تفسير سورة الأنعام

تفسير المنار
تفسير سورة سورة الأنعام من كتاب تفسير المنار .
لمؤلفه رشيد رضا . المتوفي سنة 1354 هـ
سورة الأنعام
وهي السورة السادسة، وآياتها ١٦٥ عند القراء الكوفيين- وعليه مصحف الحكومة المصرية وفلوجل – و١٦٦ عند البصريين والشاميين، و١٦٧ عند الحجازيين.
هي مكية – قيل إلا آية واحدة هي قوله تعالى :﴿ ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة ﴾ [ الأنعام : ١١١ ] فإنها مدنية رواه ابن المنذر عن أبي جحيفة- وقيل إلا آيتين نزلتا في المدينة في رجل من اليهود قال : ما أنزل الله على بشر من شيء. فنزل فيهم :﴿ وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء ﴾ [ الأنعام : ٩١ ] الآيتين- رواه أبو الشيخ عن الكلبي وسفيان- وقيل هما ﴿ قل تعالوا أتل ما حرم ربكم ﴾ [ الأنعام ١٥١ ] الخ الآيتين، رواه إسحاق بن راهويه في مسنده عن شهر بن حوشب. وما قبله أقوى من جهة معنى الآيتين فإنه في محاجة اليهود الذين كانوا في المدينة. وأما ﴿ قل تعالوا ﴾ الآيتين فمعناهما من موضوع السور المكية، وهما متصلتان بما بعدهما، وقيل إن الآية الثالثة بعدهما مدنية أيضا، كما رواه ابن النحاس عن ابن عباس وسيأتي قريبا- وقيل إلا ست آيات :﴿ وما قدروا الله حق قدره ﴾ [ الأنعام : ٩١ ] إلى آخر الآيتين بعدها، و ﴿ قل تعالوا ﴾ [ الأنعام : ١٥١ ] إلى الآيتين بعدها. وهذا جمع بين الأقوال السابقة كلها.
وقال السيوطي في الإتقان : قال ابن الحصار استثنى منها تسع آيات، ولا يصح به نقل خصوصا مع ما قد ورد أنها نزلت جملة. ( قلت ) قد صح النقل عن ابن عباس باستثناء ﴿ قل تعالوا ﴾ الآيات الثلاث كما تقدم. والبواقي ﴿ وما قدروا الله حق قدره ﴾ لما أخرجه ابن أبي حاتم أنها نزلت في مالك بن الصيف، وقوله ﴿ ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا ﴾ [ الأنعام : ٢١ ] الآيتين – نزلتا في مسيلمة، وقوله :﴿ الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه ﴾ [ البقرة : ١٤٦ ]، وقوله :﴿ والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق ﴾ [ الأنعام : ١١٤ ] اه.
أقول : قد ثبت أن بعض الآيات كانت تصدق على وقائع تحدث بعد نزولها أو قبله فتذكر للاستشهاد أو الاحتجاج بها في الواقعة منها فيظن من سمعها حينئذ من الصحابة ولم يكن سمعها من قيل أنها نزلت في تلك الواقعة، وكثيرا ما كان يقول الصحابي إن آية كذا نزلت في كذا- وهو يريد أنها نزلت في إثبات هذا الأمر أو حكمه أو دالة عليه- فيظن الراوي عنه أنها نزلت عند حدوث ذلك الأمر والصحابي لا يريد ذلك، وقد نقل السيوطي هذا المعنى عن ابن تيمية والزركشي، والتحقيق أن مثل هذا يعد من التفسير لا من الحديث المسند. ولما كان وجود آيات مدنية في سورة مكية أو آيات مكية في سور مدنية خلاف الأصل فالمختار عدم قبول القول به إلا إذا ثبت برواية صحيحة السند صريحة المتن سالمة من المعارضة والاحتمال. وإننا لم نرهم صححوا مما رووه من الاستثناء إلا رواية ابن عباس في استثناء ثلاث آيات هن من موضوع السور المكية ولعلهم لو ذكروا لنا الرواية بنصها لما وجدنا فيها حجة على ما قالوا.
وأما ما روي في نزول الأنعام جملة واحدة فقد أخرجه غير واحد من المحدثين عن غير واحد من الصحابة والتابعين – ففي الإتقان أنه أخرجه أبو عبيد والطبراني عن ابن عباس، والطبراني من طريق يوسف بن عطية – وهو متروك- عن ابن عمر مرفوعا وعن مجاهد وعطاء، وفي كل رواية من هذه الروايات أنها نزلت يشيعها سبعون ألف ملك إلا أثر مجاهد فإنه قال فيه خمسمائة ملك. قال السيوطي فهذه شواهد يقوي بعضها بعضا. ثم نقل عن ابن الصلاح أنه روى ذلك من طريق أبي ابن كعب بسند ضعيف وقال : ولم نر له إسنادا صحيحا وقد روي ما يخالفه فروي أنها لم تنزل جملة بل نزلت آيات منها بالمدينة اختلفوا في عددها فقيل ثلاث وقيل ست وقيل غير ذلك. اه. وعزاه في الدر المنثور إلى آخرين أخرجوه أيضا عمن ذكر وعن أنس وأبي بن كعب مرفوعا وعن ابن مسعود وأسماء بنت يزيد وأبي جحيفة وعلي المرتضى، فكثرة الروايات في مسألة لا مجال فيها للرأي فتكون اجتهادية، ولا للهوى فتكون موضوعة، ولا لغلط الرواة فتكون معلولة- لا بد أن يكون لها أصل صحيح.
ونقول إنه لم يرو أحد أنها لم تنزل جملة واحدة بهذا اللفظ المناقض لتلك الروايات المصرحة بنزولها جملة واحدة كحديث ابن عمر :« نزلت علي سورة الأنعام جملة واحدة يشيعها سبعون ألف ملك » وإنما مراد ابن الصلاح بذلك ما روي من استثناء بعض الآيات وقد علمت أنه ليس فيه نص صحيح صريح يدل على ذلك، فرواية نزولها جملة واحدة أرجح بموافقتها للأصل وبكونها مثبتة وروايات الاستثناء نافية والمثبت مقدم على النافي. وقد جمع بينهما من قال إنها نزلت جملة واحدة واستثنى كابن عباس [ والاستثناء معيار العموم ]. وإذ كان ما صححه السيوطي من استثناء ثلاث آيات عن ابن عباس هو ما رواه ابن النحاس عنه في ناسخه فقد انحل الإشكال فإن نص عبارته : سورة الأنعام نزلت بمكة جملة واحدة فهي مكية إلا ثلاث آيات منها نزلن بالمدينة ﴿ قل تعالوا أتل ﴾ [ الأنعام : ١٥١ ] إلى تمام الآيات الثلاث. اه
فقد صح بهذه الرواية إذا أن هذه السورة الطويلة نزلت جملة واحدة، وهذا نص توقيفي عرف أصله المرفوع فهو لا يحتمل التأويل، على أن استثناء الآيات الثلاث فيه يحتمل التأويل كما تقدم، وابن عباس لم يكن بمكة ممن يحفظ القرآن ويروي الحديث فإنه ولد قبل الهجرة بثلاث سنين أو خمس وإنما روي ذلك عن غيره فيحتمل أن يكون الاستثناء من رأيه أو رأي من روى هو عنه، وأن يكون مرويا عنه بالمعنى ويكون بعض الرواة هو الذي عبر بالاستثناء. وإذا كان هذا الاستثناء صحيحا فقصاراه أن السورة بعد أن نزلت جملة واحدة ألحق بها ثلاث آيات مما نزل بالمدينة، فبطل بذلك ما قد يتوهم من كلام ابن الصلاح وما يظنه كثير من الناس من أنه لم ينزل شيء من السور الطوال ولا سور المئين جملة واحدة لأن ما اشتهر نزوله جملة واحدة غير هذه السورة كله من المفصل [ وسور المفصل من ق أو الحجرات إلى آخر المصحف في الأشهر ]. وقد روى أبو هريرة ما يدل على أن قوله تعالى :﴿ وأنذر عشيرتك الأقربين ﴾ [ الشعراء : ٢١٤ ] نزل بالمدينة وقد ثبت عن ابن عباس أنه نزل بمكة وأنه لما جمع النبي صلى الله عليه وسلم بطون قريش وأنذرهم عملا بالآية قال له أبو لهب تبت يداك سائر اليوم ألهذا دعوتنا – فأنزل الله عز وجل :﴿ تبت يدا أبي لهب ﴾ [ المسد : ١ ] السورة، وإنما يروي ابن عباس وأبو هريرة مثل هذا مرسلا إذ لم يكن لهما رواية مرفوعة إلا بعد الهجرة بسنين. وقد صرح الحافظ ابن حجر في الفتح بأن روايتهما لنزول آية :﴿ وانذر عشيرتك ﴾ مرسلة وكلتاهما في البخاري.
وقد مال السيد الآلوسي في روح المعاني إلى القول بضعف ما ورد في نزول الأنعام جملة واحدة ونقل عن الإمام حكاية الاتفاق على القول بنزولها جملة وأنه استشكل ذلك بأنه كيف يمكن أن يقال حينئذ في كل واحدة من آياتها أن سبب نزولها الأمر الفلاني مع أنهم يقولونه. ثم أشار إلى ضعف حكاية الإمام الاتفاق.
ويمكن أن يدفع الإشكال، أولا : بأنه لم يقل أحد بأن لكل آية من آيات هذه السورة سببا وإنما قيل ذلك زهاء العشر من آياتها، وثانيا : أن ما قيل في أسباب نزول تلك الآيات بعضه لا يصح والبعض الآخر لا يدل على نزول تلك الآيات متفرقة، وإنما قالوا إن آية كذا نزلت في كذا أو في قول المشركين كيت وكيت. وهذا هو الأكثر، فإذا صح كان معناه أن تلك الآيات نزلت بعد تلك الوقائع والأقوال مبينة حكم الله فيها، وهذا لا ينافي نزولها دالة على ذلك في ضمن السورة.
وقال الإمام الرازي في أول تفسيره لهذه السورة : قال الأصوليون هذه السورة اختصت بنوعين من الفضيلة – أحدهما أنها نزلت دفعة واحدة، والثاني أنها شيعها سبعون ألفا من الملائكة. والسبب فيه أنها مشتملة على دلائل التوحيد والعدل والنبوة والمعاد وإبطال مذاهب المبطلين والملحدين، وذلك يدل على أن علم الأصول في غاية الجلالة والرفعة، وأيضا فإنزال ما يدل على الأحكام قد تكون المصلحة أن ينزله الله تعالى قدر حاجتهم وبحسب الحوادث والنوازل، وأما ما يدل على علم الأصول فقد أنزله الله تعالى جملة واحدة، وذلك يدل على أن تعلم علم الأصول واجب على الفور لا على التراخي. اه.
ومراده بالأصول عقائد الدين وإنما يجب تعلمها على طريقة القرآن، لا على طريقة المتكلمين وفلاسفة اليونان. ولم يذكر في الكلام عن السورة في أولها ما نقله عنه الألوسي فلعله ذكره في أثناء تفسير السورة. فإن لقب « الإمام » إذا أطلق في كتب من بعد الرازي من المفسرين والمتكلمين والأصوليين والمنطقيين فإنما ينصرف إليه.
وفي فتح البيان : قال القرطبي : قال العلماء هذه السورة أصل في محاجة المشركين وغيرهم من المبتدعين ومن كذب بالعبث والنشور وهذا يقتضي إنزالها جملة واحدة لأنها في معنى واحد من الحجة وأن تصرف ذلك بوجوه كثيرة وعليها بنى المتكلمون أصول الدين اه.
مناسبة هذه السورة لما قبلها :
من نظر ترتيب السور كلها في المصحف يرى أنه قد روعي في ترتيبها الطول والتوسط والقصر في الجملة، ومن حكمته أن في ذلك عونا على تلاوته وحفظه، فالناس يبدأون بقراءته من أوله فيكون الانتقال من السبع الطوال إلى المئين فالمثاني فالمفصل١ أنفى للملل وأدعى إلى النشاط، ويبدأون بحفظه من آخره لأن ذلك أسهل على الأطفال، ولكن في كل قسم من الطوال والمئين والمفصل تقديما لسور قصيرة على سور أطول منها، ومن حكمة ذلك أنه قد روعي التناسب في معاني السور، مع التناسب في السور، أي مقدار الطول والقصر.
قد تقدم هذه السورة أربع سور طوال بعد الفاتحة التي لا يراعي مناسبتها لما بعدها وحده، إذ هي فاتحة القرآن كله، وهذه السور الأربع مدنية وبينها من التناسب في الترتيب ما بيناه، وقد جاء بعدهن سورتا الأنعام والأعراف المكيتان، وبعدهما سورتا الأنفال والتوبة المدنيتان، ويقعان في أوائل الربع الثاني من القرآن ؛ وما بعدهما من سور النصف الأول من القرآن كله مكي، وسور الربع الثالث كلها مكية أيضا إلا سورة النور فإنها مدنية وإلا سورة الحج فهي مختلف فيها والتحقيق أنها مختلطة. وأما الربع الرابع فهو مختلط وأكثره سور المفصل التي تقرأ كثيرا في الصلاة. فينبغي بيان مناسبة جعل سورتي الأنعام والأعراف بعد الأربع المدنية الأولى وقبل السورتين المدنيتين اللتين بعدهما ثم مناسبة الأنعام للمائدة خاصة :
سورة البقرة أجمع سور القرآن لأصول الإسلام وفروعه ففيها بيان التوحيد والبعث والرسالة العامة والخاصة وأركان الإسلام العملية، وبيان الخلق والتكوين، وبيان أحوال أهل الكتاب والمشركين والمنافقين في دعوة القرآن، ومحاجة الجميع، وبيان أحكام المعاملات المالية والقتال والنساء. والسور الطوال بعدها متممة لما فيها، فالثلاث الأولى منها مفصلة لكل ما يتعلق بأهل الكتاب، ولكن البقرة أطالت في محاجة اليهود خاص، وسورة آل عمران أطالت في محاجة النصارى في نصفها الأول، وسورة النساء حاجتهم في أواخرها، واشتملت في أثنائها على بيان شؤون المنافقين مما أجمل في سورة البقرة، ثم أتمت سورة المائدة محاجة اليهود والنصارى فيما يشتركان فيها وفيما ينفرد كل منهما به، ولما كان أمر العقائد هو الأهم المقدم في الدين، وكان شأن أهل الكتاب فيه أعظم من شأن المشركين، قدمت السور المشتملة على محاجتهم بالتفصيل، وناسب أن يجيء بعدها ما فيه محاجة المشركين بال
١ قالوا إن السبع الطوال أولها البقرة وآخرها التوبة وسور المئين ما كانت آياتها أكثر من مئة أو قريبا منها والمثاني ما كانت آياتها أقل من فئة مما قبل المفصل سميت مثاني لأنها ثانية المئين أو لأنها تثنى وتعاد كثيرا في التلاوة – وسميت الفاتحة المثاني لهذا المعنى أيضا – وسمي المفصل مفصلا لكثرة الفصل بين سوره وتقدم تحديده..

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿ الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ١ هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده ثم أنتم تمترون٢ وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون٣ ﴾
افتتح الله تعالى كتابه بالحمد، ثم افتتح به أربع سور مكيات أخرى مشتملة كل منها على دعوة الإسلام ومحاجة المشركين فيها، الأولى الأنعام وهي آخر سورة كاملة في آخر الربع الأول من القرآن، والكهف وهي أول سورة في أول الربع الثالث، وسبأ وفاطر وهما آخر الربع الثالث، وليس في الربع الثاني ولا الثالث سورة مفتتحة بالحمد. وقد قرن الحمد في الأولى بخلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور، وفي الثانية بإنزال القرآن على عبده وكل منها ما سمي نورا بل هما أعظم أنوار الهداية، وفي الثالثة بخلق السموات والأرض وبحمده تعالى في الآخرة وبصفات الحكمة والخبرة والعلم بما ينزل من السماء وما يعرج فيها- والرابعة بخلق السماوات والأرض وجعل الملائكة رسلا أولي أجنحة ووصفه بسعة القدرة، والملائكة من الأنوار الإلهية التي تنزل من السماء وتعرج فيها. فظهر بهذا أن السور الثلاثة مفصلة لما أجمل في الأولى ( الأنعام ) مما حمد الله عليه كما أنها مؤيدة لما فيها إثبات التوحيد والرسالة والبعث.
﴿ الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ﴾ الحمد هو الثناء الحسن والذكر بالجميل – كما تقدم شرحه في سورة الفاتحة – وإسناد الحمد إلى الله تعالى خبر منه تعالى على المختار، والعبد يحكيه بالتلاوة مؤمنا به فيكون حامدا لمولاه، ويذكره في غير التلاوة إنشاء للحمد وتذكرا له، ويجوز أن يكون الحمد هنا إنشاء منه تعالى ؛ وأن إنشاء الحمد بالجملة الخبرية جمع بين الخبر والإنشاء، أثنى سبحانه على نفسه بما علم به عباده الثناء عليه، فأثبت أن كل ثناء حسن ثابت له بالاستحقاق، وبما هو متصف به من الخلق والإيجاد والإعداد والإمداد، فذاته تعالى متصفة بجميع صفات الكمال وجوبا فالكمال الأعلى داخل في مفهوم حقيقتها أو لازم بين من لوازمه، وقد وصف تعالى نفسه في مقام هذا الحمد بصفتين من صفاته الفعلية التي هي من موجبات الحمد له وهما خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور.
أما خلق السماوات والأرض فمعناه إيجاد هذه العوالم العلوية التي نرى كثيرا منها فوقنا وهذا العالم الذي نعيش فيه إيجادا مرتبا منظما، وقد تقدم القول في معنى الخلق لغة وشرعا.
وأما جعل الظلمات والنور فهو في الحسيات بمعنى إيجادهما لأن هذا هو معنى الجعل المتعدي إلى مفعول واحد وسيأتي بيان معناه في المعنويات. قال الزمخشري في الكشاف : جعل يتعدى إلى مفعول واحد إذا كان بمعنى أحدث وأنشأ كقوله :﴿ وجعل الظلمات والنور ﴾ إلى مفعولين إذا كان بمعنى صير كقوله :﴿ وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمان إناثا ﴾ [ الزخرف : ١٩ ] والفرق بين الخلق والجعل أن الخلق فيه معنى التقدير، وفي الجعل معنى التضمين كإنشاء شيء من شيء، أو تصيير شيء شيئا، أو نقله من مكان إلى مكان ؛ ومن ذلك :﴿ وجعل منها زوجها ﴾ [ الأعراف : ١٨٩ ] ﴿ وجعل الظلمات والنور ﴾ لأن الظلمات من الأجرام المتكاثفة والنور من النار ﴿ وجعلنا لهم أزواجا ﴾ [ الرعد : ٣٨ ] ﴿ أجعل الآلهة إلها واحدا ﴾ [ ص : ٥ ] اه.
وقد أخذه الرازي من غير عزو وزاد عليه قوله : وإنما حسن لفظ الجعل هنا لأن النور والظلمة لما تعاقبا صار كل واحد منهما كأنما تولد من الآخر. اه. وقال أبو السعود : والجعل هو الإنشاء والإبداع كالخلق خلا أن ذلك مختص بالإنشاء التكويني وفيه معنى التقدير والتسوية، وهذا عام له – كما في الآية الكريمة – وللتشريع أيضا كما في قوله تعالى :﴿ ما جعل الله من بحيرة ﴾ [ المائدة : ١٠٣ ] الآية. اه. المراد منه. وفيه كلام آخر فيما يلابس مفعوله من الظروف. وقد بينا في تفسير قوله تعالى :﴿ جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس ﴾ [ المائدة : ٩٧ ] أن الجعل فيها خلقي تكويني وأمري شرعي معا. وقد بين الراغب في مفرداته وجوه استعمال الجعل فكانت خمسة فليراجعها في مفرداته من شاء.
والظلمة الحالة التي يكون عليها كل مكان ليس فيه نور، لا عدم النور – أي فقده – كما يوهمه كلام كثير من العلماء مع قولهم أن الظلمة هي الأصل كما سيأتي، قال الراغب : الظلمة عدم النور. وقال النور الضوء المنتشر الذي يعين على الإبصار، وقال : الضوء ما انتشر من الأجسام النيرة، ويقال ضاءت النار وأضاءها غيرها. اه. وفرق بعضهم بين الضياء والنور بما لا محل لذكره هنا. ولا يوجد شيء في العالم أظهر من النور والضوء ولا أغنى عن التعريف. وحسبك أنه هو الظاهر بنفسه المظهر لغيره من المبصرات، فهو أعظم المظاهر الحسية للرب تبارك وتعالى. على أن بيان حقيقته العلمية من أعسر الأمور، وكثيرا ما كان الخفاء من شدة الظهور، وأقرب ما نعرفه به للجمهور أن نقول هو اشتعال يحدث في أجسام لطيفة منبثة في الهواء وفي الأجسام الكثيفة التي تستوقد بها النار.
والنور قسمان حسي صوري وهو ما يدرك بالبصر، ومعنوي عقلي أو روحي وهو ما يدرك بالبصيرة، وقد أطلقت كلمة النور في التنزيل على القرآن، وعلى النبي عليه الصلاة والسلام، كما تقدم في سورتي النساء والمائدة.
وقد أفرد النور وجمعت الظلمة هنا وفي كل آية قوبل فيها بين النور والظلام سواء كان ذلك في الحسي أو المعنوي. بل لم يذكر النور في القرآن إلا مفردا والظلمة إلا جمعا، وحكمة ذلك أن النور شيء واحد وإن تعددت مصادره ولكنه يكون قويا ويكون ضعيفا، وأما الظلمة فهي تحدث بما يحجب النور من الأجسام غير النيرة وهي كثيرة جدا، وكذلك النور المعنوي شيء واحد في كل نوع من أنواعه أو جزئي من جزئياته، ويقابل كلا منها ظلمات متعددة، فالحق واحد لا يتعدد والباطل الذي يقابله كثير، والهدى واحد لا يتعدد والضلال الذي يقابله كثير، مثال ذلك توحيد الله تعالى وما يقابله من التعطيل والشكر في الألوهية بأنواعه والشكر في الربوبية بأنواعه، - وفضيلة العدل وما يقابلها من أنواع الظلم. وقد بينا ذلك في تفسير سورتي البقرة والمائدة.
وقدمت الظلمات في الذكر على النور لأن جنسها مقدم في الوجود فقد وجدت مادة الكون وكانت دخانا مظلما – أو سديما كما يقول علماء الفلك – ثم تكونت الشموس بما حدث فيها من الاشتعال من شدة الحركة كما يقولون، ويشير إليه أو يؤيده حديث عبد الله بن عمرو عند أحمد والترمذي :« إن الله تعالى خلق الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره – وفي رواية ثم ألقى عليهم من نوره – فمن أصابه نوره اهتدى ومن أخطأه ضل »١ والظاهر أن هذا النور هو المعنوي من حيث إنه مشبه بالنور الحسي في تكوينه. وأما حديث عائشة عند مسلم « خلقت الملائكة من نور وخلق الجان من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم »٢ فالظاهر أن النور فيه هو الحسي، ولا يقتضي ذلك أن ترى الملائكة كما يرى النور فالفرق بين الشيء وما خلق منه أصله عظيم كما نراه في أنفسنا. ويجوز أن يكونوا من نور غير هذا الذي نراه بأعيننا.
وسبق الظلمات المعنوية للنور المعنوي أظهر، فإن نور العلم والهداية كسبي في البشر، وما كان غير كسبي في ذاته كالوحي فتلقيه كسبي وفهمه والعمل به كسبيان، وظلمات الجهل والأهواء سابقة على هذا النور، فالرسول لا يولد رسولا وإنما يؤتى الرسالة إذا بلغ أشده واستوى، والعالم لا يولد عالما ولا الفاضل فاضلا « إنما العلم بالتعلم والحلم بالتحلم » ﴿ والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون ﴾ [ النحل : ٧٨ ].
وقد اختلف مفسرو السلف في المراد من الظلمات والنور هنا فأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس :« وجعل الظلمات والنور » قال الكفر والإيمان. وأخرج هو وغيره عن قتادة أنه قال في الآية :« خلق الله السموات قبل الأرض والظلمة قبل النور والجنة قبل النار » الخ. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي قال :« الظلمات ظلمة الليل والنور نور النهار ». وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد قال نزلت هذه الآية في الزنادقة... قالوا إن الله لم يخلق الظلمة ولا الخنافس ولا العقارب ولا شيئا قبيحا، وإنما خلق النور وكل شيء حسن، فأنزل الله فيهم هذه الآية. وأخرج أبو الشيخ عنه أيضا أن قوله تعالى :﴿ خلق السموات والأرض ﴾ رد على الزنادقة المنكرين لوجود الله تعالى، وقوله :﴿ وجعل الظلمات والنور ﴾ رد على المجوس الذين زعموا أن الظلمة والنور هما المدبران – وقوله :﴿ ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ( ١ ) ﴾ رد على مشركي العرب ومن دعا دون الله إلاها.
وجملة القول أن بعضهم قال بأن المراد بالظلمات هنا الظلمات الحسية وبالنور النور الحسي، وبعضهم قال بما يقابل ذلك، وفي القول الأول رد على المجوس أو الثنوية الذين زعموا أن للعالم ربين أحدهما النور وهو الخالق للخير والثاني الظلمة وهو خالق الشر. ويجوز الجمع بين إرادة الحسي والمعنوي من كل من اللفظين – وقال الواحدي : الأولى حمل اللفظين عليهما – واستشكله الرازي لأنه مبني على القول بجواز الجمع بين الحقيقة والمجاز والمختار عندنا جوازه وجواز استعمال المشترك في معنييه أو معانيه إذا احتمل المقام ذلك بلا التباس كما هنا، والتعبير بالجعل دون الخلق يلائم هذا، فإن الجعل يشمل الخلق والأمر – أي الشرع – كما تقدم، فيفسر جعل كل نور بما يليق به، فجعل الدين شرعه والقرآن إنزاله والرسول إرساله والعلم والهدى تهيئة أسبابهما.
وقدم ذكر خلق السماوات على خلق الأرض لأنه أعظم وأشرف، وقيل لأنها خلقت قبل الأرض كما ذكر عن قتادة آنفا، والأول أظهر وفي الثاني خلاف معروف.
﴿ ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ﴾ هذه الجملة معطوفة على جملة « الحمد لله » أو على جملة « خلق السماوات والأرض » وقد عطفت بثم الدالة على بعد ما بين مدلولي المعطوف والمعطوف عليه لإفادة استبعاد ما فعله الكافرون وكونه ضد ما كان يجب عليهم للإله الحقيق بجميع المحامد لكونه هو الخالق لجميع الكون العلوي والسلفي وما فيه الظلمات الحسية والمعنوية، والهادي لما فيه من النور الذي يهتدي به الموفقون في كل ظلمة منها، كأنه قال : وهم مع ذلك يعدلون به غيره، أي يجعلونه عدلا له أي عديلا مساويا له في كونه يعبد ويدعى لكشف الضر وجلب النفع، فهو بمعنى يشركون به ويتخذون له أندادا. وقيل يعدلون بأفعاله عنه وينسبونها إلى غيره ممن لم يجعله سببا لتلك الأفعال كالمعبودات التي ينسبون إليها ما ليس لها أدنى تأثير فيه، وأدنى من هذا تنسب إلى الأسباب مع نسيان فضل الله الذي سخر لهم تلك الأسباب، وإنما الواجب معرفة السبب والخلق الواضع للأسباب رحمة منه بالعباد. وقيل معناه يعدلون عن الحق وهو التوحيد وما يستلزمه من حمد الخالق وشكره، من قولهم عدل عن الشيء عدولا إذا جاز عنه وانحرف، ومال إلى غيره وانصرف.
١ أخرجه الترمذي في الإيمان باب ١٨، وأحمد في المسند ٢/١٧٦، ١٩٧..
٢ أخرجه مسلم في الزهد حديث ٦٠، وأحمد في المسند ٦/١٥٣، ١٦٨..

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿ الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ١ هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده ثم أنتم تمترون٢ وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون٣ ﴾
افتتح الله تعالى كتابه بالحمد، ثم افتتح به أربع سور مكيات أخرى مشتملة كل منها على دعوة الإسلام ومحاجة المشركين فيها، الأولى الأنعام وهي آخر سورة كاملة في آخر الربع الأول من القرآن، والكهف وهي أول سورة في أول الربع الثالث، وسبأ وفاطر وهما آخر الربع الثالث، وليس في الربع الثاني ولا الثالث سورة مفتتحة بالحمد. وقد قرن الحمد في الأولى بخلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور، وفي الثانية بإنزال القرآن على عبده وكل منها ما سمي نورا بل هما أعظم أنوار الهداية، وفي الثالثة بخلق السموات والأرض وبحمده تعالى في الآخرة وبصفات الحكمة والخبرة والعلم بما ينزل من السماء وما يعرج فيها- والرابعة بخلق السماوات والأرض وجعل الملائكة رسلا أولي أجنحة ووصفه بسعة القدرة، والملائكة من الأنوار الإلهية التي تنزل من السماء وتعرج فيها. فظهر بهذا أن السور الثلاثة مفصلة لما أجمل في الأولى ( الأنعام ) مما حمد الله عليه كما أنها مؤيدة لما فيها إثبات التوحيد والرسالة والبعث.
﴿ هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده ثم أنتم تمترون ( ٢ ) ﴾ هذا كلام مستأنف جاء على الالتفات عن وصف الخالق تعالى بما دل على حمده وتوحيده إلى خطاب المشركين الذين عدلوا به غيره في العبادة، يذكرهم به بما هو ألصق بهم من دلائل التوحيد والبعث، وهو خلقهم من الطين وهو التراب الذي يخالطه الماء فيكون كالعجين إذ كانت حالتها مناسبة لحدوث التولد الذاتي، بل خلق كل فرد من أفراد البشر من سلالة من طين، فبنية الإنسان مكونة من الغذاء ومنه ما في رحم الأنثى من جراثيم النسل، وما يلقحه من ماء الذكر، فهو متولد من الدم والدم من الغذاء، والغذاء من نبات الأرض أو من لحوم الحيوان المتولد من الأرض، فمرجع كل إلى النبات، وإنما النبات من الطين. ومن تفكر في هذا ظهر له ظهورا جليا أن القادر عليه لا يعجزه أن يعيد هذا الخلق كما بدأه إذا هو أمات هذه الأحياء بعد انقضاء آجالها التي قضاها لها في أجل آخر يضربه لهذه الإعادة بحسب علمه وحكمته.
والأجل في اللغة هو المدة المضروبة للشيء أي المقدار المحدود من الزمان. وقضاء الأجل يطلق على الحكم به وضربه للشي، وعلى القيام بالشيء وفعله، إذ أصل القضاء : فصل الأمر قولا كان ذلك أو فعلا – كما قال الراغب – مثال الأول أن شعيبا عليه السلام قضى أجلا لخدمة موسى له ثماني سنين وأجلا آخر اختياريا سنتين، فهذا قضاء قولي، وقد قضى موسى عليه السلام الأجل المضروب كما قال تعالى :﴿ فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله ﴾ [ القصص : ٢٩ ] الآية – وذلك قضاء فعلي. والقضاء قد يكون نفسيا كأن يضرب الإنسان في نفسه أجلا لعمل يعمله بأن يكون في نهار أو ساعة من نهار، ويعد هذا من القضاء القولي، لأنه من متعلق الكلام النفسي – على أن الكلام إنما يكون على مقتضى العلم – وقد يقضيه ويفصل فيه كتابة، فالقضاء القولي يشمل الكلام النفسي وما هو مظهر له من لفظ أو كتاب أو غير ذلك.
وقد أخبرنا عز وجل أنه قضى لعباده أجلين – أجلا لمدة حياة كل فرد منهم ينتهي بموت ذلك الفرد – وأجلا لإعادتهم وبعثهم بعد موت الجميع وانقضاء عمر الدنيا، وقيل إن الأجل الآخر هو أجل حياة مجموعهم الذي ينقضي بقيام الساعة وقيل غير ذلك : جاء في تفسير الحافظ ابن كثير في تفسير الأجلين ما نصه : قال سعيد بن جبير عن ابن عباس :« ثم قضى أجلا » يعني الموت « وأجل مسمى عنده » يعني الآخرة. « وعزاه أيضا إلى ١٠ من التابعين » وقول الحسن في رواية عنه :« ثم قضى أجلا » وهو ما بين أن يخلق إلى أن يموت « وأجل مسمى عنده » وهو ما بين أن يموت إلى أن يبعث – هو يرجع إلى ما تقدم وهو تقدير الأجل وهو عمر كل إنسان. وتقدير الأجل العام هو عمر الدنيا بكمالها ثم انتهاؤها وقضاؤها وزوالها والمصير إلى الدار الآخرة.
وعن ابن عباس ومجاهد « ثم قضى أجلا » يعني مدة الدنيا « وأجل مسمى » يعني عمر الإنسان إلى حين موته. وكأنه مأخوذ من قوله تعالى بعد هذا ﴿ وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ﴾ ١ [ الأنعام : ٦٠ ] الآية وقال عطية عن ابن عباس « ثم قضى أجلا » يعني النوم يقبض الله فيه الروح ثم يرجع ( أي الروح ) إلى صاحبه عند اليقظة « وأجل مسمى عنده » يعني أجل موت الإنسان. وهذا قول غريب اه ما أورده ابن كثير. وهذا القول الذي استغربه مأخوذ من قوله تعالى في سورة الزمر ﴿ الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها، فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى ﴾ [ الزمر : ٤٢ ] ولكن الأجل المسمى هنا هو الموت ولم يسم التوفي الأول وهو النوم أجلا، على أن القرآن استدل على البعث بالنوم واليقظة في آية الأنعام الآتية وآية الزمر وغيرهما كقوله في سورة النمل :﴿ ألم يرو أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصرا ﴾ [ النمل : ٨٦ ] هذا وإن من تتبع ذكر الأجل المسمى في القرآن في سياق الكلام عن الناس يراه قد ورد في عمر الإنسان الذي ينتهي بالموت فراجع في ذلك سورة هود : ٣ والنحل : ٦١ وطه : ٢٧ والحج : ٥ والعنكبوت : ٥٣ وفاطر : ٤٥ والزمر : ٣٩ وغافر : ٦٧ ونوح : ٤ وقد ذكر بعضها آنفا.
فإذا عد هذا مرجحا يتسع مجال تأويل الأجل الأول في الآية وهو الذي لم يوصف بالمسمى، فيحتمل ما تقدم من أنه النوم وغير ما تقدم من الأقوال التي قالها مفسرو الخلف ومنها ما عزاه الرازي إلى حكماء الإسلام من « أن لكل مسلم أجلين أحدهما الآجال الطبيعية والثاني الآجال الاخترامية. أما الآجال الطبيعية فهي التي لو بقي ذلك المزاج مصونا من العوارض الخارجية لانتهت مدة بقائه إلى الوقت الفلاني، وأما الآجال الاخترامية فهي التي تحصل بسبب من الأسباب العارضة كالغرق والحرق ولدغ والحشرات وغيرها من الأمور المعضلة » اه ومنها أنه ما انقضى من عمر كل أحد، ومنها قول أبي مسلم أنه ما انقضى من آجال الأمم الماضية، والمسمى عنده أجل من يأتي من الأمم لأنه لا يزال غيبا ومعنى مسمى عنده أي لا يعلمه غيره، كذا قالوا وهذا إنما يظهر إذا أريد بهذا الأجل الساعة أي القيامة، لأنها هي التي لم يطلع عليها ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا.
وأما إذا أريد به الموت فالأظهر أن يكون معنى كونه مسمى عنده أنه مكتوب عنده في الكتاب الذي كتب به مقادير السموات والأرض وفيما يكتبه الملك عندما ينفخ الروح في الجنين كما ثبت في حديث الصحيحين « ويؤمر بأربع كلمات : يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد »٢ فمعنى العندية إذا اختصاص ذلك بالعالم العلوي الذي لا يصل إليه كسبنا، فهي عندية تشريف وخصوصية. وهذه الكتابة كالعلم الإلهي بالشيء لا تقتضي الجبر ولا سلب اختيار العباد، كما بيناه في مواضع كثيرة.
وقوله تعالى :« ثم أنتم تمترون » هو كقوله قبله ﴿ ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ﴾ في دلالته على استبعاد الامتراء وهو الشك في البعث من الإله القدير الذي خلقكم وقدر آجالكم فدل ذلك على قدرته وحكمته دلالة لا تبقى لاستبعاد البعث وجها، فإذا كان سبب الاستبعاد عدم رؤية مثال لهذا البعث - وهو الواقع – فمثله أنكم لا ترون مثلا لخلق أصلكم وجدكم الأول من تراب ولا لخلق غيركم من أنواع الحيوان، فإن التولد الذاتي لا يقع في هذه الأزمان، خلافا لما كان يتوهمه علماء القرون الماضية في تولد دود الفاكهة والجبن والفيران.
١ تتمة الآية وهو محل الشاهد: ﴿ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى ثم إليه ترجعون﴾.
٢ روي الحديث بلفظ: « فيكتب عمله وأجله ورزقه وشقي أو سعيد»، أخرجه البخاري في الأنبياء باب ١، وبدء الخلق باب ٦، والقدر باب ١، والتوحيد باب ٢٨، ومسلم في القدر حديث ١-٤، وأبو داود في السنة باب ١٦، والترمذي في القدر باب ٤، ٩، وابن ماجه في المقدمة باب ١٠، وأحمد في المسند ١/٣٨٢، ٤١٤، ٤٣٠، ٢/٣٢٧، ٤/٧..

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿ الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ١ هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده ثم أنتم تمترون٢ وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون٣ ﴾
افتتح الله تعالى كتابه بالحمد، ثم افتتح به أربع سور مكيات أخرى مشتملة كل منها على دعوة الإسلام ومحاجة المشركين فيها، الأولى الأنعام وهي آخر سورة كاملة في آخر الربع الأول من القرآن، والكهف وهي أول سورة في أول الربع الثالث، وسبأ وفاطر وهما آخر الربع الثالث، وليس في الربع الثاني ولا الثالث سورة مفتتحة بالحمد. وقد قرن الحمد في الأولى بخلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور، وفي الثانية بإنزال القرآن على عبده وكل منها ما سمي نورا بل هما أعظم أنوار الهداية، وفي الثالثة بخلق السموات والأرض وبحمده تعالى في الآخرة وبصفات الحكمة والخبرة والعلم بما ينزل من السماء وما يعرج فيها- والرابعة بخلق السماوات والأرض وجعل الملائكة رسلا أولي أجنحة ووصفه بسعة القدرة، والملائكة من الأنوار الإلهية التي تنزل من السماء وتعرج فيها. فظهر بهذا أن السور الثلاثة مفصلة لما أجمل في الأولى ( الأنعام ) مما حمد الله عليه كما أنها مؤيدة لما فيها إثبات التوحيد والرسالة والبعث.
﴿ وهو الله في السماوات وفي الأرض ﴾ اسم الجلالة « الله » علم لرب العالمين خالق السموات والأرض، وقد كان هذا معروفا عند مشركي العرب. قال تعالى في سورة العنكبوت :﴿ ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون ﴾ [ العنكبوت : ٦١ ] ومثلها في سورة الزمر : ٣٩ وفي معنى هذا السؤال والجواب آيات كثيرة وردت في سياق إثبات التوحيد والبعث – راجع من آية ٨٠ إلى ٩٠ من سورة المؤمنين ومن آية ٦١ إلى ٧٠ من سورة النمل. فمن هذه الآيات تعلم أن اسم الجلالة يشمل هذه الصفات أو يستلزمها، فمعنى الآية أن الله تعالى هو الله تعالى المتصف بهذه الصفات المعروف والمعترف له بها في السموات والأرض. كما تقول أن حاتما هو حاتم في طي وفي جميع القبائل – أي هو المعروف بالجود المعترف له به في كل قومه وفي غيرهم، وأن فلانا هو الخليفة في مملكته وفي جميع البلاد الإسلامية. وفي معنى هذا قوله تعالى في أواخر الزخرف ٨٤ :﴿ وهو الذي في السماء إلاه وفي الأرض إلاه وهو الحكيم العليم ﴾ الخ الآيات.
وجعل بعضهم المعنى الاشتقاقي في الاسم الكريم إما المعبود وإما المدعو، وهذا هو معنى « الإله » وهو داخل في مفهوم الاسم الأعظم، والمعنى على هذا : كمعنى آية الزخرف أي وهو المعبود أو المدعو في السماوات والأرض. وقال الحافظ ابن كثير إنه الأصح من الأقوال. وفي الآيات وجوه أخرى : فمنها أنه المعروف بالإلهية أو المتوحد بالإلهية فيهما – ومنها أنه الذي يقال له الله فيهما لا يشرك به في هذا الاسم. وقيل إن « في السموات وفي الأرض » متعلق بما بعده وفيه إشكال نحوي وإشكال معنوي.
وزعمت الجهمية أن المعنى أن الله تعالى كائن في السموات والأرض، ومنه أخذوا قولهم أنه في كل مكان، والله أعلى وأجل مما قالوا فهو بائن من خلقه غير حال فيه كله ولا في جزء منه، وما صح من إطلاق كونه في السماء ليس معناه أنه حال في هذه الأجرام السماوية كلها أو بعضها، وإنما هو إطلاق لإثبات علوه على خلقه غير مشابه لهم في شيء، بل هو بائن منهم ليس كمثله شيء.
أما جملة ﴿ يعلم سركم وجهركم ﴾ فهي تقرير لمعنى الجملة الأولى لأن الذي استوى في علمه السر والعلانية هو الله وحده، وإلا فهو كلام مبتدأ بمعنى : هو يعلم سركم وجهركم، أو خبر ثان قيل أو ثالث ﴿ ويعلم ما تكسبون ( ٣ ) ﴾ من الخير والشر فيجازيكم عليه.
﴿ وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين ٤ فقد كذبوا بالحق لما جاءهم فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزءون ٥ ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدرارا وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين٦ ﴾.
أرشدت الآيات الثلاث السابقة إلى دلائل وحدانية الله تعالى في ربوبيته وألوهيته، وأنها على ظهورها لم تمنع الكافرين من الشرك في الألوهية ؛ وأرشدت إلى دلائل البعث وإلى أنها على قوتها لم تمنع المشركين من الشك فيه ؛ وبينت الثالثة أن الله تعالى المتصف بالصفات التي يعرفونها ولا ينكرونها هو الله في عالمي السموات والأرض، المحيط علمه بكل شيء، فلا ينبغي أن يتخذ معه إلاه فيهما. ولكن المشركين جهلوا ذلك فجوزوا أن يكون غير الرب إلاها وعبدوا معه آلهة أخرى، فبين لهم الوحي الحق في ذلك وأن الله الذي يعترفون بأنه هو رب السموات والأرض وما فيهن هو الإله المعبود بالحق فيهن – ثم أرشدت هذه الآيات الثلاث اللاحقة سبب عدم اهتدائهم بالوحي، وأنذرتهم عاقبة التكذيب بالحق، ويتلو ذلك في الآيات التي بعدهن كشف شبهاتهم على الوحي وبعثة النبي عليه الصلاة والسلام، فيكون الكلام في أصول الدين كلها وكل السورة تفصيل له.
قال عز وجل :﴿ وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين ( ٤ ) ﴾ أي لم يكن كل أمرهم أنهم لم يستدلوا بما ذكر في الآية الأولى من البينات على التوحيد، ولا بما ذكر في الثانية على البعث، ولم ينظروا فيما يستلزمه كونه سبحانه هو الله في السموات وفي الأرض، المحيط علمه بالسر والجهر وكسب العبد، بل يرونها في الآفاق وفي أنفسهم، عدم الاهتداء بالآيات المتجددة التي تهديهم إلى تلك وتبين لهم وجه دلالتها، وهي آيات القرآن، المرشدة إلى آيات الأكوان، والمثبتة لنبوة محمد عليه الصلاة والسلام، وفي معناها كل ما يدل على نبوته صلى الله عليه وسلم من معجزات، وذلك أنهم لا تأتيهم آية من الآيات من عند ربهم – ولا يقدر عليها غيره – إلا كانوا معرضين عنها، غير متدبرين لمعناها، ولا ناظرين فيما تدل عليه وتستلزمه فيهتدوا به. وأصل الإعتراض التولي عن الشيء الذي يظهر به عرض المتولي المدبر عنه. أي فهم لهذا الإعراض عن النظر في الآيات المنزلة وما فيها من الإعجاز العلمي واللفظي يظلون معرضين عن الآيات الكونية الدائمة الدالة على أن هذا الرب الواحد الذي بيده ملكوت كل شيء هو الحقيق بالألوهية وحده، وأنه لا يجوز أن يدعي غيره ولا أن يعبد سواه، لأن الربوبية والألوهية متلازمان. فالآيات الدالة على أن الرب واحد دالة أيضا على أنه هو الإله وحده، ولولا إعراضهم عن النظر في ذلك والتأمل فيه عنادا من رؤسائهم، وجمودا على التقليد من دهمائهم، المانع من النظر والاستدلال، لظهر لهم ظهورا لا يحتمل المراء ولا يقبل الجدال، فالآية معطوفة على ما قبلها متممة لمعناه، والمضارع المنفي فيها على إطلاقه دال على التجدد والاستمرار، أو على بيان الشؤون وشرح الحقائق – كقوله تعالى :﴿ الله يعلم ما تحمل كل أنثى ﴾ [ الرعد : ٨ ] – فلا يلاحظ فيه حال ولا استقبال، وفي معنى هذه الآية آية أول سورة الشعراء وسيأتي قريبا، وآية في أول سورة الأنبياء وهي :﴿ ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث استمعوه وهم يلعبون * لاهية قلوبهم ﴾ [ الأنبياء : ٢، ٣ ].
وقوله :« من آية » يدل على استغراق النفي أو تأكيده. وإضافة الآيات إلى الرب تفيد أن إنزاله الوحي وبعثه للرسل وتأييدهم وهدايته للخلق بهم من مقتضى ربوبيته أي مقتضى كونه هو السيد المالك المربي لخلقه المدبر لأمورهم على الوجه الموافق للحكمة. وأنه لا يقدر عليه غيره – فالذين يؤمنون بالرب ولا يؤمنون بكتبه ورسله. يجهلون قدر ربوبيته وكنه حكمته ورحمته. وقيل إن المراد بالآيات هنا الدلائل الكونية الثابتة، وهو ضعيف فإن هذه لا يكاد يعبر عنها بالإتيان، لأنها مائلة للبصائر والأبصار، وإنما يعبر بالإتيان عن آيات الوحي التي تتجدد وعما يتجدد مثلها من المعجزات، ومصداق الأخبار بالغيب، كالأخبار بنصر الرسل وخذلان أقوامهم وآيات الساعة. مثال ذلك آيتا الأنبياء والشعراء المشار إليهما آنفا وقوله تعالى :﴿ أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات ﴾ [ غافر : ٤٠ ] ﴿ وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها ﴾ [ الأعراف : ١٣٢ ] ﴿ أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله ﴾ [ يوسف : ١٠٧ ].
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وفي هذه الآيات عبرة لنا في حال الذين أضاعوا الدين، من أهل التقليد الجامدين، وأهل التفرنج الملحدين، فهي تنادي بقبح التقليد، وتصرح بوجوب النظر في الآيات والاستدلال بها، وبأن التكذيب بالحق والحرمان منه معلول للإعراض عنها، وتثبت أن الإسلام دين مبني على أساس الدليل والبرهان لا كالأديان المبنية على وعث التقليد للأحبار والرهبان أو الرؤساء والكهان، وماذا فعل المسلمون بعد هذا التبيان ؟ اتبع جماهيرهم سنن من قبلهم شبرا بشبر وذراعا بذراع، وأضاعوا حجة دينهم بتقليد فلان وعلان، وعكسوا القاعدة المأثورة عن سلفهم وهي : اعرف الرجال بالحق لا الحق بالرجال، ولولا حفظ الله جل وعلا لهذا القرآن، وتوفيقه سلف الأمة للعناية بتدوين سنة المصطفى عليه الصلاة والسلام، وأخذ طائفة من أهل النظر بهديهما في كل زمان، لضاع من الوجود هذا الإسلام، كما ضاعت من قبله سائر الأديان، ولم يغن عن ذلك وجود الألوف المؤلفة من كتب الفقه وكتب الكلام.
كان عاقبة ذلك أن الحق صار مجهولا في نفسه عند الأكثرين. فاتخذ الناس رؤساء جهالا للدنيا وللدين، فتواطأ الفريقان على اضطهاد حملة الحجة من العلماء المستقلين، وظنوا أن ذلك من الكياسة، التي تقتضيها السياسة، ويحفظ بها أمر الملك والرياسة، وما كان إلا فتنة لهم، أضاعوا بها دينهم وملكهم، على أيدي أقوام من أمم الشمال، اقتبسوا من الإسلام وأهله الأولين ذلك الاستقلال، فنسخوا ما كانوا فيه من ظلمات التقليد بنور الاستدلال، فبلغوا من العزة والسيادة أوج الكمال، ثم استدار الزمان فافتتن بعض المسلمين، بما رأوا عليه هؤلاء المستقلين، ولكن داء التقليد العضال، لم يفارقهم في هذه الحال، فطفقوا يقلدونهم في الأزياء والعادات وظواهر الأحكام والأعمال، فازدادوا بذلك خزيا على خزي وضلالا على ضلال، إذ هدموا مقومات أمتهم ومشخصاتها، ولم يستطيعوا أن يكونوها بمقومات ومشخصات غيرها.
فهذه الآيات الكريمة حجة على مقلدة المسلمين وعلى مقلدة الأوربيين، فإنهم هم الذين أضاعوا الدنيا والدين. وأعجب أمر هؤلاء المتفرنجين أنهم يدعون الاستقلال، ويظنون أنما يهذون به من الشبهات الدينية والاجتماعية ضرب من الاستدلال، فهلم دلائلكم على ما تركتم من هداية، وما استحدثتم من غواية، فإننا لمناظرتكم مستعدون، وكم دعوناكم إليها وأنتم لا تجيبون ؟

﴿ وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين ٤ فقد كذبوا بالحق لما جاءهم فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزءون ٥ ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدرارا وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين٦ ﴾.
أرشدت الآيات الثلاث السابقة إلى دلائل وحدانية الله تعالى في ربوبيته وألوهيته، وأنها على ظهورها لم تمنع الكافرين من الشرك في الألوهية ؛ وأرشدت إلى دلائل البعث وإلى أنها على قوتها لم تمنع المشركين من الشك فيه ؛ وبينت الثالثة أن الله تعالى المتصف بالصفات التي يعرفونها ولا ينكرونها هو الله في عالمي السموات والأرض، المحيط علمه بكل شيء، فلا ينبغي أن يتخذ معه إلاه فيهما. ولكن المشركين جهلوا ذلك فجوزوا أن يكون غير الرب إلاها وعبدوا معه آلهة أخرى، فبين لهم الوحي الحق في ذلك وأن الله الذي يعترفون بأنه هو رب السموات والأرض وما فيهن هو الإله المعبود بالحق فيهن – ثم أرشدت هذه الآيات الثلاث اللاحقة سبب عدم اهتدائهم بالوحي، وأنذرتهم عاقبة التكذيب بالحق، ويتلو ذلك في الآيات التي بعدهن كشف شبهاتهم على الوحي وبعثة النبي عليه الصلاة والسلام، فيكون الكلام في أصول الدين كلها وكل السورة تفصيل له.
ولما بين أن شأنهم الإعراض عن الآيات المنزلة وسائر ما يؤيد الله به رسله رتب عليه قوله :
﴿ فقد كذبوا بالحق لما جاءهم ﴾ أي فبسبب ذلك الشأن الكلي العام – وهو استمرارهم على الإعراض عن النظر في الآيات – قد كذبوا بالحق الذي جاءهم لما جاءهم فلم يتريثوا ولم يتأملوا، وإنما كذبوا ما جهلوا، وما جهلوا إلا لأنهم سدوا على أنفسهم مسالك العلم، وهذا الحق الذي كذبوا به هو دين الله الذي جاءهم به خاتم رسله صلى الله عليه وسلم من العقائد والعبادات والآداب، وأحكام الحلال والحرام والمعاملات، وقد دعاهم أولا بمثل هذه السورة إلى كلياته مجملة ثم مفصله، وإنما كان يكون التفصيل بقدر الحاجة، إلى أن تم الدين كله فأكمل الله به النعمة. والحق في أصل اللغة الموافقة والمطابقة كما قال الراغب، أو الأمر الثابت المتحقق بنفسه، فهو كلي له جزئيات كثيرة، وكلما أطلق في مقام يعرف المراد منه بالقرائن اللفظية أو المعنوية، وقد أطلق في القرآن بمعناه اللغوي المطلق وعلى البارئ تعالى وعلى القرآن وعلى الدين، وذكر الدين مضافا إلى الحق إضافة بيانية كقوله تعالى :﴿ هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ﴾ [ التوبة : ٣٣ ] وقوله :﴿ ولا يدينون دين الحق ﴾ [ التوبة : ٢٩ ] وأطلق بمعان أخرى تفهم من السياق في كل موضع – فالأظهر عندنا أن المراد بالحق هنا الدين المبين في القرآن.
وروي عن قتادة تفسيره بالقرآن هنا وفي مثله من سورة ﴿ ق ﴾ ولا فرق بينه وبينما قبله في المعنى، فإن تكذيبهم بالدين الذي نزل به القرآن هو عين التكذيب بالقرآن الذي نزل بهذا الدين، ولكن الأظهر في توجيه اللفظ والتناسب بين هذه الآية وما قبلها وعطفها عليها بفاء السببية أن يقال : إن إعراضهم عن آيات القرآن الدالة بإعجازها على كونها من عند الله وعلى رسالة من أنزلت عليه- وبمعانيها على دلائل التوحيد والبعث، وعلى أحكام الشرائع والآداب، قد كان سببا ترتب عليه تكذيبهم بالحق الذي أنزل القرآن لبيانه وهو تلك المعاني التي هي دين الله عز وجل.
وإذا فسر الحق هنا بالقرآن نفسه يكون المعنى أنهم كانوا يعرضون عن كل آية من القرآن فكان ذلك سببا لتكذيبهم بالقرآن، وأن المعرض عنه والمكذب به واحد، ووجهه أبو السعود، بضرب من تكلفه المعهود، وقد يتخرج على القول بأن فاء السببية تأتي بمعنى لام العلة فتدل على أن ما بعدها سبب لما قبلها، وفي هذا القول مقال، وفي التخريج عليه ما لا يخفى من الضعف، ولكن يظهر ذلك على القول بأن الآيات التي شأنهم الإعراض عنها هي دلائل الأكوان أو المعجزات مطلقا، إذ يقال حينئذ في تقدير الربط- أن كانوا معرضين عن الآيات فقد كذبوا بما هو أعظم آية، وأظهر دلالة، وهو الحق الذي تحدوا به، فعجزوا عن الإتيان بسورة من مثله، وقد علمت أن المختار في الآيات الأول. وقيل إن الحق هنا هو النبي صلى الله عليه وسلم قاله ابن جرير الطبري ؟ وقيل الوعد والوعيد.
﴿ فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزءون ( ٥ ) ﴾ أي فعاقبة هذا التكذيب أنه سوف يحل بهم مصداق الأخبار العظيمة الشأن مما كانوا يستهزءون به من آيات القرآن. والمراد بهذه الأنباء ما في القرآن من الوعد بنصر الله لرسوله وإظهار دينه ووعيد أعدائه بتعذيبهم وخذلانهم في الدنيا ثم بهلاكهم في الآخرة. وقد أتاهم ذلك فكان من أوائله ما نزل بهم من القحط، وما حل بهم في بدر، ثم تم ذلك في يوم الفتح، وقد دلت الآية على ما جاء مصرحا به في سور أخرى من استهزاء مشركي مكة- والكلام فيهم- بوعد الله ووعيده، وكذا بآياته ورسله، ولا حاجة إلى تقدير ذلك في الكلام، فهو وإن لم يقدر من بدائع إيجاز القرآن، وقد تكرر في القرآن ذكر استهزائهم واستهزاء من قبلهم من الكفار بالرسل وبما جاءوا من الوعد والوعيد، وإنذارهم عاقبة هذا الاستهزاء في آيات، وبيان نزول العذاب بهم في آيات أخرى كقوله :﴿ وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون ﴾ [ هود : ٨ ] وهو في سورة هود والنحل والأنبياء والزمر وأكثر الحواميم.
جاء الوعيد على الاستهزاء هنا بحرف التسويف، وجاء في آيتين مثل هاتين الآيتين في أول الشعراء بحرف التنفيس، وذلك قوله تعالى :﴿ وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين * فقد كذبوا فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزءون ﴾ [ الشعراء : ٥، ٦ ] وقد حذف هنا معمول كذبوا، وذكر السيد الألوسي في روح المعاني تعليل ذلك بما نصه : وفي البحر إنما قيد الكذب بالحق هنا وكان التنفيس بسوف وفي الشعراء ﴿ فقد كذبوا فسيأتيهم ﴾ [ الشعراء : ٦ ] بدون تقييد الكذب، والتنفيس بالسين، لأن الأنعام متقدمة في النزول على الشعراء، فاستوفي فيها اللفظ، وحذف من الشعراء وهو مراد إحالة على الأول، وقد ناسب الحذف الاختصار في حرف التنفيس فجيء بالسين اه. أقول : ويحسن أن يزاد على ذلك أنه لما كان فعل الاستقبال المقرون بسوف أبعد زمانا من المقرون بالسين تعين الأول فيما نزل أولا والثاني فيما نزل آخرا.
وقال الرازي في تفسير الآية : اعلم أن الله تعالى رتب أحوال هؤلاء الكفار على ثلاث مراتب : فالمرتبة الأولى : كونهم معرضين عن التأمل في الدلائل والتفكر في البينات. والمرتبة الثانية : كونهم مكذبين بها، وهذه المرتبة أزيد مما قبلها، لأن المعرض عن الشيء قد لا يكون مكذبا به، بل يكون غافلا غير متعرض له، فإذا صار مكذبا به فقد زاد على الإعراض. والمرتبة الثالثة : كونهم مستهزئين بها لأن المكذب بالشيء قد لا يبلغ تكذيبه به إلى حد الاستهزاء، فإذا بلغ إلى هذا الحد فقد بلغ الغاية القصوى في الإنكار، فبين تعالى أن أولئك الكفار وصلوا إلى هذه المراتب الثلاثة على هذا الترتيب اه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وفي هذه الآيات عبرة لنا في حال الذين أضاعوا الدين، من أهل التقليد الجامدين، وأهل التفرنج الملحدين، فهي تنادي بقبح التقليد، وتصرح بوجوب النظر في الآيات والاستدلال بها، وبأن التكذيب بالحق والحرمان منه معلول للإعراض عنها، وتثبت أن الإسلام دين مبني على أساس الدليل والبرهان لا كالأديان المبنية على وعث التقليد للأحبار والرهبان أو الرؤساء والكهان، وماذا فعل المسلمون بعد هذا التبيان ؟ اتبع جماهيرهم سنن من قبلهم شبرا بشبر وذراعا بذراع، وأضاعوا حجة دينهم بتقليد فلان وعلان، وعكسوا القاعدة المأثورة عن سلفهم وهي : اعرف الرجال بالحق لا الحق بالرجال، ولولا حفظ الله جل وعلا لهذا القرآن، وتوفيقه سلف الأمة للعناية بتدوين سنة المصطفى عليه الصلاة والسلام، وأخذ طائفة من أهل النظر بهديهما في كل زمان، لضاع من الوجود هذا الإسلام، كما ضاعت من قبله سائر الأديان، ولم يغن عن ذلك وجود الألوف المؤلفة من كتب الفقه وكتب الكلام.
كان عاقبة ذلك أن الحق صار مجهولا في نفسه عند الأكثرين. فاتخذ الناس رؤساء جهالا للدنيا وللدين، فتواطأ الفريقان على اضطهاد حملة الحجة من العلماء المستقلين، وظنوا أن ذلك من الكياسة، التي تقتضيها السياسة، ويحفظ بها أمر الملك والرياسة، وما كان إلا فتنة لهم، أضاعوا بها دينهم وملكهم، على أيدي أقوام من أمم الشمال، اقتبسوا من الإسلام وأهله الأولين ذلك الاستقلال، فنسخوا ما كانوا فيه من ظلمات التقليد بنور الاستدلال، فبلغوا من العزة والسيادة أوج الكمال، ثم استدار الزمان فافتتن بعض المسلمين، بما رأوا عليه هؤلاء المستقلين، ولكن داء التقليد العضال، لم يفارقهم في هذه الحال، فطفقوا يقلدونهم في الأزياء والعادات وظواهر الأحكام والأعمال، فازدادوا بذلك خزيا على خزي وضلالا على ضلال، إذ هدموا مقومات أمتهم ومشخصاتها، ولم يستطيعوا أن يكونوها بمقومات ومشخصات غيرها.
فهذه الآيات الكريمة حجة على مقلدة المسلمين وعلى مقلدة الأوربيين، فإنهم هم الذين أضاعوا الدنيا والدين. وأعجب أمر هؤلاء المتفرنجين أنهم يدعون الاستقلال، ويظنون أنما يهذون به من الشبهات الدينية والاجتماعية ضرب من الاستدلال، فهلم دلائلكم على ما تركتم من هداية، وما استحدثتم من غواية، فإننا لمناظرتكم مستعدون، وكم دعوناكم إليها وأنتم لا تجيبون ؟

﴿ وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين ٤ فقد كذبوا بالحق لما جاءهم فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزءون ٥ ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدرارا وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين٦ ﴾.
أرشدت الآيات الثلاث السابقة إلى دلائل وحدانية الله تعالى في ربوبيته وألوهيته، وأنها على ظهورها لم تمنع الكافرين من الشرك في الألوهية ؛ وأرشدت إلى دلائل البعث وإلى أنها على قوتها لم تمنع المشركين من الشك فيه ؛ وبينت الثالثة أن الله تعالى المتصف بالصفات التي يعرفونها ولا ينكرونها هو الله في عالمي السموات والأرض، المحيط علمه بكل شيء، فلا ينبغي أن يتخذ معه إلاه فيهما. ولكن المشركين جهلوا ذلك فجوزوا أن يكون غير الرب إلاها وعبدوا معه آلهة أخرى، فبين لهم الوحي الحق في ذلك وأن الله الذي يعترفون بأنه هو رب السموات والأرض وما فيهن هو الإله المعبود بالحق فيهن – ثم أرشدت هذه الآيات الثلاث اللاحقة سبب عدم اهتدائهم بالوحي، وأنذرتهم عاقبة التكذيب بالحق، ويتلو ذلك في الآيات التي بعدهن كشف شبهاتهم على الوحي وبعثة النبي عليه الصلاة والسلام، فيكون الكلام في أصول الدين كلها وكل السورة تفصيل له.
﴿ ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم ﴾ الرؤية هنا علمية، و ( القرن ) من الناس القوم المقترنون في زمن واحد، جمعه قرون، وقد استعمل في القرآن بهذا المعنى مفردا وجمعا، واختلف في الزمن المحدد بقرن فأوسط الأقوال إنه سبعون أو ثمانون سنة، وقيل مئة أو أكثر وقيل ستون أو أربعون، والمعقول أنه مقدار متوسط أعمار الناس في كل زمان. وذهب بعضهم إلى تحديد القرن بالحالة الاجتماعية التي يكون عليها القوم، فقال الزجاج : إنه عبارة عن أهل عصر فيهم نبي أو فائق في العلم، أي أو ملك من الملوك، وهذا أقرب إلى استعمال القرآن، فالظاهر أن قوم نوح قرن وإن امتد زمنه بهم زهاء ألف سنة، وقوم عاد قرن وقوم صالح قرن. ويطلق القرن على الزمن نفسه والمشهور في عرف الكتاب اليوم أن القرن مئة سنة. و ( التمكن ) يستعمل باللام في. يقال : مكن له في الأرض-جعل له مكانا فيها، ونحوه أرض له. ومنه إنا مكنا له في الأرض وقال : مكنه في الأرض-أي أثبته فيها ومنه « ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه » كذا في الكشاف قال ولتقارب المعنيين جمع بينهما في هذه الآية. وقيل إن مكنه ومكن له كوهبه ووهب له، وقال أبو علي اللام زائدة كردف وسيأتي تحقيق معنى الاستعمالين.
والسماء المطر، والمدرار المغزار فهو صيغة مبالغة من در، وهو مصدر در اللبن درا، أي كثر وغزر، ويسمى اللبن الحليب درا كالمصدر. والإرسال والإنزال متقربان في المعنى لأن اشتقاق الإرسال من رسل اللبن وما ينزل من الضرع متتابعا، وقال الراغب : أصل الرسل الانبعاث على التؤدة يقال ناقة رسلة سهلة السير، وإبل مراسيل-منبعثة انبعاثا سهلا، ومنه رسول المنبعث.
ثم ذكر أن الإرسال يكون ببعث من له اختيار كإرسال الرسل، بالتسخير كإرسال الريح والمطر، وبترك المنع نحو قوله :﴿ أرسلنا الشياطين على الكافرين ﴾ [ مريم : ٨٣ ] ويستعمل فيما يقابل الإمساك نحو « وما يمسك فلا مرسل له » والكلام استئناف لبيان ما توعدهم به، وكونه مما سبقت به سنته في المكذبين من أقوام الأنبياء.
والمعنى ألم يعلم هؤلاء الكفار المكذبون بالحق كم أهلكنا من قبلهم من قوم أعطيناهم من التمكين والاستقلال في الأرض وأسباب التصرف فيها ما لم نعطهم هم مثله، ثم لم تكن تلك المواهب والنعم بمانعة لهم من عذابنا لما استحقوه بذنوبهم ﴿ أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر ﴾ [ القلم : ٤٣ ] ؟ لا هذا ولا ذاك، إما الإيمان وإما الهلاك-وكان الظاهر أن يقال : مكناهم في الأرض-أي القرون-ما لم نمكنهم- أي الكفار المحكي عنهم المستفهم عن حالهم. فعدل عن ذلك بالالتفات عن الغيبة إلى الخطاب لما في إيراد الفعلين بضميري الغيبة من إيهام اتحاد مرجعهما وكون المثبت عين المنفي، فقيل ما لم نمكن لكم : وإنما لم يقل :« ما لم نمكنكم » أو « ومكنا لهم ما لم نمكن لكم »-وهو مقتضى المطابقة-لنكتة دقيقة لا يدركها لا من فقه الفرق بين مكنه ومكن له وقد غفل عنه جماهير أهل اللغة والتفسير، والتحقيق أن معنى مكنه في الأرض أو في الشيء-جعله متمكنا من التصرف تام الاستقلال فيه. وأما مكن له فقد استعمل في القرآن مع التصريح بالمفعول به ومع حذفه، فالأول كقوله تعالى :﴿ وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم ﴾ [ النور : ٥٥ ] وقوله :﴿ أولم نمكن لهم حرما آمنا ﴾ [ القصص : ٥٧ ] والثاني قوله تعالى ﴿ وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ﴾ [ يوسف : ٢١ ] وقوله في ذي القرنين :﴿ إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سببا ﴾ [ الكهف : ٨٤ ] فلا بد في مثل هذا من تقدير المفعول المحذوف مع مراعاة ما يناسب ذلك من نكت الحذف ككون المفعول في هاتين الآيتين عاما يتناول كل ما يصلح للمقام، كان يقال مكنا ليوسف ولذي القرنين في الأرض جميع أسباب الاستقلال في التصرف.
إذا فقهت هذا فاعلم أن في هذه الآية احتباكا تقديره « مكناهم في الأرض ما لم نمكنكم، ومكنا لهم ما لم نمكن لكم » ومعنى الأول أنهم كانوا أشد منكم قوة وتمكنا في أرضهم، فلم يكن يوجد حولهم من يضارعهم في قوتهم، ويقدر على سلب استقلالهم، ومعنى الثاني أننا أعطيناهم من أسباب التمكن في الأرض وضروب التصرف وأنواع النعم ما لم نعطكم. فحذف من كل من المتقابلين ما أثبت نظيره في الآخر، وهذا من أعلى فنون الإيجاز، الذي وصل في القرآن إلى أوج الإعجاز، ويصدق كل من المتمكنين على قوم عاد وثمود وقوم فرعون وغيرهم كما يعلم من قصص الرسل في القرآن ومن التاريخ العام.
ثم عطف على هذا ما امتازت به تلك القرون على كفار قريش من النعم الإلهية الخاصة بمواقع بلادهم من الأرض فقال :﴿ وأرسلنا السماء عليهم مدرارا ﴾ إرسال السماء عبارة عن إنزال المطر، والمدرار الغزير كما تقدم ﴿ وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم ﴾ أي وسخرنا لهم الأنهار-وهي مجاري المياه الفائضة-وهديناهم إلى الاستمتاع بها بجعلها تجري دائما من تحت مساكنهم التي يبنونها على ضفافها، أو في الجنات والحدائق التي تتفجر خلالها، فيتمتعون بالنظر إلى جمالها، وبسائر ضروب الانتفاع من أموالها.
﴿ فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين ( ٦ ) ﴾ أي فكان عاقبة أمرهم لما كفروا بتلك النعم وكذبوا الرسل أن أهلكنا كل قرن منهم بسبب ذنوبهم التي كانوا يقترفونها، وأنشأنا أي أوجدنا من بعد الهالكين من كل منهم قرنا آخرين يعمرون البلاد ويكونون أجدر بشكر نعم الله عليهم فيها، والذنوب التي يهلك الله بها القرون ويعذب بها الأمم قسمان : أحدهما : معاندة الرسل والكفر بما جاءوا به. وثانيهما : كفر النعم بالبطر والأشر وغمط الحق واحتقار الناس وظلم الضعفاء، ومحاباة الأقوياء، والإسراف في الفسق والفجور، والغرور بالغنى والثروة، فهذا كله من الكفر بنعم الله واستعمالها في غير ما يرضيه من نفع الناس والعدل العام.
والآيات الناطقة بتلك الذنوب مجتمعة ومتفرقة كثيرة كقوله تعالى :﴿ وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا وكنا نحن الوارثين*وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلكها ظالمون ﴾ [ القصص : ٥٨، ٥٩ ] ﴿ وكذلك أخذ ربك القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد ﴾ [ هود : ١٠٢ ] ﴿ ضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ﴾ [ النحل : ١١٢ ] ﴿ وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا ﴾ [ الإسراء : ١٦ ] والعذاب الذي يعذب الله به الأمم ويهلك القرون ويديل الدول قسمان أيضا : الجوائح والاستئصال، وفقد الاستقلال، وقد بينا هذا وذاك في مواضع من هذا التفسير.
وفي هذه الآية رد على كفار مكة وهدم لغرورهم بقوتهم وثروتهم بإزاء ضعف عصبية النبي صلى الله عليه وسلم وفقره، وقد حكى الله تعالى عنهم ذلك بقوله :﴿ وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين ﴾ [ سبأ : ٣٥ ].
أما القوم أو القرن الآخرون الذين يخلفون من نزل بهم عذاب الله تعالى فهم لا بد أن يكونوا مخالفين لهم في صفاتهم، وإن كانوا من جبلتهم وأبناء جيلهم، فالشعوب التي نكبت بالحرب المشتعلة الآن في أوروبة لا بد أن يخلف الهالكين فيها خلف يتركون كثيرا مما كانت عليه من الكفر بالله وكفر نعمه ويكونون أقل منهم بطرا وقسوة وانغماسا في الترف والسرف وما ينشأ عنهما من الفسق والفجور، قال تعالى في آخر سورة القتال :﴿ وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم* ثم لا يكونوا أمثالكم ﴾ [ محمد : ٣٨ ].
﴿ ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين٧ وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون٨ ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون٩ ﴾
بينا في تفسير الآيات السابقة أن الثلاث الأولى منها قد أرشدت إلى ما دعا إليه الرسول صلى الله عليه وسلم من التوحيد والبعث والآيات الدالة عليهما، وأن الثلاث التي بعدها أرشدت إلى سبب تكذيب قريش بذلك وهو الحق المبين بالدليل، وأنذرتهم عاقبة هذا التكذيب، وهو ما يحل بهم من عذاب الله في الدنيا والآخرة، وإنه لا يحول دونه ما هم مغرورون به من قوتهم وضعف الرسول صلى الله عليه وسلم وتمكنهم في أرض مكة وهي أم القرى وأهلها قدوة العرب. وقد بين تعالى في هذه الآيات الثلاث شبهات أولئك الجاحدين المعاندين على الوحي وبعثة الرسول صلى الله عليه وسلم فتم بيان أسباب جحودهم بأركان الإيمان كلها كما سبقت الإشارة إلى ذلك.
وقد روى ابن المنذر وابن أبي حاتم عن محمد بن إسحاق ما قد يعد سببا لنزول الآية الثانية من هذه الثلاث قال : دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه إلى الإسلام وكلمهم فأبلغ إليهم فقال له زمعة بن الأسود بن المطلب والنضر بن الحارث بن كلدة وعبدة بن عبد يغوث وأبي بن خلف بن وهب والعاصي بن وائل بن هشام : لو جعل معك يا محمد ملك يحدث عنك الناس ويرى معك-فأنزل الله في ذلك من قولهم :﴿ وقالوا لولا أنزل عليه ملك ﴾ ولا تصح هذه الرواية في سبب نزول الآية، وقد ذكرها السيوطي في الدر المنثور ولم يذكرها في ( لباب النقول في أسباب النزول ) واقتراح معاندي المشركين إنزال الملك مع الرسول ذكر في الفرقان وهود والإسراء ؛ وقد روي أن هذه السور الثلاث نزلت قبل الأنعام، والأنعام نزلت جملة واحدة-على ما تقدم بيانه في أول تفسيرها-فما فيها من الرد عليهم في هذه المسألة إنما هو رد على شبهة سبقت لهم وحكيت عنهم، وكذلك اقتراح إنزال كتاب من السماء وإنزال القرآن جملة واحدة فهو في سورة الفرقان.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعجب من كفر قومه وبما أنزل عليه مع وضوح برهانه، وظهور إعجازه، وكان يضيق صدره لذلك وينال منه الحزن والأسف كما قال تعالى في سورة هود :﴿ فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك ﴾ [ هود : ١٢ ] وما في معناه-وكان الله عز وجل يبين له أسباب ذلك ومناشئه من طباع البشر وأخلاقهم واختلاف استعدادهم ليعلم أن الحجة مهما تكن ناهضة، والشبهة مهما تكن داحضة، فإن ذلك لا يستلزم الإيمان بما قامت عليه الحجة، وانحسرت عنه غمة الشبهة، إلا في حق من كان مستعدا له، وزالت موانع الكبر والعناد أو التقليد عنه.
فقوله تعالى :
﴿ ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين ( ٧ ) ﴾ جاء بعد تلك الآيات البينات الواردة بأسلوب الحكاية وضمائر الغيبة مبينا هذا المعنى للرسول بأسلوب الالتفات إلى خطابه صلى الله عليه وسلم، كأنه يقول : قد علمت أن علة تكذيبهم بالحق إنما هي إعراضهم عن الآيات، وما أقفلوا على أنفسهم من باب النظر والاستدلال، لإخفاء الآيات في نفسها، ولا قوة الشبهات التي تحول دونها، ألم تر أن آيات التوحيد في الأنفس والآفاق هي أظهر الآيات وأكثرها، ولم يمنعهم من الكفر بها مبالغة الكتاب المعجز في تقريرها، ولو أننا أنزلنا عليك كتابا من السماء في قرطاس كما اقترحوا فرأوه نازلا منها بأعينهم، ولمسوه عند وصوله إلى الأرض بأيديهم، لقال الذين كفروا منهم كفر العناد والاستكبار : ما هذا الذي رأينا ولمسنا إلا سحر بين في نفسه، ثابت في نوعه، وإنما خيل إلينا أننا رأينا كتابا ولمسناه، وما ثم كتاب نزل، ولا قرطاس رؤي ولا لمس. وكذلك قال أمثالهم في آيات الأنبياء من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا.
الكتاب في الأصل مصدر كالكتابة ويستعمل غالبا بمعنى المكتوب فيطلق على الصحيفة المكتوبة وعلى مجموعة الصحف في مقصد واحد، والقرطاس بكسر القاف ( وتفتح وتضم لغة ) الورق الذي يكتب فيه وقيل هو مخصوص بالمكتوب منه وقوله تعالى ﴿ في قرطاس ﴾ صفة له أو متعلق به. واللمس كالمس إدراك بظاهر البشرة كما قال الراغب وقال الجوهري اللمس باليد، والصواب أن الأصل فيه اللمس بظاهر البشرة ولذلك يطلق بمعنى الوقاع كالملامسة، ولكن لما كان أكثر اللمس باليد وقلما يقع بالقدم أو الساعد مثلا توهم أنه خاص بمس اليد. وتقييد اللمس في الآية بالأيدي يعين المراد منه بدفع احتمال التجوز به، إذ اللمس يستعمل مجازا بمعنى طلب الشيء والبحث عنه، يقال لمسه والتمسه وتلمسه-بهذا المعنى، ومنه « وأنا لمسنا السماء الدنيا » ويستلزم لمسه بالأيدي رؤيته بالأبصار، قال قتادة : فعاينوه ومسوه بأيديهم. وقال مجاهد : فمسوه ونظروا إليه. والرؤية واللمس أقوى اليقينيات الحسية وأبعدها عن الخداع ولا سيما إذا اجتمعا، والثقة باللمس أقوى لأن البصر قد يخدع بالتخيل. وقال تعالى في سورة الحجر :﴿ ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون* لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون ﴾ [ الحجر : ١٤، ١٥ ] ولكن مكابرة الحس بعد اجتماع أقوى إدراكيه-وهما الرؤية واللمس-وتقوية أحدهما الآخر قلما يقع إلا من جاحد معاند مستكبر أو من مقلد أعمى لا تتوجه نفسه إلى معرفة شيء يخالف ما تقلده من آبائه وقومه. وقال ابن المنير : الظاهر أن فائدة زيادة لمسه بأيديهم تحقيق القراءة على قرب أي فقرءوه وهو بأيديهم لا بعيد عنهم لما آمنوا. اه والأول هو الظاهر المختار.
والآية تدل على أن السحر خداع باطل، وتخييل يري ما لا حقيقة له في صورة الحقائق، ويقول بعض المتكلمين أن السحر من خوارق العادات، وأن الفرق بينه وبين المعجزات إنما هو في اختلاف حال من تصدر الخوارق على أيديهم لا في كون آيات الأنبياء حقا وكون السحر باطل، والآية تبطل هذا القول ولا تقوم الحجة بها عليه، إذ يكون معنى دفع المشركين حينئذ : ما هذا الكتاب الذي نزل على الوجه الذي اقترحنا إلا خارقة من خوارق العادات لا ريب فيها ولكنها صدرت على يد ساحر فهي إذا من السحر، لا على يد من ادعى النبوة حتى تسمى آية أو معجزة، فيكون حاصله الطعن في شخص النبي صلى الله عليه وسلم وإنكار ادعائه النبوة. وهذا المعنى مخالف للواقع على كون عبارة الآية تتبرأ من احتمال دنوه منها أو دخوله عليها من أحد الأبواب الثلاثة ( الحقيقة والمجاز والكناية ) ولعله لم يخطر على بال أحد يفهم العربية وإن كان من شيعة ذلك المذهب الكلامي الذي فسر السحر بما ذكر خلافا لظواهر الكتاب والسنة، فقد نص القرآن على أن السحر تخييل لما ليس واقعا، وأنه كيد ومكر، وأنه يتعلم تعلما، والخوارق لا تكون بالتعلم، وقال تعالى على لسان كليمه موسى ﴿ ما جئتم به السحر إن الله سيبطله ﴾ [ يونس : ٨١ ] وقال في آية أخرى ﴿ ليحق الحق ويبطل الباطل ﴾ [ الأنفال : ٨ ] فتعين أن يكون السحر باطلا لا حقا.
﴿ ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين٧ وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون٨ ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون٩ ﴾
بينا في تفسير الآيات السابقة أن الثلاث الأولى منها قد أرشدت إلى ما دعا إليه الرسول صلى الله عليه وسلم من التوحيد والبعث والآيات الدالة عليهما، وأن الثلاث التي بعدها أرشدت إلى سبب تكذيب قريش بذلك وهو الحق المبين بالدليل، وأنذرتهم عاقبة هذا التكذيب، وهو ما يحل بهم من عذاب الله في الدنيا والآخرة، وإنه لا يحول دونه ما هم مغرورون به من قوتهم وضعف الرسول صلى الله عليه وسلم وتمكنهم في أرض مكة وهي أم القرى وأهلها قدوة العرب. وقد بين تعالى في هذه الآيات الثلاث شبهات أولئك الجاحدين المعاندين على الوحي وبعثة الرسول صلى الله عليه وسلم فتم بيان أسباب جحودهم بأركان الإيمان كلها كما سبقت الإشارة إلى ذلك.
وقد روى ابن المنذر وابن أبي حاتم عن محمد بن إسحاق ما قد يعد سببا لنزول الآية الثانية من هذه الثلاث قال : دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه إلى الإسلام وكلمهم فأبلغ إليهم فقال له زمعة بن الأسود بن المطلب والنضر بن الحارث بن كلدة وعبدة بن عبد يغوث وأبي بن خلف بن وهب والعاصي بن وائل بن هشام : لو جعل معك يا محمد ملك يحدث عنك الناس ويرى معك-فأنزل الله في ذلك من قولهم :﴿ وقالوا لولا أنزل عليه ملك ﴾ ولا تصح هذه الرواية في سبب نزول الآية، وقد ذكرها السيوطي في الدر المنثور ولم يذكرها في ( لباب النقول في أسباب النزول ) واقتراح معاندي المشركين إنزال الملك مع الرسول ذكر في الفرقان وهود والإسراء ؛ وقد روي أن هذه السور الثلاث نزلت قبل الأنعام، والأنعام نزلت جملة واحدة-على ما تقدم بيانه في أول تفسيرها-فما فيها من الرد عليهم في هذه المسألة إنما هو رد على شبهة سبقت لهم وحكيت عنهم، وكذلك اقتراح إنزال كتاب من السماء وإنزال القرآن جملة واحدة فهو في سورة الفرقان.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعجب من كفر قومه وبما أنزل عليه مع وضوح برهانه، وظهور إعجازه، وكان يضيق صدره لذلك وينال منه الحزن والأسف كما قال تعالى في سورة هود :﴿ فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك ﴾ [ هود : ١٢ ] وما في معناه-وكان الله عز وجل يبين له أسباب ذلك ومناشئه من طباع البشر وأخلاقهم واختلاف استعدادهم ليعلم أن الحجة مهما تكن ناهضة، والشبهة مهما تكن داحضة، فإن ذلك لا يستلزم الإيمان بما قامت عليه الحجة، وانحسرت عنه غمة الشبهة، إلا في حق من كان مستعدا له، وزالت موانع الكبر والعناد أو التقليد عنه.
﴿ وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون ( ٨ ) ﴾ اقترح كفار مكة أن ينزل على الرسول ملك من السماء يكون معه نذيرا مؤيدا له أمامهم إذ يرونه ويسمعون كلامه كما في سورة الفرقان ( ٧ : ٢٥ ) وما هنا، وهو حكاية لما هنالك، فلذلك لم يقل « ملك فيكون معه نذيرا » اكتفاء بما سبق. بل اقترحوا أيضا أن ينزل الملك عليهم بالرسالة من ربهم، بل طلبوا أكبر من ذلك : طلبوا أن يروا ربهم ويخاطب كل واحد منهم بما يريد من إرسال الرسول إليهم، كما في سورة الفرقان أيضا ( ٢١ : ٢٥ ) وقد قال الله في هؤلاء :﴿ لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا ﴾ نعم إن هذا منتهى الكبرياء والعتو لأنه تسام واستشراف من أظل البشر وأسفلهم روحا إلى ما لا يصل إليه أعلاه مقاما في هذه الحياة الدنيا، وأما اقتراحهم نزول الملك على الرسول فهو مبني على ضد ما بني عليه طلبهم لنزول الملائكة عليهم أو رؤية ربهم-هو مبني على اعتقاد أن أرقى البشر عقلا وأخلاقا وآدابا وهم الرسل عليهم الصلاة والسلام ليسوا أهلا لأن يكونوا رسلا بين الله وبين عباده لأنهم بشر يأكلون ويشربون ويمشون في الأسواق-هذه شبهة المتقدمين منهم والمتأخرين : قال تعالى في هود وقومه :﴿ وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا : ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون*ولئن أطعتم بشرا مثلكم أنكم إذا لخاسرون ﴾ [ المؤمنون : ٣٣-٣٤ ] وحكى تعالى مثل هذا عن غيرهم في هذه السورة ( سورة المؤمنين ) وفي غيرها.
ومثل هذا التناقض والتضاد في حكم البشر لأنفسهم وعليها معهود في كل زمان وكل مكان، فهم يرفعون أنفسهم تارة إلى ما هو أعلى من قدرها بما لا يحصى من الدرجات والمسافات البعيدة السحيقة، ويهبطون بها تارة إلى ما هو دون استعدادها بما لا يعد من الدركات العميقة. يتسامون تارة للبحث في عالم الغيب من الأزل الذي لا يعرفون أوله، إلى الأبد الذي لا يدركون نهايته، وللكلام في كنه الخالق، وفي كيفية صدور الوجود الممكن عن الوجود الواجب، فيعترفون تارة بالعجز عن معرفة كنه أنفسهم والقصور عن الإحاطة بأنواع الجنة١ التي تعيش في بنيتهم، وتأثر في جميع مواد معيشتهم من أطعمتهم وأشربتهم.
يقولون تارة إن هذا الإنسان سيد الأكوان، ومصداق قول الغزالي : ليس في الإمكان أبدع مما كان، ويقولون تارة إنه مظهر الظلم والخلل والفساد، وإنما يعظم أحدهم نفسه أو جنسه في مرآة نفسه ويحقر غيره أو نفسه متمثلة في مرآة جنسه، ومن هذا الباب إنكار الكفار لبعثة الرسل، وكانوا تارة يكتفون بجعل البشرية علة للإنكار كما ترى في سورة هود وإبراهيم والإسراء والمؤمنين وياسين والقمر والتغابن-وتارة يصرحون بما في أنفسهم من الكبر واستثقالهم تفضيل الرسل على أنفسهم بإتباعهم إياهم، وعلى هذا بنوا اقتراح نزول الملائكة عليهم مباشرة أو على الرسل مؤيدة لهم كقول قوم نوح ﴿ ما هذا إلا بشر يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة ﴾ [ المؤمنون : ٢٤ ].
جمع مشركو مكة بين الاقتراحين- كما تقدم آنفا-اقتراح نزول الملائكة عليه، واقتراح نزول ملك على النبي يرونه بأعينهم، ولولا قيد الرؤية لم يكن للاقتراح فائدة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان أخبرهم بأنه ينزل عليه الملك، وكأنهم ظنوا أن مساواتهم له صلى الله عليه وسلم في البشرية تقتضي مساواته في الاستعداد لرؤية الملائكة وتلقي العلم عنهم، وهذه أقوى شبهة للكفار على الوحي، فإنهم لغرورهم بأنفسهم ينكرون كل ما لا يصلون إليه بأنفسهم.
وقد رد الله تعالى عليهم الاقتراحين من وجهين أحدهما : أنه لو أنزل ملكا كما اقترحوا لقضي الأمر بإهلاكهم ثم لا ينظرون أي لا يؤخرون ولا يمهلون ليؤمنوا بل يأخذهم العذاب عاجلا كما مضت به سنة الله فيمن قبلهم. قال ابن عباس في تفسير الآية : ولو أتاهم ملك في صورته لأهلكناهم ثم لا يؤخرون، وقال قتادة : يقول : لو أنزل الله ملكا ثم لم يؤمنوا لعجل لهم العذاب. ولكن قال مجاهد في قوله :« لقضي الأمر» : أي لقامت الساعة. وذكر المفسرون في تفسير قضاء الأمر هنا عدة وجوه :

١-
أن سنة الله في أقوام الرسل الذين قامت عليهم الحجة أنهم كانوا إذا اقترحوا آية وأعطوها ولم يؤمنوا يعذبهم الله بالهلاك والاستئصال الذي تتولى تنفيذه الملائكة، والله تعالى لا يريد أن يستأصل هذه الأمة، التي بعث فيها خاتم رسله نبي الرحمة، فالرحمة العامة تنافي هذا العذاب العام ﴿ وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ﴾ [ الأنبياء : ١٠٧ ].

٢-
أن المراد أنهم لو شاهدوا الملك بصورته الأصلية كما يطلبون لزهقت أرواحهم من هول ما يشاهدون.

٣-
أن رؤية الملك بصورته آية ملجئة يزول بها الاختيار الذي هو قاعدة التكليف- وهذا على قاعدة المعتزلة، وعبارة الزمخشري في هذه المسألة من تعليلات قضاء الأمر : وإما لأنه يزول الاختيار الذي هو قاعدة التكليف عند نزول الملائكة فيجب إهلاكهم اه وهذا التفريع غير مسلم.

