَجْوِبَةً، أَظْهَرُهَا الْآنَ أَنَّ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ من أَهْلِ مِلَّتِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْآيَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴾.
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : اسْتَدَلَّ بَعْضُ عُلَمَائِنَا الْمُخَالِفِينَ عَلَى أَنَّ بَيْعَ الْفُضُولِيِّ لَا يَصِحُّ بِقَوْلِهِ :﴿ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إلَّا عَلَيْهَا ﴾.
وَعَارَضَهُمْ عُلَمَاؤُنَا بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ تَحَمُّلُ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ دُونَ أَحْكَامِ الدُّنْيَا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ كَسْبَ الْإِلْزَامِ وَالِالْتِزَامِ، لَا كَسْبَ الْمَعُونَةِ وَالِاسْتِخْدَامِ ؛ فَقَدْ يَتَعَاوَنُ الْمُسْلِمُونَ وَيَتَعَامَلُونَ بِحُكْمِ الْعَادَةِ وَالْمُرُوءَةِ وَالْمُشَارَكَةِ ؛ هَذَا رَسُولُ اللَّهِ قَدْ بَاعَ لَهُ وَاشْتَرَى عُرْوَةُ الْبَارِقِيُّ فِي دِينَارٍ وَتَصَرَّفَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، فَأَجَازَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَمْضَاهُ ؛ نَصُّهُ :( أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَفَعَ إلَى عُرْوَةَ الْبَارِقِيِّ دِينَارًا، وَأَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ شَاةً من الْجَلَبِ فَاشْتَرَى لَهُ بِهِ شَاتَيْنِ، وَبَاعَ إحْدَاهُمَا بِدِينَارٍ، وَجَاءَ بِالدِّينَارِ وَبِالشَّاةِ ؛ فَدَعَا لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْبَرَكَةِ ؛ فَكَانَ لَا يَتَّجِرُ فِي سُوقٍ إلَّا رَبِحَ فِيهَا حَتَّى لَوْ اتَّجَرَ فِي التُّرَابِ لَرَبِحَ فِيهِ ).
قَالَ : وَلَقَدْ كُنْت أَخْرُجُ إلَى الْكُنَاسَةِ بِالْكُوفَةِ فَلَا أَرْجعُ إلَّا وَقَدْ رَبِحْت رِبْحًا عَظِيمًا. وَقَدْ مَهَّدْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي صَرِيحِ الْحَدِيثِ وَتَلْخِيصِ الطَّرِيقَتَيْنِ، فَانْظُرُوهُ تَجِدُوهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ﴾ :
لِلْوِزْرِ مَعْنَيَانِ :
أَحَدُهُمَا : الثِّقَلُ ؛ وَهُوَ الْمُرَادُ هَاهُنَا، يُقَالُ وَزَرَهُ يَزِرُهُ إذَا حَمَلَ ثِقَلَهُ، وَ منهُ قَوْله تَعَالَى :﴿ وَوَضَعْنَا عَنْك وِزْرَك ﴾. وَالْمُرَادُ بِهِ هَاهُنَا الذَّنْبُ ؛ قَالَ تَعَالَى :﴿ وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ ﴾ -يَعْنِي ذُنُوبَهُمْ- ﴿ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ ﴾ أَيْ : بِئْسَ الشَّيْءُ شَيْئًا يَحْمِلُونَ.
وَالْمَعْنَى لَا تَحْمِلُ نَفْسٌ مُذْنِبَةٌ عُقُوبَةَ الْأُخْرَى ؛ وَإِنَّمَا تُؤْخَذُ كُلُّ نَفْسٍ منهُمْ بِجَرِيرَتِهَا الَّتِي اكْتَسَبَتْهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى :﴿ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ﴾.
وَقَدْ وَفَدَ أَبُو رِمْثَةَ رِفَاعَةُ بْنُ يَثْرِبِيٍّ التَّمِيمِيُّ مَعَ ابْنِهِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : فَقَالَ : أَمَا إنَّهُ لَا يَجْنِي عَلَيْك وَلَا تَجْنِي عَلَيْهِ.
وَهَذَا إنَّمَا بَيَّنَّهُ لَهُمْ رَدًّا عَلَى اعْتِقَادِهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ من مُؤَاخَذَةِ الرَّجُلِ بِابْنِهِ وَبِأَبِيهِ وَبِجَرِيرَةِ حَلِيفِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : وَهَذَا حُكْمٌ من اللَّهِ تَعَالَى نَافِذٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ؛ وَهُوَ أَلَّا يُؤْخَذَ أَحَدٌ بِجُرْمِ أَحَدٍ، بَيْدَ أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِبَعْضِ النَّاسِ من بَعْضِ أَحْكَامٍ فِي مَصَالِحِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَالتَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَحِمَايَةِ النَّفْسِ وَالْأَهْلِ عَنْ الْعَذَابِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى :﴿ قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا ﴾. وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ أَنَّ الْمَرْءَ كَمَا يُفْتَرَضُ عَلَيْهِ أَنْ يُصْلِحَ نَفْسَهُ بِاكْتِسَابِ الْخَيْرِ فَوَاجِبٌ عَلَيْهِ أَنْ يُصْلِحَ غَيْرَهُ بِالْأَمْرِ بِهِ وَالدُّعَاءِ إلَيْهِ وَالْحَمْلِ عَلَيْهِ، وَهَذِهِ فَائِدَةُ الصُّحْبَةِ، وَثَمَرَةُ الْمُعَاشَرَةِ، وَبَرَكَةُ الْمُخَالَطَةِ، وَحُسْنُ الْمُجَاوَرَةِ ؛ فَإِنْ [ حَسُنَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ كَانَ مُعَافًى فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنْ ] قَصَّرَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ كَانَ مُعَاقَبًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَعَلَيْهِ أَوَّلًا إصْلَاحُ أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ، ثُمَّ إصْلَاحُ خَلِيطِهِ وَجَارِهِ، ثُمَّ سَائِرُ النَّاسِ بَعْدَهُ، بِمَا بَيَّنَّاهُ من أَمْرِهِمْ وَدُعَائِهِمْ وَحَمْلِهِمْ ؛ فَإِنْ فَعَلُوا، وَإِلَّا اسْتَعَانَ بِالْخَلِيفَةِ لِلَّهِ فِي الْأَرْضِ عَلَيْهِمْ، فَهُوَ يَحْمِلُهُمْ عَلَى ذَلِكَ قَسْرًا، وَمَتَى أَغْفَلَ الْخَلْقُ هَذَا فَسَدَتْ الْمَصَالِحُ، وَتَشَتَّتَ الْأَمْرُ، وَاتَّسَعَ الْخَرْقُ، وَفَاتَ التَّرْقِيعُ، وَانْتَشَرَ التَّدْمِيرُ ؛ وَلِذَلِكَ يَرْوُونَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَفَّلَ الْمُتَّهَمِينَ عَشَائِرَهُمْ، وَذَلِكَ بِالْتِزَامِهِمْ كَفَّهُمْ أَوْ رَفْعَهُمْ إلَيْهِ حَتَّى يَنْظُرَ فِيهِمْ، وَاَللَّهُ يَتَوَلَّى التَّوْفِيقَ بِرَحْمَتِهِ.
Icon