٤-
أنهم لما اقترحوا ما لا يتوقف عليه الإيمان – إذ يتوقف على المعجز مطلقا وقد حصل، لا المعجز الخاص الذي طلبوه- فإذا أعطوه كانوا على غاية الرسوخ في العناد المناسب للإهلاك وعدم النظرة.
وأول هذه الأقوال أقواها وهو المختار. وفي معنى هذه الآية قوله تعالى في سورة الحجر :﴿ ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين ﴾ [ الحجر : ٨ ] أي ما كان شأننا الذي مضت به سنتنا أن ننزل الملائكة إلا بالأمر الحق وهو الرسالة للرسل أو العذاب للأمم الذين يعاندون الرسل فيقترحون عليهم الآيات المخصوصة ويعلقون إيمانهم عليها ثم يصرون على جحودهم وكفرهم بعد أن يعطوها، فلو نزلت الملائكة عليهم ما كانوا إذ تنزل إلا هالكين لا ينظرون أي لا يمهلون لأجل أن يؤمنوا. وما كان الله ليهلك هذه الأمة، ولا من أعدهم لهدايتها من قوم نبي الرحمة، بإجابة اقتراحات أولئك المستكبرين المعاندين منهم، وهم إنما يقترحون الآيات، لأجل التعجيز دون استبانة الإعجاز. وهو يعلم أنهم إن أعطوها ما كانوا مؤمنين، وبذلك مضت السنة في أمثالهم من الغابرين.
ومن نكت البلاغة ما بينه الزمخشري من حكمة العطف بثم وهي إفادة ما بين قضاء الأمر وعدم الإنظار من البعد : جعل عدم الإنظار أشد من قضاء الأمر، لأن مفاجأة الشدة أشد من نفس الشدة.
١ كذا بالأصل، ولعل المقصود، تلك الأحياء الدقيقة التي لا ترى بالبصر المجرد المعروفة بالمكروبات..
﴿ ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين٧ وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون٨ ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون٩ ﴾
بينا في تفسير الآيات السابقة أن الثلاث الأولى منها قد أرشدت إلى ما دعا إليه الرسول صلى الله عليه وسلم من التوحيد والبعث والآيات الدالة عليهما، وأن الثلاث التي بعدها أرشدت إلى سبب تكذيب قريش بذلك وهو الحق المبين بالدليل، وأنذرتهم عاقبة هذا التكذيب، وهو ما يحل بهم من عذاب الله في الدنيا والآخرة، وإنه لا يحول دونه ما هم مغرورون به من قوتهم وضعف الرسول صلى الله عليه وسلم وتمكنهم في أرض مكة وهي أم القرى وأهلها قدوة العرب. وقد بين تعالى في هذه الآيات الثلاث شبهات أولئك الجاحدين المعاندين على الوحي وبعثة الرسول صلى الله عليه وسلم فتم بيان أسباب جحودهم بأركان الإيمان كلها كما سبقت الإشارة إلى ذلك.
وقد روى ابن المنذر وابن أبي حاتم عن محمد بن إسحاق ما قد يعد سببا لنزول الآية الثانية من هذه الثلاث قال : دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه إلى الإسلام وكلمهم فأبلغ إليهم فقال له زمعة بن الأسود بن المطلب والنضر بن الحارث بن كلدة وعبدة بن عبد يغوث وأبي بن خلف بن وهب والعاصي بن وائل بن هشام : لو جعل معك يا محمد ملك يحدث عنك الناس ويرى معك-فأنزل الله في ذلك من قولهم :﴿ وقالوا لولا أنزل عليه ملك ﴾ ولا تصح هذه الرواية في سبب نزول الآية، وقد ذكرها السيوطي في الدر المنثور ولم يذكرها في ( لباب النقول في أسباب النزول ) واقتراح معاندي المشركين إنزال الملك مع الرسول ذكر في الفرقان وهود والإسراء ؛ وقد روي أن هذه السور الثلاث نزلت قبل الأنعام، والأنعام نزلت جملة واحدة-على ما تقدم بيانه في أول تفسيرها-فما فيها من الرد عليهم في هذه المسألة إنما هو رد على شبهة سبقت لهم وحكيت عنهم، وكذلك اقتراح إنزال كتاب من السماء وإنزال القرآن جملة واحدة فهو في سورة الفرقان.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعجب من كفر قومه وبما أنزل عليه مع وضوح برهانه، وظهور إعجازه، وكان يضيق صدره لذلك وينال منه الحزن والأسف كما قال تعالى في سورة هود :﴿ فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك ﴾ [ هود : ١٢ ] وما في معناه-وكان الله عز وجل يبين له أسباب ذلك ومناشئه من طباع البشر وأخلاقهم واختلاف استعدادهم ليعلم أن الحجة مهما تكن ناهضة، والشبهة مهما تكن داحضة، فإن ذلك لا يستلزم الإيمان بما قامت عليه الحجة، وانحسرت عنه غمة الشبهة، إلا في حق من كان مستعدا له، وزالت موانع الكبر والعناد أو التقليد عنه.
الوجه الثاني : في الرد عليهم قوله تعالى :
﴿ ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون ( ٩ ) ﴾ أي لو جعل الرسول ملكا لجعل الملك متمثلا في صورة البشر، ليمكنهم رؤيته وسماع كلامه الذي يبلغه عن الله تعالى، ولو جعله ملكا في صورة البشر لاعتقدوا أنه بشر لأنهم لا يدركون منه إلا صورته وصفاته البشرية التي تمثل بها، وحينئذ يقعون في نفس اللبس والاشتباه الذي يلبسونه على أنفسهم باستنكار جعل الرسول بشرا، ولا ينفكون يقترحون جعله ملكا، وقد كانوا في غنى عن هذا، وإنما شأنهم فيه شأن أكثر الناس حتى العلماء منهم فيما يوقعون فيه أنفسهم من المشكلات بسوء اختيارهم، وما يخترعونه من الشبهات بسوء فهمهم، ثم يحارون في أمر المخرج منها.
مادة ( ل ب س ) تدل على الستر والغطية. يقال لبس الثوب يلبسه ( بكسر الباء في الماضي وفتحها في المضارع ) وهو من الستر الحسي، ويقال لبس الحق بالباطل يلبسه ( بفتح باء الأول وكسر باء الثاني ) بمعنى ستره به أي جعله مكانه ليظن أنه الحق، ولبست عليه أمره أي جعلته بحيث يلتبس عليه فلا يعرفه-وهذا كله من الستر المعنوي.
وقد علل جمهور المفسرين جعل الملك بصورة البشر في هذه الحالة بأن البشر لا يطيقون رؤية الملائكة في صورتهم الأصلية، وتقدم في تفسير الآية السابقة قول من علل بذلك قضاء الأمر بهلاكهم بمجرد نزول الملك، واستدلوا على ذلك بتمثل الملائكة لإبراهيم ولوط بصورة الناس وبتمثل جبريل لمريم بشرا سويا، وظهوره للنبي صلى الله عليه وسلم بصورة دحية الكلبي غالبا وبصورة غيره أحيانا كما في حديث الإيمان والإسلام وغيره، وذكر بعضهم من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم أنه رآه في صورته الأصلية مرتين فقط. وقد نازع آخرون في عد هذا خصوصية له صلى الله عليه وسلم إذ لا يثبت ذلك إلا بنص ولا نص في المسألة، وإنما ورد من حديث ابن مسعود عند الإمام أحمد وحديث عائشة عند الترمذي أنه لم يره في صورته التي خلقه الله عليها إلا مرتين. وقد ورد أن من الصحابة من رأى الملائكة في غير صورة البشر كرؤية أسيد بن حضير لهم في مثل الظلة فيها أمثال المصابيح كما رواه الشيخان عنه، ولكن هذا تمثيل أيضا.
والمختار عندنا أن البشر في حالاتهم العادية غير مستعدين لرؤية الملائكة والجن في حالتهم التي خلقوا عليها قال تعالى في الشيطان :﴿ إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم ﴾ [ الأعراف : ٢٧ ] لا لأنهم لا يطيقونها لهولها بل لأن أبصار البشر لا تدرك كل الموجودات بل تدرك في عالمها هذا بعض الأجسام كالماء وما هو أكثف منه من الأجرام الملونة دونما هو ألطف منه كالهواء وما هو ألطف منه كالعناصر البسيطة التي يتألف منها الماء والهواء، والملائكة والجن من عالم آخر غيبي ألطف مما ذكر. وهذا العالم مما يعده المتكلمون في الفلسفة وراء عالم المادة، وليس عند المسلمين عالم غير مادي، ولذلك يعدون الملائكة والجن من الأجسام اللطيفة، ويقولون إنهم قادرون على التشكل في صور الأجسام الكثيفة، فمثل تشكلهم كمثل تشكل الماء في صورة البخار اللطيف والبخار الكثيف وصورة المائع السيال وصورة الثلج والجليد، ولكن الماء يتشكل بما يطرأ عليه من حر وبرد بغير اختيار منه، وذانك يتشكلان باختيارهما إذ جعل الله لهما سلطانا على العناصر التي تتركب منها مادة العالم أقوى من سلطان البشر الذين يتصرفون فيها بأيديهم لا بأنفسهم وماهياتهم، فهم لا يقدرون على تحليل أبدانهم وتركيبها مع غيرها من المواد. فإذا تمثل الملك أو الجان في صورة كثيفة كصورة البشر أو غيرهم أمكن للبشر أن يروه ولكنهم لا يرونه على صورته وخلقته الأصلية بحسب العادة وسنة الله في خلق عالمه وعالمهما، فإذا وقع ذلك كرؤية النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل مرتين كان من خوارق العادات، والخوارق لا تثبت إلا بنص، لأنها خلاف الأصل، على أن رؤيته بصورته لا ينافي التشكل، إذ يجوز أن تكون مادة صورته اللطيفة التي لا ترى قد ظهرت بمادة كثيفة فيكون التشكل في هذه الحالة بمادة جديدة مع حفظ الصورة الأصلية، والتشكل في غيرها بالمادة والصورة معا، على أن لأرواح الأنبياء من التناسب مع أرواح الملائكة ما ليس لغيرها، ففي الحال التي تغلب بها روحانيتهم على جثمانيتهم يكونون كالملائكة فيجوز أن يروهم بأي صورة وشكل تجلوا لهم فيه.
هذا وإن ما لا يرى قد يدرك بضرب من ضروب الإدراك غير الرؤية فإن كان الملك مخلوقا عاقلا عالما وكان في لطافته من قبيل الأرواح البشرية التي هي محل العلم والإدراك في البشر فلم لا يجوز أن يكون لهذين النوعين من الأرواح الموجودة في هذا الكون نوع من الاتصال يقتبس به أحدهما من الآخر شيئا من العلم، كما يقتبس البشر بعض العلم البشري من الجو إذ يبث الأخبار فيه بعضهم بالآلات الكهربائية ( المعروفة بالتلغراف اللاسلكي-أو الأثير والهوائي ) يقتبسها الآخرون ؟ بل ثبت أن الأنفس البشرية يقتبس بعضها العلم من الموجودات-بشرا كانت أو غير بشر-بغير واسطة الحواس والاستنباط العقلي، كما روى بعض الأطباء الماديين الذين كانوا ينكرون مثل هذا عن مريض كان يعالجه في القاهرة أنه قال : إن فلان- وذكر قريبا له في الإسكندرية- يريد أن يسافر الآن إلى مصر لأجل عيادتي، ثم إنه عين القطار الحديدي الذي ركب فيه ثم الوقت الذي وصل فيه إلى محطة مصر، ثم لم تكن إلا مسافة سير المركبة بين المحطة ودار المريض إلا وقد وصل هذا القريب، وكان ينتظره لاستبانة المكاشفة ذلك الطبيب، وروي عنه غير ذلك من المكاشفات، ومثل هذا يقع كثيرا في كل عصر، فلم لا يجوز أن يقتبس البشر العلم بمثل هذه المكاشفة عن الملائكة وأرواح البشر الميتين كما يقتبسونها من أحياء البشر ومن غير البشر من الأشياء ؟
نقول إن هذا جائز عقلا ومروي نقلا، ولكنه كغيره يتوقف على الفاعل والقابل، فإذا تدبرنا ما ورد في الكتاب والسنة من خبر الوحي والإلهام يظهر لنا منه أن الإنسان ليس له سلطان على ملائكة السماء، كسلطانه على ما في الأرض من أبناء جنسه وسائر الأشياء، فلا يستطيع كل فرد من أفراده أن يدرك هؤلاء الملائكة ويقتبس منهم العلم شاؤوا أم أبوا، ولكن بعض الأرواح البشرية قد تصل بطهارتها وعلو مكانتها إلى قابلية التلقي عن الملائكة، لما بينها وبينهم من القرب والمناسبة، وهذه القابلية نوعان :
أحدهما : ما يختص به الله تعالى أنبياءه ورسله بدون سعي منهم ولا كسب، فيؤهلهم لنبوته ورسالته، وينزل عليهم الملائكة بالروح من أمره، فلا القابل الذي يتلقى عن الملك يكون له كسب أو اختيار فيما يوحى إليه، ولا الفاعل وهو الملك الذي ينزل بالوحي يكون له اختيار فيما يوحيه، بل يفعل ما يأمره الله تعالى به ولا يستطيع أن يعصيه. ولكمال استعداد الأنبياء وعلو أرواحهم يرون الملائكة في صورهم الأصلية قليلا. ويتمثل الملك لهم بصورة البشر أو يلابسهم ملابسة روحية فيلقي في أرواحهم ما شاء الله أن يلقيه وهو الأكثر، وهذا النوع قد ختم وتم ببعثة محمد خاتم النبيين، عليه أفضل الصلاة والتسليم، وما هو من شؤون البشر الكسبية، فيبقى ببقائهم.
النوع الثاني : ما يمنحه الله تعالى من التثبيت في الحق والإلهام لمن دون الأنبياء من خيار خلقه الذين سلمت فطرتهم، وصفت سريرتهم، وزكت بالعمل الصالح أنفسهم، حتى غلبت فيها الصفات الملكية، على النزعات الحيوانية والنزغات الشيطانية، فالأرواح البشرية العالية، قد تقوى المناسبة بينها وبين الملائكة فتستفيد من أرواح الملائكة قوة في الخير والحق وثباتا على الصلاح والإصلاح، ﴿ إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا ﴾ [ الأنفال : ١٢ ] وقد تستفيد منها علما بالحق وبشارة بالخير، وهو ما يسمى التحديث والإلهام، ومنه بشارة الملائكة لمريم بعيسى عليه السلام وتمثل جبريل لها عند ما أراد الله أن تحمل بنفخه فيها، وقد ثبت في الحديث الصحيح أن عمر بن الخطاب كان من المحدثين١، وقد عبر عن ملك الإلهام بأنه « واعظ الله في قلب كل مؤمن » في حديث النواس بن سمعان عند أحمد والترمذي، ويوضحه حديث ابن مسعود « إن للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة، فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله تعالى فليحمد الله، ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله من الشيطان »٢ رواه الترمذي والنسائي وابن حبان. وعلم عليه في الجامع الصغير بالصحة.
وقد أطال الإمام الغزالي في إيضاح هذا المطلب في كتاب شرح عجائب القلب من الإحياء، وتقدم في تفسير سورة البقرة من الجزء الأول بحث فيه. والماديون المحجوبون ينكرون مثل هذا « ومن جهل شيئا عاداه » ولو قيل لمن كان على شاكلتهم قبل اكتشاف هذه الجنة ( الميكروبات ) أن في العالم أنواعا كثيرة من المخلوقات الخفية التي لا يمكن أن يراها أحد بعينيه هي سبب الأدواء والأمراض التي لا تحصى، وهي سبب التغيرات والاختمارات التي نراها في المائعات والفواكه وغيرها-لقالوا إنما هذه خرافة من الخرافات. وقد كان غير المسلمين يعدون من هذا القبيل حديث أبي موسى « الطاعون وخز أعدائكم من الجن وهو لكم شهادة » رواه الحاكم وصححه، ثم صاروا بعد اكتشاف باشلس الطاعون يتعجبون منه بصدق كلمة الجن على ميكروب الطاعون كغيره، وقد ورد أن الجن أنواع منها ما هو من الحشرات وخشاش الأرض.
وقد بين الأستاذ الإمام النوع الأول في رسالة التوحيد أكمل بيان، وبأوضح برهان، واختصر في بيان النوع الثاني فقال :
« أما أرباب النفوس العالية والعقول السامية من العرفاء، ممن لم تدن مراتبهم من مراتب الأنبياء، ولكنهم رضوا أن يكونوا لهم أولياء، وعلى شرعهم ودعوتهم أمناء، فكثير منهم نال حظه من الإنس، بما يقارب تلك الحال في النوع أو الجنس، لهم مشارفة في بعض أحوالهم على شيء من عالم الغيب ولهم مشاهد صحيحة في عالم المثال لا تنكر عليهم لتحقيق حقائقها في الواقع، فهم لذلك لا يستبعدون شيئا مما يحدث به عن الأنبياء صلوات الله عليهم. ومن ذاق عرف، ومن حرم انحرف، ودليل صحة ما يتحدثون به وعنه ظهور الأثر الصالح منهم وسلامة أعمالهم مما يخالف شرائع أنبيائهم، وطهارة فطرهم مما ينكره العقل الصحيح، أو يمحه الذوق السليم، واندفاعهم بباعث من الحق الناطق في سرائرهم، المتلألئ في بصائرهم، إلى دعوة من يحف بهم إلى ما فيه خير العامة، وترويح قلوب الخاصة، ولا يخلو العالم من متشبهين بهم، ولكن ما أسرع ما ينكشف حالهم، ويسوء مآلهم، ومآل من غرروا به، ولا يكون لهم إلا سوء الأثر في تضليل العقول وفساد الأخلاق وانحطاط شأن القوم الذين رزؤا بهم، إلا أن يتداركهم الله بلطفه، فتكون كلمتهم الخبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار، فلم يبق بين المنكرين لأحوال الأنبياء ومشاهدهم وبين الإقرار بإمكان ما أنبؤوا به بل وبوقوعه إلا حجاب من العادة، وكثيرا ما حجب العقول حتى عن إدراك أمور معتادة ».
١ لفظ الحديث: « قد كان يكون في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتي منهم أحد، فإن عمر بن الخطاب منهم». أخرجه البخاري في فضائل الصحابة باب ٦.
٢ أخرجه الترمذي في تفسير سورة ٢، باب ٣٥..
﴿ ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزءون ١٠ قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين ١١ ﴾
بعد أن بين الله تعالى لخاتم رسله سنته في شبهات الكفار المعاندين على الرسالة، وإصرارهم الجحود والتكذيب بعد إعطائهم الآيات التي كانوا يقترحونها وعقابه تعالى إياهم على ذلك – بين له شأنا آخر من شؤون أولئك الكفار مع رسلهم وسنته تعالى في عقابهم عليه فقال :﴿ ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزءون ( ١٠ ) ﴾ ظاهر كلام نقلة اللغة أن الهزء ( بضمتين وبضم فسكون ) والاستهزاء بمعنى السخرية، وأن قولهم هزئ به واستهزأ به مرادف لقولهم سخر منه، ويفهم من كلام بعض المدققين أن الحرفين متقاربا المعنى ولكن بينهما فرقا لا بمنع من استعمال كل منهما حيث يستعمل الآخر كثيرا، قال الراغب : الهزؤ مزح في خفية ( كذا ولعل صوابه في خفية ) وقد يقال لما هو كالمزح فمما قصد به المزح قوله :﴿ واتخذوها هزوا ولعبا ﴾ [ المائدة : ٥٨ ] ﴿ وإذا علم من آياتنا شيئا اتخذها هزوا ﴾ [ الجاثية : ٩ ] ﴿ وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا ﴾ [ الفرقان : ٤١ ]... والاستهزاء ارتياد الهزؤ وإن كان قد يعبر به تعاطي الهزؤ. كالاستجابة في كونها ارتيادا للإجابة وإن كان قد يجري مجرى الإجابة إدالة الدولة،
(..... ) سقط بمقدار ١٧ سطر/ ص : ٣٢٠-٣٢١ ج ٧
وقد كان جزاء المستهزئين بمن قبله من الرسل عذاب الخزي بالاستئصال، ولكن الله كفاه المستهزئين به فأهلكهم ولم يجعلهم سببا لهلاك قومهم، وامتن عليه بذلك في سورة الحجر إذ قال :﴿ إنا كفيناك المستهزئين ﴾ [ الحجر : ٩٥ ] والمشهور أنهم خمسة من رؤساء قريش هلكوا في يوم واحد.
ولما كان كون أمر المستهزئين بالرسل إلى الهلاك بحسب سنة الله المطردة فيهم مما يرتاب فيه مشركو مكة الذين يجهلون التاريخ، ولا يأخذون خبر الآية فيه بالتسليم، أمر الله تعالى رسوله بأن يدلهم على الطريق الذي يوصلهم إلى علم ذلك بأنفسهم فقال :﴿ قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين ( ١١ ) ﴾ أي قل أيها الرسول للمكذبين بك من قومك – الذين قالوا : لولا أنزل عليه ملك – سيروا في الأرض كشأنكم وعادتكم، وتنقلوا في ديار أولئك القرون الذين مكناهم في الأرض ومكنا لهم فيها ما لم نمكن لكم، ثم انظروا في أثناء كل رحلة من رحلاتكم آثار ما حل بهم من الهلاك، وتأملوا كيف كانت عاقبتهم بما تشاهدون من آثارهم، وما تسمعون من أخبارهم. وإنما قال :« عاقبة المكذبين » ولم يقل « عاقبة المستهزئين » أو الساخرين – والكلام الأخير في هؤلاء لا في جميع المكذبين – لأن الله تعالى أهلك من القرون الأولى جميع المكذبين، وإن كان السبب المباشر للإهلاك اقتراح المستهزئين الآيات الخاصة على الرسل، فلما أعطوها كذب بها المستهزئون المقترحون وغيرهم من الكافرين الذين كانوا مشغولين بأنفسهم ومعايشهم عن مشاركة كبراء مترفيهم بالاستهزاء والسخرية، وإذا كان المكذبون قد استحقوا الهلاك وإن لم يستهزئوا ولم يسخروا فكيف يكون حال المستهزئين والساخرين ؟ لا ريب أنهم أحق بالهلاك وأجدر، ولذلك أهلك الله المستهزئين من قوم نبي الرحمة ولم يجبهم إلى ما اقترحوه لئلا يعم شؤمهم سائر المكذبين معهم، ومنهم المستعدون للإيمان الذين اهتدوا من بعد.
ومن نكت البلاغة في الآية أنه قال فيها :« ثم انظروا » وقد ورد الأمر بالسير في الأرض والحث عليه في آيات أخرى من عدة سور، وعطف عليه الأمر بالنظر بالفاء ( راجع ٩٩ من سورة النمل و ٤٢ من سورة الروم و ١٠٩ من سورة يوسف و٤٤ من سورة فاطر الخ ) قال الزمخشري في نكتة الخلاف بين التعبيرين :( فإن قلت ) أي فرق بين قوله :« فانظروا » وقوله :« ثم انظروا » قلت : جعل النظر مسببا عن السير في قوله :« فانظروا » فكأنه قيل سيروا لأجل النظر ولا تسيروا سير الغافلين. وأما قوله :« سيروا في الأرض ثم انظروا » فمعناه إباحة السير في الأرض للتجارة وغيرها من المنافع وإيجاب النظر في آثار الهالكين، ونبه على ذلك بثم لتباعد ما بين الواجب والمباح اه.
وقال أحمد بن المنير في الانتصاف : وأظهر من هذا التأويل أن يجعل الأمر في المكانين واحدا ليكون ذلك سببا في النظر، فحيث دخلت الفاء فلإظهار السببية وحيث دخلت ثم فللتنبيه على أن النظر هو المقصود من السير، وأن السير وسيلة إليه لا غير، وشتان بين المقصود والوسيلة. والله أعلم اه.
وفي روح المعاني عن بعضهم أن التحقيق أنه سبحانه قال هنا :« ثم انظروا » وفي غير ما موضع « فانظروا » لأن المقام هنا يقتضي « ثم » دونه في هاتيك المواضع، وذلك لتقدم قوله تعالى فيما نحن فيه ﴿ ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ﴾ [ الأنعام : ٦ ] مع قوله سبحانه وتعالى :﴿ وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرون ﴾ [ الأنعام : ٦ ] والأول يدل على أن الهالكين طوائف كثيرة، والثاني يدل على أن المنشأ بعدهم أيضا كثيرون، فيكون أمرهم بالسير دعاء لهم إلى العلم بذلك، فيكون المراد به استقراء البلاد، ومنازل أهل الفساد على كثرتها، ليروا الآثار في ديار بعد ديار، وهذا مما يحتاج إلى زمان ومدة طويلة تمنع من التعقب الذي تقتضيه الفاء، ولا كذلك في المواضع الأخر اه.
قال الألوسي بعد إيراده : ولا يخلوا عن دغدغة، واختار غير واحد أن السير متحد هناك وهنا ولكنه أمر ممتد يعطف النظر عليه بالفاء تارة نظرا إلى آخره، وبثم أخرى نظرا إلى أوله، وكذا شأن كل ممتد. اه ما أورده الألوسي. والظاهر في الأخير أن يكون العطف بالفاء نظرا إلى الأول وبثم نظرا إلى الآخر عكس ما ذكره فتأمل.
ثم أقول : ولعل من يتأمل ما وجهنا به الكلام في تفسير الآية، قبل النظر في هذه النكت كلها يرى أنه هو المتبادر من النظم بغير تكلف، وأنه يشبه أن يكون مستنبطا من مجموع تلك النكت، مع زيادة عليها تقتضيها حال المخاطبين بالأمر بالسير هنا وهم كفار مكة المعاندون الكثيرو الأسفار للتجارة الغافلون عن شؤون الأمم والاعتبار بعاقبة الماضين وأحوال المعاصرين.
﴿ قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله كتب على نفسه الرحمة ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون ١٢ * وله ما سكن في الليل والنهار وهو السميع العليم ١٣ قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض وهو يطعم ولا يطعم قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونن من المشركين ١٤ قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم ١٥ من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه وذلك الفوز المبين ١٦ وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير ١٧ وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير ١٨ قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني برئ مما تشركون ١٩ ﴾
بين تعالى في الآيات السابقة أصول الدين وما يدل عليها، وشبهات الكفار على الرسالة مع ما يدحضها، وهدى رسوله إلى سنته في الرسل وأقوامهم لتسليته وتثبيت قلبه، المعين له على المضي في تبليغ دعوة ربه، ثم قفى سبحانه على ذلك بتلقينه في هذه الآيات أسلوبا آخر من إقامة الحجج على قومه، وهو أسلوب السؤال والجواب، في موضع فصل الخطاب، وإن كان تكرارا لمعنى سبق أو اشتمل على التكرار، وحكمة ذلك أن التنويع في الاحتجاج والتفنن في أساليبه من ضروريات الدعوة إلى الدين – وإلى غير الدين من المقاصد البشرية أيضا – لأن التزام دليل واحد على المطلوب الذي لا بد من تكرار ذكره أو إيراد عدة أدلة بأسلوب واحد قد يفضي إلى سآمة الداعي من التكرار على رغبته في الدعوة وتفانيه في نشرها وإثباتها، فكيف يكون تأثيره في المدعوين الكارهين له ولها، إذا لم يعقلوا الدليل الأول أو لم تتوجه قلوبهم إلى تدبر الأسلوب الواحد المشتمل على عدة أدلة ؟ لا جرم أنهم يكونون في منتهى السآمة والضجر من سماع ذلك، وفي غاية النفور منه، كيف وقد كان المعاندون منهم ينهون عن هذا القرآن وينأون عنه على ما امتاز به في مقام التفنن والتنويع، والبلاغة المعجزة في كثرة الأساليب.
قال عز وجل :﴿ قل لمن ما في السماوات والأرض ﴾ أي قل أيها الرسول لقومك الجاحدين لرسالتك المعرضين عما جئتهم به من أمر التوحيد والبعث والجزاء : لمن هذه المخلوقات في العالم كله علويه وسفليه ؟ السؤال تمهيد لحجة جديدة، وقد بينا في تفسير الآيات السابقة أن العرب كانت تؤمن بأن الله تعالى هو خالق السموات والأرض وأن كل ما فيهما ومن فيهما ملك وعبيد له. ولفظ « ما » يشمل العقلاء مع غيرهم، وجزم في الكشاف بأن السؤال للتبكيت وأن قوله تعالى :﴿ قل لله ﴾ تقرير لهم، أي هو لله لا خلاف بيني وبينكم في ذلك ولا تقدرون أن تضيفوا شيئا منه إلى غيره. وقال غيره : تقرير للجواب نيابة عنهم أو إلجاء لهم إلى الإقرار. وقال الرازي أمره بالسؤال أولا ثم بالجواب ثانيا، وهذا إنما يحسن في الموضع الذي يكون الجواب فيه قد بلغ في الظهور إلى حيث لا يقدر على إنكاره منكر، ولا يقدر على دفعه دافع. ثم بين أن هذا من هذا، واحتج على أن كل ذلك لله بما في العالم المادي من آثار الحدوث والإمكان، على طريقة المتكلمين في الاستدلال.
ونقول : إن إتيان السائل بالجواب يحسن في غير الموضع الذي حصر الرازي الحسن فيه، وهو أن يكون ما يأتي به عين ما يعتقده المسؤول وما يجيب به إن أجاب، وإنما يسبقه إليه ليبني عليه شيئا آخر من لوازمه هو مما يجهله المسؤول أو يغفل عنه أو ينكره لجهله أو غفلته عن كونه لازما لما يعرفه ويعتقده. ليس المسؤول عنه هنا مما لا يقدر على إنكاره منكر ولا على دفعه دافع، فقد أنكره أهل الإلحاد والتعطيل، فالظاهر أن يقال إن الله تعالى أمره بالجواب وأن يبدأه بما كانوا يجيبون به كما علم من آيات أخرى ليبني عليه قوله ﴿ كتب على نفسه الرحمة ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ﴾، والمعنى أن الله تعالى الذي تقرون معي بأن له ما في السموات وما في الأرض قد أوجب على ذاته العلية الرحمة بخلقه كما يعلم ذلك من إفاضة نعمه عليهم ظاهرة وباطنة. ومن مقتضى هذه الرحمة أن يجمعكم إلى يوم القيامة حال كونه لا ريب فيه – أو جمعا لا ريب فيه – أي ليس من شأنه أن يرتاب فيه من تدبر دلائل رحمة الله وحكمته، فإن هذا الجمع لأجل الحساب والجزاء فهو رحمة بالمكلفين ينافي الفوضى والإهمال واستباحة الظلم، والعلم به رحمة أيضا، لأنه وازع نفسي لا يتم تهذيب النفس بدونه، بل الرحمة أعم من ذلك. فمن رحمته تعالى بالناس ما منحهم من هدايات الحواس والوجدان والعقل وهداية الدين المقوم لما يجنونه على تلك الهدايات باستعمالها فيما يضرهم ولا ينفعهم، والمساعدة لهم على تكميل فطرتهم وتزكية أنفسهم.
بيان ذلك أن من أصول دينه القويم – الذي هو مظهر رحمته العليا الموافق لفطرته التي فطر الناس عليها – أن لأعمال البشر جزاء فطريا هو أثر لازم للعمل بحسب سنته تعالى في تأثير الأعمال النفسية والبدنية في إصلاح الأنفس أو إفسادها، وجزاءا آخر وضعيا أو شرعيا تابعا له هو إنشاء فضل أو عدل منه عز وجل، فالأول – وهو الأصل – ما يترتب على تزكية النفس بالعقائد الصحيحة والعلوم الثابتة والأخلاق الكريمة التي تطبعها فيها عبادة الله تعالى وحسن المعاملة مع خلقه من هناء المعيشة في الدنيا بالجمع بين لذة الحياء العقلية والروحية ولذة الحياة الجسدية المعتدلة وهو أدنى الجزاءين وأقلهما وغير المطرد منهما – وما يترتب على ذلك من النعيم المقيم في الآخرة – وهو الكامل المطرد – وما يترتب على تدسية النفس وإفساد فطرتها بالعقائد الباطلة كخرافات الوثنية وأوهامها أو بسفساف الأخلاق والملكات الرديئة التي تطبعها فيها تلك الأوهام السخيفة والأعمال القبيحة والعبادات الوثنية من شقاء المعيشة في الدنيا وعذاب الآخرة وكل منهما من لوازم تلك العقائد والأخلاق والأعمال، فهي كالأعمال الضارة والوساوس العصبية ( الهستيرية ) التي تترتب عليها الأمراض المعضلة والأدواء القاتلة.
كما أن ما تقدم من مقابلها يشبه الأعمال البدنية والنفسية التي يرتاض بها البدن والعقل حتى يبلغ بهما المرء من الصحة والاعتدال، ما هو مقدر له من الكمال، فعلى هذا تكون هداية الدين للعقائد الصحيحة والفضائل والآداب والعبادات وزجره عن الوثنية والخرافات والرذائل والشرور – كل ذلك كبث الوصايا الصحية والعلوم الطبية في الناس، ليكون لهم وازع من أنفسهم يتقون به ما يضرهم ويقبلون على ما ينفعهم – وتلك رحمة عظيمة بهم، ولا ينافي كون ذلك من الرحمة ما يترتب على الباطل والشر من شقاء الدنيا وعذاب الآخرة. لأنه جناية منهم على أنفسهم، فمثلهم فيه كمثل المريض يخالف أوامر الطبيب ونواهيه الخاصة ويخالف الوصايا الصحية العامة فيزداد أمراضا وأسقاما، ولا ينافي ذلك كون تلك الوصايا رحمة بالناس ونعمة عليهم.
وأما الجزاء الثاني الذي هو إنشاء من مقتضى الفضل أو العدل فهو مترتب على الجزاء الأول وتابع له وهو قسمان أحدهما : ما يزيد الله المحسنين من الكرامة والنعيم بفضله، على ما استحقوه بإيمانهم وأعمالهم الصالحة بحسب وعده، ولما كانت الرحمة أعم وأوسع وأعظم كان هذا النوع من الجزاء خاصا بالمحسنين من عباده، فهو رحمة خاصة نسأله تعالى أن يجعلنا من خيار أهلها.
وثانيهما : القصاص في الحقوق وإن قلت وما يقتص به تعالى في الآخرة للمظلومين من الظالمين بحسب عدله. ولما كان مقتضى الرحمة والفضل، أعم وأسبق من مقتضى العدل، كان جزاء الظالمين المسيئين على قدر استحقاقهم، ومنهم من يعفو الله عنهم، فالجزاء على الإساءة قد ينقص منه بالعفو والمغفرة، ولكن لا يزاد فيه شيء قط. وإنما الزيادة في الجزاء على الإحسان :﴿ من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها ﴾ [ الأنعام : ١٦٠ ] ﴿ للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ﴾ [ يونس : ٢٦ ] ﴿ فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله، وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ﴾ [ النساء : ١٧٣ ] وبيان الدين لهذا النوع من الجزاء رحمة أيضا فهو كبيان الحكومة العادلة للأمة ما تؤاخذ عليه من الأعمال الضارة، وما ينال المحسنين من الأمن والعز والترقي في خدمة الدولة. روى الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :« إن الله لما خلق الخلق كتب كتابا عنده فوق العرش : إن رحمتي تغلب غضبي » وفي رواية « إن رحمتي سبقت غضبي »١ وإنما السبق والغلب في أثري الرحمة والغضب وتعلقهما لا في الصفات أنفسها، وسنزيد هذا البحث بيانا في تفسير ﴿ ورحمتي وسعت كل شيء ﴾ [ الأعراف : ١٥٦ ] من سورة الأعراف إن أحيانا الله تعالى.
أما تعلق جميع الناس إلى يوم القيامة بكتابة الرحمة من جهة نظم الكلام وإعرابه فقيل إن كتابة الرحمة تأكيد لها في معنى القسم وجملة « ليجمعنكم » جواب لقسم محذوف حل محله ما في معناه. وقيل إن الجملة استئناف بياني. كأنه قيل وما مقتضى هذه الرحمة، وما موقعها من موضوع دعوة الرسالة ؟ فقيل إنه تعالى أقسم ليجمعنكم، إذ لو لم يجمعكم للحساب والجزاء لظل كثير من المحسنين منكم مغبونين محرومين، وكثير من المظلومين مهضومين. وكثير من الظالمين المسيئين غير مؤاخذين، ذلك بأن ما يترتب على الأعمال الحسنة في الدنيا من حسن الأثر وعلى الأعمال السيئة من قبح الأثر ليس عاما مطردا في جميع الأفراد كما تقدم آنفا وهو يعلم من الاختيار ومن سنن الله الاجتماعية والكونية، وذلك ينافي الرحمة، كما ينافي العدل والحكمة، فمن مقتضى كتابته سبحانه الرحمة على نفسه أن يجمع الناس للفصل بينهم وجزاء كل منهم بما يقتضيه العدل في الكل والفضل في البعض. والجمع بمعنى الحشر ويتعديان بإلى، يقال : جمعهم إليه وحشرهم إليه. وجمع الناس إلى يوم القيامة معناه حشرهم إلى موقفه أو حسابه، أو معناه ليجمعنكم منتهين إلى ذلك اليوم. وقيل إن « إلى » صلة وقيل إنها بمعنى في، وكلاهما ضعيف.
وأما قوله تعالى :﴿ الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون ( ١٢ ) ﴾ فمعناه أخص هؤلاء ممن يجمعون إلى يوم القيامة بالذكر أو التذكير أو بالذم والتوبيخ فإنهم لخسرانهم أنفسهم في الدنيا لا يؤمنون بالآخرة. ولا شك في أن هؤلاء أولى بأن يتمتعوا بالتذكير، أو بالذم المفضي إلى التفكير، وقيل إن المعنى ليجمعنكم إلى يوم القيامة أنتم أيها الذين خسروا أنفسهم الخ خاطبهم كافة ثم أبدل من الكل بعضه الأجدر بالخطاب الأحوج إليه – أو وصف أولئك المخاطبين بهذا الوصل الدال على أنه هو مناط الإنذار والوعيد. وقيل إن الجملة مستقلة معناها أن الذين خسروا أنفسهم لا يؤمنون بهذا الجمع ولا ينتفعون بخبره. والأول أقوى وأظهر. وخسارة الأنفس عبارة عن إفساد فطرتها وعدم اهتدائها بما منحها الله تعالى من الهدايات التي أشرنا إليه آنفا. فالمقلدون قد خسروا أنفسهم لأنهم حرموا أنفسهم من استعمال أشرف النعم الغريزية وهو العقل، وحرموا على أنفسهم أفضل الفضائل الكسبية وهو العلم والفهم.
وإذا كان بعض الأئمة قد صرح بأن المجتهد المخطئ أفضل من المقلد لمجتهد مصيب، فكيف يكون حال المقلد في الشرك والكفر والعياذ بالله تعالى. والحرمان من مضاء العزيمة وقوة الإرادة خسران للنفس يضاهي خسرانها بفقد العلم الاستدلالي، فإن ضعيف الإرادة إن أوتي حظا من العلم لا يقوم بحقه ولا يعمل به كما يجب، لأن ما يهدي إليه العلم الصحيح من وجوب نصر الحق وخذل الباطل ومجاهدة الأهواء الرديئة وعمل الخير والتعاون على البر – كل ذلك لا يخلو من مشقة لا يحملها إلا ذو العزيمة الصادقة، والإرادة الثابتة.
فمن خسر نفسه بالتقليد لا ينظر ولا يستدل حتى يهتدي إلى الإيمان، ومن خسر نفسه بوهن الإرادة قلما ينظر ويستدل أيضا، فإن هو نظر وظهر له الحق بما قام من البرهان عليه قعد به ضعف الإرادة عن احتمال لوم اللائمين، واحتقار الأهل والمعاشرين، لمن ترك دين آبائه وأجداده، وصبا إلى حزب أعدائهم وأعدائه. هذا ما يقال في مثل حال المشركين في عهد نزول هذه السورة. وإن ضعف الإرادة ليصد صاحبه في كل زمان ومكان عن الواجبات وسائر الأعمال التي لا بد فيها من احتمال مشقة بدنية أو نفسية وإن كانت من أعمال الإيمان ومصالح الأمة والوطن، ولو بحثت عن خسران الأفراد المعلمين الذين يعرفون الحقوق والواجبات لكرامة أنفسهم، وخسران الجماعات والأمم التي تولي زعامتها أمثال هؤلاء الأفراد لاستقلالها وصلاح أمرها – لرأيت سبب هذا وذاك وهن العزيمة وذبذبة الإرادة. فالفوز والفلاح في الدين والدنيا لا يتم إلا بالعلم الصحيح والعزيمة الحافزة إلى العمل بالعلم، فمن خسر إحدى الفضيلتين يصدق عليه أنه خسر نفسه سواء كان فردا أو أمة، فما بال من خسرهما كلتيهما والعياذ بالله تعالى.
وقد لمح الزمخشري إلى خسران النفس في الآخرة فأورد على الآية إشكالا وأجاب عنه على طريقة المتكلمين جوابا في غير محله. قال :( فإن قلت ) كيف جعل عدم إيمانهم مسببا عن خسرانهم والأمر على العكس ؟ ( قلت ) معناه الذين خسروا أنفسهم في علم الله لاختيارهم الكفر فهم لا يؤمنون.
١ أخرجه بهذين اللفظين: البخاري في التوحيد باب ١٥، ٢٢، ٢٨، ٥٥، وبدء الخلق باب ١، ومسلم في التوبة حديث ١٤-١٦، والترمذي في الدعوات باب ٩٩، وابن ماجه في المقدمة باب ١٣، والزهد باب ٣٥، وأحمد في المسند ٢/٢٤٢، ٢٥٨، ٢٦٠، ٣١٣، ٣٥٨، ٣٨١، ٣٩٧، ٤٣٣، ٤٦٦.
.

﴿ قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله كتب على نفسه الرحمة ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون ١٢ * وله ما سكن في الليل والنهار وهو السميع العليم ١٣ قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض وهو يطعم ولا يطعم قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونن من المشركين ١٤ قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم ١٥ من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه وذلك الفوز المبين ١٦ وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير ١٧ وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير ١٨ قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني برئ مما تشركون ١٩ ﴾
بين تعالى في الآيات السابقة أصول الدين وما يدل عليها، وشبهات الكفار على الرسالة مع ما يدحضها، وهدى رسوله إلى سنته في الرسل وأقوامهم لتسليته وتثبيت قلبه، المعين له على المضي في تبليغ دعوة ربه، ثم قفى سبحانه على ذلك بتلقينه في هذه الآيات أسلوبا آخر من إقامة الحجج على قومه، وهو أسلوب السؤال والجواب، في موضع فصل الخطاب، وإن كان تكرارا لمعنى سبق أو اشتمل على التكرار، وحكمة ذلك أن التنويع في الاحتجاج والتفنن في أساليبه من ضروريات الدعوة إلى الدين – وإلى غير الدين من المقاصد البشرية أيضا – لأن التزام دليل واحد على المطلوب الذي لا بد من تكرار ذكره أو إيراد عدة أدلة بأسلوب واحد قد يفضي إلى سآمة الداعي من التكرار على رغبته في الدعوة وتفانيه في نشرها وإثباتها، فكيف يكون تأثيره في المدعوين الكارهين له ولها، إذا لم يعقلوا الدليل الأول أو لم تتوجه قلوبهم إلى تدبر الأسلوب الواحد المشتمل على عدة أدلة ؟ لا جرم أنهم يكونون في منتهى السآمة والضجر من سماع ذلك، وفي غاية النفور منه، كيف وقد كان المعاندون منهم ينهون عن هذا القرآن وينأون عنه على ما امتاز به في مقام التفنن والتنويع، والبلاغة المعجزة في كثرة الأساليب.
﴿ وله ما سكن في الليل والنهار وهو السميع العليم ( ١٣ ) ﴾ الظاهر المختار أن هذا عطف على ما قبله، أي لله ما في السموات وما في الأرض، وله ما سكن في الليل والنهار، واستظهر أبو حيان أنه استئناف أخبار غير مندرج تحت السؤال والجواب، وسكن من السكنى، أو من السكون ضد الحركة، وفيه اكتفاء بما ذكر عما يقابله، أي له ما سكن وما تحرك، على حد قوله :﴿ سرابيل تقيكم الحر ﴾ [ النحل : ٨١ ] أي والبرد. ويجوز الجمع بين المعنيين على مذهب من يجوز ذلك في المشترك بما يحتمله المقام، والحكمة في ذكر هذا الملك الخاص على دخوله في عموم ما في السموات والأرض : التذكير بتصرفه تعالى بهذه الخفايا فإن السكنى والسكون من دواعي خفاء الساكن، فإذا كان في الليل كان أشد خفاء، ولذلك قدم ذكر الليل، لأن ما يسكن فيه هو المقصود بالذات وعطف النهار عليه تكميل.
ولما ذكرنا تعالى بأنه المالك لما ذكر المتصرف فيه بقدرته بما يشاء كما هو شأن الربوبية الكاملة – ذكرنا بأنه هو السميع العليم أي المحيط سمعه بكل ما من شأنه أن يسمع مهما يكن خفيا عن غيره، فهو يسمع دبيب النملة في الليلة الظلماء على الصخرة الصماء. « وكل سميع غيره يصم عن لطيف الأصوات ويصمه كبيرها ويذهب عنه ما بعد منها » كما قال أمير المؤمنين على المرتضى كرم الله وجهه. وهو المحيط علمه بكل شيء ﴿ يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ﴾ [ غافر : ١٩ ] وإذا كان كذلك فلا يمكن أن تدق عن سمعه دعوة داع، أو تغرب عن علمه حاجة محتاج، حتى يخبره بها الأولياء، أو يقنعه بها الشفعاء، ﴿ يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء ﴾ [ البقرة : ٢٥٥ ].
بعد كتابة ما تقدم راجعت التفسير الكبير فإذا فيه من نكت البلاغة في الآية ما نقله الرازي عن أبي مسلم الأصفهاني وقال إنه أحسن ما قيل في نظمها وهو : ذكر في الآية الأولى السموات والأرض إذ لا مكان سواهما، وفي هذه الآية ذكر الليل والنهار إذ لا زمان سواهما، فالزمان والمكان ظرفان للمحدثات. فأخبر سبحانه أنه مالك للمكان والمكانيات، والزمان والزمانيات. ( قال الرازي ) وهذا بيان في غاية الجلالة. وأقول : ههنا دقيقة أخرى وهو أن الابتداء وقع بذكر المكان والمكانيات، ثم ذكر عقبيه الزمان والزمانيات، وذلك لأن المكان والمكانيات، أقرب إلى العقول والأفكار من الزمان والزمانيات، لدقائق مذكورة في العقليات الصرفة. والتعليم الكامل هو الذي يبدأ فيه بالأظهر فالأظهر مترقيا إلى الأخفى فالأخفى اه.
﴿ قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله كتب على نفسه الرحمة ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون ١٢ * وله ما سكن في الليل والنهار وهو السميع العليم ١٣ قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض وهو يطعم ولا يطعم قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونن من المشركين ١٤ قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم ١٥ من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه وذلك الفوز المبين ١٦ وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير ١٧ وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير ١٨ قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني برئ مما تشركون ١٩ ﴾
بين تعالى في الآيات السابقة أصول الدين وما يدل عليها، وشبهات الكفار على الرسالة مع ما يدحضها، وهدى رسوله إلى سنته في الرسل وأقوامهم لتسليته وتثبيت قلبه، المعين له على المضي في تبليغ دعوة ربه، ثم قفى سبحانه على ذلك بتلقينه في هذه الآيات أسلوبا آخر من إقامة الحجج على قومه، وهو أسلوب السؤال والجواب، في موضع فصل الخطاب، وإن كان تكرارا لمعنى سبق أو اشتمل على التكرار، وحكمة ذلك أن التنويع في الاحتجاج والتفنن في أساليبه من ضروريات الدعوة إلى الدين – وإلى غير الدين من المقاصد البشرية أيضا – لأن التزام دليل واحد على المطلوب الذي لا بد من تكرار ذكره أو إيراد عدة أدلة بأسلوب واحد قد يفضي إلى سآمة الداعي من التكرار على رغبته في الدعوة وتفانيه في نشرها وإثباتها، فكيف يكون تأثيره في المدعوين الكارهين له ولها، إذا لم يعقلوا الدليل الأول أو لم تتوجه قلوبهم إلى تدبر الأسلوب الواحد المشتمل على عدة أدلة ؟ لا جرم أنهم يكونون في منتهى السآمة والضجر من سماع ذلك، وفي غاية النفور منه، كيف وقد كان المعاندون منهم ينهون عن هذا القرآن وينأون عنه على ما امتاز به في مقام التفنن والتنويع، والبلاغة المعجزة في كثرة الأساليب.
بعد هذا القول الذي أمر الله به رسوله للتذكير بأنه الرب المالك لكل شيء المتصرف بالفعل التدبير في كل شيء حتى دقائق الأشياء والأمور وخفاياها، وأن تصرفه هذا عن علم محيط لا يعزب عنه مثال ذرة ولا دبيب نملة، أمره بقول آخر بين فيه ما يستلزمه ما قبله من وجوب ولايته تعالى وحده والتوجه إليه دون سواه في كل ما هو فوق كسب البشر، والاعتماد على توفيقه فيما هو من كسبهم، ولا يتم به المراد بمحض سعيهم فقال :﴿ قل أغير الله أتخذ وليا ﴾. الولي الناصر ومتولي الأمر المتصرف فيه، والاستفهام هنا لإنكار اتخاذ غير الله وليا لا لإنكار اتخاذ الولي مطلقا ولهذا لم يقل : أأتخذ وليا غير الله، ولا : أأتخذ غير الله وكيلا. ومثله ﴿ أفغير الله تأمرون أعبد أيها الجاهلون ﴾ وإنما يتحقق اتخاذ غير الله وليا في صورة واحدة وهو أن يطلب من غيره النصر أو غير النصر من ضروب التصرف في النفع والضر فعلا ومنعا فيما هو فوق كسب ذلك الغير وتصرفه الذي منحه الله لأبناء جنسه، ولذلك فسر الولي بالمعبود في هذا المقام، وأما تناصر المخلوقين وتولي بعضهم لبعض فيما هو من كسبهم العادي فلا يدخل في عموم اتخاذ غير الله وليا أو اتخاذهم أولياء من دون الله. فقد أثنى الله تعالى على المؤمنين بأن بعضهم أولياء بعض. وبين أيضا أن الكفار بعضهم أولياء بعض. وقد تقدم بيان هذا من قبل.
وقد كان المشركون من الوثنيين ومن طرأ عليهم الشرك من أهل الكتاب يتخذون معبوداتهم وأنبياءهم وصلحائهم أولياء من دون الله تعالى بمعنى أنهم بندائهم ودعائهم والتوجه إليه والاستغاثة بهم يشفعون لهم عند الله تعالى في قضاء حاجتهم من نصر على عدو وشفاء من مرض وسعة في رزق وغير ذلك، فكان هذا عبادة منهم لهم وجعلهم شركاء لله باعتقاد كون حصول المطلوب من غير أسبابه العادية التي مضت بها السنن الإلهية العامة قد كان بمجموع إرادة هؤلاء الأولياء وإرادة الله تعالى، فمقتضى هذا الاعتقاد أن إرادة الله تعالى ما تعلقت بفعل ذلك المطلب إلا بالتبع لإرادة الولي الشافع أو المتخذ وليا شفيعا، والحق أن إرادة الله تعالى أزلية لا يمكن أن تؤثر فيها المحدثات، كما تقدم تقريره مرارا بشواهد الآيات القرآنية : ثم وصف الله تعالى بما ينافي اتخاذ غيره وليا فقال :
﴿ فاطر السماوات والأرض ﴾ مبدعهما أي مبدئهما على غير مثال سابق، وروي عن ابن عباس أنه قال ما عرفت ما فاطر السموات والأرض حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما : أنا فطرتها. أي ابتدعتها. وأصل الفطر الشق، ومنه ﴿ إذا السماء انفطرت ﴾ [ الانفطار : ١ ] بمعنى ﴿ إذا السماء انشقت ﴾ [ الانشقاق : ١ ] وقيل للكمأة فطر لأنها تفطر الأرض فتخرج منها، وإيجاد البئر إنما يبتدإ بشق الأرض بالحفر. وقد كانت المادة التي خلق الله منها السموات والأرض كتلة واحدة دخانية، ففتق رتقها وفصل منها أجرام السموات والأرض، وذلك ضرب من الفطر والشق ﴿ أو لم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما ﴾ [ الأنبياء : ٣٠ ] – الرؤية هنا علمية -.
وصف الله تعالى بفاطر السموات والأرض – وهو لا نزاع فيه – يؤيد إنكار اتخاذ غيره وليا يستنصر ويستعان به أو يتخذ واسطة للتأثير في الإرادة الإلهية، فإن من فطر السموات والأرض بمحض إرادته من غير تأثير مؤثر ولا شفاعة شافع يجب أن يتوجه إليه وحده بالدعاء. وإياه يستعان في كل ما وراء الأسباب، وأكد هذا بقوله ﴿ وهو يطعم ولا يطعم ﴾ أي يرزق الناس الطعام ولا يحتاج إلى من يرزقه ويطعمه لأنه منزه عن الحاجة إلى الطعام وغيره غني بنفسه عن كل ما سواه. وقرأ أبو عمرو « ولا يطعم » بفتح الياء، أي لا يأكل. وهذه الجملة حالية مؤيدة لإنكار اتخاذ ولي غير الله، وفيها تعريض بمن اتخذوا أولياء من دونه من البشر بأنهم محتاجون إلى الطعام لا حياة لهم ولا بقاء إلى الأجل المحدود بدونه، وإن الله تعالى هو الذي خلق لهم الطعام فهم عاجزون عن البقاء بدونه وعاجزون عن خلقه وإيجاده فكيف يتخذون أولياء مع الغني الحميد، الرزاق الفعال لما يريد، كما قال في الاحتجاج على النصارى في عبادة المسيح وأمه عليهما السلام ﴿ ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام ﴾ [ المائدة : ٧٥ ] وأما الأولياء المتخذة من غير البشر كالأصنام، فهي أضعف وأعجز من البشر، لاتفاق عقلاء الأمم كلها على تفضيل الحيوان على الجماد، وتفضيل الإنسان على جميع أنواع الحيوان.
﴿ قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم ﴾ أي قل أيها الرسول بعد إيراد هذه الآيات والحجج على وجوب عبادة الله وحده وعدم اتخاذ غيره وليا : إني أمرت من لدن ربي الموصوف بما ذكر من الصفات أن أكون أول من أسلم إليه وانقاد لدينه من هذه الأمة التي بعثت فيها، فلست أدعو إلى شيء لا آخذ به، بل أنا أول مؤمن وعامل بهذا الدين ﴿ ولا تكونن من المشركين ( ١٤ ) ﴾
أي وقيل لي بعد هذا الأمر بالسبق إلى إسلام الوجه له : لا تكونن من المشركين الذين اتخذوا من دونه أولياء يزعمون أنهم يقربونهم إليه زلفى. فأنا أتبرأ من دينكم ومنكم. وحاصل المعنى أنني أمرت بالإسلام ونهيت عن الشرك. كذا قيل، والأولى أن يقال : إن حاصله الجمع بين الإسلام والبراءة من الشرك وأهله.
﴿ قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله كتب على نفسه الرحمة ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون ١٢ * وله ما سكن في الليل والنهار وهو السميع العليم ١٣ قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض وهو يطعم ولا يطعم قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونن من المشركين ١٤ قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم ١٥ من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه وذلك الفوز المبين ١٦ وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير ١٧ وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير ١٨ قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني برئ مما تشركون ١٩ ﴾
بين تعالى في الآيات السابقة أصول الدين وما يدل عليها، وشبهات الكفار على الرسالة مع ما يدحضها، وهدى رسوله إلى سنته في الرسل وأقوامهم لتسليته وتثبيت قلبه، المعين له على المضي في تبليغ دعوة ربه، ثم قفى سبحانه على ذلك بتلقينه في هذه الآيات أسلوبا آخر من إقامة الحجج على قومه، وهو أسلوب السؤال والجواب، في موضع فصل الخطاب، وإن كان تكرارا لمعنى سبق أو اشتمل على التكرار، وحكمة ذلك أن التنويع في الاحتجاج والتفنن في أساليبه من ضروريات الدعوة إلى الدين – وإلى غير الدين من المقاصد البشرية أيضا – لأن التزام دليل واحد على المطلوب الذي لا بد من تكرار ذكره أو إيراد عدة أدلة بأسلوب واحد قد يفضي إلى سآمة الداعي من التكرار على رغبته في الدعوة وتفانيه في نشرها وإثباتها، فكيف يكون تأثيره في المدعوين الكارهين له ولها، إذا لم يعقلوا الدليل الأول أو لم تتوجه قلوبهم إلى تدبر الأسلوب الواحد المشتمل على عدة أدلة ؟ لا جرم أنهم يكونون في منتهى السآمة والضجر من سماع ذلك، وفي غاية النفور منه، كيف وقد كان المعاندون منهم ينهون عن هذا القرآن وينأون عنه على ما امتاز به في مقام التفنن والتنويع، والبلاغة المعجزة في كثرة الأساليب.
وبعد هذا القول المبين لأصل الدعوة وأساس الدين وكون الداعي إليه مأمورا به كغيره – أمر الله رسوله بقول آخر في بيان جزاء من خالف ما ذكر من الأمر والنهي آنفا وأنه عام لا هوادة فيه ولا شفاعة تحول دونه فقال ﴿ قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم ( ١٥ ) ﴾
قدم ذكر الخوف على شرطه الذي شأنه أن يتقدمه لأنه هو الأهم المقصود بالذكر، وشرط « إن » لا يقتضي الوقوع، فالمعنى إن فرض وقوع العصيان مني لربي فإنني أخاف أن يصيبني عذاب يوم عظيم، وهو يوم القيامة، وصف بالعظم لعظمة ما يكون فيه من تجلي الرب سبحانه ومحاسبته للناس ومجازاته لهم. وحكمة هذا التعبير ما أشرنا إليه من أن هذا الدين دين الله الحق لا محاباة فيه لأحد مهما يكن قدره عظيما في نفسه. وأن يوم الجزاء لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة – بالمعنى المعروف عند المشركين – ولا سلطان لغير الله تعالى فيتكل عليه من يعصيه، ظنا أنه يخفف عنه أو ينجيه، ﴿ يوم لا يملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله ﴾ [ الانفطار : ١٩ ] وإذا كان خوف النبي صلى الله عليه وسلم من العذاب على المعصية منتفيا لانتفائها بالعصمة فخوف الإجلال والتعظيم ثابت له دائما.
﴿ قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله كتب على نفسه الرحمة ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون ١٢ * وله ما سكن في الليل والنهار وهو السميع العليم ١٣ قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض وهو يطعم ولا يطعم قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونن من المشركين ١٤ قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم ١٥ من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه وذلك الفوز المبين ١٦ وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير ١٧ وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير ١٨ قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني برئ مما تشركون ١٩ ﴾
بين تعالى في الآيات السابقة أصول الدين وما يدل عليها، وشبهات الكفار على الرسالة مع ما يدحضها، وهدى رسوله إلى سنته في الرسل وأقوامهم لتسليته وتثبيت قلبه، المعين له على المضي في تبليغ دعوة ربه، ثم قفى سبحانه على ذلك بتلقينه في هذه الآيات أسلوبا آخر من إقامة الحجج على قومه، وهو أسلوب السؤال والجواب، في موضع فصل الخطاب، وإن كان تكرارا لمعنى سبق أو اشتمل على التكرار، وحكمة ذلك أن التنويع في الاحتجاج والتفنن في أساليبه من ضروريات الدعوة إلى الدين – وإلى غير الدين من المقاصد البشرية أيضا – لأن التزام دليل واحد على المطلوب الذي لا بد من تكرار ذكره أو إيراد عدة أدلة بأسلوب واحد قد يفضي إلى سآمة الداعي من التكرار على رغبته في الدعوة وتفانيه في نشرها وإثباتها، فكيف يكون تأثيره في المدعوين الكارهين له ولها، إذا لم يعقلوا الدليل الأول أو لم تتوجه قلوبهم إلى تدبر الأسلوب الواحد المشتمل على عدة أدلة ؟ لا جرم أنهم يكونون في منتهى السآمة والضجر من سماع ذلك، وفي غاية النفور منه، كيف وقد كان المعاندون منهم ينهون عن هذا القرآن وينأون عنه على ما امتاز به في مقام التفنن والتنويع، والبلاغة المعجزة في كثرة الأساليب.
﴿ من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه وذلك الفوز المبين ( ١٦ ) ﴾ أي من يصرف ويحول عن ذلك العذاب في ذلك اليوم العظيم حتى يكون بمعزل عنه، أو من يصرف عنه ذلك العذاب في ذلك اليوم – فقد رحمه الله بإنجائه من الهول الأكبر، وبما وراء النجاة من دخول الجنة، لأن من لا يعذب يومئذ يكون منعما حتما. وذلك الجمع بين النجاة من العذاب والتمتع بالنعيم في دار البقاء هو الفوز المبين الظاهر. وقد حققنا في تفسير آخر السورة السابقة ( المائدة ) أن الفوز إنما يكون بمجموع الأمرين السلبي والإيجابي، ولا ينافي ذلك ما قيل في أهل الأعراف على ما يأتي تحقيقه في سورتها. وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم ( من يَصرف عنه ) بالبناء للفاعل، أي من يصرفه الله عنه أي عن العذاب الخل ويؤيدها قراءة أبي ( من يصرف الله ) بإظهار الفاعل وحذف المفعول، ولعله قال ذلك بقصد التفسير. ولا يمنعنا من الجزم بذلك إلا أن يصح أنه كتب اسم الجلالة في مصحفه.
وقد استدلت الأشعرية بالآية على أن الطاعة لا توجب الثواب والمعصية لا توجب العقاب، لأنها ناطقة بأن ذلك من رحمة الله تعالى وفعل الواجب لا يسمى رحمة، وضربوا لذلك الأمثال في أفعال البشر. والحق أن من أفعال الرحمة البشرية ما هو واجب ومن الواجب على الناس ما هو رحمة أي واجب لأنه رحمة، وأما الخالق عز وجل فلا يوجب عليه أحد شيئا إذ لا سلطان فوق سلطانه، وله أن يوجب على نفسه ما شاء، وقد كتب على نفسه الرحمة أي أوجبها كما نص عليه كتابه في هذا السياق. فهذه كتابة مطلقة، وسيأتي في سورة الأعراف كتابتها للمتقين المزكين من مؤمني هذه الأمة. ولو لم يكتب الرب على نفسه الرحمة لجاز أن لا يرحم أحدا وأن لا يكون رحيما بخلقه، وإذا أجاز بعض المتكلمين هذا فكتاب الله لا يجيزه ولما بين سبحانه أن صرف العذاب والفوز بالنعيم بعده من رحمته في الآخرة بين أن الأمر كذلك في الدنيا وأن التصرف فيه لله الولي الحميد وحده فقال.
﴿ قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله كتب على نفسه الرحمة ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون ١٢ * وله ما سكن في الليل والنهار وهو السميع العليم ١٣ قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض وهو يطعم ولا يطعم قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونن من المشركين ١٤ قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم ١٥ من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه وذلك الفوز المبين ١٦ وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير ١٧ وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير ١٨ قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني برئ مما تشركون ١٩ ﴾
بين تعالى في الآيات السابقة أصول الدين وما يدل عليها، وشبهات الكفار على الرسالة مع ما يدحضها، وهدى رسوله إلى سنته في الرسل وأقوامهم لتسليته وتثبيت قلبه، المعين له على المضي في تبليغ دعوة ربه، ثم قفى سبحانه على ذلك بتلقينه في هذه الآيات أسلوبا آخر من إقامة الحجج على قومه، وهو أسلوب السؤال والجواب، في موضع فصل الخطاب، وإن كان تكرارا لمعنى سبق أو اشتمل على التكرار، وحكمة ذلك أن التنويع في الاحتجاج والتفنن في أساليبه من ضروريات الدعوة إلى الدين – وإلى غير الدين من المقاصد البشرية أيضا – لأن التزام دليل واحد على المطلوب الذي لا بد من تكرار ذكره أو إيراد عدة أدلة بأسلوب واحد قد يفضي إلى سآمة الداعي من التكرار على رغبته في الدعوة وتفانيه في نشرها وإثباتها، فكيف يكون تأثيره في المدعوين الكارهين له ولها، إذا لم يعقلوا الدليل الأول أو لم تتوجه قلوبهم إلى تدبر الأسلوب الواحد المشتمل على عدة أدلة ؟ لا جرم أنهم يكونون في منتهى السآمة والضجر من سماع ذلك، وفي غاية النفور منه، كيف وقد كان المعاندون منهم ينهون عن هذا القرآن وينأون عنه على ما امتاز به في مقام التفنن والتنويع، والبلاغة المعجزة في كثرة الأساليب.
﴿ وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير ( ١٧ ) ﴾ المس أعم من اللمس في الاستعمال. يقال مسه السوء والكبر والعذاب والتعب والضراء والضر والخير، أي أصابه ذلك ونزل به، ويقال مسه غيره بذلك أي أصابه به. وقد وردت هذه المعاني كلها في القرآن، ولكن المس بالخير ذكر هنا في مقابل المس بالضر مسندا إلى الله تعالى، وفي سورة المعارج في مقابل المس بالشر غير مسند إلى الله تعالى.
والضر بالضم والفتح – لغتان أو الضر بالفتح مصدر وبالضم اسم مصدر، والاستعمال فيه أن يضم إذا ذكر وحده ويفتح إذا ذكر مع النفع. وهو ما يسوء الإنسان في نفسه أو بدنه أو عرضه أو ماله أو غير ذلك من شؤونه. ويقابله النفع.
وقال الرازي : الضر اسم للألم والحزن والخوف وما يفضي إليهما أو إلى أحدهما، والنفع اسم للذة والسرور وما يفضي إليهما أو إلى أحدهما، والخير اسم للقدر المشترك من دفع الضر وحصول الخير. وقال الراغب : الخير ما يرغب فيه الكل كالعقل مثلا والعدل والفضل والشيء النافع وضده الشر. وأقول : إن الخير ما كان فيه منفعة أو مصلحة حاضرة أو مستقبلة، فمن الضار المكروه الذي يسوء ما يكون خيرا بحسن أثره أو عاقبته، والشر ما لا مصلحة ولا منفعة فيه البتة أو ما كان ما ضره أكبر من نفعه. قال تعالى :﴿ وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا وهو شر لكم ﴾ [ البقرة ٢١٦ ] وقال في النساء ﴿ فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ﴾ [ النساء : ١٩ ] – وقال – ﴿ إن الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم ﴾ [ النور : ١١ ] والشر لا يسند إلى الله تعالى ولكنه مما يبتلي به الناس ويختبرهم. وقوله تعالى :﴿ ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم ﴾ [ يونس : ١٠ ] ليس من هذا الإسناد شيء. وفي الحديث « الخير كله بيديك والشر ليس إليك »١.
ومن دقائق بلاغة القرآن المعجزة تحري الحقائق بأوجز العبارات وأجمعها لمحاسن الكلام مع مخالفة بعضها في بادي الرأي لما هو الأصل في التعبير كالمقابلة هنا بين الضر والخير، وإنما مقابل الضر النفع ومقابل الخير الشر، فنكتة المقابلة أن الضر من الله تعالى ليس شرا في الحقيقة بل هو تربية واختبار للعبد يستفيد به من هو أهل للاستفادة أخلاقا وآدابا وعلما وخبرة. وقد بدأ بذكر الضر لأن كشفه مقدم على نيل مقابله، كما أن صرف العذاب في الآخرة مقدم على النعيم فيها، وهذه الآية مقابلة لما قبلها كما تقدم. ثم ذكر الخير في مقابل الضر دون النفع فأفاد أن ما ينفع الناس من النعم إنما يحسن إذا كان ذلك النفع خيرا لهم بعدم ترتب شيء من الشر عليه فكأنه قال : إن أصابك أيها الإنسان ضر كمرض وتعب وحاجة وحزن وذل اقتضته سنة الله تعالى فلا كاشف له أي لا مزيل له ولا صارف يصرفه عنك إلا هو دون الأولياء الذين يتخذون من دونه ويتوجه إليهم المشرك لكشفه، فهو إما أن يكشفه عنك بتوفيقك للأسباب الكسبية التي تزيله، وإما أن يكشفه بغير عمل منك ولا كسب، ولطفه الخفي لا حد له فله الحمد، وإن يمسسك بخير كصحة وغنى وقوة وجاه فهو قادر على حفظه عليك كما أنه قادر على إعطائك إياه لأنه على كل شيء قدير، وأما أولئك الأولياء الذين اتخذوا من دونه فلا يقدرون على مسك بخير ولا ضر.
فالآية كما قال الرازي دليل آخر على أنه لا يجوز للعاقل أن يتخذ غير الله وليا. وقد تبين بها وبما قبلها أن كل ما يحتاج إليه المرء في الدنيا والآخرة من كشف ضر وصرف عذاب أو إيجاد خير ومنح ثواب فإنما يطلب من الله تعالى وحده، والطلب من الله تعالى نوعان : طلب بالعلم ومراعاة الأسباب، التي تقتضيها سننه تعالى في خلقه، وطلب بالتوجه والدعاء اللذين ندبت إليهما آياته تعالى في كتابه وأحكامه الشرعية.
هذا ما فتح الله به، وبعد كتابته راجعنا كتاب روح المعاني فوجدنا فيه نقلا في نكتة البلاغة في المقابلة بين الضر والخير أحببنا نقلها إتماما للفائدة قال :
« وفسروا الضر ( بالضم ) بسوء الحال في الجسم ( وبالفتح ) بضد النفع وعدل عن الشر المقابل للخير إلى الضر على ما في البحر لأن الشر أعم، فأتى بلفظ الأخص مع الخير الذي هو عام رعاية لجهة الرحمة. وقال ابن عطية إن مقابلة الخير بالضر مع أن مقابله الشر وهو أخص منه من خفي الفصاحة للعدول عن قانون الصنعة وطرح رداء التكلف وهو أن يقرن بأخص من ضده ونحوه لكونه أوفق بالمعنى وألصق بالمقام كقوله تعالى :﴿ إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى ﴾ [ طه : ١١٨، ١١٩ ] فجيء بالجوع مع العري وبالظمأ مع الضحو وكان الظاهر خلافه، ومنه قول امرئ القيس :
كأني لم أركب جوادا للذة ولم أتبطن كاعبا ذات خلخال٢
ولم أسبأ الزق الروي ولم أقل*** لخيلي كري كرة بعد إجفال
وإيضاحه أنه في الآية قرن الجوع الذي هو خلو الباطن بالعري الذي هو خلو الظاهر، والظمأ الذي فيه حرارة الباطن بالضحى الذي فيه حرارة الظاهر، وكذلك قرن امرؤ القيس علوه على الجواد بعلوه على الكاعب لأنهما لذتان في الاستعلاء، وبذل المال في شراء الراح، ببذل الأنفس في الكفاح، لأن في الأول سرور الطرب وفي الثاني سرور الظفر، وكذا هنا أوثر الضر لمناسبته ما قبله من الترهيب، فإن انتقام العظيم عظيم، ثم لما ذكر الإحسان أتى بما يعم أنواعه، والآية من قبيل اللف والنشر، فإن مس الضر ناظر إلى قوله تعالى ( إني أخاف ) الخ ومس الخير ناظر إلى قوله سبحانه ( من يصرف عنه ) الخ.
١ أخرجه مسلم في المسافرين حديث ٢٠١ والنسائي في الافتتاح باب ١٧..
٢ البيت من الطويل، وهما لامرئ القيس في ديوانه ص ٣٥، والبيت الأول في لسان العرب (بطن)، وتهذيب اللغة ١٣/٣٧٦، وتاج العروس (خلل)
(بطن)، وأساس البلاغة (بطن)..

﴿ قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله كتب على نفسه الرحمة ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون ١٢ * وله ما سكن في الليل والنهار وهو السميع العليم ١٣ قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض وهو يطعم ولا يطعم قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونن من المشركين ١٤ قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم ١٥ من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه وذلك الفوز المبين ١٦ وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير ١٧ وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير ١٨ قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني برئ مما تشركون ١٩ ﴾
بين تعالى في الآيات السابقة أصول الدين وما يدل عليها، وشبهات الكفار على الرسالة مع ما يدحضها، وهدى رسوله إلى سنته في الرسل وأقوامهم لتسليته وتثبيت قلبه، المعين له على المضي في تبليغ دعوة ربه، ثم قفى سبحانه على ذلك بتلقينه في هذه الآيات أسلوبا آخر من إقامة الحجج على قومه، وهو أسلوب السؤال والجواب، في موضع فصل الخطاب، وإن كان تكرارا لمعنى سبق أو اشتمل على التكرار، وحكمة ذلك أن التنويع في الاحتجاج والتفنن في أساليبه من ضروريات الدعوة إلى الدين – وإلى غير الدين من المقاصد البشرية أيضا – لأن التزام دليل واحد على المطلوب الذي لا بد من تكرار ذكره أو إيراد عدة أدلة بأسلوب واحد قد يفضي إلى سآمة الداعي من التكرار على رغبته في الدعوة وتفانيه في نشرها وإثباتها، فكيف يكون تأثيره في المدعوين الكارهين له ولها، إذا لم يعقلوا الدليل الأول أو لم تتوجه قلوبهم إلى تدبر الأسلوب الواحد المشتمل على عدة أدلة ؟ لا جرم أنهم يكونون في منتهى السآمة والضجر من سماع ذلك، وفي غاية النفور منه، كيف وقد كان المعاندون منهم ينهون عن هذا القرآن وينأون عنه على ما امتاز به في مقام التفنن والتنويع، والبلاغة المعجزة في كثرة الأساليب.
﴿ وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير ( ١٨ ) ﴾ فسر أهل اللغة القهر بالغلبة والأخذ من فوق وبالإذلال، وقال الراغب القهر الغلبة والتذليل معا ويستعمل في كل واحد منهما. وقد جاءت هذه الآية بعد إثبات كمال القدرة لله تعالى فيما قبلها تثبت له جل وعلا كمال السلطان والتسخير لجميع عباده والاستعلاء عليهم مع كمال الحكمة والعلم المحيط بخفايا الأمور، ليرشدنا إلى أن من اتخذ منهم وليا من دونه، فقد ضل ضلالا بعيدا لإشراكه ومقارنته بين الرب القاهر العلي الكبير الحكيم الخبير، وبين العبد المربوب المقهور المذلل المسخر الذي لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. فإذا كان هكذا شأن الرب وهذه صفاته فلا ينبغي للمؤمن به أن يتخذ وليا من عباده المقهورين تحت سلطان عزته، المذللين لسننه التي اقتضتها حكمته وعلمه بتدبير الأمر في خلقه، لأن أفضل المخلوقات وأكملهم مساوون لغيرهم في العبودية لله والذل له، وكونهم لا حول لهم ولا قوة بأنفسهم، ولم يجعل من خصائص أحد منهم أن يشاركه في التصرف في خلقه ولا في كونه يدعى معه ولا وحده لكشف ضر ولا جلب نفع ﴿ فلا تدعوا مع الله أحدا ﴾ [ الجن : ١٨ ] ﴿ بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء ﴾ [ الأنعام : ٤١ ] ﴿ قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا ﴾ [ الإسراء : ٥٦ ] الخ.
وقد فسر ابن جرير الآية بقوله : والله الغالب عباده المذل لهم العالي عليهم بتذليله لهم وخلقه إياهم فهو فوقهم بقهره إياهم وهم دونه، وهو الحكيم في علوه على عباده وقهره إياهم بقدرته وسائر تدبيره، الخبير بمصالح الأشياء ومضارها، الذي لا تخفى عليه عواقب الأمور وبواديها، ولا يقع في تدبيره خلل، ولا يدخل حكمته دخل. اه.
وذهبت المعتزلة والأشاعرة إلى أن قوله تعالى :﴿ فوق عباده ﴾ تصوير لقهره وعلوه بالغلبة والقهر. صرح بذلك الزمخشري وتبعه بعض الأشاعرة ( كالبيضاوي ) بنقل عبارته بنصها، وبعضهم ( كالرازي ) بنقلها وإطالة الدلائل النظرية بإثبات مضمونها، ومنع إرادة فوقية الذات وإطلاق صفة العلو على الله، إذ جعل ذلك قولا بتحيز الباري في جهة معينة وأطال في سرد الدلائل النظرية على استحالة ذلك، ولفظ الآية لا يأبى ما فسره به الزمخشري وأمثاله، لأن له نظيرا ذكروه في تفسيرها وهو قوله تعالى حكاية عن فرعون ﴿ وإنا فوقهم قاهرون ﴾ [ الأعراف : ١٢٧ ] وبديهي أنه يعني فوقية المكانة المعنوية لا المكان، ولو اكتفوا بهذا لكان حسنا لأنه في معنى ما نقل عن مفسري السلف كابن جرير ولكن منهم من شنع على السلف الصالحين وسماهم حشوية لعدم تأويلهم الآيات والأحاديث الصحيحة الناطقة بإثبات صفة العلو المطلق لله تعالى، فسلف الأمة يمرون هذه الآيات بغير تأويل، ويقولون إن الله مستو على عرشه فوق السموات وفوق العالم كله، وإنه بائن من خلقه، وإنه مع ذلك ليس كمثله شيء، فليس بمحدود ولا محصور ولا متحيز، فهذه اللوازم التي يبني عليها الجهمية وتلاميذهم تأويل صفة العلو مبنية كلها على قياس الخالق على المخلوق والقديم على المحدث.
ومن المعلوم أن جميع ما أطلق على الله تعالى من الصفات حتى العلم والقدرة والإرادة فإنما وضع في أصل اللغة لصفات البشر وهي مباينة لصفات الله تعالى، فلماذا يخصون بعضها بالتأويل دون بعض، فالحق الذي مضى على سلف الأمة أن الله تعالى يوصف بكل ما وصف به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم وإن جميع تلك الصفات تطلق عليه مع تنزهيه عن مشابهة من تطلق عليهم ألفاظها من الخلق، فعلم الله وقدرته وكلامه وعلوه وسائر صفاته شؤون تليق به لا تشبه علم المخلوقين وقدرتهم وكلامهم وعلو بعضهم على بعض. وقد انتهى سخف بعض المتكلمين في التأويل إلى جعل صفات الباري تعالى سلبية، وقد تقدم شيء من هذا البحث وسنعود إليه إن شاء الله تعالى.
﴿ قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله كتب على نفسه الرحمة ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون ١٢ * وله ما سكن في الليل والنهار وهو السميع العليم ١٣ قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض وهو يطعم ولا يطعم قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونن من المشركين ١٤ قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم ١٥ من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه وذلك الفوز المبين ١٦ وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير ١٧ وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير ١٨ قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني برئ مما تشركون ١٩ ﴾
بين تعالى في الآيات السابقة أصول الدين وما يدل عليها، وشبهات الكفار على الرسالة مع ما يدحضها، وهدى رسوله إلى سنته في الرسل وأقوامهم لتسليته وتثبيت قلبه، المعين له على المضي في تبليغ دعوة ربه، ثم قفى سبحانه على ذلك بتلقينه في هذه الآيات أسلوبا آخر من إقامة الحجج على قومه، وهو أسلوب السؤال والجواب، في موضع فصل الخطاب، وإن كان تكرارا لمعنى سبق أو اشتمل على التكرار، وحكمة ذلك أن التنويع في الاحتجاج والتفنن في أساليبه من ضروريات الدعوة إلى الدين – وإلى غير الدين من المقاصد البشرية أيضا – لأن التزام دليل واحد على المطلوب الذي لا بد من تكرار ذكره أو إيراد عدة أدلة بأسلوب واحد قد يفضي إلى سآمة الداعي من التكرار على رغبته في الدعوة وتفانيه في نشرها وإثباتها، فكيف يكون تأثيره في المدعوين الكارهين له ولها، إذا لم يعقلوا الدليل الأول أو لم تتوجه قلوبهم إلى تدبر الأسلوب الواحد المشتمل على عدة أدلة ؟ لا جرم أنهم يكونون في منتهى السآمة والضجر من سماع ذلك، وفي غاية النفور منه، كيف وقد كان المعاندون منهم ينهون عن هذا القرآن وينأون عنه على ما امتاز به في مقام التفنن والتنويع، والبلاغة المعجزة في كثرة الأساليب.
ثم ختم الله تعالى هذه الأقوال أو الأوامر القولية المبينة لحقيقة الدين ودلائله بشهادته لرسوله وشهادة رسوله له فقال :﴿ قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم ﴾
أخرج ابن إسحاق وابن جرير من طريق سعيد أو عكرمة عن ابن عباس قال : جاء النحام بن زيد وقردم بن كعب وبحري بن عمرو [ من اليهود ] فقالوا : يا محمد ما نعلم مع الله إلها غيره. فقال :« لا إله إلا الله، بذلك بعثت وإلى ذلك أدعو » فأنزل الله في قولهم ﴿ قل أي شيء أكبر شهادة ﴾ الآية – كذا في لباب النقول : وهذا الرواية لا تصح ففي سندها محمد بن محمد مولى زيد بن ثابت. قال الحافظ في تهذيب التهذيب : مدني مجهول تفرد عنه ابن إسحاق اه. وابن جرير رواه من طريق ابن إسحاق والتحقيق أن السورة نزلت بمكة دفعة واحدة إلا ما استثني منها ولم يصح أن هذه الآية منه كما علمت مما كتبناه في مقدمة تفسير السورة.
أما معنى الآية فهو أن الله تعالى أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يسأل كفار قريش : أي شيء شهادته أكبر شهادة وأعظمها وأجدر بأن تكون أصلحها وأصدقها ؟ ثم أمره بأن يجيب هو عن هذا السؤال بأن أكبر الأشياء شهادة الذي لا يجوز أن يقع في شهادته كذب ولا زور ولا خطأ هو الله تعالى وهو شهيد بيني وبينكم، وأوحي إلي هذا القرآن من لدنه لأنذركم به عقابه على تكذيبي فيما جئت به مؤيدا بشهادته سبحانه، وأنذر من بلغه هذا القرآن في كل مكان وكل زمان ؛ إذ كل من بلغه فهو مدعو إلى إتباعه حتى تقوم الساعة.
شهادة الشيء حضوره ومشاهدته، والشهادة به الإخبار به عن علم ومعرفة واعتقاد مبني على المشاهدة بالبصر أو بالبصيرة أي العقل والوجدان ومنه الشهادة بالتوحيد، وإثبات الشيء بالدليل والبرهان شهادة به، وشهادة الله بين الرسول وبين قومه قسمان : شهادته سبحانه برسالة الرسول صلى الله عليه وسلم وشهادته بما جاء به. وشهادته عز وجل برسالة رسوله ثلاثة أنواع ( أحدها ) إخباره بها في كتابه بمثل قوله :﴿ محمد رسول الله ﴾ [ الفتح : ٢٩ ] ﴿ إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ﴾ [ فاطر : ٢٤ ] ﴿ وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ﴾ [ سبأ : ٢٨ ] ﴿ وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ﴾ [ الأنبياء : ١٠٧ ] ﴿ تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين ﴾ [ البقرة : ٢٥٢ ] ﴿ يس، والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين ﴾ [ يس : ١-٣ ].
فهذه شهادات وردت بغير لفظ الشهادة وهو غير شرط في صحتها خلافا لبعض الفقهاء، ولا يقتضي التلفظ به حقيتها فقد حكى الله عن إخوة يوسف أنهم ﴿ قالوا يا أبانا إن ابنك سرق وما شهدنا إلا بما علمنا ﴾ [ يوسف : ٨١ ] وهم لم يقولوا : نشهد إن ابنك سرق. وقد سموا قولهم شهادة لأنه عن علم بما ثبت عليه عند عزيز مصر، وإن كان ذلك الإثبات مصنوعا. وقال تعالى :﴿ إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد أنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله، والله يشهد إن المنافقين لكاذبون ﴾ [ المنافقون : ١ ] فإنهم صرحوا بلفظ الشهادة ولما كانوا غير مؤمنين بها شهد الله تعالى بكذبهم فيها. وقال تعالى :﴿ لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه ﴾ [ النساء : ١٦٦ ] فهذه شهادة صرح فيها باللفظ، وكذلك قوله تعالى :﴿ ويقول الذين كفروا لست مرسلا، قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ﴾ [ الرعد : ٤٣ ] وهي بمعنى هذه الآية التي نفسرها.
النوع الثاني من شهادة الله تعالى لرسوله : تأييده بالآيات الكثيرة وأعظمها القرآن- وهو الآية العلمية العقلية الدائمة بما ثبت بالفعل عن عجز البشر عن الإتيان بسورة من مثله. وبما اشتمل عليه من الآيات الكثيرة كأخبار الغيب ووعد الرسول والمؤمنين بنصره تعالى لهم وإظهارهم على أعدائهم وغير ذلك مما ثبت بالفعل عند أهل عصره ونقل إلينا بالتواتر. ومنها غير القرآن من الآيات الحسية والأخبار النبوية بالغيب التي ظهر بعضها في زمنه وبعضها بعد زمنه عليه أفضل الصلاة والسلام، كقوله في سبطه الحسن وهو طفل « ابني هذا سيد ولعل الله يصلح به بين فئتين من المسلمين »١، وقوله في عمار بن ياسر :« قتلته الفئة الباغية »٢، وقوله :« صنفان من أهل النار لم أرهما بعد رجال بأيديهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات، على رؤوسهن كأسنمة البخت »٣.
النوع الثالث من شهادته لرسوله : شهادة كتبه السابقة له وبشارة الرسل الأولين به، ولا تزال هذه الشهادات والبشائر ظاهرة فيما بقي عند اليهود والنصارى من تلك الكتب وتواريخ أولئك الرسل عليهم السلام على ما طرأ عليها من التحريف، وقد تقدم بيان ذلك في تفسير السور السابقة ولاسيما المائدة. ولا تنسى هنا أخذه تعالى العهد على الرسل وقوله لهم :﴿ أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري ؟ قالوا أقررنا، قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين ﴾ [ آل عمران : ٨١ ] [ ج : ٣ ].
وأما شهادته تعالى لما جاء به رسوله من التوحيد والبعث- وهو ما كانوا ينكرونه دون الآداب والفضائل والأحكام العلمية فهو ثلاثة أنواع : أحدها – شهادة كتابه معجز الخلق بذلك كقوله :﴿ شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم * إن الدين عند الله الإسلام ﴾ [ آل عمران : ١٨، ١٩ ]، وقوله :﴿ زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا، قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبئون بما عملتم وذلك على الله يسير ﴾ [ التغابن : ٧ ].
ثانيها : ما أقامه من الآيات البينات في الأنفس والآفاق على توحيده واتصافه بصفات الكمال. وفي بيان ذلك في هذه السورة ما ليس في غيرها.
ثالثها : ما أودعه جل شأنه في الفطرة البشرية من الإيمان الفطري وبالألوهية وبقاء النفس وما هدى إليه العقول السليمة من تأييد هذا الشعور الفطري بالدلائل والبراهين. ولعلنا نشرح معنى الإيمان الفطري الذي بيناه من قبل بيانا موجزا في تفسير آية العهد الإلهي الذي أخذه على بني آدم، وهي قوله تعالى في سورة الأعراف :﴿ وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم : ألست بربكم ؟ قالوا بلى شهدنا ﴾ [ الأعراف : ١٧٢ ].
علم مما بيناه أن شهادته تعالى هي شهادة آياته في القرآن، وآياته في الأكوان وآياته في العقل والوجدان، اللذين أودعهما في نفس الإنسان، وهذه الآيات قد بينها القرآن وأرشد إليها، فهو الدعوى والبينة، والشاهد والمشهود له، وكفى به ظهورا بالحق وإظهار له، أنه لا يحتاج إلى شهادة غيره له، على أن الشهود والأدلة على حقيقته كثيرة. وقد جاءت جملة « وأوحي إلي هذا القرآن » معطوفة على جملة « الله شهيد بيني وبينكم » مصدرة بالفعل المبني للمفعول لأن المراد بنصها بيان أن القرآن هو موضوع الدعوة والرسالة المقصود منها بالذات، وتدل بموضعها دلالة إيمان على أنه أعظم شهادة لله تعالى.
وقوله تعالى :﴿ لأنذركم به ومن بلغ ﴾ نص على عموم بعثة خاتم الرسل عليه أفضل الصلاة والسلام، أي لأنذركم به يا أهل مكة أو يا معشر قريش أو العرب وجميع من بلغه ووصلت إليه دعوته من العرب أو العجم، أو المعنى لأنذركم به أيها المعاصرون لي وجميع من بلغه إلى يوم القيامة. قال البيضاوي : وهو دليل على أن أحكام القرآن تعم الموجودين وقت نزوله ومن بعدهم وأنه لا يؤاخذ بها من لم تبلغه. اه. يعني أن العبرة في دعوة الإسلام بالقرآن فمن لم يبلغه القرآن لا يصدق عليه أنه بلغته الدعوة، وحينئذ لا يكون مخاطبا بهذا الدين. ومفهومه أن الحجة لا تقوم بتبليغ دعوة الإسلام بالقواعد الكلامية والدلائل النظرية التي بني عليها ذلك العلم ولكنا نرى المسلمين قد تركوا دعوة القرآن وتبليغه بعد السلف الصالح وتركوا العلم به وبما بينه من السنة إلى تقليد المتكلمين والفقهاء. والقرآن حجة عليهم وإن جعلوا أنفسهم غير أهل للحجة.
ومما روي عن تفسير السلف في الآية من الأحاديث والآثار ما أخرجه ابن مردويه وأبو نعيم والخطيب عن ابن عباس قال :« من بلغه القرآن فكأنما شافهته به – ثم قرأ – ﴿ وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ ﴾ » ويؤيد الرواية أن القرآن لما كان متواترا بلفظه ومعناه كان من بلغه بعده صلى الله عليه وسلم كمن سمعه منه وإن كثرت الوسائط، لأنه هو الذي بلغه بلا زيادة ولا نقصان. وليس للأحاديث المروي كثيرها بالمعنى هذه المزية. فهي موضع اجتهاد : وأخرج ابن أبي شيبة وابن الضريس وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن محمد بن كعب القرظي في الآية قال : من بلغه القرآن فكأنما رأى النبي صلى الله عليه وسلم وفي لفظ : من بلغه القرآن حتى يفهمه ويعقله كان كمن عاين النبي صلى الله عليه وسلم وكلمه. وأخرج أبو الشيخ عن أبي بن كعب قال أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بأسارى فقال لهم :« هل دعيتم إلى الإسلام- ؟ قالوا لا. فخلى سبيلهم ثم قرأ :﴿ وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ ﴾ ثم قال-خلوا سبيلهم حتى يأتوا مأمنهم من أجل أنهم لم يدعوا ».
ثم أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بالشهادة له بالوحدانية التي جحدها المشركون وبراءته من قولهم وشهادتهم بالشرك فقال :﴿ أءنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون ( ١٩ ) ﴾ قالوا إن الاستفهام هنا للتقرير مع الإنكار والاستبعاد. وقد أمره تعالى أن يجيب بأنه لا يشهد كما يشهدون، ثم أمره أمرا آخرا بأن يشهد بنقيض ما يزعمون ويتبرأ منه وهو أن يصرح بأن الإله لا يكون إلا واحدا، ويتبرأ مما يشركونه به من الأصنام وغيرها أو من إشراكهم مهما يكن موضوعه، وإنما قال :﴿ قل إنما هو إله واحد ﴾ فأعاد الأمر ولم يعطف المأمور به على ما قبله لإفادة أن الإقرار بالوحدانية مقصود بذاته لا يغني عنه نفي الشهادة بالشرك.
١ أخرجه البخاري في الصلح باب ٩، وفضائل أصحاب النبي باب ٢٢، والفتن باب ٢٠، والمناقب باب ٢٥، وأبوا داود في السنة باب١٢، والمهدي باب ٨،. والترميذي في المناقب باب ٣٠، والنسائي في الجمعة باب٢٧.
٢ أخرجه البخاري في الصلاة باب ٦٣، ومسل في الفتن حديث ٧٠، ٧٢، ٧٣، الترميذي في المناقب باب ٣٤، وأحمد في المسند ٢/١٦١، ١٦٤، ٢٠٦، ٣/٥.
٣ أخرجه مسلم في اللباس حديث ١٢٥، والجنة حديث ٥٢، وأحمد في المسند ٢/ ٢٢٣، ٣٥٦..
﴿ الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون ٢٠ ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح الظالمون ٢١ ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون ٢٢ ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين ٢٣ أنظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون ٢٤ ﴾
روي أن قريشا أرسلت إلى المدينة من سأل اليهود عن النبي صلى الله عليه وسلم ورجعوا إلى مكة فزعموا أن اليهود قالوا ليس له عندنا ذكر، فلما صار لهم عهد باليهود كان مما رد الله تعالى به عليهم في هذه السورة قوله بعدما تقدم من الحجج ﴿ الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ﴾ أي يعرفون محمدا النبي الأمي خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم لأن نعته في كتبهم واضح ظاهر. وقد تقدم نص هذه الجملة في سورة البقرة كآيات أخرى في معناها وبينا في تفسيرها ما يؤيدها من شواهد التوراة والإنجيل.
ثم بين تعالى علة إنكار المكابرين منهم لما يعرفونه من أمر نبوته صلى الله عليه وسلم فقال :﴿ الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون ( ٢٠ ) ﴾ قيل إن ﴿ الذين ﴾ هنا بيان للذين الأولى أو بدل منها، ويجوز أن يكون مبتدأ، أي الذين خسروا أنفسهم منهم فهم لا يؤمنون به بل يكفرون كبرا وعنادا فهم لذلك ينكرون ما يعرفون. وقد بينا قريبا معنى هذه الجملة إذ وردت بنصها في الآية الثالثة عشرة من هذه السورة والعهد بها قريب، وموقعها هنا أن علة إنكار من أنكر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من علماء اليهود كعلة إنكار من أنكرها من المشركين بعد ظهور آياتها وأنكر ما هو أعظم منها وأظهر وهو وحدانية الله تعالى، وهي أنهم خسروا أنفسهم فهم يؤثرون ما لهم من الجاه والمكانة والرياسة في قومهم، على الإيمان بالرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم، لعلمهم بأن هذا الإيمان يسلبهم تلك الرياسة ويجعلهم مساوين لسائر المسلمين في جميع الأحكام وكذلك كان بعض رؤساء قريش يعز عليه أن يؤمن فيكون مرؤوسا وتابعا [ ليتيم أبي طالب ] فكيف وهو يكون بعد ذلك مساويا لبلال الحبشي وصهيب الرومي وغيرهم من فقراء المسلمين، فخسران هؤلاء الذين نزلت فيهم هذه الآية لأنفسهم هو من قبيل ضعف الإرادة لا من نوع فقد العلم والمعرفة لأن الله تعالى أخبر أنهم على معرفة صحيحة في هذا الباب. وروي أن خسران النفس هنا عبارة عن خسرانها في الآخرة فقط بخسران أمكنتهم التي كانت معدة لهم في الجنة لو آمنوا بالرسول وإعطائها للمؤمنين،
ولما كان هذا الخسران أعظم ظلم ظلم به هؤلاء الكفار أنفسهم قال تعالى فيهم :﴿ ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته ﴾ أي لا أحد، أظلم ممن افترى على الله كذبا كزعم من زعم أن له ولدا أو شريكا أو أن غيره يدعى معه أو من دونه ويتخذ وليا له بقرب الناس إليه زلفى ويشفع لهم عنده، أو زاد في دينه ما ليس منه-أو كذب بآياته المنزلة كالقرآن المجيد، أو آياته الكونية الدالة على وحدانيته والتي يؤيد بها رسله، وإذا كان كل من هذا التكذيب وذلك الكذب والافتراء يعد وحده غاية في الظلم ويطلق على صاحبه اسم التفضيل فيه فكيف يكون حال من جمع بينهما فكذب على الله وكذب بآياته المثبتة للتوحيد والمثبتة للرسالة ؟.
ثم بين سوء عاقبة الظالمين فقال :﴿ إنه لا يفلح الظالمون ( ٢١ ) ﴾ هذا استئناف بياني وقع موقع جواب السؤال أي الحال والشأن أن الظالمين عامة لا يفوزون في عاقبة أمرهم يوم الحساب والجزاء بالنجاة من عذاب الله تعالى ولا بنعيم الجنة مهما يكن نوع ظلمهم، فكيف تكون عاقبة من وصف بأنه لا أحد أظلم منه لافترائه على الله تعالى أو لتكذيبه بآياته ؟ ثم كيف تكون عاقبة من جمع بين هذين الأمرين الأقبحين فكان أظلم الظالمين ؟.
الآية نزلت في الكافرين فلهذا يغفل الناس عن صدقها على من كذب على الله تعالى وهو يسمي نفسه أو يسميه الناس مؤمنا أو مسلما، كأن يقول بقول أولئك المشركين فيتخذ غير الله وليا ويدعوه ليشفع له عنده، أو يزيد في دين الله برأيه فيقول : هذا واجب، وهذا حلال وهذا حرام فيما لم ينزل الله به وحيا ولا كان مما بلغه رسوله صلى الله عليه وسلم من دينه.
ثم بين تعالى ما في نفي الفلاح من الإجمال فقال :
﴿ ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون ﴾
﴿ ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون ( ٢٢ ) ﴾ أي واذكر لهم أيها الرسول يوم نحشرهم جميعا على اختلاف درجاتهم في ظلم أنفسهم بأنواعه وظلم غيرها بأنواعه ثم نقول للذين أشركوا منهم وهم أشدهم ظلما أين الشركاء الذين كانوا يضافون إليكم لاتخاذكم إياهم أولياء فيكم، الذين كنتم تزعمون في الدنيا أنهم شركاء الله يدعون ويستعانون كما يدعى ويستعان، وأنهم يقربونكم إلى الله زلفى ويشفعون لكم عنده ؟ فأين ضلوا عنكم فلا يرون معكم ؟ كما قال في آية أخرى :﴿ وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون ﴾ [ الأنعام : ٩٤ ] وقد قرأ يعقوب :« يحشرهم جميعا ثم يقول » بالياء والمعنى ظاهر. والاستفهام للتوبيخ والاحتجاج.
﴿ ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين ( ٢٣ ) ﴾ قرأ ابن كثير وابن عامر وحفص « لم تكن فتنتهم » بالتاء والرفع، ونافع وأبو عمرو وأبو بكر عنه بالتاء والنصب، والباقون « لم يكن فتنتهم » بالياء والنصب. ولا فرق بين هذه القراءات في المعنى فإن بعضها يقدم اسم تكن عليها وبعضها يؤخره. وبعضهم يذكر الفعل وبعضهم يؤنثه، وكل ذلك جائز في العربية. وقرأ حمزة والكسائي « ربنا » بالفتح على النداء أي يا ربنا. والباقون بالجر على الصفة. والفتنة الاختبار وفسرت هنا بالقولة والكلام والجواب وبالشرك، وقدر بعضهم مضافا محذوفا فقال : إن المعنى ثم لم تكن عاقبة هذا الاختبار أو الشرك إلا إقسامهم بالله يوم القيامة إنهم ما كانوا مشركين.
ظاهر الآية أنهم ينكرون في بعض مواقف الحشر شركهم بالله توهما منهم أن ذلك ينفعهم أي ويعترفون به في بعضها كما يعلم من آيات أخرى، واستشكل بعض المفسرين هذا المعنى، واحتجوا بأن الإنكار في القيامة متعذر وبأن اعترافهم بالشرك ثابت في بعض الآيات كقوله تعالى حكاية عنهم :﴿ هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعو من دونك ﴾ بالنحل : ٨٦ ]، وقوله :﴿ ولا يكتمون الله حديثا ﴾ [ النساء : ٤٢ ] وروي أن ابن عباس سئل عن الآية وعن قوله تعالى :﴿ ولا يكتمون الله حديثا ﴾ فقال : أما قوله :﴿ والله ربنا ما كنا مشركين ﴾ فإنهم لما رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهل الإسلام فقالوا تعالوا لنجحد ﴿ قالوا والله ربنا ما كنا مشركين ﴾ فختم الله على أفواههم وتكلمت أيديهم وأرجلهم ﴿ ولا يكتمون الله حديثا ﴾ وذهب بعضهم إلى أن المعنى ما كنا مشركين في اعتقادنا لأننا ما كنا ندعو غيرك استقلالا بل توسلا إليك ليكون من ندعوهم شفعاء لنا عندك يقربوننا إليك زلفى، لأننا كنا نستصغر أنفسنا أن تتسامى إلى دعائك كفاحا بلا واسطة وما هذا إلا تعظيم لك. وقد أورد على هذا التفسير أنه لا يلتئم مع قوله بعد هذه الحكاية عنهم.
﴿ انظر كيف كذبوا على أنفسهم ﴾ وأجيب عن الإيراد بأن المراد أنهم كذبوا على أنفسهم في دار الدنيا بزعمهم أنهم اتخذوا شفعاء يشفعون لهم عند الله وأن هذا تعظيم لله لا كفر به. ويرد هذا القول تصريح مشركي قريش بأن ما كانوا عليه شرك ولكن بعضهم كان يرى أنه لا بأس به لأنه بمشيئة الله، وهؤلاء كجبرية المسلمين، وقد أنكر القرآن عليهم هذه الشبهة في قوله من هذه السورة :﴿ وقال الذين أشركوا لو شاء ما أشركنا ﴾ [ الأنعام : ١٤٨ ] الخ نعم إن كثيرا ممن يسمون مسلمين يدعون غير الله تعالى حتى في حال الشدة والضيق التي كان مشركو العرب يخلصون فيها الدعاء لله تعالى، ولكنهم لا يسمون هذا شركا كما كان يسميه المشركون، بل توسلا أو استشفاعا أو وساطة.
وقوله تعالى هنا :﴿ انظر ﴾ من النظر العقلي ؛ وكذب الكفار في الآخرة ثابت بمثل قوله تعالى :﴿ يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون ﴾ [ المجادلة : ١٨ ].
قال الزجاج : تأويل هذه الآية حسن في اللغة لا يعرفه إلا من وقف على معاني كلام العرب، وذلك أنه تعالى بين كون المشركين مفتونين بشركهم متهالكين في حبه، فذكر أن عاقبة كفرهم – الذي لزموه أعمارهم وقاتلوا عليه وافتخروا به وقالوا إنه دين آبائنا – لم تكن إلا الجحود والتبرأ منه والحلف على عدم التدين به. ومثاله أن ترى إنسانا يحب شخصا مذموم الطريقة فإذا وقع في محنة بسببه تبرأ منه، فيقال له : ما كانت محبتك – أي عاقبة محبتك – لفلان إلا أن تبرأت منه وتركته. فعلى هذا تكون فتنتهم هي شركهم في الدنيا كما فسرها ابن عباس، ولكن لا بد من تقدير مضاف وهو العاقبة.
﴿ ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها حتى إذا جاءوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين ٢٥ وهم ينهون عنه وينئون عنه وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون ٢٦ ﴾
كان المشركون أصنافا متفاوتين في الفهم والعقل وفي الكفر وأسبابه، وقد بين الله أحوال كل فريق منهم في كتابه فمنهم أصحاب الذكاء واللوذعية الذين كانوا يسمعون هذا القرآن ويعقلون أنه لا يمكن أن يكون من كلام محمد صلى الله عليه وسلم ولا هو بالذي يستطيع الإتيان بمثله في نظمه وفصاحته وبلاغته، ولا في علومه وحكمه ومعارفه، إذ لو كان مثله مما تصل إليه قدرته لظهر على لسانه شيء من مثله أو ما يقرب منه فيما مضى من حياته – وهو أربعون سنة ونيف -. وقد أمره الله تعالى أن يقيم عليهم هذه الحجة بقوله :﴿ فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون ﴾ [ يونس : ١٧ ] وما كان كفر أمثال هؤلاء إلا عن كبر وعناد ومكابرة للحق. ومنهم من كان يعرض عن سماع القرآن خشية أن يؤثر في قلبه، وينتزعه من الدين الذي ألفه طول عمره، ومنهم من كان يصغي سمعه إلى القرآن بقصد الاكتشاف والاختبار، ولكنه لا يعقل المراد منه، ولا يفقه حججه وبيناته، إما لعدم توجه ذهنه إلى ذلك لعراقته في التقليد والأنس بما درج عليه الآباء وهو الأكثر، وإما للبلادة وانحطاط الفكر عن التسامي إلى هذه المعارف العالية فيه، وكان هذا قليلا في العرب ولا سيما أهل مكة وهم أفصح قريش التي هي أفصح العرب.
وقد بين الله تعالى حال هذا الفريق الذي لم يكن حظه من الاستماع إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلا كحظ النعم من سماع أصوات البشر فقال :﴿ ومنهم من يستمع إليك ﴾ أيها الرسول إذا تلوت القرآن داعيا إلى توحيد الله منذرا يوم القيامة ﴿ وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي أذانهم وقرا ﴾ أي وجعلنا على آلة الفهم والإدراك من أنفسهم – وهي قلب الإنسان ولبه – أغطية حائلة دون فقهه، ونفوذ الأفهام إلى أعماق علمه، وفي آذانهم وقرا أي ثقلا أو صمما حائلا دون سماعه بقصد التدبر واستبانة الحق منه. ومعنى هذا الجعل ما مضت به سنة الله تعالى في طباع البشر من كون التقليد الذي يختاره الإنسان لنفسه يكون مانعا له باختباره من النظر والاستدلال والبحث عن الحقائق، فهو لا يستمع إلى متكلم ولا داع لأجل التمييز بين الحق والباطل، وإذا وصل إلى سمعه قول مخالف لما هو دين له أو عادة لا يتدبره ولا يراه جديرا بأن يكون موضوع المقابلة والتنظير مع ما عنده من عقيدة أو رأي أو عادة. وجعل الأكنة على القلوب والوقر في الآذان في الآية من تشبيه الحجب والموانع المعنوية، بالحجب والموانع الحسية، فإن القلب الذي لا يفقه الحديث ولا يتدبره كالوعاء الذي وضع عليه الكن أو الكنان وهو الغطاء حتى لا يدخل فيه شيء، والآذان التي لا تسمع الكلام سماع فهم وتدبر كالآذان المصابة بالثقل أو الصمم لأن سمعها وعدمه سواء. والأكنة جمع كنان كالأسنة جمع سنان، والوقر بالفتح الثقل في السمع والصمم بالكسر الحمل، يقال وقر سمعه يقر فهو موقور، إذا كان لا يسمع، وأوقر الدابة فهي موقرة.
﴿ وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها ﴾ يقول الله تعالى في هؤلاء الذين لا يسمعون ما يتلو عليهم الرسول سماع تدبر ولا يفقهون كنه ما يدعو إليه : وإن يروا كل آية من الآيات الدالة على صحة نبوتك وصدق دعوتك وحقية ما تدعو إليه لا يؤمنوا بها لأنهم لا يفقهونها ولا يدركون كنه المراد منها، لعدم التوجه أو لوقوف أسماعهم عند ظواهر الألفاظ.
﴿ حتى إذا جاءوك يجادلونك ﴾ أي حتى إذا صاروا إليك أيها الرسول مجادلين لك في دعوتك ﴿ يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين ( ٢٥ ) ﴾ أي يقولون لإصرارهم على كفرهم وانتفاء فقههم : ما هذا القرآن إلا أساطير الأولين من الأمم، أي قصصهم وخرافاتهم. يعني أنهم لا يعقلون مما في القرآن من أنباء الغيب في قصص الأمم مع رسلهم إلا أنها حكايات وخرافات تسطر وتكتب كغيرها، فلا علم فيها ولا فائدة منها، وربما جعلوا القرآن كله من هذا القبيل، قياسا لما لم يسمعوا على ما سمعوا، أو لغير القصص على القصص. وهكذا شأن من ينظر إلى الشيء نظرا سطحيا لا يستنبط منه علما ولا برهانا، ويسمع الكلام جرسا لفظيا لا يتدبره ولا يفقه أسراره، فمثل هذا وذاك كمثل الطفل الذي يشاهد ألعاب الصور المتحركة يديرها قوم لا يعرف لغتهم فكل حظه مما يري من المناظر ومن المكتوبات المفسرة لها لا يعدو التسلية. ولو عقل هؤلاء المقلدون الغافلون قصص القرآن وتدبروا معانيها لكان لهم منها آيات بينة على صدق دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم ونذر عظيمة مما فيها من بيان سنن الله تعالى في الأمم، وعاقبة أمرهم مع الرسل، وغير ذلك من الحكم والعبر.
وإن في أهل هذا العصر من لا يفكر في إتيان الأمي الناشئ بين الأميين بخلاصة أخبار أشهر الرسل مع أقوامهم لأنه يرى أو يسمع أن ما في القرآن من ذلك يشبه ما في غيره من كتب اليهود والنصارى وكتب التاريخ، ولا يرى في هذا ما يبعثه إلى البحث في الفرق بين ما في القرآن وما في غيره، وهو من وجوه أهمها في باب إثبات نبوته صلى الله عليه وسلم كونه ظهر على لسان رجل أمي لم يقرأ ولم يطلع على شيء من كتب الدين ولا كتب التاريخ، وقد احتج بهذا على قومه فلم يستطع أحد ممن انتصبوا لعداوته أن يرفع في الإنكار عليه رأسا أو ينبس في الرد عليه بكلمة ﴿ تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا ﴾ [ هود : ٤٩ ].
فإذا كان في أهل هذا العصر من لا يفكر في هذه الآية البينة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وهي خاصة بقصص القرآن لما ذكرنا من السبب، ومن لا يفكر في إعجاز القرآن ببلاغته بعد أن عاش النبي ثلثي عمره قبله ولم يكن في كلامه ما هو معجز – فإن كفار قريش لم يكونوا يستطيعون إنكار كون محمد صلى الله عليه وسلم كان أميا مثلهم وأنه لم يكن يعرف شيئا من أخبار الرسل مع أقوامهم، ولا كان ممتازا بالبلاغة والفصاحة فيهم، ولكن كان بعضهم يجهل ما يعرفه أهل هذا العصر من كون تلك القصص كانت صحيحة لا من أساطير الأولين وأوضاعهم الخرافية التي لا يثبت لها أصل، ولأجل هذا سأل بعضهم اليهود عنها، كما كان بعضهم يجهل ما فيها من الآيات والعبر لعدم تدبرها. قال أبو عبيدة معمر بن المثنى : الأسطورة لغة الخرافات والترهات، وهي التي تجمع على أساطير، وقال الأخفش واحد الأساطير أسطورة.
﴿ ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها حتى إذا جاءوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين ٢٥ وهم ينهون عنه وينئون عنه وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون ٢٦ ﴾
كان المشركون أصنافا متفاوتين في الفهم والعقل وفي الكفر وأسبابه، وقد بين الله أحوال كل فريق منهم في كتابه فمنهم أصحاب الذكاء واللوذعية الذين كانوا يسمعون هذا القرآن ويعقلون أنه لا يمكن أن يكون من كلام محمد صلى الله عليه وسلم ولا هو بالذي يستطيع الإتيان بمثله في نظمه وفصاحته وبلاغته، ولا في علومه وحكمه ومعارفه، إذ لو كان مثله مما تصل إليه قدرته لظهر على لسانه شيء من مثله أو ما يقرب منه فيما مضى من حياته – وهو أربعون سنة ونيف -. وقد أمره الله تعالى أن يقيم عليهم هذه الحجة بقوله :﴿ فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون ﴾ [ يونس : ١٧ ] وما كان كفر أمثال هؤلاء إلا عن كبر وعناد ومكابرة للحق. ومنهم من كان يعرض عن سماع القرآن خشية أن يؤثر في قلبه، وينتزعه من الدين الذي ألفه طول عمره، ومنهم من كان يصغي سمعه إلى القرآن بقصد الاكتشاف والاختبار، ولكنه لا يعقل المراد منه، ولا يفقه حججه وبيناته، إما لعدم توجه ذهنه إلى ذلك لعراقته في التقليد والأنس بما درج عليه الآباء وهو الأكثر، وإما للبلادة وانحطاط الفكر عن التسامي إلى هذه المعارف العالية فيه، وكان هذا قليلا في العرب ولا سيما أهل مكة وهم أفصح قريش التي هي أفصح العرب.
﴿ وهم ينهون عنه وينئون عنه ﴾ ضمير ﴿ وهم ﴾ عائد إلى المشركين المعاندين للنبي صلى الله عليه وسلم الجاحدين لنبوته الذين ورد هذا السياق بطوله فيهم. لا إلى الفريق الذي ذكر أخيرا في قوله :﴿ ومنهم من يستمع إليك ﴾ والمعنى أنهم ينهون الناس عن سماع القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم وينأون أي يبعدون عنه ليكونوا ناهين منتهين، والنأي عنه يشمل الإعراض عن سماعه والإعراض عن هدايته. وقيل إن المعنى ينهون عن النبي صلى الله عليه وسلم أي ينهون العرب عن حمايته ومنعه وعن إتباعه والسماع له جميعا ويبعدون عنه بعد جفاء وعداوة. ﴿ وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون ( ٢٦ ) ﴾ أي وما يهلكون بذلك إلا أنفسهم وما يشعرون بذلك بل يظنون أنهم يقضون عليه صلوات الله وسلامه عليه. وهذا من معجزات القرآن وإخباره بالغيب فقد هلك جميع الذين أصروا على عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم بعضهم بالنقم الخاصة وبعضهم في بدر ثم في غيرهم من الغزوات، ويلي هذا الهلاك الدنيوي هلاك الآخرة، ولفظ الآية يشملها وهو في هلاك الدنيا أظهر.
﴿ ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين ٢٧ بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون ٢٨ ﴾
بين الله تعالى لنا في الآيتين اللتين قبل هاتين حال من فقدوا الاستعداد للإيمان من المشركين الظالمين لأنفسهم، وخص بالذكر طائفة منهم وهي التي تلقي السمع مصغية للقرآن ولا يدخل من باب سمعها إلى بيت قلبها شيء منه، لما على القلب من أكنة التقليد، والاطمئنان بالشرك التليد، والاستنكار لكل شيء جديد ؛ فهم يستمعون ولا يسمعون، ولا يكتفون بذلك بل ينهون عنه وينأون وهم ناؤون منتهون، وما يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون. ثم بين في هاتين الآيتين بعض ما يكون من أمرهم وأمر أمثالهم يوم القيامة، وقفى عليه ببيان كنه حالهم في فقد الاستعداد للإيمان، وأنه بلغ مبلغا لا يؤثر فيه كشف الغطاء ورؤية العيان.
فقال عز من قائل :
﴿ ولو ترى إذ وقفوا على النار ﴾ ﴿ لو ﴾ شرطية حذف جوابها لتذهب النفس في تصوره كل مذهب، وذلك أبلغ من ذكره، ومنه المثل « ولو غير ذات سوار لطمتني » و « وقفوا » بالبناء للمفعول أي وقفهم غيرهم، يقال : وقف الرجل على الأرض وقوفا، ووقف على الأطلال أي عندها مشرفا عليها، أو قاصرا همه عليها – وعلى الشيء : عرفه وتبينه. ووقف نفسه على كذا وقفا : حبسها كوقف العقار على الفقراء، ووقف الدابة وقفا جعلها تقف. والمعنى ولو ترى أيها الرسول – أو أيها السامع – بعينيك هؤلاء الضالين المكذبين إذ تقفهم ملائكة العذاب على النار فيقفون عندها مشرفين عليها من أرض الموقف – وهي هاوية سحيقة، أو مقصورين عليها لا يتعدونها – أو يقفون فوقها على الصراط ؛ أو لو ترى إذ يدخلونها فيقفون على ما فيها من العذاب الأليم بذوقهم إياه و « من ذاق عرف » – أي لو ترى ما يحل بهم حينئذ وما يكون من أمرهم ومن ندمهم على كفرهم ومن حسرتهم وتمنيهم ما لا ينال – لرأيت أمرا عظيما لا تدركه العبارة ولا يحيط به الوصف.
وقد ذكر ما يكون من وقفهم على النار وما يترتب عليه من قولهم بصيغة الماضي الواقع في حيز فعل الشرط المستقبل للإعلام بتحقق وقوعه، على القول المشهور في مثله، وقال الرازي في تعليله : إن كلمة « إذ » تقام مقام « إذا » إذا أراد المتكلم المبالغة في التكرير والتوكيد وإزالة الشبهة لأن الماضي قد وقع واستقر فالتعبير عن المستقبل باللفظ الموضوع للماضي يفيد المبالغة من هذا الاعتبار.
وأما قوله تعالى :﴿ فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين ( ٢٧ ) ﴾ فقد عطف بالفاء للدلالة على أن أول شيء يقع حينئذ في قلوبهم، ويسبق التعبير عنه إلى ألسنتهم، هو الندم على ما سلف منهم، وتمني الرجوع إلى الدنيا ليؤمنوا. اختلف القراء في إعراب « نكذب ونكون » فرفعهما الجمهور ونصبها حمزة وحفص عن عاصم، ونصب ابن عامر « نكون » فقط. فقراءة الجمهور بالعطف على ( نرد ) تفيد أنهم تمنوا أن يردوا إلى الدنيا، وأن لا يكذبوا بعد عودتهم إليها بآيات ربهم كما كذبوا من قبل، وأن يكونوا من المؤمنين بما جاء به الرسول، أي تمنوا هذه الثلاثة، وقيل بل تمنوا الأول فقط.
وقوله :﴿ ولا نكذب ﴾ الخ معناه ونحن لا نكذب الخ وعلى هذا يكون الإيمان وعدم التكذيب غير داخلين في التمني، وشبهه سيبويه بقولهم : دعني ولا أعود. وهو طلب للترك فقط، والوعد بعدم العود مستأنف مقطوع عما قبله، والتقدير : وأنا لا أعود تركتني أم لم تتركني. وفيه وجه ثالث وهو أن قوله :﴿ ولا نكذب ﴾ جملة حالية قال الزمخشري : على معنى غير مكذبين وكائنين من المؤمنين، فيدخل في حكم التمني. اه.
وقد يتوهم أن دخوله في حكم التمني يجعله بمعنى الوجه الأول وليس كذلك، فإن معنى الوجه الأول أنهم يتمنون الرد وعدم التكذيب والإيمان على سواء، ومعنى الثاني أنهم يتمنون الرد فقط ويعدون بالإيمان وعدم التكذيب وعدا خبريا مؤكدا غير مقيد بإجابتهم إلى ما يتمنون. وأما إذا جعلنا ﴿ ولا نكذب ﴾ الخ جملة حالية – وهو الوجه الثالث – فإنها تصدق بحصول كل من عدم التكذيب والإيمان قبل الرد إلى الدنيا. فلا يكون التمني متعلقا بهما لذاتهما لأنهما حاصلان والحاصل لا يتمنى، وإنما يكون متعلقا بالرد المصاحب لهما، الذي تمنى وقوعه بعد وقوعهما، وذلك وعد غير خبري ولا إنشائي بهما، لأن الحاصل لا يوعد به كما أنه لا يتمنى.
وقد بينا في تفسير ﴿ لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ﴾ [ النساء : ٤٣ ] – الآية – الفرق بين الحال المفردة والجملة الحالية، وأن الأصل في مضمون الجملة الحالية أن يكون سابقا للفعل العامل في الحال. وهؤلاء رجعوا عن التكذيب عند وقفهم على النار وحصل لهم الإيمان القاطع بصدق الرسول فتمنوا أن يعودوا إلى الدنيا مصاحبين لذلك، فيصح أن يقال في الجملة إن عدم التكذيب والإيمان داخلان تحت حكم التمني من حيث اشتراطهما فيه، لا أنهما متمنيان كالرد سواء.
وأما قراءة حمزة وحفص بنصب الفعلين فقيل إنه على جواب التمني وقيل إن الواو للحال كقولهم : لا تأكل السمك وتشرب اللبن. وقيل إنها أجريت مجرى فاء السببية أو أبدلت منها وأيدوه بقراءة ابن مسعود « فلا نكذب » وقيل إن العطف على مصدر متوهم أي يا ليت لنا ردا وانتفاء تكذيب وكونا من المؤمنين. فعلى التوجيهين الأولين لهذه القراءة يدخل ما ذكر في حكم التمني على الوجه الذي وجهنا به جعل الجملة حالية في قراءة الجمهور وظاهر التوجيه الثالث تعلق التمني بالأمور الثلاثة على سواء، وقد علم من توجيه هذه القراءة توجيه قراءة ابن عامر أيضا. ولعل حكمة اختلاف القراءات بيان اختلاف أحوال أولئك المشركين في تمنيهم : بأن يكون منهم من يتمنى أن يرد إلى الدنيا وأن يكون فيها غير مكذب بآيات الله الكونية والمنزلة وأن يكون من المؤمنين، ومنهم من يتمنى الرد مصاحبا لما حدث له في الآخرة من الندم على التكذيب ومن الإيمان بما جاء به الرسول إذ لا تلازم بين الرد وبقاء ذلك الأمر الحادث، ومنهم من يتمناه ليكون سببا للإيمان وعدم التكذيب، ومنهم من يعد بذلك وعدا، وهذا الاختلاف في كيفيات ذلك التمني أقرب إلى الحصول من اتفاق أولئك الكفار الكثيرين على كيفية واحدة مما يدل عليه اختلاف القراءات، لأنه هو المعهود من البشر. ولعلهم يتمنون ذلك جاهلين أنه محال، على أن الناس يتمنون المحال ولو على سبيل التحسر.
﴿ ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين ٢٧ بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون ٢٨ ﴾
بين الله تعالى لنا في الآيتين اللتين قبل هاتين حال من فقدوا الاستعداد للإيمان من المشركين الظالمين لأنفسهم، وخص بالذكر طائفة منهم وهي التي تلقي السمع مصغية للقرآن ولا يدخل من باب سمعها إلى بيت قلبها شيء منه، لما على القلب من أكنة التقليد، والاطمئنان بالشرك التليد، والاستنكار لكل شيء جديد ؛ فهم يستمعون ولا يسمعون، ولا يكتفون بذلك بل ينهون عنه وينأون وهم ناؤون منتهون، وما يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون. ثم بين في هاتين الآيتين بعض ما يكون من أمرهم وأمر أمثالهم يوم القيامة، وقفى عليه ببيان كنه حالهم في فقد الاستعداد للإيمان، وأنه بلغ مبلغا لا يؤثر فيه كشف الغطاء ورؤية العيان.
قال تعالى مبينا كنه حالهم وما ظهر لهم منه في الآخرة وما يقتضي أن يكونوا عليه في الدنيا لو ردوا إليها :
﴿ بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ﴾ قالوا إن الإضراب في هذه الآية إضراب عما يدل عليه تمنيهم من إدراكهم لقبح الكفر وسوء مغبته، ولحقية الإيمان وحسن عاقبته، وعزمهم على الإيمان وترك التكذيب لو أعطوا ما تمنوا من الرد إلى الدنيا ووعدهم بذلك نصا أو ضمنا، كأنه يقول ليس الأمر كما يوهمه كلامهم في التمني بل ظهر لهم ما كانوا يخفونه في الدنيا وفيه أقوال :
١- أنه أعمالهم السيئة وقبائحهم الشائنة، ظهرت لهم في صفائحهم، وشهدت بها عليهم جوارحهم.
٢- أنه أعمالهم التي كانوا يغترون بها، ويظنون أن سعادتهم فيها، إذ يجعلها الله تعالى هباء منثورا.
٣- أنه كفرهم وتكذيبهم الذي أخفوه في الآخرة من قبل أن يوقفوا على النار كما تقدم حكايته عنهم في قوله :﴿ ثم لم تكن فتنتهم إلا قالوا والله ربنا ما كنا مشركين ﴾ [ الأنعام : ٢٣ ].
٤- أنه الحق أو الإيمان الذي كانوا يسرونه ويخفونه بإظهار الكفر والتكذيب عنادا للرسول واستكبارا عن الحق، وهذا إنما ينطبق على أشد الناس كفرا من المعاندين المتكبرين الذين قال في بعضهم ﴿ وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا ﴾ [ النمل : ١٤ ].
٥- أنه ما كان يخفيه الرؤساء عن أتباعهم من الحق الذي جاءت به الرسل – بدا للأتباع الذين كانوا مقلدين لهم، ومنه كتمان بعض علماء أهل الكتاب لرسالة نبينا صلى الله عليه وسلم وصفاته وبشارته وبشارة أنبيائهم به.
٦- أنه ما كان يخفيه المنافقون في الدنيا من أسرار الكفر والتظاهر بالإيمان والإسلام.
٧- أنه البعث والجزاء ومنه عذاب جهنم، وأن إخفاءهم له عبارة عن تكذيبهم به، وهو المعنى الأصلي لمادة كفر.
٨- أن في الكلام مضافا محذوفا، أي بدا لهم وبال ما كانوا يخفونه من الكفر والسيئات ونزل بهم عقابه فتبرموا وتضجروا وتمنوا التفصي منه بالرد إلى الدنيا وترك ما أفضى إليه من التكذيب بالآيات وعدم الإيمان، كما يتمنى الموت من أمضه الداء العضال لأنه ينقذه من الآلام، لا لأنه محبوب في نفسه.
ونحن لا نرى رجحان قول من هذه الأقوال بل الصواب عندنا قول آخر.
٩- وهو أنه يظهر يومئذ لكل من أولئك الذين ورد الكلام فيهم ولأشباههم من الكفار ما كان يخفيه في الدنيا مما هو قبيح في نظره أو نظر من يخفيه عنهم، فالذين كفروا عنادا واستكبارا كالرؤساء الذين ظهر لهم الحق كانوا يخفون ذلك الحق، ومنهم بعض علماء أهل الكتاب – والمنافقون الذين أظهروا الإيمان جبنا وضعفا أو مكرا وكيدا، كانوا يخفون الكفر عن المؤمنين – وأصحاب الأعمال القبيحة من الفواحش والمنكرات يخفونها عمن لا يقترفها معهم – والذين يعتذرون عن ترك الواجبات بالأعذار الكاذبة يخفون حقيقة حالهم عمن يعتذرون إليهم، والمقلدون يخفون في أنفسهم ما يلوح فيها أحيانا من برق الدليل المظهر لما كمن، في أعماق الفطرة من الحق، سواء أومض ذلك البرق من آيات الله في الآفاق، وألسنة حملة الحجة والبرهان، أو من آيات الله في أنفسهم، قبل أن تحيط بهم خطيئتهم ويختم على قلوبهم، وهؤلاء المقلدون العميان هم الذين بينت الآيات حالهم في الدنيا، وإنما جعلنا ما تلا ذلك من بيان حالهم في الآخرة عاما لكل من مات على الكفر لتساويهم فيه وعدم استفادة أحد منهم من استعداده للإيمان، لعدم استعمالهم لذلك الاستعداد.
وقد يعم الإخفاء للشيء ما كان منه بالقصد إليه والإرادة له في ذاته، وما كان ظاهرا في نفسه وخفي عن أهله بأعمال وتقاليد لهم عدوا بها مخفين له، كالعقائد والفضائل التي أودعت في الفطرة، ودلت عليها آيات الله البينة، وأعرض عنها الضالون والتزموا ما يضادها فأخفوها بذلك حتى عن أنفسهم، فإذا كان يوم الله الذي تبلى فيه السرائر، وتنكشف جميع الحقائق، وتشهد على الناس الأعضاء والجوارح، إذ تنشر كتب الأعمال، التي كانت مطوية في زوايا الأرواح، فتتمثل لكل فرد أعماله النفسية والبدنية كلها، في كتابه الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، كما تتمثل الوقائع المصورة، في المنظرة التي يعرض فيها ما يعرف الآن بالصور المتحركة، فإن حفظ ألواح الأنفس المدركة لما ترسمه وتطبعه العقائد والأعمال فيها، أقوى وأثبت من حفظ ألواح الزجاج الحساسة لما يرسمه ويطبعه نور الشمس عليها، وعرض الصور الشمسية في الدنيا دون عرض الصور النفسية في الآخرة.
وبهذا البيان تعلم أن كل أحد يظهر له في الآخرة كل ما كان خفيا عنه من خير نفسه وشرها، ﴿ يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية ﴾ [ الحاقة : ١٨ ] أي لا تخفى على أنفسكم، فضلا عن خفائها على ربكم. وقد خص بالذكر هنا بدو ما كان يخفيه الكفار، ولكل مقام مقال، بين الله تعالى لنا أن تمني أولئك الكفار لما تمنوا لا يدل على تبدل حقيقتهم، بل بدا لهم ما كان خفيا عنهم منها، بإخفائهم إياه عن الناس أو عنها، ﴿ وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون وبدا لهم سيئات ما كسبوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون ﴾ [ الزمر : ٤٧، ٤٨ ] فتمنوا الخروج مما حاق بهم، ولكن الحقيقة لا تتغير، وإنما يكون لها أطوار، تختلف باختلاف الأحوال والأوطار.
﴿ ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ﴾ من الشرك والكفر والنفاق والكيد والمكر والمعاصي، لأن مقتضى ذلك من أنفسهم ثابت فيها، وما دامت العلة ثابتة فإن أثرها وهو المعلول لا يتخلف عنها، ﴿ وإنهم لكاذبون ( ٢٨ ) ﴾ فيما تضمنه تمنيهم من الوعد بترك التكذيب بآيات الله، وبالكون من المؤمنين بالله ورسوله، سواء علموا حين تمنوا ووعدوا أنهم كاذبون في هذا الوعد أم لم يعلموا، فلو ردوا إلى الدنيا لرد المعاند المتكبر منهم مشتملا بكبره وعناده، وكل من الماكر والمنافق مرتديا بمكره ونفاقه، والمقلد مقيدا بتقليده لغيره، وعدم ثقته بفهمه وعلمه، والشهواني ملوثا بشهواته المالكة لرقه. وأما ما ظهر لهم إذ وقفوا على النار من حقية ما جاء به الرسل، فإنما مثله كمثل ما كان يلوح لهم في الدنيا من البينات والعبر، ألم تر كيف يكابرون فيها أنفسهم، ويغالطون عقلهم ووجدانهم، ويمارون مناظريهم وأخدانهم، يشرب الفاسق الخمر فيصدع، أو يلعب بالقمار فيخسر، ويأكل المريض أو ضعيف البنية الطعام الشهي أو يكثر منه فيتضرر، ويرى غير هؤلاء من المخالفين لشرع الله المنزل بالحق، أو لسننه الثابتة التي أقام بها نظام الخلق، ما حل من الشقاء بغيره ممن سبقه إلى مثل عمله – فيندم كل واحد ممن ذكرنا ويتوب، ويعزم على أن لا يعود، وإنما يكون هذا عند فقد داعية العمل، ووجود داعية الترك، فإذا عادت الداعية إلى العمل عاد إليه خضوعا لما اعتاد وألف، وترجيحا لما يلذ على ما ينفع.
ومن وقائع العبر في ذلك ما حدث لأخ لي عملت له عملية جراحية خدر قبلها البنج ( كلورفورم ) فكان من تأثيره فيه أنه شعر بأن روحه تسل من بدنه، وقد طال الأمد على اندمال جرحه، وكان قبل ظهور أمارات الشفاء منه يخاف أن يذهب بنفسه، فيندم ويتحسر على ما كان منه من التفريط والتقصير في الواجبات، وإضاعة الأوقات الطويلة في البطالة واللهو وإن كان من المباحات، وعزم على الجد والتشمير فيما بقي من عمره، إن عافاه الله من مرضه، حتى عزم على الاستمرار على ترك شرب الدخان، الذي منعه الطبيب منه في أثناء أخذه بالعلاج، ولكنه لما عاد إلى مثل ما كان عليه من الصحة على أنها لم تكن سابغة، عاد كذلك لجميع أعماله وعاداته السابقة، على أنه تذكر من تلقاء نفسه هذه الآية :﴿ ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ﴾ وعد ما وقع له شاهدا لها، ومثالا تعرف به حقيقة تفسيرها.
ويستنبط من الآية أن الطريقة المثلى لإقامة الناس على صراط الحق والفضيلة إنما هي حملهم على ذلك بالعمل والتعويد، مع التعليم وحسن التلقين، كما يربى الأطفال في الصغر، وكما يمرن الرجال على أعمال العسكر، وأن من أكبر الخطأ أن يسمح للأحداث بطاعة شهواتهم وإتباع أهوائهم بشبهة تربيتهم على الحرية والاستقلال، الذي يهديهم إلى الحق والفضيلة بما يفيدهم العلم في سن الرشد من الاقتناع بطريق الاستدلال. أقول : إن هذا من أكبر الخطأ – وأنا عالم بفضل التربية الاستقلالية ومن الدعاة إليها – لأنه قلما يوجد في الناس من يتبع هواه وشهواته في الصغر، ثم يرجع عن ذلك كله في الكبر، بعد أن يصير ملكة وعادة له، لقيام الدليل عنده على أنه ينافي الحق أو العدل والفضيلة. وإنما يقع مثل هذا من أفراد من الناس خلقوا مستعدين للحكمة، بما أوتوا من سلامة الفطرة وقوة العزيمة، أو من إتباع الرسل في زمن البعثة.
وأكثر البشر مسخرون لعادتهم، منقادون لما ألفوا في أول نشأتهم، لا يخالفون ذلك إلا قليلا، يتكلفون المخالفة تكلفا عند عروض ما يقتضي ذلك، فإذا زال المقتضي عادوا إلى عادهم وشنشنتهم، وعملوا على سابق شاكلتهم ؛ وإنما تربية الصغار على ما عرف من الحق وتقرر من أصول الفضيلة والأدب، كتربيتهم على النظافة ومراعاة قوانين الصحة، لا يشترط أن يعرفوا من أول النشأة فائدة ذلك بالدليل والبرهان، وتأخير تلقينهم هذه الفائدة إلى وقت الاستعداد لها في الكبر لا ينافي تربية الاستقلال، وأوضح الشواهد والأمثلة المعروفة على ما قلنا فشو السكر في أمم الإفرنج ومقلدتهم من الشرقيين، فإن أكثرهم يعلمون أنه ضار قبيح، ولا يكاد يوجد في مئة الألف منهم واحد يتركه، بعد أن اعتاده وأدمنه، لاقتناعه بضرره بما ثبت من الدلائل الطبية، والتجارب القطعية.
﴿ وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين ٢٩ ولو ترى إذ وقفوا على ربهم قال أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ٣٠ قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون ٣١ وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون ٣٢ ﴾
بين الله تعالى لنا في هذه الآيات شأنا آخر من شؤون الكفار المكذبين بآياته في الدنيا وهو غرورهم بها، وافتتانهم بمتاعها، وإنكارهم البعث والجزاء، وما يقابله من حالهم في الآخرة يوم يكشف الغطاء، وهو ما يكون من حسرتهم وندمهم عل تفريطهم السابق، وافتتانهم بذلك المتاع الزائل، وقفى عليه ببيان حقيقة الدنيا والمقابلة بينها وبين الآخرة.
فقال عز من قائل :
﴿ وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين ( ٢٩ ) ﴾ قيل إن هذه الآية تتمة لما سبقها، وأن « قالوا » فيها معطوف على « عادوا » فيما قبلها، أي لو رد أولئك إلى الدنيا لعادوا لما نهوا عنه من الكفر والأعمال، وصرحوا ثانية بما كانوا عليه من إنكار البعث والجزاء، والظاهر المختار ما بيناه آنفا، فالعطف فيه عطف جمل مستأنف، و ( إن ) في ابتداء مقول القول نافية بمعنى « ما » أي وقال أولئك المشركون : ما الحياة إلا حياتنا الدنيا لا حياة بعدها، وما نحن بمبعوثين بعد الموت. وسنذكر ما يستلزمه هذا الاعتقاد من الشر والفساد في آخر تفسير هذه الآيات.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:هذا وإننا قد وعدنا بأن نبين في آخره تفسير هذه الآيات ما يترتب على إنكار البعث والجزاء من فساد الفطرة البشرية المفضي إلى الشرور الكثيرة فنقول : إن الكفر بالبعث والجزاء، واعتقاد أنه لا حياة بعد هذه الحياة، يجعل هم الكافر محصورا في الاستمتاع بلذات الدنيا وشهواتها البدنية والنفسية كالجاه والرياسة والعلو في الأرض ولو بالباطل وهو ما يسمونه الشرف، ومن كان كذلك يكون في اتباع هواه ولذاته الشهوانية أسفل من البهائم كالبقر والقردة والخنازير، وفي اتباعه لهواه في لذته الغضبية أضرى وأشد أذى من الوحوش الضارية المفترسة كالذئاب والنمور، وفي اتباعه لهواه و لذته النفسية شرا من الشياطين، يكيد بعضهم لبعض ويفترس بعضهم بعضا، لا يصدهم عن باطل ولا شر يهوونه إلا العجز، ولا يرجعون إلى حكم يفصل بينهم إلا القوة التي جعلوها فوق الحق، وطالما غشوا أنفسهم وفتنوا غيرهم في هذا الزمان، بما كان من تأثير التوازن في القوى من منع كثير من البغي والعدوان، الذي كان يصول به قوي الأمم على ضعيفها، والحكومات الجائرة على رعيتها، فزعموا أن الحضارة المادية، والعلوم والفنون البشرية، هي التي تفيض روح الكمال على الإنسان، إذا لم يؤمن بالبعث والجزاء بل ولا بالإله الديان، واستدلوا على ذلك بما أجمعت عليه أممهم ودولهم من ذم الحرب، والتفاخر ببناء سياستهم على أمتن قواعد السلم. وزعموا أن الباعث لهم على ذلك حب الإنسانية، والرغبة في العروج بجميع البشر إلى قمة السعادة المدنية.
فإن قيل : فما بالكم تسابقون إلى استذلال الأمم الضعيفة في الشرق، وتسخرونها لمنافعكم وتوفير ثروتكم بغير حق ؟ قالوا : كلا إنما نريد أن نخرجها من ظلمات الهمجية والجهل، لتشاركنا فيما نحن فيه من نور الحضارة والعلم. فإن قيل : فما بالنا نراها لم تنل من علومكم إلا بعض القشور، ولم تستفد من مدينتكم إلا الفسق والفجور ؟ قالوا إنما ذلك لضعف الاستعداد، وما تمكن في نفوس هذه الشعوب من الفساد، على أننا خير لها من حكامها الأولين، بما قمنا به من حفظ الأمن وتوفير أسباب النعيم للعاملين ! ذلك شأنهم لا تقام عليهم حجة، إلا ويقابلونها بشبهة تؤيدها القوة، وقد قوضت الحرب المشتعلة نارها في أوروبا هذه الأعوام، جميع ما بنيت عليه هذه الشبهات من المزاعم والأوهام، إذ رأينا فيها أرقى أهل الأرض في الحضارة والعلوم والفلسفة يخربون بيوتهم بأيديهم، ويقوضون صروح مدينتهم بمدافعهم، ويستعينون بكل ما ارتقوا إليه من العلوم والفنون والصناعات والحكمة والنظام، لإهلاك الحرث والنسل وتخريب العمران، بمنتهى القسوة والشدة، التي لا تشوبها عاطفة رأفة ولا رحمة، ولو كان من بأيديهم أزمة الأمور منهم يؤمنون بالله واليوم الآخر وما فيه من الحساب والجزاء بالحق، لما انتهوا في الطغيان إلى هذا الحد.
نعم إن هذه الشعوب كانت تتقاتل لنصر المذهب أو الدين، في القرون التي كانت تعمل فيها كل شيء باسم الدين، ولكنها لم تصل في التقتيل والتخريب في ذلك الزمان، إلى عشر معشار ما هي عليه الآن، وإن كانوا يسمون هذا العصر عصر النور وتلك العصور بعصور الظلمات، على أن الرؤساء كانوا يتخذون اسم الدين وتأويل نصوصه وسيلة لأهوائهم التي ليست من الدين في شيء، كما يعلم جميع علماء هذا العصر، ومن العجائب أن أقسى أهل هذه الحرب وأشدهم تخريبا وتدميرا هم الذين يزعمون أنهم يحاربون لله وأن الله معهم على أعدائهم. وإنما الحرب الدينية الصحيحة حرب الأنبياء والخلفاء الراشدين، ومن على مقربة من سيرتهم من الملوك الصالحين، ولم يكن يستحل في شيء منها ما يستحل الآن من القسوة والتخريب. وقد فصلنا في المنار القول في المقابلة بين هذه الحرب المدنية، وحروب المسلمين الدينية، التي كانت دفاعا عن النفس، وتقريرا للحق والعدل، والمساواة في الحقوق بين أصناف الخلق، يسيرون فيها على القواعد الشرعية العادلة في الضرورات ككونها تبيح ما ضرره دون ضررها، وكونها تقدر بقدرها، وتراعى فيها الرحمة، لا العدل وحده، وقد شهد بذلك لسلفنا أعلم حكماء الإفرنج بتاريخنا [ غوستاف لوبون ] فقال كلمة حق حقيقة بأن تكتب بماء الذهب، وهي :« ما عرف التاريخ فاتحا أعدل ولا أرحم من العرب».
وجملة القول إن شبهات المفتونين بالمدنية المادية قد دحضت بهذه الحرب الساحقة وقويت بها حجة أهل الدين عليهم، بل تنبه بها الشعور الديني في الجم الغفير من الأوروبيين حتى الفرنسيس منهم، بعد أن كانوا قد نبذوه وراء ظهورهم، وآثروا عليه الشهوات البدنية الحقيرة، حتى ضاقت بهم المعابد التي كانت مهجورة، قلما تفتح أبوابها وقلما يلم بها أحدا إن فتحت. وذلك شأن المسرفين في أمرهم من الناس، لا يتوجهون إلى خالقهم إلا عند الشدة والبأس، ﴿ وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما، فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون ﴾ [ يونس : ١٢ ].

﴿ وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين ٢٩ ولو ترى إذ وقفوا على ربهم قال أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ٣٠ قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون ٣١ وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون ٣٢ ﴾
بين الله تعالى لنا في هذه الآيات شأنا آخر من شؤون الكفار المكذبين بآياته في الدنيا وهو غرورهم بها، وافتتانهم بمتاعها، وإنكارهم البعث والجزاء، وما يقابله من حالهم في الآخرة يوم يكشف الغطاء، وهو ما يكون من حسرتهم وندمهم عل تفريطهم السابق، وافتتانهم بذلك المتاع الزائل، وقفى عليه ببيان حقيقة الدنيا والمقابلة بينها وبين الآخرة.
﴿ ولو ترى إذ وقفوا على ربهم ﴾ تقدم تفسير مثل هذا التعبير قريبا. ووقفهم على ربهم عبارة عن وقف الملائكة إياهم في الموقف الذي يحاسبهم فيه ربهم، وإمساكهم فيه إلى أن يحكم بما شاء فيهم، فهو من قبيل :
وقوفا بها صحبي علي مطيهم١
أي يقفون مطيهم عندي وقوفا، ولا يشترط في هذا أن يكونوا في مكان أعلى من المكان الذي هو فيه. أو المعنى يحبسونها علي بإمساكها عندي. وإنما عدي الوقف والوقوف الذي بهذا المعنى بعلى – وكذا الحبس والإمساك الذي فسر به – لدلالته على معنى القصر، قال تعالى :﴿ فكلوا مما أمسكن عليكم ﴾ [ المائدة : ٤ ] أي مما أمسكته الجوارح مقصورا عليكم فلم تأكل منه لأجلكم، وكذلك حبس العقار ووقفه على الفقراء وسائر وجوه البر فيه معنى قصره على ذلك. والذين تقفهم الملائكة وتحبسهم في موقف الحساب امتثالا لأمر الله تعالى، أو يكون أمرهم مقصورا على الله تعالى لا يتصرف فيه غيره ﴿ يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله ﴾ [ الإنفطار : ١٩ ] وإنما أطلت في بيان كون استعمال وقف هنا متعديا بعلى ما تقدم قريبا في تفسير قوله تعالى :﴿ وقفوا على النار ﴾ [ الأنعام : ٢٧ ] لأن المفسرين اضطربوا في التعدية هنا فحمل الكلام بعضهم على التمثيل وبعضهم على الكناية وبعضهم على مجاز الحذف أو على غيره من أنواع المجاز، وجعله بعضهم من الوقوف على الشيء معرفة وعلما، وجاء بعضهم بتأويلات أخرى لا حاجة إلى ذكرها.
بينا آنفا في تفسير ﴿ ولو ترى إذ وقفوا على النار ﴾ أن جواب " لو " لتذهب النفس في تصوره كل مذهب يقتضيه المقام. وللإيذان بأنه لا يحيط به نطاق الكلام، ومن شأن السامع لمثل هذا أن ينتظر بيانا لما يقع في تلك الحال، فإن لم يوافه المتكلم به، توجهت نفسه إلى السؤال عنه، فلهذا جاء البيان جوابا لسؤال مقدر وهو قوله تعالى :﴿ قال أليس هذا بالحق ﴾ إدخال الباء على الحق يفيد تأكيد المعنى أي قال لهم ربهم أليس هذا الذي أنتم فيه من البعث هو الحق لا ريب فيه ؟ ﴿ قالوا بلى وربنا ﴾ أي بل هو الحق الذي لا ريب فيه ولا باطل يحوم حوله، اعترفوا وأكدوا اعترافهم باليمين، فشهدوا بذلك على أنفسهم أنهم كانوا كافرين، فبماذا أجابهم رب العالمين ؟ ﴿ قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ( ٣٠ ) ﴾ أي إذا كان الأمر كذلك فذوقوا العذاب الذي كنتم به تكذبون، بسبب كفرهم الذي كنتم عليه دائمون.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:هذا وإننا قد وعدنا بأن نبين في آخره تفسير هذه الآيات ما يترتب على إنكار البعث والجزاء من فساد الفطرة البشرية المفضي إلى الشرور الكثيرة فنقول : إن الكفر بالبعث والجزاء، واعتقاد أنه لا حياة بعد هذه الحياة، يجعل هم الكافر محصورا في الاستمتاع بلذات الدنيا وشهواتها البدنية والنفسية كالجاه والرياسة والعلو في الأرض ولو بالباطل وهو ما يسمونه الشرف، ومن كان كذلك يكون في اتباع هواه ولذاته الشهوانية أسفل من البهائم كالبقر والقردة والخنازير، وفي اتباعه لهواه في لذته الغضبية أضرى وأشد أذى من الوحوش الضارية المفترسة كالذئاب والنمور، وفي اتباعه لهواه و لذته النفسية شرا من الشياطين، يكيد بعضهم لبعض ويفترس بعضهم بعضا، لا يصدهم عن باطل ولا شر يهوونه إلا العجز، ولا يرجعون إلى حكم يفصل بينهم إلا القوة التي جعلوها فوق الحق، وطالما غشوا أنفسهم وفتنوا غيرهم في هذا الزمان، بما كان من تأثير التوازن في القوى من منع كثير من البغي والعدوان، الذي كان يصول به قوي الأمم على ضعيفها، والحكومات الجائرة على رعيتها، فزعموا أن الحضارة المادية، والعلوم والفنون البشرية، هي التي تفيض روح الكمال على الإنسان، إذا لم يؤمن بالبعث والجزاء بل ولا بالإله الديان، واستدلوا على ذلك بما أجمعت عليه أممهم ودولهم من ذم الحرب، والتفاخر ببناء سياستهم على أمتن قواعد السلم. وزعموا أن الباعث لهم على ذلك حب الإنسانية، والرغبة في العروج بجميع البشر إلى قمة السعادة المدنية.
فإن قيل : فما بالكم تسابقون إلى استذلال الأمم الضعيفة في الشرق، وتسخرونها لمنافعكم وتوفير ثروتكم بغير حق ؟ قالوا : كلا إنما نريد أن نخرجها من ظلمات الهمجية والجهل، لتشاركنا فيما نحن فيه من نور الحضارة والعلم. فإن قيل : فما بالنا نراها لم تنل من علومكم إلا بعض القشور، ولم تستفد من مدينتكم إلا الفسق والفجور ؟ قالوا إنما ذلك لضعف الاستعداد، وما تمكن في نفوس هذه الشعوب من الفساد، على أننا خير لها من حكامها الأولين، بما قمنا به من حفظ الأمن وتوفير أسباب النعيم للعاملين ! ذلك شأنهم لا تقام عليهم حجة، إلا ويقابلونها بشبهة تؤيدها القوة، وقد قوضت الحرب المشتعلة نارها في أوروبا هذه الأعوام، جميع ما بنيت عليه هذه الشبهات من المزاعم والأوهام، إذ رأينا فيها أرقى أهل الأرض في الحضارة والعلوم والفلسفة يخربون بيوتهم بأيديهم، ويقوضون صروح مدينتهم بمدافعهم، ويستعينون بكل ما ارتقوا إليه من العلوم والفنون والصناعات والحكمة والنظام، لإهلاك الحرث والنسل وتخريب العمران، بمنتهى القسوة والشدة، التي لا تشوبها عاطفة رأفة ولا رحمة، ولو كان من بأيديهم أزمة الأمور منهم يؤمنون بالله واليوم الآخر وما فيه من الحساب والجزاء بالحق، لما انتهوا في الطغيان إلى هذا الحد.
نعم إن هذه الشعوب كانت تتقاتل لنصر المذهب أو الدين، في القرون التي كانت تعمل فيها كل شيء باسم الدين، ولكنها لم تصل في التقتيل والتخريب في ذلك الزمان، إلى عشر معشار ما هي عليه الآن، وإن كانوا يسمون هذا العصر عصر النور وتلك العصور بعصور الظلمات، على أن الرؤساء كانوا يتخذون اسم الدين وتأويل نصوصه وسيلة لأهوائهم التي ليست من الدين في شيء، كما يعلم جميع علماء هذا العصر، ومن العجائب أن أقسى أهل هذه الحرب وأشدهم تخريبا وتدميرا هم الذين يزعمون أنهم يحاربون لله وأن الله معهم على أعدائهم. وإنما الحرب الدينية الصحيحة حرب الأنبياء والخلفاء الراشدين، ومن على مقربة من سيرتهم من الملوك الصالحين، ولم يكن يستحل في شيء منها ما يستحل الآن من القسوة والتخريب. وقد فصلنا في المنار القول في المقابلة بين هذه الحرب المدنية، وحروب المسلمين الدينية، التي كانت دفاعا عن النفس، وتقريرا للحق والعدل، والمساواة في الحقوق بين أصناف الخلق، يسيرون فيها على القواعد الشرعية العادلة في الضرورات ككونها تبيح ما ضرره دون ضررها، وكونها تقدر بقدرها، وتراعى فيها الرحمة، لا العدل وحده، وقد شهد بذلك لسلفنا أعلم حكماء الإفرنج بتاريخنا [ غوستاف لوبون ] فقال كلمة حق حقيقة بأن تكتب بماء الذهب، وهي :« ما عرف التاريخ فاتحا أعدل ولا أرحم من العرب».
وجملة القول إن شبهات المفتونين بالمدنية المادية قد دحضت بهذه الحرب الساحقة وقويت بها حجة أهل الدين عليهم، بل تنبه بها الشعور الديني في الجم الغفير من الأوروبيين حتى الفرنسيس منهم، بعد أن كانوا قد نبذوه وراء ظهورهم، وآثروا عليه الشهوات البدنية الحقيرة، حتى ضاقت بهم المعابد التي كانت مهجورة، قلما تفتح أبوابها وقلما يلم بها أحدا إن فتحت. وذلك شأن المسرفين في أمرهم من الناس، لا يتوجهون إلى خالقهم إلا عند الشدة والبأس، ﴿ وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما، فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون ﴾ [ يونس : ١٢ ].


١ عجزه:
يقولون: لا تهلك أسى وتجمل
والبيت من الطويل، وهو لامرئ القيس في ديوانه ص ٩، وبلا نسبة في رصف المباني ص ٢٦٨..

﴿ وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين ٢٩ ولو ترى إذ وقفوا على ربهم قال أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ٣٠ قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون ٣١ وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون ٣٢ ﴾
بين الله تعالى لنا في هذه الآيات شأنا آخر من شؤون الكفار المكذبين بآياته في الدنيا وهو غرورهم بها، وافتتانهم بمتاعها، وإنكارهم البعث والجزاء، وما يقابله من حالهم في الآخرة يوم يكشف الغطاء، وهو ما يكون من حسرتهم وندمهم عل تفريطهم السابق، وافتتانهم بذلك المتاع الزائل، وقفى عليه ببيان حقيقة الدنيا والمقابلة بينها وبين الآخرة.
ثم قفى على ذكر ما ربحوا من الشقاء والعذاب، ببيان ما خسروا من السعادة والثواب- وإنما هو خسر على خسر – فقال :﴿ قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله ﴾ أي خسر أولئك الكفار الذين كذبوا بلقاء الله تعالى كل ما ربحه وفاز به المؤمنون بلقائه من ثمرات الإيمان وعبادة الله ومناجاته في الدنيا كالقناعة والإيثار والرضاء من الله في كل حال، والشكر له عند النعمة، والصبر والعزاء والطمأنينة عند المصيبة، وغير ذلك من المزايا التي تصغر معها المصائب والشدائد، ويكبر قدر النعم والمواهب. ومن ثمرات الإيمان في الآخرة من الحساب اليسير، والثواب الكبير، والرضوان الأكبر، وهو ﴿ ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ﴾ كل ذلك مما يخسره المكذبون بلقاء الله بسبب تكذيبهم، لأنهم يخسرون في الحقيقة أنفسهم، وإنما حذف مفعول « خسر » للدلالة على ذلك كله، وجعل فاعله موصولا لدلالة صلته على سبب الخسران، لأن التكذيب بلقاء الله تعالى يستلزم ما سيأتي بيانه من الأعمال والأحوال التي تفسد النفس، ومن خسر نفسه بفسادها خسر كل شيء.
﴿ حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة ﴾ أي كذبوا إلى أن جاءتهم الساعة مباغتة مفاجئة، وقيل إن الغاية للخسران بقصره على ما كان منه في الدنيا. والساعة في أصل اللغة الزمن القصير المعين بعمل يقع فيه، يقال جلست إليه ساعة وغاب عني ساعة. وأطلق في كتب الدين على الوقت الذي ينقضي به أجل هذه الحياة ويخرب هذا العالم وإنما يكون ذلك في زمن قصير. وعلى ما يلي ذلك من البعث والحساب وهو يوم القيامة، فإن كان إطلاقه عليه بالتبع لإطلاقه على ساعة خراب العالم فذاك، وإلا كان وجه تسميته ساعة باعتبار سرعة الحساب فيه ( راجع ج٢ تفسير ) أو بالإضافة إلى ما بعده – قولان : وهذه الساعة ساعة هذا العالم كله، ومن دونها ساعة كل فرد وقيامته وهو الوقت الذي يموت فيه ويقدم على ذلك العالم، وكذا ساعة الأمة أو الجيل ؛ ولذلك قالوا إن القيامة ثلاث كبرى ووسطى وصغرى، وقد تقدم هذا البحث في الجزء الخامس من التفسير.
وفسر الراغب الساعة هنا بالقيامة الصغرى، إذ هو الذي ينطبق على الكفار الذين نزلت فيهم هذه الآيات والقيامة الكبرى إنما تقوم على آخر من يكون من الخلق على هذه الأرض. والجمهور يفسرونها بالقيامة الكبرى وهي باعتبار غايتها – وهو يوم يقوم الناس لرب العالمين – تصدق على من نزلت الآية فيهم وعلى غيرهم، وباعتبار بدايتها تصدق على آخر من يعيش في الدنيا فقط. ويرون أن البغتة لا تظهر في موت الأفراد لما يكون له في الغالب من المقدمات والعلامات التي يعرف بها وقته في الجملة.
وقد ذكر مجيء الساعة بغتة في عدة آيات غير هذه يتعين أن يكون بها القيامة الكبرى العامة، وهي التي ورد في الكتاب والسنة أن الله تعالى أخفى علمها عن كل أحد حتى الرسل والملائكة. وأما قوله تعالى :﴿ وما تدري نفس بأي أرض تموت ﴾ [ لقمان : ٣٤ ] فلا يدل على مجيء الموت بغتة ولا على جهل كل أحد بوقته فقد يعرف بأسبابه كالأمراض والجروح. وقد يقال إن المرض ونحوه لا يدل على الموت مهما يكن شديدا، فكم من مريض جزم الأطباء بأنه لا يعيش إلا أياما أو ساعات قد شفي من مرضه ذاك وعاش بعده عدة أعوام، على أن المريض لا ييأس من الحياة ما دام فيه رمق، فبهذا الاعتبار يصح أن يقال فيه موت الفجأة، ومن لم يجئه الموت فجأة جاءه المرض الذي يعقبه الموت فجأة ولات حين استعداد، ولا رجوع عن شرك وإلحاد، بل يموت المرء على ما عاش عليه، ويبعث على ما مات عليه، ويندر أن يظهر لأحد في مرض مماته، ضلاله الذي عاش عليه طول حياته، ولا ينكشف الغطاء عن الإنسان ويعلم أنه فارق هذه الحياة إلى العالم الآخر إلا عند خروج روحه من بدنه، وحينئذ يتحسر المفرطون، ويندم المجرمون، ثم تتجدد الحسرة في موقف الحساب، وتتضاعف عند حلول العذاب.
﴿ قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها ﴾ هذا جواب « إذا » أي قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وأصروا على ذلك حتى إذا جاءتهم منيتهم وهي بالنسبة إليهم مبدأ الساعة العامة، والمرحلة الأولى من مقدمات القيامة، مفاجئة لهم من حيث لم يكونوا ينتظرونها، ولا يحسبون حسابا ولا يعدون عدة لمجيئها، قالوا : يا حسرتنا على تفريطنا ! هذا أوانك فاحضري، وبرحي بالأنفس ما شئت أن تبرحي ؛ والحسرة – كما قال الراغب – الغم على ما فات والندم عليه، كأن المتحسر قد انحسر ( أي زال وانكشف ) عنه الجهل الذي حمله على ما ارتكبه، أو انحسرت عنه قواه من فرط الغم، أو أدركه إعياء عن تدارك ما فرط منه. ونداء الحسرة فسره سيبويه بالمعنى الذي بيناه آنفا.
وقال الزجاج : إن معنى حرف النداء تنبيه المخاطبين، وقيل بل المراد به تنبيه المتكلم لنفسه، وتذكيرها بسبب ما حل به. والتفريط التقصير، ممن قدر على الجد والتشمير، وهو من الفرط بمعنى السبق ومنه الفارط والفرط الذي يسبق المسافرين لإعداد الماء لهم. والتضعيف فيه للسلب والإزالة كجلدت البعير إذا سلخت جلده وأزلته عنه. فيكون معنى التفريط الحقيقي عدم الاستعداد لما ينفع في المستقبل كتقديم الفرط. أي يا حسرتنا وغمنا وندمنا على ما كان من تفريطنا فيها أي في حياتنا الدنيا، التي كنا نزعم أن لا حياة لنا بعدها، أو في الساعة أو ما هي مفتاح له من الدار الآخرة وهي تشمل الجنة والنار، وقد جعلها بعضهم مرجعين مستقلين، أي على تفريطنا في شأنها بعدم الاستعداد لها بالإيمان والعمل الصالح، وقيل إن الضمير للأعمال الصالحات المفهومة من كلمة « فرطنا » لإن التقصير إنما يكون في العمل. وقيل للصفقة المفهومة من كلمة « خسر » وهي بيعهم الآخرة بالدنيا. وهذا أضعف الأقوال، وأقواها أولها، وهو مروي عن ابن عباس رضي الله عنه.
ومن غرائب غفلات المفسرين ما نقله بعض أذكيائهم عن بعض من دعوى أن مرجع الضمير في هذا القول غير مذكور في كلامهم، على كونه هو المذكور فيه دون سواه من المراجع الثلاثة الأخرى. ولكنهم ذهلوا عن قوله تعالى حكاية عنهم ﴿ وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا ﴾ الخ وعن كون ما بعده بيانا لعاقبته وما ترتب عليه لا سياقا جديدا مستقلا، وأما الساعة فهي مذكورة فيما حكاه الله من شأنهم لا عنهم، فكان عود الضمير عليها في المرتبة الثانية من القوة.
﴿ وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ﴾ الأوزار جمع وزر وهو بالكسر الحمل الثقيل، ووزره ( بوزن وعده ) حمله على ظهره، ويطلق الوزر على الإثم والذنب، لأن ثقله على النفس كثقل الحمل على الظهر، وهو المراد في الآية، وجعل الذنوب محمولة على الظهور مجاز من باب التمثيل بالاستعارة لأن حالة الأنفس فيما تقاسيه من سوء تأثير الذنوب فيها وما يترتب على ذلك من التعب والشقاء والآلام يشبه هيئة الأبدان في حال نوئها بالأحمال الثقيلة وما تقاسيه في ذلك من التعب والجهد والزحير، أو هو محمول على القول بتجسم المعاني والأعمال في الآخرة، وتمثلها هي ومادتها بصور تناسبها في الحسن أو القبح، كما ورد في الغلول والمال الذي لا تؤدي زكاته.
وروى ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي وعمرو بن قيس الملائي أن الأعمال القبيحة تتمثل بصورة رجل قبيح يحمله صاحبها يوم القيامة، والصالحة بصورة رجل حسن أو صورة حسنة تحمل صاحبها يوم القيامة، ويجوز أن يكون هذا القول من قبيل التمثيل أيضا. والمعنى أنهم ينادون الحسرة التي أحاطت بهم أسبابها وهم في أسوأ حال بما يحملون من أوزارهم على ظهورهم، وقد بين الله تعالى سوء تلك الحال، التي تلابسهم عند اللهج بذلك المقال، بقوله :﴿ ألا ساء ما يزرون ( ٣١ ) ﴾ فبدء هذه الجملة بألا الافتتاحية التي يراد بها العناية بما بعدها وتوجيه ذهن السامع إليه – يفيد المبالغة في تقريره وتأكيد مضمونه، ووجوب الاهتمام بالاعتبار به، و « ساء » فعل ذم أشرب معنى التعجب أو التعجيب، أي ما أسوأ حملهم ذاك أو ما أسوأ تلك الأثقال التي يحملونها، وقيل إن « ساء » هنا هو الفعل المتعدي أي ساءهم وأحزنهم حملهم لتلك الأوزار، أو ساءتهم تلك الأوزار التي يحملونها. والأول أبلغ.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:هذا وإننا قد وعدنا بأن نبين في آخره تفسير هذه الآيات ما يترتب على إنكار البعث والجزاء من فساد الفطرة البشرية المفضي إلى الشرور الكثيرة فنقول : إن الكفر بالبعث والجزاء، واعتقاد أنه لا حياة بعد هذه الحياة، يجعل هم الكافر محصورا في الاستمتاع بلذات الدنيا وشهواتها البدنية والنفسية كالجاه والرياسة والعلو في الأرض ولو بالباطل وهو ما يسمونه الشرف، ومن كان كذلك يكون في اتباع هواه ولذاته الشهوانية أسفل من البهائم كالبقر والقردة والخنازير، وفي اتباعه لهواه في لذته الغضبية أضرى وأشد أذى من الوحوش الضارية المفترسة كالذئاب والنمور، وفي اتباعه لهواه و لذته النفسية شرا من الشياطين، يكيد بعضهم لبعض ويفترس بعضهم بعضا، لا يصدهم عن باطل ولا شر يهوونه إلا العجز، ولا يرجعون إلى حكم يفصل بينهم إلا القوة التي جعلوها فوق الحق، وطالما غشوا أنفسهم وفتنوا غيرهم في هذا الزمان، بما كان من تأثير التوازن في القوى من منع كثير من البغي والعدوان، الذي كان يصول به قوي الأمم على ضعيفها، والحكومات الجائرة على رعيتها، فزعموا أن الحضارة المادية، والعلوم والفنون البشرية، هي التي تفيض روح الكمال على الإنسان، إذا لم يؤمن بالبعث والجزاء بل ولا بالإله الديان، واستدلوا على ذلك بما أجمعت عليه أممهم ودولهم من ذم الحرب، والتفاخر ببناء سياستهم على أمتن قواعد السلم. وزعموا أن الباعث لهم على ذلك حب الإنسانية، والرغبة في العروج بجميع البشر إلى قمة السعادة المدنية.
فإن قيل : فما بالكم تسابقون إلى استذلال الأمم الضعيفة في الشرق، وتسخرونها لمنافعكم وتوفير ثروتكم بغير حق ؟ قالوا : كلا إنما نريد أن نخرجها من ظلمات الهمجية والجهل، لتشاركنا فيما نحن فيه من نور الحضارة والعلم. فإن قيل : فما بالنا نراها لم تنل من علومكم إلا بعض القشور، ولم تستفد من مدينتكم إلا الفسق والفجور ؟ قالوا إنما ذلك لضعف الاستعداد، وما تمكن في نفوس هذه الشعوب من الفساد، على أننا خير لها من حكامها الأولين، بما قمنا به من حفظ الأمن وتوفير أسباب النعيم للعاملين ! ذلك شأنهم لا تقام عليهم حجة، إلا ويقابلونها بشبهة تؤيدها القوة، وقد قوضت الحرب المشتعلة نارها في أوروبا هذه الأعوام، جميع ما بنيت عليه هذه الشبهات من المزاعم والأوهام، إذ رأينا فيها أرقى أهل الأرض في الحضارة والعلوم والفلسفة يخربون بيوتهم بأيديهم، ويقوضون صروح مدينتهم بمدافعهم، ويستعينون بكل ما ارتقوا إليه من العلوم والفنون والصناعات والحكمة والنظام، لإهلاك الحرث والنسل وتخريب العمران، بمنتهى القسوة والشدة، التي لا تشوبها عاطفة رأفة ولا رحمة، ولو كان من بأيديهم أزمة الأمور منهم يؤمنون بالله واليوم الآخر وما فيه من الحساب والجزاء بالحق، لما انتهوا في الطغيان إلى هذا الحد.
نعم إن هذه الشعوب كانت تتقاتل لنصر المذهب أو الدين، في القرون التي كانت تعمل فيها كل شيء باسم الدين، ولكنها لم تصل في التقتيل والتخريب في ذلك الزمان، إلى عشر معشار ما هي عليه الآن، وإن كانوا يسمون هذا العصر عصر النور وتلك العصور بعصور الظلمات، على أن الرؤساء كانوا يتخذون اسم الدين وتأويل نصوصه وسيلة لأهوائهم التي ليست من الدين في شيء، كما يعلم جميع علماء هذا العصر، ومن العجائب أن أقسى أهل هذه الحرب وأشدهم تخريبا وتدميرا هم الذين يزعمون أنهم يحاربون لله وأن الله معهم على أعدائهم. وإنما الحرب الدينية الصحيحة حرب الأنبياء والخلفاء الراشدين، ومن على مقربة من سيرتهم من الملوك الصالحين، ولم يكن يستحل في شيء منها ما يستحل الآن من القسوة والتخريب. وقد فصلنا في المنار القول في المقابلة بين هذه الحرب المدنية، وحروب المسلمين الدينية، التي كانت دفاعا عن النفس، وتقريرا للحق والعدل، والمساواة في الحقوق بين أصناف الخلق، يسيرون فيها على القواعد الشرعية العادلة في الضرورات ككونها تبيح ما ضرره دون ضررها، وكونها تقدر بقدرها، وتراعى فيها الرحمة، لا العدل وحده، وقد شهد بذلك لسلفنا أعلم حكماء الإفرنج بتاريخنا [ غوستاف لوبون ] فقال كلمة حق حقيقة بأن تكتب بماء الذهب، وهي :« ما عرف التاريخ فاتحا أعدل ولا أرحم من العرب».
وجملة القول إن شبهات المفتونين بالمدنية المادية قد دحضت بهذه الحرب الساحقة وقويت بها حجة أهل الدين عليهم، بل تنبه بها الشعور الديني في الجم الغفير من الأوروبيين حتى الفرنسيس منهم، بعد أن كانوا قد نبذوه وراء ظهورهم، وآثروا عليه الشهوات البدنية الحقيرة، حتى ضاقت بهم المعابد التي كانت مهجورة، قلما تفتح أبوابها وقلما يلم بها أحدا إن فتحت. وذلك شأن المسرفين في أمرهم من الناس، لا يتوجهون إلى خالقهم إلا عند الشدة والبأس، ﴿ وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما، فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون ﴾ [ يونس : ١٢ ].

﴿ وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين ٢٩ ولو ترى إذ وقفوا على ربهم قال أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ٣٠ قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون ٣١ وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون ٣٢ ﴾
بين الله تعالى لنا في هذه الآيات شأنا آخر من شؤون الكفار المكذبين بآياته في الدنيا وهو غرورهم بها، وافتتانهم بمتاعها، وإنكارهم البعث والجزاء، وما يقابله من حالهم في الآخرة يوم يكشف الغطاء، وهو ما يكون من حسرتهم وندمهم عل تفريطهم السابق، وافتتانهم بذلك المتاع الزائل، وقفى عليه ببيان حقيقة الدنيا والمقابلة بينها وبين الآخرة.
ثم بين تعالى حقيقة ما يغر الناس من الحياة الدنيا وهو التمتع الخاص بها، والمقابلة بين ذلك وبين حظ المتقين لله فيها من الدار الآخرة، إثر بيان ما يلقاه أولئك المفتونون بالأولى، عند ما يصيرون إلى الثانية التي كانوا يكذبون بها، فقال :
﴿ وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو ﴾ اللعب هو الفعل الذي لا يقصد به فاعله مقصدا صحيحا من تحصيل منفعة أو دفع مضرة، كأفعال الأولاد الصغار التي يتلذذون بها لذاتها، فما يعالجونه من كسر حبة نقل أو إزالة غشاء عن قطعة حلوى لأجل أكلها لا يسمى لعبا. واللهو ما يشغل الإنسان عما يعنيه ويهمه، ويعبر عن كل ما به استمتاع باللهو. كذا قال الراغب، وفي اللسان : اللهو ما لهوت به ولعبت به وشغلك من هوى وطرب ونحوهما. ثم قال : يقال لهوت بالشيء ألهو به لهوا وتلهيت به – إذا لعبت به وتشاغلت وغفلت به عن غيره. وأقول إن الأصل في اللهو إذا أطلق يراد به ما يشغل الإنسان من لعب وطرب ودواعي سرور وارتياح عما يتعبه ويشق عليه من الجد أو يحزنه أو يسوؤه من خطوب الدنيا ونكباتها. ثم توسع به فصار يطلق أحيانا على ما يسر ويلذ وإن لم يقصد به التشاغل عن أمور الجد، كمغازلة النساء والاستمتاع بهن. ومنه قول امرئ القيس :
ألا زعمت بسباسة اليوم أنني *** كبرت وأن لا يحسن اللهو أمثالي١
وقد يطلق أيضا على جد يتشاغل به عن جد آخر، ولكن الذي عرف استعماله في ذلك الفعل لا المصدر، فلا يقال إن هذا الفعل لهو بل يقال لهوت بكذا عن كذا أو تلهيت والتهيت به عنه. ومنه ﴿ فأنت عنه تلهى ﴾ [ عبس : ١٠ ] وإنما تشاغل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأعمى بالتصدي لدعوة كبراء قريش إلى الإسلام لا بشيء فيه طرب ولا سرور نفسي يسمى لهوا بإطلاق.
والمعنى أن هذه الحياة الدنيا التي قال الكفار إنه لا حياة غيرها – وهي ما يتمتعون به من اللذات المقصودة عندهم لذاتها، أو الملهية لهم عن همومها وأكدارها - ليست إلا لعبا ولهوا أو كاللعب واللهو في عدم استتباعها لشيء من الفوائد والمنافع يكون في حياة بعدها، أو هي دائرة بين عمل لا يفيد في العاقبة فهو كلعب الأطفال، وبين عمل له فائدة عاجلة سلبية كفائدة اللهو وهو دفع الهموم والآلام، ويوضح هذا قول بعض الحكماء أن جميع لذات الدنيا سلبية إذ هي إزالة لآلام – فلذة الطعام مزيلة لألم الجوع وبقدر هذا الألم تعظم اللذة في إزالته، ولذة شرب الماء مزيلة لألم العطش كذلك. وأما شرب المنبهات والمخدرات كالخمر والحشيش والدخان فإنه يكون أولا بالتكلف واحتمال المكروه والألم – فإن هذه الأشياء كلها مكروهة بالطبع كما أخبر المجربون – وإنما يتكلفونه طلبا للذة متوهمة بها الشارب غيره، ثم يصير المؤلم بالتعود ملائما بإزالته للألم المتولد منه إزالة موقتة. ذلك بأن هذه الأشياء سموم مكروهة في نفسها ومتى أثر سمها في الأعصاب بالتنبيه الزائد وغيره أعقب ذلك ضده من الفتور والألم الذي يطارد بالعود إلى الشرب كما قال أشعر السكيرين وأقدرهم على تمثيل تأثير السكر :
* وداوني بالتي كانت هي الداء٢ *
قال :
وكأس شربت على لذة *** وأخرى تداويت منها بها٣
وهذه اللذة الأولى التي ذكرها وهمية كما قلنا لأنه لم يكن ذاقها بل توهمها وقلد بها المفتونين بالسكر. وقد يقصد بالسكر إزالة آلام أخرى غير ألم سم الخمر كالهموم والأكدار، فإن السكر يغيب عن عقله ووجدانه فلا يشعر بآلامهما في تلك الحال، وقد يتضاعف عليه ألم الشعور والوجدان، وكثيرا ما يقع في آلام أخرى بدنية كالصداع والغثيان، أو نفسية كالتي فر منها أو ما هو شر منها، ويصدق عليه في كل حال قول أبي الطيب :
إذا اسشفيت من داء بداء *** فأقتل ما أعلك ما شفاكا٤
وقد قيل إن سماع الغناء وآلات الطرب لا يدخل في عموم هذه القاعدة لأنها لذة روحية لا تعد داعيتها من الآلام، ومن دقق النظر في هذه المسألة علم أن السماع ليس من ضروريات الحياة الشخصية ولا النوعية ولذلك كانت داعيته ضعيفة ليست كداعية الغذاء والوقاع فكان فقده غير مؤلم إلا لمن اشتد ولوعه به، وهذا يدخل في عموم القاعدة، ولذة السماع عند غيره-وهم الجمهور-ضعيفة بقدر ضعف الداعية. فالسماع لا يعد من أركان هذه الحياة ولا من مقاصدها الذاتية للناس، وإنما يستروح إليه أكثر أهله لترويح النفس من آلام الحياة لا من ألم الداعية إليه، وإنما غلب اسم « اللهو » عليه واسم « الملاهي » على آلاته، لأنه غير مقصود لذاته.
وفي الآية وجه آخر يصح جمعه مع الأول وهو أن متاع هذه الحياة الدنيا الخاص بها متاع قليل، أجله قصير، لا يصح أن يغتر به العاقل الراشد، فهو ليس إلا كلعب الأطفال في قصر مدته من حيث إن الطفل يسرع إليه الملل من كل لعبة، أو من حيث إن زمن الطفولة قصير كله غفلة، أو كلهو المهموم في قصر مدته، على كونه غير مطلوب لذاته.
﴿ وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون ( ٣٢ ) ﴾ هذا خبر مؤكد بلام القسم يفيد بمقابلته لما قبله أن نعيم الآخرة ليس كنعيم الدنيا لعبا ولهوا يعبث به العابثون، أو يتشاغلون ويتسلون به عن الأكدار والهموم، بل هو مما يقصده العاقل لفوائده ومنافعه الثابتة الدائمة-وأن تلك الدار للذين يتقون الشرك والشرور المحرمة خير من هذه الدار للمشركين المنكرين للبعث الذين لا حظ لهم من حياتهم إلا التمتع الذي هو من قبيل اللعب في قصر مدته وعدم فائدته، أو من قبيل اللهو في كونه دفعا لألم الهم والكدر، أو ضجر الشقاء والتعب، -دع ما يستلزمه من المعاصي المفضية إلى عذاب الآخرة-ذلك بأن نعيم الآخرة البدني أعلى وأكمل من نعيم الدنيا في ذاته، وفي دوامه وثباته، وفي كونه إيجابيا لا سلبيا، وفي كونه غير مشوب ولا منغص بشيء من الآلام، وفي كونه لا يعقبه ثقل ولا مرض ولا إزالة أقذار، فما القول بنعيمها الروحاني من لقاء الله ورضوانه وكمال معرفته. والمعبر عنه عند أهل السنة برؤيته ؟ أي أتغفلون فلا تعقلون هذا الفرق أيها المكذبون بالآخرة ؟ أما لو عقلتم لآمنتم :
قال المنجم والطبيب كلاهما *** لا تبعث الأموات قلت : إليكما
إن صح قولكما فلست بخاسر *** أو صح قولي فالخاسر عليكما
قرأ ابن عامر ( ولدار الآخرة ) بإضافة الصفة للموصوف لمغايرتها له، ولا نزاع بين النحاة في وقوع مثل هذا في الكلام العربي وحسبك وروده في الكتاب العزيز، وإنما اختلف الكوفيون والبصريون في اطراده وطريقة إعرابه، فالأولون يعربونه بغير تأويل، والآخرون يرون أنه لم يرد إلا بمسوغ وهو هنا استعمال « الآخرة » استعمال الأسماء في مثل قوله تعالى :﴿ وللآخرة خير لك من الأولى ﴾ [ الضحى : ٤ ] أو مراعاة مضاف محذوف تقديره : ولدار الحياة الآخرة. لأنه في مقابلة الحياة الدنيا، ويصح تقدير النشأة أيضا. وقرأ بعض القراء ( يعقلون ) بالياء التحتية مراعاة للغيبة، وبعضهم بالتاء الفوقية للخطاب.
ومن مباحث نكت البلاغة أنه ورد في معنى هذه الآية قوله تعالى في سورة محمد :﴿ إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم ولا يسألكم أموالكم ﴾ [ محمد : ٣٧ ] وقوله :﴿ اعلموا إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد ﴾ [ الحديد : ١٩ ] وقد قدم في الآيات الثلاث اللعب على اللهو، وقال تعالى في سورة العنكبوت :﴿ وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وأن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون ﴾ [ العنكبوت : ٦٤ ] وقد قدم في هذه ذكر اللهو على اللعب، وأكثر المفسرين لا يعنون ببيان نكتة لذلك لأن العطف بالواو لا يفيد ترتيبا بل مطلق الجمع بين المعطوف والمعطوف عليه. ومنهم من يرى أن مثل هذا لا يقع في كتاب الله تعالى إلا لفائدة، وقد نقل السيد الألوسي في روح المعاني كلاما ركيكا في الفرق بين الاستعمالين عزاه إلى الدرة وقال في آخره : قاله مولانا شهاب الدين فليفهم. وهو أمر بما لا يستطاع من فهم ذلك الكلام المضطرب المبهم.
والذي يظهر لنا في نكتة ذلك أن تقديم اللعب على اللهو لا يحتاج إلى تعليل لأنه الأصل المقدم في الوجود، وقد فصلت آية الحديد متاع الحياة الدنيا بحسب ترتيبه الذي تقتضيه الفطرة البشرية فقدم فيها اللعب لأن أول عمل للطفل يلذ له هو اللعب المقصود عنده لذاته، وذكر بعده اللهو لما فيه من القصد الذي لا يأتي من الطفل، لأنه لا يحصل إلا لذي الفكر، وبعده الزينة التي هي شأن سن الصبا، وبعده التفاخر الذي هو شأن الشبان، وبعده التكاثر في الأموال والأولاد الذي هو شأن الكهول والشيوخ، فالنكتة ينبغي أن تلتمس في آية العنكبوت لا في هذه الآية ولا في آيتي محمد والأنعام.
وقد وردت في سياق إقامة الحجج العقلية على المشركين، فذكر فيها اللهو قبل اللعب على طريقة التدلي المؤذن بالانتقال من الشيء إلى ما هو دونه في نظر العقلاء، فإن اللعب من العاقل الذي لا يليق به العبث أقبح من اللهو، إذ اللهو تقصد به فائدة ولو سلبية، واللعب هو العبث الذي لا تقصد به فائدة البتة، فهو شأن الأطفال لا العقلاء العالمين بالمصالح، الذين يقصدون بكل عمل من أعمالهم إما دفع بعض المضار، وأما تحصيل بعض المنافع. ولذلك بين جهلهم بقوله :﴿ وأن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون ﴾ وقال في الحجة التي قبلها ﴿ ولكن أكثرهم لا يعقلون ﴾ ولا حاجة إلى مثل هذا التدلي في آية الأنعام التي نفسرها، فإنها لم ترد في سياق حجج الإيمان العقلية التي يراد بها بيان ضعف نظر المشركين وجهلهم وإن ذيلت بالتوبيخ على عدم عقل ما قرر فيها، بل وردت في بيان حقيقة الدنيا بعد الإعلام بما يصيب المفتونين بها في الآخرة بحصر همهم في لذاتها، وتلاه بيان المقابلة بينهم وبين المؤمنين الذين يتقون الله فيها، ففي مثل هذا السياق-كآية سورة محمد-يحسن الترتيب الوجودي، بتقديم اللعب على اللهو الذي هو طريق الترقي، لأنه انتقال من عبث ليس له عاقبة نافعة، إلى لهو فائدته سلبية عاجلة، ولذلك بين بعده أن عمل المؤمنين المتقين فيها-ومنه تمتعهم بلذاتها-يؤجرون عليه في الآخرة، وأنها بسبب التقوى خير لهم من العاجلة.
هذا وإنني عند بلوغي هذا البحث ظفرت بكتاب [ درة التنزيل. وغرة التأويل ] لأبي عبد الله محمد بن عبد الله الخطيب الإسكافي ٥ فراجعته بعد استقرار فهمي على ما تقدم، فعلمت أنه هو الذي نقل الآلوسي عن الشهاب عنه ما لا يكاد يفهم، وما ذلك إلا للنقل بالمعنى دون النص، الذي كثر بسببه الخطأ في النقل، وقد ذكر الإسكافي هذا البحث عند ذكر الآية الثامنة مما أورده من سورة الأنعام- ( وهي الآية ال٧٠ ) الواردة في اتخاذ الكفار دينهم لعبا ولهوا- مع ما يقابلها في سورة الأعراف ( ٧ : ٥٠ ) من اتخاذهم دينهم لهوا ولعبا. وبهذه المناسبة ذكر آيتي الحديد والعنكبوت اللتين بينهما مثل هذا الاختلاف، ونسي ذكر الآية التي نحن بصدد تفسيرها، وسيأتي ذكر اتخاذ الدين لعبا ولهوا في محله.
وقد اعتمد الخطيب في تفسير اللهو في الآيات أنه اجتلاب المسرة بمخالطة النساء، وهو مخطئ في ذلك. وقال في تعليل تقديم اللعب على اللهو في سورة الحديد أن الحياة الدنيا لمن اشتغل بها ولم يتعب لغيرها مقسومة من الصبا وهو وقت اللعب، وبعده اللهو وهو الترويح عن النفس بملاعبة النساء، ويتبع ذلك أخذ الزينة لهن ولغيرهن، ومن أجل الزينة نشأت مباهاة الاكتفاء، ومفاخرة ا
١ البيت من الطويل، وهو لامرئ القيس في ديوانه ص ٢٨، وديوان الأدب ٣/٣٠..
٢ صدره:
دع عنك لومي فإن اللوم أغراء
والبيت من البسيط، وهو لأبي نواس في ديوانه ١/٢١، وخزانة الأدب ١١٤٣٤، والرر اللوامع ٤/١٤٣، ومغني اللبيب ص ١٥٠، وهمع الهوامع ٢/٢٩، وبلا نسبة في لسان العرب (شفع)..

٣ يروي البيت:
وكأس شربت على لذة *** دهاق ترنح من ذاقها
والبيت من المتقارب، وهو نسبة في أساب البلاغة (رنح)، وتاج العروس (رنح).

٤ البيت من الوافر، وهو في ديوان المتنبي ٢/٣٣٥..
٥ رأيت الكتاب مطبوعا يباع في مكتبة المنار ولم أكن عالما بذلك (المؤلف)..
﴿ قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ٣٣ ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبإ المرسلين ٣٤ وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين٣٥ ﴾.
لا ننسى أن هذه السورة نزلت في دعوة مشركي مكة إلى الإسلام ومحاجتهم في التوحيد والنبوة والبعث، وأنها تكثر فيها حكاية أقوالهم في ذلك بلفظ ( وقالوا.. وقالوا.. ) وتلقين الرسول صلى الله عليه وسلم الحجج بلفظ ( قل.. قل.. ) حتى إن الأمر بالقول تكرر فيها عشرات من المرار. وقد سبق في الآيات التي فسرناها منها قوله تعالى :﴿ وقالوا لولا أنزل عليه ملك ﴾... ﴿ وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا.. ﴾ وأمره تعالى بالرد على كل من القولين وإقامة الحجج عليهم في موضوعهما بما فيه بيان فقد بعضهم الاستعداد للإيمان – بعد هذا كله ذكر في هذه الآيات تأثير كفرهم في نفس النبي صلى الله عليه وسلم وحزنه مما يقولون في نبوته، وسلاه عن ذلك ببيان سنته سبحانه وتعالى في الرسل مع أقوامهم، وإيئاسه من إيمان الجاحدين المعاندين منهم – وقد تكرر هذا المعنى في السور المكية –
فقال عز وجل :
﴿ قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون ﴾ الحزن ألم يلم بالنفس عند فقد محبوب، أو امتناع مرغوب، أو حدوث مكروه، وتجب معالجته بالتسلي والتأسي وإن كان بالحق للحق، كحزن الكاملين على إصرار الكافرين على الكفر، وقد أثبت تعالى لرسوله هذا الحزن إثباتا مؤكدا بتعلق علمه التنجيزي به في بعض الأحيان، أي عند ما كان يعرض له عليه السلام، وبإن مع ضمير الشأن وبالام، فكلمة « قد » على أصلها للتقليل، وقيل إنها هنا للتكثير، وإنما القلة والكثرة في متعلقات العلم لا العلم نفسه، وقد نهاه تعالى عن هذا النوع من الحزن بقوله في سورة يونس :﴿ ولا يحزنك قولهم إن العزة لله جميعا أنه هو السميع العليم ﴾ [ يونس : ٦٥ ] وفي سورة يس :﴿ فلا يحزنك قولهم إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون ﴾ [ يس : ٧٦ ] كما نهاه عن الحزن عليهم لعدم إيمانهم في سورة الحجر ( ١٥ : ٨٨ ) والنحل ( ١٦ : ١٢٧ ) والنمل ( ٢٧ : ٧٢ ) وتقدم تفسير الحزن والمراد بالنهي عنه وأن لغة قريش فيه أن الثلاثي منه يتعدى بنفسه فيقال حزنه الأمر، وتميم تقول أحزنه، ومنها قراءة نافع ( ليحزنك ) بضم الياء وكسر الزاي.
والمراد بالقول الذي يحزنه منهم هو ما كانوا يقولونه فيه وفي دعوته ونبوته من تكذيب وطعن وتنفير للعرب، ومنه بالأولى ما حكاه عنهم في الآيات السابقة وسيأتي توضيحه. وروي عن أهل التفسير المأثور أن سبب نزول الآية أقوال خاصة من بعض رؤسائهم المستكبرين تنطبق على قوله في تتمة الآية ﴿ فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ( ٣٣ ) ﴾ أي فإنهم لا يجدونك كاذبا ولا يعتقدون أنك كذبت على الله فيما جئت به – وهم لم يجربوا عليك كذبا على أحد – ولكنهم يجحدون بالآيات الدالة على صدقك بإنكارها بألسنتهم فقط كما جحد قوم فرعون من قبلهم بآيات الله لأخيك موسى ﴿ وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا ﴾ [ النمل : ١٤ ].
فالجحود كما قال الراغب : نفي ما في القلب إثباته وإثبات ما في القلب نفيه. يقال جحد جحودا وجحدا. اه وعبارة اللسان الجحد والجحود ضد الإقرار كالإنكار. ثم نقل قول الجوهري فيه أنه الإنكار مع العلم. ويتعدى بنفسه وبالباء فيقال جحده وجحد به.
قال الحافظ ابن كثير في تفسيره :« يقول تعالى مسليا لنبيه صلى الله عليه وسلم في تكذيب قومه له ومخالفتهم إياه ﴿ قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون ﴾ أي قد أحطنا علما بتكذيبهم لك وحزنك وتأسفك عليهم كقوله :﴿ فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ﴾ [ فاطر : ٨ ] كما قال تعالى في الآية الأخرى ﴿ لعلك باخع نفسك أن لا يكونوا مؤمنين ﴾ [ الشعراء : ٣ ] ﴿ فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا ﴾ [ الكهف : ٦ ] وقوله :﴿ فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ﴾ [ الأنعام : ٣٣ ] أي لا يتهمونك بالكذب في نفس الأمر ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون، أي ولكنهم يعاندون الحق ويدفعونه بصدورهم كما قال سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن ناجية بن كعب عن علي قال : قال أبو جهل للنبي صلى الله عليه وسلم : إنا لا نكذبك ولكن نكذب بما جئت به. فأنزل الله :﴿ فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ﴾ ورواه الحاكم من طريق إسرائيل عن أبي إسحاق، ثم قال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن الوزير الواسطي بمكة، حدثنا بشر بن المبشر الواسطي عن سلام بن مسكين عن أبي يزيد المدني أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي أبا جهل فصافحه فقال له رجل ألا أراك تصافح هذا الصابئ ؟ فقال : والله إني لأعلم إنه لنبي ولكن متى كنا لبني عبد مناف تبعا ؟ وتلا أبو يزيد ﴿ فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ﴾ وقال أبو صالح وقتادة : يعلمون أنك رسول الله ويجحدون.
وذكر محمد بن إسحاق عن الزهري في قصة أبي جهل حين جاء يستمع قراءة النبي صلى الله عليه وسلم من الليل هو وأبو سفيان صخر بن حرب والأخنس بن شريق ولا يشعر أحد منهم بالآخر : فاستمعوها إلى الصباح، فلما هجم الصبح تفرقوا فجمعتهم الطريق، فقال كل منهم للآخر ما جاء به، ثم تعاهدوا أن يعودوا لما يخافون من علم شبان قريش بهم لئلا يفتتنوا بمجيئهم، فلما كانت الليلة الثانية جاء كل منهم ظنا أن صاحبيه لا يجيآن لما سبق من العهود، فلما أصبحوا جمعتهم الطريق فتلاوموا ثم تعاهدوا أن لا يعودوا، فلما كانت الليلة الثالثة جاءوا أيضا فلما أصبحوا تعاهدوا أن لا يعودوا لمثلها ثم تفرقوا، فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه ثم خرج حتى أتى أبا سفيان بن حرب في بيته فقال : أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد ؟ قال : يا أبا ثعلبة ! والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها، وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها. قال الأخنس : وأنا والذي حلفت به. ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فدخل عليه بيته فقال يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد ؟ قال ماذا سمعت ؟ قال : تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا١، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاثينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك هذه ؟ والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه. قال : فقام عنه الأخنس وتركه.
« وروى ابن جرير من طريق أسباط عن السدي في قوله :﴿ قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ﴾ لما كان يوم بدر قال الأخنس بن شريق لبني زهرة : يا بني زهرة إن محمدا ابن أختكم فأنتم أحق من ذب عن ابن أخته فإنه إن كان نبيا لم تقاتلونه اليوم ؟ وإن كان كاذبا فأنتم أحق من كف عن ابن أخته، قفوا ههنا حتى ألقى أبا الحكم فإن غلب محمد رجعتم سالمين، وإن غلب محمد فإن قومكم لا يصنعون بكم شيئا فيومئذ سمي الأخنس، وكان اسمه أبي، فالتقى الأخنس وأبو جهل فخلا الأخنس بأبي جهل فقال : يا أبا الحكم أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب فإنه ليس ههنا من قريش غيري وغيرك يستمع كلامنا ؟ فقال أبو جهل : ويحك والله إن محمدا لصادق وما كذب محمد قط، ولكن إذا ذهبت بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والنبوة فماذا يكون لسائر قريش ؟ فذلك قوله :﴿ فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ﴾ فآيات الله محمد صلى الله عليه وسلم » اه. وما ذكر سببا لنزول الآية يصح أن يكون سببا لنزولها في ضمن السورة ولا يصح نص في نزولها منفردة، وإلا فهو من قبيل التفسير كخبر الأخنس مع أبي جهل يوم بدر، وذلك بعد الهجرة قطعا والسورة مكية قطعا ولم يستثن أحد هذه الآية فيما استثني.
ونقول إن في ( يكذبونك ) قراءتين – قراءة نافع والكسائي بضم الياء وتخفيف الذال من أكذبه أي وجده كاذبا أو نسبه إلى رواية الكذب بأن قال إن ما جاء به كذب وإن لم يكن هو الذي افتراه بأن كان ناقلا له مصدقا به. وقراءة الجمهور بتشديد الذال من التكذيب وهو الرمي بالكذب بمعنى إنشائه وابتدائه وبمعنى نقله وروايته. وبهذا نجمع بين قول من قال إن الصيغتين بمعنى واحد ومن قال إن معناهما مختلف. قال ثعلب : أكذبه وكذبه بمعنى، وقد يكون « أكذبه » بمعنى بين كذبه أو حمله على الكذب وبمعنى وجده كاذبا، اه قال في اللسان : وكان الكسائي يحتج لهذه القراءة ( أي قراءته ) بأن العرب تقول كذبت الرجل إذا نسبته إلى الكذب، وأكذبته إذا أخبرت أن الذي يحدث به كذب، قال ابن الأنباري ويمكن أن تكون « فإنهم لا يكذبونك » على معنى لا يجدونك كذابا عند البحث والتدبر والتفتيش اه. فعلم من هذه النقول أن الإكذاب يشترك مع التكذيب في معنى رواية الكذب، وينفرد التكذيب بمعنى الرمي بافتراء الكذب إما مخاطبة كأن يقول له كذبت فيما قلت، وإما بإسناده إليه في غيبته كأن يقول كذب فلان وافترى، وينفرد الإكذاب بمعنى وجدان المحدث كاذبا فيما قاله بمعنى أن خبره غير مطابق للواقع، لا بمعنى أنه افتراه، وبمعنى الإخبار بذلك أي بعدم مطابقة الخبر للواقع.
فعلى هذا يكون المراد من مجموع القراءتين أن أولئك الكفار لا ينسبون النبي صلى الله عليه وسلم إلى افتراء الكذب ولا يجدونه كاذبا في خبر يخبر به بأن يتبين أنه غير مطابق للواقع، لأن جميع ما يخبر به من أمر المستقبل كنصر الله تعالى له وإظهار دينه وخذل أعدائه وقهرهم سيكون كما أخبر، وكذلك كان. وإنما يدعون أن ما جاء به أخبار الغيب – وأهمها البعث والجزاء – كذب غير مطابق للواقع. ولا يقتضي ذلك أن يكون هو الذي افتراه، فإن التكذيب قد يكون للكلام دون المتكلم الناقل، ولكن هذا النفي يصدق على بعض المشركين لا على جميعهم كما يأتي.
وذكر الرازي في نفي التكذيب والإكذاب مع إثبات الجحود أربعة أوجه ١- أنهم ما كانوا يكذبونه صلى الله عليه وسلم في السر ولكنهم يكذبونه في العلانية ويجحدون القرآن والنبوة ٢- أنهم لا يقولون له : إنك كذاب لأنهم جربوه الدهر الطويل فلم يكذب فيه قط، ولكنهم جحدوا صحة النبوة والرسالة واعتقدوا أنه تخيل أنه نبي وصدق ما تخيله فدعا إليه ٣- أنهم لما أصروا على التكذيب مع ظهور المعجزات القاهرة على وفق دعواه، كان تكذيبهم تكذيبا لآيات الله المؤيدة له أو تكذيبا له سبحانه وتعالى قال : فالله تعالى قال له إن القوم ما كذبوك ولكن كذبوني : أي على معنى أن تكذيب الرسول كتكذيب المرسل المصدق له بتأييده. وذكر أنه على حد ﴿ إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله ﴾ [ الفتح : ١٠ ] ومثله ﴿ وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ﴾ [ الأنفال : ١٧ ] ٤- قال وهو كلام خطر بالبال – إن المراد إنهم لا يخصونك بهذا التكذيب بل ينكرون دلالة المعجزة على الصدق مطلقا ويقولون في كل معجزة إنها سحر « فكان التقدير إنهم لا يكذبونك على التعيين ولكن يكذبون جميع الأنبياء والرسل » اه ملخصا بالمعنى غالبا وفيه قصور. وسكت عن أقوال أخرى قديمة ( منها ) قول بعضهم فإنهم لا يكذبونك فيما وافق كتبهم وإن كذبوك في غيره، وهو أضعف ما قيل لأن الكلام في مشركي مكة ولا كتب عندهم، ومنها قول بعضهم فإنهم لا يتفقون على تكذيب ولكن يكذبك الظالمون منهم الذين يجحدون بآيات الله ( ومنها ) أن المعنى فإنهم لا يعتقدون كذبك ولا يتهمونك به ولكنهم يجحدون بالآيات لظلمهم لأنفسهم. وهذا أقواها كما ترى.
تقدم أن المختار عندنا هو أن المراد هنا بما يحزنه صلى الله عليه وسلم من قولهم ما تقدم في أوائل السورة في قوله تعالى حكاية عنهم ﴿ وقالوا لولا أنزل عليه ملك ﴾ [ الأنعام : ٨ ] وما في معناه. ويوضحه ما روي في موضوع الآية ونزولها – وهو المتبادر من النظم الكريم – فالكلام إذا في طائفة الجاحدين كبرا وعنادا كأبي جهل والأخنس وأضرابهما، وهؤلاء لم يكونوا يعتقدون كذب النبي صلى الله عليه وسلم ولا يمكن أن يجدوه كاذبا في خبر يخبرهم به في المستقبل كما أنهم لم يجدوه كاذبا في يوم من أيامه الماضية، بل عصمته من الكذب في المستقبل أظهر وأولى، ولكنهم لظلمهم أنفسهم بالكبر والاستعلاء يجحدون بآيات الله الدالة على نبوته ورسالته بمثل زعمهم أن القرآن نفسه سحر يؤثر، وهم لم يكونوا يعتقدون ذلك وإنما يريدون به صد العرب عنه. وأما إذا جعلت الآية عامة وأريد بما يحزنه صلى الله عليه وسلم ما كان يقوله المشركون من ضروب الأقوال في إنكار التوحيد والبعث والنبوة وسائر مسائل الدين، ففي هذه الحالة يظهر اتجاه غير واحد من تلك الأقوال المنقولة بصدق بعضها عل
١ الحمل هنا إعطاء الناس ما يركبونه..
﴿ قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ٣٣ ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبإ المرسلين ٣٤ وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين٣٥ ﴾.
لا ننسى أن هذه السورة نزلت في دعوة مشركي مكة إلى الإسلام ومحاجتهم في التوحيد والنبوة والبعث، وأنها تكثر فيها حكاية أقوالهم في ذلك بلفظ ( وقالوا.. وقالوا.. ) وتلقين الرسول صلى الله عليه وسلم الحجج بلفظ ( قل.. قل.. ) حتى إن الأمر بالقول تكرر فيها عشرات من المرار. وقد سبق في الآيات التي فسرناها منها قوله تعالى :﴿ وقالوا لولا أنزل عليه ملك ﴾... ﴿ وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا.. ﴾ وأمره تعالى بالرد على كل من القولين وإقامة الحجج عليهم في موضوعهما بما فيه بيان فقد بعضهم الاستعداد للإيمان – بعد هذا كله ذكر في هذه الآيات تأثير كفرهم في نفس النبي صلى الله عليه وسلم وحزنه مما يقولون في نبوته، وسلاه عن ذلك ببيان سنته سبحانه وتعالى في الرسل مع أقوامهم، وإيئاسه من إيمان الجاحدين المعاندين منهم – وقد تكرر هذا المعنى في السور المكية –
وسيأتي التصريح بتكذيبهم إياه في جمل شرطية من هذه السورة وغيرها كالشواهد التي تراها في تفسير الآية التالية :
﴿ ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا ﴾ أكد الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بصيغة القسم أن الرسل الذين أرسلوا قبله قد كذبتهم أقوامهم فصبروا على تكذيبهم وإيذائهم لهم إلى أن نصرهم الله تعالى عليهم : أي فإن كذبت فلك أسوة بمن قبلك فلست بدعا من الرسل، وقد صرح بالشرطية في آيات أخرى كقوله تعالى في سورة الحج :﴿ وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح ﴾ [ الحج : ٤٠ ] الخ وقوله في سورة فاطر :﴿ وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك ﴾ [ فاطر : ٢٤ ] الخ ﴿ فإن يكذبوك فقد كذبك الذين من قبلهم ﴾ [ فاطر : ٥ ] الخ والآية تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم بعد تسلية، وإرشاد له إلى سنته تعالى في الرسل والأمم أو هي تذكير بهذه السنة، وما تتضمنه من حسن الأسوة، إذ لم تكن هذه الآية أول ما نزل في هذا المعنى، وقد صرح بوجوب هذا الصبر عليه تأسيا في قوله :﴿ فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ﴾ [ الأحقاف : ٣٥ ] واستقلالا في آيات كثيرة منها ما نزل قبل هذه السورة كقوله تعالى في سورة المزمل :﴿ واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا ﴾ [ المزمل : ١٠ ] وقد ثبت بالتجارب أن التأسي يهون المصاب ويفيد شيئا من السلوة. قالت الخنساء :
ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي١
وما يبكون مثل أخي ولكن أعزي النفس عنه بالتأسي
ولولا أن مقتضى الطبع البشري التأثر بالتأسي لما ظهرت حكمة تكرار التسلية بأمثال هذه الآية، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتلو القرآن في الصلاة ولا سيما صلاة الليل فربما يقرأ السورة ولا يعود إليها إلا بعد أيام يفرغ فيها من قراءة ما نزل من سائر السور، فاحتاج إلى تكرار تسليته وأمره بالصبر المرة بعد المرة لأن الحزن والأسف اللذين كانا يعرضان له صلى الله عليه وسلم من شأنهما أن يتكررا بتكرر سببهما وبتذكره حتى عند تلاوة الآيات الواردة في بيان حال الكفار ومحاجتهم وإنذارهم.
و « ما » في قوله تعالى :( على ما كذبوا ) مصدرية ( وأوذوا ) عطف على ( كذبوا ) أي فصبروا على تكذيب أقوامهم لهم وإيذائهم إياهم. والإيذاء فعل الأذى وهو ما يؤلم النفس أو البدن من قول أو فعل٢. وقد أوذي الرسول صلى الله عليه وسلم بضروب من الإيذاء كما أوذي الرسل قبله – آذاه المشركون في مكة بأقوالهم وأفعالهم، واليهود والمنافقون في المدينة بقدر استطاعتهم.
وقوله تعالى :﴿ حتى أتاهم نصرنا ﴾ غاية للصبر أي صبروا على التكذيب وما قارنه من الإيذاء إلى أن جاءهم نصرنا العظيم بالانتقام من أقوامهم، وإنجائنا إياهم ومن آمن معهم من أذاهم وكيدهم، وفيه بشارة للرسول مؤكدة للتسلية بأنه سينصره على المكذبين الظالمين من قومه، وعلى كل من يكذبه ويؤذيه من أمة البعثة، وإيماء إلى حسن عاقبة الصبر، فمن كان أصبر كان أجدر بالنصر، إذا تساوت بين الخصمين سائر أسباب الغلب والقهر. وإضافة النصر إلى ضمير العظمة العائد على العزيز القدير تشعر بعظمة شأنه، وتشير إلى كونه من الآيات المؤيدة لرسله.
﴿ ولا مبدل لكلمات الله ﴾ في وعده ووعيده التي منها وعده للرسل بالنصر، وتوعده لأعدائهم بالغلب والخذلان، ولا في غير ذلك من الشرائع والسنن التي اقتضتها الحكمة. والمراد من هذه الكلمات هنا قوله في سورة الصافات :﴿ ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين * إنهم لهم المنصورون * وإن جندنا لهم الغالبون ﴾ [ الصافات : ١٧١-١٧٣ ] اقرأ الآيات إلى آخر السورة، فنفي جنس المبدل لكلمات الله مثبت لكلمته في نصر المرسلين بالدليل – أي أن ذلك النصر قد سبقت به كلمة الله، وكلمات الله لا يمكن أن يبدلها مبدل، فنصر الرسل حتم لا بد منه. وكلمات الله جنس يشمل كلمات الأخبار وإنشاء الأحكام. كما سيأتي في تفسير ﴿ وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته ﴾ [ الأنعام : ١١٥ ] من هذه السورة. وإضافة الكلمات هنا إلى الاسم الأجل الأعظم تشعر بعلة القطع بأنه لا مبدل لها، لأن المبدل لكلمات غيره لا بد أن تكون قدرته فوق قدرته. وسلطانه أعلى من سلطانه. والتبديل عبارة عن جعل شيء بدلا من شيء آخر.
وتبديل الأقوال والكلمات نوعان – تبديل ذاتها بجعل قول مكان قول وكلمة مكان كلمة. ومنه ﴿ فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم ﴾ [ البقرة : ٥٩ ] وتبديل مدلولها ومضمونها كمنع نفوذ الوعد بالوعيد أو وقوعه على خلاف القول الذي سبق. والمتكلمون الذين يجوزون إخلاف الوعيد يقولون إن لله أن يبدل ما شاء من كلماته، وإنما يستحيل ذلك على غيره، وتبديله إياها لا يشمله النفي في الآية. فإن قيل لهم : قد يشمله ما هو أعم منه في المعنى كقوله تعالى في سورة ق :﴿ ما يبدل القول لدي ﴾ [ ق : ٢٩ ] – قالوا إن النصوص الواردة في العفو تخصيص العام من نصوص الوعيد، أو : لا نسلم أن العفو عن بعض المذنبين من قبيل التبديل، وسيأتي بسط هذا البحث في موضع آخر.
﴿ ولقد جاءك من نبإ المرسلين ( ٣٤ ) ﴾ هذا تقرير وتأكيد لما قبله أي ولقد جاءك بعض نبإ المرسلين في ذلك، أو ولقد جاءك ما ذكر – أو ذلك الذي أشير إليه – من خير التكذيب والصبر والنصر، من نبإ المرسلين الذي قصصناه عليك من قبل، والنبأ الخبر أو ذو الشأن من الأخبار لا كل خبر. وقد روي أن الأنعام نزلت بعد الشعراء والنمل والقصص وهود والحجر المشتملة على نبإ المرسلين بالتفصيل. وكلمة نبأ رسمت في المصحف الإمام بياء هكذا ( نبإ ) والياء كرسي للهمزة المحذوفة كالنقط، فينطق بالهمزة دونها كما ترسم في وسط الكلمة في مثل نبئهم.
ومن العبرة في الآية أن الله تعالى وعد المؤمنين ما وعد المسلمين من النصر فقال :﴿ إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا يوم يقوم الأشهاد ﴾ [ غافر : ٥١ ] وقال :﴿ ولقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى قومهم فجاؤوهم بالبينات فانتقمنا من الذين أجرموا وكان حقا علينا نصر المؤمنين ﴾ [ الروم : ٤٥ ] وهي نص في تعليل النصر بالإيمان. ولكننا نرى كثيرا من الذين يدعون الإيمان في هذه القرون الأخيرة غير منصورين، فلا بد أن يكونوا في دعوى الإيمان غير صادقين، أو يكونوا ظالمين غير مظلومين، ولأهوائهم لا لله ناصرين، ولسننه في أسباب النصر غير متبعين ؛ وإن الله لا يخلف وعده، ولا يبطل سننه، وإنما ينصر المؤمن الصادق، وهو من يقصد نصر الله وإعلاء كلمته، ويتحرى الحق والعدل في حربه، لا الظالم الباغي على ذي الحق والعدل من خلقه، يدل على ذلك أول ما نزل في شرع القتال من سورة الحج ﴿ أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا ﴾ [ الحج : ٣٧ ] – إلى قوله – ﴿ ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز ﴾.
فأما الرسل الذين نصرهم الله تعالى ومن معهم فقد كانوا كلهم مظلومين، وبالحق والعدل معتصمين، ولله ناصرين. وقد اشترط مثل ذلك في نصر سائر المؤمنين في سورة القتال ﴿ يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ﴾ [ محمد : ٨ ] والإيمان سبب حقيقي من أسباب النصر المعنوية يكون مرجحا بين من تساوت أسبابهم الأخرى، فليس النصر به من خوارق العادات. وأما تأييد الله تعالى للرسل بإهلاك أقوامهم المعاندين فهو أمر آخر زائد على تأثير الإيمان في الثبات والصبر، والاتكال على الله تعالى عند اشتداد البأس، وعروض أسباب اليأس، ومن كان حظه من صفات الإيمان ولوازمه أكبر، كان إلى نيل النصر أقرب، إذا كان مساويا لخصمه في سائر أسباب القتال، ولا سيما حسن النظام وجودة السلاح، وقد سبق لنا كلام في هذه المسألة في مواضع من التفسير وغيره ( راجع كلمة « نصر » من فهارس أجزاء التفسير ومجلدات المنار ).
١ البيتان من الوافر، والبيت الثاني بلا نسبة في المخصص ٢٢..
٢ قال الراغب: الأذى ما يصل إلى الحيوان من الضرر إما في نفسه أو جسمه أو تباعاته دنيويا كان أو أخرويا. يقال أذي بالشيء (كرضي) أذى. وتأذى. والاسم الأذية والأذاة، وآذى الرجل فعل الأذى. وآذى غيره. كل هذا منصوص لا نزاع فيه. وجعل الصحاح الأذى والأذاة والأذية مصادر لآذى ولم يذكر الإيذاء الذي هو المصدر القياسي لآذى فنقل عبارته الفيروز آبادي في قاموسه وزاد « ولا تقل إيذاء» على كونه قال قبيل ذلك: والأذي كغني الشديد التأذي ويخفف والشديد الإيذاء، ضد. اه وذكر في اللسان مثل عبارة الجوهري ثم قال: قال ابن بري صوابه آذى إيذاء، فأما أذى فمصدر أذى وكذلك أذاء وأذية. وذكر شارح القاموس عبارة ابن بري وتعقب غيره من العلماء والمفسرين للقاموس في نهيه وقولهم إن الإيذاء مسموع مقيس ثم ذكر أن شيخه قال إنه لم يجد كلمة الإيذاء في كلام العرب بعد استقراء نظمهم ونثرهم. ولكن المثبت مقدم والاستقراء غير مسلم.
.

﴿ قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ٣٣ ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبإ المرسلين ٣٤ وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين٣٥ ﴾.
لا ننسى أن هذه السورة نزلت في دعوة مشركي مكة إلى الإسلام ومحاجتهم في التوحيد والنبوة والبعث، وأنها تكثر فيها حكاية أقوالهم في ذلك بلفظ ( وقالوا.. وقالوا.. ) وتلقين الرسول صلى الله عليه وسلم الحجج بلفظ ( قل.. قل.. ) حتى إن الأمر بالقول تكرر فيها عشرات من المرار. وقد سبق في الآيات التي فسرناها منها قوله تعالى :﴿ وقالوا لولا أنزل عليه ملك ﴾... ﴿ وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا.. ﴾ وأمره تعالى بالرد على كل من القولين وإقامة الحجج عليهم في موضوعهما بما فيه بيان فقد بعضهم الاستعداد للإيمان – بعد هذا كله ذكر في هذه الآيات تأثير كفرهم في نفس النبي صلى الله عليه وسلم وحزنه مما يقولون في نبوته، وسلاه عن ذلك ببيان سنته سبحانه وتعالى في الرسل مع أقوامهم، وإيئاسه من إيمان الجاحدين المعاندين منهم – وقد تكرر هذا المعنى في السور المكية –
﴿ وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بأية ﴾ مما اقترحوه عليك من الآيات ليؤمنوا فافعل أو فأتهم بها. يقال كبر على فلان الأمر أي عظم عنده وشق عليه وقعه. والإعراض التولي والانصراف عن الشيء رغبة عنه أو احتقارا له، وهو من إبداء المرء عرضه عند توليه عن الشيء واستدباره له، واستطعت الشيء : صار في طوعك منقادا لك باستيفاء الأسباب التي تمكنك من فعله، والابتغاء طلب ما في طلبه كلفة ومشقة أو تجاوز للمعتاد أو للاعتدال، أو طلب غايات الأمور وأعاليها، لأنه افتعال من البغي وهو تجاوز الحد في الطلب أو الحق. ويكون في الخير كابتغاء رضوان الله وهو غاية الكمال، وفي الشر كابتغاء الفتنة وهو غاية الضلال ؛ والنفق السرب في الأرض، وهو حفرة نافذة لها مدخل ومخرج، كنافقاء اليربوع وهو جحره يجعل له منافذ يهرب من بعضها إذا دخل عليه من غيره ما يخافه، والسلم المرقاة مشتق من السلامة، قال الزجاج لأنه الذي يسلمك إلى مصعدك. وتذكيره أفصح من تأنيثه وإنما يؤنث بمعنى الآلة. وأتى بكان فعلا للشرط ليبقى الشرط على المضيّ ولا ينقلب مستقبلا كما قالوا، فإن « إن » لا تقلب « كان » مستقبلا لقوة دلالته على المضي. والنحوي يؤول مثل هذا التركيب بنحو : وإن تبين وظهر أنه كبر عليك إعراضهم. وجواب الشرط محذوف للعلم به تقديره فافعل كما تقدم.
تقدم في أوائل السورة أنهم كانوا يقترحون الآيات على النبي صلى الله عليه وسلم وكأنه كان يتمنى لو آتاه الله بعض ما طلبوا حرصا على هدايتهم، وأسفا وحزنا على إصرارهم على غوايتهم، وتألما من كفرهم وأذيتهم، ولكن الله تعالى يعلم أن أولئك المقترحين الجاحدين لا يؤمنون، وإن رأوا من الآيات ما يطلبون وفوق ما يطلبون، كما تقدم شرحه في تفسير أوائل السورة ( راجع تفسير الآية السابعة وما بعدها ) وقد أراد تعالى أن يؤكد لرسوله ما يجب من الصبر على تكذيب المشركين وأذاهم الدال عليه ما قبله، وأن يريح قلبه الرؤوف الرحيم من إجابتهم إلى ما اقترحوا من الآيات لما تقدم من حكمة ذلك، فقال له : وإن كان شأنك معهم أنه كبر عليك إعراضهم عن الإيمان وعن الآيات القرآنية والعقلية الدالة عليه ومنها ما سبق في هذه السورة وظننت أن إتيانهم بآية مما اقترحوا يدحض حجتهم، ويكشف شبهتهم، فيعتصمون بعروة الإيمان، عن بينة ملزمة وبرهان، - فإن استطعت أن تبتغي لنفسك نفقا كائنا في الأرض – أو معناه تطلبه في الأرض – فتذهب في أعماقها، أو سلما في جو السماء ترقى عليه إلى ما فوقها، فتأتيهم بآية مما اقترحوه عليك منهما، فأت بما يدخل في طوع قدرتك من ذلك، كتفجير ينبوع لهم من الأرض، أو تنزيل كتاب تحمله لهم من السماء وقد كانوا طلبوا أحد النوعين كما حكاه الله تعالى عنهم بقوله في سورة الإسراء :﴿ وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا – إلى قوله – أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه ﴾ [ الإسراء : ٩٠ ] وقد أمره الله تعالى أن يجيب عن ذلك بقوله عقب هذا :﴿ قل سبحان ربي ! هل كنت إلا بشرا رسولا ؟ ﴾ أي وليس ذلك في قدرة البشر وإن كان رسولا، لأن الرسالة لا تخرج الرسول عن طور البشر في صفاتهم البشرية كالقدرة والاستطاعة، فهم لا يستطيعون إيجاد شيء مما يعجز عنه البشر ولا يقدر عليه غير الخالق تعالى. والمراد من هذه الآية أنك لا تستطيع أيها الرسول الإتيان بشيء من تلك الآيات، ولا ابتغاء السبل إليها في الأرض ولا في السماء، ولا اقتضت مشيئة ربك أن يؤتيك ذلك لعلمه بأنه لا يكون سببا لما تحب من هدايتهم، ولأن من سنته أن يترتب على الجحود بعده إنزال العذاب عليهم، - وتقدم بيان هذا في تفسير الآيتين السابعة والثامنة من هذه السورة-.
﴿ ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين ( ٣٥ ) ﴾ أي ولو شاء الله تعالى جمعهم على ما جئت به من الهدى لجمعهم عليه بجعل الإيمان ضروريا لهم كالملائكة، أو بخلقهم على استعداد واحد للخير والحق فقط، لا متفاوتي الاستعداد مختلفي الاختيار، باختلاف العلوم والأفكار والأخلاق والعادات، كما اقتضته حكمته في خلق الناس، ولكنه شاء أن يخلق البشر على ما هم عليه من الاختلاف والتفاوت في الاستعداد، وما يترتب عليه من اختلاف أسباب الاختيار ؛ - فإذا عرفت سنته هذه في خلق هذا النوع، وأنه لا تبديل لخلق الله، فلا تكونن من القوم الجاهلين بسنن الله تعالى في خلقه، الذين يتمنون ما يرونه حسنا ونافعا، وإن كان حصوله ممتنعا، لكونه مخالفا لتلك السنن التي اقتضتها الحكمة الإلهية.
فالجهل هنا ضد العلم لا ضد الحلم، وليس كل جهل بهذا المعنى عيبا، لأن المخلوق لا يحيط بكل شيء علما، وإنما يذم الإنسان بجهل ما يجب عليه، ثم يجهل ما ينبغي له ويعد كمالا في حقه، إذا لم يكن معذورا في جهله. قال تعالى في الفقراء المتعففين :﴿ يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف ﴾ [ البقرة : ٢٧٣ ] فوصف الجاهل هنا غير ذم، وكان عدم علم خاتم الرسل بالكتابة من أركان آياته، وعدم علمه بالشعر من أدلة الوحي وبيناته، وكل ما يتوقف علمه على الوحي الإلهي لا يكون جهل الرسول إياه قبل نزوله عليه عيبا يذم به، إذ لا يذم الإنسان إلا بما يقصر في تحصيله وكسبه. وقد أمر الله تعالى رسوله بأن يسأله زيادة العلم، وكان يزيده كل يوم علما وكمالا بتنزيل القرآن وبفهمه، وبغير ذلك من العلم والحكمة، ولا يقتضي ذلك الذم قبل هذه الزيادة، وإنما الذي يذم مطلقا هو الجهل المرادف للسفه وهو ضد الحلم.
ويشبه ما هنا قوله تعالى لنوح حين طلب نجاة ابنه الكافر بناء على أنه من أهله الذين وعده الله بإنجائهم معه ﴿ يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين ﴾ [ هود : ٤٦ ] أي بإدخال ولدك الكافر في عموم أهلك المؤمنين، وإنما اقترن النهي هنا بالوعظ لأن عاطفة الرحمة الوالدية حملته على سؤال ما ليس له به علم اعتمادا على استنباط اجتهادي غير صحيح، ورحمة خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم كانت أعم وأشمل، وغاية ما تشير إليه الآية أنه تمنى ولكنه لم يسأل، ولو سأل لسأل آية يهتدي بها الضال من قومه، لا نجاة الكافر من أهله، فاكتفي في إرشاده بالنهي، وحسن في إرشاد نوح التصريح بالوعظ.
﴿ * إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون ٣٦ وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه قل إن الله قادر على أن ينزل آية ولكن أكثرهم لا يعلمون ٣٧ ﴾
بين لنا تعالى في الآية السابقة أنه لو شاء لجمع الناس على الهدى، ولكنه لم يشأ أن يجعل البشر مفطورين على ذلك، ولا أن يلجئهم إليه إلجاء بالآيات القاسرة، بل اقتضت حكمته ومضت سنته في البشر بأن يكونوا متفاوتين في الاستعداد، عاملين بالاختيار، فمنهم من يختار الهدى على الضلال، ومنهم من يستحب العمى على الهدى، ثم بين لنا في هاتين الآيتين أن الأولين هم الذين ينظرون في الآيات، ويعقلون ما يسمعون من البينات، وأن الآخرين لا يسمعون ولا ينظرون حتى كأنهم من الأموات.
فقال عز وجل.
﴿ إنما يستجيب الذين يسمعون ﴾ يقال أجاب الدعوة إذا أتى ما دعي إليه من قول أو عمل، وأجاب الداعي إذا لباه وقام بما دعاه إليه ؛ ويقال : استجاب له وهو في القرآن كثير، واستجاب دعاءه، وكذا استجابه، نعرف منه قول كعب بن مرثد الغنوي في رثاء أخيه :
وداع دعا يا من يجيب إلى الندا فلم يستجبه عند ذاك مجيب١
قالوا إن الاستجابة بمعنى الإجابة، ولذلك قال فلم يستجبه مجيب. وقال الراغب : والاستجابة قيل هي الإجابة، وحقيقتها هي التحري للجواب والتهيؤ له لكن عبر به عن الإجابة لقلة انفكاكها منها. اه. وهذا من دقائق تحديده للمعاني رحمه الله تعالى ولكنه لم يحط به، وحقيقة الجواب والإجابة كما يؤخذ من قوله – قطع الصوت أو الشخص الجوب أو الجوبة وهي المسافة بين البيوت أو الحفرة ووصوله إلى الداعي، أي وصول ما سأله إليه بالفعل، وأما الاستجابة فهي : التهيؤ للجواب أو للإجابة، أي المستلزم للشروع والمضي فيها عند الإمكان وغايته الإجابة التامة عند عدم المانع. فالسين والتاء على معناهما.
ومن دقق النظر في استعمال الصيغتين في القرآن الحكيم يظهر له أن أفعال الإجابة كلها قد ذكرت في المواضع المفيدة لحصول السؤال كله بالفعل حقيقة أو ادعاء دفعة واحدة. ومنه الإجابة بالقول، مثل : نعم، ولبيك، ولك ذلك. وأن الاستجابة قد ذكرت في المواضع المفيدة لحصول السؤال بالقوة أو التهيؤ والاستعداد له – ومنه قوله تعالى :﴿ الذين استجابوا لله وللرسول من بعد ما أصابهم القرح ﴾ [ آل عمران : ١٧٢ ] فهو قد نزل في تهيؤ المؤمنين للقتال في حمراء الأسد بعد أحد – أو بالفعل التدريجي، كاستجابة دعوة الدين التي تبدأ بالقبول والشهادتين ثم تكون سائر الأعمال بالتدريج، وشواهده كثيرة. والاستجابة من الله القادر على كل شيء إنما يعبر بها في الأمور التي تقع في المستقبل، ويكون الشأن فيها أن تقع بالتدريج كاستجابة الدعاء بالوقاية من النار، وبالمغفرة وتكفير السيئات، وإيتاء ما وعد به المؤمنين في الآخرة، قال تعالى بعد حكاية هذا الدعاء بذلك عن أولي الألباب ﴿ فاستجاب لهم ربهم أني ألا أضيع عمل عامل منكم ﴾ [ آل عمران : ١٩٤ ] الخ وكاستجابته للمؤمنين في بدر بإمدادهم بالملائكة تثبتهم كما في سورة الأنفال ( ٨/٩ – ١٢ ) ومن ذلك استجابته لأيوب، وذي النون، وزكريا عليهم السلام، كما في سورة الأنبياء ( ٢١/٨٢-٨٩ ) كل ذلك مما يقع بالتدريج في الاستقبال.
وأما قوله تعالى لموسى وهارون حين دعوا فرعون وملأه :﴿ قد أجيبت دعوتكما ﴾ [ يونس : ٨٩ ] فهو تبشير لهما بأنه تعالى قد قبلها بالفعل، وهذا من الإجابة القولية جاءت بصيغة الماضي للإيذان بتحقق مضمونها في المستقبل حتى كأنها أجيبت وانتهى أمرها. وهذا المعنى تؤديه مادة الإجابة دون مادة الاستجابة. ولو ذكرت هذه المسألة بصيغة الحكاية لعبر عن إعطائهما ما سألا بلفظ الاستجابة كما قال في شأن كل من أيوب وذي النون وزكريا ﴿ فاستجبنا له ﴾ فيالله العجب من هذه الدقة والبلاغة في هذا الكلام الإلهي المعجز للبشر حتى في وضع مفرداته في مواضعها، دع بلاغة أساليبه وجمله، وعلومه وحكمه، وما فيه من أخبار الغيب، وغير ذلك من الآيات البينات. هذا تحقيق معنى الاستجابة. وقيل إن الفرق بين الإجابة والاستجابة هو أن الاستجابة تدل على القبول، ولا يعرف له أصل منقول ولا معقول.
والسمع والسماع يطلق بمعنى إدراك الصوت، وبمعنى فهم ما يسمع من الكلام، وهو ثمرة السماع – وبمعنى قبول ما يفهم منه والاعتبار به والعمل بموجبه، وهذه ثمرة الثمرة، فهي المرتبة الكاملة العليا من مراتب السماع، فمن سمع ولم يفهم، كان كمن لم يسمع، ومن فهم ولم يعمل، كان كمن لم يفهم، وهذا القول أقرب إلى الحقيقة وأبعد عن قصد المبالغة من قول الشاعر :
خلقوا وما خلقوا لمكرمة فكأنهم خلقوا وما خلقوا
رزقوا وما رزقوا سماح يد فكأنهم رزقوا وما رزقوا
ذلك بأن للخلق والرزق ثمرات وغايات غير المكارم وسماح اليد، وأما سماع الكلام فلا فائدة له إلا فهمه، وفهمه لا فائدة له إلا الانتفاع به، ولأجل هذا أطلق القرآن على من لا يستفيدون من سماع الآيات والعلم النافع لفظ الصم ولفظ الموتى في عدة آيات منها قوله فيهما معا :﴿ إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذ ولوا مدبرين ﴾ [ النمل : ٨٢ ] والآية التي نفسرها من هذا القبيل.
فمعنى صدر الآية : إنما يستجيب لك أيها الرسول – أو لله ولرسوله – الذين يسمعون كلام الله الداعي إليه بآياته سماع فهم وتدبر فيعقلون الآيات ويذعنون لما عرفوا بها من الحق، لسلامة فطرتهم واستقلال عقولهم، دون الذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون كالمقلدين الجامدين، ودون الذين قالوا سمعنا وعصينا من المستكبرين الجاحدين، فكل أولئك من موتى القلوب والأرواح، الذين هم أبعد عن الانتفاع من موتى الجسوم والأبدان.
﴿ والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون ( ٣٦ ) ﴾ أي وموتى القلوب الذين لا يسمعون هذا السماع، يخرجهم الله تعالى من قبورهم ويرسلهم إلى موقف الحساب، ثم ترجعهم الملائكة إليه فينالون ما استحقوه من الجزاء. فأصل البعث في اللغة إثارة الشيء وتوجيهه كما قال الراغب : يقال بعثت البعير أي أثرته من مبركه وسيرته إلى المرعى ونحوه. ويرجعون مبني للمفعول من الرجع، ورجع جاء لازما ومتعديا، يقال رجع فلان رجوعا، أي انصرف. ورجعته رجعا، ومنه ﴿ قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحا ﴾ [ المؤمنون : ٩٩، ١٠٠ ] وأرجعته لغة هذيل.
فالظاهر مما تقدم أن المراد بالموتى هنا الكفار الراسخون في الكفر، المطبوع على قلوبهم، الميؤوس من سماعهم سماع فهم واعتبار، تتبعه الاستجابة لداعي الإيمان. أي والذين لا ترجى استجابتهم لأنهم كالموتى لا يسمعون السماع النافع يترك أمرهم إلى الله فهو يبعثهم بعد موتهم، ثم يرجعون إليه فيجازيهم على كفرهم وأعمالهم، ولا يضرك أيها الرسول كفرهم، وليس في استطاعتك هدايتهم، فالواجب عليك أن تفوض إلى الله أمرهم. وقيل إن لفظ الموتى على حقيقته وإن الكلام تمثيل وتعريض بالإيماء إلى عدم قدرة الرسول على هدايتهم كما أنه لا يقدر على إحياء الموتى. وهو بعيد وفيه ما لا يخفى من التكلف.
١ البيت من الطويل، وهو لكعب بن سعد الغنوي في الأصمعيات ص ٩٦، ولسان العرب (جوب)، والتنبيه والإيضاح ١/٥٥، وجمهرة أشعار العرب ٧٠٥، وتاج العروس (جوب)، ولا نسبة في تهذيب اللغة ١١/٢١٩..
﴿ * إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون ٣٦ وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه قل إن الله قادر على أن ينزل آية ولكن أكثرهم لا يعلمون ٣٧ ﴾
بين لنا تعالى في الآية السابقة أنه لو شاء لجمع الناس على الهدى، ولكنه لم يشأ أن يجعل البشر مفطورين على ذلك، ولا أن يلجئهم إليه إلجاء بالآيات القاسرة، بل اقتضت حكمته ومضت سنته في البشر بأن يكونوا متفاوتين في الاستعداد، عاملين بالاختيار، فمنهم من يختار الهدى على الضلال، ومنهم من يستحب العمى على الهدى، ثم بين لنا في هاتين الآيتين أن الأولين هم الذين ينظرون في الآيات، ويعقلون ما يسمعون من البينات، وأن الآخرين لا يسمعون ولا ينظرون حتى كأنهم من الأموات.
﴿ وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه ﴾ أي وقال أولئك الظالمون لأنفسهم، الذين يجحدون بآيات ربهم، ويعاندون رسوله إليهم : هلا أنزل عليه – أي الرسول – آية من ربه، من الآيات المخالفة لسننه تعالى في خلقه، مما اقترحنا عليه، وجعلناه شرطا لإيماننا به ؟ وقيل إن مرادهم آية ملجئة إلى الإيمان، والإلجاء اضطرار لا اختيار، فلا يوجه إليه الطلب، ولا يعتد به إن حصل.
﴿ قل إن الله قادر على أن ينزل آية ولكن أكثرهم لا يعلمون ( ٣٧ ) ﴾ أي قل أيها الرسول إن الله تعالى قادر على تنزيل آية مما اقترحوا وإنما ينزلها إذا اقتضت حكمته تنزيلها، لا إذا تعلقت شهوتهم بتعجيز الرسول بطلبها ؛ فإن إجابة المعاندين إلى الآيات المقترحة لم يكن في أمة من الأمم سببا للهداية، وقد مضت سنته تعالى في الأقوام، بأن يعاقب المعجزين للرسل بذلك بعذاب الاستئصال، فتنزيل آية مقترحة لا يكون خيرا لهم بل هو شر لهم، ولكن أكثرهم لا يعلمون شيئا من حكم الله تعالى في أفعاله، ولا من سننه في خلقه، ولا أنك أرسلت رحمة للعالمين، فلا يأتي على يديك سبب استئصال أمتك، بإجابة المعاندين منها إلى ما اقترحوا عليك لإظهار عجزك ؛ ولا يعلمون أيضا أن إجابة اقتراح واحد يؤدي إلى اقتراحات كثيرة لا حد لها، ولا فائدة منها. وقد يعلم أفراد منهم بعض ذلك علما ناقصا لا يهدي إلى الاعتبار، ولا يصد صاحبه عن مثل هذا الاقتراح. ومن قال إنهم اقترحوا آية ملجئة يقول : ولكن أكثرهم لا يعلمون أن تنزيلها يزيل الاختيار الذي هو أساس التكليف فلا يبقى لدعوة الرسالة فائدة.
قرأ ابن كثير ﴿ ينزل ﴾ بالتخفيف من الإنزال. والباقون بالتشديد من التنزيل الدال بصيغته على التدريج أو التكثير، وقال المفسرون : إن معناهما ههنا واحد، والذي نراه هو أن كل صيغة منهما على أصل معناها. وإن الجمع بينهما لبيان أن بعضهم اقترح آية واحدة تنزل دفعة واحدة كنزول ملك من السماء عليهم أو عليه، وهو المشار إليه بقراءة ابن كثير، وبعضهم اقترح عدة آيات منها ما لا يكون إلا بالتدريج، وهي المشار إليها بقراءة الجمهور. ولا ينافي إفراد الآية هنا طلب بعضهم لعدة آيات إذ المراد بها آية مما اقترحوا، وقد صرح بلفظ الجمع في آية العنكبوت الواردة بمعنى هذه الآية وسيأتي نصها قريبا.
هذا وإن بعض الكفار، وبعض الشاكين والمشككين في الإسلام، يقولون : لو أن محمدا صلى الله عليه وسلم أوتي آية بينة ومعجزة واضحة تدل على نبوته ورسالته لما طلب قومه الآية ؛ وأن هذا الجواب بقدرة الله على تنزيل الآية ونفي العلم عن أكثرهم، ولا تقوم به الحجة عليهم، المبطلة لحقية طلبهم. وإليك الجواب عن هذه الشبهة :
إن الآية الكبرى لخاتم الرسل صلى الله عليه وسلم على نبوته هي القرآن، وإنها لآية مشتملة على آيات كثيرة، وقد احتج عليهم به وتحداهم بسورة من مثله فعجزوا، واحتج عليهم أيضا ببعض ما اشتمل عليه من الآيات كأخبار الغيب. ومما نزل في ذلك قبل سورة الأنعام فاكتفى فيها بالإحالة عليه قوله تعالى في سورة العنكبوت :﴿ وكذلك أنزلنا إليك الكتاب فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به، ومن هؤلاء من يؤمن به، وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون * وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك، إذا لارتاب المبطلون * بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون * وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه، قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين * أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم ؟ إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون ﴾ [ العنكبوت : ٤٧ – ٥١ ].
فالقرآن في جملته آية علمية، وفي تفصيله آيات كثيرة عقلية وكونية، وهي دائمة لا تزول كما زالت الآيات الكونية كعصا موسى مثلا عامة لا تختص ببعض من كان في عصر الرسول كما كانت آية موسى الكبرى خاصة بمن رآها في عصره، وهي أدل على الرسالة من الآيات الكونية، لأن موضوع الرسالة علمي فهو علم موحى به غير مكسوب يقصد به هداية الخلق إلى الحق، فظهور أعلى علوم الهداية على لسان أمي كان هو وقومه أبعد الناس عن كل علم بعبارة أعجزت ببلاغتها قومه كما أعجزت غيرهم، على أنه لم يكن من قبل معدودا من بلغائهم، أدل على كون ذلك موحى به من الله عز وجل من عصا موسى على كون ما جاء به من التوراة موحى به منه تعالى، وهي غير معجزة في نفسها، وقد نشأ من جاء بها في دار ملك أربى على سائر ممالك الأرض بالعلوم والشرائع.
فالآية العلمية القطعية لا يمكن المراء فيها كالمراء في الآية الكونية التي هي أمر غريب غير معتاد يشتبه بكثير من الأمور النادرة التي لها أسباب خفية كالسحر وغيره، ولذلك اختلف علماء المعقول في دلالة المعجزة على النبوة هل هي عقلية أو عادية أو وضعية، وقد جاء في الفصل الثالث عشر من سفر تثنية الاشتراع أن من أتى بآية أو أعجوبة من نبي أو حالم وأمر بعبادة غير الله تعالى لا يسمع له بل يجب قتله لأنه تكلم بالزيغ. فالآيات الكونية إذا لا تدل على صدق كل من تظهر على يديه، بل تختلف دلالتها باختلاف أحوال من تظهر على أيديهم، وبذلك يقول كثير من المتكلمين.
وأما طلبهم للآية أو الآيات، مع وجود هذه الآيات البينات، فسببه محاولة تعجيز الرسول، لا كونه الدليل الذي يرونه موصلا إلى المدلول، وقد قال تعالى لرسوله في هذه السورة :﴿ ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين ﴾ [ الأنعام : ٧ ] وقال في أول سورة القمر :﴿ وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر ﴾ [ القمر : ٢ ] وأكثرهم يقول مثل هذا في كل آية كونية عن اعتقاد، وأما قول بعضهم إن القرآن سحر يؤثر فقد كان عن تضليل وعناد. على أن الله تعالى قد أيد رسوله بآيات أخرى غير الآيات التي اقترحها الجاحدون المعاندون، ازداد بها المؤمنون إيمانا، والجاحدون عنادا وطغيانا. وقد سبق لنا بحث في هذه المسألة من قبل، وسيجيء ما يقتضي العودة إليها بعد.
﴿ وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون ٣٨ والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم ٣٩ ﴾
إن هاتين الآيتين مؤيدتان لما قبلهما ومتممتان له، فإنه بين في الآيات قبلهما أن الظالمين من مشركي مكة جحدوا بآيات الله جحود عناد لا تكذيب وضرب لهم مثل الذين كذبوا الرسل من قبل ولم يهتدوا بما أوتوا من الآيات المقترحة ولا غيرها – بعد هذا بين في هاتين الآيتين أنواعا من آياته تعالى في أنواع الحيوان، وإن المكذبين بآيات الله لم يهتدوا بها، بل ظلوا في ظلمات جهلهم حتى كأنهم لم يروها ولم يسمعوا بها.
وذكر الرازي في وجه النظم ومناسبة الآية الأولى لما قبلها وجهان :
الأول- أنه تعالى بين في الآية الأولى أنه لو كان إنزال سائر المعجزات مصلحة لفعلها ولأظهرها إلا أنه لما لم يكن إظهارها مصلحة للمكلفين لا جرم ما أظهرها. وهذا الجواب إنما يتم إذا ثبت أنه تعالى يراعى مصالح المكلفين ويتفضل عليهم بذلك، فبين أن الأمر كذلك وقرره بأن قال :﴿ وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ﴾ في وصول فضل الله وعنايته ورحمته وإحسانه إليهم، وذلك كالأمر المشاهد المحسوس، فإذا كانت آثار عنايته واصلة إلى جميع الحيوانات فلو كان في إظهار هذه المعجزات القاهرة مصلحة للمكلفين لفعلها ولأظهرها، ولامتنع أن يبخل بها، مع ما ظهر أنه لم يبخل على شيء من الحيوانات بمصالحها ومنافعها، وذلك يدل على أنه تعالى إنما لم يظهر تلك المعجزات لأن إظهارها يخل بمصالح المكلفين، فهذا هو وجه النظم والمناسبة بين هذه الآية وبين ما قبلها والله أعلم.
( الوجه الثاني في كيفية النظم ) قال القاضي إنه تعالى لما قدم ذكر الكفار وبين أنهم يرجعون إلى الله ويحشرون، بين أيضا بعده بقوله :﴿ وما من دابة... ﴾ في أنهم يحشرون. والمقصود بيان أن الحشر والبعث كما هو حاصل في حق الناس فهو أيضا حاصل في حق البهائم. اه بنصه.
والقارئ يرى أن الوجه الثاني الذي اعتمده القاضي من كبار مفسري المعتزلة ليس مبنيا على مسألة خاصة بهم. وأما الوجه الأول الذي اعتمده الرازي من كبار مفسري الأشعرية ومتكلميهم فهو مبني على مذهب المعتزلة وفريق من أهل السنة دون الأشعرية في رعاية مصلحة المكلفين في أحكام الباري تعالى وأفعاله المتعلقة بشؤونهم. والإمام الرازي قد أثبت المصلحة هنا وفي مواضع أخرى ولكنه كثيرا ما يردها أو يرد ما بني عليها. والذي عليه المحققون أن مسألة الصلاح والأصلح ثابتة لا ريب فيها وأن الخطأ والضلال إنما هو في قولهم أن ذلك واجب عليه سبحانه وتعالى وليس عندنا نقل صحيح صريح عن المعتزلة في ذلك، ونقل المخالف لا يعتد به كما قال الفقهاء. وإنما يقال في كل ما ثبت له من صفات الكمال وما تتعلق به من الأفعال المطردة أنها واجبة له لا عليه، لأنه سبحانه هو الأعلى فلا يعلو عليه شيء في شيء ومذهب الأشعرية أن مراعاة المصلحة ليست من الكمال الواجب له تعالى ويحتجون على ذلك بأمراض الأطفال والبهائم. وفي هذه الحجة بحث لا محل له هنا. وقد أشار الرازي بقوله :« ويتفضل عليهم بذلك » إلى أن مراعاة المصلحة تفضل لا يجب اطراده. فهو مما يجوز في حقه لا مما يجب في حقه تعالى.
وقال أبو السعود في أول تفسير الآية : كلام مستأنف مسوق لبيان كمال قدرته عز وجل وشمول علمه وسعة تدبيره ليكون كالدليل على أنه تعالى قادر على تنزيل الآية وإنما لا ينزلها محافظة على الحكم البالغة اه ونقل الآلوسي مثله عن الطبرسي، وقد أخذه أبو السعود من البيضاوي.
﴿ وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ﴾ ( الدابة ) ما يدب على الأرض من الحيوان. والدب والدبيب المشي الخفيف – زاد بعضهم – مع تقارب الخطو و ( الطائر ) كل ذي جناح يسبح في الهواء وجمعه طير، كراكب وركب. ( والأمم ) جمع أمة وهي الجيل أو الجنس من الأحياء، وهذا أحد معاني اللفظ، وقال الراغب : الأمة كل جماعة يجمعهم أمر ما إما دين واحد أو زمان واحد أو مكان واحد، سواء كان ذلك الأمر الجامع تسخيرا أو اختيارا، وجمعها أمم. اه وذكر بعده الآية، وكان ينبغي أن يزيد : أوصفات وأفعال واحدة.
والمعنى أنه لا يوجد نوع ما من أنواع الأحياء التي تدب على الأرض ولا من أنواع الطير التي تسبح في الهواء إلا وهي أمم مماثلة لكم أيها الناس. كما يقول عالم النبات ما من شجرة قامت على ساقها وتشعبت في الهواء أغصانها ولا نجم نبت في هذه الأرض إلا فصائل لها صفات وخواص مشتركة يمتاز بها بعضها عن بعض. فالدابة والطائر هنا مفرد اللفظ مراد به الجنس اللغوي. تقول طائر الحمام وطائر النحل، ودابة الحمير ودابة الأرض، كما تقول شجرة التين وشجرة الزقوم. وناهيك بوصف الدابة بكونها في الأرض ووصف الطائر بكونه يطير بجناحيه. فهو يشعر بذلك. وإن كان في وصف الطائر بما ذكر تنصيص على الحقيقة وسد لطريق المجاز، فقد تجوزوا بالطير عن السرعة كما قال الحماسي :
قوم إذا الشر أبدى ناجذيه لهم طاروا إليه زرافات ووحدانا١
ولاحتمال التجوز بدون القيد المذكور مناسبة قوية وهي عطف الطائر على الدابة إذ هي من الدب الذي هو المشي الخفيف كما تقدم ويقابله السريع الذي يشبه بالطيران. وذكر بعضهم لوصف الطائر بما ذكر نكتة أخرى وهي تصوير هيئة الطيران الغريبة الدالة على قدرة الباري وحكمته لذهن السامع والقارئ، وهو حسن لا ينافي ما تقدم، ولا تزاحم بين النكت المتفقة، ولا بين الحكم المؤتلفة، ويرى الكثيرون أنه لا مانع من جعل كلمتي دابة وطائر على أصل معناهما وهو الدلالة في سياق النفي على استغراق الأفراد، وإنما أخبر عنها بالأمم باعتبار الحمل على معنى الجمعية المستفاد من العموم.
وأما السمك فهو أقرب إلى الطير منه إلى الدواب وله أجنحة قد تسمى الزعانف أكثرها صغير ومنها ما هو كبير كجناح الخفاش، وهو يطير في الماء غالبا وعلى سطحه أحيانا، وقد يسف إلى قاعه فيلاصق أرضه في سيره فيكون أشبه بالزاحف منه بالطائر، ولعل حكمة ترك التصريح به قلة من كان يراه ممن نزلت السورة في مخاطبتهم قبل كل أحد بالدعوة إلى الإسلام وإقامة الدلائل عليهم وهم مشركو مكة. ولمثل هذا المعنى خص دواب الأرض بالذكر لأنها هي التي يراها المخاطبون عامة، ويدركون فيها معنى المماثلة، دون دواب الأجرام السماوية، القابلة للحياة الحيوانية، التي أعلمنا بوجودها في قوله :﴿ ومن آياته خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من دابة وهو على جمعهم إذا يشاء قدير ﴾ [ الشورى : ٢٧ ] فهي قد ذكرت هنا بالتبع لذكر خلق السموات والأرض، فكان الإعلام بها نافلة وفائدة زائدة على ما يقوم به دليل الآية، وهي من أخبار عالم الغيب وردت بعبارة تشعر بما يدل عليها من القياس على عالم الشهادة، وإنما تظهر صحة هذا القياس حتى لغير المؤمن بالقرآن بعد البحث وسعة العلم بالهيئة الفلكية.
وقد علم أهل هذا العلم من المتأخرين أن بعض هذه الكواكب ( كالمريخ ) فيه ماء ونبات، فلا بد أن يكون فيه أنواع من الحيوان، بل فيه إمارات على وجود عالم اجتماعي صناعي كالإنسان، منها ما يرى على سطحه بالمرآة المقربة ( المرقب – التلسكوب ) من الجداول المنظمة والخلجان، فالآية التي نفسرها ترشدنا بهذا وبوصف أنواع الحيوان بأنها أمم أمثالنا إلى البحث في طبائع الأحياء لنزداد علما بسنن الله تعالى وأسراره في خلقه، ونزداد بآياته فيها إيمانا وحكمة وحضارة وكمالا، ونعتبر بحال المكذبين بها، الذين لم يستفيدوا مما فضلهم الله به على الحيوان شيئا فكانوا أضل من جميع أنواعه التي لا تجني على نفسها ما يجنيه الكافر على نفسه.
وقد اختلف المفسرون في وجه المماثلة بين الدواب والطير وبين الإنسان ففي الدر المنثور عن مجاهد في قوله تعالى :﴿ إلا أمم أمثالكم ﴾ قال أصنافا مصنفة تعرف بأسمائها – وعن قتادة : الطير أمة والإنس أمة والجن أمة – وعن السدي : خلق أمثالكم، فالأولان على أن المماثلة بالصفات المشتركة التي يتميز به بعض الأنواع والأصناف عن بعض، وهي التي نسميها المقومات والمشخصات، والثالث على أن المماثلة في أصل الخلق ؛ أي كونها مخلوقة مثلنا، ويتبع ذلك ما يلازمه من حكمة الله وتدبيره فينا وفيها. ونقل الواحدي عن ابن عباس أن المراد بالمماثلة أنها تعرف الله وتوحده وتسبحه وتحمده كما يفعل المؤمنون منا، وتوسع بعض الصوفية في هذا وما قبله فقالوا إنها عاقلة ومكلفة وإن لها رسلا منها. وقيل إن المماثلة بإحصاء الكتاب لجميع الأحوال المتعلقة بحياتها وموتها كالبشر، وقيل إنها بحشر الله تعالى إياها كما يحشرنا وحسابه لها كما يحاسبنا، واختار الرازي أنها بعناية الله تعالى ورحمته بها وفضله عليها، كما تقدم عنه في وجه النظم ومناسبة الآية لما قبلها.
ونقل عن سفيان بن عيينة أنه لما قرأ الآية قال : ما في الأرض آدمي إلا وفيه شبه من بعض البهائم، فمنهم من يقدم إقدام الأسد ومنهم من يعدو عدو الذئب ومنهم من ينبح نباح الكلب ومنهم من يتطوس ( أي يتزين ) كفعل الطاووس، ومنهم من يشبه الخنزير فإنه لو ألقي الطعام الطيب تركه وإذا قام الرجل عن رجيعه ولغ فيه، فكذلك نجد من الآدميين من لو سمع خمسين حكمة لم يحفظ واحدة منها فإن أخطأت مرة واحدة حفظها ولم يجلس مجلسا إلا رواه عنه ( ؟ ) -
ثم قال-فاعلم يا أخي أنك إنما تعاشر البهائم والسباع، فبالغ في الحذار والاحتراز اه. وهذا القول-إذا صح دخوله في ضمن الصفات الحيوانية المشتركة بين الإنسان والحيوان-لا يصح أن يكون هو المراد من الآية وإن جعل الخطاب بها للمشركين خاصة، لأن السياق هنا ليس لبيان عدم استعمال عقولهم وحواسهم في آيات الله كقوله :﴿ أولئك كالأنعام بل هم أضل، أولئك هم الغافلون ﴾ [ الأعراف : ١٧٩ ]، وقوله :﴿ أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون ؟ إن هم إلا كالأنعام بل أضل سبيلا ﴾ [ الفرقان : ٤٤ ]
والمختار عندنا أن الله تعالى أرشدنا إلى أن أنواع الحيوان أمم أمثال الناس، ولم يبين لنا وجه المماثلة بينهما لأجل أن نستعمل حواسنا وعقولنا في البحث الموصل إلى ذلك كما قلنا آنفا، وللمماثلة وجوه كثيرة اهتدى بعض العلماء إلى بعضها ويجوز أن يهتدي غيرهم إلى غير ما اهتدوا إليه، ولا سيما في هذا العصر الذي كثر فيه الأخصائيون في كل علم وفن، وتيسرت فيه أسباب البحث، إذ يوجد في بلاد العلم والحضارة بساتين لتربية أنواع السباع والحشرات والبهائم الوحشية والآنسة والطير والسمك، فالعلماء الذين يعنون بتربيتها ودرس غرائزها وطباعها وأعمالها في تلك البساتين وفي غيرها قد وصلوا إلى علم جم ووقفوا على أسرار غريبة
ومما ثبت من مشابهة النمل للناس أنه يغزو بعضه بعضا، وأن المنتصر يسترق المنكسر ويسخره في حمل قوته وبناء قراه وغير ذلك، وقد صارت أمم العلم والحضارة تحرص على بقاء كل نوع من أنواع الحيوان فإذا رأت بعض ما يصاد من الطير وغيرها قل في بلادها وخشي انقراضه منها تحرم على الناس صيده ولهذا العمل أصل في السنة عندنا فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أحب أن تقتل الكلاب في المدينة لمثل السبب الذي تقتل به حكومة مصر وغيرها الكلاب الضالة، بل كان أمر بذلك ثم نهى عنه وقال :« لولا أن الكلاب أمة لأمرت بقتلها كلها فاقتلوا منها الأسود البهيم »٢ رواه أحمد وأصحاب السنن وصححه الترمذي عن عبد الله بن مغفل، وعلل قتل الكلب الأسود البهيم في حديث آخر عند أحمد ومسلم بأنه شيطان ٣، أي ضار مؤذ فإن اسم الشيطان يطلق لغة على العارم الخبيث من الإنس والجان والحيوان، وقد سأل المنصور العباسي عمرو بن عبيد عن سبب هذا الحديث فلم يعرف فقال المنصور : لأنه ينبح الضيف ويروع السائل.
﴿ ما فرطنا في الكتاب من شيء ﴾ التفريط في الأمر التقصير فيه وتضييعه حتى يفوت-كما في الصحاح-ويقال فرطه وفرط فيه كما في القاموس ولسان العرب. ومنه قوله صخر الغي :
وذلك بزي فلن أفرطه
١ البيت من البسيط، وهو لقريط بن أنيف العنبري في تاج العروس (طير)، (زرف)، وشرح ديوان الحماسة للخطيب التبريزي ١/٥، وشرح ديوان الحماسة
للمرزوقي ١/٢٧، وللعنبري في تاج العروس (طير)، ولسان العرب (طير)..

٢ أخرجه مسلم في المساقاة حديث ٤٧، وأبو داود في الأضاحي باب ٢١، والترمذي في الصيد باب ١٠ وابن ماجة في الصيد باب ٢، ٤، والدارمي في الصيد باب ٣، وأحمد في المسند ٣/٣٣٣، ٤/٨٥، ٥/٥٤، ٥٦، ٥٧، ٥٨
.

٣ لفظ الحديث: « إن الكلب الأسود البهيم، شيطان»، أخرجه مسلم في المساقاة حديث ٧٤، والترمذي في الصيد باب ١٦، وأحمد في المسند ٦/١٥٧..
﴿ وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون ٣٨ والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم ٣٩ ﴾
إن هاتين الآيتين مؤيدتان لما قبلهما ومتممتان له، فإنه بين في الآيات قبلهما أن الظالمين من مشركي مكة جحدوا بآيات الله جحود عناد لا تكذيب وضرب لهم مثل الذين كذبوا الرسل من قبل ولم يهتدوا بما أوتوا من الآيات المقترحة ولا غيرها – بعد هذا بين في هاتين الآيتين أنواعا من آياته تعالى في أنواع الحيوان، وإن المكذبين بآيات الله لم يهتدوا بها، بل ظلوا في ظلمات جهلهم حتى كأنهم لم يروها ولم يسمعوا بها.
﴿ والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات ﴾ أي والكفار الذين كذبوا بآياتنا المنزلة وما أرشدت إليه من آياتنا الدالة على وحدانيتنا وصدق ما جاء به رسولنا تكذيب جحود واستكبار، أو تكذيب جمود على تقليد الآباء وطاعة الكبراء، صم لا يسمعون دعوة الحق والهدى سماع فهم وقبول، وبكم لا ينطقون بما عرفوا من الحق ولا يقرون بما يدعوهم إليه الرسول، متسكعون – أو حال كونهم متسكعين خابطين – في تلك الظلمات الحالكة – ظلمة الشرك والوثنية، وظلمة تقاليد الجاهلية، وظلمة كبرياء العصبية، - وظلمة الجهل والأمية، - ظلمات بعضها فوق بعض، لا ينفذ منها إليهم من نور الهداية شيء، فهم لا يبصرون صراطها، ولا يرون منهاجها، وذلك ما جنوه على أنفسهم بسوء اختيار الأفراد وفساد تربية المجموع، ولكل سيرة غاية تنتهي إليها بحسب سنن الله التي قضت بها حكمته، ونفذت بها مشيئته.
﴿ من يشأ الله يضلله ﴾ أي من تعلقت مشيئة الله بإضلاله يضلله كما أضل هؤلاء الذين استحبوا العمى على الهدى فلم يستعملوا أسماعهم ولا أفواههم ولا عقولهم في آيات الله تعالى الدالة على حقية ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما إضلاله إياهم اقتضاء سننه في عقول البشر وغرائزهم وأخلاقهم أن يعرض المستكبر عن دعوة من يراه دونه، وإتباع من يراه مثله، وإن ظهر له أن الحق معه، وأن يعرض المقلد عن النظر في الآيات والدلائل التي تنصب لبيان بطلان تقاليده وإثبات خلافها، ما دام مغرورا بها مكبرا لمن جرى من الآباء والكبراء عليها. وليس معنى ذلك أن يخلق الله تعالى الضلال لمن شاء إضلاله خلقا، ويجعله له غريزة وطبعا، ولا أن يلجئه إليه إلجاء، ويكرهه عليه إكراها، فيكون إعراضه عن الحق والخير وإقباله على الباطل والشرك حركة الدم في الجسد، وعمل المعدة في الهضم.
﴿ ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم ( ٣٩ ) ﴾ أي ومن يشأ هدايته واستقامته يجعله على طريق مستقيم، وهو طريق الحق الذي لا يضل سالكه، ولا ينجو تاركه، بأن يوفقه لاستعمال سمعه وبصره وعقله في آيات الله المنزلة وآياته المكونة، استعمالا يعرف به الحق ويعترف به، ويعرف به الخير ويعمل به، بحسب سننه سبحانه وتعالى في الارتباط بين الأعمال البدنية، والعقائد والوجدانات النفسية، وليس معناه أن يخلق له الهداية خلقا كما خلق روحه وبدنه، ولا أنه يجبره عليها فيلصق به كارها غير مختار، وفي القرآن آيات كثيرة تدل على أن مشيئة الإضلال إنما تتعلق بأصحاب الأعمال الكسبية التي هي الضلال أو سبب الضلال ومشيئة الهداية تتعلق بما يقابل ذلك.
قال تعالى :﴿ ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها، أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون ﴾ [ الأعراف : ١٧٩ ] وقال تعالى :﴿ ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء ﴾ [ إبراهيم : ٢٧ ] وقال :﴿ وما يضل به إلا الفاسقين ﴾ [ البقرة : ٢٦ ] كما قال :﴿ يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور ﴾ [ المائدة : ١٦ ] فالجمع بين الآيات هو الموافق لفطر البشر وعقولهم وإن خالف بعض نظريات المعتزلة والجبرية والأشعرية، فليس الإنسان خالقا لأفعال نفسه مستقلا بها دون مشيئة خالقه وسننه في خلقه، ولم يجعل الرب ما يصدر عن الناس من الإيمان والكفر والخير والشر من قبيل ما خلقه لهم من حركات دمائهم في أبدانهم، وأعمال معدهم وأمعائهم، ولا من قبيل حركات المرتعش منهم، فلا نغلو في التنزيه والحكمة الإلهية غلوا نجعل به ضلال من ضل واقعا بغير مشيئة الله تعالى مقدر المقادير وواضع السنن الحكيمة في الخلق كله، ولا نغلو في المشيئة منافية للحكمة والرحمة، سالبة لما علم من فطرة الله بالضرورة.
وقد زعم بعض المعتزلة أن الآية في بيان ما يكون عليه الكافرون والمؤمنون في الآخرة كما قال في آية أخرى :﴿ ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما ﴾ [ الإسراء : ٩٧ ] قال وإن المراد بالإضلال إضلالهم عن طريق الجنة جزاء لهم، ويقابله جعل المتقين على صراط موصل إلى الجنة. ويرد هذا التأويل ورود الآية في وصف حال المكذبين بآيات الله في سياق إقامة الحجج عليهم، وليس فيها ذكر للآخرة ولا هي واردة في سياق الجزاء، وإسناد الإضلال إلى الله تعالى لا يقتضي إخراجها عن ظاهرها فمثله في القرآن كثير.
ومن نكت البلاغة في الآية أن قوله تعالى :﴿ صم وبكم في الظلمات ﴾ في معنى قوله في سورة البقرة ﴿ صم بكم عمي ﴾ [ البقرة : ١٨ ] فلماذا سردت الصفات الثلاث في البقرة مفصولة ووصلت كلها بالعطف في آية الإسراء التي ذكرناها آنفا، وعطفت الثانية على الأولى هنا دون قوله :﴿ في الظلمات ﴾ الذي هو في معنى الثالثة ؟ لم أر لأحد كلاما في الفرق بين هذه الآيات ولكن ذكر في روح المعاني أن العطف بين الصم والبكم لتلازمهما وتركه فيما بعدهما للإيماء إلى أنه كاف للإعراض عن الحق.
والذي يظهر لنا في المقابلة أن ترك العطف في آيتي البقرة لبيان أن هذه الصفات لاصقة بالموصوفين بها مجتمعة في آن واحد – والأولى منهما في المختوم على قلوبهم الميئوس من إيمانهم من المنافقين وغيرهم، والثانية في المقلدين الجامدين – وكل منهما لا يستمع الدعوة الحق عند تلاوة القرآن وغيره ولا يسأل الرسول ولا غيره من المؤمنين عما يحوك في قلبه ويجول في ذهنه من الكفر والشك، ولا ينطق بما عساه يعرف من الحق، ولا يستدل بآيات الله المرئية في نفسه ولا الآفاق، فكأنه أصم أبكم أعمى في آن واحد.
وأما الآية التي نفسرها فهي في مشركي مكة ولم يكونوا كلهم من المختوم على قلوبهم الميئوس من إيمانهم، ولا من المقلدين الجامدين الذين لا ينظرون في شيء من الآيات الإلهية المنزلة والمكونة، بل كان منهم الجامد على التقليد والإعراض عن سماع القرآن حتى كأنه أصم ﴿ وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستدبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا ﴾ [ لقمان : ٧ ] ومنهم من يسمع ويعلم أنها الحق ولكنه لا ينطق بما يعلم عنادا، فهذان فريقان منفصلان عطف أحدهما على الآخر لبيان هذا الانفصال.
وقوله « في الظلمات » إما حال منهما لبيان أن كلا منهما خابط في الظلمات المشتركة كظلمتي الشرك والجهل، أو الخاصة بفريق دون آخر كظلمتي التقليد والكبر، فبعض المقلدين غير مستكبرين وهم الفقراء، وبعض المستكبرين غير جامدين على تقليد الآباء، وأما صفة البكم فيكون المكذبون المحكي عنهم قسمين كل منهما فريقان :
الأول : الذين شبهوا بالصم وهم الذين لا يسمعون القرآن مطلقا، استغناء عن هدايته بضلالهم ومشاغبة للداعي إليه ﴿ وقالوا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون ﴾ [ فصلت : ٣٦ ] والذين لا يسمعون سماع فهم وتأمل، لتوهمهم عدم الحاجة إلى دين غير دين آبائهم، أو لأن رؤساءهم ينهونهم ويصدونهم عنه، ولم يوصف هؤلاء بأنهم في الظلمات – على هذه الوجه لأن سماعهم مرجو وهدايتهم مأمولة عند زوال المانع.
الثاني : الذين شبهوا بالبكم وهم الذين عرفوا الحق واستيقنوا صدق الرسول بالآيات والدلائل، ولكنهم يكتمونها أو يجحدون بها كبرا وعنادا، لا تكذيبا له ولا إكذابا، كما تقدم قريبا في الآية ٣٧ – والذين لم يعرفوا الحق ولم يسألوا ولم يبحثوا فهم كالبكم لعدم استفادتهم من الكلام. ووصف هذا الفريق من البكم – وهم الجاهلون – بأنهم في الظلمات لأنهم لا ينظرون في دلالة الآيات المرئية، ووصف بذلك الفريق الأول أيضا – وهم المستكبرون – لأنهم لا تؤثر في قلوبهم رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم وصفاته القدسية، وقد كانت شمائله الشريفة المرضية، وروحانيته التي هي أقوى من الكهربائية، تؤثر في النفوس المستعدة فتجذبها إلى الإيمان، من غير حاجة إلى إقامة حجة ولا تأليف برهان، وقد كان يجيئه الأعرابي السليم الفطرة ممتحنا أو معاديا فإذا رآه آمن وقال ما هذا وجه كذاب. ودخل عليه رجل فأخذته رعدة شديدة من مهابته فقال له صلى الله عليه وسلم « هون عليك فإني لست بملك ولا جبار إنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد بمكة »١ فنطق الرجل بحاجته. رواه الحاكم من حديث جابر وقال صحيح على شرط الشيخين.
ومن الشواهد المؤيدة لما ذكرنا من التقسيم قوله تعالى في سورة يونس ﴿ ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لايعقلون ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون ﴾ [ يونس : ٤٢، ٤٣ ] وأما آية الإسراء فلا يظهر فيها هذا التقسيم، ولا معنى ما دلت عليه آيتا البقرة من إرادة اجتماع تلك الصفات الثلاث الحائلة دون جميع طرق الهداية. وإنما تفيد أن هذه العلل تعرض لهم حالات وأوقات مختلفة من يوم الحشر والجزاء، فيكونون عميا هائمين في الظلمات على وجوههم ﴿ يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم ﴾ [ الحديد : ١٢ ] فلا يرون الطريق الموصل إلى الجنة عند ما يساق أهلها إليها، ويكونون بكما يوم ﴿ لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون ﴾ [ المرسلات : ٣٥، ٣٦ ] وذلك في بعض مواقف القيامة وأحوالها، ويكونون صما لا يسمعون شيئا يسرهم، عندما يسمع المؤمنون المتقون بشرى المغفرة من ربهم. ويؤيد هذا التفسير مجموع ما ورد في الآيات والروايات من بيان حال الكفار في الآخرة وروي نحوه عن ابن عباس رضي الله عنه فظهر الفرق بينه وبين آيتي البقرة المراد بهما اجتماع الصم والبكم والعمى في حال واحدة ووقت واحد كأنها صفة واحدة، ولو حصل بعضها دون بعض لما أفادت أنهم لا يؤمنون.
وتأمل كيف بدأ بذكر الصم في سياق الكلام عن دعوة الإسلام وبيان إعراضهم عن قبولها، وبدأ بذكر العمي في سياق الكلام عن الحشر، فيالله العجب من دقائق بلاغة هذا القرآن التي أعجزت البشر، وكلما غاص غائص في بحارها استفاد شيئا جديدا من فرائد الدرر، فلا تنفد عجائب إعجاز مبانيه، ولا تنتهي عجائب إعجاز معانيه.
١ أخرجه ابن ماجه في الأطعمة باب ٣٠..
﴿ قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين ٤٠ بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون ٤١ ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون ٤٢ فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون ٤٣ فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون ٤٤ فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين ٤٥ ﴾
هذا قول مستأنف أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يوجهه إلى المشركين مذكرا إياهم بما أودع في فطرتهم من توحيده عز وجل ليعلموا أن ما تقلدوه من الشرك عارض فاسد يشغل أذهانهم ومخيلاتهم في وقت الرخاء، وما يخف حمله من البلاء، حتى إذا ما نزل بهم ما لا يطاق من اللأواء، وأثار تقطع الأسباب في أنفسهم ضراعة الدعاء، دعوا الله وحده مخلصين له الدين ﴿ لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين ﴾ [ يونس : ٢٢ ]، وضل عنهم ما كانوا يدعون من الأصنام والأوثان، وما وضعت رمزا له من ملك أو إنسان، لأن هذا دعاء القلب لا دعاء اللسان، - ذكرهم بهذا بعد تذكيرهم بالمشابهة بين أمم الناس وأمم الحيوان، وحال من فسدت قواهم الفطرية من الناس، ولذلك قفى عليه بذكر من تركوا التضرع له تعالى حين البأس، وقبل أن يحيط بهم اليأس، فابتلاهم بالسراء والنعماء، بعد البأساء والضراء، فأعقبهم بدل الشكر فرح البطر، فأخذهم أخذ عزيز مقتدر.
قال تعالى :
﴿ قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين ( ٤٠ ) ﴾ قوله تعالى ( أرأيتكم ) هو عند جمهور علماء العربية بمعنى « أخبروني » والتاء ضمير رفع والكاف حرف خطاب أكد به الضمير لا محل له وتتغير حركته باختلاف المخاطب دون التاء فتظل مفتوحة في المؤنث والمثنى والجمع وقد أطالوا القول في المذهب والآراء في إعرابه ومعناه في كتب اللغة وبعض كتب التفسير. وأقول إن هذه الصيغة « أرأيتكم » في خطاب الجمع بالكاف والميم لم تذكر إلا في هذه الآية وفي الآية الآتية بعد بضع آيات وذكرت في خطاب المفرد بالكاف في قوله تعالى من سورة الإسراء ﴿ أرأيتك هذا الذي كرمت علي ﴾ [ الإسراء : ٦٢ ] الخ وليس في هذه الآية استفهام في الجملة الشرطية ولكن المفسرين قدروا فيها استفهاما محذوفا. قال البيضاوي كغيره : والمعنى أخبرني عن هذا الذي كرمت علي بأمري بالسجود له لم كرمته علي ؟ وجعل قوله بعد ذلك ﴿ لئن أخرتني إلى يوم القيامة ﴾ [ الإسراء : ٦٢ ] الخ – كلاما مبتدأ.
وقد استعمل أرأيت وأرأيتم – بدون كاف – مثل هذا الاستعمال في أكثر من عشرين آية أكثرها قد صرح فيه بعدها بالاستفهام فمنه في جملة غير شرطية قوله تعالى :﴿ أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا ﴾ [ الفرقان : ٤٣ ] وقوله :﴿ قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض ﴾ [ الأحقاف : ٤ ] ومثلها الآيات التي في سورة الواقعة. ومنه في الجمل الشرطية ﴿ أفرأيت إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون ﴾ [ الشعراء : ٢٠٥-٢٠٧ ] ومثلها الآيات التي في آخر سورة العلق والآيات التي في آخر سورة الملك. فمن تأمل هذه الآيات كلها لا يظهر له فيها ما قالوه من أن معناها أخبرني وأخبروني إلا بما يأتي من التوجيه، قال القاضي البيضاوي في ( أرأيتكم ) : استفهام وتعجيب. وقال الراغب في مفرداته بعد الإشارة إلى عدة آيات مصدرة بهذا اللفظ : كل ذلك فيه معنى التنبيه. وقد سدد كل منهما وقارب.
والذي أراه جامعا بين الأقوال أن « أرأيتكم » و « أرأيتم » استفهام عن الرأي، أو عن الرؤية التي بمعنى العلم، وأن الاستفهام في هذا الاستعمال للتقرير، وأن المراد منه التنبيه والتمهيد، لما يذكر بعده من نبإ غريب أو عجيب، أو استفهام تقوم به في المسألة الحجة، وتدحض الشبهة، ولولا أن الاستفهام للتقرير، لما كان لقول الجمهور إنه بمعنى طلب الأخبار وجه وجيه، والمفعول الأول لأرأيت أو أرأيتم التي تتلوها الجملة الشرطية محذوف يفهم من مضمونها ويقدر بحسب المقام وقد تسد الجملة الاستفهامية مسد المفعولين.
والمعنى : قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين المكذبين أرأيتم أنتم أنفسكم كيف تكون حالكم مع من تعبدون – أو أرأيتم ما تدعون من دون الله – أي أخبروني عن رأيكم أو عن مبلغ علمكم في ذلك – إن أتاكم عذاب الله الذي نزل بمن كان من أقوام الرسل قبلكم، كالريح الصرصر العاتية، والصاعقة أو الرجفة القاضية، ومياه الطوفان المغرقة، وحرارة الظلة المحرقة، أو أتتكم الساعة بمقدمات أهوالها، أو ما يلي البعث من خزيها ونكالها، أغير الله في هذه الحالة تدعون ؟ أم إلى غيره فيها تجأرون ؟ إن كنتم صادقين في دعواكم ألوهية هؤلاء الشركاء الذين اتخذتموهم أولياء، وزعمتم أنهم فيكم شفعاء. أو إن كان من شأنكم الصدق فأخبروني أغير الله تدعون إذا أتاكم أحد هذين الأمرين، اللذين يحلو دونهما طعم الأمرين ؟ وذهب بعض المفسرين إلى كون متعلق الاستخبار محذوف تقديره أخبروني إن أتاكم ما ذكر من تدعون لكشفه ؟ أتخصون غير الله بالدعاء كما هو شأنكم في وقت الرخاء ؟ أم تخصونه وحده بالدعاء، وتنسون ما اتخذتم من الشركاء، إذ يضل عنكم من ترجون من الشفعاء ؟ ثم أجاب تعالى عنهم، مخبرا إياهم عما تقتضيه فطرتهم. فقال :﴿ بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون ( ٤١ ) ﴾
ومن مباحث اختلاف الأداء في القراءة أن نافعا قرأ – أرأيت وأرأيتم – بكاف وبغير كاف، في جميع القرآن بتسهيل الهمزة الثانية بأن جعلها بين الهمزة والألف، وقرأ الكسائي بحذفها. والباقون بإثباتها، وهي لغات للعرب معروفة، ومن شواهد حذف الهمزة ( سل بني إسرائيل ) أصلها : اسأل. ومنها في الشعر :
إن لم أقاتل فالبسوني برقعا
أصله فألبسوني.
﴿ قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين ٤٠ بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون ٤١ ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون ٤٢ فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون ٤٣ فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون ٤٤ فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين ٤٥ ﴾
هذا قول مستأنف أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يوجهه إلى المشركين مذكرا إياهم بما أودع في فطرتهم من توحيده عز وجل ليعلموا أن ما تقلدوه من الشرك عارض فاسد يشغل أذهانهم ومخيلاتهم في وقت الرخاء، وما يخف حمله من البلاء، حتى إذا ما نزل بهم ما لا يطاق من اللأواء، وأثار تقطع الأسباب في أنفسهم ضراعة الدعاء، دعوا الله وحده مخلصين له الدين ﴿ لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين ﴾ [ يونس : ٢٢ ]، وضل عنهم ما كانوا يدعون من الأصنام والأوثان، وما وضعت رمزا له من ملك أو إنسان، لأن هذا دعاء القلب لا دعاء اللسان، - ذكرهم بهذا بعد تذكيرهم بالمشابهة بين أمم الناس وأمم الحيوان، وحال من فسدت قواهم الفطرية من الناس، ولذلك قفى عليه بذكر من تركوا التضرع له تعالى حين البأس، وقبل أن يحيط بهم اليأس، فابتلاهم بالسراء والنعماء، بعد البأساء والضراء، فأعقبهم بدل الشكر فرح البطر، فأخذهم أخذ عزيز مقتدر.
﴿ بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون ( ٤١ ) ﴾
أي لا تدعون في تلك الحالة غيره لا وحده ولا معه، بل تخصونه وحده بالدعاء، فيكشف أي يزيل ما تدعونه إلى كشفه إن شاء، لأنه هو القادر عليه دون جميع العباد، وتنسون ما تشركون به الآن من الشفعاء والأنداد، لأن الفزع إليه سبحانه عند شدة الضيق واليأس من الأسباب مركوز في فطرة البشر، تنبعث إليه بذاتها كما تنبعث إلى طلب الغذاء عند الجوع مثلا، فلا يذهب به ما يتلقى بالتعليم الباطل من مسائل الدين غالبا، إلا من تم فساد فطرته، وانتهت سفالة طينته، حتى كان كالأعجم، لا يفهم ولا يفهم، وإنما مثل تعاليم الشرك مع هذه الغريزة الفطرية كمثل ما كان عند المشركين من أحكام الطعام الباطلة مع غريزة التغذي، فإنهم كانوا يحرمون بعض الطيبات كالبحائر والسوائب ويبيحون بعض الخبائث كالميتة والدم المسفوح، فيجنون على غريزة التغذي بأكل هذا والحرمان من ذاك، ثم يأكلون كل شيء عند الاضطرار، كذلك يجنون على غريزة التوجه إلى خالقهم وخالق العالم كله بما يتخذون من الأنداد والأولياء والشفعاء، الذين يتوجهون إليهم كما يتوجهون إلى الله ويحبونهم كحب الله، ذلك الحب الذي منشؤه التقديس واعتقاد القدرة على النفع ودفع الضر من غير طريق الأسباب. فإنهم عند الشدة ينسونها ويدعون الله وحده.
ولهذا الاعتقاد وما يستلزمه من الحب والتعظيم ثلاث درجات : أسفلها وأعرقها في الجهل أن يعتقد في شيء من المخلوقات أنه هو الإله الذي ينفع ويضر بذاته فيتوجه إليه ويدعوه ويتضرع إليه حتى عند اشتداد البأس باكيا متضرعا، لأن غريزة الإيمان بالسلطة الغيبية حصرت عنده في هذا المخلوق أو هذه المخلوقات كما تلقى عن قومه وهو لا يفكر في كون ذلك معقولا أو غير معقول، ويلي هذه الدرجة أن يعتقد أن الإله نفسه قد حل في بعض المخلوقات واتحد بها كما تحل الروح في البدن وتدبره فيكونان بذلك شيئا واحدا، والفصل بين هذه الدرجة وما قبلها هو أن هذه مفرغة في قالب من النظريات الفلسفية، مزينة بحلي وحلل من التخيلات الشعرية، وتلك ساذجة غفل من الفلسفة الجدلية، عطل من المزينات الخيالية، ويشتركان في أن منتحليهما يعبدون ذلك المخلوق المدرك بالحواس، ويدعونه تضرعا وخفية حتى عند اشتداد الكرب والبأس.
ووراءهما الدرجة الثالثة التي هي أرقى درجات الشرك إذ هي أرقها وأضعفها، وهي أن يعتقد أن الله تعالى هو الخالق لكل شيء القادر على كل شيء، المتصرف في كل شيء، ولا يستطيع أحد من دونه شيئا، ولكن له وسطاء بينه وبين عباده، يقربونهم إليه زلفى ويشفعون لهم عنده، فهو لأجلهم يعطي ويمنع، ويضر وينفع، ويغفر ويرحم ويوجد ويعدم. وهذه هي الدرجة التي ارتقت إليها وثنية مشركي قريش، فقد حكى الله تعالى عنهم في كتابه أنهم يقرون بأنه هو الخالق لكل شيء، الذي بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه، وأنهم يقولون فيما اتخذوه من دونه من الأولياء ﴿ ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ﴾ [ الزمر : ٣ ] ﴿ هؤلاء شفعاؤنا عند الله ﴾ [ يونس : ١٨ ] فلما كانوا يعتقدون أن لهم تأثيرا ووساطة في أفعال الله تعالى- كدفع الضر وجلب النفع- يدعونهم ويعظمونهم لأجلها، كان دعاؤهم وتعظيمهم إياهم عبادة، إذ لا معنى للعبادة إلا هذا. ولما كانوا عندهم غير مستقلين بذلك من دون الله، وكان الله تعالى- بزعمهم- غير فاعل ذلك بمحض إرادته الأزلية من دون شفاعتهم ووساطتهم سموا شركاء لله.
وأما التوحيد الخالص فهو الإيمان الجازم بأن الله يفعل ما يشاء ويختار بمحض إرادته الأزلية المنزهة عن تأثير الحوادث فيها، وأن جميع الخلق مسخرون بإرادته وتدبيره، خاضعون لسننه وتقديره، لا يملك أحد منهم لنفسه ولا لغيره شيئا، إلا في دائرة الأسباب التي جعلها بينهم شرعا، وأن الواسطة بين الله تعالى وعباده محصورة في تبليغ رسالته إليهم، دون تصرفه فيهم، وأن شفاعة الآخرة لله وحده، يأذن لمن شاء إذا شاء بما شاء من الدعاء لمن يشاء ممن ارتضى. ومن دلائل ذلك قوله تعالى لخاتم رسله ﴿ ليس لك من الأمر شيء ﴾ [ آل عمران : ١٢٨ ] ﴿ قل إن الأمر كله لله ﴾ [ آل عمران : ١٥٤ ] ﴿ قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ﴾ [ الأعراف : ١٨٨ ] ﴿ إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء ﴾ [ القصص : ٥٦ ] ﴿ قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا ﴾ [ الجن : ٣١ ] ﴿ قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا إلا بلاغا من الله ورسالاته ﴾ [ الجن : ٢٢، ٢٣ ].. ﴿ قل لله الشفاعة جميعا ﴾ [ الزمر : ٤٤ ] ﴿ من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء ﴾ [ البقرة : ٢٥٥ ] ﴿ ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشية مشفقون ﴾ [ الأنبياء : ٢٨ ] الخ.
ولما كانت تلك الوساطة الشركية وهمية لا أثر لها في الوجود وإنما هي تقاليد موروثة كان أولئك الأذكياء جديرين بأن ينسوها إذا جد الجد وعظم الخطب، كالحالتين اللتين ذكرهما الله تعالى في هذه الآية أو ما دونهما كالحالة التي بينها الله تعالى في قوله :﴿ فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون ﴾ [ العنكبوت : ٦٥ ]، وقوله :﴿ وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور ﴾ [ لقمان : ٣١ ] ومثلها في سورة يونس. وقال تعالى في سورة الإسراء :﴿ وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه، فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا ﴾ [ الإسراء : ٦٧ ] فسروا الضلال هنا بالنسيان فهو بمعنى الآية التي نفسرها. وأما ضلال آلهتهم عنهم في الآخرة، فقد ذكر في آيات كثيرة في سور متفرقة، ويراد ببعضها غيبتها عنهم بعدم وجودها معهم هنالك وحرمانهم مما كانوا يرجون من شفاعتها، لا غيبتها عن قلوبهم وخواطرهم كما هو المراد هنا.
وروي عن بعض المفسرين أن المراد بنسيانهم إياهم جعلها بمنزلة المنسي بعدم دعائها فقد ذكر الرازي في النسيان قولين قال الأول : قال ابن عباس : المراد تتركون الأصناف ولا تدعونهم لعلمكم أنها لا تضر ولا تنفع، الثاني : قال الزجاج أن يكون المعنى أنكم في ترككم دعاءهم بمنزلة من قد نسيهم، وهذا قول الحسن لأنه قال : يعرضون عنه إعراض الناسي. اه أقول : لم ينقل ابن جرير ولا ابن كثير في تفاسيرهما ولا السيوطي في الدر المنثور شيئا في الآية عن ابن عباس ولا الحسن ولا غيرهما من مفسري الصحابة والتابعين.
وقد استشكل المفسرون ما دلت عليه الآية من جواز كشف عذاب الاستئصال وعذاب الساعة من المشركين بدعائهم لمخالفته لما عرف من سائر النصوص مع قوله تعالى :﴿ وما دعاء الكافرين إلا في ضلال ﴾ [ الرعد : ١٤ ] وأجيب بأن ما مضت به سنته تعالى في الأمم وما دلت عليه النصوص إنما دل على عدم وقوع هذا الكشف لا على عدم جوازه، وقد علق كشف ذلك هنا بمشيئته تعالى، فهو يقول أنه يكشف ذلك إن شاء، لأن مشيئته نافذة حتى في كشف عذاب الاستئصال وأهوال الساعة، وهما النوعان اللذان لا تتعلق قدر المخلوقين الموهوبة لهم من الله تعالى بشيء من أمرهما، لأنهما فوق الأسباب التي سخرها الله تعالى لخلقه. ولكنه تعالى لا يشاء ذلك لأنه ينافي حكمته وتقدير الذي جرت به سننه في الأمم. ويمكن أن يجاب أيضا بأن المراد بإتيان عذاب الله ظهور إماراته ومقدماته وبالساعة القيامة الصغرى أي الموت بظهور علاماته، ونزول سكراته، والإيمان يقبل قبل وصول عذاب الاستئصال إلى مستحقيه بالفعل وقبل بلوغ الروح الحلقوم من المحتضر ؛ وقيل إن بعض كروب الساعة تكشف حتى عن الكفار ككرب طول الوقوف بالشفاعة العظمى، ولكن هذا لا يصلح جوابا لأنه لا يكون بدعائهم.
﴿ قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين ٤٠ بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون ٤١ ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون ٤٢ فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون ٤٣ فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون ٤٤ فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين ٤٥ ﴾
هذا قول مستأنف أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يوجهه إلى المشركين مذكرا إياهم بما أودع في فطرتهم من توحيده عز وجل ليعلموا أن ما تقلدوه من الشرك عارض فاسد يشغل أذهانهم ومخيلاتهم في وقت الرخاء، وما يخف حمله من البلاء، حتى إذا ما نزل بهم ما لا يطاق من اللأواء، وأثار تقطع الأسباب في أنفسهم ضراعة الدعاء، دعوا الله وحده مخلصين له الدين ﴿ لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين ﴾ [ يونس : ٢٢ ]، وضل عنهم ما كانوا يدعون من الأصنام والأوثان، وما وضعت رمزا له من ملك أو إنسان، لأن هذا دعاء القلب لا دعاء اللسان، - ذكرهم بهذا بعد تذكيرهم بالمشابهة بين أمم الناس وأمم الحيوان، وحال من فسدت قواهم الفطرية من الناس، ولذلك قفى عليه بذكر من تركوا التضرع له تعالى حين البأس، وقبل أن يحيط بهم اليأس، فابتلاهم بالسراء والنعماء، بعد البأساء والضراء، فأعقبهم بدل الشكر فرح البطر، فأخذهم أخذ عزيز مقتدر.
﴿ ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون ( ٤٢ ) ﴾.
أقسم الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم أنه أرسل رسلا قبله إلى أمم قبل أمته فكانوا أرسخ من قومه في الشرك، وأشد منهم إصرارا على الظلم. فإن قومه يدعون الله تعالى وحده عند شدة الضيق وينسون ما اتخذوه من دونه من الأولياء والأنداد، وأما تلك الأمم فلم تلن الشدائد قلوبهم، ولم تصلح ما أفسد الشيطان من فطرتهم.
الأخذ بالبأساء والضراء عبارة عن إنزالهما بهم، وأخذ الشيء يطلق على حوزه وتحصيله بالتناول والملك أو الاستيلاء والقهر، وقد يسند هذا إلى الأسباب غير الفاعلة المريدة كقوله تعالى :﴿ أخذته العزة بالإثم ﴾ [ البقرة : ٢٠٦ ] ﴿ فأخذهم الطوفان ﴾ ] العنكبوت : ١٤ ] ﴿ فأخذهم العذاب ﴾ [ الشعراء : ١٥٨ ] ﴿ فأخذتهم الصيحة ﴾ [ الحجر : ٧٣ ] ﴿ الصاعقة ﴾ [ النساء : ١٥٣ ] ﴿ الرجفة ﴾ [ الأعراف : ٩١ ] والبأساء اسم يطلق على الحرب والمشقة، والبأس الشدة في الحرب والخوف في الشدة والعذاب الشديد والقوة والشجاعة. والبؤس الخضوع والفقر. كذا في لسان العرب. وقال الراغب البؤس البأس والبأساء الشدة والمكروه إلا أن البؤس في الفقر والحرب أكثر، والبأس والبأساء في النكاية، وأورد الشواهد على ذلك. والضراء فعلاء من الضر – وهو ضد النفع وتطلق على السنة أي الجدب والأذى وسوء الحال حسيا كان أو معنويا – كالسراء من السرور وهي ضدها التي تقابلها كالنعماء. وأما الضر فيقابله النفع. وفسر ابن جرير البأساء بشدة الفقر والضيق في المعيشة والضراء بالأسقام والعلل العارضة في الأجسام، ونقل نحوه الرازي عن الحسن. وأخرج أبو الشيخ عن سعيد بن جبير أن البأساء خوف السلطان وغلاء السعر.
والأقوال في الكلمتين متقاربة والفرق بينهما – كما أفهم – أن البأساء يقع في الخارج من الأمور الشديدة الوقع على من يمسه تأثيرها كالحرب الحاضرة الآن فإن وقعها أليم شديد على من أصيبوا بفقد أولادهم أو تخريب بلادهم أو ضيق معايشهم، وأما الضراء فهي كل ما يؤلم النفس ألما شديدا سواء كان سببه نفسيا أو بدنيا أو خارجيا – فعلى هذا تكون البأساء من أسباب الضراء. وقالوا إنهما جاءتا على وزن حمراء ولم يرد في مذكرهما وزن أحمر صفة بل ورد اسم تفضيل. والتضرع إظهار الضراعة بتكلف أو تكثر وهي الضعف أو الذل والخضوع.
ومعنى الآية : نقسم أننا قد أرسلنا رسلا إلى أمم من قبلك فدعوهم إلى توحيدنا وعبادتنا فلم يستجيبوا لهم فأخذناهم أخذ ابتلاء واختبار بالبأساء والضراء ليكون ذلك معدا لهم لما يترتب عليه بحسب طباع البشر وأخلاقهم، من التضرع والجؤار بالدعاء لربهم، إذ مضت سنتنا بجعل الشدائد مربية للناس، بما ترجع المغرورين عن غرورهم، وتكف الفجار عن فجورهم، فما أجدرها بإرجاع أهل الأوهام، عن دعاء أمثالهم من البشر دع ما دونهم من الأصنام، ولكن من الناس من يضل إلى غاية من الشرك والفسق، لا يزيلها بأس ولا يزلزلها بؤس، فلا تنفع معهم العبر، ولا تؤثر فيهم الغير، وكان أولئك الأقوام منهم، ولذلك قال تعالى فيهم :﴿ فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ﴾.
﴿ قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين ٤٠ بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون ٤١ ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون ٤٢ فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون ٤٣ فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون ٤٤ فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين ٤٥ ﴾
هذا قول مستأنف أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يوجهه إلى المشركين مذكرا إياهم بما أودع في فطرتهم من توحيده عز وجل ليعلموا أن ما تقلدوه من الشرك عارض فاسد يشغل أذهانهم ومخيلاتهم في وقت الرخاء، وما يخف حمله من البلاء، حتى إذا ما نزل بهم ما لا يطاق من اللأواء، وأثار تقطع الأسباب في أنفسهم ضراعة الدعاء، دعوا الله وحده مخلصين له الدين ﴿ لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين ﴾ [ يونس : ٢٢ ]، وضل عنهم ما كانوا يدعون من الأصنام والأوثان، وما وضعت رمزا له من ملك أو إنسان، لأن هذا دعاء القلب لا دعاء اللسان، - ذكرهم بهذا بعد تذكيرهم بالمشابهة بين أمم الناس وأمم الحيوان، وحال من فسدت قواهم الفطرية من الناس، ولذلك قفى عليه بذكر من تركوا التضرع له تعالى حين البأس، وقبل أن يحيط بهم اليأس، فابتلاهم بالسراء والنعماء، بعد البأساء والضراء، فأعقبهم بدل الشكر فرح البطر، فأخذهم أخذ عزيز مقتدر.
﴿ فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ﴾ جعل ابن جرير لولا هنا للتحضيض بمعنى هلا، وجعلها الجمهور نافية، أي فهلا تضرعوا خاشعين لنا تائبين إلينا، عند ما جاءهم البئيس من عذابنا، فرأوا بوادره، وحذروا أواخره، لنكشفه عنهم، قبل أن يحيط بهم ؟ أو فما خشعوا ولا تضرعوا إذا جاءهم بأسنا. ﴿ ولكن قست قلوبهم ﴾ فكانت أقسى من الحجر، إذ لم تؤثر فيها النذر، ﴿ وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون ( ٤٣ ) ﴾ من الكفر والمعاصي، بما يوسوس إليهم من تحسين الثبات على ما كان عليه آباؤهم وأجدادهم، وتقبيح الطاعة والانقياد إلى رجل منهم لا مزية له عليهم، وقد فصلنا القول من قبل في تزيين أعمال الناس إليهم وما ينسب منها إلى الشيطان لقبحه، وما ينسب إلى الله تعالى لأنه تعبير عن خلقه وتقديره وسننه في عباده، وما يحسن إسناده إلى المجهول، فيراجع في تفسير ﴿ زين للناس حب الشهوات ﴾ [ آل عمران : ١٤ ] من جزء التفسير الثالث.
﴿ قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين ٤٠ بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون ٤١ ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون ٤٢ فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون ٤٣ فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون ٤٤ فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين ٤٥ ﴾
هذا قول مستأنف أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يوجهه إلى المشركين مذكرا إياهم بما أودع في فطرتهم من توحيده عز وجل ليعلموا أن ما تقلدوه من الشرك عارض فاسد يشغل أذهانهم ومخيلاتهم في وقت الرخاء، وما يخف حمله من البلاء، حتى إذا ما نزل بهم ما لا يطاق من اللأواء، وأثار تقطع الأسباب في أنفسهم ضراعة الدعاء، دعوا الله وحده مخلصين له الدين ﴿ لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين ﴾ [ يونس : ٢٢ ]، وضل عنهم ما كانوا يدعون من الأصنام والأوثان، وما وضعت رمزا له من ملك أو إنسان، لأن هذا دعاء القلب لا دعاء اللسان، - ذكرهم بهذا بعد تذكيرهم بالمشابهة بين أمم الناس وأمم الحيوان، وحال من فسدت قواهم الفطرية من الناس، ولذلك قفى عليه بذكر من تركوا التضرع له تعالى حين البأس، وقبل أن يحيط بهم اليأس، فابتلاهم بالسراء والنعماء، بعد البأساء والضراء، فأعقبهم بدل الشكر فرح البطر، فأخذهم أخذ عزيز مقتدر.
﴿ فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء ﴾ أي فلما أعرضوا عما أنذرهم ووعظهم به الرسل وتركوا الاهتداء به حتى نسوه أو جعلوه كالمنسي في عدم الاعتبار والاتعاظ به لإصرارهم على كفرهم، وجمودهم على تقليد من قبلهم ؛ بلوناهم بالحسنات بما فتحنا عليهم من أبواب كل شيء من أنواع سعة الرزق ورخاء العيش وصحة الأجسام، والأمن على الأنفس والأموال، كما قال تعالى في قوم موسى :﴿ وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون ﴾ [ الأعراف : ١٦٨ ] فلم يتربوا بالنعم، ولا شكروا المنعم، بل أفادتهم النعم فرحا وبطرا، كما أفادتهم الشدائد قسوة وشرا.
﴿ حتى إذا فرحوا بما أوتوا ﴾ منها، فسقوا عن أمر ربهم بطرا وغرورا بها ﴿ أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون ( ٤٤ ) ﴾ أي أخذناهم بعذاب الاستئصال حال كوننا مباغتين لهم أو حال كونهم مبغوتين إذ فجأهم على غرة من غير سبق أمارة ولا إمهال للاستعداد أو للهرب، فإذا هم مبلسون أي متحسرون يائسون من النجاة. أو هالكون منقطعة حججهم.
والإبلاس في اللغة اليأس والقنوط من الخير والرحمة، والتحير والدهشة، وانقطاع الحجة، والسكوت من الحزن أو الخوف والغم، واستشهدوا له بقول العجاج :
يا صاح هل تعرف رسما مكرسا قال نعم أعرفه، وأبلسا١
ولقولهم : أبلست الناقة إذا لم ترغ من شدة الضبعة، وهي بالتحريك شدة شهوة الفحل. يقال ضبعت الناقة ضبعا وضبعة ( من باب فرح ).
والآية تفيد أن البأساء والضراء، وما يقابلهما من السراء والنعماء، مما يتربى ويتهذب به الموفقون من الناس، وإلا كانت النعم، أشد وبالا عليهم من النقم، وهذا ثابت بالاختيار، فلا خلاف في أن الشدائد مصلحة للفساد، وأجدر الناس بالاستفادة من الحوادث المؤمن، كما ثبت في حديث صهيب مرفوعا في صحيح مسلم « عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له. وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له »٢ وقد بينا وجه استفادة المؤمن من الشدائد في تفسير الآيات التي نزلت في شأن غزوة أحد من سورة آل عمران، وهاك بعض ما رووه في ذلك من الآثار، قال الحافظ ابن كثير في تفسير الآية :
قال الحسن البصري : من وسع الله عليه فلم ير أنه يمكر به فلا رأي له ومن قتر عليه فلم ير أنه ينظر له فلا رأي له ثم قرأ :﴿ فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء ﴾ الآية. قال الحسن : مكر بالقوم ورب الكعبة، أعطوا حاجتهم ثم أخذوا، رواه ابن أبي حاتم. وقال قتادة : بغت القوم أمر الله وما أخذ الله قوما قط إلا عند سكرتهم وغرتهم ونعمتهم فلا تغتروا بالله فإنه لا يغتر بالله إلا القوم الفاسقون، رواه ابن أبي حاتم أيضا. وقال مالك عن الزهري :﴿ فتحنا عليهم أبواب كل شيء ﴾ قال رخاء الدنيا وسترها.
وقد قال الإمام أحمد حدثنا يحيى بن غيلان حدثنا رشد بن سعد أبو الحجاج المهري عن حرملة بن عمران التجيبي بن عقبة عن مسلم عن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :« إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج » ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ فلما نسوا ما ذكروا به ﴾ الآية٣ ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث حرملة وابن لهيعة عن عقبة بن مسلم عن عقبة بن عامر به. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا هشام بن عمار حدثنا عراك بن خالد بن يزيد حدثني أبي عن إبراهيم بن أبي عبلة عن عبادة بن الصامت أن رسول الله كان يقول :« إذا أراد الله بقوم اقتطاعا فتح لهم أو فتح عليهم باب خيانة ﴿ حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون ﴾ » كما قال ﴿ فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين ﴾ [ الأنعام : ٤٥ ] ورواه أحمد وغيره اه.
وسيعاد هذا البحث إن شاء الله تعالى في تفسير سورة الأعراف( ٧/٩٣ – ٩٨ ) وغيرها مما في معناها.
ومن مباحث اللفظ النحوية أن ( إذا ) من قوله :﴿ فإذا هم مبلسون ﴾ هي التي يسمونها الفجائية لإفادتها ترتب ما بعدها على ما قبلها فجأة وهي حرف عن الكوفيين، وظرف زمان أو مكان عند البصريين ( قولان ) : منصوبة بخبر المبتدأ، فالمعنى عليه هنا أنهم أبلسوا في مكان إقامتهم أو في زمانها، على أن الفاء وحدها تفيد التعقيب وهو ترتب ما بعدها على ما قبلها من غير فاصل، ولكن الفرق بين « فهم مبلسون » وبين « فإذا هم مبلسون » عظيم، لا يخفى على ذي ذوق سليم، فذالك خبر مجرد، وهذا تمثيل لمعنى مؤكد مجدد.
١ يليه:
وانجلت عيناه من فرط الأسى
والرجز للعجاج في ديوانه ١/١٨٥، ولسان العرب (بلس) (كرس)، والتنبيه وافيضاح ٢/٢٦٢، وتهذيب اللغة ١٢/٤٤٢، وتاج العروس (بلس)، (عجنس)، (كرس)، (وكف)، وجمهرة اللغة ص ٧١٩، وأساس البلاغة (بجس)، وبلا نسبة في لسان العرب (حلب)، ومقاييس اللغة ٥/١٦٩، والمخصص ١/١٢٦، ٥/١٢٣، وتاج العروس (حلب)، وتهذيب اللغة ١٠/٥٣..

٢ أخرجه مسلم في الزهد حديث ٦٤، وأحمد في المسند ٤/٣٣٢، ٣٣٣، ٦/١٥..
٣ أخرجه أحمد في المسند ٤/١٤٥..
﴿ قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين ٤٠ بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون ٤١ ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون ٤٢ فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون ٤٣ فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون ٤٤ فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين ٤٥ ﴾
هذا قول مستأنف أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يوجهه إلى المشركين مذكرا إياهم بما أودع في فطرتهم من توحيده عز وجل ليعلموا أن ما تقلدوه من الشرك عارض فاسد يشغل أذهانهم ومخيلاتهم في وقت الرخاء، وما يخف حمله من البلاء، حتى إذا ما نزل بهم ما لا يطاق من اللأواء، وأثار تقطع الأسباب في أنفسهم ضراعة الدعاء، دعوا الله وحده مخلصين له الدين ﴿ لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين ﴾ [ يونس : ٢٢ ]، وضل عنهم ما كانوا يدعون من الأصنام والأوثان، وما وضعت رمزا له من ملك أو إنسان، لأن هذا دعاء القلب لا دعاء اللسان، - ذكرهم بهذا بعد تذكيرهم بالمشابهة بين أمم الناس وأمم الحيوان، وحال من فسدت قواهم الفطرية من الناس، ولذلك قفى عليه بذكر من تركوا التضرع له تعالى حين البأس، وقبل أن يحيط بهم اليأس، فابتلاهم بالسراء والنعماء، بعد البأساء والضراء، فأعقبهم بدل الشكر فرح البطر، فأخذهم أخذ عزيز مقتدر.
﴿ فقطع دابر القوم الذين ظلموا ﴾ أي فهلك أولئك القوم الذين ظلموا أنفسهم بتكذيب الرسل والإصرار على الشرك وأعماله واستؤصلوا فلم يبق منهم أحد، كنى عن ذلك بقطع دابرهم وهو آخر القوم الذي يكون في أدبارهم، وقيل دابرهم أصلهم وهو مروي عن السدي من المفسرين والأصمعي من نقلة اللغة، والأول أظهر، والمعنى على القولين واحد، ووضع المظهر الموصوف بالموصل موضع المضمر للإشعار بعلة الإهلاك وسببه وهو الظلم، ولا بد من زهوق الباطل فظهور الحق.
﴿ والحمد لله رب العالمين ( ٤٥ ) ﴾ أي والثناء الحسن في ذلك الذي جرى من نصر الله تعالى لرسله بإظهار حججهم، وتصديق نذرهم، وإهلاك المشركين الظالمين وإراحة الأرض من شركهم وظلمهم، - ثابت ومستحق لله رب العالمين المدبر لأمورهم، المقيم لأمر اجتماعهم، بحكمته البالغة، وسننه العادلة. فهذه الجملة بيان للحق الواقع من كون الحمد والثناء على ذلك مستحق لله تعالى وحده، وإرشاد لعباده المؤمنين، يذكرهم بما يجب عليهم من حمده على نصر المرسلين المصلحين، وقطع دابر الظالمين المفسدين، وحمده في عاقبة كل أمر، وخاتمة كل عمل، كما قال في عباده المتقين ﴿ وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ﴾ [ يونس : ١٠ ] وسواء كان ذلك الأمر الذي تم من السراء أو الضراء، فإن للمتقين في كل منهما عبرة وفائدة، ونعمة ظاهرة أو باطنة.
﴿ قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به انظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون ٤٦ قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة هل يهلك إلا القوم الظالمون ٤٧ وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ٤٨ والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون ٤٩ ﴾
إن القول في مناسبة هذه الآيات لما قبلها كالقول فيما قبلها سواء، فهي ضرب من ضروب الدعوة إلى التوحيد والرسالة بوجه آخر من وجوه الاحتجاج،
قال تعالى :
﴿ قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين ﴾ ؟
أي قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين المكذبين بك وبما جئت من التوحيد والهدى أرأيتم ماذا يكون من شأنكم مع آلهتكم الذين تدعونهم راجين شفاعتهم إن أصمكم الله تعالى فذهب بسمعكم، وأعماكم فذهب بأبصاركم، وختم على قلوبكم وألبابكم، التي هي مراكز الفهم والشعور والعقل من أنفسكم، فأصبحتم لا تسمعون قولا، ولا تبصرون طريقا، ولا تعقلون نفعا ولا ضرا، ولا تدركون حقا ولا باطلا، - من إله غير الله يأتيكم بذلك، أو بما ذكر مما أخذ الله منكم ؟ أي لا إله غيره فيقدر على إتيانكم به، ولو كان ما اتخذتم من دونه من الأنداد والأولياء آلهة لقدروا على ذلك، وإذ كنتم تعلمون أنهم لا يقدرون فلماذا تدعونهم والدعاء عبادة لا يكون إلا للإله القدير ؟
﴿ انظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون ( ٤٦ ) ﴾ أي انظر كيف ننوع الحجج والبينات الكثيرة ونجعلها على وجوه شتى ليتذكروا ويقتنعوا، فينيبوا ويرجعوا، ثم هم يعرضون عنها، ويتجنبون التأمل فيها، يقال صدف عن الشيء صدفا وصدوفا إذا أعرض إعراضا شديدا، قيل إنه مأخوذ من صدفة الجبل أي جانبه ومنقطعه. والعطف بثم يفيد الاستبعاد لأن تصريف الآيات والدلائل سبب غاية الإقبال، فكان من المستبعد في المعتاد والمعقول أن يترتب عليه منتهى الإعراض، وقد سبق مثل هذا في أول السورة. ويليه في أوائلها الكلام في إعراضهم عن الآيات، وقد فصلنا القول في تفسيره تفصيلا.
﴿ قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به انظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون ٤٦ قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة هل يهلك إلا القوم الظالمون ٤٧ وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ٤٨ والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون ٤٩ ﴾
إن القول في مناسبة هذه الآيات لما قبلها كالقول فيما قبلها سواء، فهي ضرب من ضروب الدعوة إلى التوحيد والرسالة بوجه آخر من وجوه الاحتجاج،
﴿ قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة هل يهلك إلا القوم الظالمون ( ٤٧ ) ﴾ أي قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين الظالمين أرأيتكم أنتم أنفسكم كيف يكون شأنكم – أو أخبروني عن مصيركم – إن أتاكم عذاب الله الذي مضت سنته في الأولين، بإنزاله بأمثالكم من المكذبين المعاندين، مباغتا ومفاجئا لكم – أو إتيان مباغتة – فأخذكم على غرة لم تتقدمه إمارة تشعركم بقرب نزوله بكم، أو أتاكم ظاهرا مجاهرا – أو إتيان جهرة – بحيث ترون مباديه ومقدماته بأبصاركم. هل يهلك به إلا القوم الظالمون منكم، وهم المصرون على الشرك وأعماله عنادا وجحودا، إذا مضت سنته تعالى في مثل هذا العذاب أن ينجي منه الرسل ومن اتبعهم من المؤمنين. فكأنه قال لا يهلك به غيركم، وإنما تهلكون بظلمكم لأنفسكم وجنايتكم عليها.
وقد ظن بعض المفسرين أن هذا من العذاب الذي يكون عاما يؤخذ فيه غير الظالم بجريرة الظالم كالمصائب التي تحل بالأمم من جراء ظلمهم وفجورهم، الذي يفضي إلى ضعفهم والاعتداء على استقلالهم، أو إلى تفشي الأمراض أو المجاعات فيهم، فتكلفوا في تفسير الآية تكلفا يصححون به ظلمهم، فزعموا أن هلاك غير الظالم بهذا العذاب لا ينافي الحصر لأنه يكون عذابا في الظاهر فقط وأما في الباطن والحقيقة فهو سعادة، لما يترتب عليه من الثواب والدرجات الرفيعة، ومن أشهر هؤلاء الظانين في الآية غير الحق الرازي والطبرسي، ويدل على ما اخترناه ما ذكر من الجزاء على تكذيب الرسل في قوله تعالى :
﴿ وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين ﴾
﴿ قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به انظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون ٤٦ قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة هل يهلك إلا القوم الظالمون ٤٧ وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ٤٨ والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون ٤٩ ﴾
إن القول في مناسبة هذه الآيات لما قبلها كالقول فيما قبلها سواء، فهي ضرب من ضروب الدعوة إلى التوحيد والرسالة بوجه آخر من وجوه الاحتجاج،
﴿ وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين ﴾
أي تلك سنتنا في إهلاك المكذبين للرسل : ما نرسل المرسلين إليهم إلا مبشرين من آمن وأصلح عملا بالجزاء الحسن اللائق بهم، ومنذرين من أصر على الشرك والإفساد في الأرض بالجزاء السيئ الذي يستحقونه ﴿ فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ( ٤٨ ) ﴾ أي فلا خوف عليهم من عذاب الدنيا الذي ينزل بالجاحدين ولا من عذاب الآخرة الذي أعده الله للكافرين، ولا هم يحزنون يوم لقاء الله تعالى على شيء فأتهم لأن الله تعالى يقيهم من كل فزع ﴿ لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون ﴾ [ الأنبياء : ١٠٣ ] وهم الذين قيل فيهم :﴿ وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ﴾ [ القيامة : ٢٢، ٢٣ ] ﴿ وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة ﴾ [ عبس : ٣٨، ٣٩ ] ولك أن تقول إن هؤلاء الكملة لا يحزنون في الدنيا أيضا مما يحزن منه الكفار والفساق كفوات شهوات الدنيا ولذاتها، أو لا يكون حزنهم كحزنهم في شدته وطول أمده، فإنهم إذا عرض لهم الحزن لسبب صحيح، كموت الولد والقريب والصديق، أو فقد المال وقلة النصير، يكون حزنهم رحمة وعبرة، مقرونا بالصبر وحسن الأسوة، لا يضرهم في أنفسهم ولا أبدانهم، ولا يغير شيئا من عاداتهم وأعمالهم، فالإيمان بالله يعصمهم من إرهاق البأساء والضراء، ومن بطر السراء والنعماء، عملا بقوله عز وجل :﴿ ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها، إن ذلك على الله يسير * لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم، والله لا يحب كل مختال فخور ﴾ [ الحديد : ٢٢، ٢٣ ].
﴿ قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به انظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون ٤٦ قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة هل يهلك إلا القوم الظالمون ٤٧ وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ٤٨ والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون ٤٩ ﴾
إن القول في مناسبة هذه الآيات لما قبلها كالقول فيما قبلها سواء، فهي ضرب من ضروب الدعوة إلى التوحيد والرسالة بوجه آخر من وجوه الاحتجاج،
﴿ والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون ( ٤٩ ) ﴾ أي والذين كذبوا بآياتنا التي أرسلنا بها الرسل يصيبهم العذاب في الدنيا أحيانا ولا سيما عند الجحود والعناد، الذي يكون من المجموع دون بعض الأفراد، وفي الآخرة على سبيل الشمول والإطراد، وذلك بسبب فسقهم أي كفرهم وإفسادهم. فهؤلاء قد ذكروا في مقابل الذين آمنوا وأصلحوا أنفسهم وأعمالهم ومعاملاتهم، فالتكذيب يقابل الإيمان ؛ والفسق يقابل الإصلاح، وإن كان أعم منه في اللغة والاصطلاح، فهو يطلق على الكفر والخروج من الطاعة. وفسر ابن زيد الفسق بالكذب هنا وفي كل القرآن وهو تفسير غير مسلم.
والمس اللمس باليد وما يدرك به، ويطلق على ما يصيب المدرك مما يسوءه غالبا من ضر وشر وكبر ونصب ولغوب وعذاب الضراء والبأساء. وهذا الاستعمال كثير في القرآن يعد بالعشرات، ويسند الفعل فيه إلى سبب السوء والألم، وقد أسند إلى ما يسر في مقابلة إسناده إلى ما يسوء في قوله تعالى :﴿ إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها ﴾ [ آل عمران : ١٢٠ ] وفي الآية السابعة عشرة من هذه السورة وقد تقدم، وفي قوله تعالى :﴿ إن الإنسان خلق هلوعا* إذا مسه الشر جزوعا* وإذا مسه الخير منوعا* إلا المصلين ﴾ [ المعارج : ١٩-٢٢ ] وذكر مس الضر في أواخر سورة يونس ( ١٠ : ١٠٧ ) وقابله بإرادة الخير. وقد ورد المس بمعنى الوقاع في سورة البقرة ولم يرد في القرآن بمعنى اللمس باليد إلا في قوله تعالى :﴿ لا يمسه إلا المطهرون ﴾ [ الواقعة : ٧٩ ] أي القرآن. وفسر بعضهم المس بالإطلاع والمطهرين بالملائكة.
﴿ قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون ٥٠ وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون٥١ ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداوة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين٥٢ وكذالك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين٥٣ ﴾
إن الآيات الأربع التي قبل هذه الآيات قد بينت أركان الدين وأصول العقائد وهي توحيد الله عز وجل والرسالة أو وظيفة الرسل عليهم الصلاة والسلام والجزاء على الأعمال. وقد جاءت الآيتان الأوليان من هذه الآيات بعدهن مفصلتين لما فيهن من بيان وظيفة الرسل العامة بتطبيقها على خاتم الرسل صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وإزالة أوهام الناس فيها، ومن بيان أمر الجزاء في الآخرة وكون الأمر فيه لله تعالى وحده، على الوجه الذي يزيد عقيدة التوحيد تقريرا وتأكيدا، وبيانا وتفصيلا. وذهب الرازي إلى أن هذا من بقية الكلام على قوله :﴿ وقالوا لولا أنزل عليه آية من ربه ﴾ [ الأنعام : ٣٨ ] وما قلناه أظهر.
وقد بدئت الآية الأولى بالأمر بالقول على ما علمنا من أسلوب هذه السورة في بيان المسائل التي يتعلق بها التبليغ فقال عز وجل :
﴿ قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك ﴾ أي قل أيها الرسول الذي لم يبعث إلا كما بعث غيره من الرسل مبشرا من أجاب دعوته بحسن الثواب، ومنذرا من ردها سوء العقاب، لهؤلاء الكفار المشاغبين لك بغير علم يميزون به بين شؤون الألوهية وحقيقة الرسالة، الذين يقترحون عليك من الآيات الكونية ما يعلمون أن البشر لا يقدرون عليه، لأنهم – وإن قالوه تعجيزا – يتوهمون أن الرجل من البشر لا يكون رسولا إلا أن يخرج من حقيقة البشرية ويصير إلها قادرا على ما لا يقدر عليه البشر وعالما بكل ما يعجز عن علمه البشر، وإن لم يكن من موضوع الرسالة التي عهد إليه أمر تبليغها، أو يصير ملكا من الملائكة في متعلق قدرته ومتناول علمه، لأن أمر الرسالة في خيالهم ينافي البشرية التي حقرها في أنفسهم جهلهم وسوء حالهم وفساد أعمالهم.
قل لهؤلاء : لا أقول لكم عندي خزائن الله أتصرف بما خزنه وحفظه فيها من أرزاق العباد وشؤون المخلوقات، فالخزائن جمع خزينة أو خزانة وهي ما يخزن فيها الشيء من يريد حفظه ومنع غيره من التصرف فيه، ﴿ ولله خزائن السموات والأرض ﴾ [ المنافقون : ٧ ] يتصرف فيها كما يشاء، ولا يقدر أحد من خلقه على التصرف في شيء منها إلا ما أعطاه تعالى إياه ومكنه من التصرف فيه، والمتصرف بما يعطى من الخزانة لا يكون متصرفا في الخزانة نفسها. فالمستخدمون عند الملك أو الرجل الغني يعطون أجورهم من خزانته فيتصرفون فيها دون الخزانة، وجميع الأحياء العاملين يتصرفون بما يعطيهم الله تعالى من خزائن الموجودات، كل بحسب ما أوتي من الاستعداد، في دائرة ارتباط الأسباب بالمسببات، ولا يقدر أحد منهم أن يتجاوز إلى ذلك ما لم يؤته ولم يصل إليه استعداده، فالتصرف المطلق في كل شيء إنما هو لله القادر على كل شيء، وليس من موضوع الرسالة أن يكون الرسول – المبلغ عن الله تعالى أمر دينه – قادرا على ما لا يقدر عليه البشر من التصرف في المخلوقات بالأسباب، فضلا عن التصرف الذاتي بغير سبب الذي طلبه المشركون منه، وجعلوه شرطا للإيمان له، كتفجير الينابيع والأنهار من أرض مكة وإيجاد الجنات والبساتين فيها، وإسقاط السماء عليهم كسفا، والإتيان بالله والملائكة قبيلا، وغير ذلك مما اقترحوه وحكاه الله تعالى عنهم في سورة الإسراء وغيرها.
بدأ بنفي القدرة على التصرف فيما ليس من شأن البشر التصرف فيه لعدم تسخير الله تعالى إياه لهم بإقدارهم على أسبابه. وثنى بنفي علم الغيب الخاص بالله تعالى فقال :﴿ ولا أعلم الغيب ﴾ أي ولا أقول لكم إني أعلم الغيب وهو ما حجب الله علمه عن الناس بعدم تمكينهم من أسباب العلم به ككونه مما لا تدركه مشاعرهم الظاهرة ولا الباطنة لأنها لم تخلق مستعدة لإدراكه ولا لطرق الاستدلال عليه، أو لأنها مستعدة له بالقوة غير متمكنة من أسبابه بالفعل كعالم الآخرة. فالغيب من جنس المعلومات، كخزائن الله من جنس المقدورات، يراد بهما ما اختص بالله تعالى فلم يمكن عباده من علمه والتصرف فيه، أي لم يعطهم القوى ولم يسخر لهم الأسباب الموصلة إلى ذلك.
والغيب قسمان غيب حقيقي مطلق وهو ما غاب علمه عن جميع الخلق حتى الملائكة وفيه يقول الله عز وجل :﴿ قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله ﴾ [ النمل : ٦٥ ] وغيب إضافي وهو ما غاب علمه عن بعض المخلوقين دون بعض كالذي يعلمه الملائكة من أمر عالمهم وغيره ولا يعلمه البشر مثلا، وأما ما يعلمه بعض البشر بتمكينهم من أسبابه واستعمالهم لها، ولا يعلمه غيرهم لجهلهم بتلك الأسباب أو عجزهم عن استعمالها، فلا يدخل في عموم معنى الغيب الوارد في كتاب الله، وهذه الأسباب منها ما هو علمي كالدلائل العقلية والعلمية، فإن بعض علماء الرياضيات وغيرها يستخرجون من دقائق المجهولات ما يعجز عنه أكثر الناس، ويضبطون ما يقع من الخسوف والكسوف بالدقائق والثواني قبل وقوعه بالألوف من الأعوام، ومنها ما هو عملي كالتلغراف الهوائي أو اللاسلكي الذي يعلم المرء به بعض ما يقع ما في أقاصي البلاد وأجواز البحار التي بينه وبينها ألوف من الأميال، ومنها ما قد يصل إلى حد العلم من الإدراكات النفسية الخفية كالفراسة والإلهام – وأكثر هذا النوع من الانكشاف لوائح تلوح للنفس لا تجزم بها إلا بعد وقوعها – فما يصل منها إلى حد العلم الذي يجزم به صاحبه لاستكمال شروطه يشبه ما ينفرد بإدراكه بعض الممتازين بقوة الحاسة كزرقاء اليمامة التي كانت ترى على بعد عظيم ما لا يراه غيرها، أو بقوة بعض المدارك العقلية كالعلماء الذين أشرنا إليهم آنفا.
وأظهر شروط هذا النوع من الإدراك قوة الاستعداد الفطرية في النفس لذلك وتوجه النفس إلى المدرك توجها قويا لا يعارضه اشتغال قوى بغيرها من المدركات، وكثيرا ما يقع هذا في حال مرض عصبي أو انفعال نفسي قوي يحصر هم النفس كله فيه. وقد تقدم في تفسير ﴿ ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا ﴾ [ الأنعام : ٩ ] من هذه السورة في هذا الجزء كلام نفيس في هذه الإدراكات الخفية الخاصة، ومن الناس من يعدها من خوارق العادات لخفاء أسبابها عنه، ويرده أنها مما يكثر ويتكرر حتى صار معتادا من أهله الكثيرين المختلفين في الملل والنحل والأخلاق والآداب، وما كان كذلك لا يكون من الخوارق كما قال محيي الدين بن العربي. ولكنا مع هذا نقول إن بعضه يصح أن يسمى كرامة كما يعلم من تفسيرنا للآية التاسعة من هذه السورة.
فإن قيل قد علمنا أن الرسالة الإلهية لا تتوقف على إقدار الرسول على التصرف في المخلوقات من غير طريق الأسباب التي سخرها الله للناس لأن موضوعها علمي تعليمي فهي عبارة عن تبليغ ما علمه الله للرسول بوحيه إليه وليس من موضوعها تغيير شيء من خلق الله، ولذلك لم يعط الله تعالى أحدا من رسله قدرة على هداية أحد بالفعل، قال تعالى لخاتم رسله :﴿ ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء ﴾ [ البقرة : ٢٧٣ ] – وقال له – ﴿ إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء ﴾ [ القصص : ٥٦ ] ولو كان لهم شيء من التصرف في الخلق لجعله نوح نبي الله في هداية ولده، وإبراهيم خليل الله في هداية أبيه آزر، ولكن علم الغيب من موضوع الرسالة فإن أصل موضوعها رؤية الملائكة والتلقي عنهم وذلك من عالم الغيب الذي أمرنا بالإيمان به إتباعا للرسول صلى الله عليه وسلم الذي رأى بعينيه وسمع بأذنيه ووعى بقلبه، وقد أثبت تعالى علم الغيب المتعلق بالرسالة للرسل عليهم السلام فقال في آخر سورة الجن :﴿ عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا * إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا * ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددا ﴾ [ الجن : ٢٦ – ٢٨ ] فكيف أمر رسوله أن يتنصل في هذه الآية من ادعاء علم الغيب، وأن يستدل على ذلك بعد نفي التصرف بقوله في أواخر الأعراف :﴿ قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله، ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء، إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون ﴾ [ الأعراف : ١٨٨ ] ؟
نقول أولا : إن ما يظهر الله تعالى عليه الرسل هو من الغيب الإضافي لا الحقيقي المطلق الذي لم يؤت أحدا من خلقه الاستعداد لعلمه، وثانيا : إن إظهاره تعالى إياهم على شيء خاص من هذا الغيب لا يجعل ذلك داخلا في علومهم الكسبية فإن الوحي ضرب من العلم الضروري يجده النبي في نفسه عند ما يظهره الله تعالى عليه فإذا حبس عنه لم يكن له قدرة ولا وسيلة كسبية إليه كما يعلم مما ورد في فترات الوحي وهو مقتضى الإجماع على أن النبوة غير مكتسبة. نعم قد كان يكون توجه قلب الرسول إلى الله تعالى عند بعض الحوادث مقدمة لنزول الوحي في الحكم الذي استشرف له وتوجه إلى الله تعالى ليبينه له كما يرشد إليه قوله تعالى :﴿ قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها ﴾ [ البقرة : ١٤٣ ] الخ وكذلك رؤية نبينا صلى الله عليه وسلم للملك على هيئته التي خلقه الله عليها مرتين، هي خصوصية لا يعد مثلها من علوم الرسل الكسبية. وأما رؤية الملك متمثلا بصورة بشر أو جسم آخر فهو سبب عام لرؤيته، ولكنه لا يتمثل إلا لأمر عظيم، أو آية لنبي أو صديق.
فعلم مما قررناه أن الرسل عليهم الصلاة والسلام لم يعطوا علم الغيب بحيث يكون إدراكه من علومهم الكسبية، كما أنهم لم يعطوا قوة التصرف في خزائن ملك الله وهي ما لم يمكن البشر من أسبابه فيكون من أعمالهم الكسبية، ولا أعطاهم إياه أيضا على سبيل الخصوصية، كما أظهرهم على بعض الغيب الذي هو موضوع الرسالة. ونفي ادعاء الرسول لكل من الأمرين يتضمن التبرؤ من ادعاء الإلهية – كما قيل – أو ادعاء شيء من صفات الإله – وهو أولى ويستلزم الأول – لأن كلا منهما خاص بالإله الذي هو على كل شيء قدير وبكل شيء عليم، وقدرته وعلمه صفتان ذاتيتان له، ويتضمن بيان جهل المشركين بحقيقة الإلهية وحقيقة الرسالة إذ كانوا يقترحون على الرسول من الأعمال، ما لا يقدر عليه إلا من له التصرف فيما وراء الأسباب، ومن الإخبار بما يكون في مستقبل الزمان، ما لا يعلمه إلا من كان علم الغيب صفة له كسائر الصفات، فقد سألوه عن وقت الساعة وعن وقت نزول العذاب الدنيوي بهم. وعن وقت نصر الله تعالى إياه عليهم، وغير ذلك من أمور الغيب.
وإذا كان الله تعالى لم يؤت الرسل ما لم يؤت غيرهم من أسباب التصرف في المخلوقات ومن علم الغيب، وكان من التصرف بالقدرة الذاتية وعلم الغيب خاصا به عز وجل يستحيل أن يشاركه غيره فيه – فمن أين جاءت دعوى التصرف في الكون وعلم الغيب لمن هم دون الرسل منزلة وكرامة عند الله تعالى من المشايخ المعروفين وغير المعروفين حتى صاروا يدعون من دون الله تعالى لما عز نيله بالأسباب والسنن الإلهية « والدعاء هو العبادة » كما صح عن النبي عليه الصلاة والسلام ؟ وقد قال المفسرون إن نفي النبي صلى الله عليه وسلم لهذين عن نفسه هو عبارة عن نفي ادعاء الإلهية وبيان لكون ما اقترحوه عليه مما لا يقدر عليه غير الله تعالى، فضلال المشركين في فهم الرسالة وجعلهم إياها شعبة من الربوبية لا يزال منتشرا في أذهان الناس، حتى بعض المؤمنين باسم القرآن، المتبركين بجلد مصحفه وورقه وبالتغني به في المآثم وغيرها، الجاهلين بما أنزل لبيانه من توحيد الله تعالى وشؤون ربوبيته وألوهيته ومن حقيقة الرسالة ووظيفة الرسل ومن معنى الجزاء على العقائد والأعمال – دع ما دون هذه الأصول الثلاثة من أمور الدين – إذ نرى بعض هؤلاء المعدودين في عرفهم وعرف الناس من أتباع القرآن يدعون التصرف في خزائن الله وعلم الغيب لمن دون الرسل كما قلنا آنفا.
ومن مباحث البلاغة في قوله :﴿ ولا أقول لكم إني ملك ﴾ أنه أعاد فيه « لا أقول لكم » ولم يعدها في نفي علم الغيب، ونكتة ذلك أن نفي علم الغيب ونفي التصرف في خزائن الله يؤلفان التبرؤ من دعوى واحدة هي دعوى الصفات الخاصة بالله تعالى. وأما نفي ادعاء الملكية فهو شيء آخر فأعيد العامل لإفادة ذلك، كأنه قال إنني لا أدعي صفات الإله حتى تطلبوا مني ما لا يقدر عليه أو ما لا يعلمه إلا الله، ولا أدعي أني ملك وهو دون ما قبله حتى تطلبوا مني ما جعله الله ف
﴿ قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون ٥٠ وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون٥١ ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداوة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين٥٢ وكذالك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين٥٣ ﴾
إن الآيات الأربع التي قبل هذه الآيات قد بينت أركان الدين وأصول العقائد وهي توحيد الله عز وجل والرسالة أو وظيفة الرسل عليهم الصلاة والسلام والجزاء على الأعمال. وقد جاءت الآيتان الأوليان من هذه الآيات بعدهن مفصلتين لما فيهن من بيان وظيفة الرسل العامة بتطبيقها على خاتم الرسل صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وإزالة أوهام الناس فيها، ومن بيان أمر الجزاء في الآخرة وكون الأمر فيه لله تعالى وحده، على الوجه الذي يزيد عقيدة التوحيد تقريرا وتأكيدا، وبيانا وتفصيلا. وذهب الرازي إلى أن هذا من بقية الكلام على قوله :﴿ وقالوا لولا أنزل عليه آية من ربه ﴾ [ الأنعام : ٣٨ ] وما قلناه أظهر.
﴿ وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون ( ٥١ ) ﴾ أمر الله تعالى رسوله بهذا الإنذار الخاص بعد أمره بتبليغ الناس حقيقة رسالته وكونها لا تستلزم أن يكون له من التصرف والعلم ما لا يكون إلا لله تعالى ولا أن يكون ملكا من الملائكة. والمناسبة بينهما أن الموصوفين بما ذكر في هذه الآية أجدر من غيرهم بفهم حقيقة الرسالة والانتفاع بنذر الرسول فهي كقوله :﴿ إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه ﴾ [ فاطر : ١٨ ] وقوله :﴿ إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب ﴾ [ يس : ١١ ] أي وأنذر بما يوحي إليك جماعة المؤمنين بك الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم أي يخافون شدة وطأة الحشر، والقدوم على الله عز وجل، وما فيه من شدة الحساب، وما يتبعه من الجزاء على الأعمال، في يوم ﴿ لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة ﴾ [ البقرة : ٢٥٤ ] ﴿ يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله ﴾ [ الانفطار : ١٩ ] وكل يأتيه فيه فردا ليس له من دونه ولي ينصره، ولا شفيع يدفع عنه، إذ أمر النجاة متوقف على مرضاته عز وجل، فإن هؤلاء هم الذين يرجى أن يتقوا الله تعالى اهتداء بإنذارك ويتحروا ما يؤدي إلى مرضاته، لا يصدهم عن تقواه الاتكال على الأولياء، ولا الاعتماد على الشفعاء، لصحة توحيدهم، وعلمهم أن الشفاعة لله جميعا ﴿ ما من شفيع إلا بعد إذنه ﴾ [ يونس : ٣ ] ﴿ ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون ﴾ [ الأنبياء : ٢٨ ] وأن نجاتهم وسعادتهم إنما تكون بإيمانهم وأعمالهم، وتزكيتهم لأنفسهم، لا بانتفاعهم بصلاح غيرهم، أو اعتمادهم على شفاعة الشفعاء لهم، كالمشركين وغيرهم من الكافرين الذين جهلوا أن مدار سعادة الدنيا والآخرة على تزكي النفس وطهارتها بالإيمان الصحيح والأخلاق الكريمة، وما يلزمها من الأعمال الصالحة، التي يترتب عليها رضاء الله عنها، لا على أمر خارج عن النفس لا تأثير له فيها.
هذا ما يتبادر إلى الفهم من معنى الآية مؤيدا بآيات كثيرة أخرى بل بجملة الدين وكلياته التي أشرنا إليها آنفا. وبنحوه فسرها الحافظ ابن كثير في تفسيره المأثور وهاك نص عبارته : أي وانذر بالقرآن يا محمد الذين هم من خشية ربهم مشفقون، الذين يخشون ربهم ويخافون سوء الحساب، الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم أي يوم القيامة ليس لهم أي يومئذ من دونه ولي ولا شفيع أي لا قريب لهم ولا شفيع فيهم إلا الله عز وجل لعلهم يتقون فيعملون في هذه الدار عملا ينجيهم الله به يوم القيامة من عذابه، ويضاعف لهم به الجزيل من ثوابه. اه.
فالآية قد نزلت في إنذار المؤمنين الذين يخافون الله ويرجونه، وقد روى أحمد وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ وغيرهم عن عبد الله بن مسعود أنها نزلت هي وما بعدها في صهيب وعمار وبلال وخباب ونحوهم من ضعفاء المسلمين السابقين الأولين وسيأتي بيان ذلك، ولما كانت نافية للشفاعة عنهم لجأ بعض مفسري الخلف إلى تأويلها، وذهب بعضهم أنها لا تحتاج إلى تأويل « لأن شفاعة الملائكة والرسل للمؤمنين إنما تكون بإذن الله لقوله :﴿ من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ﴾ [ البقرة : ٢٥٥ ] فلما كانت تلك الشفاعة بإذن الله كانت في الحقيقة من الله تعالى » قاله الرازي في وجه نزول الآية في المؤمنين وذكر فيها وجهين آخرين أحدهما أنها نزلت في الكفار وثانيهما أنها عامة.
ومن المعلوم أن كل ما يتعلق بالكفار في هذه السورة فالمراد به مشركو مكة وما حولها وإنما يدخل فيه غيرهم بدلائل العموم، وكان أولئك المشركون ينكرون الحشر ويثبتون الشفاعة عند الله لآلهتهم وأوليائهم الذين اتخذوا لهم التماثيل والأصنام، كإبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام، إلا من شذ منهم فقال بالبعث، ولا أذكر الآن أنه كان في مكة أحد منهم عند نزول السورة، ولا يعقل أن تكون الآية نزلت في إنذار هذا الشاذ النادر.
ولكن أبا السعود تنطع في التأويل فذهب إلى أن الإنذار هنا موجه « إلى من يتوقع منهم التأثير في الجملة وهم المجوزون منهم للحشر على الوجه الآتي سواء كانوا جازمين بأصله كأهل الكتاب وبعض المشركين المعترفين بالبعث المترددين في شفاعة آبائهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كالأولين، أو في شفاعة الأصنام كالآخرين، أو مترددين فيهما معا كبعض الكفرة الذين يعلم من حالهم أنهم إذا سمعوا بحديث البعث يخافون أن يكون حقا، وأما المنكرون للحشر رأسا، والقائلون به القاطعون بشفاعة آبائهم أو بشفاعة الأصنام، فهم خارجون ممن أمر بإنذارهم، وقد قيل هم المفرطون في الأعمال من المؤمنين، ولا يساعده سباق النظم الكريم ولا سياقه، بل فيه ما يقضي باستحالة صحته، كما ستقف عليه » – هذه عبارته وقد جعل جملة ﴿ ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع ﴾ حالا من ضمير ( يحشروا ) – قال – « والمعنى أنذر به الذين يخافون أن يحشروا غير منصورين من جهة أنصارهم على زعمهم. ومن هذا أنصح أن لا سبيل إلى كون المراد بالخائفين المفرطين من المؤمنين إذ ليس لهم ولي سواه تعالى يخافون الحشر بدون نصرته، وإنما الذي يخافونه الحشر بدون نصرته عز وجل » اه. وقد لخص كلامه السيد الآلوسي في روح المعاني وقال :« هو تحقيق لم أره لغيره ويصغر لديه ما في التفسير الكبير، ولعل ما روي عن ابن عباس والحسن رضي الله عليهم لم يثبت عنهما فتدبر » اه ومراده بما روي عن الحبر والحسن هو أن الآية نزلت في المؤمنين.
ونقول : قد تدبرنا الكلام فوجدنا أن هذا الذي سميته تحقيقا تنطع وتكلف بعيد عن سباق الآية وسياقها، ولولا إعجابك بهذا الرجل واعتمادك عليه في جل تفسيرك لما خفي عن ذهنك المنير تكلفه هذا الذي خالف فيه المأثور المتبادر من النظم الكريم الموافق للحال الذي نزلت فيه السورة، فجعل الإنذار موجها إلى من لا يكاد يوجد أحد منهم في مكة من أهل الكتاب وشذاذ المشركين. ولا حاجة في حال توجيه الإنذار إلى المؤمنين إلى تخصيصه بالمفرطين منهم، ولم يكن في المؤمنين يومئذ مفرط ولا مقصر، بل كلهم سابق بالخيرات مشمر، فهم السابقون الأولون الذين شهد الله تعالى لهم وأثبت في كتابه رضاءه عنهم، والمأثور أن هؤلاء الذين أمر صلى الله عليه وسلم بإنذارهم هم الذين نهى عن طردهم بقوله عز وجل :﴿ ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ﴾
﴿ قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون ٥٠ وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون٥١ ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداوة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين٥٢ وكذالك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين٥٣ ﴾
إن الآيات الأربع التي قبل هذه الآيات قد بينت أركان الدين وأصول العقائد وهي توحيد الله عز وجل والرسالة أو وظيفة الرسل عليهم الصلاة والسلام والجزاء على الأعمال. وقد جاءت الآيتان الأوليان من هذه الآيات بعدهن مفصلتين لما فيهن من بيان وظيفة الرسل العامة بتطبيقها على خاتم الرسل صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وإزالة أوهام الناس فيها، ومن بيان أمر الجزاء في الآخرة وكون الأمر فيه لله تعالى وحده، على الوجه الذي يزيد عقيدة التوحيد تقريرا وتأكيدا، وبيانا وتفصيلا. وذهب الرازي إلى أن هذا من بقية الكلام على قوله :﴿ وقالوا لولا أنزل عليه آية من ربه ﴾ [ الأنعام : ٣٨ ] وما قلناه أظهر.
﴿ ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ﴾ روى أحمد وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني وغيرهم عن عبد الله بن مسعود قال : مر الملأ من قريش على النبي صلى الله عليه وسلم وعنده صهيب وعمار وخباب ونحوهم من ضعفاء المسلمين فقالوا يا محمد أرضيت بهؤلاء من قومك ؟ أهؤلاء من الله عليهم من بيننا ؟ أنحن نكون تبعا لهؤلاء ؟ أطردهم عنك فلعلك إن طردتهم أن نتبعك. فأنزل فيهم القرآن ﴿ وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ﴾ – إلى قوله – ﴿ أليس الله بأعلم بالشاكرين ﴾ وقيل إلى قوله :﴿ سبيل المجرمين ﴾.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن عكرمة قال : مشى عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وقرظة بن عمرو بن نوفل والحارث بن عامر بن نوفل في أشراف الكفار من بني عبد مناف إلى أبي طالب فقالوا له : لو أن ابن أخيك طرد عنا هؤلاء الأعبد١ فإنهم عبيدنا وعسفاؤنا٢ كان أعظم له في صدورنا وأطوع له عندنا وأدنى لإتباعنا إياه وتصديقه. فذكر ذلك أبو طالب للنبي صلى الله عليه وسلم فقال عمر بن الخطاب : لو فعلت يا رسول الله حتى ننظر ما يريدون بقولهم، وما يصيرون إليه من أمرهم، فأنزل الله :﴿ وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ﴾ – إلى قوله – ﴿ أليس الله بأعلم بالشاكرين ﴾ قال وكانوا بلالا وعمار بن ياسر وسالما مولى أبي حذيفة وصبيحا مولى أسيد، ومن الحلفاء ابن مسعود والمقداد بن عمرو وواقد بن عبد الله الحنظلي وعمرو بن عبد عمرو ذو الشمالين ومرثد بن أبي مرثد وأشباههم، ونزلت في أئمة الكفر من قريش والموالي والحلفاء ﴿ وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا ﴾ فلما نزلت أقبل عمر بن الخطاب فاعتذر فأنزل الله :﴿ وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا ﴾. هذا أقوى ما أورد السيوطي في الدر المنثور، واختصر الروايتين في لباب النقول.
ولا ينافي هذا نزول السورة دفعة واحدة وكون هذه الآيات ليست مما استثناه بعضهم وبيناه في الكلام عليها قبل الشروع في تفسيرها، لأن قولهم أن كذا نزل في كذا يصدق بنزوله وحده وبنزوله في ضمن سورة كاملة أو سياق من سورة لكن ظاهر ما زاده عكرمة من نزول ﴿ وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا ﴾ في عمر يدل على أن نزولها كان بعد اعتذاره وأن اعتذاره كان بعد نزول ما قبلها، ويعارض هذا الظاهر ما ورد في نزولها دفعة واحدة وكون هذه الآية ليست مما استثني وهو أثبت من هذه الرواية وما ورد في سبب نزول الآية أيضا وسيأتي قريبا، وحينئذ يقال إما أن الزيادة غير مقبولة، وإما أن ظاهر العبارة غير مراد، وإنما لم نرد الرواية من أصلها مع أن في سندها من المقال ما فيه لأن نزول الآيات الأولى في ضعفاء الصحابة هو الواقع الذي لا مندوحة عنه والروايات فيه مبينة للواقع يؤيد فيه بعضها بعضا فلا يضر في مثله ضعف الراوي ببدعة أو بتدليس أو تحديث بعد اختلاط أو نحو ذلك من العلل التي في رجال هذه الرواية.
وأما كون هذا هو الواقع فمعلوم من السيرة النبوية ومن سنة الله تعالى في خلقه المبينة في آيات كثيرة من كتابه وهو أن أول أتباع خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم كأتباع من تقدمه من إخوانه الرسل صلى الله عليه وسلم أكثرهم من الضعفاء الفقراء، وأن أعداءه كأعدائهم هم المترفون من الأكابر والرؤساء، وأن هؤلاء الأعداء المستكبرين عن الإيمان كانوا يحتقرون السابقين إلى الإيمان ويذمونهم ويعدون أنفسهم معذورين أو محقين بعدم رضائهم لأنفسهم بمساواتهم، وتارة يقترحون على الرسل طردهم وإبعادهم، قال الله تعالى في سورة سبأ :﴿ وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها أنا بما أرسلتم به كافرون* وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين ﴾ [ سبأ : ٣٤ ] وقال تعالى في سورة هود حاكيا قول الملأ أي الأشراف من قوم نوح عليه السلام له ﴿ وما نراك أتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي ﴾ [ هود : ٢٧ ] وقوله لهم :﴿ وما أنا بطارد الذين آمنوا أنهم ملاقو ربهم ﴾ - إلى قوله- ﴿ أفلا تذكرون ﴾ [ هود : ٢٨ ] وقد حكى الله عن كفار قريش أنهم قالوا في هؤلاء الضعفاء السابقين إلى الإسلام ﴿ لو كان خيرا ما سبقونا إليه ﴾ [ الأحقاف : ١٠ ] وقال في شأنهم من سورة مريم :﴿ وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا*وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورئيا ﴾ [ مريم : ٧٢ ].
ومعنى الآية هنا ولا تطرد أيها الرسول هؤلاء المؤمنين الموحدين الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي أي في أول النهار وآخره أو في عامة الأوقات لأنه يكنى بطرفي الشيء عن جملته، يقال يفعل كذا صباحا ومساء، إذا كان مداوما عليه، وإذا أريد بالغدو والعشي حقيقتهما فيحتمل أن يراد بالدعاء الصلاة لأنها كانت في أول الإسلام صلاتين إحداهما في الصباح والأخرى في المساء، وروي عن مجاهد أن المراد صلاتا الصبح والعصر، وإلا فالدعاء الحقيقي والصلاة والقرآن المشتملين عليه. والغداة والغدوة كالبكرة ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، والعشي آخر النهار وقيل من المغرب إلى العشاء وقيل من بعد الزوال.
وقرأ ابن عامر ( بالغدوة ) بضم الغين وفتح الواو، ويساعده رسم المصحف لأن الكلمة فيه بالواو كالصلوة والزكوة، والباقون بالغداة بفتح الغين وقلب الواو ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها حسب القاعدة، واستعملت غدوة بالضم بالتنوين وبغير التنوين كبكرة ومعرفة بالألف واللام كما نقل سيبويه عن الخليل فإذا نونت قصد بها صباح يوم غير معين وإذا لم تنون قصد بها صباح معين، ولعل الأكثر في استعمالها أن تكون بغير الألف واللام، وقد ظن أبو عبيد أن هذا مطرد، ولم يعلم أن قراءة ابن عامر رواية متواترة يثبت بها تعريف الغدوة في أصح الكلام بل ظن أنها خطأ جاء من جهة الرسم فخطأ من قرأ بذلك، وحسبك في تخطئته هو أن القراءة متواترة وإن لم ينقل الخليل- وكذا المبرد- تعريفها عن العرب. والمشهور أن منع صرف غدوة وبكرة للعلمية الجنسية وقيل للعلمية الشخصية٣.
وقوله تعالى :« يريدون وجهه » حال من ضمير يدعون، أي يدعون ربهم بالغداة والعشي مريدين بهذا الدعاء وجهه سبحانه وتعالى، مبتغين مرضاته، أي يتوجهون به إليه وحده مخلصين له الدين فلا يشركون معه أحدا، ولا يرجون من غيره عليه ثوابا. ولا يتوقعون به من أحد مدحا ولا نفعا، فهذا التعبير يدل على الإخلاص لله تعالى في العمل وابتغاء مرضاته به وحده وعدم الرياء فيه، كما قال تعالى حكاية عن المطعمين الطعام على حبه ﴿ إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا ﴾ [ الإنسان : ٩ ] وكما قال في الأتقى الذي ينفق ماله ليتزكى به عند الله تعالى ويكون مقبولا مرضيا لديه ﴿ وما لأحد عنده من نعمة تجزى، إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى، ولسوف يرضى ﴾ [ الليل : ١٩-٢١ ] ولعل أصل ابتغاء الوجه بالعمل هو أن يعمل ليواجه به من عمل لأجله فيعتني بإتقانه ما لا يعتني بإتقان ما يعمل ليرسل إلى من عمل له أو لأنه مطلوب في الجملة من غير أن يلاحظ العامل أن من يعمله له يراه، فضلا عن كونه هو الذي يعرضه بنفسه على من يريد التقرب إليه به. وذلك أن الأعمال التي تعمل للملوك والأمراء منها لا يرونه البتة كأن يكون لما لا يطلعون عليه من أعمال الخدمة في قصورهم ومنها ما يرونه رؤية إجمالية مع كثير من أمثاله، وما يرونه منها يعرضه عليهم عمالهم وحجابهم، ومنها ما قد يعرضه العامل بنفسه ويقابل وجه الملك به، ولا شك أن هذا النوع من العمل هو الذي يعتني به أكمل الاعتناء ولا يفكر العامل له في وقعه عند الحجاب أو الوزراء أو غيرهم من بطانة الملك أو حاشيته لعلمه بأنه هو الذي سيعرضه عليه ويلقاه به، فيكون همه محصورا في جعله مرضيا عنده جديرا بقبوله وحسن الجزاء عليه.
ولا يغرنك ما تخيله بعض الصوفية من جعل ابتغاء ثواب الله تعالى منافيا لابتغاء مرضاته أو ابتغاء وجهه فالحق أن لا منافاة وأن الكمال في الجمع بين الأمرين، وأن العمل لأجل الذات التي يفسرون بها الوجه مع عدم قصد الرضاء ولا الثواب من النظريات التي لا يسهل إثبات إمكانها ولا مشروعيتها، ولا ينكر ما يعرض لبعض الناس من الأحوال النفسية التي تحصر تخيلهم فيها، حتى يظنوا أنها حقيقة ثابتة في نفسها، وصاحب تلك الحال لا يعرف حقيقة الذات ولا يعقل معنى كون العمل لها، نعم إن من الواقع الذي لا ينكر أن يقصد العامل بعمله النجاة من عقاب النار، أو الفوز بنعيم الجنة، وإن هذا حسن ومحمود شرعا، ولكنه دون مرتبة الكمال الذي هدى إليه القرآن وهو أن يقصد المؤمن بالعمل الصالح تزكية نفسه وتكميلها لتكون أهلا للقاء الله ومحلا لمرضاته وثوابه في دار كرامته، وأعلى الثواب رضوان الله تعالى وكمال العرفان والعلم به المعبر عنه في الأحاديث الشريفة برؤية وجهه الكريم، بلا كيف ولا تشبيه ولا تمثيل، وقد قربنا هذا المعنى العالي في باب الفتوى من المنار فيراجع فيه، ولعلنا نعود إليه في التفسير.
﴿ ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم ﴾ أي ما عليك شيء ما من أمر حساب هؤلاء الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي على دعائهم ولا غيره من أعمالهم الدينية- كما تدل على ذلك صلة الموصول- وإلا فظاهر تأكيد النفي عمومه، كما أنه ليس عليهم شيء ما من أمر حسابك على أعمالك حتى يمكن أن يترتب على هذا أو ذاك طردك إياهم بإساءتهم في عملهم أو في محاسبتك على عملك، فإن الطرد جزاء وإنما يكون على عمل سيء يستوجبه ولا يثبت إلا بحساب، والمؤمنون ليسوا عبيدا للرسل ولا أعمالهم الدينية لهم، بل هي لله تعالى يريدون بها وجهه لا أوجه الرسل وحسابهم عليه تعالى لا عليهم، وإنما الرسل هداة معلمون، لا أرباب ولا مسيطرون، ﴿ فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمصيطر ﴾ [ الغاشية : ٢١، ٢٢ ] وإذا لم يكن للرسل حق السيطرة على الناس ومحاسبتهم على أعمالهم فليس للناس عليهم هذا الحق بالأولى.
والمأثور عن النصارى أن المسيح عليه السلام كان يسمى معلما وإن أتباعه في عهده كانوا يسمون تلاميذ. وأما أتباع نبينا صلى الله عليه وآله وسلم فقد اختار لهم كلمة الأصحاب الدالة على المساواة تواضعا، على أن من أصول شريعته الكاملة أنه صلى الله عليه وسلم مساو في أحكامها لسائر المؤمنين فيما يجب ويندب ويحل ويحرم ويباح ويكره إلا ما خصه الله تعالى به من الأحكام. ولم تكن تلك الأحكام الخاصة من قبيل ما يعهد الناس من امتياز الملوك على الرعايا من أمور الأبهة والزينة والعظمة الدنيوية والنعم بل هي أحكام شاقة لا يقوى على القيام بها غيره صلى الله عليه وسلم كوجوب قيام الليل عليه وكون ما يتركه صدقة للأمة لا إرثا لذريته، وكفالته عدة أزواج من الأرامل أكثرهن مسنات يساوي بينهن وبين عائشة الجميلة الصورة البارعة الذكاء في كل ما يملك من نفسه وذات يده ( وحكمة تعددهن قد فصلناها في تفسير آية تعدد الزوجات من أول سورة النساء ).
وقيل إن المراد هنا الحساب على الرزق والفقر إذ زعم المشركون أن أولئك الضعفاء ما آمنوا به صلى الله عليه وسلم إلا لأنهم يجدون عنده رزقا وأنهم ليسوا بصادقين في إيمانهم. فكأن الله تعالى يقول له ليس عليك من حساب رزقهم ولا عليهم من حساب رزقك شيء وإنما يرزقكم الله جميعا. وحمل الآية على هذا ضعيف وإن نقل عن ابن زيد، والأول منقول عن عطاء وعليه الجمهور، وإذا صح أن كبرا
١ الأعبد: جمع عبد.
٢ العسفاء، جمع عسيف وهو الأجير..
٣ ذهب شيخنا في أعلام الأجناس إلى أن أصلها أسماء أجناس خصص كل منها بفرد معين لسبب عرض فصار علم شخص، ثم جهل عين ذلك الفرد وصار اللفظ يطلق على كل فرد مثله كإطلاق علم الشخص، فسمي علما لاعتبار التشخص الفردي في كل استعمال له وقيل علم جنس لأنه يصح إطلاقه على كل فرد من أفراد ذلك الجنس لكن باعتبار التشخص، سمعت نحو هذا منه في طرابلس الشام وإنه قاله لسائل سأله في تونس عند رحلته الأولى إليها عن الفرق بين اسم الجنس وعلم الجنس. ومثال ذلك لفظ أسامة هو ليس اسما لجنس الأسد كلفظ الليث مثلا، وليس الآن اسما لأسد معين إذا مات بطل استعمال الاسم بموته إلا أطلق بوضع آخر على أسد آخر معين، بل يطلق على كل أسد معين إذا خوطب أو حكي عنه رؤيته أو نسبة فعل إليه كافتراس حيوان أو إنسان أو لعب أو صراع مما يسخر الناس له الأسود كغيرها من السباع، وكذلك غدوة إذا استعملت في أول يوم معين تعد علم جنس فتكون معرفة غير مصروفة. يقال أتيته غدوة فلم أجده- والراد غدوة النهار الذي يتكلم فيه المتكلم أو يحكي عنه إن كان ثم حكاية. (المؤلف).
.

﴿ قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون ٥٠ وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون٥١ ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداوة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين٥٢ وكذالك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين٥٣ ﴾
إن الآيات الأربع التي قبل هذه الآيات قد بينت أركان الدين وأصول العقائد وهي توحيد الله عز وجل والرسالة أو وظيفة الرسل عليهم الصلاة والسلام والجزاء على الأعمال. وقد جاءت الآيتان الأوليان من هذه الآيات بعدهن مفصلتين لما فيهن من بيان وظيفة الرسل العامة بتطبيقها على خاتم الرسل صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وإزالة أوهام الناس فيها، ومن بيان أمر الجزاء في الآخرة وكون الأمر فيه لله تعالى وحده، على الوجه الذي يزيد عقيدة التوحيد تقريرا وتأكيدا، وبيانا وتفصيلا. وذهب الرازي إلى أن هذا من بقية الكلام على قوله :﴿ وقالوا لولا أنزل عليه آية من ربه ﴾ [ الأنعام : ٣٨ ] وما قلناه أظهر.
﴿ وكذلك فتنا بعضهم ببعض ﴾ أي ومثل ذلك الفتن – أي الابتلاء والاختيار – العظيم، الذي دل عليه النظم الكريم، بمعونة وقائع الأحوال، وما كان عند نزول السورة من التفاوت بين المؤمنين والكفار، فتنا بعضهم ببعض، أي جعلنا بحسب سنتنا في غرائز البشر وأخلاقهم بعضهم فتنة لبعض تظهر به حقيقة حاله غير مشوبة بشيء من الشوائب التي تلتبس بها في العادة، كما يظهر للصائغ حقيقة الذهب والفضة بفتنهما بالنار أو بعرضهما على الفتانة ( حجر الصائغ ).
﴿ ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا ﴾ أي ليترتب على هذا الفتن أن يقول المفتونون من الأقوياء المستكبرين، في شأن الضعفاء من المؤمنين، : أهؤلاء الصعاليك من العبيد والموالي والفقراء والمساكين من الله عليهم فخصهم بهذه النعمة العظيمة من جملتنا ومجموعنا أو من دوننا ؟ المن الأثقال بنعمة عظيمة أو نعم كثيرة، والاستفهام للإنكار والتعجيب، يعنون أنه لا يتأتى ذلك لأنهم هم المفضلون عند الله تعالى بما أعطاهم من الغنى والثروة، والجاه والقوة، فلو كان هذا الدين خيرا لمنحهم إياه دون هؤلاء الضعفاء، قياسا على ما أعطاهم قبله من الجاه والثراء، ومن شواهد هذا القياس ما حكاه الله عنهم في قوله :﴿ وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه ﴾ [ الأحقاف : ١١ ] وقوله :﴿ وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ﴾ [ الزخرف : ٣١ ] الخ قال المفسرون أي عظيم بالمال والجاه كالوليد بن المغيرة المخزومي من مكة وهي إحدى القريتين أو عروة بن مسعود الثقفي من الطائف وهي القرية الأخرى. – وقيل المراد بعظيم مكة أبو جهل – والشواهد على هذا القياس الحملي كثيرة عنهم وعن غيرهم.
وقد رد الله تعالى عليهم بقوله :﴿ أليس الله بأعلم بالشاكرين ( ٥٣ ) ﴾ وهذا الاستفهام للتقرير على أكمل وجه لبنائه على إحاطة علمه تعالى، ووجه الرد أن الحقيق بمن الله وزيادة نعمة إنما هم الذين يقدرونها قدرها، ويعرفون حق المنعم بها، فيشكرونها له، باستعمالها فيما تتم به حكمته وتنال مرضاته – لا من سبق إنعامه عليهم فكفروا وبطروا، وعتوا عن أمره واستكبروا، بل هؤلاء جديرون بأن يسلب منهم، ما كان أنعم به عليهم، وبهذا مضت سنته في عباده، ولولا ذلك لكانت النعم خالدة تالدة لا تنزع ممن أوتيها ؛ بل تزاد وتضاعف له وإن كفر بها، وإذا لما افتقر غني، ولا ضعف قوي، ولا ذل عزيز، ولا ثل عرش أمير، وهل الحق الواقع إلا خلاف هذا ؟ وهل فتن أولئك الكبراء إلا بالواقع لهم من الغنى والقوة فظنوا لقصر نظرهم، وغرورهم بحاضرهم، وجهلهم بسنة الله في أمثالهم، أنه تعالى ما أعطاهم ذلك إلا تكريما لذواتهم، وتفضيلا لهم على غيرهم، حتى إن أحدهم ليحسب أن هذا حق له على ربه في الدنيا والآخرة، وان كان لا يؤمن بالآخرة، كما بين تعالى ذلك بقوله :﴿ ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى ﴾ [ فصلت : ٥٠ ] وأنزل في العاصي بن وائل من طغاة قريش ﴿ أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا ﴾ [ مريم : ٧٧ ] أي في الآخرة – الآيات – وقال بعض المغرورين بهذا القياس :
لقد أحسن الله فيما مضى*** كذلك يحسن فيما بقى
وقد كشف الله تعالى هذا الغرور في آيات كثيرة وضرب لأصحابه الأمثال كمثل ذي الجنتين في سورة الكهف، وزجر أهله وأضدادهم في سورة الفجر، وفصل لهم الحقيقة في سورة الإسراء، بقوله :﴿ كلا نمد هؤلاء وهؤلاء ﴾ [ الإسراء : ٢٠ ].
وهذا الرد على المشركين هنا يدل على أنه لا يدوم لهم من النعم ما اغتروا به، ولا يبقى المؤمنون على الضعف الذي صبروا عليه، بل لا بد من أن تنعكس الحال، فيسلب أولئك الأقوياء ما أعطوا من القوة والمال، وتدول الدولة لهؤلاء الضعفاء من المؤمنين، فيكونوا هم الأئمة الوارثين، لأن الله تعالى وفقهم للإيمان بما في أنفسهم من الاستعداد للشكر وهو يوجب المزيد ﴿ وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد ﴾ [ إبراهيم : ٩ ] وكذلك كان، وصدق وعد الرحمن، وظهر إعجاز القرآن، وما بعد بيان الله تعالى من بيان، وإننا نرى الناس عن هدايته غافلون، وبوجوه إعجازه جاهلون، حتى إن فيمن يسمون المسلمين منهم، من يفتتن بشبهة أولئك المشركين الداحضة، فيجعلها حجة ناهضة، تارة على تفضيل الأغنياء على الفقراء، وتارة على تفضيل الأمم القوية على الأمم الضعيفة، جاهلين أن الفضيلة الصحيحة في شكر النعم باستعمالها فيما يرضي الرب، لا في أعيان النعم التي ترى في اليد، فرب غني شاكر، ورب فقير صابر، وكم من منعم سلب النعمة بكفرها، وكم من محروم أوتي النعم بالاستعداد لشكرها، ثم زيدت بقدر شكره لها، وكم من قوي أضعفه الله ببغيه، وكم من ذليل أعزه الله يإيمانه وعدله.
هذا وإن ظاهر حكاية قول المفتونين من المشركين يدل على أن المراد بقوله ﴿ فتنا بعضهم ببعض ﴾ فتنا كبراء المشركين بضعفاء المؤمنين – أي اختبرنا به حالهم في كون تركهم للإيمان لم يكن إلا جحودا ناشئا عن الكبر والعلو في الأرض لا عن حجة ولا شبهة مما يظهرونه، ومفهومه أن ضعفاء المؤمنين السابقين لم يفتتنوا بغنى كبراء المشركين وقوتهم، وقد زعم بعض المفسرين أنهم فتنوا وإن لم تبين الآية كيف كان ذلك إذ لم تحك شيئا عن لسانهم. وقد ورد في الاختبار العام، في سورة الفرقان ﴿ وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون ﴾ [ الفرقان : ٢٠ ] أي جعلنا كلا منكم اختبارا للآخر في اختلاف حاله معه بالغنى والفقر، أو القوة والضعف، أو الصحة والمرض، أو العلم والجهل، أو غير ذلك : هذا يحتقر هذا ويبغي عليه، وهذا يحسد هذا ويكيد له، فاصبروا فإنه لا يسلم من هذه الفتن إلا الصابرون. نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الصابرين الشاكرين.
﴿ وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فإنه غفور رحيم ٥٤ وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين ٥٥ ﴾
هاتان الآيتان متممتان للسياق فيما قبلهما بالجمع بين الإرشاد السلبي والإيجابي للرسول صلى الله عليه وسلم في سياسته للمؤمنين فبعد أن نهاه ربه عن طرد المستضعفين منهم من حضرته استمالة لكبراء المتكبرين من قومه وطمعا في إقبالهم عليه وسماعهم لدعوته وإيمانهم به كما اقترح عليه بعضهم – أمره بأن يلقاهم كسائر المؤمنين بالتحية والسلام والتبشير برحمة الله ومغفرته على الوجه المبين في الآية الأولى من هاتين الآيتين. وقد تقدم في سبب نزول ﴿ ولا تطرد الذين يدعون ربهم ﴾ من رواية عكرمة أن عمر بن الخطاب كان استحسن إجابة أشراف الكفار إلى اقتراحهم وأنه لما نزلت الآيات في ذلك أقبل فاعتذر فنزلت هذه الآية في قبول اعتذاره، وتقدم أن الرواية ضعيفة وأن هذه الزيادة فيهم غير مقبولة وأن روايات نزول الأنعام دفعة واحدة أقوى منها وهي معارضة لها.
والآن رأيت في التفسير الكبير للرازي استشكال هذا باتفاق الناس على نزول هذه السورة دفعة واحدة، وقد تقدم التحقيق في مسألة نزول السورة دفعة واحدة وفي زيادة رواية عكرمة. ويعارضه أيضا ما أخرجه جل رواة التفسير المأثور عن ماهان قال أتى قوم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا إنا أصبنا ذنوبا عظاما، فما رد عليهم شيئا فانصرفوا فأنزل الله ﴿ وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا ﴾ الآية فدعاهم فقرأها عليهم، ولكن الرواية من مراسيل ماهان لا يحتج بها وليست صريحة كرواية عكرمة في معارضة نزول السورة دفعة واحدة إذ يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم تلاها على من سألوه عن ذنوبهم عند نزولها في ضمن السورة ومثل هذا التعبير كثير في كلام رواة التفسير. والظاهر أن الآية نزلت في معاملة جميع المؤمنين لا في عمر وحده كما في رواية عكرمة ولا فيمن سألوه عن ذنوبهم كما في رواية ماهان- وإن فرضنا صحة الروايتين – ولا فيمن نهي عن طردهم خاصة كما يقول بعض المفسرين، بل في جماعة المؤمنين الذين كان أكثرهم من الفقراء المستضعفين الذين اقترح عليه صلى الله عليه وسلم طردهم فيدخلون فيها بمعونة السياق دخولا أوليا. وهذا ما تفهمه عبارتها وما سواه فمتكلف لتطبيقه على الروايات.
وبعد كتابة ما تقدم والتوجه إلى بيان معنى الآية ومراجعة المصحف الشريف فيها وفيما قبلها كان أول ما تبادر إلى ذهني أن المراد بالذين يؤمنون بالآيات هنا هم الذين كانوا يدخلون في الإسلام آنا بعد آن، عن بينة وبرهان، لا من آمنوا وأسلموا من قبل ممن نهي عن طردهم وغيرهم، ذلك بأن الفعل المضارع « يؤمنون» يفيد وقوع الإيمان في الحال أو الاستقبال، ولا يعبر به عمن آمنوا في الماضي إلا بضرب من التجوز في الاستعمال، - كما يعبر بالماضي عن المستقبل أحيانا لنكتة تقتضي ذلك – كإرادة تصوير ما مضى كأنه واقع الآن، أو إفادة ما يتلو ذلك الماضي من التجدد والاستمرار، ولا يظهر شيء من ذلك في هذه الآية ظهورا بينا يرجح صرف الفعل عن أصل معناه، ولكن قد يراد به التعبير عن الشأن فإنه يكثر في الفعل المضارع إذا كان صلة للموصولين١، ويرجع الأصل هنا تطبيق السياق على حال الناس في زمن نزول السورة والجملة الشرطية التي افتتحت بها الآية، وإننا نبين ذلك بما يظهر به التناسب بين الآيات أتم الظهور :
كان جمهور الناس كافرين إما كفر جحود وعناد، وإما كفر جهل وتقليد للآباء والأجداد، وكان يدخل في الإسلام الأفراد بعد الأفراد، وكان أكثر السابقين من المستضعفين والفقراء، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكون تارة مع هؤلاء المؤمنين يعلمهم ويرشدهم، وتارة يتوجه إلى أولئك الكافرين يدعون وينذرهم، وكان المعاندون من كبرائهم يقترحون عليه الآيات الكونية للتعجيز، وتارة يحقرون شأنه بوجوده في عامة أوقاته مع أولئك الفقراء والمساكين، وقد اقترحوا عليه طردهم من حضرته، ولعلهم كانوا يريدون بذلك أن ينفضوا من حوله، وأن يكون منفرا لغيرهم عن الإيمان به، وكان صلى الله عليه وسلم حريصا على إيمان أولئك الكبراء لما تقدم بيانه، فأرشده ربه جلت حكمته في هذا السياق القولي الأخير من هذه السورة إلى أن يبين لمقترحي الآيات الكونية من الكفار أن حقيقة الرسالة لا تقتضي أن تكون قدرة الرسول وعلمه كقدرة الله تعالى وعلمه ولا يكون ملكا من الملائكة حتى يقدر على ما لا يقدر عليه البشر من الآيات، وبأن ينذر الذين يخشون ربهم من المؤمنين إنذارا خاصا بهم لأنهم هم الذين يرجى أن ينتفعوا بكل إنذار، وأن لا يطرد من حضرته منهم أولئك الذين يدعون ربهم بالعشي والأبكار، بباعث النية الصحيحة والإخلاص، ويستلزم ذلك أن يستمر على معاملتهم الأولى التي أمره الله تعالى بها في قوله :﴿ واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا، ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا ﴾ [ الكهف : ٢٨ ].
فبعد هذا الإرشاد في شأن الكفار المعاندين والمؤمنين السابقين حسن أن يرشد الله رسوله صلى الله عليه وسلم إلى شيء في شأن الفريق الثالث من الناس وهم الذين يجيئون الرسول آنا بعد آن مؤمنين بآيات الله المثبتة للتوحيد والرسالة فيدخلون في الإسلام مذعنين لأمر الله ورسوله – وهم الذين أراد رؤساء المشركين تنفيرهم وحاولوا صدهم – فأمره أن يبين لهم قبل كل شيء أنهم صاروا في سلام وأمان من الله تعالى لأن الله تعالى كتب على نفسه الرحمة فهو لا يؤاخذهم بما كان قبل الإسلام، ومن عمل بعده سوءا بجهالة فما عليه إلا أن يمحو أثره بالتوبة والإصلاح.
قال.
﴿ وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم ﴾ السلام والسلامة مصدران من الثلاثي يقال سلم فلان من المرض أو من البلاء سلاما وسلامة، ومعناهما البراءة والعافية، والسلام والمسالمة مصدران من الرباعي أيضا يقال سالمه أي بارأه وتاركه ومنه ترك الحرب. والسلام من أسماء الله تعالى يدل على تنزيهه عن كل ما لا يليق به من نقص وعجز وفناء وغير ذلك من عيوب الخلق وضعفهم. واستعمل السلام في المتاركة وفي التحية معرفة ونكرة، يقال سلام عليكم والسلام عليكم، وهو بمعنى الدعاء بالسلامة من كل ما يسوء. ويفيد تأمين المسلم عليه من كل أذى يناله من المسلم، فهو آية المودة والصفاء، وثبت في التنزيل أن السلام تحية أهل الجنة يحييهم بها ربهم جل وعلا وملائكته الكرام ويحيي بها بعضهم بعضا، وهو تحية الإسلام الذي هو دين السلم والمسالمة ﴿ يا أيها الذين أمنوا ادخلوا في السلم كافة ﴾ [ البقرة : ٢٠٨ ].
واختلفوا في هذا السلام هنا : أهو تحية أمر الله تعالى رسوله أن يبدأ بها الذين يؤمنون بآياته إذا جاؤوه إكراما خاصا بهم مخالفا للأصل العام، وهو كون القادم هو الذي يلقي السلام، أم هو تحية منه تعالى أمر رسوله أن يبلغهم إياهم عنه، أم هو إخبار عنه تعالى بسلامتهم وأمنهم من عقابه، قفى عليه ببشارتهم بمغفرته ورحمته ؟ روي الأول عن عكرمة فهو خاص بمن قال إن الآية نزلت فيهم. والثاني عن الحسن والثالث عن ابن عباس وهو أظهرها، والمراد بالآيات آيات القرآن، المشتملة على حجج الله وآياته في الأنفس والآفاق، وهذه الآية معطوفة على آية النهي ﴿ ولا تطرد الذين يدعون ربهم ﴾ الخ والآية التي بينهما معترضة بين فيها ابتلاء كبراء المشركين بضعفاء المؤمنين ورغبتهم في طردهم.
وقوله تعالى :﴿ كتب ربكم على نفسه الرحمة ﴾ تقدم مثله في الآية الثانية عشرة من هذه السورة، وكتابتها إيجابها على ذاته العلية وله أن يوجب على نفسه ما شاء، ولا يوجب عليه أحد شيئا. فالرحمة من شؤون الربوبية الواجبة لها لا عليها، وإن في نظام الفطرة البشرية، وما سخر الله للبشر من أسباب المعيشة المادية، وما آتاهم من وسائل العلوم الكسبية، ومن هداية الوحي الوهبية، لآيات بينات على سعة الرحمة الربانية، وتربية عباده بها في حياتهم الجسدية والروحية. بل هي التي وسعت كل شيء، ولكن كتابتها أمر آخر خص به بعض الخلق، كما يأتي في سورة الأعراف، وقد بين لنا سبحانه أصلا من أصول الدين، في هذه الرحمة المكتوبة للمؤمنين، فقال :﴿ أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ﴾ الخ – قرأ نافع وابن عامر وعاصم ويعقوب « أنه » بفتح الهمزة وقرأه الباقون « إنه » بكسرها، فأما قراءة الفتح فعلى البدل من الرحمة أي بدل البعض من الكل إذ ذكر من أنواع الرحمة المكتوبة ما هم أحوج إلى معرفته بنص الوحي وهو حكم من يعمل السوء من المؤمنين وكيف يعامله الله تعالى، وأما سائر أنواعها، وما هو إحسان غير مكتوب منها، فيمكن أن يستدل عليهما بالنظر في الأنفس والآفاق وهو ما أشرنا إليه في تفسير كتابتها. وأما قراءة الكسر فعلى الاستئناف النحوي أو البياني، كأنه قيل ما هذه الرحمة ؟ أو ما حظنا منها في أعمالنا ؟ وهل من مقتضاها أن لا نؤاخذ بذنب، وأن يغفر لنا كل سوء بلا شرط ولا قيد ؟ فجاء الجواب : أنه – أي الحال والشأن – من عمل منكم عملا تسوء عاقبته وتأثيره لضرره الذي حرمه الله لأجله حال كونه متلبسا بجهالة دفعته إلى ذلك السوء كغضب شديد حمله على السب أو الضرب، أو شهوة مغتلمة قادته إلى انتهاك عرض، ... – فالجهالة هنا هي السفه والخفة، التي تقابلها الروية والحكمة والعفة، وقيل إنها الجهل الذي يقابله الظلم لأن كل من يعمل السوء لا بد أن يكون جاهلا فإما أن يجهل ما فيه من القبح والضرر، وإما أن يجهل سوء عاقبته وقبح تأثيره في نفسه، وما يترتب على ذلك من سخط ربه وعقابه، ذهابا مع الأماني واغترارا بتأول النصوص، ومن هنا قال الحسن البصري كل من عمل معصية فهو جاهل.
وحاصل المعنى على القراءة الأولى كتب ربكم على نفسه الرحمة الخاصة التي هي المغفرة والرحمة لمن تاب من بعد عمل السوء بجهالة وأصلح عمله، وعلى الثانية إن سألتم عن حظكم من هذه الرحمة فالجواب أنه من عمل منكم سوءا بجهالة.
﴿ ثم تاب من بعده وأصلح ﴾ أي ثم رجع عن ذلك السوء بعد أن عمله شاعرا بقبحه، نادما عليه خائفا من عاقبته، وأصلح عمله بأن أتبع ذلك العمل السيئ التأثير في النفس عملا يضاده ويذهب بأثره من قلبه، حتى يعود إلى النفس زكاؤها وطهارتها وتصير كما كانت أهلا لنظر الرب وقربه ﴿ فأنه غفور رحيم ( ٥٤ ) ﴾ أي فشأنه سبحانه في معاملته أنه واسع المغفرة والرحمة فيغفر له ما تاب عنه ويتغمده برحمته وإحسانه.
وهذه قاعدة من قواعد الدين وأس من أساسه أمر الله تعالى رسوله أن يبلغها لمن يدخلون فيه ليهتدوا بها، حتى لا يغتروا بمغفرة الله ورحمته فيحملهم الغرور على التفريط في جنب الله والغفلة عن تزكية أنفسهم والمبادرة إلى تطهيرها من إفساد الذنوب لها، إلى أن تحيط بها خطيئتها، وقد بينا هذه القاعدة مرارا في تفسير الآيات المقررة لها، تارة بالإيجاز وتارة بالإطناب وتارة بالتوسط بينهما. وكان أوسع ما كتبناه فيها تفسير قوله تعالى :﴿ إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب ﴾ – إلى قوله – ﴿ أليما ﴾ [ النساء : ١٦ ] فيراجع في الجزء الرابع من تفسير وندع أصحاب المذاهب الكلامية والفقهية من المفسرين يتجادلون في كون الآية مؤيدة لمذهب المعتزلة أو غير مؤيدة له فإن هذه المجادلات تصرف المشتغلين بها عن الموعظة والحكمة التي أنزلها الله تعالى لبيانهما.
وقد فتح همزة « فأنه » في الآية من فتح همزة « أنه » من القراء سوى نافع فإنه قرأها بالكسر كباقي القراء. وأجاز الزجاج كسر الأولى وفتح الثانية وهي قراءة الأعرج والزهري وأبي عمرو الداني.
﴿ وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فإنه غفور رحيم ٥٤ وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين ٥٥ ﴾
هاتان الآيتان متممتان للسياق فيما قبلهما بالجمع بين الإرشاد السلبي والإيجابي للرسول صلى الله عليه وسلم في سياسته للمؤمنين فبعد أن نهاه ربه عن طرد المستضعفين منهم من حضرته استمالة لكبراء المتكبرين من قومه وطمعا في إقبالهم عليه وسماعهم لدعوته وإيمانهم به كما اقترح عليه بعضهم – أمره بأن يلقاهم كسائر المؤمنين بالتحية والسلام والتبشير برحمة الله ومغفرته على الوجه المبين في الآية الأولى من هاتين الآيتين. وقد تقدم في سبب نزول ﴿ ولا تطرد الذين يدعون ربهم ﴾ من رواية عكرمة أن عمر بن الخطاب كان استحسن إجابة أشراف الكفار إلى اقتراحهم وأنه لما نزلت الآيات في ذلك أقبل فاعتذر فنزلت هذه الآية في قبول اعتذاره، وتقدم أن الرواية ضعيفة وأن هذه الزيادة فيهم غير مقبولة وأن روايات نزول الأنعام دفعة واحدة أقوى منها وهي معارضة لها.
والآن رأيت في التفسير الكبير للرازي استشكال هذا باتفاق الناس على نزول هذه السورة دفعة واحدة، وقد تقدم التحقيق في مسألة نزول السورة دفعة واحدة وفي زيادة رواية عكرمة. ويعارضه أيضا ما أخرجه جل رواة التفسير المأثور عن ماهان قال أتى قوم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا إنا أصبنا ذنوبا عظاما، فما رد عليهم شيئا فانصرفوا فأنزل الله ﴿ وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا ﴾ الآية فدعاهم فقرأها عليهم، ولكن الرواية من مراسيل ماهان لا يحتج بها وليست صريحة كرواية عكرمة في معارضة نزول السورة دفعة واحدة إذ يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم تلاها على من سألوه عن ذنوبهم عند نزولها في ضمن السورة ومثل هذا التعبير كثير في كلام رواة التفسير. والظاهر أن الآية نزلت في معاملة جميع المؤمنين لا في عمر وحده كما في رواية عكرمة ولا فيمن سألوه عن ذنوبهم كما في رواية ماهان- وإن فرضنا صحة الروايتين – ولا فيمن نهي عن طردهم خاصة كما يقول بعض المفسرين، بل في جماعة المؤمنين الذين كان أكثرهم من الفقراء المستضعفين الذين اقترح عليه صلى الله عليه وسلم طردهم فيدخلون فيها بمعونة السياق دخولا أوليا. وهذا ما تفهمه عبارتها وما سواه فمتكلف لتطبيقه على الروايات.
وبعد كتابة ما تقدم والتوجه إلى بيان معنى الآية ومراجعة المصحف الشريف فيها وفيما قبلها كان أول ما تبادر إلى ذهني أن المراد بالذين يؤمنون بالآيات هنا هم الذين كانوا يدخلون في الإسلام آنا بعد آن، عن بينة وبرهان، لا من آمنوا وأسلموا من قبل ممن نهي عن طردهم وغيرهم، ذلك بأن الفعل المضارع « يؤمنون» يفيد وقوع الإيمان في الحال أو الاستقبال، ولا يعبر به عمن آمنوا في الماضي إلا بضرب من التجوز في الاستعمال، - كما يعبر بالماضي عن المستقبل أحيانا لنكتة تقتضي ذلك – كإرادة تصوير ما مضى كأنه واقع الآن، أو إفادة ما يتلو ذلك الماضي من التجدد والاستمرار، ولا يظهر شيء من ذلك في هذه الآية ظهورا بينا يرجح صرف الفعل عن أصل معناه، ولكن قد يراد به التعبير عن الشأن فإنه يكثر في الفعل المضارع إذا كان صلة للموصولين١، ويرجع الأصل هنا تطبيق السياق على حال الناس في زمن نزول السورة والجملة الشرطية التي افتتحت بها الآية، وإننا نبين ذلك بما يظهر به التناسب بين الآيات أتم الظهور :
كان جمهور الناس كافرين إما كفر جحود وعناد، وإما كفر جهل وتقليد للآباء والأجداد، وكان يدخل في الإسلام الأفراد بعد الأفراد، وكان أكثر السابقين من المستضعفين والفقراء، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكون تارة مع هؤلاء المؤمنين يعلمهم ويرشدهم، وتارة يتوجه إلى أولئك الكافرين يدعون وينذرهم، وكان المعاندون من كبرائهم يقترحون عليه الآيات الكونية للتعجيز، وتارة يحقرون شأنه بوجوده في عامة أوقاته مع أولئك الفقراء والمساكين، وقد اقترحوا عليه طردهم من حضرته، ولعلهم كانوا يريدون بذلك أن ينفضوا من حوله، وأن يكون منفرا لغيرهم عن الإيمان به، وكان صلى الله عليه وسلم حريصا على إيمان أولئك الكبراء لما تقدم بيانه، فأرشده ربه جلت حكمته في هذا السياق القولي الأخير من هذه السورة إلى أن يبين لمقترحي الآيات الكونية من الكفار أن حقيقة الرسالة لا تقتضي أن تكون قدرة الرسول وعلمه كقدرة الله تعالى وعلمه ولا يكون ملكا من الملائكة حتى يقدر على ما لا يقدر عليه البشر من الآيات، وبأن ينذر الذين يخشون ربهم من المؤمنين إنذارا خاصا بهم لأنهم هم الذين يرجى أن ينتفعوا بكل إنذار، وأن لا يطرد من حضرته منهم أولئك الذين يدعون ربهم بالعشي والأبكار، بباعث النية الصحيحة والإخلاص، ويستلزم ذلك أن يستمر على معاملتهم الأولى التي أمره الله تعالى بها في قوله :﴿ واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا، ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا ﴾ [ الكهف : ٢٨ ].
فبعد هذا الإرشاد في شأن الكفار المعاندين والمؤمنين السابقين حسن أن يرشد الله رسوله صلى الله عليه وسلم إلى شيء في شأن الفريق الثالث من الناس وهم الذين يجيئون الرسول آنا بعد آن مؤمنين بآيات الله المثبتة للتوحيد والرسالة فيدخلون في الإسلام مذعنين لأمر الله ورسوله – وهم الذين أراد رؤساء المشركين تنفيرهم وحاولوا صدهم – فأمره أن يبين لهم قبل كل شيء أنهم صاروا في سلام وأمان من الله تعالى لأن الله تعالى كتب على نفسه الرحمة فهو لا يؤاخذهم بما كان قبل الإسلام، ومن عمل بعده سوءا بجهالة فما عليه إلا أن يمحو أثره بالتوبة والإصلاح.
﴿ وكذلك نفصل الآيات ﴾ أي ومثل ذلك التفصيل الواضح وعلى نحوه نفصل الآيات المنزلة في بيان الحقائق التي يهتدي بها أهل النظر الصحيح والفقه الدقيق لما فيها من العلم والحكمة، والموعظة والعبرة.
﴿ ولتستبين سبيل المجرمين ( ٥٥ ) ﴾ أي ولأجل أن يظهر بها طريق المجرمين، فيمتازوا بها عن جماعة المسلمين، قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو ويعقوب وحفص عن عاصم ولتستبين بالتاء وسبيل بالرفع، أي ولتظهر سبيل المجرمين وتعرف – والسبيل يؤنثه أهل الحجاز ويذكره بنو تميم وجاء التنزيل باللغتين – وقرأ نافع بالتاء ونصب السبيل على أنه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أي ولتتبين أيها الرسول طريق المجرمين فلا يخفى عليك شيء منها، وقرأ الباقون وليستبين بالياء ورفع سبيل على لغة التذكير، ففائدة اختلاف القراءات هنا لفظية وهي تذكير السبيل وتأنيثها ومجيء فعل الاستبانة لازما ومتعديا، يقال بان الشيء واستبان بمعنى وضح وظهر ويقال استبنت الشيء بمعنى استوضحته وتبينته أي عرفته بينا.
وأما فائدة الجمع بين الغيبة والخطاب فيها فهي أن تفصيل الآيات هو في نفسه موضح لسبيل المجرمين وأنه ينبغي للمخاطب بذلك أولا بالذات ثم لغيره أن يستبينه منها بتأملها وفهمها والاعتبار بها، فكم من آية بينة في نفسها يغفل الناس عنها ﴿ وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون ﴾ [ يوسف : ١٠٥ ] والعطف في قوله تعالى :« ولتستبين » قيل إنه عطف على علة محذوفة لقوله :« نفصل » لم يقصد تعليله بها بخصوصها وإنما قصد الإشعار بأن له فوائد جمة من جملتها ما ذكر، أي وكذلك نفصل الآيات لما في تفصيلها من الأحكام والحكم، وبيان الحجج والمواعظ والعبر، ولأجل أن تستبين سبيل المجرمين، فيكون من عطف الخاص على العام. وقيل إنه علة لفعل مقدر هو عين المذكور، أي ولأجل أن تستبين سبيل المجرمين نفصل الآيات، وذلك أنه بين سبيل المؤمنين فعلم منه أن ما خالفه هو سبيل المجرمين. لأن الشيء يعرف بضده. بل بين قبله سبيل المجرمين من الكفار أيضا.
وقال الزمخشري : ومثل ذلك التفصيل البين نفصل آيات القرآن ونلخصها في صفة أحوال المجرمين من هو مطبوع على قلبه لا يرجى إسلامه، ومن يرى فيه أمارة القبول وهو الذي يخاف إذا سمع ذكر القيامة، ومن دخل في الإسلام إلا أنه لا يحفظ حدوده، ولنستوضح سبيلهم فتعامل كلا منهم بما يجب أن يعامل به فصلنا ذلك التفصيل. اه ويسرني أن هذا القول يؤيد ما قدمته في بيان أصناف الناس في زمن نزول السورة وما أرشدت إليه الآيات في معاملة كل صنف منهم وأن ما قلته خير مما قاله ولله الحمد. وفي الآية من محاسن إيجاز القرآن ما لا يخفى. وسيأتي مثل هذا التعبير في قوله تعالى في هذه السورة :﴿ وكذلك نصرف الآيات وليقولوا درست ولنبينه لقوم يعلمون ﴾ [ الأنعام : ١٠٥ ] وقوله :﴿ وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون ﴾ [ الأعراف : ١٧٤ ] ولا أذكر أن في القرآن غيرهما.
﴿ قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله قل لا أتبع أهواءكم قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين٥٦ قل إني على بينة من ربي وكذبتم به ما عندي ما تستعجلون به إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين٥٧ قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم والله أعلم بالظالمين٥٨ ﴾.
بعد أن أرشد الله تعالى رسوله إلى ما تقدم من سياسة المؤمنين، وتبليغهم ما ذكر من أصول حكمة الدين، عاد إلى تلقينه ما يحاج به المشركين، من بلاغ الوحي وناصع البراهين. فقال :
﴿ قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله ﴾ النهي الزجر عن الشيء بالقول- مثل لا تكذب واجتنب قول الزور- والكف عنه بالفعل ومنه قوله تعالى :﴿ ونهى النفس عن الهوى ﴾ [ النازعات : ٤٠ ]. والدعاء النداء وطلب إيصال الخير أو دفع الضر من الأعلى وإنما يكون عبادة إذا كان في أمر وراء الأسباب المسخرة للعباد التي ينالونها بكسبهم لها واجتهادهم فيها وتعاونهم عليها، فإن ما نعجز عن نيله بالأسباب المسخرة لنا لا نطلبه إلا من الخالق المسخر للأسباب- وقد بينا ذلك مرارا كثيرة- فالله تعالى يقول لرسوله هنا قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين الذين يدعون مع الله آلهة أخرى، إني نهيت أن أعبد الذين تدعونهم وتستغيثونهم من دون الله أي غير الله من الملائكة وعباد الله الصالحين بله ما دونهم من الأصنام والأوثان التي لا علم لها ولا عمل. وهذا النهي يصدق بنهي الله تعالى إياه عن ذلك في آيات القرآن الكثيرة وأمره بضده وهو دعاء الله تعالى وحده، وبنهي العقل والفطرة السليمة فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان قبل البعثة موحدا، ولم يكن قط مشركا، ولأجل هذا قال نهيت بالبناء للمفعول ﴿ قل لا أتبع أهواءكم قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين ( ٥٦ ) ﴾ أي قل لهم لا أتبع أهواءكم في عبادتهم ولا في غيرها من أعمالكم التي تتبعون بها الهوى، ولستم في شيء منها على بينة ولا هدى، ولماذا ؟ لأنني إن اتبعتها فقد ضللت ضلالا أخرج به من جنس المهتدين فلا أكون منهم في شيء فإن هذا الضلال لا يقاس بغيره لأنه هو الضلال البعيد عن صراط الهدى.
﴿ قل إني على بينة من ربي ﴾ أي قل لهم أيها الرسول أيضا إني فيما أخالفكم فيه على بينة من ربي هداني إليها بالوحي والعقل، والبينة كل ما يتبين به الحق، من الحجج والدلائل العقلية، والشواهد والآيات الحسية، ومنه تسمية شهادة الشهود بينة، والقرآن بينة مشتملة على أنواع كثيرة من البينات العقلية والكونية فهو على كونه من عند الله تعالى للقطع- بعجز الرسول كغيره عن الإتيان بمثله- مؤيد بالحجج والبينات المثبتة لما فيه من قواعد العقائد وأصول الهداية.
﴿ وكذبتم به ﴾ أي والحال أنكم كذبتم به أي بالقرآن الذي هو بينتي من ربي، فكيف تكذبون أنتم ببينة البينات، على أظهر الحقائق وأبين الهدايات، ثم تطمعون أن اتبعكم على ضلال مبين، لا بينة لكم عليه إلا محض التقليد، وما كان التقليد بينة من البينات، وإنما هو براءة من الاستدلال، ورضاء بجهل الآباء والأجداد ؟ فالكلام حجة مسكتة مبكتة على ما قبلها من نفي عبادته صلى الله عليه وسلم للذين يدعونهم من دون الله، وقيل إن المعنى وكذبتم بربي أي بآياته أو بدينه، وإلا فإن القوم كانوا يؤمنون بأن الله هو ربهم ورب السموات والأرض وما بينهما والقرآن ناطق بذلك، وفسر بعضهم التكذيب بالرب باتخاذ شريك له، ولم يكن اتخاذهم الشركاء تكذيبا بالربوبية إذ لم يكونوا يقولون إن غيره تعالى يخلق معه أو يرزق، وإنما كانوا يدعون غيره ليقربهم إليه ويشفع لهم عنده، وهذا الدعاء عبادة وشرك بالإلهية، لا تكذيب بالربوبية.
ولما ذكر بينته وتكذيبهم به قفى عليه برد شبهة تخطر عند ذلك بالبال، ومن شأنها أن يقع عنها منهم السؤال، وهي أن القرآن أنذرهم عذابا يحل بهم، إذا أصروا على عنادهم وكفرهم، ووعد بأن ينصر رسوله عليهم، وقد استعجلوا النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فكان عدم وقوعه شبهة لهم على صدق القرآن، لجهلهم بسنن الله تعالى في شؤون الإنسان فأمر الله تعالى رسوله أن يقول لهم ﴿ ما عندي ما تستعجلون به ﴾ أي ليس عندي ما تطلبون أن يجعل الله لكم من وعيده، ولم أقل لكم إن الله فوض أمره إلي حتى تطالبوني به وتعدون عدم إيقاعه حجة على تكذيبه. ﴿ إن الحكم إلا لله ﴾ أي ما الحكم في ذلك وفي غيره من التصرف في شؤون الأمم إلا لله وحده، وله في ذلك سنن حكيمة ومقادير منتظمة تجري عليها أفعاله، وآجال مسماة تقع فيها فلا يتقدم شيء عن أجله ولا يتأخر ﴿ وكل شيء عنده بمقدار ﴾ [ الرعد : ٨ ] ﴿ ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى ﴾ [ النحل : ٦١ ].
﴿ يقص الحق وهو خير الفاصلين ( ٥٧ ) ﴾ قرأ ابن كثير ونافع وعاصم » يقص » من القصص وهو ذكر الخبر أو تتبع الأثر، أي يقص على رسوله القصص الحق في جميع أخباره ووعده ووعيده، أو يتبع الحق ويصيبه في أقواله وأفعاله التي يتصرف بها في عباده، وقرأه الباقون » يقض » من القضاء وأصله يقضي بالياء فحذفت الياء في الخط كما حذفت في اللفظ لالتقاء الساكنين، ولما كانت المصاحف غير منقوطة كانت الكلمة في المصحف الإمام هكذا ( يقص ) فاحتملت القراءتين، وحذف حرف المد معهود في المصحف ومنه ﴿ وما تغني الآيات والنذر ﴾ [ يونس : ١٠١ ] ﴿ سندع الزبانية ﴾ [ العلق : ١٨ ] ومعناه يقضي قي أمركم وغيره القضاء الحق، أو ينفذ الأمر ويفصله بالحق، وهو خير الفاصلين في كل أمر، لأنه الحكم العدل، المحيط علمه والنافذ حكمه في كل شيء. وتقدم تحقيق معنى القضاء في تفسير الآية الثانية من هذه السورة.
﴿ قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم ﴾ أي قل أيها الرسول لهؤلاء الذين يستعجلونك بالعذاب كقولهم :﴿ اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ﴾ [ الأنفال : ٣٢ ] : لو أن عندي ما تستعجلون به بأن كان مما جعله الله في مكنتي وتصرفي بقدرتي الكسبية أو بجعله آية خاصة بي لقضي الأمر بيني وبينكم بإهلاكي للظالمين منكم الذين يصدونني عن تبليغ دعوة ربي، ويصدون الناس عني، فإن الإنسان خلق من عجل وإنما أستعجل أنا بإهلاك الظالمين منكم ما وعدني ربي من نصر المؤمنين المصلحين المظلومين، وخذلان الكافرين المفسدين الظالمين، وهو استعمال للخير، وأنتم إنما تستعجلون الشر لأنفسكم، وتقطعون عليها طريق الهداية بإمهال الله لكم.
﴿ والله أعلم بالظالمين ( ٥٨ ) ﴾ الذين تمكن الظلم من أنفسهم وأحاط بها فلا رجاء برجوعهم عنه إلى الإيمان والحق والعدل، وبمن ألم بهم الظلم أو ألموا به ولكنه لم يمح نور الفطرة من أنفسهم ولم يذهب باستعدادهم للاهتداء إلى الحق الذي أدعوهم إليه. ولما كان سبحانه وتعالى أعلم بالظالمين لم يجعل أمر عقابهم إلي فهو عنده لا عندي، ولكل من عذاب الدنيا والآخرة أجل مسمى عنده يراه قريبا وترونه بعيدا، وأيامه تعالى في عالم التكوين وشؤون الأمم ليست قصيرة كأيامنا بل طويلة ﴿ ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون * وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير ﴾ [ الحج : ٢٥، ٢٦ ] فهو لا يؤخر ما وعد به إلى الأجل المسمى عنده لا لحكمة ﴿ ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ﴾ [ الأعراف : ٣٣ ]، هذا ما ظهر لنا في قضاء الأمر على تقدير كون ما يستعجلون به في مكنته صلى الله عليه وآله وسلم. وليس المراد به أنه كان يهلكهم كلهم كما هلكت الأمم التي كذبت الرسل من قبلهم أي ليس المراد بما يقضي من الأمر هنا عذاب الاستئصال ولا عذاب الآخرة وإن كانوا قد استعجلوا كلا منهما بل نصر الرسول عليهم. وفي قوله :﴿ لقضي الأمر ﴾ بإسناد الفعل إلى المفعول إشارة إلى أنه لو كان عنده صلى الله عليه وسلم وقضي لما قضي إلا بمشيئة الله تعالى وقدرته.
﴿ * وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ٥٩ وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى ثم إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعملون ٦٠ وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون ٦١ ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين ٦٢ ﴾
لما أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يبين للمشركين أنه على بينة من ربه فيما بلغهم إياه من رسالته، وأن ما يستعجلون به من عذاب الله ونصره عليهم تعجيزا أو تهكما أو عنادا ليس عنده، وإنما هو عند الله الذي قضت سنته أن يكون لكل شيء أجل وموعد لا يتقدم ولا يتأخر عنه، وأنه تعالى هو الذي يقضي الحق ويقصه على رسوله، وبيده تنفيذ وعده ووعيده – قفى على ذلك ببيان كون مفاتح الغيب عنده، وكون التصرف في الخلق بيده وكونه هو القاهر فوق عباده، لا يشاركه أحد من رسله ولا غيرهم في ذلك حتى يصح أن يطالبوا به، فقال عز وجل :
﴿ وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ﴾ المفاتح جمع مفتح بفتح الميم وهو المخزن وبكسرها وهو المفتاح الذي تفتح به الأقفال وقرئ في الشواذ « مفاتيح الغيب » ويؤيد هذه القراءة حديث ابن عمر الآتي في تفسير الآية. ويجوز استعمال اللفظ في معنييه أي أن خزائن الغيب وهو ما غاب علمه عن الخلق هي عند الله تعالى وفي تصرفه وحده، وأن المفاتيح أي الوسائل التي يتوصل بها إلى علم الغيب هي عنده أيضا لا يعلمها علما ذاتيا إلا هو، الذي يحيط بها علما وسواه جاهل بذاته لا يمكن أن يحيط علما بها ولا أن يعلم شيئا منها إلا بإعلامه عز وجل. وإذا كان الأمر كذلك فالواجب أن يفوض إليه إنجاز وعده لرسوله بالنصر، ووعيده لأعدائه بالعذاب والقهر، مع القطع بأنه لا يخلف وعده رسله، وإنما إنجازه إلى الأجل الذي اقتضته حكمته، وقد تقدم في تفسير هذه السورة بيان حقيقة الغيب واستئثار الله تعالى بعلمه وما يعلمه بعض خلقه من الحقيقي أو الإضافي منه وسنزيد ذلك بيانا.
﴿ ويعلم ما في البر والبحر ﴾ قال الراغب : أصل البحر كل مكان واسع للماء الكثير. وقيل إن أصله الماء الملح وأطلق على الأنهار بالتوسع أو التغليب. والبر ما يقابله من الأرض، وهو ما يسميه علماء خرت الأرض باليابسة. وعلمه تعالى بما في البر والبحر من علم الشهادة المقابل لعلم الغيب، على أن أكثر ما في خفايا البر والبحر، غائب عن علم أكثر الخلق، وإن كان في نفسه موجودا يمكن أن يعلمه الباحث منهم عنه، وقدم ذكر البر على البحر على طريقة الترقي من الأدنى إلى ما هو أعظم منه فإن قسم البحر من الأرض أعظم من قسم البر وخفاياه أكثر وأعظم.
﴿ وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ﴾ أي وما تسقط ورقة ما من نجم أو شجر ما إلا يعلمها، لإحاطة علمه بالجزئيات كلها ﴿ ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ( ٥٩ ) ﴾ أي وما تسقط من حبة بفعل فاعل مختار في ظلمات الأرض كالحب الذي يلقيه الزراع في بطون الأرض يسترونه بالتراب فيحتجب عن نور النهار والذي تذهب به النمل وغيرها من الحشرات في قراها وجحورها، أو بغير فعل فاعل كالذي يسقط من النبات في شقوقها وأخاديدها، وما يسقط من رطب ولا يابس من الثمار ونحوها – إلا كائن في كتاب مبين، وهو علم الله تعالى الذي يشبه المكتوب في الصحف بثباته وعدم تغيره – أو كتابه الذي كتب فيه مقادير الخلق كما ورد في الحديث الصحيح وسيأتي ذكره ؛ وهو بمعنى قوله فيما قبله « إلا يعلمها » ولذلك قيل إنه تكرير له بالمعنى، وقيل بدل كل أو بدل اشتمال منه.
فإن قيل ما حكمة تخصيص هذه الأشياء بالذكر ؟ قلنا إن المعلوم – أو ما يتعلق به العلم – إما موجود وإما معدوم، والموجود إما حاضر مشهود، وإما غائب في حكم المفقود، وليس في الوجود شيء غائب عن الله تعالى، فعلمه تعالى بالأشياء إما علم غيب وهو علمه بالمعدوم، وإما علم شهادة وهو علمه بالموجود، وأما أهل العلم من الخلق فمن الموجودات ما هو حاضر مشهود لديهم، ومنها ما هو حاضر غير مشهود لأنه لم يخلق لهم آلة للعلم به كعالم الجن والملائكة مع الإنس، ومنها ما هو غائب عن شهودهم وهم مستعدون لإدراكه لو كان حاضرا، وما هو غائب وهم غير مستعدين لإدراكه لو حضر، فكل ما خلقوا غير مستعدين لإدراكه من موجود ومعدوم فهو غيب حقيقي بالنسبة إليهم، وكل ما خلقوا مستعدين لإدراكه دائما أو في بعض الأحوال فهو إن غاب عنهم إضافي.
وقد بين الله تعالى لنا في هذه الآية أن خزائن علم الغيب كلها عنده وعنده مفاتيحها وأسبابها الموصلة إليها، وأن عنده من علم الشهادة ما ليس عند غيره، وذكر على سبيل المثل علمه بكل ما في البر والبحر من ظاهر وخفي، ثم خص بالذكر ثلاثة أشياء مما في البر – إحاطة علمه بكل ورقة تسقط من نبتة وكل حبة تسقط في ظلمات الأرض وكل رطب ويابس، فأما الورق الذي يسقط فهو ما كان رطبا من النبات فأشرف على اليبس وفقد الحياة النباتية والتحق بمواد الأرض الميتة وقد يتغذى به حيوان بعد يبسه أو قبله أو يتحلل في الأرض بعد سقوطه ويتغذى به نبات آخر فيدخل في عالم الأحياء بطور آخر، وأما الحب فهو أصل تكوين النبات الحي يسقط في ظلمات الأرض فمنه ما ينبت ويكون نجما أو شجرا، ومنه ما يتغذى به بعض الأحياء من الحيوان كالطير والحشرات فيدخل في بنيتها كما قلنا فيما قبله، وأما ذكر الرطب واليابس فهو تعميم بعد تخصيص في هذا الباب – فهذه الأشياء من عالم الشهادة تدخل في عالم الغيب ثم تبرز في عالم الشهادة. وعلم الله تعالى محيط بكل شيء منها على كثرتها ودقة بعضها وصغره وتنقله في أطوار الخلق والتكوين وما يتبعها من الصور والمظاهر، وحسبك هذا الإيمان من حكمة تخصيصها بالذكر.
وفي هذه الآية مباحث لعلماء الآثار، وجولات للنظار، نذكر المهم منها في فصول :
فهم علماء الكلام والحكماء للآية
قال الفخر الرازي في تفسيره الكبير الذي سماه ( مفاتح الغيب ) ما نصه :« اعلم أنه تعالى قال في الآية الأولى ﴿ والله أعلم بالظالمين ﴾ يعني أنه سبحانه هو العالم بكل شيء فهو يجعل ما تعجيله أصلح ويؤخر ما تأخير أصلح وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : المفاتيح جمع مفتح ومفتح والمفتح بالكسر المفتاح الذي يفتح به والمفتح بفتح الميم الخزانة وكل خزانة وكل خزانة كانت لصنف من الأشياء فهو مفتح قال الفراء في قوله تعالى :﴿ ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة ﴾ [ القصص : ٧٦ ] يعني خزائنه فلفظ المفتاح يمكن أن يكون المراد منه المفاتيح ويمكن أن يراد منه الخزائن. أما على التقدير الأول فقد جعل للغيب على طريق الاستعارة لأن المفاتيح يتوصل بها إلى ما في الخزائن المستوثق منها بالأغلاق والأقفال فالعالم بتلك المفاتيح وكيفية استعمالها في فتح تلك الأغلاق والأقفال يمكنه أن يتوصل بتلك المفاتيح إلى ما في تلك الخزائن فكذلك ههنا الحق سبحانه لما كان عالما بجميع المعلومات عبر عن هذا المعنى بالعبارة المذكورة وقرئ مفاتيح. وأما على التقدير الثاني فالمعنى وعنده خزائن الغيب، فعلى التقدير الأول يكون المراد العلم بالغيب وعلى التقدير الثاني المراد منه القدرة علي كل الممكنات كما في قوله :﴿ وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم ﴾ [ الحجر : ٢١ ].
« وللحكماء في تفسير هذه الآية كلام عجيب مفرع على أصولهم فإنهم قالوا ثبت أن العلم بالعلة علة للعلم المعلول، وأن العلم بالمعلول لا يكون علة للعلم بالعلة، قالوا وإذا ثبت هذا فيقول الموجود إما أن يكون واجبا لذاته وإما أن يكون ممكنا لذاته، والواجب لذاته ليس إلا الله سبحانه وتعالى وكل ما سواه فهو ممكن لذاته، والممكن لذاته لا يوجد إلا بتأثير الواجب لذاته، وكل ما سوى الحق سبحانه فهو موجود بإيجاده كائن بتكوينه واقع بإيقاعه، إما بغير واسطة وإما بواسطة واحدة وإما بوسائط كثيرة على الترتيب النازل من عنده طولا وعرضا، إذا ثبت هذا فنقول علمه بذاته يوجب علمه بالأثر الأول الصادر منه، ثم علمه بذلك الأثر الأول يوجب علمه بالأثر الثاني لأن الأثر الأول علة قريبة للأثر الثاني، وقد ذكرنا أن العلم بالعلة يوجب العلم بالمعلول فبهذا علم الغيب ليس إلا علم الحق بذاته المخصوصة ثم يحصل له من علمه بذاته علمه بالآثار الصادرة عنه على ترتيبها المعتبر، ولما كان علمه بذاته لم يحصل إلا لذاته لا جرم صح أن يقال :﴿ وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ﴾ فهذا هو طريقة هؤلاء الفرقة الذين فسروا هذه الآية بناء على هذه الطريقة.
« ثم اعلم أن ههنا دقيقة أخرى وهي أن القضايا العقلية المحضة يصعب تحصيل العلم بها على سبيل التمام والكمال إلا للعقلاء الكاملين الذين تعودوا الإعراض عن قضايا الحسن والخيال وألفوا استحضار المعقولات المجردة ومثل هذا الإنسان يكون كالنادر وقوله :﴿ وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ﴾ قضية عقلية محضة مجردة فالإنسان الذي يقوى عقله على الإحاطة بمعنى هذه القضية نادر جدا، والقرآن إنما أنزل لينتفع به جميع الخلق فههنا طريق آخر وهو أن من ذكر القضية العقلية المحضة المجردة، فإذا أراد إيصالها إلى عقل كل أحد ذكر لها مثالا من الأمور المحسوسة الداخلية تحت القضية العقلية الكلية، ليصير ذلك المعقول لمعاونة هذا المثال المحسوس مفهوما لكل أحد، والأمر في هذه الآية ورد على هذا القانون لأنه قال أولا ﴿ وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ﴾ ثم أكد هذا المعقول الكلي المجرد بجزئي محسوس فقال :﴿ ويعلم ما في البر والبحر ﴾ وذلك لأن أحد أقسام معلومات الله هو جميع دواب البر والبحر والحس والخيال قد وقف على عظمة أحوال البر والبحر، فذكر هذا المحسوس يكشف عن حقيقة عظيمة ذلك المعقول.
وفيه دقيقة أخرى وهي أنه تعالى قدم ذكر البر لأن الإنسان قد شاهد أحوال البر وكثرة ما فيه من المدن والقرى والمفاوز والجبال والتلال وكثرة ما فيها من الحيوان والنبات والمعادن. وأما البحر فإحاطة العقل بأحواله أقل إلا أن الحس يدل على أن عجائب البحار في الجملة أكثر، وطولها وعرضها أعظم، وما فيها من الحيوانات وأجناس المخلوقات أعجب، فإذا استحضر الخيال صورة البحر والبر على هذه الوجوه ثم عرف أن مجموعها قسم حقير من الأقسام الداخلة تحت قوله :﴿ وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ﴾ فيصير هذا المثال المحسوس مقويا ومكملا للعظمة الحاصلة تحت قوله :﴿ وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ﴾ ثم إنه تعالى كما كشف عن عظمة قوله :﴿ وعنده مفاتح الغيب ﴾ بذكر البر والبحر كشف عن عظمة البر والبحر بقوله :﴿ وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ﴾ وذلك لأن العقل يستحضر جميع ما في وجه الأرض من المدن والقرى والمفاوز والجبال والتلال، ثم يستحضر كم فيها من النجم والشجر، ثم يستحضر أنه لا يتغير حال ورقة إلا والحق سبحانه يعلمها.
ثم يتجاوز من هذا إلى مثال آخر أشد هيبة وهو قوله :﴿ ولا حبة في ظلمات الأرض ﴾ وذلك لأن الحبة في غاية الصغر وظلمات الأرض مواضع يبقى أكبر الأجسام وأعظمها مخفيا فيها، فإذا سمع أن تلك الحبة الصغيرة الملقاة في ظلمات الأرض على اتساعها وعظمتها لا تخرج من علم الله تعالى البتة صارت هذه الأ
﴿ وهو الذي يتوفاكم بالليل ﴾ التوفي أخذ الشيء وافيا أي تاما كاملا، ويقابله التوفية وهو إعطاء الشيء تاما كاملا، يقال وفاه حقه فتوفاه منه واستوفاه ومنه ﴿ ووجد الله عنده فوفاه حسابه ﴾ [ النور : ٣٩ ] ويقال توفاه واستوفاه بمعنى أحصى عدده، نطقت العرب بالمعنيين. وأطلق التوفي على الموت لأن الأرواح تقبض وتؤخذ أخذا تاما حتى لا يبقى لها تصرف في الأبدان، وأطلق على النوم في هذه الآية وفي آية الزمر التي نذكرها قريبا، فقال العلماء إنه إطلاق مجازي مبني على تشبيه النوم بالموت لما بينهما من المشاركة في زوال إحساس الحواس والتمييز، وإنما جعلوه استعارة في النوم، بناء على جعله حقيقة في الموت، وهو كذلك في العرف العام لا في أصل اللغة، يقولون توفي فلان – بالبناء للمفعول – بمعنى مات، وتوفاه الله بمعنى أماته. وما أعلم أن العرب استعملت التوفي في الموت وإنما هو استعمال إسلامي مبني على أن الموت يحصل بقبض الأنفس التي تحيا بها الناس كما قال تعالى في سورة الزمر :﴿ الله يتوفى الأنفس حين موتها التي لم تمت في منامها، فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ﴾ [ الزمر : ٣٩ ] فهذه الآية نص في كون التوفي أعم من الموت وأنه ليس مرادفا له، فقد صرحت بأن الأنفس التي تتوفى في منامها غير ميتة.
فقوله تعالى :﴿ يتوفاكم بالليل ﴾ معناه يتوفى أنفسكم في حالة نومكم بالليل، ومثله النوم في النهار وإنما اقتصر على ذكر الليل لأن الواجب في الفطرة والغالب في العادة أن يكون النوم فيه، فلا يعتد بما يقع منه في النهار، أطلق التوفي في المنام على إزالة الإحساس، والمنع من تصرف الأنفس في الأبدان، على ما هو المعروف عند العلماء، ولكن بعض فلاسفة الغرب المتأخرين يرى أن للإنسان نفسين تفارقه إحداهما عند النوم وتفارقه كلتاهما بالموت، فإذا صح هذا يكون التوفي حقيقته في المنام وفي الموت لأن الأول يحصل بقبض غير تام لأحد النفسين والثاني بقبض تام لكلتيهما، وهو يوافق ظاهر آية الزمر.
ثم قال عز وجل :﴿ ويعلم ما جرحتم بالنهار ﴾ الجرح يطلق بمعنى العمل والكسب بالجوارح وهي الأعضاء العاملة وبمعنى التأثير الدامي من السلاح وما في معناه كالبراثن والأظفار والأنياب من سباع الطير والوحش، قيل إن هذا الأخير هو الحقيقة والأول مجاز، وإن عوامل الإنسان ما سميت جوارح إلا تشبيها لها بجوارح السباع، وإن هذه ما سميت جوارح إلا لأنها تجرح ما تصيده وما تفترسه، وظاهر عبارة لسان العرب أن الجرح حقيقة في الكسب وأن جوارح الصيد سميت بذلك لكسبها لنفسها أو لمعلمها الذي يصيد بها وأن الخيل والأنعام المنتجة تسمى جوارح أيضا لأن نتاجها كسبها، فالجرح كالكسب يطلق على الخير والشر منه، نقل ذلك اللسان عن الأزهري، وظاهر كلام الزمخشري أنه فعل الشر وبذلك فسر الآية في الكشاف كما سيأتي، وقد استعمل الاجتراح بمعنى فعل الشر خاصة في قوله تعالى في سورة الجاثية ﴿ أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات ﴾ [ الجاثية : ٢٠ ] – الآية – ولم يذكر الجرح والاجتراح في القرآن إلا في هاتين الآيتين، وقد يكون التخصيص بعمل السيئات لصيغة الأفعال كما ورد كثيرا في الاكتساب كقوله تعالى في آخر سورة البقرة ﴿ لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ﴾ [ البقرة : ٢٨٦ ] وهو غير مطرد في ذلك، فكل من الكسب والاكتساب يستعمل في الخير والشر.
فمعنى قوله تعالى :﴿ ويعلم ما جرحتم بالنهار ﴾ يعلم جميع عملكم وكسبكم في وقت اليقظة الذي يكون معظمه في النهار خيرا كان أو شرا، قيل إن الماضي هنا بمعنى المستقبل أي ويعلم ما تجرحون في النهار الذي يلي الليل عبر به لتحقق وقوعه، وقيل بل هو على أصله ويراد به النهار السابق على الليل الذي يتوفاكم فيه. أو المراد يتوفاكم في جنس الليل ويعلم ما جرحتم في جنس النهار.
﴿ ثم يبعثكم فيه ﴾ أي ثم إنه بعد توفيكم بالنوم يثيركم ويرسلكم منه في النهار، فالبعث كما قال الراغب إثارة الشيء وتوجيهه يقال بعثت البعير أي أثرته من بركه وسيرته. فإطلاق البعث على الإيقاظ من النوم حقيقة لغوية ومن جعله مجازا نظر إلى العرف الشرعي. فإن قيل كان الظاهر أن يقال : وهو الذي يتوفاكم بالليل ثم يبعثكم بالنهار ويعلم ما جرحتم فيه، فما نكتة هذا التقديم والتأخير في الآية ؟ قلت الظاهر المتبادر أن تأخير ذلك البعث لأجل أن تتصل به علته المقصودة بالذكر في هذا السياق وهي قوله تعالى :﴿ ليقضى أجل مسمى ﴾ الخ أي يوقظكم ويرسلكم في أعمالكم لأجل أن يقتضي وينفذ الأجل المسمى في علمه تعالى لكل فرد منكم فإن لأعماركم آجالا مقدرة مكتوبة لا بد من قضائها وإتمامها ﴿ ثم إليه مرجعكم ﴾ ثم إليه وحده يكون رجوعكم إذا انتهت آجالكم ومتم ﴿ ثم ينبئكم بما كنتم تعملون ( ٦٠ ) ﴾ إذ يبعثكم من مراقد الموت كما كان يبعثكم من مضاجع النوم، لأنه عالم بتلك الأعمال كلها فيذكركم بها، ويحاسبكم عليها ويجزيكم بها، إن خيرا فخير وإن شرا فشر وفيه تنبيه على أن القادر على البعث من توفي النوم قادر على البعث من توفي الموت.
وقد خالف الزمخشري الجمهور في تفسير الآية فجعلها خطابا للكفار خاصة إذا جعل الجرح خاصا بعمل السوء وجعل الغرض من ذكر توفيهم في الليل أنهم يكونون منسدحين١ فيه كالجيف ومن الجرح بالنهار عمل الآثام فيه. وجعل البعث على معناه الشرعي. و « في » للتعليل أو الشأن كحديث « دخلت امرأة النار في هرة »٢ وقال في بيان هذا : ثم يبعثكم من القبور في شأن ذلك الذي قطعتم به أعماركم من النوم بالليل وكسب الآثام بالنهار ومن أجله، كقولك : فيم دعوتني ؟ فتقول : في أمر كذا. وفسر الأجل المسمى بما ضربه الله لبعث الموتى وجزائهم، والمرجع بالرجوع إلى موقف الحساب. وفيه تكلف لا يدفعه إلا نص في نزول الآية في الكفار وحدهم وكون الجرح بمعنى فعل الآثام، وكلاهما لا يثبت.
وفي ذكر الأجل المسمى في الآية والرجوع إلى الله تعالى لأجل الحساب والجزاء تأييد لما تقدم من حكمة تأخير ما كان مشركو مكة يستعجلون به من وعيد الله لهم ووعده لرسوله بالنصر عليهم وبيان عذاب الآخرة وراء ما أنذروا من عذاب الدنيا فمن لم يدركه الأول لموته قبل وقوعه لم يفلت من الآخر.
١ السدح، كالمنع: ذبحك الشيء، وبسطكه على الأرض، والإضجاع، والصرح على الوجه، والإلقاء على الظهر ويقل سدحه فانسدح. وهو مسدوح وسديح..
٢ أخرجه البخاري في بدء الخلق باب ١٦، ومسلم في التوبة حديث ٢٥، وابن ماجه في الزهد باب ٣٠، والدارمي في الرقاق باب ٩٣، وأحمد في المسند ٢/٢٦١ ٢٦٩، ٤٥٧، ٤٦٧، ٥٠١، ٥٠٧..
ثم إنه تعالى بين ما في هذه الآية من الإجمال في أمر الموت والرجوع إلى الله للحساب والجزاء مبتدأ ذلك بذكر قهره لعباده واستعلائه عليهم وإرساله الحفظة لإحصاء أعمالهم وكتابتها عليهم فقال ﴿ وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة ﴾.
بينا معنى الجملة الأولى بنصها في تفسير الآية الثامنة عشرة من هذه السورة وكلمة فوق تستعمل- كما قال الراغب- في المكان والزمان والجسم والعدد والمنزلة، وذلك أضرب ضرب لها الراغب الأمثلة، ففوق العلوية يقابله تحت، وفوق الصعود يقابله في الحدود الأسفل، وفوق العدد يقابله القليل أو الأقل منه، وفوق الحجم يقابله الصغير أو الأصغر منه، وفوق المنزلة يكون بمعنى الفضيلة كقوله تعالى :﴿ ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ﴾ [ الزخرف : ٣٢ ] ﴿ والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة ﴾ [ البقرة : ٢١٢ ] وبمعنى القهر والغلبة كقوله تعالى حكاية عن فرعون ﴿ وإنا فوقهم قاهرون ﴾ [ الأعراف : ١٢٧ ] وبه فسروا هذه وما قبلها.
وإما إرسال الحفظة على الناس فمعناه إرسالهم مراقبين عليهم من حيث لا يشعرون ( كمراقبة رجال البوليس السري في حكومات عصرنا ) محصين لأعمالهم بكتابتها وحفظها في الصحف التي تنشر يوم الحساب، وهي المرادة بقوله تعالى :﴿ وإذا الصحف نشرت ﴾ [ التكوير : ١٠ ] وهؤلاء الحفظة هم الملائكة الذين قال الله تعالى فيهم ﴿ وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون ﴾ [ الانفطار : ١٠- ١٢ ] ولم يرد في كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم بيان تفصيلي لصفة هذه الكتابة فنؤمن بها كما نؤمن بكتابة الله تعالى لمقادير السموات والأرض ولا نتحكم فيها بآرائنا، وأمثل ما أولت به أنها عبارة عن تأثير الأعمال في النفس وأنه يكون بفعل الملائكة.
وقيل إن الحفظة من الملائكة غير الكاتبين للأعمال وهم المعقبات في قوله تعالى من سورة الرعد :﴿ له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله ﴾ [ الرعد : ١٢ ] قيل إنهم ملائكة يحفظونه من الجن والشياطين وقيل من كل ضرر يكون عرضة له لم يكن مقدرا أن يصيبه فإذا جاء القدر تخلوا عنه، ولكن لم يصح في ذلك شيء يعتد به، وفي هذه الآية أقوال أخرى لأهل التفسير المأثور منها أنها خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم وأنها نزلت حين أراد أربد بن قيس وعامر بن الطفيل قتله على أن يلهيه الثاني بالحديث فيقتله الأول فلما وضع يده على السيف يبست على قائمته فلم يستطع سله. ومنها أنها في الكرام الكاتبين. ومنها أنها في الأمراء والملوك الذين يتخذون الحرس والجلاوزة يحفظونهم ممن يريد قتلهم.
روى ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال في الآية : الملوك يتخذون الحرس يحفظونه من أمامه ومن خلفه وعن يمينه وشماله يحفظونه من القتل، ألم تسمع أن الله تعالى يقول :﴿ وإذا أراد الله بقوم سوءا ﴾ [ الرعد : ١١ ] لم يغن الحرس عنه شيئا وهذا المعنى هو الذي يناسب قوله تعالى قبل هذه الآية ﴿ سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار له معقبات ﴾ [ الرعد : ١٠، ١١ ] الآية- وسيأتي تفصيل ذلك في محله إن شاء الله تعالى.
ليس عندنا من الأحاديث الصحاح في هذه المسألة إلا حديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما مرفوعا « يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار يجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم : كيف تركتم عبادي فيقولون تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون »١ وروي بلفظ « والملائكة يتعاقبون فيكم » بواو وبغير واو لكن لم يرد ذلك في تفسير آية الرعد. فإذا كان هؤلاء الملائكة هم الحفظة الكاتبين فلا محل لاختلاف العلماء في تجددهم وتعاقبهم.
وذكروا من الحكمة في كتابة الأعمال وحفظها على العاملين أن المكلف إذا علم أن أعماله تحفظ عليه وتعرض على رؤوس الأشهاد كان ذلك أزجر له عن الفواحش والمنكرات، وأبعث له على التزام الأعمال الصالحات، فإن لم يصل إلى مقام العلم الراسخ الذي يثمر الخشية لله عز وجل والمعرفة الكاملة التي تثمر الحياء منه سبحانه والمراقبة له، يغلب عليهم الغرور بالكرم الإلهي والرجاء في مغفرته ورحمته تعالى فلا يكون لديهم من خشيته والحياء منه ما يزجرهم عن معصيته كما يزجرهم توقع الفضيحة في موقف الحساب على أعين الخلائق وأسماعهم. وزاد الرازي احتمال أن تكون فائدتها أن توزن تلك الصحف لأن وزنها ممكن ووزن الأعمال غير ممكن. كذا قال وهو احتمال ضعيف بل لا قيمة له لأنه مبني على تشبيه وزن الله للأمور المعنوية بوزن البشر للأثقال الجسمية.
أما بيان هذه الحكمة على الطريقة التي جرينا عليها في بيان حكمة مقادير الخلق فتعلم مما مر هنالك، وأما على طريقة من يقولون إن المراد بكتابة الأعمال حفظ صورها وآثارها في النفس فهي أنها تكون المظهر الأتم الأجلى لحجة الله البالغة – فإذا وضع كتاب كل أحد يوم الحساب ونشرت صحفه المطوية في سريرة نفسه تعرض عليه أعماله فيها بصورها ومعانيها فتتمثل لذاكرته ولحسه الظاهر والباطن كما عملها في الدنيا لا يفوته شيء من صفاتها الحسية ولا المعنوية – كاللذة والألم – فيكون حسيبا على نفسه، وعلى عين اليقين من عدل الله وفضله، ﴿ وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ﴾ [ الإسراء : ١٣، ١٤ ] ﴿ ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا ﴾ [ الكهف : ٤٧ ].
﴿ حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون ( ٦١ ) ﴾ قرأ حمزة « توفاه » بألف ممالة بعد الفاء، والباقون « توفته » بالتاء بعد الفاء ورسمهما في مصحف الإمام واحد هكذا « يوفيه » لأن الألف رسمت ياء كأصلها والمعنى أنه تعالى يرسل عليكم حفظه من الملائكة يراقبونكم ويحصون عليكم أعمالكم مدة حياتكم حتى إذا جاء أحدكم الموت وانتهى عمله توفته أي قبضت روحه رسلنا الموكلون بذلك من الملائكة، وهؤلاء الرسل هم أعوان ملك الموت الذي قال الله فيه ﴿ قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون ﴾ [ السجدة : ١١ ] فالأرواح أصناف كثيرة لكل منها مستقر في البرزخ يليق به، وللموت أصناف كثيرة لكل منها سنن ونظام في الحياة خاص به، فقبض الألوف من الأرواح في كل لحظه ووضعها في المواضع اللائقة بها عمل عظيم واسع النطاق يقوم بإدارته ونظامه رسل كثيرون. وكل عمل منظم لا بد أن تكون له جهة وحدة هي مكان الرياسة والنظام منه.
روى ابن جرير وأبو الشيخ عن الربيع بن أنس أنه سئل عن ملك الموت أهو وحده الذي يقبض الأرواح ؟ قال هو الذي يلي أمر الأرواح وله أعوان على ذلك – وقرأ الآية ثم قال – غير أن ملك الموت هو الرئيس. الخ وروي عن إبراهيم النخعي ومجاهد وقتادة أن الأعوان يقبضون الأرواح من الأبدان ثم يدفعونها إلى ملك الموت، فكل منهما متوف، وعن الكلبي أن ملك الموت هو الذي يتولى القبض بنفسه ويدفعها إلى الأعوان فإن كان الميت مؤمنا دفعها إلى ملائكة الرحمة وإن كان كافرا دفعها إلى ملائكة العذاب أي وهم يذهبون بالأرواح إلى حيث يوجههم بأمر الله تعالى.
وقد أسند التوفي إلى الله تعالى في آية الزمر التي ذكرناها في أول تفسير الآية التي قبل هذه إما على أنه هو الآمر لملك الموت ولأعوانه جميعا بذلك – وهو ما صرحوا به – وإما على أنه هو الفاعل الحقيقي والمسخر لملك الموت وأعوانه، فهم بأمره يعملون، وبتسخيره يتصرفون، لا يعتدون في تنفيذ إرادته ولا يفرطون، والتفريط التقصير بنحو التواني والتأخير ( وتقدم تحقيق معناه في تفسير ٣٨ ﴿ وما فرطنا في الكتاب من شيء ﴾ ) وقرأ الأعرج يفرطون من الإفراط المقابل للتفريط أي لا يتجاوزون ولا يعتدون فيه، ومعناه صحيح ولكن الحاجة إلى نفي الإفراط غير قوية، والآية تدل على عصمة الملائكة كما قال المفسرون.
١ أخرجه البخاري في المواقيت باب ١٦، والتوحيد باب ٢٣، ٣٣، ومسلم في المساجد حديث ٢١٠، والنسائي في الصلاة باب ٢١، ومالك في السفر حديث ٨٢، وأحمد في المسند ٢/٢٥٧، ٣١٢، ٤٨٦..
﴿ ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ﴾ الظاهر المتبادر أن المعنى ثم يرد أولئك الذين تتوفاهم الرسل إلى الله الذي هو مولاهم الحق ليحاسبهم ويجازيهم على أعمالهم فيكون بمعنى آية ألم السجدة التي تقدمت آنفا. وقيل إن المعنى ثم يرد أولئك الرسل إلى ربهم بعد إتمام ما وكل إليهم بموت جميع الناس فيموتون هم أيضا، ذكره الرازي وهو ضعيف من وجوه – منها مخالفته لآية السجدة، ومنها أن الكلام في البشر وبيان الدين لهم وإقامة حججه عليهم، ومنها أن الحساب الذي ختمت بذكره الآية حساب البشر لا حساب ملك الموت وأعوانه.
وفي الجملة مباحث لفظية ومعنوية يتضح بها ما فيها من البلاغة.
الأول : أن في الكلام التفاتا من الخطاب إلى الغيبة لأن ما قبله خطاب منه سبحانه للمكلفين، والتفاتا آخر من التكلم إلى الغيبة وإلا لقال ثم رددناكم أو رددناهم على الالتفات – الخ ونكتة الالتفات تفهم من المباحث الأخرى.
الثاني : أنه جعل فعل الرد مبنيا للمفعول للدلالة على أن له تعالى رسلا أخرى – والظاهر أنهم غير رسل الموت ورسل الحفظ – يردون العباد إليه بعد البعث عند ما يحشرونهم بأمره للحساب والجزاء، وهذه أظهر نكت الالتفات.
الثالث : ذهب بعض المفسرين إلى أن الضمير في قوله « ردوا » للكل المدلول عليه بأحد من قوله :« إذا جاء أحدكم الموت » وأن هذا هو السر في مجيئه بطريق الالتفات والإفراد أولا والجمع آخرا، لوقوع التوفي على الإفراد والرد على الجملة والمجموع. ونحن نرى أنه لا حاجة إلى تكلف القول برجوعه إلى الكل المدلول عليه بأحد، والالتفات عبارة عن جعل ضمير الخطاب الذي للجماعة ضمير غيبة لهم.
الرابع : أن هذا الرد يكون بعد البعث فكان الأصل أن يعبر عنه بفعل الاستقبال كما في آية السجدة ﴿ ثم تردون ﴾ وعبر هنا بالماضي لإفادة تحقق الوقوع حتى كأنه وقع وانقضى.
الخامس : من فوائد الالتفات من التكلم إلى الغيبة ذكر اسم الجلالة ووصفه بما وصف به ولا يخفى أن تأثيره في النفس هنا أعظم من تأثير ضمير التكلم.
السادس : قالوا إن الرد إلى الله وهو الرد إلى حكمه وقضائه، وحسابه وجزائه، أو إلى موقف الحساب، ومكان العرض والسؤال، لأن الرد إلى ذاته غير معقول وغير ممكن، وهذا التعليل لا يحتاج إليه العربي القح لفهم ما ذكر من الآية، ولا الدخيل في العربية إلا من كان مطلعا على مذهب غلاة أهل الوحدة، ولو صح مذهبهم لكان سياق الكلام مانعا أن يكون مرادا من العبارة كما يمنعه من أسلوبه وصف اسم الذات بما وصف به، ما ختمت به الآية وهاك بيانه :
السابع : أن وصف الاسم الكريم بمولاهم الحق يدل على أن ردهم إليه حتم لأنه هو سيدهم الحق، الذي يتولى أمورهم ويحكم بينهم بالحق. والحق في اللغة هو الثابت المتحقق، وهذا الوصف لا يتحلى به أحد من الخلق إلا على سبيل العارية الموقتة، فما كان تولي بعض العباد أمور بعض بملك الرقبة، أو ملك التصرف والسياسة، فمنه ما هو باطل من كل وجه، ومنه ما هو باطل من حيث إنه موقوت لا ثبات ولا بقاء له، وحق من حيث إن مولاهم الحق أقره في سننه الاجتماعية أو شرائعه المنزلة لمصلحة العباد العارضة مدة حياتهم الدنيا، فثبت بذلك أن الله عز وجل هو مولاهم الحق وحده، وما كان من ولاية غيره الباطلة من كل وجه، أو الباطلة في ذاتها دون صورتها الموقتة، فقد زال كل ذلك بزوال عالم الدنيا وبقي المولى الحق وحده، كما زال كل ملك وملك صوريين كانا للخلق في هذا العلم وصاروا إلى يوم لا تملك فيه نفس لنفس شيئا وظهر يومئذ أن الملك الصوري والحقيقي لله الواحد القهار.
﴿ ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين ( ٦٢ ) ﴾ ألا حرف استفتاح يذكر في أول الكلام لتنبيه المخاطب لما بعده إذا كان مهما لئلا يفوته منه شيء، وقوله :﴿ له الحكم ﴾ يفيد الحصر، أي له الحكم وحده ليس لغيره منه شيء في ذلك اليوم، لا على سبيل الصورة والإضافة الموقتة ولا على سبيل الحقيقة ﴿ إن ربك يقضي بينهم بحكمه وهو العزيز العليم ﴾ [ النمل : ٨٠ ] ﴿ وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ﴾ [ الطور : ٨ ] ﴿ قل اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا يختلفون ﴾ [ الزمر : ٤٣ ] والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وفسر كونه تعالى أسرع الحاسبين بأنه يحاسب العباد كلهم في أسرع زمن وأقصره لا يشغله حساب أحد عن حساب غيره لأنه لا يشغله شأن عن شأن، فاسم التفضيل فيه على غير بابه إذ لا محاسب هنالك غيره، أو هو بالنسبة إلى المحاسبين أو الحاسبين في غير الآخرة، ولفظ الحاسبين اسم الفاعل من حسب الثلاثي لا من حاسب، والحساب مصدر لكل منهما، يقال حسبه حسبا وحسابا وحاسبه محاسبة وحسابا. والمحاسبة أو الحساب في المعاملة مبني على الحسب والحساب الذي هو العد والإحصاء لأن المحاسب يحصي على من يحاسبه العدد في المال أو ما نيط به من الأعمال. والمراد هنا أنه أسرع الحاسبين إحصاء للأعمال ومحاسبة عليها، وقد تقدم تفسير ﴿ والله سريع الحساب ﴾ [ البقرة : ٢٠٢ ] فيراجع في ج٢ من التفسير.
﴿ قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين ٦٣ قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشكرون ٦٤ ﴾
أمر الله تعالى رسوله في الآيات السابقة أن يبين لعباده إحاطة علمه وشمول قدرته، واستعلاءه عليهم بالقهر، وحفظه أعمالهم عليهم، وكونه هو مولاهم الحق الذي يحاسبهم ويجازيهم عليها بعد أن يميتهم ثم يبعثهم. ثم أمره بهذا القول أن يذكرهم بشيء يجدونه في أنفسهم يقولونه بأفواههم، ويغفلون عما يستلزمه من كون الله تعالى هو مولاهم الحق الذي يجب توحيده وإفراده بالعبادة، ولا سيما مظهرها الأعلى وهو الدعاء في الشدة. فقال :
﴿ قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية ﴾ ظلمات البر والبحر قسمان ظلمات حسية كظلمة الليل وظلمة السحاب وظلمة المطر، وظلمات معنوية كظلمة الجهل بالطرق والمسالك، وظلمة فقد الصوى والمنار، أو اشتباه الأعلام والآثار، وظلمة الشدائد والأخطار، كالعواصف والأعاصير وهياج البحار، أو مساورة الأفاعي والسباع، أو مكافحة العدد الكثير من الأعداء، وتسمية هذه الأمور المعنوية ظلمات من المجاز كتسمية الجهل والكفر والضلال بذلك – وهو كثير في التنزيل – ونقلوا أنه قيل لليوم الشديد يوم مظلم ويوم ذو كواكب. وأقول لا يصح إطلاق الظلمة على كل شدة، بل على الشدة التي لها عاقبة سيئة مجهولة تخشى ولا تعلم، فهو يرجع إلى معنى الجهل.
والتضرع المبالغة في الضراعة وهي الذل والخضوع، وقال الراغب هو إظهار الضراعة بعد أن فسرها بالضعف والذل، والإظهار قد يكون إظهار ما هو واقع وقد يكون إظهار ما هو غير واقع على سبيل الرياء، والمراد بالتضرع هنا ما هو صادر عن الإخلاص الذي يثيره الإيمان الفطري المطوي في أنفس البشر. والخفية بالضم والكسر الخفاء والاستتار، فإذا كان التضرع إظهار الحاجة إلى الله تعالى والتذلل له بالجهر بالدعاء، ورفع الصوت به مع البكاء، فالخفية في الدعاء عبارة عن إسراره هربا من الرياء، وهاتان حالتان تعرضان للإنسان عند شعوره بالحاجة إلى الله تعالى ويأسه من الأسباب، تارة يجأر بالدعاء رافعا صوته متضرعا مبتهلا وتارة يسر الدعاء ويخفيه مخلصا محتسبا، ويتحرى أن لا تسمعه أذن، ولا يعلم به أحد، ويرى أنه يكون بذلك أجدر بالقبول، وأرجى لنيل السول.
والمعنى : قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين الغافلين عن أنفسهم، وما أودع من آيات التوحيد في أعماق فطرتهم، : من ينجيكم من ظلمات البر والبحر الحسية والمعنوية عند ما تغشاكم في أسفاركم حال كونكم تدعونه عند وقوعكم في كل ظلمة منها دعاء تضرع ودعاء خفية قائلين ﴿ لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين ( ٦٣ ) ﴾ أي مقسمين هذا القسم في دعائكم : لئن أنجانا الله من هذه الظلمة أو الداهية المظلمة لنكونن من المتصفين بالشكر الدائم له، المنتظمين في سلك أهله، وفي قراءة ( لئن أنجيتنا ) بالخطاب وسيأتي.
﴿ قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون ( ٦٤ ) ﴾
الكرب الغم الشديد مأخوذ من كرب الأرض وهو إثارتها وقلبها بالحفر إذ الغم يثير النفس كذلك، أو من الكرب ( بالتحريك ) وهو العقد الغليظ في رشاء الدلو ( حبله ) وقد يوصف الغم بأنه عقدة على القلب أي لما يشعر به المغموم من الضغط على قلبه والضيق في صدره، أو من أكربت الدلو إذا ملأته، أفاده الراغب. والمعنى أن الله ينجيكم المرة بعد المرة من تلك الظلمات ومن كل كرب يعرض لكم، ثم أنتم تشركون به غيره بعد النجاة أقبح الشرك، مخلفي وعدكم له بالشكر، حانثين بما وكدتموه به من اليمين، مواظبين على هذا الشرك مستمرين، لا تكادون تنسونه إلا عند ظلمة الخطب، وشدة الكرب، وأجلى شرككم أنكم تدعون أولياء من دون الله، وتسندون إليهم الأعمال إن لم يكن بالاستقلال فبالشفاعة عند الله، حتى إنكم لا تستثنون منها تلك النجاة. وهذه الحجة من أبلغ الحجج لمن تأملها، ولذلك تكرر في التنزيل ذكرها، وطالما ذكرناها في آيات التوحيد ودلائله، وأقرب بسط لها ما أوردناه في تفسير الآيتين من هذه السورة وفيه شواهد بمعنى هاتين الآيتين. فليراجع ( ج٧ تفسير ).
قرأ عاصم وحمزة والكسائي ( ينجيكم ) بالتشديد في الموضعين من التنجية والباقون بالتخفيف فيهما من الإنجاء وهما لغتان في تعدية نجا ينجو، يقال نجاه وأنجاه ونطق بهما القرآن في غير هاتين الآيتين أيضا، ولكن في التشديد من المبالغة والدلالة على التكرار ما ليس في التخفيف. وقرأ عاصم في رواية أبي بكر ( خفية ) بكسر الخاء والباقون بضمها وهما لغتان كما تقدم. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي ( أنجانا ) على الغيبة فعاصم فخمها والآخرون قرأوها بالإمالة، وقرأ الباقون ( أنجيتنا ) على الخطاب. وهي مرسومة في المصحف الإمام هكذا ( أنجينا ) وقراءة الغيبة أقوى مناسبة للفظ، والخطاب أشد تأثيرا في النفس.
﴿ قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون ٦٥ وكذب به قومك وهو الحق قل لست عليكم بوكيل ٦٦ لكل نبإ مستقر وسوف تعلمون ٦٧ ﴾
ذكر الله تعالى هؤلاء الناس في الآيتين السابقتين ببعض آياته في أنفسهم، ومنته عليهم في وقائع أحوالهم، التي يشعر بها كل من وقعت له منهم، وكونه هو الذي ينجيكم من الظلمات والكروب، والأهوال والخطوب، إما بتسخير الأسباب، وإما بدقائق اللطف والإلهام، ثم قال.
﴿ قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض ﴾ هذا تذكير بقدرته على تعذيبهم، إثر التذكير بقدرته على تنجيتهم، لا فرق فيهما بين أفرادهم وبين مجموعهم وجملتهم، وإنذار بأن عاقبة كفر النعم، أن تزول وتحل محلها النقم. والمعنى قل أيها الرسول لقومك ومن وراءهم من الكافرين بنعم الله، الذين يشركون به سواه، ولا يشكرون له ما من به من النعم وأسداه، ومن الذين يتنكبون سنن الله، ويختلفون في الكتاب بعد أن هداهم به الله : هو الله القادر على أن يثير ويرسل عليكم عذابا تجهلون كنهه فيصبه عليكم من فوقكم، أو يثيره من تحت أرجلكم، أو يلبسكم ويخلطكم فرقا وشيعا، مختلفين على أهواء شتى، كل فرقة منكم تشايع إماما في الدين، أو تتعصب لملك أو رئيس، ويذيق بعضكم بأس بعض، وهو ما عنده من الشدة والمكروه في السلم والحرب، وقال صاحب الكشاف بعد تفسير اللبس بالخلط : ومعنى خلطهم أن ينشب القتال بينهم فيختلطوا ويشتبكوا في ملاحم القتال من قوله :
وكتيبة لبستها بكتيبة حتى إذا التبست نفضت لها يدي١
أقول وأصل معنى اللبس التغطية كاللباس وهذا التفرق والاختلاف بين الشيع كالغطاء يستر عن كل شيعة ما عليه الأخرى من الحق، وما في الاتفاق معها من المصلحة والخي.
ولمادة ( ش ي ع ) ثلاث معاني أصلية في اللغة أحدها : الانتشار والتفرق ومنه شاع وأشاع الأخبار وطارت نفسه شعاعا. ثانيها : الإتباع والدعوة إليه ومن الأول تشييع المسافر وتشييع الجنازة ومن الثاني قولهم أشاع بالإبل أي دعاها إذا استأخر بعضها ليتبع بعضها بعضا. ثالثها : التقوية والتهييج ومنه قولهم شيع النار إذا ألقى عليها حطبا يذكيها به، والشياع ( بالفتح والكسر ) ما تضرم به النار، وكل هذه المعاني ظاهرة في الشيع والأحزاب المتفرقة بالخلاف في الدين أو السياسة. وفسر ابن عباس الشيع بالأهواء المختلفة أي أصحابها.
وقد ورد في المأثور تفسير العذاب من فوق بالرجم من السماء أي من جهة العلو – وكان بالطوفان – كما وقع لبعض الأمم القديمة، والعذاب من تحت الأرجل بالخسف والزلازل المعهودة في القديم والحديث، وروي عن ابن عباس أن المراد بالفوق أئمة السوء – أي الحكام والرؤساء – وبالتحت خدم السوء، وفي رواية ( من فوقكم ) يعني أمراءكم ( أو تحت أرجلكم ) يعني عبيدكم وسفلتكم. وهذا معنى صحيح في نفسه ولعل مراد الخبر منه أنه يدخل في عموم ما ترشد إليه الآية، وقيل المراد بالفوق حبس المطر وبالتحت منع الثمرات، وهذا تفسير سلبي والتعبير عنه بالإرسال تعبير عن الشيء بضده فإن الإرسال ضد المنع والإمساك والحبس، ومنه قوله تعالى :﴿ وما يمسك فلا مرسل له من بعده ﴾ [ فاطر : ٢ ] ولما كان لفظ العذاب في الآية نكرة جاز حمله على كل عذاب يأتي من فوق الرؤوس ومن تحت الأرجل أو من رؤساء الناس أو من تحتهم، ولولا أن هذا الإبهام مراد لأجل هذا الشمول لصرح بالمراد كما صرح به في مثل قوله تعالى :﴿ أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا فستعلمون كيف نذير ﴾ [ الملك : ٦ ] وحكمة مثل هذا الإبهام في القرآن أن ينطبق معنى اللفظ على ما يدل عليه مما يحدث في المستقبل أو ينكشف للناس فيه ما كان خفيا عنهم، إذ ورد في وصف القرآن أنه لا تنتهي عجائبه، وأن فيه نبأ من قبل الذين نزل في زمنهم ومن كان معهم ومن يجيء بعدهم.
مثال ما عبر القرآن عنه ولم ينكشف لجمهور الناس انكشافا تاما إلا بعد نزوله بقرون كون الثمار وغيرها أزواجا منها الذكر والأنثى قال تعالى :﴿ ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين ﴾ [ الرعد : ٢ ] وقال ﴿ ومن كل شيء خلقنا زوجين ﴾ [ الذاريات : ٤٩ ] وكانوا يحملون الآيات في ذلك على المجاز – وكون الرياح تلقح النبات كما هو صريح قوله تعالى :﴿ وأرسلنا الرياح لواقح ﴾ [ الحجر : ٢٢ ] وقد جعله بعض مفسري السلف تلقيحا مجازيا كقول ابن مسعود رضي الله عنه أنها تلقح السحاب فيدر كما تدر اللقحة٢ نعم قال ابن عباس رضي الله عنه وكذا الحسن : تلقح الشجر وتمري السحاب، ولكن هذا القول المقتبس من التنزيل بنور الفهم الصحيح، لم يزل خفيا في تفصيله حتى عن العرب الذين كانوا يلقحون النخيل – إلى إن اكتشف الناس أعضاء الذكورة والأنوثة في النبات وكونها تثمر بالتلقيح، وكون الرياح تنقل مادة الذكورة من ذكرها إلى أنثاها فتلقحها به، ولما علم الإفرنج بهذا قال بعض المطلعين على القرآن المجيد من المستشرقين منها : إن أصحاب الإبل – يعني العرب – قد عرفوا أن الريح تلقح الأشجار والثمار قبل أن يعرفها أهل أوربة بثلاثة عشر قرنا٣.
ومثال ما عبر القرآن عنه مما يشمل ما لم يكن في زمن تنزيله ولا فيما قبله بحسب ما يعلم البشر هذه الآية التي ظهر تفسيرها في هذا الزمان بهذه الحرب الأوروبية التي لم يسبق لها نظير، فقد أرسل الله على الأمم عذابا من فوقها بما تقذفه الطيارات والمناطيد من المقذوفات النارية التي لم تعرف قبل هذه الحرب فوق مقذوفات المدافع وغيرها مما كان معروفا قبلها ولكن بعد تنزيل الآية – وعذابا من تحتها بما يتفجر من الألغام النارية وبما ترسله المراكب الغواصة في البحر، التي اخترعت في هذا العصر، ولبسها شيعا وأذاق بعضها بأس بعض، فحل بها من التقتيل والتخريب ما لم يعهد له نظير في الأرض، وقد شرحنا هذا في مقالة نشرناها في المنار. ولا شك في أن دلالة الآية على هذه المخترعات مراد، لأن الله تعالى منزل القرآن هو علام الغيوب. وفي الحديث المرفوع ما يشير إلى ذلك، فقد روى أحمد والترمذي من حديث سعد بن أبي وقاص قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية ﴿ قل هو القادر ﴾ – إلى آخرها فقال :« أما إنها كائنة ولم يأت تأويلها بعد » ويقويه ما ورد في تطبيقها على أمتنا، لأنه سنة الله في أهل الكتاب من قبلنا، كما يأتي قريبا.
﴿ انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون ( ٦٥ ) ﴾ أي انظر بعين عقلك أيها الرسول – ومثله في هذا كل مخاطب بالقرآن – كيف نصرف الآيات والدلائل فنجعلها على أنحاء شتى، منها ما طريقه الحس ومنها ما طريقه العقل، ومنها ما طريقه علم الغيب، لعلهم يفقهون الحق، ويدركون كنه الأمر، فإن الفقه هو فهم الشيء بدليله وعلته، المفضي إلى الاعتبار والعمل به، وإنما يرجى تحصيله بتصريف الآيات، وتنويع البينات.
فعلم مما تقدم أن هذه الآية عامة وإن نزلت في سياق إنذار مشركي مكة وإقامة الحجة عليهم، فالعبرة فيها كغيرها بعموم اللفظ لا بخصوص السبب أو مقتضى السياق كما تقرر في الأصول، وقد جهل هذا بعض المعممين فأنكروا علينا منذ أول العهد بإنشاء ( المنار ) ما كنا نورده في سياق تذكير المسلمين، من الآيات التي نزلت في المشركين والمنافقين، ومما يؤيد مسلكنا هذا ما رواه البخاري والنسائي في تفسير هذه الآية من حديث جابر قال : لما نزلت هذه الآية ﴿ قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم ﴾ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :« أعوذ بوجهك » قال :﴿ أو من تحت أرجلكم ﴾ قال :« أعوذ بوجهك » ﴿ أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض ﴾ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :« هذا أهون أو هذا أيسر » هذا لفظ البخاري في كتاب التفسير من صحيحه، ووقع في كتاب الاعتصام منه « هاتان أهون أو أيسر »٤ – والشك من الراوي.
وإنما كانت خصلتا اللبس وإذاقة البأس أهون أو أيسر لأن المستعاذ منه قبلها هو عذاب الاستئصال بإحدى الخصلتين الأوليين بأن لا يبقى من الأمة أحد. ويدل على ذلك أحاديث متعددة منها حديث ابن عباس عند أبي بكر بن مردويه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :« دعوت الله أن يرفع عن أمتي أربعا فرفع عنهم اثنتين وأبى أن يرفع عنهم اثنتين : دعوت الله أن يرفع عنهم الرجم من السماء والخسف من الأرض وأن لا يلبسهم شيعا ولا يذيق بعضهم بأس بعض، فرفع عنهم الخسف والرجم وأبى أن يرفع الآخرين » وفي رواية أخرى عنده عنه – أي ابن عباس – قال : لما نزلت هذه الآية ﴿ قل هو القادر... ﴾ قام النبي صلى الله عليه وسلم فتوضأ ثم قال :« اللهم لا ترسل على أمتي عذابا من فوقهم ولا من تحت أرجلهم ولا تلبسهم شيعا ولا تذق بعضهم بأس بعض » قال فأتاه جبريل فقال : يا محمد قد أجار الله أمتك أن يرسل عليهم عذابا من فوقهم أو من تحت أرجلهم، أي ولم يجرهم من العذابين الآخرين لأنه لا بد أن يتبعوا سنن من قبلهم من أهل الكتاب، ويحل ما حل بهم من عذاب التفرق والخلاف. وذلك مقتضى سنته تعالى في عقاب أتباع الرسل يختلفون في الدين الجامع لكلمتهم فيكونون مذاهب وشيعا، ويتبع ذلك اختلافهم في السلطة والسياسة أو يتقدمه، ويترتب عليه التخاصم والاقتتال الذي نعهده، وهذا معنى قضاء الله في حديث ثوبان الذي يأتي قريبا.
وروى أبو الشيخ عن مجاهد في تفسير الآية أن هذا العذاب عذاب أهل الإقرار وأن العذاب الأول عذاب أهل التكذيب. وأوضح منه ما رواه ابن جرير عن الحسن قال لما نزلت هذه الآية ﴿ قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا ﴾ قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوضأ فسأل ربه أن لا يرسل عليهم عذابا من فوقهم أو من تحت أرجلهم ولا يلبس أمته شيعا ويذيق بعضهم بأس بعض كما أذاق بني إسرائيل : فهبط إليه جبريل فقال : يا محمد إنك سألت ربك أربعا فأعطاك اثنتين. ومنعك اثنتين : لن يأتيهم عذاب من فوقهم ولا من تحت أرجلهم يستأصلهم فإنهما عذابان لكل أمة اجتمعت على تكذيب نبيها ورد كتاب ربها، ولكنه يلبسهم شيعا ويذيق بعضهم بأس بعض. وهذان عذابان لأهل الإقرار بالكتب والتصديق بالأنبياء ولكن يعذبون بذنوبهم. وأوحى الله إليه ﴿ فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون ﴾ [ الزخرف : ٤١ ] يقول من أمتك ﴿ أو نرينك الذي وعدناهم ﴾ [ الزخرف : ٤٢ ] من العذاب وأنت حي ﴿ فإنا عليهم مقتدرون ﴾ [ الزخرف : ٤٢ ] فقام نبي الله صلى الله عليه وسلم فراجع ربه فقال :« أي مصيبة أشد من أرى أمتي يعذب بعضها بعضا » ؟ وأوحى إليه ﴿ ألم، أحسب الناس أن يتركوا ﴾ [ القصص : ١، ٢ ] فأعلمه أن أمته لم تخص دون الأمم بالفتن وأنها ستبتلى كما ابتليت الأمم، ثم أنزل عليه ﴿ قل رب إما تريني ما يوعدون رب فلا تجعلني في القوم الظالمين ﴾ [ المؤمنون : ٩٣، ٩٤ ] فتعوذ نبي الله فأعاذه الله، لم ير من أمته إلا الجماعة والألفة والطاعة، ثم أنزل عليه آية حذر فيها أصحاب الفتنة فأخبره أنه إنما يخص بها ناس منهم دون ناس فقال :﴿ واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب ﴾ [ الأنفال : ٢٥ ] فخص بها أقواما من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بعده وعصم بها أقواما اه.
وقد وفى الحسن رحمه الله المسألة حقها من البيان بذكر ما يتعلق بها وإن نزل بعدها بسنين كآية الأنف
١ يروي البيت:
وكتيبة لبسها بكتيبة كالعائل الثريان أشرق في الندي
والبيت من الكامل، وهو لأبي بكر في كتاب الجيم ٢/٢٤٣، وفي رواية أخرى.
وكتيبة لبستها بكتيبة فيها السنور والمغافر والقنا
والبيت من الكامل، وهو للأسعر الجعفي في الأصمعيات ص ١٤٢، وتاج العروس (لبس)..

٢ اللقحة، بالفتح: الناقة ذات اللبن..
٣ نقل ذلك السيد محمد بيروم الخامس في مقدمة صفوة الاعتبار عن مستر جتيري الإنكليزي معلم العربية في مدرسة أكسفورد الجامعة (المؤلف)..
٤ أخرجه البخاري في تفسير سورة ٦، باب ٢، ٣، والاعتصام باب ١١، والتوحيد باب ١٠، ١٦..
﴿ وكذب به قومك وهو الحق ﴾ الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم أي وكذب جمهور قومك- وهم قريش- بالعذاب أو بالقرآن، على ما صرفنا من الآيات الجاذبة إلى فقه الإيمان، يجعلها حججا يثبتها الحس والعقل والوجدان، في أعلى أساليب البلاغة وحسن البيان، والحال أنه هو الحق الثابت في نفسه، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وما سبب ذلك إلا الكبر والعناد، والجمود على تقليد الآباء والأجداد.
﴿ قل لست عليكم بوكيل ( ٦٦ ) ﴾ أي قل لهم أيها الرسول إنني لست بوكيل مسيطر عليكم، وإنما أنا رسول لكم، فالوكيل هو الذي توكل إليه الأمور، وفي الوكالة. معنى السيطرة والتصرف، فمن جعله السلطان أو الملك وكيلا له على بلاده أو مزارعه يكون مأذونا بالتصرف عنه فيها والسيطرة على أهلها. والرسول مبلغ عن الله تعالى يذكر الناس ويعلمهم، ويبشرهم وينذرهم، ويقيم دين الله فيهم، هذه وظيفته. وليس وكيلا عن ربه ومرسله، ولا يعطي القدرة على التصرف في عباده، حتى يجبرهم على الإيمان إجبارا، ويكرههم عليه إكراها ﴿ لا إكراه في الدين ﴾ [ البقرة : ٢٥٦ ] ﴿ فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر ﴾ [ الغاشية : ٢١، ٢٢ ] ﴿ نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار، فذكر بالقرآن من يخاف وعيد ﴾ [ ق : ٤٥ ] ﴿ ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء ﴾ [ البقرة : ٢٧٢ ] وراجع تفسير ( ٦ : ٥٠ ج ٧ تفسير ) وقيل الوكيل الحفيظ المجازي.
وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أن هذه الآية نسخت بآية القتال وتمسك بهذه الرواية كثير من المفسرين المغرمين بتكثير الآيات المنسوخة قال الفخر الرازي : وهو بعيد، وهو في قوله المصيب، فإن الإذن بالقتال للدفاع عن الحق والحقيقة، وحماية الدعوة والبيضة، لم يخرج الرسول عن كونه رسولا، أي عبدا لله مبلغا عنه لا شريكا له ولا وكيلا، وما أرى الرواية تصح عن ابن عباس، ولو صحت لكان الوجه في مراده منها أن آية القتال أزالت ما كان من لوازم هذه الآية وأمثالها من إرشاد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى السكوت للمشركين على ما كان من تكذيبهم لما جاء به، ذلك التكذيب القولي العملي الذي أبرزوه بالصد عنه، ومنعه من تبليغ دعوة ربه، وإيذائه وإيذاء من آمن به، فإن الصحابة كانوا يريدون من النسخ معنى أعم من المعنى الذي قرره علماء الأصول وهو الذي يجري عليه المفسرون. ومن هنا قال الزجاج في تفسير العبارة : أي إني لم أومر بحربكم ومنعكم عن التكذيب اه وبناء على هذا قال كثيرون بنسخ الآيات الكثيرة التي أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر والعفو وحسن المعاملة وهي الفضائل التي كان صلى الله عليه وسلم متحليا بها طول عمره، مع وضعه كل شيء في موضعه.
ووضع الندى في موضع السيف في العلى*** مضر كوضع السيف في موضع الندى
﴿ لكل نبإ مستقر وسوف تعلمون ( ٦٧ ) ﴾ هذا تمام ما أمر الله تعالى رسوله أن يقوله لقومه المكذبين، والنبأ الخبر كما قيل أو الخبر الذي له شأن يهتم به، وقال الراغب خبر ذو فائدة عظيمة يحصل به علم أو غلبة ظن ولا يقال للخبر نبأ حتى يتضمن هذه الأشياء الثلاثة اه. ويراد به المعنى المصدري أو مدلوله الذي يقع مصدقا له. والمستقر مصدر ميمي بمعنى الاستقرار وهو الثبات الذي لا تحول فيه واسم زمان ومكان له، وإرادة الزمان هنا أظهر ويستلزم غيره معه.
والمعنى : لكل شيء ينبأ عنه مستقر تظهر فيه حقيقته ويتميز حقه من باطله، فلا يبقى مجال للاختلاف فيه، وسوف تعلمون مستقر ما أنبأ به القرآن الذي كذبتم به من وعد ووعيد- أو لكل نبأ من أنباء القرآن الحق الذي كذبوا به زمان يحصل فيه مضمونه فيكون قارا ثابتا فيه. ومن هذه الأنباء ما وعد الله الرسول من نصره عليهم وما أوعدهم من الخزي والعذاب في الدنيا والآخرة ﴿ كذب الذين من قبلهم فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون* فأذاقهم الله الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون ﴾ [ الزمر : ٢٥، ٢٦ ] ﴿ قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ﴾ [ هود : ٩٣ ] ﴿ ويحل عليه عذاب مقيم ﴾ [ هود : ٣٩ ] ﴿ إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنت عليهم بوكيل ﴾ [ الزمر : ٤١ ] وسوف تعلمون ذلك عند وقوعه. وحسبك هذه الشواهد فهي مطابقة لما هنا أتم المطابقة، وإذا جعل المستقر بمعنى الاستقرار كان معناه لكل نبأ من أنباء القرآن استقرار أي وقوع ثابت لا بد منه.
ومن أنباء القرآن ما هو خاص بأولئك القوم ومنه ما هو في غيرهم، ومنه ما هو نبأ عن أهل ذلك العصر ومنه ما هو نبأ عمن بعدهم. ومنه ما هو عام يشمل أمورا تأتي في أزمنة مختلفة فيحصل في كل زمن منها ما يثبت لمن فقهه حقية القرآن ﴿ قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو في شقاق بعيد* سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق، أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد ﴾ [ فصلت : ٥٢، ٥٣ ] وإذا أردت أن تزداد فهما بوجوه الاتصال والتناسب بين الآيات في هذا السياق، فارجع إلى ما ذكرناه من الكلام في مسألة استعجالهم العذاب، وأجله الذي لا يتعداه، والحمد لله.
﴿ وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين ٦٨ وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء ولكن ذكرى لعلهم يتقون ٦٩ وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون ٧٠ ﴾
أنذر الله تعالى في الآيات السابقة هذه الأمة- أمة الدعوة- مثل العذاب الذي بعثه على مكذبي الرسل من الأولين وعلى المتفرقين المختلفين في دينهم من أهل الكتاب، وجعل ذلك مع ما قبله من حجج القرآن وآياته المثبتة لكونه من عند الله، لا من عند رسوله الأمي الذي لم يكن يعلم شيئا من أخبار الأمم ولا من سنن الله في مكذبي الرسل ومتبعيهم، تلك الآيات التي يرجى لمن تدبرها فقه الأمور وإدراك حقائق العلم. وذكر بعد هذا الإنذار والبيان تكذيب قريش بالقرآن، وكون الرسول مبلغا لا خالقا للإيمان، وإحالتهم في ظهور صدق أنبائه على الزمان. ثم بين في هذه الآيات كيف يعامل الذين يخوضون في آيات الله بالباطل من هذه الأمة – أعني أمة الدعوة والذين اتخذوا دينهم هزؤا ولعبا من كفارها الذين لم يجيبوا دعوتها، بما يعلم منه حكم من يدخل في عموم ذلك ممن أجابوهما، على نحو ما تقدم في الآيات التي قبلها.
فقال :
﴿ وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره ﴾ روي عن أبي مالك وسعيد بن جبير وابن جريج وقتادة ومقاتل والسدي ومجاهد في إحدى الروايتين عنه أن هذه الآية في المشركين المكذبين الذين كانوا يستهزئون بالقرآن والنبي صلى الله عليه وسلم وروي عن أبن عباس وأبي جعفر ومحمد بن علي ومحمد بن سيرين أنها في أهل الأهواء من المسلمين. وهذا الخلاف مبني على ما تقدم فيما قبلها من كونه يشمل المشركين وغيرهم. فمن قال إن هذه في المشركين فقط فإنما رجح ذلك بمعونة السياق والوقت الذي نزلت فيه الآيات بل السورة كلها في أوائل البعثة، ومن قال إنها في أهل الأهواء فإنما رجح ذلك بما ورد من الأحاديث المرفوعة في كون الإنذار بالعذاب موجها إلى هذه الأمة بجملتها- من أجاب دعوتها ومن لم يجب- وكون تفرقها شيعا يذوق بعضهم بأس بعض أمرا مقضيا مضت به سنة الله تعالى فلا مرد له، والخطاب على الأول للنبي صلى الله عليه وسلم ويشاركه في حكمه كل من بلغه، وعلى الثاني لكل من يقرأ الآية ويسمعها. والرواية الثانية عن مجاهد أنها في أهل الكتاب وهو بعيد إذ لا وجه لتخصيصهم لا من السياق- والسورة مكية- ولا من الأخبار المرفوعة في معناها، ولكن الخائضين منهم يدخلون في عمومها.
وأصل الخوض وحقيقته الدخول في الماء والمرور فيه مشيا أو سباحة وجدح السويق أي لتَّ الدقيق باللبن، ويستعار لمرور الإبل في السراب، ووميض البرق في السحاب، وللاندفاع في الحديث والاسترسال فيه، وللدخول في الباطل مع أهله، وبهذين المعنيين استعمل في القرآن، وفسر الخوض هنا على القول الأول بالكفر بالآيات والاستهزاء بها. قال ابن جريج : كان المشركون يجلسون إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحبون أن يسمعوا منه فإذا سمعوا استهزؤوا فنزلت ﴿ وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم ﴾ قال فجعل إذا استهزأوا قام فحذروا وقالوا لا تستهزئوا فيقوم الخ. وقال السدي : كان المشركون إذا جالسوا المؤمنين وقعوا في النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن فسبوه واستهزأوا به فأمرهم الله بأن لا يقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره. وقال مقاتل كان المشركون بمكة إذا سمعوا القرآن من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خاضوا واستهزأوا فقال المسلمون لا يصلح لنا مجالستهم نخاف أن نخرج حين نسمع قولهم ونجالسهم فلا نعيب عليهم، فأنزل الله في ذلك ( وإذا رأيت ) أي أنزل في أثناء هذه السورة، وهذا مراد ابن جريج أيضا. وقولهم « نخرج » معناه نقع في الحرج والإثم.
وفسر الخوض في الآيات على القول الآخر لمفسري السلف بالمراء والجدل والخصومة فيها اتباعا للأهواء، وانتصارا للمذاهب والأحزاب، أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله ﴿ وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا ﴾ ونحو هذا في القرآن قال : أمر الله المؤمنين بالجماعة، ونهاهم عن الاختلاف والفرقة. وأخبرهم إنما هلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله. وروى عبد بن حميد وابن جرير وأبو نعيم في الحلية عن أبي جعفر قال : لا تجالسوا أهل الأهواء فإنهم الذين يخوضون في آيات الله.
والصواب من القول في الآية أنها عامة وأن المخاطب بها أولا بالذات سيدنا الرسول صلى الله عليه وسلم وكل من كان معه من المؤمنين، فكل ما ورد عن السلف في تفسيرها صحيح. والمعنى العام الجامع المخاطب به كل مؤمن في كل زمن :﴿ وإذا رأيت ﴾ أيها المؤمن ﴿ الذين يخوضون في آياتنا ﴾ المنزلة، من الكفار المكذبين، أو من أهل الأهواء المفرقين، فأعرض عنهم أي انصرف عنهم وأرهم عرض ظهرك، بدلا من القعود معهم أو الإقبال عليهم بوجهك، « حتى يخوضوا في حديث غيره » أي غير ذلك الحديث الذي موضوعه الكفر بآيات الله والاستهزاء بها من قبل الكفار، أو تأويلها بالباطل من قبل أهل الأهواء، لتأييد ما استحدثوا من المذاهب والآراء، وتفنيد أقوال خصوصهم بالجدل والمراء، فإذا خاضوا في غيره فلا بأس بالقعود معهم. وقيل إن الضمير في «غيره » للقرآن لأنه هو المراد بالآيات فأعيد الضمير عليها بحسب المعنى.
وسبب هذا النهي أن الإقبال على الخائضين والعقود معهم أقل ما فيه أنه إقرار لهم على خوضهم وإغراء بالتمادي فيه، وأكبره أنه رضاء به ومشاركة فيه، والمشاركة في الكفر والاستهزاء كفر ظاهر، لا يقترفه باختياره إلا منافق مراء أو كافر مجاهر، وفي التأويل لنصر المذاهب أو الآراء، مزلقة في البدع واتباع الأهواء، وفتنته أشد من فتنة الأول، فإن أكثر الذين يخوضون في الجدل والمراء من أهل البدع وغيرهم تغشهم أنفسهم بأنهم ينصرون الحق ويخدمون الشرع، ويؤيدون الأئمة المهتدين، ويخذلون المبتدعين المضلين، ولذلك حذر السلف الصالحون من مجالسة أهل الأهواء، أشد مما حذروا من مجالسة الكفار، إذ لا يخشى على المؤمن من فتنة الكافر ما يخشى عليه من فتنة المبتدع، لأنه يحذر من الأول على ضعف شبهته، ما لا يحذر من الثاني وهو يجيئه من مأمنه، ولا يعقل أن يقعد المؤمن باختياره مع الكفار في حال استهزائهم بآيات الله وتكذيبهم بها وطعنهم فيها، كما يقعد مختارا مع المجادلين فيها المتأولين لها، وإنما يتصور قعود المؤمن مع الكافر المستهزئ في حال الإكراه وما يقرب منها، كشدة الضعف، ولا سيما إذا كان في دار الحرب، ولم تكن مكة دار إسلام عند نزول هذه الآيات.
ويدخل في أهل الأهواء المقلدون والجامدون الذين يحاولون تطبيق آيات الله وسنن رسوله على آراء مقلديهم بالتكلف، أو يردونها ويحرمون العمل بها بدعوى احتمال النسخ أو وجود معارض أخر، وقد نقلنا كلاما في هذا المعنى عن فتح البيان في تفسير آية سورة النساء التي بمعنى هذه الآية وهي قوله تعالى :﴿ وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم، إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا ﴾ [ النساء : ٣٩ ].
ومن الناس من يحرف آيات الله عن مواضعها بهواه لأجل أن يكفر بها مسلما، أو يضلل بها مهتديا، بغيا عليه وحسدا له، كما فعل بعض أدعياء العلم بمصر في هاتين الآيتين وفيما ورد في النهي عن تولي أعداء الله وأعداء المؤمنين من الكفار بنحو إعانتهم على المسلمين في الحرب كقوله تعالى في أول سورة الممتحنة – ﴿ لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء ﴾ [ الممتحنة : ١ ] – زعم المحرف أن هذه الآيات تنطق على من حضر من المسلمين ناديا للنصارى أبنوا طبيبا منهم لم يكفروا فيه بآيات الله ولم يستهزئوا بها ولم تكن من موضوع حديثهم، وليسوا محاربين للمسلمين. ومثل هذا التحريف أولى بالدخول في عموم آيتي الأنعام والنساء من تأويل أصحاب المذاهب والشيع الذي نقلنا عن بعض المفسرين إدخاله فيه أو تفسيره به، وأما تحريف آية الممتحنة وما في معناها من سورة المائدة فيرده تقييد النهي – وهو في ولاية المحاربين – بإخراج الرسول والمؤمنين من وطنهم لأجل إيمانهم ثم تأييد هذا التقييد بما ينفي عموم النهي وذلك صريح قوله تعالى في سورة الممتحنة بعده ﴿ لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم ﴾ – إلى قوله – ﴿ الظالمون ﴾ [ الممتحنة : ٨، ٩ ].
وقد بينا في تفسير آية النساء من الجزء الخامس أن المنافقين كانوا يقعدون في المدينة مع الكفار الذين يخوضون في آيات الله بما ذكر كما فعل بعض ضعفاء المؤمنين في مكة، فأنزل الله فيهم هذه الآية، كما أنزل آية الأنعام في أولئك الضعفاء، على ما ورد في بعض الروايات، ولذلك كان التشديد في آية النساء أعظم منه في آية الأنعام، إذ كان لضعفاء المؤمنين في أول الإسلام بعض العذر، وليس لمنافقي المدينة عذر إلا إخفاء الكفر، على أن آية الأنعام أول ما نزل في هذا النهي فعمل بها المؤمنون وانتهوا عما قيل إنه كان قد وقع منهم، فما عذر المنافقين في القعود مع المستهزئين بعد النهي وهم يتلونه أو يتلى عليهم ؟ لهذا شدد الله في آية النساء وقال في الذين يقعدون معهم « إنكم إذا مثلهم » وأما أولئك فعذرهم بنسيان النهي في قوله :﴿ وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين ( ٦٨ ) ﴾ أي وإن فرض أن أنساك الشيطان النهي مرة ما وقعدت معهم في تلك الحال ثم ذكرته فلا تقعد بعد التذكر مع القوم الظالمين لأنفسهم بتكذيب آيات ربهم والاستهزاء بها، بدلا من الإحسان إليها بالإيمان والاهتداء بها، وقرأ ابن عامر ( ينسينك ) بتشديد السين وهو يفيد أن النسيان عذر وإن تكرر لأن في التنسية معنى التكرار.
وهل الخطاب في هذه الآية للرسول والمراد غيره كما قيل في آيات كثيرة غيرها على حد المثل : إياك أعني واسمعي يا جارة، وهو كثير في كلام العرب ؟ أم للرسول بالذات ولغيره بالتبع كما هو الشأن في غير الأحكام الخاصة به صلى الله عليه وسلم أم لكل من بلغه كما قيل في آيات أخرى ؟ أقول ظاهر ما نقلناه عن السدي ومقاتل اختيار الأول منها.
وقد استشكل إنساء الشيطان له صلى الله عليه وسلم على القول بأن الخطاب في الآية له. وقد ثبت في نص القرآن أن الشيطان ليس له سلطان على عباد الله المخلصين، وخاتم النبيين والمرسلين صلى الله عليه وسلم أخلصهم وأفضلهم وأكملهم، بل ورد في سورة النحل :﴿ إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون* إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون ﴾ [ النحل : ٩٩، ١٠٠ ] ولكن إنساء الشيطان بعض الأمور للإنسان، ليس من قبيل التصرف والسلطان، وإلا لم يقع إلا لأوليائه المشركين.
وقد قال تعالى حكاية عن فتى موسى حين نسي الحوت ﴿ وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره ﴾ [ الكهف : ٢٣ ] وإنما كان فتاه- أي خادمه لا عبده- يوشع بن نون كما في البخاري والمشهور أنه نبي. وروي عن مجاهد في تفسير ﴿ فأنساه الشيطان ذكر ربه ﴾ [ يوسف : ٤٢ ] الآية- أن يوسف ( عليه السلام ) أنساه الشيطان ذكر ربه وأمره بذكر الملك وابتغاء الفرج من عنده ﴿ فلبث في السجن بضع سنين ﴾ [ يوسف : ٤٢ ] عقوبة له. بل ذكر أهل التفسير المأثور حديثا مرفوعا في ذلك رووه مرسلا وموصولا وهو « لو لم يقل يوسف عليه السلام الكلمة التي قال ما لبت في السجن طول ما لبت حيت يبتغي الفرج من عند غير الله تعالى » هذه رواية ابن عباس رفعها أخرجها عنه ابن أبي الدنيا في كتاب العقوبات وابن جرير والطبراني وابن مردويه.
فثبت بهذا أن نسيان الشيء الحسن الذي يسند إلى الشيطان لكونه ضارا أو مفوتا لبعض المنافع أو لكونه حصل بوسوسته لو بإشغالها القلب ببعض المباحات لا يصح أن يعد من سلطان الشيطان على الناسي واستحواذه عليه بالإغواء والإضلال الذي نفاه الله عن عباده المخلصين، ولهذا قال بعض كبار مفسري السلف بأن الخطاب في الآية للنبي صلى الله عليه وسلم مع العلم بأن الله تعالى فضله على سائر عباده المخلصين المعصومين بإعانته على شيطانه حتى أسلم فلا يأمر إلا بخير كما ورد في الحديث الصحيح. وقد ينسى الإنسان خيرا باشتغال فكره بخير آخر. قال مجاهد : نهى محمد صلى الله عليه وسلم أن يقعد معهم إلا أن ينسى فإذا ذكر فليفهم الخ رواه عنه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
وأما وقوع النسيان من الأنبياء بغير وسوسة من الشيطان فلا خلاف في جوازه، قال ت
﴿ وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين ٦٨ وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء ولكن ذكرى لعلهم يتقون ٦٩ وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون ٧٠ ﴾
أنذر الله تعالى في الآيات السابقة هذه الأمة- أمة الدعوة- مثل العذاب الذي بعثه على مكذبي الرسل من الأولين وعلى المتفرقين المختلفين في دينهم من أهل الكتاب، وجعل ذلك مع ما قبله من حجج القرآن وآياته المثبتة لكونه من عند الله، لا من عند رسوله الأمي الذي لم يكن يعلم شيئا من أخبار الأمم ولا من سنن الله في مكذبي الرسل ومتبعيهم، تلك الآيات التي يرجى لمن تدبرها فقه الأمور وإدراك حقائق العلم. وذكر بعد هذا الإنذار والبيان تكذيب قريش بالقرآن، وكون الرسول مبلغا لا خالقا للإيمان، وإحالتهم في ظهور صدق أنبائه على الزمان. ثم بين في هذه الآيات كيف يعامل الذين يخوضون في آيات الله بالباطل من هذه الأمة – أعني أمة الدعوة والذين اتخذوا دينهم هزؤا ولعبا من كفارها الذين لم يجيبوا دعوتها، بما يعلم منه حكم من يدخل في عموم ذلك ممن أجابوهما، على نحو ما تقدم في الآيات التي قبلها.
﴿ وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء ﴾ أي وما على الذين يتقون الله من حساب الخائضين في آياته شيء ما فلا يحاسبون على شيء من خوضهم ولا على غيره من أعمالهم التي يحاسبهم الله تعالى عليها إذا هم تجنبوهم وأعرضوا عنهم كما أمروا، وقد روي هذا المعنى عن سعيد بن جبير قال : ما عليك أن يخوضوا في آيات الله إذا تجنبتهم وأعرضت عنهم، وقيل هو رخصة ومعناه ما عليهم من حسابهم من شيء أن قعدوا معهم، وأنه منسوخ بآية سورة النساء إذ قال فيها ﴿ إنكم إذا مثلهم ﴾ [ النساء : ١٤٠ ] وروي عن مجاهد والسدي وابن جريج، وهو بعيد جدا لأنه لا يصح أن يتصل بالنهي ما يبطله وهو قد نزل معه كما هنا. قال الآلوسي : وفي الطود الراسخ في المنسوخ والناسخ : إنه لا نسخ عند أهل التحقيق في ذلك لأن قوله سبحانه :« وما على الذين » الخ خبر ولا نسخ في الأخبار فافهم اه. وقد يقال إن الجملة إنشائية المعنى فهي حكم شرعي معناه عدم مؤاخذة أحد بذنب غيره، لا خبر من الأخبار التي قالوا إنها لا تنسخ، والعمدة في رد القول بنسخها ما ذكر آنفا فتعين تقدير الشرط الذي ذكره سعيد بن جبير، أو أن يقال في التقدير : وما على الذين يتقون الله من حساب الخائضين من شيء إذ كانوا يقعدون معهم قبل النهي كارهين لخوضهم وباطلهم، وكان يشق عليهم تجنبهم والإعراض عنهم فليس سبب النهي أنهم كانوا يحملون من أوزارهم شيئا لو لم ينهوا عنه فإنه تعالى ما أخر النهي إلا إلى وقته المناسب له، ولا يؤاخذهم بما كان منهم قبله، فهو كقوله تعالى بعد تحريم محرمات النكاح ﴿ إلا ما قد سلف ﴾ [ النساء : ٢٢ ].
﴿ ولكن ذكرى لعلهم يتقون ( ٦٩ ) ﴾ أي ولكن جعل النهي موعظة وذكرى لعل هؤلاء المؤمنين بالله تعالى يتقون أيضا كل ما لا ينبغي لهم من سماع الخوض في آيات الله بالباطل، فهذه التقوى المرجوة بالنهي هي تقوى خاصة، وتلك التقوى هي الكلية العامة. هذا هو الوجه عندنا. والذكرى هنا بمعنى التذكير وفي الآية السابقة بمعنى التذكر كما تقدم. وقيل إن المعنى ما عليهم من حسابهم من شيء إن أعرضوا أو قعدوا معهم ولكن عليهم أن يذكروهم أي يعظوهم وينكروا عليهم في تلك الحال لعلم يتقون الخوض ولو في حضرتهم.
ذكروا هذا المعنى للذكرى على كل من التقديرين المتضادين. قال ابن جبير : ذكروهم ذلك وأخبروهم أنه يشق عليكم فيتقون مساءتكم. وكأنه نسي أن السورة نزلت في الوقت الذي كان المشركون يضطهدون فيه المؤمنين أشد الاضطهاد ويتحرون مساءتهم ويكرهون مسرتهم. وقد يتجه جعل التذكير لهم على تقدير القعود معهم إذا صح ما ذكره الرازي وغيره عن ابن عباس قال : قال المسلمون لئن كنا كلما استهزأ المشركون بالقرآن وخاضوا فيه قمنا عنهم لما قدرنا أن نجلس في المسجد الحرام وأن نطوف بالبيت، فنزلت هذه الآية وحصلت الرخصة فيها للمؤمنين بأن يقعدوا معهم ويذكروهم ويفهموهم اه وهو معارض بنزول السورة دفعة واحدة إلا ما استثني وليس هذا منه، ومن البديهي أن الطواف بالبيت لا يستلزم القعود مع المستهزئين ولا الإقبال عليهم، وأما القعود بالبيت فلا ضرر في تركه إذا استلزم أن يكون مع المستهزئين. ومن الغريب أن الرازي اكتفى بهذا الوجه الضعيف في تفسير الآية ولم يذكر غيره لا نقلا ولا من عند نفسه.
﴿ وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين ٦٨ وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء ولكن ذكرى لعلهم يتقون ٦٩ وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون ٧٠ ﴾
أنذر الله تعالى في الآيات السابقة هذه الأمة- أمة الدعوة- مثل العذاب الذي بعثه على مكذبي الرسل من الأولين وعلى المتفرقين المختلفين في دينهم من أهل الكتاب، وجعل ذلك مع ما قبله من حجج القرآن وآياته المثبتة لكونه من عند الله، لا من عند رسوله الأمي الذي لم يكن يعلم شيئا من أخبار الأمم ولا من سنن الله في مكذبي الرسل ومتبعيهم، تلك الآيات التي يرجى لمن تدبرها فقه الأمور وإدراك حقائق العلم. وذكر بعد هذا الإنذار والبيان تكذيب قريش بالقرآن، وكون الرسول مبلغا لا خالقا للإيمان، وإحالتهم في ظهور صدق أنبائه على الزمان. ثم بين في هذه الآيات كيف يعامل الذين يخوضون في آيات الله بالباطل من هذه الأمة – أعني أمة الدعوة والذين اتخذوا دينهم هزؤا ولعبا من كفارها الذين لم يجيبوا دعوتها، بما يعلم منه حكم من يدخل في عموم ذلك ممن أجابوهما، على نحو ما تقدم في الآيات التي قبلها.
أشرنا في تفسير الآية السابقة إلى أن جعل هذه الآية في جماعة المتقين تدل على أنهم هم المرادون فيما قبلها بخطاب الرسول صلى الله عليه وسلم من دونه ويؤكده الرجوع إلى الخطاب في قوله :﴿ وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا ﴾ [ الأنعام : ٧٠ ] تقدم تفسير اللعب واللهو ونكتة تقديم أحدهما على الآخر في تفسير الآية ٣٢ ( ج ٧ ) والمعنى هنا : ودع أيها الرسول- ومثله فيه من تبعه من المؤمنين- الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا من هؤلاء المشركين وهم المقصودون أولا وبالذات، ومثلهم كل من يعمل على شاكلتهم من المؤمنين وأهل الكتاب، وغرتهم الحياة الدنيا الفانية فآثروها على الحياة الآخرة الباقية، بل أنكرها المشركون، ولم يستعد لها الفاسقون. أما اتخاذهم دينهم لعبا ولهوا ففيه وجوه : المتبادر منها أن أعمال دينهم التي يعملونها لما لم تكن مزكية للأنفس ولا مهذبة للأخلاق، ولا واقعة على الوجه الذي يرضي الرحمن، ويعد المرء للقائه في دار الكرامة والرضوان، ولا مصلحة لشؤون الاجتماع والعمران، كانت إما صرفا للوقت فيما لا فائدة فيه وهو معنى اللعب، وإما شاغلة عن بعض الهموم والشؤون وهو اللهو. ويظهر في أعمال الدين الاجتماعية كالمواسم والأعياد، وقد روي القول به عن ابن عباس، قال : جعل الله لكل قوم عيدا يعظمونه ويصلون فيه ويعمرونه بذكر الله تعالى، ثم إن الناس أكثرهم من المشركين وأهل الكتاب اتخذوا عيدهم لهوا ولعبا غير المسلمين فإنهم اتخذوا عيدهم كما شرعه الله تعالى اه وهو يريد أن هذا مما تدل عليه الآية لا أنه كل المراد منها، وهذا أحد وجوه خمسة ذكرها الراوي في الآية وجعله الرابع.
وأما الوجوه الأخرى : فأولها : أنهم اتخذوا دينهم الذي كلفوا ودعوا إليه- وهو دين الإسلام- لعبا ولهوا حيث سخروا واستهزأوا به. الثاني : اتخذوا ما هو لعب ولهو ومن عبادة الأصنام دينا لهم. الثالث : أن الكفار كانوا يحكمون في دين الله بمجرد التشهي والتمني مثل تحريم السوائب والبحائر، وما كانوا يحتاطون في أمر الدين البتة ويكتفون فيه بمجرد التقليد فعبر الله عن ذلك بأنهم اتخذوا دينهم لعبا ولهوا. الخامس : قال- وهو الأقرب- إن المحقق في الدين هو الذي ينصر الدين لأجل أنه أقام الدليل على أنه حق وصدق وصواب، فأما الذين ينصرونه ليتوسلوا به إلى أخذ المناصب والرياسة وغلبة الخصم وجمع الأموال فهم الذين نصروا الدين للدنيا، وقد حكم الله على الدنيا في سائر الآيات بأنها لعب ولهو، فالمراد من قوله :﴿ وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا ﴾ هو الإشارة إلى من يتوسل بدينه إلى دنياه، وإذا تأملت في حال أكثر الخلق وجدتهم موصوفين بهذه الصفة، وداخلين تحت هذه الحالة، والله أعلم اه.
أقول كان ينبغي أن يذكر نحوا من هذا في تفسير ﴿ وغرتهم الحياة الدنيا ﴾ [ الأنعام : ٧٠ ] وقد جعل هو هذه الجملة مؤيدة له وجعله هو المراد من اللعب واللهو، ذاهلا عن كونه لا يظهر في كفار قريش الذين قصدوا به أولا وبالذات. والوجه الأول اعتمده المتأخرون وفيه أنه مخالف لقوله تعالى :﴿ لكم دينكم ولي دين ﴾ [ الكافرون : ٦ ] وقوله :﴿ الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا ﴾ فالله تعالى لا يضيف دين الإسلام إلى الكفار. ومعنى غرتهم الحياة الدنيا أنها خدعتهم وأغفلتهم عن أنفسهم وما هي مستعدة له من الكمال، وعن كون البعث حقا والعدم المحض من المحال، فاشتغلوا بلذاتها الحقيرة الفانية المشوبة بالمنغصات، عما جاءهم من الحق مؤيدا بالحجج القيمة والآيات البينات، فاستبدلوا الخوض فيها، بما كان يجب من فقهها وتدبرها.
وهذا الأمر بترك هؤلاء المغرورين قد جاء على سبيل التهديد كقوله :﴿ ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون ﴾ [ الحجر : ٣ ] وهو تهديد بعذاب الدنيا بدليل قوله بعده :﴿ وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم* ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون ﴾ [ الحجر : ٤، ٥ ] وورد مثله بعذاب الآخرة ( ٤٣ : ٨٣ و ٧٠ : ٤٢ ) وقيل المراد به الأمر بالكف عنهم وترك التعرض لهم وأنه نسخ بآية القتال، روي عن قتادة وضعفه المحققون. وإذا لم يتضمن معنى التهديد كان معناه ذرهم ولا تهتم بخوضهم ولا تكذيبهم وعليك ما كلفته وحملته من تبليغ دعوة ربك، وذلك قوله عز وجل :
﴿ وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ﴾ البسل مصدر بسله يطلق بمعنى حبس الشيء ومنعه بالقهر وبمعنى الرهن والإباحة، وأبسل الشيء كبسله أسلمه للهلاك ومنه أسد باسل ورجل باسل أي شجاع ممتنع على أقرانه أو مانع لما يريد حفظه أن ينال. والضمير في قوله :« به » للقرآن المعلوم بقرينة الحال لأنه هو الذكر الذي بعث به الرسول المذكر، وبقرينة النقال كقوله تعالى :﴿ فذكر بالقرآن من يخاف وعيد ﴾ [ ق : ٤٥ ] والقرآن يفسر بعضه بعضا كما قالوا. وروي عن ابن عباس ثلاثة أقوال في معنى الإبسال- الفضيحة والإسلام للهلاك والحبس في النار، وكان الأخير جوابه لنافع بن الأزرق، قال نافع أو تعرف العرب ذلك في كلامها ؟ قال نعم أما سمعت زهيرا وهو يقول :
وفارقَتْكَ برهنٍ لا فكاك له يوم الوداع وقلبٍ مبسل غلقا١
والمعنى وذكر الناس وعظهم بالقرآن اتقاء أن تبسل كل نفس في الآخرة بما كسبت أي اتقاء حبسها أو رهنها في العذاب أو إسلامها إليه أو منعها من نعيم الجنة وتفاديا من ذلك بما بينه الذكر الحكيم من أسباب النجاة والسعادة، ويؤيد التقدير الأول قوله تعالى :﴿ كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين ﴾ [ المدثر : ٣٨، ٣٩ ] الآية- وقدر بعض المفسرين : مخافة أو كراهة أن تبسل، وبعضهم : لئلا تبسل.
ثم وصف تعالى النفس المبسلة أو علل إبسالها بقوله :﴿ ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع ﴾ أي ليس لها من غير الله ولي أي ناصر ينصرها، أو قريب يتولى أمرها، ولا شفيع يشفع لها عند الله تعالى :﴿ ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع ﴾ [ غافر : ١٨ ] في يوم وصفه تعالى بقوله :﴿ لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة ﴾ [ البقرة : ٢٥٣ ] والأمر فيه لله وحده ﴿ قل لله الشفاعة جميعا ﴾ [ الزمر : ٤٥ ] –﴿ من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ﴾ [ البقرة : ٢٥٤ ] - ﴿ ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له ﴾ [ سبأ : ٢٤ ] – ﴿ ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون ﴾ [ الأنبياء : ٢٨ ] فكل نفس تأتيه في ذلك اليوم وهو تعالى غير راض عنها فهي مبسلة بما كسبت من سيء عملها.
﴿ وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها ﴾ العدل بالفتح ما عادل الشيء وساواه من غير جنسه كما تقدم في تفسير ﴿ أو عدل ذلك صياما ﴾ [ المائدة : ٩٨ ]، وهو هنا بمعنى الفداء لأن الفادي يعدل المفدى بمثله كما قال الزمخشري، وعدل هذا يتعدى إلى المفعول به بالباء كما قال في أول هذه السورة ﴿ بربهم يعدلون ﴾ [ الأنعام : ١ ] فكل عدل منصوب هنا على المصدرية لا المفعولية والمعنى : وإن تفد النفس المبسلة كل نوع من أنواع الفداء لا يؤخذ منها- أي لا يقع الأخذ منها ولا يحصل – فهو على حد أكل من القصعة، وسير من البلد لأن العدل وهو مصدر لا يؤخذ أخذا، ويجوز أن يتضمن الأخذ معنى القبول وأن يعاد الضمير على العدل وهو الفداء بمعنى المفدى به وإن عد هنا من قبيل الاستخدام. وقد استعمل العدل في سورة البقرة بمعنى المعدول به أي الفدية وأسند إلى الأخذ وإلى القبول، قال ﴿ واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون ﴾ [ البقرة : ٤٧ ] وقال :﴿ واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون ﴾ [ البقرة : ١٢٢ ] والمراد من هذه الآيات وما في معناها إبطال أصل من أصول الوثنية وهو تعليق النجاة في الآخرة ( كنيل كثير من المقاصد في الدنيا ) بتقديم الفدية أو بشفاعة الشافعين، وتقرير أصل الدين الإلهي وهو أن النجاة في الآخرة ورضوان الله والقرب منه لا تنال إلا بما شرعه الله على ألسنة رسله من الإيمان والإسلام- وبعبارة أخرى بالعمل الصالح الذي تتزكى به الأنفس مع الإيمان الإذعاني بالله وبرسله وما جاؤوا به، ومن أبسلهم كسبهم للسيئات والخطايا واتخاذهم الدين لعبا ولهوا وغرورهم بالحياة الدنيا فلا تنفعهم شفاعة ولا تقبل منهم فدية.
﴿ أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا ﴾ أي أولئك الموصوفون بما ذكرهم الذين أسلموا للهلكة وارتهنوا وحبسوا عن دار السعادة بسبب ما كسبوا من الأوزار والآثام حتى أحاطت بهم خطاياهم ولم يكن لهم من دينهم الذي اتخذوه لعبا ولهوا ما يزجرهم عنها. وماذا يكون جزاؤهم بعد الإبسال ؟ ﴿ لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون ( ٧٠ ) ﴾ أي لهم شراب من ماء حميم وهو الشديد الحرارة- ويطلق على الشديد البرودة أيضا- وعذاب شديد الألم بسبب كفرهم، الذي ظلوا مستمرين عليه طول حياتهم، حتى صرفهم عما جعله الله تعالى- لو اتبعوه- سبب نجاتهم. أو التقدير : أولئك المبسلون بكسبهم لهم شراب من حميم وعذاب أليم باستمرارهم على كفرهم. وبهذا ظهر الفرق بين التعليل الأول بالكسب والتعليل الثاني بالكفر فالأول ذكر بصيغة الماضي والثاني بصيغة المستقبل الدال على الاستمرار. فلولا رسوخهم في الكفر الذي أفسد فطرتهم حتى أصروا عليه إصرارا دائما دل على أنه لم يبق فيهم استعداد للحق والخير لما كان مجرد كسب بعض السيئات المنقطعة ينهض سببا لهلاكهم ووقوعهم في هذا العذاب كله. وفي الآية أكبر العبر لمن يفقه الكلام، ولا يغتر بلقب الإسلام، فإنما المسلم من اتخذ إمامه القرآن وسنة الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام، لا من اغتر بالأماني والأوهام، وانخدع بالرؤى والأحلام.
١ يروى عجز البيت: يوم الوداع فأمسى الرهن قد غلقا
والبيت من البسيط، وهو لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ص ٣٣، ولسان العرب (غلق)، وكتاب العين ٥/٢٨٤، ومجمل اللغة ٤/١٦، وديوان الأدب ٢/٢٤٦، وأساس البلاغة (فكك) وتاج العروس (فكك)، (غلق)..

﴿ قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا قل إن هدى الله هو الهدى وأمرنا لنسلم لرب العالمين ٧١ وأن أقيموا الصلاة واتقوه وهو الذي إليه تحشرون ٧٢ وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق ويوم يقول كن فيكون قوله الحق وله الملك يوم ينفخ في الصور عالم الغيب والشهادة وهو الحكيم الخبير ٧٣ ﴾
ضرب الله تعالى في الآية الأولى من هذه الآيات مثلا يتضح لمن عقله من المشركين ما تقرر فيها وفي الآيات قبلها من بينات التوحيد ودلائله، ويظهر لهم سوء حالهم وقبح مآلهم في شركهم، ويعلل لهم ما بدئ به سياق الآيات الأخيرة فيه ( أي التوحيد ) من النهي عن دعاء غير الله وعن اتباع أهوائهم، ويشرح لهم مفهومه، ويفصل لهم مضمونه، ويبين لهم مقابله ( وأعني بهذا السياق ما في حيز قوله تعالى :﴿ قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دين الله ﴾ [ الأنفال : ٦٦ ] الخ، وحيز قوله :﴿ قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر ﴾ [ الأنعام : ٦٣ ] وما يليه من الوعيد بعذاب الدنيا والآخرة ) وختم الآية بالأمر بالإسلام المقابل لطريق الضلال والهوى. وبدأ الآية الثانية ببيان أعظم أعمال طريق الهدى، والآيتان بعدها في التذكير بدلائل ذلك وعاقبته، وصدق وعيده تعالى وكمال علمه وحكمته فيه.
قال :﴿ قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله ﴾ روي عن السدي أن المشركين قالوا للمؤمنين اتبعوا سبيلنا واتركوا دين محمد، فقال الله :﴿ قل أندعوا ﴾ الآية. وعن قتادة أنه قال في الآية : خصومة علمها الله محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه يخاصمون بها أهل الضلالة. ولعل هذا مراد السدي إذ لا يظهر أن مراده أن المشركين قالوا ذلك مرة واحدة لبعض المؤمنين أو لجميعهم. بل كانوا يفتنون المسلمين دائما ويدعونهم إلى العود إلى الكفر ومنه ما روي من دعوة عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما لأبيه إلى الشرك- فنزلت الآية ردا عليهم، فلقنهم الله تعالى هذه الحجة المؤثرة بما فيها من المثل الجلي الواضح لحالي الشرك وضلاله والتوحيد وهدايته، في سياق حجج الحق الكثيرة في هذه السورة التي نزلت دفعة واحدة كما تقدم. والاستفهام للإنكار والتعجب والمعنى قل أندعو- متجاوزين دعاء الله القادر على استجابة دعائنا- ما لا يضرنا ولا ينفعنا كالأصنام وسائر ما عبد من دون الله، ونرد على أعقابنا بالعود إلى ضلالة الشرك الفاضحة بعد إذ هدانا الله إلى الإسلام ؟
ومن بلاغة هذه العبارة أنها بينت علة الإنكار والتعجب في الاستفهام من خمسة أوجه : أحدها : إن دعاء غير الله تعالى تحول وارتداد عن دعاء القادر على كل شيء الذي يكشف ما يدعى إليه إن شاء، إلى دعاء العاجز الذي لا يقدر على نفع ولا ضر.
ثانيهما : أنه نكوص على الأعقاب وتقهقر إلى الوراء، والعرب تقول فيمن عجز بعد قدرة، أو سفل بعد رفعة، أو أحجم بعد إقدام على محمدة : نكص على عقبيه، وارتد على عقبيه، ورجع القهقرى. والأصل فيه رجوع الهزيمة أو الخيبة والعجز عن السير المحمود، ثم صار يطلق على كل تحول مذموم.
ثالثها : التعبير ب " نردّ " المبني للمجهول بدل التعبير ب " نرتد " أو نرجع، والنكتة فيه أن هذا التحول المذموم ليس من شأنه أن يقع من عاقل، لأن العاقل إذا وصل إلى مرتبة عالية من العلم والكمال فإنه لا يختار الرجوع عنها، واستبدال الذي هو أدنى، بالذي هو خير وأعلى، فإذا كانت فطرته وعقله يأبيان عليه هذه الردة والنكوص فكيف يرد وهو لا يرتد ؟
رابعها : إن من أنقذه الله القدير العزيز الرحيم من الضلالة، وهداه إلى صراط السعادة، بما أراه من آياته في الأنفس والآفاق، وما شرح به صدره للإسلام، فمن يقدر أن يضله بعد إذ هداه الله ﴿ ومن يهد الله فما له من مضل، أليس الله بعزيز ذي انتقام ﴾ [ الزمر : ٣٧ ].
خامسها : المثل الذي يصور المرتد في أقبح حالة كانت تتصورها العرب، وذلك قوله تعالى :﴿ كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا ﴾ قرأ حمزة استهواه بألف ممالة وكانوا يرسمونها ياء كأصلها وإن لم تكن طرفا ورسمها في المصحف الإمام هكذا ( استهوته ) وهو يحتمل القراءتين.
وتقدير التشبيه في الكلام : أنرد على أعقابنا بعد تلك الهداية مثل رد الذي استهوته الشياطين في الأرض، أو مشبهين بالذي استهوته الشياطين – الخ. قال أهل اللغة : استهوته الشياطين ذهبت بهواه وعقله، وقيل استهامته وحيرته، وقيل زينت له هواه، ويقال للمستهام الذي استهامته الجن : استهوته الشياطين. القتيبي : استهوته الشياطين – هوت به وأذهبته. جعله من هوى يهوي. وجعله الزجاج من هوى يهوى، أي زينت له هواه. كذا في لسان العرب وغيره. والمستهام هو الذي جعله العشق أو الجنون هائما أي يسير على وجهه لا يقصد غاية معينة، وكانت العرب في الجاهلية تزعم أن الجنون كله من تأثير الجن، والأصل في قولهم : جن فلان – مسته الجن فذهبت بعقله. وكانوا يقولون إن الجن تظهر لهم في البراري والمهامه وتتلون لهم بألوان مختلفة فتذهب بلب من يراها فيهيم على وجهه لا يدري أين يذهب حتى يهلك. والشياطين التي تتلون هي التي يسمونها الغيلان والأغوال والسعالى ( بوزن الصحارى ).
وروى مسلم في صحيحه من حديث جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :« لا عدوى ولا طيرة ولا غول »١ قال النووي في شرحه : قال جمهور العلماء كانت العرب تزعم أن الغيلان في الفلوات وهي من جنس الشياطين تتراءى للناس وتتغول تغولا أي تتلون تلونا فتضلهم عن الطريق فتهلكهم فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم ذاك. وقال آخرون ليس المراد نفي وجود الغول وإنما معناه إبطال ما تزعمه العرب من تلون الغول بالصور المختلفة واغتيالها. قالوا ومعنى « لا غول » لا تستطيع أن تضل أحدا. ويشهد له حديث آخر « لا غول ولكن السعالى »٢ قال العلماء : السعالى بالسين المفتوحة والعين المهملتين هم سحرة الجن. أي ولكن في الجن سحرة لهم تلبيس وتخييل، وفي الحديث الآخر « إذا تغولت الغيلان فنادوا بالأذان »٣ أي ادفعوا شرها بذكر الله تعالى. وهذا دليل على أنه ليس المراد نفي أصل وجودها. وفي حديث أبي أيوب : كان لي تمر في سهوة وكانت الغول تجيء فتأكل منه٤. اه.
أقول إن هذا الشرح مأخوذ من النهاية لابن الأثير ليس للنووي من التصرف فيه إلا عزو نفي وجود الغول إلى جمهور العلماء وهو القول الذي قدمه ابن الأثير وقد نقل عبارته ابن منظور في لسان العرب وغيره من العلماء. وما عزاه النووي إلى الجمهور هو المتبادر في لفظ الحديث فإن كلمة « لا غول » نافية لجنس الغول كما هو المتبادر، وقد ورد هذا اللفظ وحده في حديث لأبي هريرة عند أبي داود. وما أيد به قول غير الجمهور لا يحتج بشيء منه، ولذلك لم يعرج الجمهور عليه، ولكن روى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح أن الغيلان ذكروا عند عمر فقال :« إن أحدا لا يستطيع أن يتحول عن صورته التي خلقه الله عليها ولكن لهم سحرة كسحرتكم فإذا رأيتم ذلك فأذنوا. وهذا رأي لعمر رضي الله عليه فيما كانوا يرونه وهو أنه تخييل باطل من سحر الجن. والجمهور على أن الجن تتشكل وهو لا يقتضي إثبات الغول، وقد اشتهر أن الغول اسم ليس له مسمى في الحقيقة. قال ابن هشام في قول كعب بن زهير :
فما تدوم على حال تكون بها كما تلون في أثوابها الغول٥
من شرحه لقصيدته ( بانت سعاد ) : والغول بالضم كل شيء اغتال الإنسان فأهلكه والمراد هنا الواحدة من السعالى وهي إناث الشياطين سميت بذلك لأنها فيما زعموا تغتالهم أو لأنها تتلون كل وقت، من قولهم : تغولت علي البلاد – إذا اختلفت. وللعرب أمور تزعمها لا حقيقة لها، منها أن الغول تتراءى وتتلون لهم وتضلهم عن الطريق. وذكر أشياء أخرى من خرافاتهم ثم ذكر حديث مسلم في نفي الغول والطيرة وقول بعض الشعراء :
الجود والغول والعنقاء ثالثة أسماء أشياء لم تخلق ولم تكن
وما فسر به ابن هشام الغول هو المعتمد المشهور. قال في اللسان : والسعلاة والسعلاء الغول. وقيل هي ساحرة الجن. فجعل هذا قولا ضعيفا ثم ذكر قولين آخرين مثله أحدهما أنها أخبث الغيلان وثانيها أنها أنثى الغيلان. ويشبهون المرأة القبيحة الوجه السيئة الخلق بالسعلاة. وشبهوا بها الخيل أيضا. والظاهر أن بعضهم كان يخيل إليه الخوف في البراري المنقطعة شيئا يتلون فيهيم على وجهه خوفا منه لاعتقاده أنه من الجن. ويحتمل أن يكون بعضهم رأى بعض القردة الراقية التي تشبه العجوز القبيحة الوجه فسموها السعلاة وأن تكون السعلاة التي أكلت من التمر في حديث أبي أيوب منها إن صح ما روي وكان عن مشاهدة، وإلا كان مبنيا على ما توارثه قبل نفي النبي صلى الله عليه وسلم له أو قبل العلم بهذا النفي. وقد قال الله تعالى في الشيطان :﴿ إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم ﴾ [ الأعراف : ٢٧ ] وقال ابن عباس إن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير الجن حين استمعوا القرآن منه بل علم ذلك بالوحي لقوله تعالى :﴿ قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن ﴾ [ الجن : ١ ] ولكن في حديث ابن مسعود وكان معه أنه رأى أسودة تشبه السحاب وسيأتي تفصيل ذلك في موضعه. وروى البيهقي في مناقب الشافعي بإسناده عن الربيع : سمعت الشافعي يقول : من زعم أنه يرى الجن أبطلنا شهادته إلا أن يكون نبيا. انتهى. وقد حملوه كما حملوا الآية على من يدعي رؤيتهم بصورتهم التي خلقهم الله عليهم دون الصور التي يتمثلون بها.
على أننا نقول : إن ما اشتهر عن العرب في مسألة الأغوال واستهوائها بعض الناس في الفلوات حتى يضلوا الطرق لا بد أن يكون له أصل عندهم، والراجح المعقول فيه ما ذكرناه عن سيدنا عمر وصرح به بعض المتكلمين من أنه تخيل لا حقيقة له في الخارج، وقد يكون منه رؤية حيوان غريب كبعض القردة. والعرب تطلق اسم الشيطان على العتي المتمرد من الإنس والجن وعلى بعض الحيوان والحشرات وعلى كل قبيح الصورة. قال تعالى في شجرة الزقوم :﴿ طلعها كأنه رؤوس الشياطين ﴾ [ الصافات : ٦٥ ] قيل هو نبات قبيح وقيل شبهها بالعارم من الجن. قال في التاج وقال الزجاج في تفسيره : وجهه أن الشيء إذا استقبح شبه بالشياطين فيقال كأنه وجه شيطان وكأنه رأس شيطان، والشيطان لا يرى ولكنه يستشعر أنه أقبح ما يكون من الأشياء ولو رؤي لرؤي في أقبح صورة. وقيل كأنه رؤوس حيات فإن العرب تسمي بعض الحيات شيطانا، وأورد شاهدا من الشعر على ذلك وورد في بعض الأخبار أن حيات البيوت من الجن. وفي حديث أبي ثعلبة الخشني عند ابن حبان والحاكم وغيرهما :« الجن على ثلاثة أصناف صنف لهم أجنحة يطيرون في الهواء وصنف حيات وعقارب وصنف يحلون ويظعنون » قال السهيلي هذا الأخير هم السعالى. وعن وهب بن منبه أنهم أجناس خالصهم ريح ( أي كالريح ) لا يأكلون ولا يشربون ولا يتوالدون ولا يموتون ومنهم من يأكلون الخ.
والحاصل أن اسم الجن والشياطين يطلق عند العرب على بعض الحشرات والحيوانات الضارة أو القبيحة وعلى ما يؤثر عن أهل الكتاب وغيرهم من العالم الروحي الغيبي الذي يوسوس للناس فيزين لهم الشر، ويلابس بعضهم أحيانا فيصابون بالصرع أو الجنون ويتمثل للكهان وغيرهم، ويراه الأنبياء وبعض الصالحين من باب الكرامة الخاصة. والأكاذيب عن جميع الأمم في ذلك كثيرة والشبهات فيها غير قليلة، ولكن قل المصدقون بها في بلاد العلم والمدينة.
بعد هذا الشرح نقول إن للمفسرين قولين في تفسير ﴿ كالذي استهوته الشياطين ﴾ أشرنا إليها في تفسير الاستهواء، الأول : إنه تشبيه لمن يرتد مشركا بعد الإيمان بالمستهام الذي يضل في الفلوات حيران لا يهتدي تاركا رفاقه على الجادة ينادونه : ائتنا عد إلينا، فلا يستجيب لهم لانجذابه وراء ما تراءى له من الغيلان بغير عقل ولا بصيرة. وهذا التفسير مروي عن السدي وهو إحدى روايتين عن ابن عباس قال السدي بعد بيان التشبيه : فذلك مثل من تبعكم بعد المعرفة لمحمد، ومحمد الذي يدعو إلى الطريق والطريق هو الإسلام. ومما جاء عن ابن عباس في هذه الرواية أن القول « تدعوه باسمه واسم أبيه وجده فيتبعها ويرى أنه في شيء فيصبح وقد ألقته في هلكة وربما أكلته، أو تلقيه في مضلة من الأرض يهلك فيها عطشا ».
ومن المفسرين من يرى أن هذا التشبيه مثبت للغول الذي نفاه الحديث الصحيح الذي أخذ به جمهور العلماء كما تقدم، ومنهم من يرى أنه لا يقتضي إثباته لأن التشبيه قد يبنى على المتعارف لأجل التأثير، وقد أشار الزمخشري إلى ذلك بقوله : وهذا مبني على ما كانت تزعمه العرب وتعتقده من أن الجن تستهوي الإنسان والغيلان تستولي عليه كقوله :{ كالذي يتخبطه الشيط
١ أخرجه مسلم في السلام حديث ١٠٧، ١٠٨، ١٠٩، وأحمد في المسند ٣/٣١٢، ٣٨٢، ٣٩٣..
٢ رواه ابن الأثير الجزري في النهاية في غريب الحديث ٣/٣٩٦..
٣ أخرجه أحمد في المسند ٣/٣٠٥، ٣٧٢، ورواه ابن الأثير الجزري في النهاية في غريب الحديث ٣/٣٩٦..
٤ رواه ابن الأثير الجزري في النهاية ٣/٣٩٦، بلفظ: « فكانت الغول تجيء فتأخذ»..
٥ البيت من البسيط، وهو لكعب بن زهير في ديوانه ص ٨، والمخصص ١٧/٥، والمذكر والمؤنث للأنباري ص ٤١١، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص ٩٦١،.
﴿ قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا قل إن هدى الله هو الهدى وأمرنا لنسلم لرب العالمين ٧١ وأن أقيموا الصلاة واتقوه وهو الذي إليه تحشرون ٧٢ وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق ويوم يقول كن فيكون قوله الحق وله الملك يوم ينفخ في الصور عالم الغيب والشهادة وهو الحكيم الخبير ٧٣ ﴾
ضرب الله تعالى في الآية الأولى من هذه الآيات مثلا يتضح لمن عقله من المشركين ما تقرر فيها وفي الآيات قبلها من بينات التوحيد ودلائله، ويظهر لهم سوء حالهم وقبح مآلهم في شركهم، ويعلل لهم ما بدئ به سياق الآيات الأخيرة فيه ( أي التوحيد ) من النهي عن دعاء غير الله وعن اتباع أهوائهم، ويشرح لهم مفهومه، ويفصل لهم مضمونه، ويبين لهم مقابله ( وأعني بهذا السياق ما في حيز قوله تعالى :﴿ قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دين الله ﴾ [ الأنفال : ٦٦ ] الخ، وحيز قوله :﴿ قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر ﴾ [ الأنعام : ٦٣ ] وما يليه من الوعيد بعذاب الدنيا والآخرة ) وختم الآية بالأمر بالإسلام المقابل لطريق الضلال والهوى. وبدأ الآية الثانية ببيان أعظم أعمال طريق الهدى، والآيتان بعدها في التذكير بدلائل ذلك وعاقبته، وصدق وعيده تعالى وكمال علمه وحكمته فيه.
﴿ وأن أقيموا الصلاة واتقوه ﴾ أي أمرنا بأن نسلم لرب العالمين، وبأن أقيموا واتقوه، أي قيل لنا ذلك، وقدر بعضهم : أمرنا بالإسلام وبإقامة الصلاة والتقوى، وإقامة الصلاة الإتيان بها على الوجه الذي شرعت لأجله وهو كونها تنهى عن الفحشاء والمنكر، وتزكي النفس بمناجاة الله وذكره « ولذكر الله أكبر »، ولم يكن شرع عند نزول السورة زكاة ولا صيام ولا حج، والتقوى اتقاء ما يترتب على مخالفة دين الله وشرعه وتنكب سننه في خلقه من ضرر وفساد، فهي أوسع معنى من تفسيرها بامتثال الأمر واجتناب النهي. ﴿ وهو الذي إليه تحشرون ( ٧٢ ) ﴾ أي تجمعون وتساقون إلى لقائه يوم القيامة دون غيره فيحاسبكم على أعمالكم ويجازيكم عليها. وإذا كان الحشر إليه وحده والجزاء بيده وحده، فمن الجنون أن يعبد غيره ويدعى، أو يخاف أو يرجى.
﴿ قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا قل إن هدى الله هو الهدى وأمرنا لنسلم لرب العالمين ٧١ وأن أقيموا الصلاة واتقوه وهو الذي إليه تحشرون ٧٢ وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق ويوم يقول كن فيكون قوله الحق وله الملك يوم ينفخ في الصور عالم الغيب والشهادة وهو الحكيم الخبير ٧٣ ﴾
ضرب الله تعالى في الآية الأولى من هذه الآيات مثلا يتضح لمن عقله من المشركين ما تقرر فيها وفي الآيات قبلها من بينات التوحيد ودلائله، ويظهر لهم سوء حالهم وقبح مآلهم في شركهم، ويعلل لهم ما بدئ به سياق الآيات الأخيرة فيه ( أي التوحيد ) من النهي عن دعاء غير الله وعن اتباع أهوائهم، ويشرح لهم مفهومه، ويفصل لهم مضمونه، ويبين لهم مقابله ( وأعني بهذا السياق ما في حيز قوله تعالى :﴿ قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دين الله ﴾ [ الأنفال : ٦٦ ] الخ، وحيز قوله :﴿ قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر ﴾ [ الأنعام : ٦٣ ] وما يليه من الوعيد بعذاب الدنيا والآخرة ) وختم الآية بالأمر بالإسلام المقابل لطريق الضلال والهوى. وبدأ الآية الثانية ببيان أعظم أعمال طريق الهدى، والآيتان بعدها في التذكير بدلائل ذلك وعاقبته، وصدق وعيده تعالى وكمال علمه وحكمته فيه.
﴿ وهو الذي خلق السموات والأرض بالحق ﴾ أي خلقهما بالأمر الثابت المتحقق وهو آياته القائمة بالسنن المطردة، المشتملة على الحكمة البالغة، الدالة على وجوده وصفاته الكاملة، فلم يخلقهما باطلا ولا عبثا، فإذا لا يترك الناس سدى، بل يجزي كل نفس بما تسعى. ﴿ ويوم يقول كن فيكون قوله الحق ﴾ أي وقوله هو الحق يوم يقول للشيء كن فيكون، وهو وقت الإيجاد والتكوين، فلا مرد لأمره التكويني ولا تخلف، فكذلك يجب الإسلام لأمره التكليفي بلا حرج في النفس ولا تكلف، لأن الأمر حق والخلق حق ﴿ ألا له الخلق والأمر ﴾.
﴿ وله الملك يوم ينفخ في الصور ﴾ ويبعث من في القبور، فإذا كان لغيره ملك ما في الدنيا بمقتضى سننه المقدرة، وشريعته المقررة، فلا تملك يومئذ نفس ما مهما تكن مكرمة، لنفس ما مهما تكن قريبة أو مقربة، شيئا ما من خير أو شر، أو نفع أو ضر، فكيف يدعو غيره من دونه، من هداه إلى هذه الحقائق من خلقه، فيرد على عقبيه، ويرجع إلى شر حاليه ؟ والصور في اللغة القرن واستشهد له في اللسان بقول الزاجر :
لقد نطحناهم غداة الجمعين نطحا شديدا لا كنطح الصورين١
وقد ثقب الناس قرون الوعول والظباء وغيرها فجعلوا منها أبواقا ينفخون فيها فيكون لها صوت شديد يدعى به الناس إلى الاجتماع، ويعزفون به كغيره من آلات السماع. وقد ورد ذكره في سفر الأيام الأول من كتب العهد العتيق قال :«٥ : ٢٨ فكان جميع إسرائيل يصعدون تابوت عهد الرب بهتاف وبصوت الأصوار والأبواق والصنوج يصوتون بالرباب والعيدان ) وقال بعض المفسرين إن الصور جمع صورة كبسر وبسرة وصوف وصوفة، وقيل في سور المدينة أيضا إنه جمع سورة. ونقلوا هذا التفسير عن أبي عبيدة من رواة اللغة. وقد رده جمهور المفسرين بأنه لا يظهر معناه في قوله تعالى :﴿ ونفخ في الصور فصعق من في السموات والأرض إلا من شاء الله ﴾ [ الزمر : ٦٨ ] وهذه هي النفخة الأولى ولا يظهر معنى لكونها في صور المخلوقات وإنما يظهر ذلك في النفخة الأخرى التي يبعث الله بها العباد وهي قوله في تتمة الآية :﴿ ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون ﴾ [ الزمر : ٦٨ ] وبأنه مخالف لما ورد في الأخبار والآثار من تفسيره بالقرن والبوق أو بما يشبههما.
وفي بعض الآثار الإسرائيلية أنه مستقر أرواح الخلق فإذا نفخ فيه نفخة البعث تصيب النفخة تلك الأرواح فتذهب إلى أجسادها ؛ بعد أن يكون الله قد أعادها كما بدأها. ورده اللغويون أيضا بأن المقيس في كلام العرب أن ما كان على وزن فعلة بضم الفاء يجمع على فعل بضم الفاء وفتح العين كغرفة وغرف وصورة وصور، وقد أجمع القراء على الواو في قوله تعالى :﴿ وصوركم فأحسن صوركم ﴾ [ غافر : ٦٤ ] وأما ما جاء من جمعه بضم فسكون كبسر وصوف فهو خاص بما سبق استعمال الجمع فيه على استعمال الواحد. وروى الأزهري هذا الرد بسنده عن أبي الهيثم، ويراجع في مادتي سور وصور من لسان العرب فقد أطال الكلام في المسألة فيهما.
وأما الأخبار المرفوعة في الصور فقد أخرجها أصحاب السنن والتفسير المأثور وغيرهم بأسانيد لم يصح منها شيء على شرط الشيخين ولذلك لم يخرجا منها شيئا. وأقواها ما رواه أبو داود والترمذي وحسنه والنسائي وغيرهم وصححه الحاكم من حديث عبد الله بن عمر قال : سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الصور فقال :« هو قرن ينفخ فيه »٢ وروي عن ابن مسعود أنه قال : الصور كهيئة القرن فيه. وورد في روايات يقوي بعضها وصحح بعضها الحاكم أن الملك الموكل بالصور مستعد للنفخ فيه ينتظر متى يؤمر، وفي بعضها أنه وكل به ملكان. وورد في وصف ملك الصور وفي صفة الصور والنفخ وتأثيره وما يتعلق به وما يكون يومئذ روايات منكرة بعضها مأخوذ من الإسرائيليات عن كعب الأحبار ووهب بن منبه وبعضها ملفق من أخبار كثيرة وممزوج بالآيات الواردة في قيام الساعة كحديث أبي هريرة الطويل الذي رواه عنه الطبراني من طريق إسماعيل بن رافع قاضي المدينة، وقد ذكر منه ابن كثير ما يملأ عدة صفحات وذكر أنه غريب جدا وأن إسماعيل تفرد به وأنه اختلف عليه في إسناده على وجوه كثيرة وذكر الخلاف في توثيق إسماعيل وتضعيفه ومنه أنه نص على نكارة حديثه غير واحد من الأئمة كأحمد وأبي حاتم ومنهم من قال إنه متروك. وسنعود إلى الكلام على الصور وحكمة النفخ فيه في تفسير سورتي الأنبياء والزمر إن أحيانا الله تعالى.
﴿ عالم الغيب والشهادة وهو الحكيم الخبير ﴾ فسر ابن عباس الغيب والشهادة هنا بالسر والعلانية. وقال الحسن : الشهادة ما قد رأيتم خلقه والغيب ما غاب عنكم مما لم تروه. وتقدم القول في علم الغيب في موضعين من تفسير هذه السورة مفصلا تفصيلا. والمعنى أن الذي خلق الخلق بالحق والذي قوله الحق في التكوين والتكليف، والذي له الملك وحده يوم ينفخ في الصور ويحشر الخلق. هو عالم الغيب والشهادة، وهو الحكيم الذي يضع كل شيء في موضعه، وهو الخبير بدقائق الأمور وخفاياها، فلا يشذ عن علمه وحكمته شيء منها، فلا يليق بعاقل أن يدعو غيره ولو بقصد التوسل والتقريب إليه زلفى، ﴿ فلا تدعوا مع الله أحدا ﴾ [ الجن : ١٨ ] ﴿ بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء ﴾ [ الأنعام : ٤١ ] ففي هذا التذليل تقرير لمضمون الآية وفذلكة للسياق الوارد في إنكار دعاء غير الله تعالى.
١ الزجر بلا نسبة العرب (صور)، وديوان الأدب ٣/٣١٥..
٢ أخرجه الترمذي في القيامة باب ٨، وتفسير سورة ٣٩، باب ٨، والدارمي في الرفاق باب ٧٩، وأحمد في المسند ٢/١٦٢، ١٩٢..
﴿ *وإذ قال إبراهيم لأبيه ءازر أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين ٧٤ وكذالك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين ٧٥ فلما جن عليه الليل رءا كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين ٧٦ فلما رءا القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين ٧٧ فلما رءا الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يقوم إني بريء مما تشركون ٧٨ إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين٧٩ ﴾
بدأ الله سبحانه هذه السورة بعد حمد نفسه ببيان أصول الدين ومحاجة المشركين فبين استحقاقه للعبادة وحده وإشراكهم به وتكذيبهم بالآيات التي أيد بها رسوله ورد ما لهم من الشبهة على الرسالة ثم لقن رسوله طوائف من الآيات البينات في إثبات التوحيد والرسالة والبعث مبدوءة بقوله :﴿ قل. قل ﴾ ثم أمره في هذه الآيات بالتذكير بدعوة أبيه إبراهيم عليهما الصلاة والسلام إلى مثل ما دعا إليه من التوحيد وتضليل عبدة الأصنام وما أراه الله من ملكوت السماوات والأرض وما استنبطه هو منه من آيات التوحيد وبطلان الشرك وإقامة الحجة على أهله، تأييدا لمصداق دعوته في سلالة ولده إسماعيل، عليهم الصلاة والتسليم. ولإبراهيم المكانة العليا من إجلال الأمة العربية كما أن اليهود والنصارى متفقون على إجلاله. وإننا نقدم لتفسير الآيات مقدمة في أصل إبراهيم ومسألة كفر أبيه آزر وحكمة الله تعالى فيما قصه عنه فنقول :
مقدمة في أصل إبراهيم عليه الصلاة والسلام ومسألة كفر أبيه
إبراهيم : هو الاسم العلم لخليل الرحمان أبي الأنبياء الأكبر من بعد نوح عليهم الصلاة والسلام، ويؤخذ من سفر التكوين – وهو السفر الأول من أسفار العهد العتيق – أنه العاشر من أولاد سام بن نوح وأنه ولد في ( أور الكلدانيين ) : وهي بلدة من بلاد الكلدان. و( أور ) بضم الهمزة وسكون الواو ومعناها في الكلدانية النور أو النار كما قالوا، قيل هي البلدة المعروفة الآن باسم ( أورفا ) في ولاية حلب كما رجح بعض المؤرخين وقيل غيرها من البلاد الواقعة في جزيرة العراق بين النهرين وفي أقطار العالم القديم بلاد ومواقع كثيرة مبدوءة أسماؤها بكلمة ( أور ) واقعة مع ما بعدها موقع المضاف من المضاف إليه، وأشهرها ( أورشليم ) لمدينة القدس قالوا إن معناها ملك السلام أو إرث السلام فشليم بالعبرية هي السلام بالعربية. وفي بعض التواريخ العربية أنه من قرية اسمها ( كوثى ) من سواد الكوفة. وكان اسم إبراهيم ( أبرام ) بفتح الهمزة وقالوا إن معناه ( أبو العلاء ) فهو مركب من كلمة أب العربية السامية مضافة إلى ما بعدها.
وفي سفر التكوين أن الله تعالى ظهر له في سن التاسعة والتسعين من عمره وكلمه وجدد عهده له بأن يكثر نسله ويعطيه أرض كنعان ( فلسطين ) ملكا أبديا وسماه لذريته ( إبراهيم ) بدل ( أبرام ) وقالوا إن معنى إبراهيم ( أبو الجمهور ) العظيم أي أبو الأمة. وهو بمعنى تبشير الله تعالى إياه بتكثير نسله من إسماعيل ومن إسحاق عليهم الصلاة والسلام، ولا ينافي ذلك كسر همزته فقد علم أن أصلها الفتح وأن إب المكسورة في إبراهيم هي أب المفتوحة في أبرام. فالجزء الأول منه عربي والثاني كلداني أو من لغة أخرى من فروع السامية أخوات العربية التي هي أعظمها وأوسعها حتى جعلها بعض علماء اللغات هي الأصل والأم لسائر تلك الفروع السامية كالعبرية والسريانية. وذكر رواة العربية في هذا الاسم سبع لغات عن العرب وهي إبراهيم وأبراهام وأبراهوم وأبراهم مثلثة الهاء وأبرهم بفتح الهاء بلا ألف. وصرح بعضهم بأنه سرياني الأصل ثم نقل وبعضهم بأن معناه أب راحم أو رحيم، وعلى هذا يكون جزآه عربيين بقلب حائه كما يقلبها جميع الأعاجم الذين لا ينطقون بالحاء المهملة كالإفرنج وتركيبه مزجي. وفي القاموس المحيط كغيره ( أن تصغيره بريه أو أبيره وبريهيم ) قال شارحه عند الأول : قال شيخنا وكأنهم جعلوه عربيا وتصرفوا فيه بالتصغير وإلا فالأعجمية لا يدخلها شيء من التصرف بالكلية.
وقد ثبت عند علماء العاديات والآثار القديمة أن عرب الجزيرة قد استعمروا منذ فجر التاريخ بلاد الكلدان ومصر وغلبت لغتهم فيهما، وصرح بعضهم بأن الملك حمورابي الذي كان معاصرا لإبراهيم عليه الصلاة والسلام عربي. وحمورابي هذا هو ملكي صادق ملك البر والسلام ووصف في العهد العتيق بأنه كاهن الله العلي وذكر فيه أنه بارك إبراهيم وأن إبراهيم أعطاه العشر من كل شيء. ومن المعروف في كتب الحديث والتاريخ العربي إن إبراهيم أسكن ابنه إسماعيل مع أمه هاجر المصرية عليهم السلام في الوادي الذي بنيت فيه مكة بعد ذلك وأن الله تعالى سخر لهما جماعة من جرهم سكنوا معهما هنالك وأن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان يزورهما وأنه هو وولده إسماعيل بنيا بيت الله المحرم ونشرا دين الإسلام ؛ في البلاد العربية.
فيظهر من ذلك أن العربية القديمة هي لغة إبراهيم وهاجر ولغة حمورابي وقومه ولغة قدماء المصريين أو اللغة الغالية في ذينك القطرين، وأنها على ما كان فيها من الدخليل الكلداني والمصري كانت قريبة جدا من العربية الجرهمية ولذلك كان الذين ساكنوا هاجر من جرهم يفهمون منها وتفهم منهم. وقد ثبت في صحيح البخاري أن إبراهيم زار إسماعيل مرة فلم يجده وتكلم مع امرأته الجرهمية ولم تعجبه ثم زاره مرة أخرى فلم يجده وكانت عنده امرأة أخرى فتكلم معها فأعجبته. وقد ورد أيضا أن لغة إسماعيل كانت أفصح من لغة جرهم فهي أم اللغة المصرية التي فاقت بفصاحتها وبلاغتها سائر اللغات أو اللهجات العربية، ثم ارتقت في عهد قريش من ذريته بما كانوا يقيمونه لها من أسواق المفاخرة في موسم الحج، ثم كملت بلاغتها وفصاحتها بنزول القرآن المجيد المعجز للخلق بها.
وأما أبو إبراهيم فقد سماه الله تعالى في الآية الأولى من هذه الآيات ( آزر ) وفي سفر التكوين أن اسمه ( تارح ) بفتح التاء وحاء مهملة وقالوا إن معناه ( متكاسل ) ومن الغريب أن نرى أكثر المفسرين والمؤرخين واللغويين منا يقولون إن اسمه تارخ بالخاء المعجمة أو المهملة وإن آزر لقبه أو اسم أخيه أو أبيه أو صنمه، ونقل عن الزجاج والفراء أنه ليس بين النسابين والمؤرخين اختلاف في كون اسمه تارخ أو تارح. ولا نعرف لهذه الأقوال أصلا مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولا منقولا على العرب الأولين، وإنما هو منقول فيما يظهر عمن دخل في الإسلام من أهل الكتاب كوهب بن منبه وكعب الأحبار اللذين أدخلا على المسلمين كثيرا من الإسرائيليات – فتلقوها بالقبول على علاتها، وعن مقاتل بن سليمان المجروح بالكذب الذي قال ابن حبان فيه كان يأخذ من اليهود والنصارى من علم القرآن الذي يوافق كتبهم.
ففي التفسير المأثور عن مجاهد قال : آزر لم يكن بأبيه ولكنه اسم صنم – وعن السدى اسم أبيه تارح واسم الصنم آزر – وعن ابن عباس في إحدى الروايتين عنه قال : آزر الصنم وأبو إبراهيم اسمه يازر، وفي الأخرى أن أبا إبراهيم لم يكن اسمه آزر وإنما اسمه تارح. رواهما عنه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ – وعن ابن جريج أن اسمه تيرح. وجزم الضحاك بأن اسمه آزر واعتمده ابن جرير، وروي عن الحسن أيضا. وقال البخاري في التاريخ الكبير : إبراهيم ابن آزر وهو في التوراة تارح والله سماه آزر وإن كان عند النسابين والمؤرخين اسمه تارخ ليعرف بذلك. اه فقد اعتمد أن آزر هو اسمه عند الله أي في كتابه، فإن أمكن الجمع بين القولين فيها وإلا رددنا قول المؤرخين وسفر التكوين لأنه ليس حجة عندنا حتى نعتد بالتعارض بينه وبين ظواهر القرآن بل القرآن هو المهمين على ما قبله نصدق ما صدقه ونكذب ما كذبه ونلزم الوقف فيما سكت عنه حتى يدل عليه دليل صحيح.
وأضعف ما قالوه في الجمع بين القولين إن آزر اسم عمه بناء على أن العرب تسمي العم أبا مجازا وهذه الدعوى لا تصح على إطلاقها، وإنما يصح ذلك حيث توجد قرينة يعلم منها المراد ولا قرينة هنا ولا في سائر الآيات التي ذكر فيها من غير تسمية، ويليه في الضعف قول بعضهم إنه كان خادم الصنم المسمى بآزر فأطلق عليه من باب حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مكانه. وأقواه أن له اسمين أحدهما علم والآخر ولقب. والظاهر حينئذ أن يكون تارح هو اللقب لأن معناه المتكاسل وهو لقب قبيح قلما يطلقه أحد ابتداء على ولده وإنما يطلق مثله على المرء بعد ظهور معناه فيه أو رميه به، إلا أن يصح ما زعمه من عكس فجعل آزر هو اللقب بناء على أن معناه في لغتهم المخطئ أو المعوج أو الأعوج أو الأعرج – ولعله تحريف عما قبله – وقيل إنه الشيخ الهرم بالخوارزمية.
بعد كتابة ما تقدم راجعت ( روح المعاني ) للآلوسي والتفسير الكبير ( مفاتيح الغيب ) للرازي فأحببت أن أنقل عنهما ما يأتي :
قال الآلوسي : وعلى القول بالوصفية يكون منع صرفه للحمل على موازنه وهو فاعل المفتوح العين فإنه يغلب منع صرفه لكثرته في الأعلام الأعجمية، وقيل الأولى أن يقال إنه غلب عليه فألحق بالعلم وبعضهم يجعله نعتا مشتقا من الأزر بمعنى القوة أو الوزر بمعنى الإثم، ومنع صرفه حينئذ للوصفية ووزن الفعل لأنه على وزن أفعل.
وقال الرازي بعد أن ذكر قول الزجاج باتفاق علماء النسب على أن اسم أبي إبراهيم تارح : ومن الملحدة من جعل هذا طعنا في القرآن وقال هذا النسب خطأ وليس بصواب. ثم ذكر أن للعلماء ههنا مقامين أحدهما رد الاستدلال بإجماع النسابين على أن اسمه كان تارح قال : لأن ذلك الإجماع إنما حصل لأن بعضهم يقلد بعضا وبالآخرة يرجع ذلك الإجماع إلى قول الواحد والاثنين مثل قول وهب وكعب وأمثالهما وربما تعلقوا بما يجدونه من أخبار اليهود والنصارى ولا عبرة بذلك في مقابلة صريح القرآن اه وقد بينا لك مأخذه وإنه لا إجماع في المسألة. ثم ذكر المقام الثاني وهو تسليم قولهم والجمع بينه وبين نص القرآن بما نقلناه عنهم آنفا وبينا قويه من ضعفيه.
ومن الناس من استدل على أن آزر لم يكن والد إبراهيم صلى الله عليه وسلم بل عمه بالجزم بأن آباء الأنبياء كافة أو نبينا خاصة لم يكونوا كفارا وبأن إبراهيم خاطب آزر بالغلظة والجفاء ولا يجوز ذلك من الأنبياء. وقد عزا الرازي هذا القول إلى الشيعة وأطال في بيانه واختصر في بيان ( زعم أصحابه ) – أي الأشاعرة أو أهل السنة كافة – إن آزر كان والد إبراهيم وكان كافرا وفي ردهم قول الشيعة. وقال الآلوسي : والذي عول عليه الجم الغفير من أهل السنة أن آزر لم يكن والد إبراهيم عليه السلام وادعوا أنه ليس في آباء النبي صلى الله عليه وسلم كافر أصلا لقوله عليه الصلاة والسلام « لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات» والمشركون نجس، وتخصيص الطهارة بالطهارة من السفاح لا دليل له يعول عليه والعبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، وقد ألفوا في هذا المطلب الرسائل واستدلوا له بما استدلوا. والقول بأن ذلك قول الشيعة كما ادعاه الإمام الرازي ناشئ من قلة التتبع. وأكثر هؤلاء على أن آزر اسم لعم إبراهيم عليه السلام وجاء إطلاق الأب على الجد في قوله تعالى :﴿ أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي ؟ قالوا نعبد إلهك وآله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ﴾ [ البقرة : ١٣٣ ] وفيه إطلاق الأب على الجد أيضا. وعن محمد بن كعب ا
﴿ وإذا قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة ﴾ هذه الجملة معطوفة على جملة « قل أندعو من دون الله » وما في حيزها ( وهو آخر حجاج للمشركين في العقائد مبدوء بالأمر القولي. وسيعاد هذا الأسلوب في السورة حجاجا في الأحكام العلمية أيضا ) والظرف فيها متعلق بفعل عهد حذفه تقديره اذكر، أي واذكر أيها الرسول لهؤلاء المشركين الذين لقناك ما تقدم من الحجج على بطلان شركهم، وضلالهم في عبادة ما لا يضرهم ولا ينفعهم، ومن بيان هدى الله تعالى والإسلام له – اذكر لهم عقب هذا – قصة إبراهيم جدهم الذي يجلونه ويدعون اتباع ملته حين قال لأبيه آزر منكرا عليه وعلى قومه شركهم : أتتخذ أصناما آلهة تعبدها من دون الله الذي خلقك وخلقها، وهو المستحق للعبادة من دونها ؟
﴿ إني أراك وقومك في ضلال مبين ( ٧٤ ) ﴾ الضلال العدول عن الطريق الموصل إلى الغاية التي يطلبها العاقل من سيره الحسي أو المعنوي. وغاية الدين تزكية النفس بمعرفة الله وعبادته وما شرعه من الأعمال والآداب للفوز بسعادة الدارين، وعبادة غير الله تعالى ولو بقصد التقرب إليه مدس للنفس مفسد لها فلا يوصلها إلا إلى الهلاك الأبدي، والتعبير عنها بالضلال ليس فيه سب ولا جفاء ولا غلظة كما زعم من استشكله من الولد للوالد وقابله بأمر الله تعالى لموسى وهارون أن يقولا لفرعون قولا لينا. وأجاب عنه بأنه حسن للمصلحة كالشدة في تربية الأولاد أحيانا، ومن استدل به على أن آزر كان عم إبراهيم لا والده. فالصواب أن التعبير بالضلال البين هنا بيان للواقع باللفظ الذي يدل عليه لغة كقوله تعالى :﴿ ووجدك ضالا فهدى ﴾ [ الضحى : ٧ ] وكقولك لمن تراه منحرفا عن الطريق الحسي : إن الطريق من هنا فأنت حائد أو ضال عنه.
ومعنى قول إبراهيم لأبيه : إني أراك وقومك الذين يعبدون هذه الأصنام مثلك في ضلال عن صراط الحق المستقيم بين ظاهر لا شبهة فيه، فإن هذه الأصنام التي اتخذتموها آلهة لكم، لم تكن آلهة في أنفسها بل باتخاذكم وجعلكم، ولستم من خلقها وصنعها بل هي من صنعكم، ولا تقدر على نفعكم ولا ضركم، وذلك أنها تماثيل تنحتونها من الحجارة أو تقتطعونها من الخشب أو تصوغونها من المعدن فأنتم أفضل منها، ومساوون في أصل الخلقة لمن جعلت ممثلة لهم من الناس، أو لما صنعت مذكرة به من النيرات، ولا يليق بالإنسان أن يعبد ما دونه ولا ما هو مساو له في كونه مخلوقا مقهورا بتصرف الخالق، ومربوبا فقيرا محتاجا إلى الرب الغني القادر. وقد دلت آثار أولئك القوم التي اكتشفت في العراق على صحة ما عرف في التاريخ من عبادتهم للأصنام الكثيرة حتى كان يكون لكل منهم صنم خاص به سواء الملوك والسوقة في ذلك، وكانوا يعبدون الفلك ونيراته عامة، والدراري السبع خاصة، كما يعلم من قوله تعالى :﴿ وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السماوات والأرض ﴾
﴿ *وإذ قال إبراهيم لأبيه ءازر أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين ٧٤ وكذالك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين ٧٥ فلما جن عليه الليل رءا كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين ٧٦ فلما رءا القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين ٧٧ فلما رءا الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يقوم إني بريء مما تشركون ٧٨ إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين٧٩ ﴾
بدأ الله سبحانه هذه السورة بعد حمد نفسه ببيان أصول الدين ومحاجة المشركين فبين استحقاقه للعبادة وحده وإشراكهم به وتكذيبهم بالآيات التي أيد بها رسوله ورد ما لهم من الشبهة على الرسالة ثم لقن رسوله طوائف من الآيات البينات في إثبات التوحيد والرسالة والبعث مبدوءة بقوله :﴿ قل. قل ﴾ ثم أمره في هذه الآيات بالتذكير بدعوة أبيه إبراهيم عليهما الصلاة والسلام إلى مثل ما دعا إليه من التوحيد وتضليل عبدة الأصنام وما أراه الله من ملكوت السماوات والأرض وما استنبطه هو منه من آيات التوحيد وبطلان الشرك وإقامة الحجة على أهله، تأييدا لمصداق دعوته في سلالة ولده إسماعيل، عليهم الصلاة والتسليم. ولإبراهيم المكانة العليا من إجلال الأمة العربية كما أن اليهود والنصارى متفقون على إجلاله. وإننا نقدم لتفسير الآيات مقدمة في أصل إبراهيم ومسألة كفر أبيه آزر وحكمة الله تعالى فيما قصه عنه فنقول :
مقدمة في أصل إبراهيم عليه الصلاة والسلام ومسألة كفر أبيه
إبراهيم : هو الاسم العلم لخليل الرحمان أبي الأنبياء الأكبر من بعد نوح عليهم الصلاة والسلام، ويؤخذ من سفر التكوين – وهو السفر الأول من أسفار العهد العتيق – أنه العاشر من أولاد سام بن نوح وأنه ولد في ( أور الكلدانيين ) : وهي بلدة من بلاد الكلدان. و( أور ) بضم الهمزة وسكون الواو ومعناها في الكلدانية النور أو النار كما قالوا، قيل هي البلدة المعروفة الآن باسم ( أورفا ) في ولاية حلب كما رجح بعض المؤرخين وقيل غيرها من البلاد الواقعة في جزيرة العراق بين النهرين وفي أقطار العالم القديم بلاد ومواقع كثيرة مبدوءة أسماؤها بكلمة ( أور ) واقعة مع ما بعدها موقع المضاف من المضاف إليه، وأشهرها ( أورشليم ) لمدينة القدس قالوا إن معناها ملك السلام أو إرث السلام فشليم بالعبرية هي السلام بالعربية. وفي بعض التواريخ العربية أنه من قرية اسمها ( كوثى ) من سواد الكوفة. وكان اسم إبراهيم ( أبرام ) بفتح الهمزة وقالوا إن معناه ( أبو العلاء ) فهو مركب من كلمة أب العربية السامية مضافة إلى ما بعدها.
وفي سفر التكوين أن الله تعالى ظهر له في سن التاسعة والتسعين من عمره وكلمه وجدد عهده له بأن يكثر نسله ويعطيه أرض كنعان ( فلسطين ) ملكا أبديا وسماه لذريته ( إبراهيم ) بدل ( أبرام ) وقالوا إن معنى إبراهيم ( أبو الجمهور ) العظيم أي أبو الأمة. وهو بمعنى تبشير الله تعالى إياه بتكثير نسله من إسماعيل ومن إسحاق عليهم الصلاة والسلام، ولا ينافي ذلك كسر همزته فقد علم أن أصلها الفتح وأن إب المكسورة في إبراهيم هي أب المفتوحة في أبرام. فالجزء الأول منه عربي والثاني كلداني أو من لغة أخرى من فروع السامية أخوات العربية التي هي أعظمها وأوسعها حتى جعلها بعض علماء اللغات هي الأصل والأم لسائر تلك الفروع السامية كالعبرية والسريانية. وذكر رواة العربية في هذا الاسم سبع لغات عن العرب وهي إبراهيم وأبراهام وأبراهوم وأبراهم مثلثة الهاء وأبرهم بفتح الهاء بلا ألف. وصرح بعضهم بأنه سرياني الأصل ثم نقل وبعضهم بأن معناه أب راحم أو رحيم، وعلى هذا يكون جزآه عربيين بقلب حائه كما يقلبها جميع الأعاجم الذين لا ينطقون بالحاء المهملة كالإفرنج وتركيبه مزجي. وفي القاموس المحيط كغيره ( أن تصغيره بريه أو أبيره وبريهيم ) قال شارحه عند الأول : قال شيخنا وكأنهم جعلوه عربيا وتصرفوا فيه بالتصغير وإلا فالأعجمية لا يدخلها شيء من التصرف بالكلية.
وقد ثبت عند علماء العاديات والآثار القديمة أن عرب الجزيرة قد استعمروا منذ فجر التاريخ بلاد الكلدان ومصر وغلبت لغتهم فيهما، وصرح بعضهم بأن الملك حمورابي الذي كان معاصرا لإبراهيم عليه الصلاة والسلام عربي. وحمورابي هذا هو ملكي صادق ملك البر والسلام ووصف في العهد العتيق بأنه كاهن الله العلي وذكر فيه أنه بارك إبراهيم وأن إبراهيم أعطاه العشر من كل شيء. ومن المعروف في كتب الحديث والتاريخ العربي إن إبراهيم أسكن ابنه إسماعيل مع أمه هاجر المصرية عليهم السلام في الوادي الذي بنيت فيه مكة بعد ذلك وأن الله تعالى سخر لهما جماعة من جرهم سكنوا معهما هنالك وأن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان يزورهما وأنه هو وولده إسماعيل بنيا بيت الله المحرم ونشرا دين الإسلام ؛ في البلاد العربية.
فيظهر من ذلك أن العربية القديمة هي لغة إبراهيم وهاجر ولغة حمورابي وقومه ولغة قدماء المصريين أو اللغة الغالية في ذينك القطرين، وأنها على ما كان فيها من الدخليل الكلداني والمصري كانت قريبة جدا من العربية الجرهمية ولذلك كان الذين ساكنوا هاجر من جرهم يفهمون منها وتفهم منهم. وقد ثبت في صحيح البخاري أن إبراهيم زار إسماعيل مرة فلم يجده وتكلم مع امرأته الجرهمية ولم تعجبه ثم زاره مرة أخرى فلم يجده وكانت عنده امرأة أخرى فتكلم معها فأعجبته. وقد ورد أيضا أن لغة إسماعيل كانت أفصح من لغة جرهم فهي أم اللغة المصرية التي فاقت بفصاحتها وبلاغتها سائر اللغات أو اللهجات العربية، ثم ارتقت في عهد قريش من ذريته بما كانوا يقيمونه لها من أسواق المفاخرة في موسم الحج، ثم كملت بلاغتها وفصاحتها بنزول القرآن المجيد المعجز للخلق بها.
وأما أبو إبراهيم فقد سماه الله تعالى في الآية الأولى من هذه الآيات ( آزر ) وفي سفر التكوين أن اسمه ( تارح ) بفتح التاء وحاء مهملة وقالوا إن معناه ( متكاسل ) ومن الغريب أن نرى أكثر المفسرين والمؤرخين واللغويين منا يقولون إن اسمه تارخ بالخاء المعجمة أو المهملة وإن آزر لقبه أو اسم أخيه أو أبيه أو صنمه، ونقل عن الزجاج والفراء أنه ليس بين النسابين والمؤرخين اختلاف في كون اسمه تارخ أو تارح. ولا نعرف لهذه الأقوال أصلا مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولا منقولا على العرب الأولين، وإنما هو منقول فيما يظهر عمن دخل في الإسلام من أهل الكتاب كوهب بن منبه وكعب الأحبار اللذين أدخلا على المسلمين كثيرا من الإسرائيليات – فتلقوها بالقبول على علاتها، وعن مقاتل بن سليمان المجروح بالكذب الذي قال ابن حبان فيه كان يأخذ من اليهود والنصارى من علم القرآن الذي يوافق كتبهم.
ففي التفسير المأثور عن مجاهد قال : آزر لم يكن بأبيه ولكنه اسم صنم – وعن السدى اسم أبيه تارح واسم الصنم آزر – وعن ابن عباس في إحدى الروايتين عنه قال : آزر الصنم وأبو إبراهيم اسمه يازر، وفي الأخرى أن أبا إبراهيم لم يكن اسمه آزر وإنما اسمه تارح. رواهما عنه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ – وعن ابن جريج أن اسمه تيرح. وجزم الضحاك بأن اسمه آزر واعتمده ابن جرير، وروي عن الحسن أيضا. وقال البخاري في التاريخ الكبير : إبراهيم ابن آزر وهو في التوراة تارح والله سماه آزر وإن كان عند النسابين والمؤرخين اسمه تارخ ليعرف بذلك. اه فقد اعتمد أن آزر هو اسمه عند الله أي في كتابه، فإن أمكن الجمع بين القولين فيها وإلا رددنا قول المؤرخين وسفر التكوين لأنه ليس حجة عندنا حتى نعتد بالتعارض بينه وبين ظواهر القرآن بل القرآن هو المهمين على ما قبله نصدق ما صدقه ونكذب ما كذبه ونلزم الوقف فيما سكت عنه حتى يدل عليه دليل صحيح.
وأضعف ما قالوه في الجمع بين القولين إن آزر اسم عمه بناء على أن العرب تسمي العم أبا مجازا وهذه الدعوى لا تصح على إطلاقها، وإنما يصح ذلك حيث توجد قرينة يعلم منها المراد ولا قرينة هنا ولا في سائر الآيات التي ذكر فيها من غير تسمية، ويليه في الضعف قول بعضهم إنه كان خادم الصنم المسمى بآزر فأطلق عليه من باب حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مكانه. وأقواه أن له اسمين أحدهما علم والآخر ولقب. والظاهر حينئذ أن يكون تارح هو اللقب لأن معناه المتكاسل وهو لقب قبيح قلما يطلقه أحد ابتداء على ولده وإنما يطلق مثله على المرء بعد ظهور معناه فيه أو رميه به، إلا أن يصح ما زعمه من عكس فجعل آزر هو اللقب بناء على أن معناه في لغتهم المخطئ أو المعوج أو الأعوج أو الأعرج – ولعله تحريف عما قبله – وقيل إنه الشيخ الهرم بالخوارزمية.
بعد كتابة ما تقدم راجعت ( روح المعاني ) للآلوسي والتفسير الكبير ( مفاتيح الغيب ) للرازي فأحببت أن أنقل عنهما ما يأتي :
قال الآلوسي : وعلى القول بالوصفية يكون منع صرفه للحمل على موازنه وهو فاعل المفتوح العين فإنه يغلب منع صرفه لكثرته في الأعلام الأعجمية، وقيل الأولى أن يقال إنه غلب عليه فألحق بالعلم وبعضهم يجعله نعتا مشتقا من الأزر بمعنى القوة أو الوزر بمعنى الإثم، ومنع صرفه حينئذ للوصفية ووزن الفعل لأنه على وزن أفعل.
وقال الرازي بعد أن ذكر قول الزجاج باتفاق علماء النسب على أن اسم أبي إبراهيم تارح : ومن الملحدة من جعل هذا طعنا في القرآن وقال هذا النسب خطأ وليس بصواب. ثم ذكر أن للعلماء ههنا مقامين أحدهما رد الاستدلال بإجماع النسابين على أن اسمه كان تارح قال : لأن ذلك الإجماع إنما حصل لأن بعضهم يقلد بعضا وبالآخرة يرجع ذلك الإجماع إلى قول الواحد والاثنين مثل قول وهب وكعب وأمثالهما وربما تعلقوا بما يجدونه من أخبار اليهود والنصارى ولا عبرة بذلك في مقابلة صريح القرآن اه وقد بينا لك مأخذه وإنه لا إجماع في المسألة. ثم ذكر المقام الثاني وهو تسليم قولهم والجمع بينه وبين نص القرآن بما نقلناه عنهم آنفا وبينا قويه من ضعفيه.
ومن الناس من استدل على أن آزر لم يكن والد إبراهيم صلى الله عليه وسلم بل عمه بالجزم بأن آباء الأنبياء كافة أو نبينا خاصة لم يكونوا كفارا وبأن إبراهيم خاطب آزر بالغلظة والجفاء ولا يجوز ذلك من الأنبياء. وقد عزا الرازي هذا القول إلى الشيعة وأطال في بيانه واختصر في بيان ( زعم أصحابه ) – أي الأشاعرة أو أهل السنة كافة – إن آزر كان والد إبراهيم وكان كافرا وفي ردهم قول الشيعة. وقال الآلوسي : والذي عول عليه الجم الغفير من أهل السنة أن آزر لم يكن والد إبراهيم عليه السلام وادعوا أنه ليس في آباء النبي صلى الله عليه وسلم كافر أصلا لقوله عليه الصلاة والسلام « لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات» والمشركون نجس، وتخصيص الطهارة بالطهارة من السفاح لا دليل له يعول عليه والعبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، وقد ألفوا في هذا المطلب الرسائل واستدلوا له بما استدلوا. والقول بأن ذلك قول الشيعة كما ادعاه الإمام الرازي ناشئ من قلة التتبع. وأكثر هؤلاء على أن آزر اسم لعم إبراهيم عليه السلام وجاء إطلاق الأب على الجد في قوله تعالى :﴿ أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي ؟ قالوا نعبد إلهك وآله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ﴾ [ البقرة : ١٣٣ ] وفيه إطلاق الأب على الجد أيضا. وعن محمد بن كعب ا
﴿ وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض ﴾ أي وكما أرينا إبراهيم الحق في أمر أبيه وقومه وهو أنهم كانوا على ضلال بين في عبادتهم للأصنام كنا نريه المرة بعد المرة ملكوت السماوات والأرض، على هذه الطريقة التي يعرف بها الحق، فهي رؤية بصرية، تتبعها رؤية البصيرة العقلية، وإنما قال نريه دون أريناه لاستحضار صورة الحال الماضية التي كانت تتجدد وتتكرر بتجدد رؤية آيه تعالى في ذلك الملكوت العظيم كما يعلم من التعليل الآتي، والتفصيل المترتب على هذا الإجمال في الآيات. والملكوت المملكة أو الملك العظيم والعز والسلطان، وإطلاق الصوفية إياه على عالم الغيب اصطلاح قال في اللسان : وملك الله تعالى وملكوته سلطانه وعظمته، ولفلان ملكوت العراق أي عزه وسلطانه وملكه. عن اللحياني. والملكوت من الملك كالرهبوت من الرهبة وتقال للملكوت ملكوة ( كترقوة ) اه وقال الراغب والملكوت مختص بملك الله تعالى وهو مصدر ملك أدخلت فيه التاء نحو رحموت ورهبوت اه وصرح بعضهم بأن هذه التاء للمبالغة على قاعدة زيادة المبنى لزيادة المعنى، فالملكوت الملك العظيم والرحموة الرحمة الواسعة والرهبوت الرهبة الشديدة.
وروي عن عكرمة أن كلمة ملكوت نبطية وأصلها بلسانهم ملكوتا. وفي كتب اللغة أن النبط والأنباط جيل من الناس يسكنون البطائح وغيرها من سواد العراق، فهم بقايا إبراهيم في وطنه الأصلي إذا كانت سلسلة نسبهم محفوظة، ويقول المؤرخون إنهم من بقايا العمالقة وإنهم هاجروا من العراق بعد سقوط دولة الحمورابيين وتفرقوا في جزيرة العرب ثم أنشئوا دولة الشمال منها. وقد روي عن علي وابن عباس ( رض ) أن كلا منهما قال : إننا نبط من كوثى. وكوثى بلد إبراهيم صلى الله على وآله وسلم كما يحفظ عن العرب، ومراد الحبرين أن بني هاشم من ذرية إبراهيم وأن النبط من قومه، وفيه إنكار احتقارهم لنسبهم أو ضعف لغتهم، وقيل إن مرادهما به التواضع وذم التفاخر بالأنساب. وروي عن ابن عباس أن المراد بملكوت السماوات والأرض خلقهما أي كقوله تعالى :﴿ أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء ﴾ [ الأعراف : ١٨٥ ] وعن مجاهد أنه آياتهما، وعنهما وعن قتادة أنه الشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والبحار، وعن مجاهد وقتادة وسعيد بن جبير والسدي أن الله تعالى أراه ما وراء مسارح الأبصار من السماوات والأرض حتى انتهى بصره إلى العرش، وزاد بعضهم أنه أراه خفايا أعمال العباد ومعاصيهم.
وليس لهذه الأقوال الأخيرة حجة من الحديث المرفوع وإنما استنبطوها فيما يظهر من إسناد الإراءة إلى الله عز وجل، فإنه يدل على عناية خاصة، واختار ابن جرير مما رواه من تلك الأقوال أنه تعالى أراه من ملكوت السماوات والأرض ما فيهما من الشمس والقمر والشجر والدواب وغير ذلك من عظيم سلطانه فيهما وجلى له بواطن الأمور وظواهرها، ويتحقق ذلك بهدايته إياه إلى وجوه الحجة فيها على وحدانيته تعالى وقدرته، وعلمه وحكمته، وفضله ورحمته، ويدل على ذلك تعليل الإراءة، وما يترتب عليها من إقامة الحجة.
أما التعليل فقوله تعالى :﴿ وليكون من الموقنين ( ٧٥ ) ﴾ قيل إن المعنى ولأجل أن يكون من أهل اليقين الراسخين فيه أريناه ما أرينا، وبصرناه من أسرار الملكوت ما بصرنا، وقيل إن هذا عطف على تعليل حذف لتغوص الأذهان على استخراجه من قرائن الحال، وأسلوب المقال، أي نريه ذلك ليعرف سنننا في خلقنا، وحكمنا في تدبير ملكنا، وآياتنا الدالة على ربوبيتنا وألوهيتنا، ليقيم بها الحجة على المشركين الضالين، وليكون في خاصة نفسه من الواقفين على عين اليقين، وهو من الإيجاز البديع. واليقين في اللغة الاعتقاد الجازم المبني على الإمارات والدلائل والاستنباط دون الحس والضرورة وقال الراغب هو سكون الفهم مع ثبات الحكم وإنه من صفة العلم فوق المعرفة والدراية. وبذلك جمع إبراهيم بين العلم النظري والعلم اللدني.
﴿ *وإذ قال إبراهيم لأبيه ءازر أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين ٧٤ وكذالك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين ٧٥ فلما جن عليه الليل رءا كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين ٧٦ فلما رءا القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين ٧٧ فلما رءا الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يقوم إني بريء مما تشركون ٧٨ إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين٧٩ ﴾
بدأ الله سبحانه هذه السورة بعد حمد نفسه ببيان أصول الدين ومحاجة المشركين فبين استحقاقه للعبادة وحده وإشراكهم به وتكذيبهم بالآيات التي أيد بها رسوله ورد ما لهم من الشبهة على الرسالة ثم لقن رسوله طوائف من الآيات البينات في إثبات التوحيد والرسالة والبعث مبدوءة بقوله :﴿ قل. قل ﴾ ثم أمره في هذه الآيات بالتذكير بدعوة أبيه إبراهيم عليهما الصلاة والسلام إلى مثل ما دعا إليه من التوحيد وتضليل عبدة الأصنام وما أراه الله من ملكوت السماوات والأرض وما استنبطه هو منه من آيات التوحيد وبطلان الشرك وإقامة الحجة على أهله، تأييدا لمصداق دعوته في سلالة ولده إسماعيل، عليهم الصلاة والتسليم. ولإبراهيم المكانة العليا من إجلال الأمة العربية كما أن اليهود والنصارى متفقون على إجلاله. وإننا نقدم لتفسير الآيات مقدمة في أصل إبراهيم ومسألة كفر أبيه آزر وحكمة الله تعالى فيما قصه عنه فنقول :
مقدمة في أصل إبراهيم عليه الصلاة والسلام ومسألة كفر أبيه
إبراهيم : هو الاسم العلم لخليل الرحمان أبي الأنبياء الأكبر من بعد نوح عليهم الصلاة والسلام، ويؤخذ من سفر التكوين – وهو السفر الأول من أسفار العهد العتيق – أنه العاشر من أولاد سام بن نوح وأنه ولد في ( أور الكلدانيين ) : وهي بلدة من بلاد الكلدان. و( أور ) بضم الهمزة وسكون الواو ومعناها في الكلدانية النور أو النار كما قالوا، قيل هي البلدة المعروفة الآن باسم ( أورفا ) في ولاية حلب كما رجح بعض المؤرخين وقيل غيرها من البلاد الواقعة في جزيرة العراق بين النهرين وفي أقطار العالم القديم بلاد ومواقع كثيرة مبدوءة أسماؤها بكلمة ( أور ) واقعة مع ما بعدها موقع المضاف من المضاف إليه، وأشهرها ( أورشليم ) لمدينة القدس قالوا إن معناها ملك السلام أو إرث السلام فشليم بالعبرية هي السلام بالعربية. وفي بعض التواريخ العربية أنه من قرية اسمها ( كوثى ) من سواد الكوفة. وكان اسم إبراهيم ( أبرام ) بفتح الهمزة وقالوا إن معناه ( أبو العلاء ) فهو مركب من كلمة أب العربية السامية مضافة إلى ما بعدها.
وفي سفر التكوين أن الله تعالى ظهر له في سن التاسعة والتسعين من عمره وكلمه وجدد عهده له بأن يكثر نسله ويعطيه أرض كنعان ( فلسطين ) ملكا أبديا وسماه لذريته ( إبراهيم ) بدل ( أبرام ) وقالوا إن معنى إبراهيم ( أبو الجمهور ) العظيم أي أبو الأمة. وهو بمعنى تبشير الله تعالى إياه بتكثير نسله من إسماعيل ومن إسحاق عليهم الصلاة والسلام، ولا ينافي ذلك كسر همزته فقد علم أن أصلها الفتح وأن إب المكسورة في إبراهيم هي أب المفتوحة في أبرام. فالجزء الأول منه عربي والثاني كلداني أو من لغة أخرى من فروع السامية أخوات العربية التي هي أعظمها وأوسعها حتى جعلها بعض علماء اللغات هي الأصل والأم لسائر تلك الفروع السامية كالعبرية والسريانية. وذكر رواة العربية في هذا الاسم سبع لغات عن العرب وهي إبراهيم وأبراهام وأبراهوم وأبراهم مثلثة الهاء وأبرهم بفتح الهاء بلا ألف. وصرح بعضهم بأنه سرياني الأصل ثم نقل وبعضهم بأن معناه أب راحم أو رحيم، وعلى هذا يكون جزآه عربيين بقلب حائه كما يقلبها جميع الأعاجم الذين لا ينطقون بالحاء المهملة كالإفرنج وتركيبه مزجي. وفي القاموس المحيط كغيره ( أن تصغيره بريه أو أبيره وبريهيم ) قال شارحه عند الأول : قال شيخنا وكأنهم جعلوه عربيا وتصرفوا فيه بالتصغير وإلا فالأعجمية لا يدخلها شيء من التصرف بالكلية.
وقد ثبت عند علماء العاديات والآثار القديمة أن عرب الجزيرة قد استعمروا منذ فجر التاريخ بلاد الكلدان ومصر وغلبت لغتهم فيهما، وصرح بعضهم بأن الملك حمورابي الذي كان معاصرا لإبراهيم عليه الصلاة والسلام عربي. وحمورابي هذا هو ملكي صادق ملك البر والسلام ووصف في العهد العتيق بأنه كاهن الله العلي وذكر فيه أنه بارك إبراهيم وأن إبراهيم أعطاه العشر من كل شيء. ومن المعروف في كتب الحديث والتاريخ العربي إن إبراهيم أسكن ابنه إسماعيل مع أمه هاجر المصرية عليهم السلام في الوادي الذي بنيت فيه مكة بعد ذلك وأن الله تعالى سخر لهما جماعة من جرهم سكنوا معهما هنالك وأن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان يزورهما وأنه هو وولده إسماعيل بنيا بيت الله المحرم ونشرا دين الإسلام ؛ في البلاد العربية.
فيظهر من ذلك أن العربية القديمة هي لغة إبراهيم وهاجر ولغة حمورابي وقومه ولغة قدماء المصريين أو اللغة الغالية في ذينك القطرين، وأنها على ما كان فيها من الدخليل الكلداني والمصري كانت قريبة جدا من العربية الجرهمية ولذلك كان الذين ساكنوا هاجر من جرهم يفهمون منها وتفهم منهم. وقد ثبت في صحيح البخاري أن إبراهيم زار إسماعيل مرة فلم يجده وتكلم مع امرأته الجرهمية ولم تعجبه ثم زاره مرة أخرى فلم يجده وكانت عنده امرأة أخرى فتكلم معها فأعجبته. وقد ورد أيضا أن لغة إسماعيل كانت أفصح من لغة جرهم فهي أم اللغة المصرية التي فاقت بفصاحتها وبلاغتها سائر اللغات أو اللهجات العربية، ثم ارتقت في عهد قريش من ذريته بما كانوا يقيمونه لها من أسواق المفاخرة في موسم الحج، ثم كملت بلاغتها وفصاحتها بنزول القرآن المجيد المعجز للخلق بها.
وأما أبو إبراهيم فقد سماه الله تعالى في الآية الأولى من هذه الآيات ( آزر ) وفي سفر التكوين أن اسمه ( تارح ) بفتح التاء وحاء مهملة وقالوا إن معناه ( متكاسل ) ومن الغريب أن نرى أكثر المفسرين والمؤرخين واللغويين منا يقولون إن اسمه تارخ بالخاء المعجمة أو المهملة وإن آزر لقبه أو اسم أخيه أو أبيه أو صنمه، ونقل عن الزجاج والفراء أنه ليس بين النسابين والمؤرخين اختلاف في كون اسمه تارخ أو تارح. ولا نعرف لهذه الأقوال أصلا مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولا منقولا على العرب الأولين، وإنما هو منقول فيما يظهر عمن دخل في الإسلام من أهل الكتاب كوهب بن منبه وكعب الأحبار اللذين أدخلا على المسلمين كثيرا من الإسرائيليات – فتلقوها بالقبول على علاتها، وعن مقاتل بن سليمان المجروح بالكذب الذي قال ابن حبان فيه كان يأخذ من اليهود والنصارى من علم القرآن الذي يوافق كتبهم.
ففي التفسير المأثور عن مجاهد قال : آزر لم يكن بأبيه ولكنه اسم صنم – وعن السدى اسم أبيه تارح واسم الصنم آزر – وعن ابن عباس في إحدى الروايتين عنه قال : آزر الصنم وأبو إبراهيم اسمه يازر، وفي الأخرى أن أبا إبراهيم لم يكن اسمه آزر وإنما اسمه تارح. رواهما عنه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ – وعن ابن جريج أن اسمه تيرح. وجزم الضحاك بأن اسمه آزر واعتمده ابن جرير، وروي عن الحسن أيضا. وقال البخاري في التاريخ الكبير : إبراهيم ابن آزر وهو في التوراة تارح والله سماه آزر وإن كان عند النسابين والمؤرخين اسمه تارخ ليعرف بذلك. اه فقد اعتمد أن آزر هو اسمه عند الله أي في كتابه، فإن أمكن الجمع بين القولين فيها وإلا رددنا قول المؤرخين وسفر التكوين لأنه ليس حجة عندنا حتى نعتد بالتعارض بينه وبين ظواهر القرآن بل القرآن هو المهمين على ما قبله نصدق ما صدقه ونكذب ما كذبه ونلزم الوقف فيما سكت عنه حتى يدل عليه دليل صحيح.
وأضعف ما قالوه في الجمع بين القولين إن آزر اسم عمه بناء على أن العرب تسمي العم أبا مجازا وهذه الدعوى لا تصح على إطلاقها، وإنما يصح ذلك حيث توجد قرينة يعلم منها المراد ولا قرينة هنا ولا في سائر الآيات التي ذكر فيها من غير تسمية، ويليه في الضعف قول بعضهم إنه كان خادم الصنم المسمى بآزر فأطلق عليه من باب حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مكانه. وأقواه أن له اسمين أحدهما علم والآخر ولقب. والظاهر حينئذ أن يكون تارح هو اللقب لأن معناه المتكاسل وهو لقب قبيح قلما يطلقه أحد ابتداء على ولده وإنما يطلق مثله على المرء بعد ظهور معناه فيه أو رميه به، إلا أن يصح ما زعمه من عكس فجعل آزر هو اللقب بناء على أن معناه في لغتهم المخطئ أو المعوج أو الأعوج أو الأعرج – ولعله تحريف عما قبله – وقيل إنه الشيخ الهرم بالخوارزمية.
بعد كتابة ما تقدم راجعت ( روح المعاني ) للآلوسي والتفسير الكبير ( مفاتيح الغيب ) للرازي فأحببت أن أنقل عنهما ما يأتي :
قال الآلوسي : وعلى القول بالوصفية يكون منع صرفه للحمل على موازنه وهو فاعل المفتوح العين فإنه يغلب منع صرفه لكثرته في الأعلام الأعجمية، وقيل الأولى أن يقال إنه غلب عليه فألحق بالعلم وبعضهم يجعله نعتا مشتقا من الأزر بمعنى القوة أو الوزر بمعنى الإثم، ومنع صرفه حينئذ للوصفية ووزن الفعل لأنه على وزن أفعل.
وقال الرازي بعد أن ذكر قول الزجاج باتفاق علماء النسب على أن اسم أبي إبراهيم تارح : ومن الملحدة من جعل هذا طعنا في القرآن وقال هذا النسب خطأ وليس بصواب. ثم ذكر أن للعلماء ههنا مقامين أحدهما رد الاستدلال بإجماع النسابين على أن اسمه كان تارح قال : لأن ذلك الإجماع إنما حصل لأن بعضهم يقلد بعضا وبالآخرة يرجع ذلك الإجماع إلى قول الواحد والاثنين مثل قول وهب وكعب وأمثالهما وربما تعلقوا بما يجدونه من أخبار اليهود والنصارى ولا عبرة بذلك في مقابلة صريح القرآن اه وقد بينا لك مأخذه وإنه لا إجماع في المسألة. ثم ذكر المقام الثاني وهو تسليم قولهم والجمع بينه وبين نص القرآن بما نقلناه عنهم آنفا وبينا قويه من ضعفيه.
ومن الناس من استدل على أن آزر لم يكن والد إبراهيم صلى الله عليه وسلم بل عمه بالجزم بأن آباء الأنبياء كافة أو نبينا خاصة لم يكونوا كفارا وبأن إبراهيم خاطب آزر بالغلظة والجفاء ولا يجوز ذلك من الأنبياء. وقد عزا الرازي هذا القول إلى الشيعة وأطال في بيانه واختصر في بيان ( زعم أصحابه ) – أي الأشاعرة أو أهل السنة كافة – إن آزر كان والد إبراهيم وكان كافرا وفي ردهم قول الشيعة. وقال الآلوسي : والذي عول عليه الجم الغفير من أهل السنة أن آزر لم يكن والد إبراهيم عليه السلام وادعوا أنه ليس في آباء النبي صلى الله عليه وسلم كافر أصلا لقوله عليه الصلاة والسلام « لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات» والمشركون نجس، وتخصيص الطهارة بالطهارة من السفاح لا دليل له يعول عليه والعبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، وقد ألفوا في هذا المطلب الرسائل واستدلوا له بما استدلوا. والقول بأن ذلك قول الشيعة كما ادعاه الإمام الرازي ناشئ من قلة التتبع. وأكثر هؤلاء على أن آزر اسم لعم إبراهيم عليه السلام وجاء إطلاق الأب على الجد في قوله تعالى :﴿ أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي ؟ قالوا نعبد إلهك وآله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ﴾ [ البقرة : ١٣٣ ] وفيه إطلاق الأب على الجد أيضا. وعن محمد بن كعب ا
وأما ما يترتب على ذلك من الاهتداء إلى وجه الحجة والاستدلال فقوله عز وجل :﴿ فلما جن عليه الليل رءا كوكبا ﴾. الخ قال الراغب أصل الجن ستر الشيء عن الحاسة يقال جنه الليل وأجنه وأجن عليه فجنه ستره وأجنه جعل له ما يجنه كقولك قبرته وأقبرته وسقيته وأسقيته، وجن عليه كذا ستر عليه اه ومنه الجن والجنة بالكسر والجنة بالضم وهي الستر يستر به ما يحاول العدو ضربه من الوجه والرأس وغيرهما، والجنة بالفتح وهي البستان الذي يستر أرضه من الشمس. والكوكب والكوكبة واحد الكواكب وهي النجوم. والفلكيون يطلقون المؤنث على المجموعة المعينة منها والعرب تطلقه على الزمرة كما غلب إطلاق النجم معرفا على الثريا، ولم ينقل إلينا تأنيث النجم والعامة تقول نجمة.
والمعنى أن الله تعالى لما بدأ يريه ملكوت السموات والأرض تلك الإراءة التي عللها بما تقدم آنفا، كان من أول أمر في ذلك أنه لما أظلم عليه الليل، وستره أو ستر عنه ما حوله من عالم الأرض، نظر في ملكوت السماء فرأى كوكبا عظيما ممتازا على سائر الكواكب بإشراقه وجذب النظر إليه- يدل على ذلك تنكير الكوكب- وقد روي عن ابن عباس أنه المشتري الذي هو أعظم آلهة بعض عباد الكواكب من قدماء اليونان والروم، وكان قوم إبراهيم سلفهم وأئمتهم في هذه العبادة، وعن قتادة أنه الزهرة. فماذا قال لما رآه ؟ ﴿ قال هذا ربي ﴾ أي مولاي ومدير أمر، قيل إنه قال ذلك في مقام النظر والاستدلال لنفسه، وقيل في مقام المناظرة والحجاج لقومه، واعتمد من قال بالأول على ما روي في التفسير المأثور من عبادته عليه الصلاة والسلام لهذه الكواكب في صغره اتباعا لقومه حتى أراه الله تعالى بعد كمال التمييز حجته عل بطلان عبادتها، والاستدلال بأفولها وتعددها وغير ذلك من صفاتها على توحيد خالقها، وأن ذلك كله كان قبل النبوة ودعوتها.
ومنه قصة طويلة مروية عن محمد بن إسحاق فيها أن إبراهيم صلى الله عليه وسلم ولدته أمه في مغارة أخفته فيها خوفا عليه من ملكهم نمرود بن كنعان أن يقتله إذا كان أخبره المنجمون بأن سيولد في قريته غلام يفارق دينهم ويكسر أصنامهم فشرع يذبح كل غلام ولد في الشهر الذي وصف أصحاب النجوم من السنة التي عينوا، وفيها أن إبراهيم كان يشب في اليوم كما يشب غيره في شهر وفي الشهر كما يشب غيره في سنة وأنه طلب من أمه بعد خمسة عشر يوما من ولادته أن تخرجه من المغارة فأخرجته عشاء فنظر وتفكر في خلق السموات والأرض- وذكر رؤيته للكوكب فالقمر فالشمس... ولا شك في أن هذه القصة موضوعة لهذه المسألة وأن ابن إسحاق أخذها عن بعض اليهود الذين كانوا يلقنون المسلمين أمثال هذه القصص ليلبسوا عليهم دينهم فتبطل ثقة يهود وغيرها بهم. وروى نحوه أبو حاتم عن السدي. والسدي المفسر كذاب معروف كما قال علماء الحديث واسمه محمد بن مروان.
وأما ما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس من تفسير « هذا ربي » بالعبادة فلا يصح وهو من مراسيل علي بن طلحة مولى بني العباس وقد روى عن ابن عباس تفسيرا كثيرا ولم يره وقال فيه أحمد بن حنبل : له أشياء منكرات. وقال الحافظ في تهذيب التهذيب : صدوق يخطئ. ومعاوية بن أبي صالح الراوي عنه من رجال مسلم وقد لينه ابن معين وقال أبو حاتم لا يحتج به. ولم يرضه البخاري ولا ابن القطان، فكيف يؤخذ بروايته عن ابن عباس أن إبراهيم خليل الرحمان كان في صغره مشركا ؟ وهذا إذا فرضنا أن السند إليه صحيح.
ومن العجيب أن ابن جرير اختار هذا القول مع تقريره القول المقابل له على أحسن وجه وهو الذي جزم به الجمهور من كان مناظرا لقومه فقال ما قال تمهيدا للإنكار عليهم، فحكى مقالتهم أولا حكاية استدرجهم بها إلى سماع حجته على بطلانها، إذ أوهمهم أنه موافق لهم على زعمهم، ثم كر عليه بالنقض، بانيا دليله على قاعدة الحسن ونظر العقل، وقيل إنه استفهام إنكار أو تهكم واستهزاء حذفت أداته، أي أهذا ربي الذي يجب علي أن أعبده ؟ وقيل أراد : هذا ربي بزعمكم، أو إنكم تقولون هذا ربي وذلك مما لا يلتئم مع ما يأتي في الشمس، ولا يقبله الذوق.
أما ابن جرير فاحتج أولا بالرواية وقد علمت أنها لا تصلح حجة على دعوى شرك الخليل عليه الصلاة والسلام ولو في الصغر على أنها مطلقة- وثانيا بالعبارة التي قالها بعد أفول القمر، وسترى حسن توجيهها على الوجه الآخر. وأما الجمهور فاحتجوا بحجج كثيرة أطال الإمام الرازي في تعدادها وفي أكثر ما أورده نظر ظاهر. وأقوى حجتهم السياق من حيث تشبيه إراءة الله تعالى إياه هذا الملكوت وما يترتب عليه من إبطال ربوبية الكواكب بإراءته ضلال أبيه وقومه في عبادة الأصنام- ومن إسناد هذه الإراءة إلى الله تعالى الدال على تمييز ما رأى بها على ما كان يرى قبلها- ومن تعليل الإراءة بما تقدم- ومن التعقيب على ذلك بمحاجة قومه وقوله تعالى إنه آتاه الحجة عليهم.
﴿ فلما أفل قال لا أحب الآفلين ( ٧٦ ) ﴾ أي فلما غرب هذا الكوكب واحتجب، قال لا أحب من يغيب ويحتجب، ويحول بينه وبين محبه الأفق أو غيره من الحجب، وأشار بقوله الآفلين إلى أن هذا الكوكب فرد من أفراد جنس كله يغيب ويأفل، والعاقل السليم الفطرة والذوق لا يختار لنفسه حب شيء يغيب عنه، ويوحشه فقد جماله وكماله، حتى في الحب الذي هو دون حب العبادة، فإن أحب شيئا من ذلك بجاذب الشهوة دون الاختيار، فلا يلبث أن يسلو عنه بنزوح الدار، والاحتجاب عن الأبصار، إلا أن يصير حبه من هوس الخيال، وفنون الجنون والخبال، وأما حب العبادة الذي هو أعلى الحب وأكمله لأنه من مقتضى الفطرة السليمة والعقل الصحيح، فلا يجوز أن يكون إلا للرب الحاضر القريب، السميع البصير الرقيب، الذي لا يغيب ولا يأفل، ولا ينسى ولا يذهل، الظاهر في كل شيء بآياته وتجليه، الباطن في كل شيء بحكمته ولطفه الخفي فيه ﴿ لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير ﴾ [ الأنعام : ١٠٣ ] ولكن تشاهده البصائر بآثار صفاته في الخلق والتقدير، وسلطانه في التصرف والتدبير، وما كان ليخفى على الخليل الأول ما قاله الخليل الثاني في مقام الإحسان، وما ملته إلا عين ملته في الإسلام والإيمان، وهو « أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك »١ فكيف يعبد هذه الكواكب التي تأفل وتحجب عن عابديها، ويخفى حالهم عليها ؟
وقد فسر بعض النظار وعلماء الكلام الأفول بالانتقال من مكان إلى مكان وجعلوا هذا هو المنافي للربوبية لدلالته على الحدوث أو الإمكان، وهو تفسير للشيء بما قد يباينه فإن المحفوظ عن العرب أنها استعملت الأفول في غروب القمرين والنجوم وفي استقرار الحمل وكذا اللقاح في الرحم فعلم أن مرادها من الأول عين مرادها من الثاني وهو الغيوب والخفاء، وقد يتحول الشيء وينتقل من مكان إلى آخر وهو ظاهر غير محتجب. وفسره بعضهم بالتغير ليجعلوه علة الحدوث المنافي للربوبية أيضا، وهو غلط كسابقه فإن الشمس والقمر والنجوم لا تتغير بأفولها، ومذهب المتأخرين من علماء الفلك- وهو الصحيح- أن أفولها إنما يكون بسبب حركة الأرض لا بحركتها هي، وأن حركتها على محاورها وحركة السيارات من المغرب إلى المشرق ليست من سبب أفولها المشاهد في شيء.
وفي الكلام تعريض لطيف بجهل قومه في عبادة الكواكب بأنهم يعبدون ما يحتجب عنهم، ولا يدري شيئا من أمر عبادتهم، وهو يقرب من قوله لأبيه بعد ذلك ﴿ لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا ﴾ ولا يظهر هذا التعريض على قول النظار في تفسير الأفول فإن قوم إبراهيم لم يكونوا على شيء من هذه النظريات الكلامية بل كانوا يعبدون الأفلاك قائلين بربوبيتها، وبقدمها مع حركتها، وما زال الفلاسفة والفلكيون يقولون بقدم الحركة وأزليتها وعلماء الكون في هذا العصر يعدون الحركة مبدأ وجود كل شيء، وأنها ملازمة للوجود المطلق من الأزل إلى الأبد.
وقد كان الزمخشري من أولئك النظار وقد قال بعد ما يأتي في القمر والشمس :« فإن قلت » لم احتج عليهم بالأفول دون البزوع وكلاهما انتقال من حال إلى حال ؟ « قلت » الاحتجاج بالأفول أظهر لأنه انتقال مع خفاء واحتجاب اه وقال ابن المنير إنه من عيون نكته ووجوه حسناته، اه والصواب أن الكلام كان تعريضا خفيا، لا برهانا نظريا جليا، وأن وجه منافاة الربوبية فيه هو الخفاء والاحتجاب والتعدد، وأن البزوغ والظهور لم يجعل فيه مما ينافي الربوبية بل بني عليه القول بها، فإن من صفات الرب أن يكون ظاهرا وإن لم يكن ظهوره كظهور غيره من خلقه كما علم مما تقدم آنفا.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وفي الآيات قراءات لا تتعلق بالمعنى كفتح ياء أني وسكونها وإمالة رأي وكسر الراء والهمزة فيها، ولكن قراءة يعقوب ضم آزر على النداء فهي دليل على كونه اسما علما لأن حذف حرف النداء خاص بالعلم في الفصيح وغيره شاذ.
مسائل متممة لتفسير الآيات
المسألة الأولى في عقائد قوم إبراهيم صلى الله عليه وسلم
تقدم أنهم كانوا يعبدون الكواكب والأصنام. وقال ابن زيد أنهم كانوا يعبدون الله تعالى أيضا ويشركون ما ذكر به. وكل ذلك صحيح دلت عليه آثار الكلدانيين التي اكتشفت في العراق. وقد أثبت بيروسوس وسنيلوس أن علماءهم وكهانهم كانوا يعرفون حقيقة التوحيد ولكن كانوا يدينون بها في أنفسهم ولا يبيحونها للعامة، وأن اليونان أخذوا هذا النفاق عنهم، ولعل الصواب أن الذين أخذوا عنهم أولا هم قدماء المصريين فقد كان التوحيد منتهى علم حكمائهم وكانوا يكتمونه عن العامة لأن استعباد الملوك الذين هم أعوانهم لها لا يدوم إلا بالوثنية كما يعلم مما بيناه في التفسير وغيره مرارا، واليونان اقتبسوا من القدماء المصريين، على أن هنري رولنسن من مدققي مؤرخي أوروبا قال إن أمة من ضفاف الدجلة والفرات ارتحلت إلى أوروبا بتلك العقائد منقوشة في صفائح الآجر.
من آلهة الكلدانيين ( إلْ ) وهي كلمة سامية عرفت في العربية والسريانية والعبرانية. قال صاحب القاموس : والإل الربوبية واسم الله تعالى. وكل اسم آخره إل وإيل فمضاف إلى الله تعالى. وقال أل المريض والحزين يئل ألا وأللا أن وحن ورفع صوته بالدعاء. وقال في مادة :( أي ل : إيل بالكسر اسم الله تعالى ). وفي لسان العرب بحث في كون الإل من أسماء الله تعالى ولكنه نقله عن ابن سيده ثم قال : والإل الربوبية والأل بالضم الأول في بعض اللغات وليس من لفظ الأول. ثم قال في ( إيل ) : من أسماء الله عز وجل عبراني أو سرياني. ثم نقل عن ابن الكلبي أن جبرائيل وشراحيل وأشباههما كشرحبيل تنسب إلى الربوبية « لأن إيلا لغة في إل وهو الله عز وجل كقولهم عبد الله وتيم الله».
أقول : ونقل مثله في ( إل ) وضعفه بمنع جبريل وما أشبهه من الصرف أي دون شرحبيل وشهميل من أسماء العرب، ونقل عن أبي منصور أنه يجوز أن يكون إيل عرب فقيل إل ثم قال في مادة ( ال ه ) وقد سمت العرب الشمس لما عبدوها إلاهة، والإلهة الشمس الحارة حكي عن ثعلب، والإلهية والإلاهة ( بالفتح والكسر ) وألاهة ( مضمومة الهمزة غير معرفة ) كله الشمس الخ ثم ذكر أن : الإلاهة والألوهة والألوهية العبادة. وذكر عند تفسير الإله بالمعبود في أول المادة قولهم : إله بين الآلهة والإلهية والإلهانية وأن أصله من أله ياله ( من باب علم ) إذا تحير.
هذا وإن دلالة مادة ال ه على العبادة والمعبود سامية قديمة منقولة عن الكلدانيين وغيرهم. قال البستاني في دائرة المعارف عند تعريف ( الله ) بأنه اسم للذات الواجب الوجود المستحق لجميع المحامد – أي كما قال علماء المسلمين - : وهو بالعبرانية ألوهيم بصيغة الجمع تعظيما لا تكثيرا. وقد يطلق على غير لله، ويهوه أي الكائن وهو خاص به تعالى. وإيل أي القدير. وبالسريانية ألوهة وبالكلدانية إلاها اه. وفي تواريخ المتأخرين المؤيدة بالعاديات ( الآثار القديمة ) أن أعظم أرباب الكلدانيين وآلهتهم ( إيل – أو – إل ) فهو رب الأرباب وأصل الآلهة، وليس له تمثال ولا صورة في معابدهم. والظاهر أنهم كانوا يعتقدون مما ورثوا من دين نوح عليه السلام أنه منزه عن صفات الخلق وتخيلاتهم. وروى ديودورس عن فيلو أنه مرادف لزحل، ولا يصح هذا إلا أن يراد بزحل أبو المشتري كما قيل ذلك وقد أشاروا إلى الإيمان به في عصور قدماء ملوكهم، ومما قالوا عنه في أقدم الخرافات أنه أولد ولدين ( أنا ) و ( بيل ) و ( أنا ) هذا هو رأس ( الثالوث ) الكلداني وقيل إن هذا الاسم بمعنى اسم الجلالة ( الله ) ويقولون أنو إذا كان فاعلا وأنا إذا كان مفعولا وأني إذا كان مضافا إليه. ومن ألقابه عندهم – القديم والرأس الأصلي وأبو الآلهة ورب الأرواح والشياطين وملك العالم الأسفل وسلطان الظلام أو رأس لموت. ووجدت آثار عبادته في مدينة ( أرك ) وهي الوركاء. قال ياقوت : الوركاء موضع بناحية الروابي ولد به إبراهيم الخليل عليه السلام. وقد بنى أحد ملوكهم معبدا له ولابنه ( قول ) في أشور سنة ١٨٣٠ قبل المسيح فصار اسم هذه المدينة بعد ذلك ( تلان ) وأصله ( تل أنا ) وجاء ذكره في آجر للملك ( أوركه ) اكتشفت في أنقاض ( أم قبر ) هذه ترجمته :« إن إله القمر ابن شقيق ( أنو ) وبكر ( بعلوس ) قد حمل ( أروكه ) الرئيس التقي ملك ( أور ) على بناء هيكل ( تسين كاثو ) معبدا مقدسا له».
والثاني من ثالوثهم ( بلوس – أو – بيل ) ولعلهما محرفان عن ( بعل ) و ( بعلوس ) ومن أسمائهم ( أنو ) و ( إيل أنيو ) ومعناه السيد. وتلحق غالبا بلفظ ( نيبرو ) ومؤنثها ( نيبروث ) وهي قريبة من كلمة ( نمرود ) التي هي في ترجمة التوراة السبعينية ( نبروث ) وكلمة ( نيبرو ) مشتقة من كلمة نابار السريانية ومعناها طارد، وتدل مادة نبر في العربية على الارتفاع فنبر رفع والنبرة الشيء المرتفع ففيها معنى الشرف. ومعناها في الأشورية يقارب معناها في السريانية ( فبيل نبرو ) بمعنى السيد الصياد أو رب الصيد – ولذلك قيل إنه نمرود المذكور في العهد العتيق، ويقولون إنه كان يصيد الوحوش. وهو بعلوس الذي ذكر مؤرخو اليونان أنه باني مدينة ( بابل ) وملكها الكلدانيون يعبدون ( نمرود ) مدة وجود دولتهم وكانوا يكنونه بأبي الآلهة ويكنون زوجه المسماة ( موليتا – أو – أنوتا ) بأم الآلهة العظام. ولكن وصفت في بعض الآثار بأنها زوج ( نين ) وهو ابنها وفي بعضها أنها زوج ( أشور ) ولها ألقاب عظيمة ووجد لها عدة هياكل.
والثالث من ثالوثهم ( حوا- أو- حيا ) وهو حيوان بعضه كالإنسان وبعضه كالسمك زعموا أنه خرج من خليج فارس ليعلم سكان ضفاف النهرين علم الفلك والأدب، ونسب إليه اختراع حروف الهجاء، وقد وجد اسمه على صحيفة من الآجر وجدت في خرائب ( أور ) ويرى بعض الباحثين أن اسمه من مادة الحياة العربية أو الحية، وشعاره في القلم الكلداني الشكل الأسفيني. ومنه رسم الحية للدلالة على منتهى الذكاء والحكمة والإشارة إلى الحياة. وله ألقاب عظيمة.
وكان للكلدان ( ثالوث ) آخر أحد آلهته ( سيني ) وهو القمر وهذا الاسم سامي فاسم القمر بالسريانية سين وكذا في السنسكريتية، ومن ألقابه زعيم الأرباب في السماء والأرض ( وبعل رونا ) أي رب البناء، وكانوا يصورونه في جميع تطوراته منذ يكون هلالا، وله هياكل كثيرة وأعظم معابده في ( أور ). والثاني ( سان ) أو ( سانسي ) وهو الشمس، والاسم سامي أيضا ومنه السنا بالعربية وهو بالقصر الضياء وقيل ضوء النار والبرق والصواب أنه أعم قال تعالى ﴿ هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا ﴾ [ يونس : ٥ ] ومنه ( شاني ) بالعبرية ومعناها لامع، واسم الشمس ضياء باللغة السنسكريتية ( سيونا ) ومن ألقاب هذا الإله : رب النار ونير الأرض والسماء. وكان له هياكل في المدن الكبيرة وأشهرها ( بيت بارا ) وبارا أو فرا اسم الشمس بالمصرية القديمة وكان اسم ( هليبوليس ) عندهم ( سيبارا ) وتسمى في الآثار ( تسيبار شاشاماس ) ومعنى الثلاثة مدينة الشمس. وللشمس زوجة عندهم يسمونها ( أي ) و ( كولا ) و( أنونيت ). وثالث الثلاثة ( فول ) أو ( أيفا ) أي الهواء وهو رب الجو القاتم بتسخير الرياح والعواصف والأعاصير المتصرف في الزراعة والمواسم. ومن هياكله بناه الملك ( شماش فول ) الذي ملك الكلدان سنة ١٨٥٠ قبل المسيح.
وهذه الأخبار والآثار تشهد بصدق القرآن، وكونه حجة لله على الأنام، لأن من جاء به أمي لم يقرأ شيئا من كتب الأولين، ولا رأى أثرا من آثار الغابرين، فيعلم منها خبر معبوداتهم. ولا يرد عليه ما أورد على العهد العتيق من كون كاتبه ( عزرا الكاهن ) كتبه بعد السبي فاقتبس فيه كثيرا من تقاليد البابليين.
المسألة الثانية : معنى الرب والإله وشبهة الشرك وكونه قسمان
ظاهر ما حكاه الله تعالى عن إبراهيم صلى الله عليه وسلم أن قومه كانوا يتخذون الأصنام آلهة لا أربابا ويتخذون الكواكب أربابا آلهة، فالإله هو المعبود فكل من عبد شيئا فقد اتخذه إلها، والرب هو السيد المالك والمربي والمدبر والمتصرف، وليس للخلق رب ولا إله إلا الله الذي خلقهم، فهو المالك لكل شيء في كل زمن وكل حال وملكه حقيقي تام، وملك غيره عرفي ناقص موقوت، له أجل محدود، وهو المعبود بحق، إذ العبادة الحق لا تكون إلا للرب، فإن العبادة هي التوجه بالدعاء وكل تعظيم قولي أو عملي إلى ذي السلطان الأعلى على عالم الأسباب وما هو فوق الأسباب، لأنه هو الموجد لها والمتصرف فيها، فهي خاضعة لسلطانه وكل ما عداه فهو خاضع لسلطانها بل سلطانه فيها. والأصل في اختراع كل عبادة لغيره تعالى أمران :
أحدهما : أن بعض ضعفاء العقول رأوا بعض مظاهر قدرته تعالى في بعض خلقه فتوهموا أن ذلك ذاتي لهذا المخلوق ليس خاضعا لسنن الله في الأسباب والمسببات لقصر إدراكهم عن الوصول إلى كون القدرة الذاتية خاصة بخالق كل شيء الذي أعطى كل شيء خلقه وما امتاز به على غيره، وكون خفاء سبب الخصوصية لا يقتضي عدم خضوع صاحبها لسنن الخالق فيها وفي غيرها من شؤونه ( أي شؤون صاحب الخصوصية ) ووثنية هؤلاء هي الوثنية السافلة.
ثانيهما : اتخاذ بعض المخلوقات ذات الخصوصية في مظاهر النفع والضر، وسيلة إلى الرب الإله الحق، تشفع عنده وتقرب إليه كل من توجه إليها، أو التماثيل والأصنام والقبور وغيرها مما يمثلها أو يذكر بها، فيتوسل ذو الحاجة بدعائها وتعظيمها بالقول أو الفعل لأجل حمله تعالى بتأثيرها عنده، على قبوله وإعطائه سؤله، وهذا التوسل توجه إلى غير الله مبني على اعتقاد عدم انفراد الرب بالاستقلال بقضاء الحاجات، وكونه يفعل بتأثير الوسيلة في إرادته، وهذا شرك في العبادة ينافي الحنيفية. وهذه هي الوثنية الراقية التي كانت العرب عليها في زمن البعثة، ولذلك كانوا يقولون في طوافهم :( لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك ).
وكان بعض قوم إبراهيم صلى الله عليه وسلم قد ارتقوا في وثنيتهم إلى هذه المرتبة في الجملة أو أوشكوا، إذ أنهم عقلوا أن الأصنام لا تسمع دعاءهم ولا تبصر عبادتهم، ولا تقدر على نفعهم ولا ضرهم، وإنما قلدوا بعبادتها آباءهم، كما يعلم من محاجته صلى الله عليه وسلم لهم في سورة الشعراء ( ٢٦ : ٦٩ ) الخ ولذلك اتخذوها آلهة معبودين، لا أربابا مدبرين، ولكنهم اتخذوا الكواكب أربابا لما لها من التأثير السببي أو الوهمي في الأرض، وتوسعوا في إسناد التأثير إليها حتى اخترعوا من ذلك ما لا شبهة له، فكانوا يعتقدون أن الشمس رب النار ونير الأرض والسماء يدبر الملوك ويفيض عليهم روح الشجاعة والإقدام وينصر جندهم ويخذل عدوهم ويمزقه كل ممزق – ويعتقدون نحو ذلك في زحل واسمه ( بيني ) ويعتقدون أن مرداخ، وهو المشتري، شيخ الأرباب ورب العدل والأحكام حافظ الأبواب التي يدخلها الخصوم لفصل الخصومات، وأن ( رنكال ) وهو المريخ كمي الأرباب ورب الصيد وسلطان الحرب، فهو يشترك مع زحل في تدبيره إلا أن هذا هو المقدم في الصيد وذاك المقدم في الحرب، وأن عشتار ( أو نانا ) وهي الزهرة ربة الغبطة والسعادة ومفيضة السرور على الناس، وتمثل في الآثار بامرأة عارية. وأن (


١ أخرجه البخاري في الإيمان باب ٣٧، وتفسير سورة ٣١، باب ٢، ومسلم في الإيمان حديث ١، ٥، وأبو داود في السنة باب ١٦، والترمذي في الإيمان باب ٥، ٦، وابن ماجه في المقدمة باب ٩، وأحمد في المسند ٢/٤٢٦، ٤/١٢٩، ١٦٤..
﴿ *وإذ قال إبراهيم لأبيه ءازر أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين ٧٤ وكذالك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين ٧٥ فلما جن عليه الليل رءا كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين ٧٦ فلما رءا القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين ٧٧ فلما رءا الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يقوم إني بريء مما تشركون ٧٨ إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين٧٩ ﴾
بدأ الله سبحانه هذه السورة بعد حمد نفسه ببيان أصول الدين ومحاجة المشركين فبين استحقاقه للعبادة وحده وإشراكهم به وتكذيبهم بالآيات التي أيد بها رسوله ورد ما لهم من الشبهة على الرسالة ثم لقن رسوله طوائف من الآيات البينات في إثبات التوحيد والرسالة والبعث مبدوءة بقوله :﴿ قل. قل ﴾ ثم أمره في هذه الآيات بالتذكير بدعوة أبيه إبراهيم عليهما الصلاة والسلام إلى مثل ما دعا إليه من التوحيد وتضليل عبدة الأصنام وما أراه الله من ملكوت السماوات والأرض وما استنبطه هو منه من آيات التوحيد وبطلان الشرك وإقامة الحجة على أهله، تأييدا لمصداق دعوته في سلالة ولده إسماعيل، عليهم الصلاة والتسليم. ولإبراهيم المكانة العليا من إجلال الأمة العربية كما أن اليهود والنصارى متفقون على إجلاله. وإننا نقدم لتفسير الآيات مقدمة في أصل إبراهيم ومسألة كفر أبيه آزر وحكمة الله تعالى فيما قصه عنه فنقول :
مقدمة في أصل إبراهيم عليه الصلاة والسلام ومسألة كفر أبيه
إبراهيم : هو الاسم العلم لخليل الرحمان أبي الأنبياء الأكبر من بعد نوح عليهم الصلاة والسلام، ويؤخذ من سفر التكوين – وهو السفر الأول من أسفار العهد العتيق – أنه العاشر من أولاد سام بن نوح وأنه ولد في ( أور الكلدانيين ) : وهي بلدة من بلاد الكلدان. و( أور ) بضم الهمزة وسكون الواو ومعناها في الكلدانية النور أو النار كما قالوا، قيل هي البلدة المعروفة الآن باسم ( أورفا ) في ولاية حلب كما رجح بعض المؤرخين وقيل غيرها من البلاد الواقعة في جزيرة العراق بين النهرين وفي أقطار العالم القديم بلاد ومواقع كثيرة مبدوءة أسماؤها بكلمة ( أور ) واقعة مع ما بعدها موقع المضاف من المضاف إليه، وأشهرها ( أورشليم ) لمدينة القدس قالوا إن معناها ملك السلام أو إرث السلام فشليم بالعبرية هي السلام بالعربية. وفي بعض التواريخ العربية أنه من قرية اسمها ( كوثى ) من سواد الكوفة. وكان اسم إبراهيم ( أبرام ) بفتح الهمزة وقالوا إن معناه ( أبو العلاء ) فهو مركب من كلمة أب العربية السامية مضافة إلى ما بعدها.
وفي سفر التكوين أن الله تعالى ظهر له في سن التاسعة والتسعين من عمره وكلمه وجدد عهده له بأن يكثر نسله ويعطيه أرض كنعان ( فلسطين ) ملكا أبديا وسماه لذريته ( إبراهيم ) بدل ( أبرام ) وقالوا إن معنى إبراهيم ( أبو الجمهور ) العظيم أي أبو الأمة. وهو بمعنى تبشير الله تعالى إياه بتكثير نسله من إسماعيل ومن إسحاق عليهم الصلاة والسلام، ولا ينافي ذلك كسر همزته فقد علم أن أصلها الفتح وأن إب المكسورة في إبراهيم هي أب المفتوحة في أبرام. فالجزء الأول منه عربي والثاني كلداني أو من لغة أخرى من فروع السامية أخوات العربية التي هي أعظمها وأوسعها حتى جعلها بعض علماء اللغات هي الأصل والأم لسائر تلك الفروع السامية كالعبرية والسريانية. وذكر رواة العربية في هذا الاسم سبع لغات عن العرب وهي إبراهيم وأبراهام وأبراهوم وأبراهم مثلثة الهاء وأبرهم بفتح الهاء بلا ألف. وصرح بعضهم بأنه سرياني الأصل ثم نقل وبعضهم بأن معناه أب راحم أو رحيم، وعلى هذا يكون جزآه عربيين بقلب حائه كما يقلبها جميع الأعاجم الذين لا ينطقون بالحاء المهملة كالإفرنج وتركيبه مزجي. وفي القاموس المحيط كغيره ( أن تصغيره بريه أو أبيره وبريهيم ) قال شارحه عند الأول : قال شيخنا وكأنهم جعلوه عربيا وتصرفوا فيه بالتصغير وإلا فالأعجمية لا يدخلها شيء من التصرف بالكلية.
وقد ثبت عند علماء العاديات والآثار القديمة أن عرب الجزيرة قد استعمروا منذ فجر التاريخ بلاد الكلدان ومصر وغلبت لغتهم فيهما، وصرح بعضهم بأن الملك حمورابي الذي كان معاصرا لإبراهيم عليه الصلاة والسلام عربي. وحمورابي هذا هو ملكي صادق ملك البر والسلام ووصف في العهد العتيق بأنه كاهن الله العلي وذكر فيه أنه بارك إبراهيم وأن إبراهيم أعطاه العشر من كل شيء. ومن المعروف في كتب الحديث والتاريخ العربي إن إبراهيم أسكن ابنه إسماعيل مع أمه هاجر المصرية عليهم السلام في الوادي الذي بنيت فيه مكة بعد ذلك وأن الله تعالى سخر لهما جماعة من جرهم سكنوا معهما هنالك وأن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان يزورهما وأنه هو وولده إسماعيل بنيا بيت الله المحرم ونشرا دين الإسلام ؛ في البلاد العربية.
فيظهر من ذلك أن العربية القديمة هي لغة إبراهيم وهاجر ولغة حمورابي وقومه ولغة قدماء المصريين أو اللغة الغالية في ذينك القطرين، وأنها على ما كان فيها من الدخليل الكلداني والمصري كانت قريبة جدا من العربية الجرهمية ولذلك كان الذين ساكنوا هاجر من جرهم يفهمون منها وتفهم منهم. وقد ثبت في صحيح البخاري أن إبراهيم زار إسماعيل مرة فلم يجده وتكلم مع امرأته الجرهمية ولم تعجبه ثم زاره مرة أخرى فلم يجده وكانت عنده امرأة أخرى فتكلم معها فأعجبته. وقد ورد أيضا أن لغة إسماعيل كانت أفصح من لغة جرهم فهي أم اللغة المصرية التي فاقت بفصاحتها وبلاغتها سائر اللغات أو اللهجات العربية، ثم ارتقت في عهد قريش من ذريته بما كانوا يقيمونه لها من أسواق المفاخرة في موسم الحج، ثم كملت بلاغتها وفصاحتها بنزول القرآن المجيد المعجز للخلق بها.
وأما أبو إبراهيم فقد سماه الله تعالى في الآية الأولى من هذه الآيات ( آزر ) وفي سفر التكوين أن اسمه ( تارح ) بفتح التاء وحاء مهملة وقالوا إن معناه ( متكاسل ) ومن الغريب أن نرى أكثر المفسرين والمؤرخين واللغويين منا يقولون إن اسمه تارخ بالخاء المعجمة أو المهملة وإن آزر لقبه أو اسم أخيه أو أبيه أو صنمه، ونقل عن الزجاج والفراء أنه ليس بين النسابين والمؤرخين اختلاف في كون اسمه تارخ أو تارح. ولا نعرف لهذه الأقوال أصلا مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولا منقولا على العرب الأولين، وإنما هو منقول فيما يظهر عمن دخل في الإسلام من أهل الكتاب كوهب بن منبه وكعب الأحبار اللذين أدخلا على المسلمين كثيرا من الإسرائيليات – فتلقوها بالقبول على علاتها، وعن مقاتل بن سليمان المجروح بالكذب الذي قال ابن حبان فيه كان يأخذ من اليهود والنصارى من علم القرآن الذي يوافق كتبهم.
ففي التفسير المأثور عن مجاهد قال : آزر لم يكن بأبيه ولكنه اسم صنم – وعن السدى اسم أبيه تارح واسم الصنم آزر – وعن ابن عباس في إحدى الروايتين عنه قال : آزر الصنم وأبو إبراهيم اسمه يازر، وفي الأخرى أن أبا إبراهيم لم يكن اسمه آزر وإنما اسمه تارح. رواهما عنه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ – وعن ابن جريج أن اسمه تيرح. وجزم الضحاك بأن اسمه آزر واعتمده ابن جرير، وروي عن الحسن أيضا. وقال البخاري في التاريخ الكبير : إبراهيم ابن آزر وهو في التوراة تارح والله سماه آزر وإن كان عند النسابين والمؤرخين اسمه تارخ ليعرف بذلك. اه فقد اعتمد أن آزر هو اسمه عند الله أي في كتابه، فإن أمكن الجمع بين القولين فيها وإلا رددنا قول المؤرخين وسفر التكوين لأنه ليس حجة عندنا حتى نعتد بالتعارض بينه وبين ظواهر القرآن بل القرآن هو المهمين على ما قبله نصدق ما صدقه ونكذب ما كذبه ونلزم الوقف فيما سكت عنه حتى يدل عليه دليل صحيح.
وأضعف ما قالوه في الجمع بين القولين إن آزر اسم عمه بناء على أن العرب تسمي العم أبا مجازا وهذه الدعوى لا تصح على إطلاقها، وإنما يصح ذلك حيث توجد قرينة يعلم منها المراد ولا قرينة هنا ولا في سائر الآيات التي ذكر فيها من غير تسمية، ويليه في الضعف قول بعضهم إنه كان خادم الصنم المسمى بآزر فأطلق عليه من باب حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مكانه. وأقواه أن له اسمين أحدهما علم والآخر ولقب. والظاهر حينئذ أن يكون تارح هو اللقب لأن معناه المتكاسل وهو لقب قبيح قلما يطلقه أحد ابتداء على ولده وإنما يطلق مثله على المرء بعد ظهور معناه فيه أو رميه به، إلا أن يصح ما زعمه من عكس فجعل آزر هو اللقب بناء على أن معناه في لغتهم المخطئ أو المعوج أو الأعوج أو الأعرج – ولعله تحريف عما قبله – وقيل إنه الشيخ الهرم بالخوارزمية.
بعد كتابة ما تقدم راجعت ( روح المعاني ) للآلوسي والتفسير الكبير ( مفاتيح الغيب ) للرازي فأحببت أن أنقل عنهما ما يأتي :
قال الآلوسي : وعلى القول بالوصفية يكون منع صرفه للحمل على موازنه وهو فاعل المفتوح العين فإنه يغلب منع صرفه لكثرته في الأعلام الأعجمية، وقيل الأولى أن يقال إنه غلب عليه فألحق بالعلم وبعضهم يجعله نعتا مشتقا من الأزر بمعنى القوة أو الوزر بمعنى الإثم، ومنع صرفه حينئذ للوصفية ووزن الفعل لأنه على وزن أفعل.
وقال الرازي بعد أن ذكر قول الزجاج باتفاق علماء النسب على أن اسم أبي إبراهيم تارح : ومن الملحدة من جعل هذا طعنا في القرآن وقال هذا النسب خطأ وليس بصواب. ثم ذكر أن للعلماء ههنا مقامين أحدهما رد الاستدلال بإجماع النسابين على أن اسمه كان تارح قال : لأن ذلك الإجماع إنما حصل لأن بعضهم يقلد بعضا وبالآخرة يرجع ذلك الإجماع إلى قول الواحد والاثنين مثل قول وهب وكعب وأمثالهما وربما تعلقوا بما يجدونه من أخبار اليهود والنصارى ولا عبرة بذلك في مقابلة صريح القرآن اه وقد بينا لك مأخذه وإنه لا إجماع في المسألة. ثم ذكر المقام الثاني وهو تسليم قولهم والجمع بينه وبين نص القرآن بما نقلناه عنهم آنفا وبينا قويه من ضعفيه.
ومن الناس من استدل على أن آزر لم يكن والد إبراهيم صلى الله عليه وسلم بل عمه بالجزم بأن آباء الأنبياء كافة أو نبينا خاصة لم يكونوا كفارا وبأن إبراهيم خاطب آزر بالغلظة والجفاء ولا يجوز ذلك من الأنبياء. وقد عزا الرازي هذا القول إلى الشيعة وأطال في بيانه واختصر في بيان ( زعم أصحابه ) – أي الأشاعرة أو أهل السنة كافة – إن آزر كان والد إبراهيم وكان كافرا وفي ردهم قول الشيعة. وقال الآلوسي : والذي عول عليه الجم الغفير من أهل السنة أن آزر لم يكن والد إبراهيم عليه السلام وادعوا أنه ليس في آباء النبي صلى الله عليه وسلم كافر أصلا لقوله عليه الصلاة والسلام « لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات» والمشركون نجس، وتخصيص الطهارة بالطهارة من السفاح لا دليل له يعول عليه والعبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، وقد ألفوا في هذا المطلب الرسائل واستدلوا له بما استدلوا. والقول بأن ذلك قول الشيعة كما ادعاه الإمام الرازي ناشئ من قلة التتبع. وأكثر هؤلاء على أن آزر اسم لعم إبراهيم عليه السلام وجاء إطلاق الأب على الجد في قوله تعالى :﴿ أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي ؟ قالوا نعبد إلهك وآله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ﴾ [ البقرة : ١٣٣ ] وفيه إطلاق الأب على الجد أيضا. وعن محمد بن كعب ا
﴿ فلما رءا القمر بازغا قال هذا ربي ﴾ : أي فلما رأى القمر طالعا من وراء الأفق أول طلوعه قال : هذا ربي، على طريق الحكاية لما كانوا يقولون تمهيدا لإبطاله كما تقدم، وقد استعملت العرب هذا الحرف في التعبير عن ابتداء طلوع النيرات وأول طلوع الناب. وفي بزغ البيطار والحاجم للجلد وهو تشريطه بالمبزغ، ولذلك قالوا إن معنى البزغ الشق فالنيرات تشق الظلام بطلوعها، وجعله بعضهم تشبيها بشق الناب والسن للثة وشق البيطار والحجام للجلد. والظاهر أن إبراهيم صلى الله عليه وسلم رأى الكوكب في ليلة ورأى القمر في الليلة التالية لها كما يؤخذ من العطف بالفاء وذلك أنه لا فاصل بين ليلة وأخرى إلا النهار وهو ليس بمظهر للكواكب والقمر فكأنه غير فاصل. ويحتمل أن يكون قد رأى الكوكب والقمر في ليلة واحدة وإذا كانت هذه الليلة هي التي رأى الشمس في أول نهارها- وهو المتبادر- وجب أن يكون رأى الكوكب في أول الليل هاويا للغروب وبعد أفوله بقليل بزغ القمر، وأن ذلك كان في وسط الشهر، وأنه سهر مع بعض قومه الليل كله حتى أفل القمر في آخره، وكثيرا ما يفعل الناس هذا ولا سيما في الليالي البيض ولو لم يكن لهم غرض ديني أو علمي منه.
وقد يتصور وقوع ذلك في بعض الليالي القليلة من السنة كالليلة الخامسة عشرة من شهر رجب من سنتنا هذه ( سنة ١٣٣٦ ) فإن الشمس تغرب فيها عن أفق مصر الساعة ٦ والدقيقة ٢٨ ويطلع القمر بعد غروبها بعشرين دقيقة وفي هذه المدة يحتمل أن يرى بعض السيارات أو نحوها من النجوم المشرقة الممتازة كالشعرى هاويا للغروب ويغرب بعدها بربع ساعة ويغرب القمر في تلك الليلة بعد انتهاء الساعة الرابعة بدقيقتين من صبيحتها وتشرق الشمس بعد غروبه بأربع عشرة دقيقة. ولكن يعكر على هذا أنه لا يظهر فيه جن الليل وهو إظلامه. وإنما يتعين تصوير وقوع ما ذكر في مثل هذه الليلة من الشهر، والقمر بدر، والشمس في الدرجة الخامسة من برج الثور، إذا تعين أنه لا يجوز وصف القمر والشمس بالبزوغ إلا في أول طلوعهما من وراء أفق القطر كله، وقد يقال إن هذا غير متعين بالوصف وإنه يجوز أن يقال : رأيت القمر بازغا ولو بعد طلوعه بساعات كما يقال : رأيت ناب البعير بازغا بعد طلوعه بأيام.
ثم إن البزوغ والغروب منهما ما هو حقيقي عرفا وما هو نسبي، فمن كان في مكان مطمئن أو محاط بالبنيان والشجر يبزغ عليه القمر والشمس بعد بزوغها في أفق قطره، ويغربان عنه قبل غروبهما عن ذلك الأفق، وقد يكون في مكان يحجب مشرقه ما ذكر دون مغربه وبالعكس فيختلف البزوغ والغروب باختلاف ذلك. وبهذا يتسع مجال احتمال وقوع ما ذكر في ليلة واحدة وصبيحتها بغير تكلف. والكلام في الآيات مرتب على رؤية الكوكب رؤية غير مقيدة بحال ولا وصف وعلى رؤية القمر والشمس بازغين لا على بزوغهما، فالأول يصدق برؤيته قبيل الغروب في أول جنون الليل، والآخران يصدقان بالرؤية في حال البزوغ النسبي. وقد غفل عن هذه الدقة في تعبير التنزيل من زعم أن رؤية ما ذكر لا يتصور وقوعه في ليلة واحدة وصبيحتها، ومن فرض لذلك وجود حال في ذلك المكان الخالي من الجبال.
﴿ فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين ( ٧٧ ) ﴾ أي فلما أفل القمر كالكوكب، وهو أكبر منه منظرا وأبهى نورا في الأرض، قال مسمعا من حوله من قومه : لئن لم يهدني ربي الذي خلقني إلى العبادة التي ترضيه بإعلام خاص من لدنه لأكونن من القوم الضالين عما يجب أن يعبد به فيتبعون فيه أهواءهم واجتهادهم فلا يكونون عابدين له بما يرضيه ولا يقتضي أن كل ضال يعبد الأصنام أو الكواكب بل هذا تعريض آخر بضلال قومه يقرب من التصريح وإرشاد إلى توقف هداية الدين على الوحي الإلهي.
قال ابن المنير في الانتصاف : والتعريض بضلالهم ثانيا أصرح وأقوى من قوله «لا أحب الآفلين » وإنما ترقى في ذلك لأن الخصوم قد قامت عليهم بالاستدلال الأول حجة فأنسوا بالقدح في معتقدهم ولو قيل هذا في الأول فلعلهم كانوا يفرون ولا يصغون إلى الاستدلال، فما عرض صلوات الله عليه بأنهم في ضلالة إلا بعد أن وثق بإصغائهم إلى إتمام المقصود واستماعه إلى آخره، والدليل على ذلك أنه ترقى في النوبة الثالثة إلى التصريح بالبراءة منهم، والتقريع بأنهم على شرك بين، ثم قيام الحجة عليهم، وتبلج الحق وبلغ من الظهور غاية المقصود اه وذلك قوله عز وجل :﴿ فلما رءا الشمس بازغة قال هذا ربي ﴾.
﴿ فلما رءا الشمس بازغة قال هذا ربي ﴾ أي قال مشيرا إليها على الطريقة التي بيناها فيما قبله : هذا الذي أرى الآن أو الذي أشير إليه ربي. قال الزمخشري : جعل المبتدأ مثل الخبر بكونهما عبارة عن شيء واحد كقولهم ما جاءت حاجتك، ومن كانت أمك، « ولم تكن فتنتهم إلا أن قالوا » وكان اختيار هذه الطريقة واجبا لصيانة الرب عن شبهة التأنيث، ألا تراهم قالوا في صفة الله : علام ولم يقولوا علامة- وإن كان العلامة أبلغ- احترازا من علامة التأنيث اه وجوز أبو حيان أن يكون تذكير الإشارة إلى الشمس حكاية لما قيل بلغة العجم وأكثر لغاتهم لا تميز بين المذكر والمؤنث في الإشارة ولا في الضمائر. ونوقش في كون ذلك مقتضى الحكاية وفي دعوى كون لغة إبراهيم من ذكر الأعجمية. وقد سبق لنا القول بأنها عربية ممزوجة، على أن بعض الأعاجم يذكرون الشمس ويؤنثون القمر. وسيأتي فيما نذكر من عقائد قوم إبراهيم أن للشمس زوجة.
وأما قوله صلوات الله وسلامه عليه ﴿ هذا أكبر ﴾ فهو تأكيد لإظهار النصفة للقوم، ومبالغة في تلك المجاراة الظاهرة لهم وتمهيد قوي لإقامة الحجة البالغة عليهم واستدراج لهم إلى التمادي في الاستماع بعد ذلك التعريض الذي كان يخشى أن يصدهم عنه. ومعناه أن هذا أكبر من القمر والكواكب قدرا، وأعظم ضياء، ونورا، فهو إذا أجدر منهما بالربوبية، إن كان المدار فيها على التفاضل والخصوصية.
﴿ فلما أفلت قال يا قوم إني برئ مما تشركون ﴾ أي فلما أفلت كما أفل غيرها، واحتجب ضوءها المشرق وذهب سلطانها، وكانت الوحشة بذلك أشد من الوحشة باحتجاب الكوكب والقمر، صرح عليه الصلاة والسلام بالنتيجة المرادة من ذلك التعريض، فتبرأ من شرك قومه، الذي أظهر مجازاتهم عليه في ليلته ويومه. والبراءة من الشيء التفصي منه والتنحي عنه لاستقباحه، فهو كالبرء من المرض وهو السلامة من ألمه وضرره، وما مصدرية أو موصولة أي أني بريء من شرككم بالله تعالى أو من هذه المعبودات التي جعلتموها أربابا وآلهة مع الله تعالى. فيشمل الكواكب والأصنام وكل ما عبدوه وهو كثير.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وفي الآيات قراءات لا تتعلق بالمعنى كفتح ياء أني وسكونها وإمالة رأي وكسر الراء والهمزة فيها، ولكن قراءة يعقوب ضم آزر على النداء فهي دليل على كونه اسما علما لأن حذف حرف النداء خاص بالعلم في الفصيح وغيره شاذ.
مسائل متممة لتفسير الآيات
المسألة الأولى في عقائد قوم إبراهيم صلى الله عليه وسلم
تقدم أنهم كانوا يعبدون الكواكب والأصنام. وقال ابن زيد أنهم كانوا يعبدون الله تعالى أيضا ويشركون ما ذكر به. وكل ذلك صحيح دلت عليه آثار الكلدانيين التي اكتشفت في العراق. وقد أثبت بيروسوس وسنيلوس أن علماءهم وكهانهم كانوا يعرفون حقيقة التوحيد ولكن كانوا يدينون بها في أنفسهم ولا يبيحونها للعامة، وأن اليونان أخذوا هذا النفاق عنهم، ولعل الصواب أن الذين أخذوا عنهم أولا هم قدماء المصريين فقد كان التوحيد منتهى علم حكمائهم وكانوا يكتمونه عن العامة لأن استعباد الملوك الذين هم أعوانهم لها لا يدوم إلا بالوثنية كما يعلم مما بيناه في التفسير وغيره مرارا، واليونان اقتبسوا من القدماء المصريين، على أن هنري رولنسن من مدققي مؤرخي أوروبا قال إن أمة من ضفاف الدجلة والفرات ارتحلت إلى أوروبا بتلك العقائد منقوشة في صفائح الآجر.
من آلهة الكلدانيين ( إلْ ) وهي كلمة سامية عرفت في العربية والسريانية والعبرانية. قال صاحب القاموس : والإل الربوبية واسم الله تعالى. وكل اسم آخره إل وإيل فمضاف إلى الله تعالى. وقال أل المريض والحزين يئل ألا وأللا أن وحن ورفع صوته بالدعاء. وقال في مادة :( أي ل : إيل بالكسر اسم الله تعالى ). وفي لسان العرب بحث في كون الإل من أسماء الله تعالى ولكنه نقله عن ابن سيده ثم قال : والإل الربوبية والأل بالضم الأول في بعض اللغات وليس من لفظ الأول. ثم قال في ( إيل ) : من أسماء الله عز وجل عبراني أو سرياني. ثم نقل عن ابن الكلبي أن جبرائيل وشراحيل وأشباههما كشرحبيل تنسب إلى الربوبية « لأن إيلا لغة في إل وهو الله عز وجل كقولهم عبد الله وتيم الله».
أقول : ونقل مثله في ( إل ) وضعفه بمنع جبريل وما أشبهه من الصرف أي دون شرحبيل وشهميل من أسماء العرب، ونقل عن أبي منصور أنه يجوز أن يكون إيل عرب فقيل إل ثم قال في مادة ( ال ه ) وقد سمت العرب الشمس لما عبدوها إلاهة، والإلهة الشمس الحارة حكي عن ثعلب، والإلهية والإلاهة ( بالفتح والكسر ) وألاهة ( مضمومة الهمزة غير معرفة ) كله الشمس الخ ثم ذكر أن : الإلاهة والألوهة والألوهية العبادة. وذكر عند تفسير الإله بالمعبود في أول المادة قولهم : إله بين الآلهة والإلهية والإلهانية وأن أصله من أله ياله ( من باب علم ) إذا تحير.
هذا وإن دلالة مادة ال ه على العبادة والمعبود سامية قديمة منقولة عن الكلدانيين وغيرهم. قال البستاني في دائرة المعارف عند تعريف ( الله ) بأنه اسم للذات الواجب الوجود المستحق لجميع المحامد – أي كما قال علماء المسلمين - : وهو بالعبرانية ألوهيم بصيغة الجمع تعظيما لا تكثيرا. وقد يطلق على غير لله، ويهوه أي الكائن وهو خاص به تعالى. وإيل أي القدير. وبالسريانية ألوهة وبالكلدانية إلاها اه. وفي تواريخ المتأخرين المؤيدة بالعاديات ( الآثار القديمة ) أن أعظم أرباب الكلدانيين وآلهتهم ( إيل – أو – إل ) فهو رب الأرباب وأصل الآلهة، وليس له تمثال ولا صورة في معابدهم. والظاهر أنهم كانوا يعتقدون مما ورثوا من دين نوح عليه السلام أنه منزه عن صفات الخلق وتخيلاتهم. وروى ديودورس عن فيلو أنه مرادف لزحل، ولا يصح هذا إلا أن يراد بزحل أبو المشتري كما قيل ذلك وقد أشاروا إلى الإيمان به في عصور قدماء ملوكهم، ومما قالوا عنه في أقدم الخرافات أنه أولد ولدين ( أنا ) و ( بيل ) و ( أنا ) هذا هو رأس ( الثالوث ) الكلداني وقيل إن هذا الاسم بمعنى اسم الجلالة ( الله ) ويقولون أنو إذا كان فاعلا وأنا إذا كان مفعولا وأني إذا كان مضافا إليه. ومن ألقابه عندهم – القديم والرأس الأصلي وأبو الآلهة ورب الأرواح والشياطين وملك العالم الأسفل وسلطان الظلام أو رأس لموت. ووجدت آثار عبادته في مدينة ( أرك ) وهي الوركاء. قال ياقوت : الوركاء موضع بناحية الروابي ولد به إبراهيم الخليل عليه السلام. وقد بنى أحد ملوكهم معبدا له ولابنه ( قول ) في أشور سنة ١٨٣٠ قبل المسيح فصار اسم هذه المدينة بعد ذلك ( تلان ) وأصله ( تل أنا ) وجاء ذكره في آجر للملك ( أوركه ) اكتشفت في أنقاض ( أم قبر ) هذه ترجمته :« إن إله القمر ابن شقيق ( أنو ) وبكر ( بعلوس ) قد حمل ( أروكه ) الرئيس التقي ملك ( أور ) على بناء هيكل ( تسين كاثو ) معبدا مقدسا له».
والثاني من ثالوثهم ( بلوس – أو – بيل ) ولعلهما محرفان عن ( بعل ) و ( بعلوس ) ومن أسمائهم ( أنو ) و ( إيل أنيو ) ومعناه السيد. وتلحق غالبا بلفظ ( نيبرو ) ومؤنثها ( نيبروث ) وهي قريبة من كلمة ( نمرود ) التي هي في ترجمة التوراة السبعينية ( نبروث ) وكلمة ( نيبرو ) مشتقة من كلمة نابار السريانية ومعناها طارد، وتدل مادة نبر في العربية على الارتفاع فنبر رفع والنبرة الشيء المرتفع ففيها معنى الشرف. ومعناها في الأشورية يقارب معناها في السريانية ( فبيل نبرو ) بمعنى السيد الصياد أو رب الصيد – ولذلك قيل إنه نمرود المذكور في العهد العتيق، ويقولون إنه كان يصيد الوحوش. وهو بعلوس الذي ذكر مؤرخو اليونان أنه باني مدينة ( بابل ) وملكها الكلدانيون يعبدون ( نمرود ) مدة وجود دولتهم وكانوا يكنونه بأبي الآلهة ويكنون زوجه المسماة ( موليتا – أو – أنوتا ) بأم الآلهة العظام. ولكن وصفت في بعض الآثار بأنها زوج ( نين ) وهو ابنها وفي بعضها أنها زوج ( أشور ) ولها ألقاب عظيمة ووجد لها عدة هياكل.
والثالث من ثالوثهم ( حوا- أو- حيا ) وهو حيوان بعضه كالإنسان وبعضه كالسمك زعموا أنه خرج من خليج فارس ليعلم سكان ضفاف النهرين علم الفلك والأدب، ونسب إليه اختراع حروف الهجاء، وقد وجد اسمه على صحيفة من الآجر وجدت في خرائب ( أور ) ويرى بعض الباحثين أن اسمه من مادة الحياة العربية أو الحية، وشعاره في القلم الكلداني الشكل الأسفيني. ومنه رسم الحية للدلالة على منتهى الذكاء والحكمة والإشارة إلى الحياة. وله ألقاب عظيمة.
وكان للكلدان ( ثالوث ) آخر أحد آلهته ( سيني ) وهو القمر وهذا الاسم سامي فاسم القمر بالسريانية سين وكذا في السنسكريتية، ومن ألقابه زعيم الأرباب في السماء والأرض ( وبعل رونا ) أي رب البناء، وكانوا يصورونه في جميع تطوراته منذ يكون هلالا، وله هياكل كثيرة وأعظم معابده في ( أور ). والثاني ( سان ) أو ( سانسي ) وهو الشمس، والاسم سامي أيضا ومنه السنا بالعربية وهو بالقصر الضياء وقيل ضوء النار والبرق والصواب أنه أعم قال تعالى ﴿ هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا ﴾ [ يونس : ٥ ] ومنه ( شاني ) بالعبرية ومعناها لامع، واسم الشمس ضياء باللغة السنسكريتية ( سيونا ) ومن ألقاب هذا الإله : رب النار ونير الأرض والسماء. وكان له هياكل في المدن الكبيرة وأشهرها ( بيت بارا ) وبارا أو فرا اسم الشمس بالمصرية القديمة وكان اسم ( هليبوليس ) عندهم ( سيبارا ) وتسمى في الآثار ( تسيبار شاشاماس ) ومعنى الثلاثة مدينة الشمس. وللشمس زوجة عندهم يسمونها ( أي ) و ( كولا ) و( أنونيت ). وثالث الثلاثة ( فول ) أو ( أيفا ) أي الهواء وهو رب الجو القاتم بتسخير الرياح والعواصف والأعاصير المتصرف في الزراعة والمواسم. ومن هياكله بناه الملك ( شماش فول ) الذي ملك الكلدان سنة ١٨٥٠ قبل المسيح.
وهذه الأخبار والآثار تشهد بصدق القرآن، وكونه حجة لله على الأنام، لأن من جاء به أمي لم يقرأ شيئا من كتب الأولين، ولا رأى أثرا من آثار الغابرين، فيعلم منها خبر معبوداتهم. ولا يرد عليه ما أورد على العهد العتيق من كون كاتبه ( عزرا الكاهن ) كتبه بعد السبي فاقتبس فيه كثيرا من تقاليد البابليين.
المسألة الثانية : معنى الرب والإله وشبهة الشرك وكونه قسمان
ظاهر ما حكاه الله تعالى عن إبراهيم صلى الله عليه وسلم أن قومه كانوا يتخذون الأصنام آلهة لا أربابا ويتخذون الكواكب أربابا آلهة، فالإله هو المعبود فكل من عبد شيئا فقد اتخذه إلها، والرب هو السيد المالك والمربي والمدبر والمتصرف، وليس للخلق رب ولا إله إلا الله الذي خلقهم، فهو المالك لكل شيء في كل زمن وكل حال وملكه حقيقي تام، وملك غيره عرفي ناقص موقوت، له أجل محدود، وهو المعبود بحق، إذ العبادة الحق لا تكون إلا للرب، فإن العبادة هي التوجه بالدعاء وكل تعظيم قولي أو عملي إلى ذي السلطان الأعلى على عالم الأسباب وما هو فوق الأسباب، لأنه هو الموجد لها والمتصرف فيها، فهي خاضعة لسلطانه وكل ما عداه فهو خاضع لسلطانها بل سلطانه فيها. والأصل في اختراع كل عبادة لغيره تعالى أمران :
أحدهما : أن بعض ضعفاء العقول رأوا بعض مظاهر قدرته تعالى في بعض خلقه فتوهموا أن ذلك ذاتي لهذا المخلوق ليس خاضعا لسنن الله في الأسباب والمسببات لقصر إدراكهم عن الوصول إلى كون القدرة الذاتية خاصة بخالق كل شيء الذي أعطى كل شيء خلقه وما امتاز به على غيره، وكون خفاء سبب الخصوصية لا يقتضي عدم خضوع صاحبها لسنن الخالق فيها وفي غيرها من شؤونه ( أي شؤون صاحب الخصوصية ) ووثنية هؤلاء هي الوثنية السافلة.
ثانيهما : اتخاذ بعض المخلوقات ذات الخصوصية في مظاهر النفع والضر، وسيلة إلى الرب الإله الحق، تشفع عنده وتقرب إليه كل من توجه إليها، أو التماثيل والأصنام والقبور وغيرها مما يمثلها أو يذكر بها، فيتوسل ذو الحاجة بدعائها وتعظيمها بالقول أو الفعل لأجل حمله تعالى بتأثيرها عنده، على قبوله وإعطائه سؤله، وهذا التوسل توجه إلى غير الله مبني على اعتقاد عدم انفراد الرب بالاستقلال بقضاء الحاجات، وكونه يفعل بتأثير الوسيلة في إرادته، وهذا شرك في العبادة ينافي الحنيفية. وهذه هي الوثنية الراقية التي كانت العرب عليها في زمن البعثة، ولذلك كانوا يقولون في طوافهم :( لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك ).
وكان بعض قوم إبراهيم صلى الله عليه وسلم قد ارتقوا في وثنيتهم إلى هذه المرتبة في الجملة أو أوشكوا، إذ أنهم عقلوا أن الأصنام لا تسمع دعاءهم ولا تبصر عبادتهم، ولا تقدر على نفعهم ولا ضرهم، وإنما قلدوا بعبادتها آباءهم، كما يعلم من محاجته صلى الله عليه وسلم لهم في سورة الشعراء ( ٢٦ : ٦٩ ) الخ ولذلك اتخذوها آلهة معبودين، لا أربابا مدبرين، ولكنهم اتخذوا الكواكب أربابا لما لها من التأثير السببي أو الوهمي في الأرض، وتوسعوا في إسناد التأثير إليها حتى اخترعوا من ذلك ما لا شبهة له، فكانوا يعتقدون أن الشمس رب النار ونير الأرض والسماء يدبر الملوك ويفيض عليهم روح الشجاعة والإقدام وينصر جندهم ويخذل عدوهم ويمزقه كل ممزق – ويعتقدون نحو ذلك في زحل واسمه ( بيني ) ويعتقدون أن مرداخ، وهو المشتري، شيخ الأرباب ورب العدل والأحكام حافظ الأبواب التي يدخلها الخصوم لفصل الخصومات، وأن ( رنكال ) وهو المريخ كمي الأرباب ورب الصيد وسلطان الحرب، فهو يشترك مع زحل في تدبيره إلا أن هذا هو المقدم في الصيد وذاك المقدم في الحرب، وأن عشتار ( أو نانا ) وهي الزهرة ربة الغبطة والسعادة ومفيضة السرور على الناس، وتمثل في الآثار بامرأة عارية. وأن (

﴿ *وإذ قال إبراهيم لأبيه ءازر أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين ٧٤ وكذالك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين ٧٥ فلما جن عليه الليل رءا كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين ٧٦ فلما رءا القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين ٧٧ فلما رءا الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يقوم إني بريء مما تشركون ٧٨ إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين٧٩ ﴾
بدأ الله سبحانه هذه السورة بعد حمد نفسه ببيان أصول الدين ومحاجة المشركين فبين استحقاقه للعبادة وحده وإشراكهم به وتكذيبهم بالآيات التي أيد بها رسوله ورد ما لهم من الشبهة على الرسالة ثم لقن رسوله طوائف من الآيات البينات في إثبات التوحيد والرسالة والبعث مبدوءة بقوله :﴿ قل. قل ﴾ ثم أمره في هذه الآيات بالتذكير بدعوة أبيه إبراهيم عليهما الصلاة والسلام إلى مثل ما دعا إليه من التوحيد وتضليل عبدة الأصنام وما أراه الله من ملكوت السماوات والأرض وما استنبطه هو منه من آيات التوحيد وبطلان الشرك وإقامة الحجة على أهله، تأييدا لمصداق دعوته في سلالة ولده إسماعيل، عليهم الصلاة والتسليم. ولإبراهيم المكانة العليا من إجلال الأمة العربية كما أن اليهود والنصارى متفقون على إجلاله. وإننا نقدم لتفسير الآيات مقدمة في أصل إبراهيم ومسألة كفر أبيه آزر وحكمة الله تعالى فيما قصه عنه فنقول :
مقدمة في أصل إبراهيم عليه الصلاة والسلام ومسألة كفر أبيه
إبراهيم : هو الاسم العلم لخليل الرحمان أبي الأنبياء الأكبر من بعد نوح عليهم الصلاة والسلام، ويؤخذ من سفر التكوين – وهو السفر الأول من أسفار العهد العتيق – أنه العاشر من أولاد سام بن نوح وأنه ولد في ( أور الكلدانيين ) : وهي بلدة من بلاد الكلدان. و( أور ) بضم الهمزة وسكون الواو ومعناها في الكلدانية النور أو النار كما قالوا، قيل هي البلدة المعروفة الآن باسم ( أورفا ) في ولاية حلب كما رجح بعض المؤرخين وقيل غيرها من البلاد الواقعة في جزيرة العراق بين النهرين وفي أقطار العالم القديم بلاد ومواقع كثيرة مبدوءة أسماؤها بكلمة ( أور ) واقعة مع ما بعدها موقع المضاف من المضاف إليه، وأشهرها ( أورشليم ) لمدينة القدس قالوا إن معناها ملك السلام أو إرث السلام فشليم بالعبرية هي السلام بالعربية. وفي بعض التواريخ العربية أنه من قرية اسمها ( كوثى ) من سواد الكوفة. وكان اسم إبراهيم ( أبرام ) بفتح الهمزة وقالوا إن معناه ( أبو العلاء ) فهو مركب من كلمة أب العربية السامية مضافة إلى ما بعدها.
وفي سفر التكوين أن الله تعالى ظهر له في سن التاسعة والتسعين من عمره وكلمه وجدد عهده له بأن يكثر نسله ويعطيه أرض كنعان ( فلسطين ) ملكا أبديا وسماه لذريته ( إبراهيم ) بدل ( أبرام ) وقالوا إن معنى إبراهيم ( أبو الجمهور ) العظيم أي أبو الأمة. وهو بمعنى تبشير الله تعالى إياه بتكثير نسله من إسماعيل ومن إسحاق عليهم الصلاة والسلام، ولا ينافي ذلك كسر همزته فقد علم أن أصلها الفتح وأن إب المكسورة في إبراهيم هي أب المفتوحة في أبرام. فالجزء الأول منه عربي والثاني كلداني أو من لغة أخرى من فروع السامية أخوات العربية التي هي أعظمها وأوسعها حتى جعلها بعض علماء اللغات هي الأصل والأم لسائر تلك الفروع السامية كالعبرية والسريانية. وذكر رواة العربية في هذا الاسم سبع لغات عن العرب وهي إبراهيم وأبراهام وأبراهوم وأبراهم مثلثة الهاء وأبرهم بفتح الهاء بلا ألف. وصرح بعضهم بأنه سرياني الأصل ثم نقل وبعضهم بأن معناه أب راحم أو رحيم، وعلى هذا يكون جزآه عربيين بقلب حائه كما يقلبها جميع الأعاجم الذين لا ينطقون بالحاء المهملة كالإفرنج وتركيبه مزجي. وفي القاموس المحيط كغيره ( أن تصغيره بريه أو أبيره وبريهيم ) قال شارحه عند الأول : قال شيخنا وكأنهم جعلوه عربيا وتصرفوا فيه بالتصغير وإلا فالأعجمية لا يدخلها شيء من التصرف بالكلية.
وقد ثبت عند علماء العاديات والآثار القديمة أن عرب الجزيرة قد استعمروا منذ فجر التاريخ بلاد الكلدان ومصر وغلبت لغتهم فيهما، وصرح بعضهم بأن الملك حمورابي الذي كان معاصرا لإبراهيم عليه الصلاة والسلام عربي. وحمورابي هذا هو ملكي صادق ملك البر والسلام ووصف في العهد العتيق بأنه كاهن الله العلي وذكر فيه أنه بارك إبراهيم وأن إبراهيم أعطاه العشر من كل شيء. ومن المعروف في كتب الحديث والتاريخ العربي إن إبراهيم أسكن ابنه إسماعيل مع أمه هاجر المصرية عليهم السلام في الوادي الذي بنيت فيه مكة بعد ذلك وأن الله تعالى سخر لهما جماعة من جرهم سكنوا معهما هنالك وأن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان يزورهما وأنه هو وولده إسماعيل بنيا بيت الله المحرم ونشرا دين الإسلام ؛ في البلاد العربية.
فيظهر من ذلك أن العربية القديمة هي لغة إبراهيم وهاجر ولغة حمورابي وقومه ولغة قدماء المصريين أو اللغة الغالية في ذينك القطرين، وأنها على ما كان فيها من الدخليل الكلداني والمصري كانت قريبة جدا من العربية الجرهمية ولذلك كان الذين ساكنوا هاجر من جرهم يفهمون منها وتفهم منهم. وقد ثبت في صحيح البخاري أن إبراهيم زار إسماعيل مرة فلم يجده وتكلم مع امرأته الجرهمية ولم تعجبه ثم زاره مرة أخرى فلم يجده وكانت عنده امرأة أخرى فتكلم معها فأعجبته. وقد ورد أيضا أن لغة إسماعيل كانت أفصح من لغة جرهم فهي أم اللغة المصرية التي فاقت بفصاحتها وبلاغتها سائر اللغات أو اللهجات العربية، ثم ارتقت في عهد قريش من ذريته بما كانوا يقيمونه لها من أسواق المفاخرة في موسم الحج، ثم كملت بلاغتها وفصاحتها بنزول القرآن المجيد المعجز للخلق بها.
وأما أبو إبراهيم فقد سماه الله تعالى في الآية الأولى من هذه الآيات ( آزر ) وفي سفر التكوين أن اسمه ( تارح ) بفتح التاء وحاء مهملة وقالوا إن معناه ( متكاسل ) ومن الغريب أن نرى أكثر المفسرين والمؤرخين واللغويين منا يقولون إن اسمه تارخ بالخاء المعجمة أو المهملة وإن آزر لقبه أو اسم أخيه أو أبيه أو صنمه، ونقل عن الزجاج والفراء أنه ليس بين النسابين والمؤرخين اختلاف في كون اسمه تارخ أو تارح. ولا نعرف لهذه الأقوال أصلا مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولا منقولا على العرب الأولين، وإنما هو منقول فيما يظهر عمن دخل في الإسلام من أهل الكتاب كوهب بن منبه وكعب الأحبار اللذين أدخلا على المسلمين كثيرا من الإسرائيليات – فتلقوها بالقبول على علاتها، وعن مقاتل بن سليمان المجروح بالكذب الذي قال ابن حبان فيه كان يأخذ من اليهود والنصارى من علم القرآن الذي يوافق كتبهم.
ففي التفسير المأثور عن مجاهد قال : آزر لم يكن بأبيه ولكنه اسم صنم – وعن السدى اسم أبيه تارح واسم الصنم آزر – وعن ابن عباس في إحدى الروايتين عنه قال : آزر الصنم وأبو إبراهيم اسمه يازر، وفي الأخرى أن أبا إبراهيم لم يكن اسمه آزر وإنما اسمه تارح. رواهما عنه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ – وعن ابن جريج أن اسمه تيرح. وجزم الضحاك بأن اسمه آزر واعتمده ابن جرير، وروي عن الحسن أيضا. وقال البخاري في التاريخ الكبير : إبراهيم ابن آزر وهو في التوراة تارح والله سماه آزر وإن كان عند النسابين والمؤرخين اسمه تارخ ليعرف بذلك. اه فقد اعتمد أن آزر هو اسمه عند الله أي في كتابه، فإن أمكن الجمع بين القولين فيها وإلا رددنا قول المؤرخين وسفر التكوين لأنه ليس حجة عندنا حتى نعتد بالتعارض بينه وبين ظواهر القرآن بل القرآن هو المهمين على ما قبله نصدق ما صدقه ونكذب ما كذبه ونلزم الوقف فيما سكت عنه حتى يدل عليه دليل صحيح.
وأضعف ما قالوه في الجمع بين القولين إن آزر اسم عمه بناء على أن العرب تسمي العم أبا مجازا وهذه الدعوى لا تصح على إطلاقها، وإنما يصح ذلك حيث توجد قرينة يعلم منها المراد ولا قرينة هنا ولا في سائر الآيات التي ذكر فيها من غير تسمية، ويليه في الضعف قول بعضهم إنه كان خادم الصنم المسمى بآزر فأطلق عليه من باب حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مكانه. وأقواه أن له اسمين أحدهما علم والآخر ولقب. والظاهر حينئذ أن يكون تارح هو اللقب لأن معناه المتكاسل وهو لقب قبيح قلما يطلقه أحد ابتداء على ولده وإنما يطلق مثله على المرء بعد ظهور معناه فيه أو رميه به، إلا أن يصح ما زعمه من عكس فجعل آزر هو اللقب بناء على أن معناه في لغتهم المخطئ أو المعوج أو الأعوج أو الأعرج – ولعله تحريف عما قبله – وقيل إنه الشيخ الهرم بالخوارزمية.
بعد كتابة ما تقدم راجعت ( روح المعاني ) للآلوسي والتفسير الكبير ( مفاتيح الغيب ) للرازي فأحببت أن أنقل عنهما ما يأتي :
قال الآلوسي : وعلى القول بالوصفية يكون منع صرفه للحمل على موازنه وهو فاعل المفتوح العين فإنه يغلب منع صرفه لكثرته في الأعلام الأعجمية، وقيل الأولى أن يقال إنه غلب عليه فألحق بالعلم وبعضهم يجعله نعتا مشتقا من الأزر بمعنى القوة أو الوزر بمعنى الإثم، ومنع صرفه حينئذ للوصفية ووزن الفعل لأنه على وزن أفعل.
وقال الرازي بعد أن ذكر قول الزجاج باتفاق علماء النسب على أن اسم أبي إبراهيم تارح : ومن الملحدة من جعل هذا طعنا في القرآن وقال هذا النسب خطأ وليس بصواب. ثم ذكر أن للعلماء ههنا مقامين أحدهما رد الاستدلال بإجماع النسابين على أن اسمه كان تارح قال : لأن ذلك الإجماع إنما حصل لأن بعضهم يقلد بعضا وبالآخرة يرجع ذلك الإجماع إلى قول الواحد والاثنين مثل قول وهب وكعب وأمثالهما وربما تعلقوا بما يجدونه من أخبار اليهود والنصارى ولا عبرة بذلك في مقابلة صريح القرآن اه وقد بينا لك مأخذه وإنه لا إجماع في المسألة. ثم ذكر المقام الثاني وهو تسليم قولهم والجمع بينه وبين نص القرآن بما نقلناه عنهم آنفا وبينا قويه من ضعفيه.
ومن الناس من استدل على أن آزر لم يكن والد إبراهيم صلى الله عليه وسلم بل عمه بالجزم بأن آباء الأنبياء كافة أو نبينا خاصة لم يكونوا كفارا وبأن إبراهيم خاطب آزر بالغلظة والجفاء ولا يجوز ذلك من الأنبياء. وقد عزا الرازي هذا القول إلى الشيعة وأطال في بيانه واختصر في بيان ( زعم أصحابه ) – أي الأشاعرة أو أهل السنة كافة – إن آزر كان والد إبراهيم وكان كافرا وفي ردهم قول الشيعة. وقال الآلوسي : والذي عول عليه الجم الغفير من أهل السنة أن آزر لم يكن والد إبراهيم عليه السلام وادعوا أنه ليس في آباء النبي صلى الله عليه وسلم كافر أصلا لقوله عليه الصلاة والسلام « لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات» والمشركون نجس، وتخصيص الطهارة بالطهارة من السفاح لا دليل له يعول عليه والعبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، وقد ألفوا في هذا المطلب الرسائل واستدلوا له بما استدلوا. والقول بأن ذلك قول الشيعة كما ادعاه الإمام الرازي ناشئ من قلة التتبع. وأكثر هؤلاء على أن آزر اسم لعم إبراهيم عليه السلام وجاء إطلاق الأب على الجد في قوله تعالى :﴿ أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي ؟ قالوا نعبد إلهك وآله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ﴾ [ البقرة : ١٣٣ ] وفيه إطلاق الأب على الجد أيضا. وعن محمد بن كعب ا
﴿ إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين ﴾ تبرأ من شركهم وقفى على تلك البراءة ببيان عقيدته الحق وهي التوحيد الخالص فقال إني وجهت وجهي وقصدي وجعلت توجهي في عبادتي للرب الخالق الذي فطر السموات والأرض، أي ابتدأ خلقهما بما فتق من رتق مادتهما وهي دخان، وأكمل خلقهن أطوارا في ستة أزمان، فهو خالق هذه الكواكب النيرات، وخالقكم وما تصنعون منه هذه الأصنام من معدن ونبات، وتوجيه الوجه هنا بمعنى إسلامه في قوله عز وجل :﴿ ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا ﴾ [ النساء : ١٢٥ ] وقوله :﴿ ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن ﴾ [ لقمان : ٢٢ ]. وقد تقدم في تفسير الأولى ( ج ٥ ) أن إسلام الوجه له تعالى عبارة عن توجه القلب، فإن الوجه أعظم مظهر لما في النفس من الإقبال والإعراض والخشوع والسرور والكآبة وغير ذلك، وأن المراد بإسلامه وبتوجيهه لله تعالى تركه له يتوجه إليه وحده في طلب حاجته، وإخلاص عبوديته، فهو وحده الرب المستحق للعبادة، القادر على الأجر والإثابة.
ومن الشواهد على استعمال الوجه بمعنى القلب حديث « لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم »١ وفي رواية قلوبكم. رواه أحمد وأصحاب السنن. ووجه يتعدى باللام وإلى كأسلم وتقدم شاهدا « أسلم » آنفا، ولم يتكرر « وجه » في القرآن بهذا المعنى، وإلا فاللام هنا بمعنى إلى كقوله تعالى :﴿ بأن ربك أوحى لها ﴾ [ الزلزلة : ٥ ] وقوله :﴿ لعادوا لما نهوا عنه ﴾ [ الأنعام : ٢٨ ] واخترع الرازي للام هنا نكتة سماها دقيقة فقال : المعنى أن توجه وجه القلب ليس إليه لأنه متعال عن الحيز والجهة بل إلى خدمته وطاعته لأجل عبوديته الخ فجعل اللام « دليلا ظاهرا » على كون المعبود متعاليا عن الحيز والجهة. وهذا تحكم مردود لا تقبله اللغة ولا يقتضيه العقل، ولا يتفق مع ما ورد في القرآن في معنى توجيه الوجه. أما إباء اللغة له فلأن اللام لو كانت للتعليل مع حذف مضاف لكانت الآية خالية من المقصود منها بالذات وهو كون توجيه القلب بالعبادة إلى الله فاطر السموات والأرض، إذ التعليل على ما فيه من التكلف يصدق بالتوجه إلى غيره تعالى توسلا إليه كالتوجه إلى الكوكب وغيره، لأجل خالقه لا لأجله، باعتقاد أنه هو الذي يقرب إليه زلفى أو يشفع عنده. وأما العقل فإنه يدرك أن توجه القلب لا ينحصر في كونه إلى الحيز والجهة المحصورة، وأما القرآن فقد عدى إسلام الوجه بإلى في سورة لقمان وباللام في سورة النساء، وهو بمعنى توجيهه كما تقدم آنفا.
هذا وإن التعبير بفاطر السموات والأرض هو وجه الحجة في الآية فإن ما فتن به القوم من تأثير النيرات في الأرض- إن صح- لم يعد أن يكون خاصية لبعض أجرام السماء وهي لم توجد نفسها ولا صفاتها وخواصها، فالواجب أن ينظر في أمرها من حيث هي جزء أو أجزاء من مجموع العالم، وحينئذ يراها الناظر المتفكر خاضعة لتدبير من فطر العالم الكبير التي هي بعضه، ويعلم أنه هو الحقيق بالعبادة من دونها، لأنه هو الرب الحق المدبر لها ولغيرها. وإنما يتجلى الاستدلال على وحدانية الربوبية والإلهية بالنظر في جملة العالم وكونه لا بد أن يكون له خالق مدبر واحد، إذ لا يمكن أن يستقيم نظام المتعدد إلا إذا كان له جهة واحدة كما بيناه في غير هذا الموضع وسيعاد أن شاء الله تعالى ﴿ لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ﴾ [ الأنبياء : ٢٢ ] وأما الاستدلال بأجزاء الكون فيتولد منه شبهات ومشكلات كثيرة.
والحنيف صفة من الحنف وهو بالتحريك الميل عن الضلال والعوج إلى الاستقامة، وضده الجنف بالجيم. فقوله حنيفا حال أي وجهت وجهي له حال كوني مائلا عن معبوداتكم الباطلة وعن غيرها، فتوجهي وإسلامي خالص له لا يشوبه شرك ولا رياء، وإما أنا من القوم المشركين به الذين يتوجهون إلى غيره من المخلوقات، كالكواكب أو الملائكة أو الملوك والصالحين، أو ما يتخذ لهم من الأصنام والتماثيل.
تبرأ أولا من شركهم أو شركائهم ثم تبرأ منهم أنفسهم ﴿ قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله ﴾ [ الممتحنة : ٤ ] روى ابن جرير عن ابن زيد أن قوم إبراهيم قالوا حين قال إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض : ما جئت بشيء ونحن نعبده ونتوجهه. فرد عليهم بأنه حنيف أي مخلص له لا يشرك به كما يشركون اه بالمعنى.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وفي الآيات قراءات لا تتعلق بالمعنى كفتح ياء أني وسكونها وإمالة رأي وكسر الراء والهمزة فيها، ولكن قراءة يعقوب ضم آزر على النداء فهي دليل على كونه اسما علما لأن حذف حرف النداء خاص بالعلم في الفصيح وغيره شاذ.
مسائل متممة لتفسير الآيات
المسألة الأولى في عقائد قوم إبراهيم صلى الله عليه وسلم
تقدم أنهم كانوا يعبدون الكواكب والأصنام. وقال ابن زيد أنهم كانوا يعبدون الله تعالى أيضا ويشركون ما ذكر به. وكل ذلك صحيح دلت عليه آثار الكلدانيين التي اكتشفت في العراق. وقد أثبت بيروسوس وسنيلوس أن علماءهم وكهانهم كانوا يعرفون حقيقة التوحيد ولكن كانوا يدينون بها في أنفسهم ولا يبيحونها للعامة، وأن اليونان أخذوا هذا النفاق عنهم، ولعل الصواب أن الذين أخذوا عنهم أولا هم قدماء المصريين فقد كان التوحيد منتهى علم حكمائهم وكانوا يكتمونه عن العامة لأن استعباد الملوك الذين هم أعوانهم لها لا يدوم إلا بالوثنية كما يعلم مما بيناه في التفسير وغيره مرارا، واليونان اقتبسوا من القدماء المصريين، على أن هنري رولنسن من مدققي مؤرخي أوروبا قال إن أمة من ضفاف الدجلة والفرات ارتحلت إلى أوروبا بتلك العقائد منقوشة في صفائح الآجر.
من آلهة الكلدانيين ( إلْ ) وهي كلمة سامية عرفت في العربية والسريانية والعبرانية. قال صاحب القاموس : والإل الربوبية واسم الله تعالى. وكل اسم آخره إل وإيل فمضاف إلى الله تعالى. وقال أل المريض والحزين يئل ألا وأللا أن وحن ورفع صوته بالدعاء. وقال في مادة :( أي ل : إيل بالكسر اسم الله تعالى ). وفي لسان العرب بحث في كون الإل من أسماء الله تعالى ولكنه نقله عن ابن سيده ثم قال : والإل الربوبية والأل بالضم الأول في بعض اللغات وليس من لفظ الأول. ثم قال في ( إيل ) : من أسماء الله عز وجل عبراني أو سرياني. ثم نقل عن ابن الكلبي أن جبرائيل وشراحيل وأشباههما كشرحبيل تنسب إلى الربوبية « لأن إيلا لغة في إل وهو الله عز وجل كقولهم عبد الله وتيم الله».
أقول : ونقل مثله في ( إل ) وضعفه بمنع جبريل وما أشبهه من الصرف أي دون شرحبيل وشهميل من أسماء العرب، ونقل عن أبي منصور أنه يجوز أن يكون إيل عرب فقيل إل ثم قال في مادة ( ال ه ) وقد سمت العرب الشمس لما عبدوها إلاهة، والإلهة الشمس الحارة حكي عن ثعلب، والإلهية والإلاهة ( بالفتح والكسر ) وألاهة ( مضمومة الهمزة غير معرفة ) كله الشمس الخ ثم ذكر أن : الإلاهة والألوهة والألوهية العبادة. وذكر عند تفسير الإله بالمعبود في أول المادة قولهم : إله بين الآلهة والإلهية والإلهانية وأن أصله من أله ياله ( من باب علم ) إذا تحير.
هذا وإن دلالة مادة ال ه على العبادة والمعبود سامية قديمة منقولة عن الكلدانيين وغيرهم. قال البستاني في دائرة المعارف عند تعريف ( الله ) بأنه اسم للذات الواجب الوجود المستحق لجميع المحامد – أي كما قال علماء المسلمين - : وهو بالعبرانية ألوهيم بصيغة الجمع تعظيما لا تكثيرا. وقد يطلق على غير لله، ويهوه أي الكائن وهو خاص به تعالى. وإيل أي القدير. وبالسريانية ألوهة وبالكلدانية إلاها اه. وفي تواريخ المتأخرين المؤيدة بالعاديات ( الآثار القديمة ) أن أعظم أرباب الكلدانيين وآلهتهم ( إيل – أو – إل ) فهو رب الأرباب وأصل الآلهة، وليس له تمثال ولا صورة في معابدهم. والظاهر أنهم كانوا يعتقدون مما ورثوا من دين نوح عليه السلام أنه منزه عن صفات الخلق وتخيلاتهم. وروى ديودورس عن فيلو أنه مرادف لزحل، ولا يصح هذا إلا أن يراد بزحل أبو المشتري كما قيل ذلك وقد أشاروا إلى الإيمان به في عصور قدماء ملوكهم، ومما قالوا عنه في أقدم الخرافات أنه أولد ولدين ( أنا ) و ( بيل ) و ( أنا ) هذا هو رأس ( الثالوث ) الكلداني وقيل إن هذا الاسم بمعنى اسم الجلالة ( الله ) ويقولون أنو إذا كان فاعلا وأنا إذا كان مفعولا وأني إذا كان مضافا إليه. ومن ألقابه عندهم – القديم والرأس الأصلي وأبو الآلهة ورب الأرواح والشياطين وملك العالم الأسفل وسلطان الظلام أو رأس لموت. ووجدت آثار عبادته في مدينة ( أرك ) وهي الوركاء. قال ياقوت : الوركاء موضع بناحية الروابي ولد به إبراهيم الخليل عليه السلام. وقد بنى أحد ملوكهم معبدا له ولابنه ( قول ) في أشور سنة ١٨٣٠ قبل المسيح فصار اسم هذه المدينة بعد ذلك ( تلان ) وأصله ( تل أنا ) وجاء ذكره في آجر للملك ( أوركه ) اكتشفت في أنقاض ( أم قبر ) هذه ترجمته :« إن إله القمر ابن شقيق ( أنو ) وبكر ( بعلوس ) قد حمل ( أروكه ) الرئيس التقي ملك ( أور ) على بناء هيكل ( تسين كاثو ) معبدا مقدسا له».
والثاني من ثالوثهم ( بلوس – أو – بيل ) ولعلهما محرفان عن ( بعل ) و ( بعلوس ) ومن أسمائهم ( أنو ) و ( إيل أنيو ) ومعناه السيد. وتلحق غالبا بلفظ ( نيبرو ) ومؤنثها ( نيبروث ) وهي قريبة من كلمة ( نمرود ) التي هي في ترجمة التوراة السبعينية ( نبروث ) وكلمة ( نيبرو ) مشتقة من كلمة نابار السريانية ومعناها طارد، وتدل مادة نبر في العربية على الارتفاع فنبر رفع والنبرة الشيء المرتفع ففيها معنى الشرف. ومعناها في الأشورية يقارب معناها في السريانية ( فبيل نبرو ) بمعنى السيد الصياد أو رب الصيد – ولذلك قيل إنه نمرود المذكور في العهد العتيق، ويقولون إنه كان يصيد الوحوش. وهو بعلوس الذي ذكر مؤرخو اليونان أنه باني مدينة ( بابل ) وملكها الكلدانيون يعبدون ( نمرود ) مدة وجود دولتهم وكانوا يكنونه بأبي الآلهة ويكنون زوجه المسماة ( موليتا – أو – أنوتا ) بأم الآلهة العظام. ولكن وصفت في بعض الآثار بأنها زوج ( نين ) وهو ابنها وفي بعضها أنها زوج ( أشور ) ولها ألقاب عظيمة ووجد لها عدة هياكل.
والثالث من ثالوثهم ( حوا- أو- حيا ) وهو حيوان بعضه كالإنسان وبعضه كالسمك زعموا أنه خرج من خليج فارس ليعلم سكان ضفاف النهرين علم الفلك والأدب، ونسب إليه اختراع حروف الهجاء، وقد وجد اسمه على صحيفة من الآجر وجدت في خرائب ( أور ) ويرى بعض الباحثين أن اسمه من مادة الحياة العربية أو الحية، وشعاره في القلم الكلداني الشكل الأسفيني. ومنه رسم الحية للدلالة على منتهى الذكاء والحكمة والإشارة إلى الحياة. وله ألقاب عظيمة.
وكان للكلدان ( ثالوث ) آخر أحد آلهته ( سيني ) وهو القمر وهذا الاسم سامي فاسم القمر بالسريانية سين وكذا في السنسكريتية، ومن ألقابه زعيم الأرباب في السماء والأرض ( وبعل رونا ) أي رب البناء، وكانوا يصورونه في جميع تطوراته منذ يكون هلالا، وله هياكل كثيرة وأعظم معابده في ( أور ). والثاني ( سان ) أو ( سانسي ) وهو الشمس، والاسم سامي أيضا ومنه السنا بالعربية وهو بالقصر الضياء وقيل ضوء النار والبرق والصواب أنه أعم قال تعالى ﴿ هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا ﴾ [ يونس : ٥ ] ومنه ( شاني ) بالعبرية ومعناها لامع، واسم الشمس ضياء باللغة السنسكريتية ( سيونا ) ومن ألقاب هذا الإله : رب النار ونير الأرض والسماء. وكان له هياكل في المدن الكبيرة وأشهرها ( بيت بارا ) وبارا أو فرا اسم الشمس بالمصرية القديمة وكان اسم ( هليبوليس ) عندهم ( سيبارا ) وتسمى في الآثار ( تسيبار شاشاماس ) ومعنى الثلاثة مدينة الشمس. وللشمس زوجة عندهم يسمونها ( أي ) و ( كولا ) و( أنونيت ). وثالث الثلاثة ( فول ) أو ( أيفا ) أي الهواء وهو رب الجو القاتم بتسخير الرياح والعواصف والأعاصير المتصرف في الزراعة والمواسم. ومن هياكله بناه الملك ( شماش فول ) الذي ملك الكلدان سنة ١٨٥٠ قبل المسيح.
وهذه الأخبار والآثار تشهد بصدق القرآن، وكونه حجة لله على الأنام، لأن من جاء به أمي لم يقرأ شيئا من كتب الأولين، ولا رأى أثرا من آثار الغابرين، فيعلم منها خبر معبوداتهم. ولا يرد عليه ما أورد على العهد العتيق من كون كاتبه ( عزرا الكاهن ) كتبه بعد السبي فاقتبس فيه كثيرا من تقاليد البابليين.
المسألة الثانية : معنى الرب والإله وشبهة الشرك وكونه قسمان
ظاهر ما حكاه الله تعالى عن إبراهيم صلى الله عليه وسلم أن قومه كانوا يتخذون الأصنام آلهة لا أربابا ويتخذون الكواكب أربابا آلهة، فالإله هو المعبود فكل من عبد شيئا فقد اتخذه إلها، والرب هو السيد المالك والمربي والمدبر والمتصرف، وليس للخلق رب ولا إله إلا الله الذي خلقهم، فهو المالك لكل شيء في كل زمن وكل حال وملكه حقيقي تام، وملك غيره عرفي ناقص موقوت، له أجل محدود، وهو المعبود بحق، إذ العبادة الحق لا تكون إلا للرب، فإن العبادة هي التوجه بالدعاء وكل تعظيم قولي أو عملي إلى ذي السلطان الأعلى على عالم الأسباب وما هو فوق الأسباب، لأنه هو الموجد لها والمتصرف فيها، فهي خاضعة لسلطانه وكل ما عداه فهو خاضع لسلطانها بل سلطانه فيها. والأصل في اختراع كل عبادة لغيره تعالى أمران :
أحدهما : أن بعض ضعفاء العقول رأوا بعض مظاهر قدرته تعالى في بعض خلقه فتوهموا أن ذلك ذاتي لهذا المخلوق ليس خاضعا لسنن الله في الأسباب والمسببات لقصر إدراكهم عن الوصول إلى كون القدرة الذاتية خاصة بخالق كل شيء الذي أعطى كل شيء خلقه وما امتاز به على غيره، وكون خفاء سبب الخصوصية لا يقتضي عدم خضوع صاحبها لسنن الخالق فيها وفي غيرها من شؤونه ( أي شؤون صاحب الخصوصية ) ووثنية هؤلاء هي الوثنية السافلة.
ثانيهما : اتخاذ بعض المخلوقات ذات الخصوصية في مظاهر النفع والضر، وسيلة إلى الرب الإله الحق، تشفع عنده وتقرب إليه كل من توجه إليها، أو التماثيل والأصنام والقبور وغيرها مما يمثلها أو يذكر بها، فيتوسل ذو الحاجة بدعائها وتعظيمها بالقول أو الفعل لأجل حمله تعالى بتأثيرها عنده، على قبوله وإعطائه سؤله، وهذا التوسل توجه إلى غير الله مبني على اعتقاد عدم انفراد الرب بالاستقلال بقضاء الحاجات، وكونه يفعل بتأثير الوسيلة في إرادته، وهذا شرك في العبادة ينافي الحنيفية. وهذه هي الوثنية الراقية التي كانت العرب عليها في زمن البعثة، ولذلك كانوا يقولون في طوافهم :( لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك ).
وكان بعض قوم إبراهيم صلى الله عليه وسلم قد ارتقوا في وثنيتهم إلى هذه المرتبة في الجملة أو أوشكوا، إذ أنهم عقلوا أن الأصنام لا تسمع دعاءهم ولا تبصر عبادتهم، ولا تقدر على نفعهم ولا ضرهم، وإنما قلدوا بعبادتها آباءهم، كما يعلم من محاجته صلى الله عليه وسلم لهم في سورة الشعراء ( ٢٦ : ٦٩ ) الخ ولذلك اتخذوها آلهة معبودين، لا أربابا مدبرين، ولكنهم اتخذوا الكواكب أربابا لما لها من التأثير السببي أو الوهمي في الأرض، وتوسعوا في إسناد التأثير إليها حتى اخترعوا من ذلك ما لا شبهة له، فكانوا يعتقدون أن الشمس رب النار ونير الأرض والسماء يدبر الملوك ويفيض عليهم روح الشجاعة والإقدام وينصر جندهم ويخذل عدوهم ويمزقه كل ممزق – ويعتقدون نحو ذلك في زحل واسمه ( بيني ) ويعتقدون أن مرداخ، وهو المشتري، شيخ الأرباب ورب العدل والأحكام حافظ الأبواب التي يدخلها الخصوم لفصل الخصومات، وأن ( رنكال ) وهو المريخ كمي الأرباب ورب الصيد وسلطان الحرب، فهو يشترك مع زحل في تدبيره إلا أن هذا هو المقدم في الصيد وذاك المقدم في الحرب، وأن عشتار ( أو نانا ) وهي الزهرة ربة الغبطة والسعادة ومفيضة السرور على الناس، وتمثل في الآثار بامرأة عارية. وأن (


١ أخرجه البخاري في الأذان باب ٧١، ومسلم في الصلاة حديث ١٢٧، ١٢٨، وأبو داود في الصلاة باب ٩٣، والترمذي في الصلاة باب ٥٣، وابن ماجه في الإقامة باب ٥٠، وأحمد في المسند ٤/٢٧١، ٢٧٢، ٢٧٦، ٢٧٧..
﴿ وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون ٨٠ وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون ٨١ الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون ٨٢ وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم ٨٣ ﴾
المحاجة المجادلة والمغالبة في إقامة الحجة. والحجة الدلالة المبينة للمحجة أي المقصد المستقيم كما قال الراغب، وأصل المحجة وسط الطريق المستقيم، وتطلق الحجة على كل ما يدلي به أحد الخصمين في إثبات دعواه أو رد دعوى خصمه، فتقسم إلى حجة ناهضة يثبت بها الحق، وحجة داحضة يموه بها الباطل، وإنما يسمى ما لا يثبت به الحق حجة على سبيل ادعاء الخصم، حكاية لقوله، واصطلحوا على تسميتها شبهة.
ولما حاج إبراهيم قومه ببيان بطلان عبادة الأصنام وربوبية الكواكب وإثبات وحدانية الله تعالى ووجوب عبادته وحده- وهي الحنيفية- حاجوه ببيان أوهامهم في شركهم، وقد بين الله تعالى في سورتي الأنبياء والشعراء أنهم اعتذروا له عن عبادة الأوثان والأصنام بتقليد آبائهم، وليس للمقلد أن يحتج، ولكنه يجادل ويحاج مع كونه لا يخضع للحجة إذا قامت عليه، ويؤخذ من هذه الآية أنهم لما لم يجدوا حجة عقلية على شركهم بالله خوفوه أن تمسه آلهتهم بسوء. والظاهر أن هذا كان قبل ما حكى الله تعالى عنه وعنهم في سورة الشعراء بقوله :﴿ قال هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون ﴾ [ الشعراء : ٧٢-٧٤ ] وقبل واقعة تكسيره لأصنامهم التي قال الله فيها من سورة الأنبياء إنهم رجعوا إلى أنفسهم فاعترفوا بظلمهم، ثم نكسوا على رؤوسهم مصرين على شركهم، وكثيرا ما يضطرب المقلد لسماع الحجة إذ يومض في قلبه برقها، ويهز شعوره رعدها ويكاد يحييه ودقها، ثم ينكس على رأسه، ويعود إلى سابق وهمه، خائفا من غير مخوف، راجيا غير مرجو، كما نراه في عباد أصحاب القبور الذين يتوهمون أن قبورهم وغيرها من آثارهم تدفع عمن زارها أو تمسح بها الضر وتكشف السوء، وتدر الرزق وتخزي العدو، إما بتصرفهم في الخلق، وإما لأنهم قربان عند الرب، ولا يرون ذلك ناقضا للإيمان الصحيح بالله عز وجل ﴿ وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ﴾ [ يوسف : ١٠٦ ].
قال تعالى ﴿ وحاجه قومه ﴾ أي وجادله قومه بعد ما تقدم من أمره معهم وخاصموه في أمر التوحيد الذي قرره لهم، كأن زعموا كما روي وسمع من أمثالهم أن اتخاذ الإلهة لا ينافي الإيمان بالله الفاطر سبحانه، لأنهم وسطاء وشفعاء عنده، ومتخذون لأجله، وذلك ما تقدم قريبا عن ابن زيد في تفسير قوله :﴿ إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا ﴾ وخوفوه بطشهم به فماذا قال عليه السلام ؟ ﴿ قال أتحاجوني في الله وقد هدان ﴾ أي أتجادلونني مجادلة صاحب الحجة في شأن الله تعالى وما يجب في الإيمان به- والحال أنه قد فضلني عليكم بما هداني إلى التوحيد الخالص والحنيفية التي أقمت بها الحجة عليكم، وأنتم ضالون بإصراركم على شرككم، وتقليدكم به من قبلكم ؟ وقد خفف نون ( تحاجوني ) نافع وابن عامر في رواية ابن ذكوان وذلك بحذف إحدى النونين، وشددها سائر القراء، وهما لغتان للعرب في مثلها. وحذفت الياء من هداني في الرسم، لأنها لا تظهر في النطق.
﴿ ولا أخاف ما تشركون به ﴾ من الكواكب والأصنام أن تصيبني بسوء، فإني أعلم علم اليقين أنها لا تضر ولا تنفع، ولا تبصر ولا تسمع، ولا تقرب ولا تشفع ﴿ إلا أن يشاء ربي شيئا ﴾ أي لكن أستثني من عموم الخوف في عموم الأوقات، من جهة آلهتكم كغيرها من المخلوقات، إن شاء ربي القادر على كل شيء وقوع مكروه بي، فإنه يقع لا محالة كما شاء ربي، فإن فرض أنه شاء أن يسقط علي صنم يشجني، أو كسف من شهب الكواكب يقتلني، فإن ذلك يقع بقدرة ربي ومشيئته، لا بمشيئة الصنم أو الكوكب ولا بقدرته، فإن ذلك يقع بقدرة ربي ومشيئته، لا بمشيئة الصنم أو الكوكب ولا بقدرته، ولا بتأثيره في قدرته تعالى وإرادته، ولا بجاهه عنده وشفاعته، إذ لا تأثير لشيء من المخلوقات في مشيئة الخالق الأزلية الجارية بما ثبت في علمه الأزلي.
﴿ وسع ربي كل شيء علما ﴾ أي أن علم ربي وسع كل شيء وأحاط به. ومشيئته مرتبطة بعلمه المحيط القديم وقدرته منفذة لمشيئته، فلا يمكن أن يكون لشيء من المخلوقات التي تعبدونها ولا لغيرها تأثير ما في صفاته، ولا في أفعاله الصادرة عنها، لا بشفاعة ولا غيرها، وإنما يكون ذلك لو كان علم الله تعالى غير محيط بكل شيء، فيعلمه الشفعاء والوسطاء من وجوه مرجحات الفعل أو الترك بالشفاعة أو غيرها ما لم يكن يعلم، فيكون ذلك هو الحامل له على الضر أو النفع، أو العطاء أو المنع. أخذنا هذا المعنى لهذه الجملة من حجج الله تعالى على نفي الشفاعة الشركية بمثل قوله :﴿ من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء ﴾ [ البقرة : ٢٥٥ ] فراجع تفسيره ( في جزء التفسير الثالث ) وجعل الجملة بعضهم كالتعليل للاستثناء، بجواز أن يكون لا يفعل إلا ما فيه الخير والصلاح، وجعلها بعضهم تعريضا بجهل معبوداتهم من الكواكب والأوثان، وما قلناه أرجح وهو من قبيل تفسير القرآن بالقرآن.
﴿ أفلا تتذكرون ﴾ أيها الغافلون أن هذا هو شأن الرب الفاطر، وأنه ينافي ما أنتم عليه من الشرك الظاهر، ومنه اعتقاد وقوع الضر بي أو النفع لكم، بالتصرف الذي تزعمونه في معبوداتكم وقد تقدم أنهم كانوا مؤمنين بأن للعالم كله ربا خالقا غير هذه الآلهة والأرباب المتخذة من مخلوقاته اتخاذا، ولكنهم لم يكونوا يعقلون بأنفسهم أن نسبة جميع الخلق إلى الخالق واحدة من حيث إنه هو الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، فسخر ما شاء لما شاء بسنن الأقدار، ونظام الأسباب والمسببات، ثم هدى العقلاء لتلك الأسباب، ليطلبوا المنافع ويتقوا المضار، وقد ظهر بالدلائل والتجارب أنها مسخرة على سواء، فالسلطة الغيبية العليا له وحده ليس لغيره تأثير فيها معه ولا تدبير، فإذا جعل بعض الأجناس أو الأشخاص سببا للنفع أو الضر بإرادة خلقها لها كالحيوانات، أو بغير إرادة كالجمادات، فلا يقتضي ذلك أن ترفع عن رتبة المخلوقات، وتجعل أربابا ومعبودات. وكان يجب أن يفطن العاقل لذلك ويتذكره بالتذكير به، لأنه تذكير بما يدركه العقل بالبرهان، وتعرفه الفطرة بالوجدان، فكأنه مما غفل عنه، لا مما جهله، لأنه معلوم له بالقوة. وفسر ابن جرير التذكر هنا بالاعتبار والاتعاظ وهو أحد معانيه ﴿ فذكر إن نفعت الذكرى * سيذكر من يخشى ﴾ [ الأعلى : ٩، ١٠ ].
ومن العبرة في الآية أن هذا الضرب من الشرك الذي رده إمام الموحدين إبراهيم صلوات الله عليه، لا يزال فاشيا في كثير من المنتمين في التوحيد إلى ملته، لأنهم لم يعقلوا ما تقدم من حجته، فهم ينسبون إلى من يعتقدون أن لهم تصرفا غيبيا في المخلوقات، سواء كانوا من الأحياء أو الأموات ما يقع عقب زيارتهم لهم، أو توسلهم بهم، من زوال ألم، أو خير ألمّ، أو نفع أصاب حبيبا دعوا له، أو ضر أصاب عدوا دعوا عليه، وإنما يقع ما يقع من ذلك بسبب حقيقي جلي، أو وهمي خفي، وكل بتقدير الله السميع العليم، العزيز الحكيم.
وبعد أن بين لهم عليه السلام أنه لا يخاف شركاءهم بل يخاف الله وحده من ناحية الأسباب ومن غير ناحيتها قال :﴿ وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا ﴾ ؟ ؟ أي وكيف أخاف ما أشركتموه بربكم من خلقه فجعلتموه ندا له، وهو لا ينفع ولا يضر، ولا يسمع ولا يبصر، ولا تخافون أنتم إشراككم بالله خالقكم ما لم ينزل به عليكم حجة بينة بالوحي، ولا بنظر العقل، تثبت لكم جعله شريكا له في الخلق والتدبير، أو في الوساطة والشفاعة والتأثير، فافتياتكم على خالقكم الذي بيده الضر والنفع بهذه الموبقة الفظيعة هو الذي يجب أن يخاف ويتقى. فالاستفهام للإنكار التعجبي من تخويفهم إياه ما لا يخيف، في حال كونهم لا يخافون أخوف ما يخاف، وقد قيل إن هذا الاستفهام عن كيفية الخوف لا عن الخوف نفسه وبحثوا عن نكتته، والمراد نكتة العدول عن الاستفهام بالهمزة إلى الاستفهام بكيف، وهي تؤخذ من قول أهل اللغة في معنى كيف من كونها سؤالا عن الأحوال- لا مما تكلفه بعض المفسرين- والمعنى أن كل صفة وحال يمكن أن تدعى لصحة هذا الخوف فهي باطلة، وأنه عليه السلام لم يجد لهذا الخوف حالا ولا وجها، فلا هو يخاف هؤلاء الشركاء لذواتهم، ولا لما يزعمونه من وساطتهم عند الله وشفاعتهم، ولا لقدرة على الضر والنفع قد تدَّعى- ولو بجعل الله- لهم، ولا لثبوت جعلهم أسبابا للضرر بغير إرادة ولا اختيار منهم، فالمراد أن جميع وجوه الخوف وأحواله الحقيقية والمجازية منتفية، وإلا فعليهم بيان كيف يخافون.
وقد حذف متعلق الشرك في مقام إنكار خوفه من شركائهم، وذكره بعده في مقام إنكار عدم خوفهم من شركهم، وهو قوله :﴿ ما لم ينزل به عليكم سلطانا ﴾ – لأن الحاجة إلى بيان عدم وجود السلطان – أي الدليل – على هذا الشرك إنما يحتاج إليه في مقام إسناده إليهم والتعجب من عدم خوفهم سوء عاقبته، ما لا يحتاج إليه في مقام إنكاره هو كل حال يمكن أن تدعى لخوفه من شركائهم، فهو يثبت بذلك الإطلاق أنه لا يمكن أن توجد حال ولا صفة للخوف مما أشركوه، فلو عدل عنه إلى تقييد إنكاره بما ذكر لفات بهذا القيد ذلك العموم البليغ، وذهب ذهن السامعين إلى أنه سيخاف إذا ظهر له دليل على صحة دعواهم، وهم قوم مقلدون يعتقدون أنه لا بد من وجود أدلة تثبت صحة اعتقادهم، وإن لم يعرفوها أو يقدروا على بيانها لخصمهم، وأما ذكر هذا المتعلق في مقام الإنكار التعجبي من عدم خوفهم فهو ضروري لأنه تذكير لهم عند ذكر عقيدتهم بأنهم لا عذر لهم بالجهل ببطلانها، لأنه لا دليل لهم عليها.
وقال بعض المفسرين إن قوله :﴿ ما لم ينزل به عليكم سلطانا ﴾ قد ذكر على طريق التهكم مع الإعلام بأن الدين لا يقبل إلا بالحجة المنزلة أو مطلق الحجة القاطعة، وأن التقليد ليس بعذر، ولا سيما تقليد من ليس على هداية ولا علم، ولا بصيرة ولا عقل. وذكر الرازي في العبادة وجهين : أحدهما : أنها كناية عن امتناع وجود الحجة والسلطان على الشرك، والمعنى ما لم ينزل به سلطانا لأنه باطل لا يمكن أن يقوم عليه برهان، فهو كقوله تعالى :﴿ ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به ﴾ [ المؤمنون : ١١٧ ] أي لا برهان له به يعلمه ولا برهان يجهله لاستحالة البرهان على الباطل. ثانيهما : أنه لا يمتنع عقلا أن يؤمر باتخاذ تلك التماثيل والصور قبلة للدعاء والصلاة. وأقول إن هذا الوجه لا محل له لأن جعلها قبلة غير جعلها شركاء يخاف ضرها ويرجى نفعها لذاتها أو لوساطتها عند الله تعالى. فالقبلة لا تأثير لها في نفع ولا ضر لا بالذات ولا بالشفاعة كما يعتقدون في الشركاء وإنما يتوجه إليها امتثالا لأمر الله ومثل ذلك استلام الحجر الأسود في الطواف، فالانتفاع محصور في طاعة الله تعالى بذلك لأنه هو الذي يزكي النفس.
ثم رتب صلوات الله عليه على هذا الإنكار التعجبي ما هو نتيجة له بقوله :﴿ فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون ( ٨١ ) ﴾ ؟ المراد بالفريقين فريق الموحدين الحنفاء الذين يعبدون الله وحده، ويخافونه ويرجونه ولا يخافون ولا يرجون غيره من دونه، وإنما يعارضون الأسباب، ويدافعون الأقدار بالأقدار، كاتقاء أسباب الأمراض قبل وقوعها، ومدافعتها بالأدوية بعد الابتلاء بها، وفريق المشركين الذين استكبروا تأثير بعض الأسباب، فاتخذوا من الآلهة والأرباب، بل نسبوا إلى بعضها النفع والضر بخداع المصادفات واخترع الأوهام، فهو يقول لهم أي هذين الفريقين أحق وأجدر بالأمن على نفسه، من عاقبة عقيدته وعبادته ؟ ونكتة عدوله عن قول : فأينا أحق بالأمن. إلى قوله :﴿ فأي الفريقين ﴾ هي بيان أن هذه المقابلة عامة لكل موحد ومشرك، من حيث إن أحد الفريقين موحد والآخر مشرك، لا خاصة به وبهم، فهي متضمنة لعلة الأمن.
وقيل إن نكتته الاحتراز عن تزكية النفس. واسم التفضيل على غير بابه، فالمراد أينا الحقيق بالأمن، ولكنه عبر باسم التفضيل ناطقا في استنزالهم عن منتهى الباطل وهو ادعاؤهم أنهم هم الحقيقون بالأمن، وأنه هو الحقيق بالخوف، إلى الوسط النظري بين الأمرين، وهو أي الفريقين أحق، واحترازا عن تنفيرهم من الإصغاء إلى قوله كله. ثم قال ﴿ إن كنتم تعلمون ﴾ أي أيهما أحق بالأمن- أو إن كنتم من أهل العلم والبصيرة في هذا الأمر- فأخبروني بذلك، وبينوه بالدلائل ؟ وهذا إلجاء إلى الاعتراف بالحق، أو السكوت على الحماقة والجهل. وأما الجواب فهو قوله الحق :﴿ الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون ﴾.
﴿ الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون ﴾ في هذا الجواب احتمالات : أحدها : أنه من قوم إبراهيم : أي تذكروا لما ذكرهم، وراجعوا عقولهم وفطرتهم، فاعترفوا بالحق كما اعترفوا حين كسر أصنامهم من بعد، إذ قال لهم ﴿ بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون * ثم نكسوا على رؤوسهم : لقد علمت ما هؤلاء ينطقون ﴾ [ الأنبياء : ٦٣-٦٥ ] وقد روى ابن جرير هذا الاحتمال عن ابن جريج. الثاني : أنه من قبل إبراهيم عليه السلام صرح به إذ سكتوا عن الجواب مفحمين مبالغة في تبكيتهم، وقد قال الآلوسي إن هذا روي عن علي كرم الله وجهه، ولم أره في تفسير ابن جرير ولا ابن كثير ولا الدر المنثور، ولعله نقله عن بعض تفاسير الشيعة. الثالث : إنه من الله عز وجل فصل به القضاء بين إبراهيم ومن حاجه من قومه – رواه ابن جرير عن ابن إسحاق وابن زيد واختاره وقال إنه أولى القولين بالصواب، وقد يرجحه في اللفظ عطف الآية التالية على هذه.
والذي نراه أن الأمن في هذا الكلام يقابل الخوف فيه، وهو الأمن من عذاب الرب المعبود لمن لا يرضى إيمانه وعبادته، فإنهم خوفوا إبراهيم أن تمسه آلهتهم وأربابهم بسوء لجحده إياهم وعداوته لهم، فأجاب بأنه إنما يخاف الله وحده ولا يخافهم، والظلم الذي يلبس به الإيمان بالله ويخالطه، فينقص منه أو ينقصه، هو الشرك في العقيدة أو العبادة، كاتخاذ ولي من دون الله يدعى معه أو من دونه، ولو لأجل التقريب إليه والشفاعة عنده، ويحب كحبه، ويعظم من جنس تعظيمه، لاعتقاد أن له سلطانا من وراء الأسباب ينفع به ويضر بذاته، أو بتأثيره في مشيئة الله وقدرته، ولا يدخل فيه الظلم الذي ليس من شأنه أن لا يلابس الإيمان، كظلم المرء نفسه بإتيان بعض المضار، أو ترك بعض المنافع عن جهل أو إهمال، أو ظلم غيره ببعض الأحكام أو الأعمال، وهذا التفسير للظلم يبين به ما ورد تفسيره به في الحديث المرفوع الذي سنذكره.
فإن قيل : إن الظلم في الآية نكرة في حيز النفي فهي للعموم والشمول، قلنا : إن عموم كل شيء يحسبه قوله تعالى :﴿ إن الله على كل شيء قدير ﴾ [ البقرة : ٢٠ ] عام في كل شيء ممكن، ولا يدخل في عمومه ذات الله تعالى وصفاته الواجبة له فلا يقال إنه قادر على إعدامها ولا على إيجادها ولا أنه غير قادر، وقوله في ملكة سبأ :﴿ وأوتيت من كل شيء ﴾ [ النمل : ٢٣ ] عام في كل ما يحتاج إليه الملوك، لا كل شيء في الوجود، فمن لم يقبل جعل مثل هذا من العام بإطلاق، فليجعله من العام الذي أريد به الخاص. وقد ذهل الزمخشري عن كون الإيمان هنا هو الإيمان المطلق الذي أثبته القرآن للمشركين لا الإيمان الصحيح الكامل الذي جاء به الرسل ولهذا الذهول جزم بأن المراد بالظلم هنا المعاصي دون الشرك لأن الشرك لا يخالط الإيمان الصحيح لأنه ضده ونقيضه. نقول نعم ولكنه يخالط مطلق الإيمان بالله تعالى وذلك قوله تعالى في المشركين :﴿ وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ﴾ [ يوسف : ١٠٦ ].
ثم لا يخفى أن الأمن في الآية مقصور على الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم فإذا حمل العموم فيها على إطلاقه وعدم مراعاة موضوع الإيمان يكون المعنى : الذين آمنوا ولم يخلطوا إيمانهم بظلم ما لأنفسهم – لا في إيمانهم ولا في أعمالهم البدنية والنفسية، من دينية ودنيوية، ولا لغيرهم من المخلوقات، من العقلاء والعجماوات، أولئك لهم الأمن من عقاب الله تعالى الديني على ارتكاب المعاصي والمنكرات، وعقابه الدنيوي على عدم مراعاة سننه في ربط الأسباب بالمسببات، كالفقر والأسقام والأمراض، دون غيرهم ممن ظلموا أنفسهم أو غيرهم، فإن الظالمين لا أمان لهم، بل كل ظالم عرضة للعقاب وإن كان الله تعالى لسعة رحمته لا يعاقب كل ظالم على كل ظلم، بل يعفو عن كثير من ذنوب الدنيا، ويعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء في الآخرة ما دون الشرك به.
وهذا المعنى في تفسير الآية صحيح في نفسه، ويترتب عليه أن الأمن المطلق من الخوف من عقاب الله الديني والدنيوي أو الشرعي والقدر جميعا لا يصح لأحد من المكلفين، دع خوف الهيبة والإجلال، الذي يمتاز به أهل الكمال، وقد صح إسناد الخوف إلى الملائكة والأنبياء ﴿ يخافون ربهم من فوقهم ﴾ [ النحل : ٥٠ ] ﴿ ويرجون رحمته ويخافون عذابه ﴾ [ الإسراء : ٥٧ ] ﴿ وهم من خشيته مشفقون ﴾ [ الأنبياء : ٢٨ ] وهذا التفسير يؤيد قول إبراهيم عليه الصلاة والسلام }، ﴿ إلا أن يشاء ربي شيئا ﴾ على ما تقدم. وأما الأمن من عقاب الآخرة بالفعل وهو النجاة منه فهو ثابت للملائكة والأنبياء عليهم السلام، ولكثير ممن دونهم من الصالحين الذين يدخلون الجنة بغير حساب، وإن لم يعلم ذلك في الدنيا كل منهم ليبقى جامعا بين الخوف والرجاء. ومن الناس من يؤمن فيموت قبل أن يظلم أحدا. وقد ورد حديث في إدخال مثل هذا في مفهوم الآية.
وأما معنى الآية على الوجه الأول فهو : الذين آمنوا بالله تعالى ولم يخلطوا إيمانهم بظلم عظيم، وهو الشرك به سبحانه، أولئك لهم الأمن دون غيرهم من العقاب الديني المتعلق بأصل الدين وهو الخلود في دار العذاب، وهم فيما دون ذلك بين الخوف والرجاء.
وروي عن علي كرم الله وجهه أنه قال : نزلت هذه الآية في إبراهيم وقومه خاصة ليس في هذه الأمة، ولعل مراده أن الله خص إبراهيم وقومه بأمن موحدهم من عذاب الآخرة مطلقا لا أمن الخلود فيه فقط، ولعل سبب هذا إن صح أن الله تعالى لم يكلف قوم إبراهيم شيئا غير التوحيد اكتفاء بتربية شرائعهم المدنية الشديدة لهم في الأحوال الشخصية والأدبية وغيرها. وقد اكتشف الباحثون شريعة حمورابي الملك الصالح الذي كان في عهد إبراهيم – وقد باركه وأخذ منه العشور كما في سفر التكوين – فإذا هي كالتوراة في أكثر أحكامها، وأما فرض الله الحج على لسان إبراهيم فقد كان في قوم ولده إسماعيل لا في قومه الكلدانيين، وأما هذه الأمة فإن من موحديها من يعذبون بالمعاصي على قدرها، لأنهم خوطبوا بشريعة كاملة يحاسبون على إقامتها.
هذا – وأما حصر الأمن فيمن ذكر على الوجهين فيؤخذ من تكرار الإسناد ثلاثا وتقديم المسند على المسند إليه الثالث، ولولا إرادة الاختصاص لكان الكلام هكذا : الأمن للذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم، ولو قيل : للذين آمنوا... الأمن – لكان آكد، وآكد منه أن يقال : الذين آمنوا... لهم الأمن. وآكد من هذا نص الآية. وأما كون المراد بالظلم هنا الظلم العظيم منه فقد يدل عليه تنكيره، وأما جعل هذا الظلم العظيم خاصا بالشرك بالله تعالى فلا يعلم من نص الآية ولكن السياق وموضوع الإيمان قد يدل عليه دلالة غير قطعية لغة كما علم مما تقدم. ولذلك فهم بعض الصحابة رضي الله عنه منه العموم المطلق وهم من أهل اللسان، فأخبرهم الرسول عليه الصلاة والسلام – وهو أعلم بمراد من أنزله عليه – بمعناه الدال على أنه من العام الذي أريد به الخاص، روى أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وغيرهم من حديث ابن مسعود أن الآية لما نزلت شق ذلك على الناس وقالوا يا رسول الله وأينا لم يظلم نفسه ؟ فقال صلى الله عليه وسلم :« إنه ليس الذي تعنون ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح ﴿ إن الشرك لظلم عظيم ﴾ إنما هو الشرك »١ وروي تفسير الظلم هنا بالشرك عن أبي بكر وعمر وابن عباس وأبي بن كعب وحذيفة وسلمان الفارسي وغيرهم من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد زعم الرازي أن هذه الآيات تدل على أن معارف الأنبياء بربهم استدلالية لا ضرورية، وإلا لما احتاج إبراهيم إلى الاستدلال، وعلى أنه لا طريق إلى معرفة الله تعالى إلا النظر والاستدلال بأحوال المخلوقات، إذ لو أمكن تحصيلها بغير ذلك لما عدل عليه الصلاة والسلام إلى هذه الطريقة. وقد علم مما فسرنا به الآيات بطلان الحصر في هذين الزعمين وبطلان غيره من مزاعمه النظرية في هذا المقام. والحق أن معرفة الله تعالى لا تحصل على الوجه الصحيح إلا بالوحي، وعلم الأنبياء به ضروري لا نظري، فقد علمهم به ما لم يكونوا يعلمون بنظرهم في المسائل، وعلمهم ما يثبتونها به من الحجج العقلية والدلائل، ولكن من طرق دعوتهم إلى ما هداهم إليه، ومن استدلالهم عليه بعد إعلامهم به، ما هو كسبي لهم يؤدونه بنظرهم واستدلالهم، وقد اطلعنا على نظريات فلاسفة اليونان، وغيرهم من الفلاسفة وعلماء الكلام، فوجدنا أكثرها في باب الإلهيات أوهام، وقد اعترف الرازي نفسه بذلك في أخر عمره، وندم على ما فرط فيه، ولنا بيتان في هذا المقام، قلناهما في أيام تحصيل علم الكلام :
يا أيها الرجل الذي *** هو جاهد في الفلسفه
ماذا يروقك من تعل *** مها وأكثـرها سفه


١ أخرجه البخاري في الأنبياء باب ٤١، وأحمد في المسند ١/٤٢٤..
﴿ وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه ﴾ قيل إن الإشارة إلى كل ما تقدم في هذا السياق، وقيل إلى الآية الأخيرة منه، والأول أقوى وأظهر، وأعم وأشمل، والمراد بالحجة جنسها، لا فرد من أفرادها، أي وتلك الحجة التي تضمنها ما تقدم من المقال، البعيدة المرمى في إثبات الحق وتزييف الضلال، هي حجتنا البالغة، التي لا تنال إلا بهدايتنا السابغة، أعطيناها إبراهيم حجة على قومه مستعلية عليهم، قاطعة لألسنتهم.
﴿ نرفع درجات من نشاء ﴾ الدرجات في الأصل مراقي السلم وتوسع فيها فصارت تطلق على المراتب المعنوية في الخير والجاه والعلم والسيادة والرزق، وقد قرأ الكوفيون درجات بالتنوين، وقرأها الباقون بالإضافة إلى من نشاء، ومعنى الأول نرفع من شئنا من عبادنا درجات بعد أن لم يكن على درجة منها، ومعنى الثانية نرفع درجات من شئنا من أصحاب الدرجات حتى تكون درجته في كل فضيلة ومنقبة أرفع من درجة غيره فيها، وحكمة القراءتين، إثبات المعنيين، فالعلم النظري درجة كمال، والحكمة العلمية والعملية درجتا كمال، وفصل الخطاب، وقوة العارضة في الحجاج، من درجات الكمال، والسيادة والحكم بالحق درجة كمال، والنبوة والرسالة أعلى من كل هذه الدرجات، لأنها تشتمل عليها، وتزيد عنها، وكل ذلك متفاوت بفضل الله فضل بعض أهله على بعض، فهو سبحانه يؤتي الدرجات ابتداء بإعداده وبتوفيقه من يشاء للكسبي منها، واختصاصه من يشاء بالوهبي منها، ثم هو الذي يرفع درجات من يؤتيهم ذلك بتوفيق صاحب الدرجة الكسبية إلى ما ترتقي به درجته، وبصرف موانع هذا الارتقاء عنه، وبإيتاء ذي الدرجة الوهبية ( النبوة ) ما لم يؤت غيره من أهلها من المناقب والآيات المنزلة والتكوينية وكثرة اهتداء الخلق بها ﴿ تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات ﴾ [ البقرة : ٢٥٣ ] وجملة نرفع استئنافية مبينة أن ما آتى الله إبراهيم صلى الله عليه وسلم من الحجة كان باختصاصه بأعلى درجات النبوة الوهبية، وما ترتب عليها من درجات الدعوة الكسبية، وقوله تعالى بعد هذا :
﴿ إن ربك حكيم عليم ( ٨٣ ) ﴾ تذييل مقرر لمضمون ما قبله مبين لمنشأه ومتعلقه من صفات الله تعالى، وقد وضع فيه اسم الرب مضافا إلى ضمير الرسول عليه الصلاة والسلام، موضع نون العظمة على طريق الالتفات، تذكيرا منه تعالى لخاتم رسله بفضله عليه وتفضيله إياه، برفعه درجات على جميع رسل الله، فهو يقول له إن ربك الذي رباك وآواك، وعلمك وهداك، ورفع ذكرك بجوده وكرمه، وجعلك خاتم رسله لجميع خلقه، حكيم في فعله وصنعه، عليم بشؤون خلقه وسياسة عباده، وسيريك شاهد ذلك عيانا في سيرتك مع قومك، كما أراكه بيانا في ما كان من إبراهيم مع قومه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد زعم الرازي أن هذه الآيات تدل على أن معارف الأنبياء بربهم استدلالية لا ضرورية، وإلا لما احتاج إبراهيم إلى الاستدلال، وعلى أنه لا طريق إلى معرفة الله تعالى إلا النظر والاستدلال بأحوال المخلوقات، إذ لو أمكن تحصيلها بغير ذلك لما عدل عليه الصلاة والسلام إلى هذه الطريقة. وقد علم مما فسرنا به الآيات بطلان الحصر في هذين الزعمين وبطلان غيره من مزاعمه النظرية في هذا المقام. والحق أن معرفة الله تعالى لا تحصل على الوجه الصحيح إلا بالوحي، وعلم الأنبياء به ضروري لا نظري، فقد علمهم به ما لم يكونوا يعلمون بنظرهم في المسائل، وعلمهم ما يثبتونها به من الحجج العقلية والدلائل، ولكن من طرق دعوتهم إلى ما هداهم إليه، ومن استدلالهم عليه بعد إعلامهم به، ما هو كسبي لهم يؤدونه بنظرهم واستدلالهم، وقد اطلعنا على نظريات فلاسفة اليونان، وغيرهم من الفلاسفة وعلماء الكلام، فوجدنا أكثرها في باب الإلهيات أوهام، وقد اعترف الرازي نفسه بذلك في أخر عمره، وندم على ما فرط فيه، ولنا بيتان في هذا المقام، قلناهما في أيام تحصيل علم الكلام :
يا أيها الرجل الذي *** هو جاهد في الفلسفه
ماذا يروقك من تعل *** مها وأكثـرها سفه

﴿ ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين ٨٤ وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين ٨٥ وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين ٨٦ ومن آبائهم وذريتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم ٨٧ ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون ٨٨ أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين ٨٩ أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده قل لا أسئلكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين ٩٠ ﴾
بين الله تعالى في الآيات السابقة لهذه بعض ما رفع به من درجات إبراهيم صلى الله عليه وسلم ثم بين في هذه فضله ونعمه عليه في حسبه ونسبه، وأعلاه جعل الكتاب والحكم والنبوة في ذريته، فقال :﴿ ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ﴾ أي ووهبنا لإبراهيم بآية منا إسحاق نبيا من الصالحين، ومن وراء إسحاق ولده يعقوب نبيا نجيبا منجبا للأنبياء والمرسلين، وهدينا كلا منهما كما هدينا إبراهيم بما أتيناهما من النبوة والحكمة وقوة الحجة، وتقدم « كلا » على «هدينا » لإفادة اختصاص كل منهما بما ذكر من الهداية على سبيل الاستقلال لا التبع، لأن كلا منهما كان نبيا، هاديا مهديا، وإنما ذكر إسحاق من ولدي إبراهيم دون إسماعيل، لأن هو الذي وهبه الله تعالى له بآية منه بعد كبر سنه ويأس امرأته سارة على عقمها جزاء لإيمانه وإحسانه، وكمال إسلامه لربه وإخلاصه، بعد ابتلائه بذبح ولده إسماعيل واستسلامه لأمر ربه في الرؤيا من غير تأويل، ولم يكن له ولد سواه على كبر سنه، وقد ولد له من سرية شابة، ولذلك قال تعالى بعد ذلك قصة الذبيح من سورة الصافات ﴿ وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين ﴾ [ الصافات : ١١٢ ] وسنبين حكمة تأخير ذكر إسماعيل وذكره من الرسل عليهم السلام وقال المفسرون والمؤرخون أن كلمة ( إسحاق ) معناها ( الضحاك ) وقيل إن معناها الحرفي ( يضحك ) وقالوا إنه ولد ولأبيه مئة واثنتا عشرة سنة، ولأمه تسع وتسعون سنة، وأنه عاش مئة وثمانين سنة، وقالوا إن معنى كلمة ( يعقوب ) الحرفي « أخذ العقب » والمراد يختلس ما يأخذه.
﴿ ونوحا هدينا من قبل ﴾ أي وهدينا جده نوحا – هديناه من قبل إبراهيم إلى مثل ما هدينا له إبراهيم وذريته من النبوة والحكمة، وإرشاد الخلق وتلقين الحجة، قيل إن اسم ( نوح ) من مادة النوح العربية والمشهور أنه أعجمي، قال الكرماني معناه بالعربية ( الساكن ) وقال مؤرخو أهل الكتاب أن معناه ( راحة ) وأما قوله تعالى :﴿ ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين ( ٨٤ ) وزكريا ويحي وعيسى وإلياس كل من الصالحين ( ٨٥ ) وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين ٨٦ ﴾ فهو عطف على « نوحا هدينا » أي وهدينا من ذريته داود وسليمان إلخ.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد ذكر الله تعالى في هذه الآيات الثلاث أربعة عشر نبيا لم يرتبهم على حسب تاريخهم وأزمانهم لأنه أنزل كتابه هدى وموعظة لا تاريخا – ولا على حسب فضلهم ومناقبهم لأن كتابه ليس كتاب مناقب ومدائح وإنما هو كتاب تذكرة وعبرة، وقد جعلهم ثلاثة أقسام لمعان في ذلك جامعة بين كل قسم منهم.
فالقسم الأول : داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون، والمعنى الجامع بين هؤلاء أن الله أتاهم الملك والإمارة، والحكم والسيادة، مع النبوة والرسالة، وقد قدم ذكر داود وسليمان كانا ملكين غنيين منعمين، وذكر بعدهما أيوب ويوسف وكان الأول أميرا غنيا عظيما محسنا، والثاني وزيرا عظيما وحاكما متصرفا، ولكن كلا منهما قد ابتلى بالضراء فصبر، كما ابتلى بالسراء فشكر، وأما موسى وهارون فكانا حاكمين، ولكنهما لم يكونا ملكين، فكل زوجين من هؤلاء الأزواج الثلاثة ممتاز بمزية، والترتيب بين الأزواج على طريق التدلي في نعم الدنيا، وقد يكون على طريق الترقي في الدين، فداود وسليمان كانا أكثر تمتعا بنعم الدنيا، ودونهما أيوب ويوسف، ودونهما موسى وهارون، والظاهر أن موسى وهارون أفضل في هداية الدين وأعباء النبوة من أيوب ويوسف وأن هذين أفضل من داود وسليمان بجمعهما بين الشكر في السراء، والصبر في الضراء، والله أعلم.
وقد قال تعالى بعد ذكر هؤلاء ﴿ وكذلك نجزي المحسنين ﴾ أي بالجمع بين نعم الدنيا ورياستها بالحق، وهداية الدين إرشاد الخلق، وهذا كما قال الله تعالى في أحدهم يوسف ﴿ ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين ﴾ [ يوسف : ٢٢ ] فهو جزاء خاص بعضه معجل في الدنيا، أي ومثل هذا الجزاء في جنسه يجزي الله بعض المحسنين بحسب إحسانه في الدنيا قبل الآخرة، ومنهم من يرجئ جزاءه إلى الآخرة.
والقسم الثاني : زكريا ويحيى وعيسى وإلياس، وهؤلاء قد امتازوا في الأنبياء عليهم السلام بشدة الزهد في الدنيا والإعراض عن لذاتها، والرغبة عن زينتها وجاهها وسلطانها، ولذلك خصهم هنا بوصف الصالحين، وهو أليق بهم عند مقابلتهم بغيرهم، وإن كان كل نبي صالحا ومحسنا على الإطلاق.
والقسم الثالث : إسماعيل واليسع ويونس ولوط، وأخر ذكرهم لعدم الخصوصية إذ لم يكن لهم من ملك الدنيا أو سلطانها ما كان للقسم الأول، ولا من المغالبة في الإعراض عن الدنيا ما كان للقسم الثاني، وقد قفى على ذكرهم بالتفضيل على العالمين، الذي جعله الله تعالى لكل نبي على عالمي زمانه، فمن كان من النبيين منهم منفردا في عالم أو قوم كان أفضلهم على الإطلاق، وما وجد من نبيين فأكثر في عالم أو قوم فقد يكونون مع تفضيلهم على غيرهم، متفاضلين في أنفسهم، فلا شك أن إبراهيم أفضل من لوط المعاصر له، وأن موسى أفضل من أخيه هارون الذي كان وزيره، وأن عيسى أفضل من ابن خالته يحيى، صلوات الله عليهم أجمعين. وسيأتي ذكر بعضهم في بعض السور مفصلا وفي بعضها مختصرا، ولذلك نرجئ الكلام على كل منهم إلى تفسير تلك السور. والله المسؤول أن يوفقنا لتفسيرها وإتمام تفسير الكتاب العزيز على ما يجب ويرضى عز وجل.
وهذا البيان لترتيب هؤلاء الأنبياء ونكتة ما ذيل به في كل قسم منهم هو مما فتح الله به علينا لم نعلم أن أحدا سبقنا إليه، ولكن حوم بعضهم حوله فلم يقع عليه، وقد قال صاحب روح المعاني وهو أفضل المفسرين المتأخرين، وناهيك بسعة إطلاعه على أقوال الأولين والآخرين :« ولم يظهر لي السر في ذكر هؤلاء الأنبياء العظام، عليهم من الله تعالى أفضل الصلاة وأكمل السلام، على هذا الأسلوب المشتمل على تقديم فاضل على أفضل، ومتأخر بالزمان على متقدم به، وكذا السر في التقرير أولا بقوله تعالى :﴿ وكذلك نجزي ﴾ الخ وثانيا بقوله سبحانه :﴿ كل من الصالحين ﴾ والله تعالى أعلم بأسرار كلامه» اه. ولله الحمد الذي يختص بفضله ورحمته من يشاء، وقد يؤتي مفضولا ما لا يؤتي أفضل الفضلاء.
ونذكر هنا من مباحث اللفظ والقراءات أن القراء اختلفوا في قراءة اسم ( اليسع ) فقرأه الجمهور بلام واحدة بوزن ( اليمن ) القطر المعروف. وقرأه حمزة والكسائي بلامين أدغمت إحداهما في الأخرى بوزن ( الضيغم ) قال بعض المفسرين أن اليسع معرب الاسم العبراني يوشع فهو اسم أعجمي دخلت عليه لام التعريف على خلاف القياس وقارنت النقل فجعلت علامة التعريب فلا يجوز مفارقتها له كاليزيد الذي دخلت عليه في الشعر. وقيل إنه اسم عربي منقول من ( يسع ) مضارع ( وسع ) وأقول الأقرب أنه تعريب ( اليشع ) وهو أحد أنبياء بني إسرائيل وكان خليفة إلياس ( إيليا ومن المعهود في نقل العبري إلى العربي إبدال الشين المعجمة بالمهملة.
وقد استدل بعضهم بذكر عيسى في ذرية إبراهيم أو نوح على أن لفظ الذرية يشمل أولاد البنات وذكر الرازي أن الآية تدل على أن الحسن والحسين من ذرية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : ويقال إن أبا جعفر الباقر استدل بهذه الآية عند الحجاج بن يوسف. ذكر ذلك الآلوسي وقال : وأورد عليه أنه ( أي عيسى ) ليس له أب يصرف إضافته إلى الأم إلى نفسه فلا يظهر قياس غيره عليه في كونه ذرية لجده من الأم، وتعقب بأن مقتضى كونه بلا أب أن يذكر في حيز الذرية وفيه منع ظاهر والمسألة خلافية، ذكر أن موسى الكاظم رضي الله عنه احتج بالآية على الرشيد، ثم ذكر نقلا عن الرازي استدلال الباقر بها وبآيات المباهلة. قال وادعى بعضهم أن هذا من خصائصه صلى الله عليه وسلم وقد اختلف إفتاء أصحابنا في هذه المسألة والذي أميل إليه القول بالدخول اه.
وأقول في الباب حديث أبي بكرة عند البخاري مرفوعا « أن ابني هذا سيد»١ يعني الحسن، ولفظ ابن لا يجري عند العرب على أولاد البنات، وحديث عمر في كتاب معرفة الصحابة لأبي نعيم مرفوعا « وكل ولد آدم فإن عصبتهم لأبيهم خلا ولد فاطمة فإني أنا أبوهم وعصبتهم» وقد جرى الناس على هذا فيقولون في أولاد فاطمة عليهم السلام أولاد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبناؤه وعترته وأهل بيته.
واستدلوا بتفضيل من ذكر من الأنبياء على العالمين على تفضيل الأنبياء على الملائكة بناء على أن العالم اسم لما سوى الله تعالى، وفيه نظر فإن العالمين في مثل هذه الآية لا يفهم منه إلا الناس أو الأقوام من الناس، فهي كالآيات الناطقة بتفضيل بني إسرائيل على العالمين ولم يخطر في بال أحد قرأها أو فسرها أنها تدل على تفضيلهم على الملائكة، ومثلها قوله تعالى حكاية عن قوم لوط :﴿ أولم ننهك على العالمين ﴾ [ الحجر : ٧٠ ]، وقوله في إبراهيم :﴿ ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين ﴾ [ الأنبياء : ٧١ ] وهي أرض الشام بارك الله فيها لمن يسكنها من الناس لا للملائكة وغيرهم من عالم الغيب.

وأما قوله تعالى :﴿ ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين ( ٨٤ ) وزكريا ويحي وعيسى وإلياس كل من الصالحين ( ٨٥ ) وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين ٨٦ ﴾ فهو عطف على « نوحا هدينا » أي وهدينا من ذريته داود وسليمان إلخ. وقد جزم ابن جرير شيخ المفسرين بأن الضمير في ذريته لنوح وتابعه على ذلك بعض المفسرين واحتجوا بأنه أقرب في الذكر وبأن لوطا ويونس ليسا من ذرية إبراهيم، وزاد بعضهم أن ولد المرء لا يعد من ذريته فلا يقال أن إسماعيل من ذرية إبراهيم. وهذا القول لا يصلح لتصريح أهل اللغة بأن الذرية النسل مطلقا.
وأخذ بعضهم من قوله تعالى :﴿ وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون ﴾ أن الذرية تطلق على الأصول كما تطلق على الفروع، وذلك بناء على أن المراد بالفلك المشحون سفينة نوح. وقال بعضهم إن الذرية هنا للفروع المقدرة في أصلاب الأصول، والقول الآخر في الفلك المشحون، أنه سفين التجارة التي كان المخاطبون يرسلون فيها أولادهم يتجرون.
وذهب سائر المفسرين إلى أن الضمير عائد إلى إبراهيم لأن الكلام في شأنه، وما أتاه الله تعالى من فضله، وإنما ذكر نوحا لأنه جده، فهو لبيان نعم الله عليه في أفضل أصوله، تمهيدا لبيان نعمه عليه في الكثير من فروعه، ويزاد على ذلك أن الله جعل الكتاب والنبوة في نسلهما معا، منفردا ومجتمعا، كما قال تعالى في سورة الحديد :﴿ ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب ﴾ [ الحديد : ٢٦ ] وقال بعض هؤلاء : إن يونس من ذرية إبراهيم، وإن لوطا ابن أخيه وقد هاجر معه فهو يدخل في ذريته بطريق التغليب، ويعد منها بطريق التجوز الذي يسمون به العم أبا، وتقدم بيان هذا التجوز في الكلام على أبي إبراهيم صلى الله عليه وسلم في فاتحة تفسير هذا السياق.
وقد ذكر الله تعالى في هذه الآيات الثلاث أربعة عشر نبيا لم يرتبهم على حسب تاريخهم وأزمانهم لأنه أنزل كتابه هدى وموعظة لا تاريخا – ولا على حسب فضلهم ومناقبهم لأن كتابه ليس كتاب مناقب ومدائح وإنما هو كتاب تذكرة وعبرة، وقد جعلهم ثلاثة أقسام لمعان في ذلك جامعة بين كل قسم منهم.
فالقسم الأول : داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون، والمعنى الجامع بين هؤلاء أن الله أتاهم الملك والإمارة، والحكم والسيادة، مع النبوة والرسالة، وقد قدم ذكر داود وسليمان كانا ملكين غنيين منعمين، وذكر بعدهما أيوب ويوسف وكان الأول أميرا غنيا عظيما محسنا، والثاني وزيرا عظيما وحاكما متصرفا، ولكن كلا منهما قد ابتلى بالضراء فصبر، كما ابتلى بالسراء فشكر، وأما موسى وهارون فكانا حاكمين، ولكنهما لم يكونا ملكين، فكل زوجين من هؤلاء الأزواج الثلاثة ممتاز بمزية، والترتيب بين الأزواج على طريق التدلي في نعم الدنيا، وقد يكون على طريق الترقي في الدين، فداود وسليمان كانا أكثر تمتعا بنعم الدنيا، ودونهما أيوب ويوسف، ودونهما موسى وهارون، والظاهر أن موسى وهارون أفضل في هداية الدين وأعباء النبوة من أيوب ويوسف وأن هذين أفضل من داود وسليمان بجمعهما بين الشكر في السراء، والصبر في الضراء، والله أعلم.
وقد قال تعالى بعد ذكر هؤلاء ﴿ وكذلك نجزي المحسنين ﴾ أي بالجمع بين نعم الدنيا ورياستها بالحق، وهداية الدين إرشاد الخلق، وهذا كما قال الله تعالى في أحدهم يوسف ﴿ ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين ﴾ [ يوسف : ٢٢ ] فهو جزاء خاص بعضه معجل في الدنيا، أي ومثل هذا الجزاء في جنسه يجزي الله بعض المحسنين بحسب إحسانه في الدنيا قبل الآخرة، ومنهم من يرجىء جزاءه إلى الآخرة.
والقسم الثاني : زكريا ويحيى وعيسى وإلياس، وهؤلاء قد امتازوا في الأنبياء عليهم السلام بشدة الزهد في الدنيا والإعراض عن لذاتها، والرغبة عن زينتها وجاهها وسلطانها، ولذلك خصهم هنا بوصف الصالحين، وهو أليق بهم عند مقابلتهم بغيرهم، وإن كان كل نبي صالحا ومحسنا على الإطلاق.
والقسم الثالث : إسماعيل واليسع ويونس ولوط، وأخر ذكرهم لعدم الخصوصية إذ لم يكن لهم من ملك الدنيا أو سلطانها ما كان للقسم الأول، ولا من المغالبة في الإعراض عن الدنيا ما كان للقسم الثاني، وقد قفى على ذكرهم بالتفضيل على العالمين، الذي جعله الله تعالى لكل نبي على عالمي زمانه، فمن كان من النبيين منهم منفردا في عالم أو قوم كان أفضلهم على الإطلاق، وما وجد من نبيين فأكثر في عالم أو قوم فقد يكونون مع تفضيلهم على غيرهم، متفاضلين في أنفسهم، فلا شك أن إبراهيم أفضل من لوط المعاصر له، وأن موسى أفضل من أخيه هارون الذي كان وزيره، وأن عيسى أفضل من ابن خالته يحيى، صلوات الله عليهم أجمعين. وسيأتي ذكر بعضهم في بعض السور مفصلا وفي بعضها مختصرا، ولذلك نرجئ الكلام على كل منهم إلى تفسير تلك السور. والله المسؤول أن يوفقنا لتفسيرها وإتمام تفسير الكتاب العزيز على ما يجب ويرضى عز وجل.
وهذا البيان لترتيب هؤلاء الأنبياء ونكتة ما ذيل به في كل قسم منهم هو مما فتح الله به علينا لم نعلم أن أحدا سبقنا إليه، ولكن حوم بعضهم حوله فلم يقع عليه، وقد قال صاحب روح المعاني وهو أفضل المفسرين المتأخرين، وناهيك بسعة اطلاعه على أقوال الأولين والآخرين :« ولم يظهر لي السر في ذكر هؤلاء الأنبياء العظام، عليهم من الله تعالى أفضل الصلاة وأكمل السلام، على هذا الأسلوب المشتمل على تقديم فاضل على أفضل، ومتأخر بالزمان على متقدم به، وكذا السر في التقرير أولا بقوله تعالى :﴿ وكذلك نجزي ﴾ الخ وثانيا بقوله سبحانه :﴿ كل من الصالحين ﴾ والله تعالى أعلم بأسرار كلامه » اه. ولله الحمد الذي يختص بفضله ورحمته من يشاء، وقد يؤتي مفضولا ما لا يؤتي أفضل الفضلاء.
ونذكر هنا من مباحث اللفظ والقراءات أن القراء اختلفوا في قراءة اسم ( اليسع ) فقرأه الجمهور بلام واحدة بوزن ( اليمن ) القطر المعروف. وقرأه حمزة والكسائي بلامين أدغمت إحداهما في الأخرى بوزن ( الضيغم ) قال بعض المفسرين أن اليسع معرب الاسم العبراني يوشع فهو اسم أعجمي دخلت عليه لام التعريف على خلاف القياس وقارنت النقل فجعلت علامة التعريب فلا يجوز مفارقتها له كاليزيد الذي دخلت عليه في الشعر. وقيل إنه اسم عربي منقول من ( يسع ) مضارع ( وسع ) وأقول الأقرب أنه تعريب ( اليشع ) وهو أحد أنبياء بني إسرائيل وكان خليفة إلياس ( إيليا ومن المعهود في نقل العبري إلى العربي إبدال الشين المعجمة بالمهملة.
وقد استدل بعضهم بذكر عيسى في ذرية إبراهيم أو نوح على أن لفظ الذرية يشمل أولاد البنات وذكر الرازي أن الآية تدل على أن الحسن والحسين من ذرية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : ويقال إن أبا جعفر الباقر استدل بهذه الآية عند الحجاج بن يوسف. ذكر ذلك الآلوسي وقال : وأورد عليه أنه ( أي عيسى ) ليس له أب يصرف إضافته إلى الأم إلى نفسه فلا يظهر قياس غيره عليه في كونه ذرية لجده من الأم، وتعقب بأن مقتضى كونه بلا أب أن يذكر في حيز الذرية وفيه منع ظاهر والمسألة خلافية، ذكر أن موسى الكاظم رضي الله عنه احتج بالآية على الرشيد، ثم ذكر نقلا عن الرازي استدلال الباقر بها وبآيات المباهلة. قال وادعى بعضهم أن هذا من خصائصه صلى الله عليه وسلم وقد اختلف إفتاء أصحابنا في هذه المسألة والذي أميل إليه القول بالدخول اه.
وأقول في الباب حديث أبي بكرة عند البخاري مرفوعا « أن ابني هذا سيد »١ يعني الحسن، ولفظ ابن لا يجري عند العرب على أولاد البنات، وحديث عمر في كتاب معرفة الصحابة لأبي نعيم مرفوعا « وكل ولد آدم فإن عصبتهم لأبيهم خلا ولد فاطمة فإني أنا أبوهم وعصبتهم » وقد جرى الناس على هذا فيقولون في أولاد فاطمة عليهم السلام أولاد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبناؤه وعترته وأهل بيته.
واستدلوا بتفضيل من ذكر من الأنبياء على العالمين على تفضيل الأنبياء على الملائكة بناء على أن العالم اسم لما سوى الله تعالى، وفيه نظر فإن العالمين في مثل هذه الآية لا يفهم منه إلا الناس أو الأقوام من الناس، فهي كالآيات الناطقة بتفضيل بني إسرائيل على العالمين ولم يخطر في بال أحد قرأها أو فسرها أنها تدل على تفضيلهم على الملائكة، ومثلها قوله تعالى حكاية عن قوم لوط :﴿ أولم ننهك على العالمين ﴾ [ الحجر : ٧٠ ]، وقوله في إبراهيم :﴿ ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين ﴾ [ الأنبياء : ٧١ ] وهي أرض الشام بارك الله فيها لمن يسكنها من الناس لا للملائكة وغيرهم من عالم الغيب.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد ذكر الله تعالى في هذه الآيات الثلاث أربعة عشر نبيا لم يرتبهم على حسب تاريخهم وأزمانهم لأنه أنزل كتابه هدى وموعظة لا تاريخا – ولا على حسب فضلهم ومناقبهم لأن كتابه ليس كتاب مناقب ومدائح وإنما هو كتاب تذكرة وعبرة، وقد جعلهم ثلاثة أقسام لمعان في ذلك جامعة بين كل قسم منهم.
فالقسم الأول : داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون، والمعنى الجامع بين هؤلاء أن الله أتاهم الملك والإمارة، والحكم والسيادة، مع النبوة والرسالة، وقد قدم ذكر داود وسليمان كانا ملكين غنيين منعمين، وذكر بعدهما أيوب ويوسف وكان الأول أميرا غنيا عظيما محسنا، والثاني وزيرا عظيما وحاكما متصرفا، ولكن كلا منهما قد ابتلى بالضراء فصبر، كما ابتلى بالسراء فشكر، وأما موسى وهارون فكانا حاكمين، ولكنهما لم يكونا ملكين، فكل زوجين من هؤلاء الأزواج الثلاثة ممتاز بمزية، والترتيب بين الأزواج على طريق التدلي في نعم الدنيا، وقد يكون على طريق الترقي في الدين، فداود وسليمان كانا أكثر تمتعا بنعم الدنيا، ودونهما أيوب ويوسف، ودونهما موسى وهارون، والظاهر أن موسى وهارون أفضل في هداية الدين وأعباء النبوة من أيوب ويوسف وأن هذين أفضل من داود وسليمان بجمعهما بين الشكر في السراء، والصبر في الضراء، والله أعلم.
وقد قال تعالى بعد ذكر هؤلاء ﴿ وكذلك نجزي المحسنين ﴾ أي بالجمع بين نعم الدنيا ورياستها بالحق، وهداية الدين إرشاد الخلق، وهذا كما قال الله تعالى في أحدهم يوسف ﴿ ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين ﴾ [ يوسف : ٢٢ ] فهو جزاء خاص بعضه معجل في الدنيا، أي ومثل هذا الجزاء في جنسه يجزي الله بعض المحسنين بحسب إحسانه في الدنيا قبل الآخرة، ومنهم من يرجئ جزاءه إلى الآخرة.
والقسم الثاني : زكريا ويحيى وعيسى وإلياس، وهؤلاء قد امتازوا في الأنبياء عليهم السلام بشدة الزهد في الدنيا والإعراض عن لذاتها، والرغبة عن زينتها وجاهها وسلطانها، ولذلك خصهم هنا بوصف الصالحين، وهو أليق بهم عند مقابلتهم بغيرهم، وإن كان كل نبي صالحا ومحسنا على الإطلاق.
والقسم الثالث : إسماعيل واليسع ويونس ولوط، وأخر ذكرهم لعدم الخصوصية إذ لم يكن لهم من ملك الدنيا أو سلطانها ما كان للقسم الأول، ولا من المغالبة في الإعراض عن الدنيا ما كان للقسم الثاني، وقد قفى على ذكرهم بالتفضيل على العالمين، الذي جعله الله تعالى لكل نبي على عالمي زمانه، فمن كان من النبيين منهم منفردا في عالم أو قوم كان أفضلهم على الإطلاق، وما وجد من نبيين فأكثر في عالم أو قوم فقد يكونون مع تفضيلهم على غيرهم، متفاضلين في أنفسهم، فلا شك أن إبراهيم أفضل من لوط المعاصر له، وأن موسى أفضل من أخيه هارون الذي كان وزيره، وأن عيسى أفضل من ابن خالته يحيى، صلوات الله عليهم أجمعين. وسيأتي ذكر بعضهم في بعض السور مفصلا وفي بعضها مختصرا، ولذلك نرجئ الكلام على كل منهم إلى تفسير تلك السور. والله المسؤول أن يوفقنا لتفسيرها وإتمام تفسير الكتاب العزيز على ما يجب ويرضى عز وجل.
وهذا البيان لترتيب هؤلاء الأنبياء ونكتة ما ذيل به في كل قسم منهم هو مما فتح الله به علينا لم نعلم أن أحدا سبقنا إليه، ولكن حوم بعضهم حوله فلم يقع عليه، وقد قال صاحب روح المعاني وهو أفضل المفسرين المتأخرين، وناهيك بسعة إطلاعه على أقوال الأولين والآخرين :« ولم يظهر لي السر في ذكر هؤلاء الأنبياء العظام، عليهم من الله تعالى أفضل الصلاة وأكمل السلام، على هذا الأسلوب المشتمل على تقديم فاضل على أفضل، ومتأخر بالزمان على متقدم به، وكذا السر في التقرير أولا بقوله تعالى :﴿ وكذلك نجزي ﴾ الخ وثانيا بقوله سبحانه :﴿ كل من الصالحين ﴾ والله تعالى أعلم بأسرار كلامه» اه. ولله الحمد الذي يختص بفضله ورحمته من يشاء، وقد يؤتي مفضولا ما لا يؤتي أفضل الفضلاء.
ونذكر هنا من مباحث اللفظ والقراءات أن القراء اختلفوا في قراءة اسم ( اليسع ) فقرأه الجمهور بلام واحدة بوزن ( اليمن ) القطر المعروف. وقرأه حمزة والكسائي بلامين أدغمت إحداهما في الأخرى بوزن ( الضيغم ) قال بعض المفسرين أن اليسع معرب الاسم العبراني يوشع فهو اسم أعجمي دخلت عليه لام التعريف على خلاف القياس وقارنت النقل فجعلت علامة التعريب فلا يجوز مفارقتها له كاليزيد الذي دخلت عليه في الشعر. وقيل إنه اسم عربي منقول من ( يسع ) مضارع ( وسع ) وأقول الأقرب أنه تعريب ( اليشع ) وهو أحد أنبياء بني إسرائيل وكان خليفة إلياس ( إيليا ومن المعهود في نقل العبري إلى العربي إبدال الشين المعجمة بالمهملة.
وقد استدل بعضهم بذكر عيسى في ذرية إبراهيم أو نوح على أن لفظ الذرية يشمل أولاد البنات وذكر الرازي أن الآية تدل على أن الحسن والحسين من ذرية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : ويقال إن أبا جعفر الباقر استدل بهذه الآية عند الحجاج بن يوسف. ذكر ذلك الآلوسي وقال : وأورد عليه أنه ( أي عيسى ) ليس له أب يصرف إضافته إلى الأم إلى نفسه فلا يظهر قياس غيره عليه في كونه ذرية لجده من الأم، وتعقب بأن مقتضى كونه بلا أب أن يذكر في حيز الذرية وفيه منع ظاهر والمسألة خلافية، ذكر أن موسى الكاظم رضي الله عنه احتج بالآية على الرشيد، ثم ذكر نقلا عن الرازي استدلال الباقر بها وبآيات المباهلة. قال وادعى بعضهم أن هذا من خصائصه صلى الله عليه وسلم وقد اختلف إفتاء أصحابنا في هذه المسألة والذي أميل إليه القول بالدخول اه.
وأقول في الباب حديث أبي بكرة عند البخاري مرفوعا « أن ابني هذا سيد»١ يعني الحسن، ولفظ ابن لا يجري عند العرب على أولاد البنات، وحديث عمر في كتاب معرفة الصحابة لأبي نعيم مرفوعا « وكل ولد آدم فإن عصبتهم لأبيهم خلا ولد فاطمة فإني أنا أبوهم وعصبتهم» وقد جرى الناس على هذا فيقولون في أولاد فاطمة عليهم السلام أولاد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبناؤه وعترته وأهل بيته.
واستدلوا بتفضيل من ذكر من الأنبياء على العالمين على تفضيل الأنبياء على الملائكة بناء على أن العالم اسم لما سوى الله تعالى، وفيه نظر فإن العالمين في مثل هذه الآية لا يفهم منه إلا الناس أو الأقوام من الناس، فهي كالآيات الناطقة بتفضيل بني إسرائيل على العالمين ولم يخطر في بال أحد قرأها أو فسرها أنها تدل على تفضيلهم على الملائكة، ومثلها قوله تعالى حكاية عن قوم لوط :﴿ أولم ننهك على العالمين ﴾ [ الحجر : ٧٠ ]، وقوله في إبراهيم :﴿ ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين ﴾ [ الأنبياء : ٧١ ] وهي أرض الشام بارك الله فيها لمن يسكنها من الناس لا للملائكة وغيرهم من عالم الغيب.


١ أخرجه البخاري في الصلح باب ٩، وفضائل أصحاب النبي باب ٢٢، والفتن باب ٢٠، والمناقب باب ٢٥، وأبو داود في السنة باب ١٢، والمهدي باب ٨ والترمذي في المناقب باب ٣٠، والنسائي في الجمعة باب ٢٧
.

وأما قوله تعالى :﴿ ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين ( ٨٤ وزكريا ويحي وعيسى وإلياس كل من الصالحين ( ٨٥ ) وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين ( ٨٦ ) ﴾ فهو عطف على « نوحا هدينا » أي وهدينا من ذريته داود وسليمان إلخ. وقد جزم ابن جرير شيخ المفسرين بأن الضمير في ذريته لنوح وتابعه على ذلك بعض المفسرين واحتجوا بأنه أقرب في الذكر وبأن لوطا ويونس ليسا من ذرية إبراهيم، وزاد بعضهم أن ولد المرء لا يعد من ذريته فلا يقال أن إسماعيل من ذرية إبراهيم. وهذا القول لا يصلح لتصريح أهل اللغة بأن الذرية النسل مطلقا.
وأخذ بعضهم من قوله تعالى :﴿ وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون ﴾ أن الذرية تطلق على الأصول كما تطلق على الفروع، وذلك بناء على أن المراد بالفلك المشحون سفينة نوح. وقال بعضهم إن الذرية هنا للفروع المقدرة في أصلاب الأصول، والقول الآخر في الفلك المشحون، أنه سفين التجارة التي كان المخاطبون يرسلون فيها أولادهم يتجرون.
وذهب سائر المفسرين إلى أن الضمير عائد إلى إبراهيم لأن الكلام في شأنه، وما أتاه الله تعالى من فضله، وإنما ذكر نوحا لأنه جده، فهو لبيان نعم الله عليه في أفضل أصوله، تمهيدا لبيان نعمه عليه في الكثير من فروعه، ويزاد على ذلك أن الله جعل الكتاب والنبوة في نسلهما معا، منفردا ومجتمعا، كما قال تعالى في سورة الحديد :﴿ ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب ﴾ [ الحديد : ٢٦ ] وقال بعض هؤلاء : إن يونس من ذرية إبراهيم، وإن لوطا ابن أخيه وقد هاجر معه فهو يدخل في ذريته بطريق التغليب، ويعد منها بطريق التجوز الذي يسمون به العم أبا، وتقدم بيان هذا التجوز في الكلام على أبي إبراهيم صلى الله عليه وسلم في فاتحة تفسير هذا السياق.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد ذكر الله تعالى في هذه الآيات الثلاث أربعة عشر نبيا لم يرتبهم على حسب تاريخهم وأزمانهم لأنه أنزل كتابه هدى وموعظة لا تاريخا – ولا على حسب فضلهم ومناقبهم لأن كتابه ليس كتاب مناقب ومدائح وإنما هو كتاب تذكرة وعبرة، وقد جعلهم ثلاثة أقسام لمعان في ذلك جامعة بين كل قسم منهم.
فالقسم الأول : داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون، والمعنى الجامع بين هؤلاء أن الله أتاهم الملك والإمارة، والحكم والسيادة، مع النبوة والرسالة، وقد قدم ذكر داود وسليمان كانا ملكين غنيين منعمين، وذكر بعدهما أيوب ويوسف وكان الأول أميرا غنيا عظيما محسنا، والثاني وزيرا عظيما وحاكما متصرفا، ولكن كلا منهما قد ابتلى بالضراء فصبر، كما ابتلى بالسراء فشكر، وأما موسى وهارون فكانا حاكمين، ولكنهما لم يكونا ملكين، فكل زوجين من هؤلاء الأزواج الثلاثة ممتاز بمزية، والترتيب بين الأزواج على طريق التدلي في نعم الدنيا، وقد يكون على طريق الترقي في الدين، فداود وسليمان كانا أكثر تمتعا بنعم الدنيا، ودونهما أيوب ويوسف، ودونهما موسى وهارون، والظاهر أن موسى وهارون أفضل في هداية الدين وأعباء النبوة من أيوب ويوسف وأن هذين أفضل من داود وسليمان بجمعهما بين الشكر في السراء، والصبر في الضراء، والله أعلم.
وقد قال تعالى بعد ذكر هؤلاء ﴿ وكذلك نجزي المحسنين ﴾ أي بالجمع بين نعم الدنيا ورياستها بالحق، وهداية الدين إرشاد الخلق، وهذا كما قال الله تعالى في أحدهم يوسف ﴿ ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين ﴾ [ يوسف : ٢٢ ] فهو جزاء خاص بعضه معجل في الدنيا، أي ومثل هذا الجزاء في جنسه يجزي الله بعض المحسنين بحسب إحسانه في الدنيا قبل الآخرة، ومنهم من يرجئ جزاءه إلى الآخرة.
والقسم الثاني : زكريا ويحيى وعيسى وإلياس، وهؤلاء قد امتازوا في الأنبياء عليهم السلام بشدة الزهد في الدنيا والإعراض عن لذاتها، والرغبة عن زينتها وجاهها وسلطانها، ولذلك خصهم هنا بوصف الصالحين، وهو أليق بهم عند مقابلتهم بغيرهم، وإن كان كل نبي صالحا ومحسنا على الإطلاق.
والقسم الثالث : إسماعيل واليسع ويونس ولوط، وأخر ذكرهم لعدم الخصوصية إذ لم يكن لهم من ملك الدنيا أو سلطانها ما كان للقسم الأول، ولا من المغالبة في الإعراض عن الدنيا ما كان للقسم الثاني، وقد قفى على ذكرهم بالتفضيل على العالمين، الذي جعله الله تعالى لكل نبي على عالمي زمانه، فمن كان من النبيين منهم منفردا في عالم أو قوم كان أفضلهم على الإطلاق، وما وجد من نبيين فأكثر في عالم أو قوم فقد يكونون مع تفضيلهم على غيرهم، متفاضلين في أنفسهم، فلا شك أن إبراهيم أفضل من لوط المعاصر له، وأن موسى أفضل من أخيه هارون الذي كان وزيره، وأن عيسى أفضل من ابن خالته يحيى، صلوات الله عليهم أجمعين. وسيأتي ذكر بعضهم في بعض السور مفصلا وفي بعضها مختصرا، ولذلك نرجئ الكلام على كل منهم إلى تفسير تلك السور. والله المسؤول أن يوفقنا لتفسيرها وإتمام تفسير الكتاب العزيز على ما يجب ويرضى عز وجل.
وهذا البيان لترتيب هؤلاء الأنبياء ونكتة ما ذيل به في كل قسم منهم هو مما فتح الله به علينا لم نعلم أن أحدا سبقنا إليه، ولكن حوم بعضهم حوله فلم يقع عليه، وقد قال صاحب روح المعاني وهو أفضل المفسرين المتأخرين، وناهيك بسعة إطلاعه على أقوال الأولين والآخرين :« ولم يظهر لي السر في ذكر هؤلاء الأنبياء العظام، عليهم من الله تعالى أفضل الصلاة وأكمل السلام، على هذا الأسلوب المشتمل على تقديم فاضل على أفضل، ومتأخر بالزمان على متقدم به، وكذا السر في التقرير أولا بقوله تعالى :﴿ وكذلك نجزي ﴾ الخ وثانيا بقوله سبحانه :﴿ كل من الصالحين ﴾ والله تعالى أعلم بأسرار كلامه» اه. ولله الحمد الذي يختص بفضله ورحمته من يشاء، وقد يؤتي مفضولا ما لا يؤتي أفضل الفضلاء.
ونذكر هنا من مباحث اللفظ والقراءات أن القراء اختلفوا في قراءة اسم ( اليسع ) فقرأه الجمهور بلام واحدة بوزن ( اليمن ) القطر المعروف. وقرأه حمزة والكسائي بلامين أدغمت إحداهما في الأخرى بوزن ( الضيغم ) قال بعض المفسرين أن اليسع معرب الاسم العبراني يوشع فهو اسم أعجمي دخلت عليه لام التعريف على خلاف القياس وقارنت النقل فجعلت علامة التعريب فلا يجوز مفارقتها له كاليزيد الذي دخلت عليه في الشعر. وقيل إنه اسم عربي منقول من ( يسع ) مضارع ( وسع ) وأقول الأقرب أنه تعريب ( اليشع ) وهو أحد أنبياء بني إسرائيل وكان خليفة إلياس ( إيليا ومن المعهود في نقل العبري إلى العربي إبدال الشين المعجمة بالمهملة.
وقد استدل بعضهم بذكر عيسى في ذرية إبراهيم أو نوح على أن لفظ الذرية يشمل أولاد البنات وذكر الرازي أن الآية تدل على أن الحسن والحسين من ذرية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : ويقال إن أبا جعفر الباقر استدل بهذه الآية عند الحجاج بن يوسف. ذكر ذلك الآلوسي وقال : وأورد عليه أنه ( أي عيسى ) ليس له أب يصرف إضافته إلى الأم إلى نفسه فلا يظهر قياس غيره عليه في كونه ذرية لجده من الأم، وتعقب بأن مقتضى كونه بلا أب أن يذكر في حيز الذرية وفيه منع ظاهر والمسألة خلافية، ذكر أن موسى الكاظم رضي الله عنه احتج بالآية على الرشيد، ثم ذكر نقلا عن الرازي استدلال الباقر بها وبآيات المباهلة. قال وادعى بعضهم أن هذا من خصائصه صلى الله عليه وسلم وقد اختلف إفتاء أصحابنا في هذه المسألة والذي أميل إليه القول بالدخول اه.
وأقول في الباب حديث أبي بكرة عند البخاري مرفوعا « أن ابني هذا سيد»١ يعني الحسن، ولفظ ابن لا يجري عند العرب على أولاد البنات، وحديث عمر في كتاب معرفة الصحابة لأبي نعيم مرفوعا « وكل ولد آدم فإن عصبتهم لأبيهم خلا ولد فاطمة فإني أنا أبوهم وعصبتهم» وقد جرى الناس على هذا فيقولون في أولاد فاطمة عليهم السلام أولاد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبناؤه وعترته وأهل بيته.
واستدلوا بتفضيل من ذكر من الأنبياء على العالمين على تفضيل الأنبياء على الملائكة بناء على أن العالم اسم لما سوى الله تعالى، وفيه نظر فإن العالمين في مثل هذه الآية لا يفهم منه إلا الناس أو الأقوام من الناس، فهي كالآيات الناطقة بتفضيل بني إسرائيل على العالمين ولم يخطر في بال أحد قرأها أو فسرها أنها تدل على تفضيلهم على الملائكة، ومثلها قوله تعالى حكاية عن قوم لوط :﴿ أولم ننهك على العالمين ﴾ [ الحجر : ٧٠ ]، وقوله في إبراهيم :﴿ ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين ﴾ [ الأنبياء : ٧١ ] وهي أرض الشام بارك الله فيها لمن يسكنها من الناس لا للملائكة وغيرهم من عالم الغيب.

﴿ ومن آبائهم وذريتهم وإخوانهم ﴾ أي وهدينا من آباء من ذكر من الأنبياء أي بعض آبائهم وذرياتهم وإخوانهم، ومن المعلوم أن بعض هؤلاء الأقربين لم يهتد بهدي ابنه أو أبيه أو أخيه من الأنبياء كأبي إبراهيم وابن نوح، قال تعالى في سورة الحديد :﴿ ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون ﴾ [ الحديد : ٢٦ ] وقيل إن العطف هنا على ما قبله مباشرة – أي وفضلنا بعض آبائهم وذرياتهم وإخوانهم وهم الذين اهتدوا بهديهم، على غيرهم من عالمي زمانهم الذين لم يهتدوا مثلهم.
﴿ واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم ( ٨٧ ) ﴾ وهذا عطف على ( فضلنا ) أي وفضلناهم واخترناهم واصطفيناهم بالاجتباء وهو افتعال من جبيت المال والماء في الحوض والثمرات الناضجة في الوعاء – إذا – جمعت ما تختاره منها، ولذلك قال الراغب الاجتباء الجمع على طريق الاصطفاء ( ثم قال ) واجتباء الله العبد تخصيصه إياه بفيض إلهي يتحصل له منه أنواع من النعم بلا سعي من العبد، وذلك للأنبياء، وبعض من يقاربهم من الصديقين والشهداء.
ثم أورد الآيات في ذلك ومنها الآية التي نفسرها، وقد أعيد ذكر الهداية لبيان متعلقها وهو الصراط المستقيم، على ما فيه من التأكيد، وليرتب عليه قوله :﴿ ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ﴾
أي ذلك الهدى إلى صراط مستقيم، وهو ما كان عليه أولئك الأخيار مما ذكر من الدين القويم، والفضل العظيم، هو هدى الله الخاص، الذي هو وراء جميع أنواع الهدى العام، كهدى الحواس والعقل والوجدان، لأنه عبارة عن الإيصال بالفعل إلى الحق والخير على الوجه الذي يؤدي إلى السعادة، وقد تقدم شرح ذلك في تفسير سورة الفاتحة. وقوله :﴿ يهدي به من يشاء من عباده ﴾ يقع على درجتين : هداية ليس لصاحبها سعي لها ولا هي مما ينال بكسبه، وهي النبوة المشار إليها بقوله تعالى :﴿ ووجدك ضالا فهدى ﴾ [ الضحى : ٧ ] وهداية قد تنال بالكسب والاستعداد، مع اللطف الإلهي والتوفيق لنيل المراد، وقد تقدم كلام بهذا المعنى في هذا السياق.
﴿ ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون ( ٨٨ ) ﴾ أي ولو فرض أن أشرك بالله أولئك المهديون المجتبون، لحبط أي بطل وسقط عنهم ثواب ما كانوا يعملون، بزوال أفضل آثار أعمالهم في أنفسهم، الذي هو الأساس لما رفع من درجاتهم، لأن توحيد الله تعالى لما كان منتهى الكمال المزكي للأنفس، كان ضده وهو الشرك منتهى النقص والفساد المدسي لها، والمفسد لفطرتها، فلا يبقى معه تأثير نافع لعمل آخر فيها، يمكن أن يترتب عليه نجاتها وفلاحها.
﴿ أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة ﴾ ذهب ابن جرير والرازي إلى أن الإشارة في أولئك إلى من ذكر في الآيات من أنبياء الله تعالى ورسله، وذهب آخرون إلى شمولها من ذكر بعدهم إجمالا من آبائهم وذرياتهم وإخوانهم. وقال ابن جرير إن المراد بالكتاب ما ذكر في القرآن من صحف إبراهيم وموسى وزبور داود وإنجيل عيسى، وإن المراد بالحكم الفهم بالكتاب ومعرفة ما فيه من الأحكام، وروي عن مجاهد إن الحكم هو اللب قال : وعنى بذلك مجاهد إن شاء الله ما قلت، لأن اللب هو العقل، فكأنه أراد أن الله آتاهم العقل بالكتاب وهو بمعنى ما قلنا من أنه الفهم به اه ولم يرو عن السلف في تفسير الحكم غير هذا القول عن مجاهد.
والحكم يطلق في أصل اللغة على حكم العقل بإثبات شيء لشيء أو نفيه عنه قطعا وهو العلم اليقيني بالمعنى اللغوي الذي بيناه من قبل وهو يستلزم فقه المعلوم وفهم سره وحكمته فهو بمعنى الحكمة والفلسفة، ويطلق على القضاء لخصم على خصم بأن هذا حقه أو ليس بحقه، وقال الراغب : والحكم بالشيء أن تقضي بأنه كذا سواء ألزمت ذلك غيرك أو لم تلزمه، وقال صاحب اللسان : والحكم العلم والفقه والقضاء بالعدل وهو مصدر حكم بحكم ( كنصر ينصر ) ثم نقل عن ابن سيده أن الحكم القضاء وجمعه أحكام ولم يقيده بالعدل، وعن الأزهري أنه القضاء بالعدل. وقول ابن سيده هو الظاهر لقوله تعالى :﴿ وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ﴾ [ النساء : ٥٨ ] والمعنى الأصلي لهذه المادة المنع.. قال في اللسان : والعرب تقول حكمت وأحكمت وحكمت ( بالتشديد ) بمعنى منعت ورددت، ومن هذا قيل للحاكم بين الناس حاكم لأنه يمنع الظالم من الظلم. وذكر كغيره من ذلك حكمة اللجام بالتحريك وهي حديدة اللجام التي توضع في حنك الدابة لأنها تردها وتكبحها.
وأقول : إن الحكم بمعنى العلم الحزم وفقه الأمور وهو حكمتها فيه معنى المنع أيضا وهو منع الاحتمالات والظنون فمن ليس له حكم جازم في المسألة لا يكون عالما بها. وما يقال في المسألة الواحدة يقال في كل علم وفن، وكذا منع العلم الحكيم من مخالفة مقتضى العلم، ومن الواضح الجلي أن كل نبي من الأنبياء قد آتاه الله الحكم بهذا المعنى، أي العلم الصحيح والفقه في أمور الدين وشؤون الإصلاح، وفهم الكتاب الذي تعبده به، ساء أنزله عليه أم أنزله على غيره. وإنما اختص بعضهم بإتيانه الحكم صبيا، كيحيى وعيسى ولعل المراد به ملكة الحكم الصحيح في الأمور. وأما الحكم بمعنى القضاء والفصل في الخصومات فلم يؤته إلا بعض الأنبياء، فإذا كان المشار إليه بقوله ﴿ أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة ﴾ من ذكرت أسماؤهم من الأنبياء فيما قبله من الآيات فالأظهر أن المراد بالحكم فيها الفصل في الخصومات والقضاء بين الناس لأنه أخص ويستلزم العلم والفقه – وكذلك النبوة – وتكون هذه العطايا الثلاثة مرتبة على حسب درجات الخصوصية، فإن الثابت والأمر الواقع أن بعض أولئك النبيين أوتي الثلاث كإبراهيم وموسى وعيسى وداود، ومنهم من أوتي الحكم والنبوة كالأنبياء الذين كانوا يحكمون بالتوراة، ومنهم من لم يؤت إلا النبوة فقط.
فإذا جعلنا الحكم بمعنى الفهم والعلم كانت الآية غير مبينة لهذه العطية العظيمة، ومن شواهد القرآن على استعمال الحكم بمعنى القضاء قوله تعالى :﴿ يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ﴾ [ ص : ٢٦ ] وقوله في داود وسليمان معا ﴿ وكلا آتينا حكما وعلما ﴾ [ الأنبياء : ٧٩ ] وقوله في يوسف ﴿ آتيناه حكما وعلما ﴾ [ القصص : ١٤ ] وأما قوله تعالى حكاية عن موسى ﴿ فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين ﴾ [ الشعراء : ٢١ ] فهو أظهر في هذا المعنى وإن تأخر القيام به عن القيام بأمر الرسالة التي تأخر القيام بها عن جعله رسولا، فإن كلا منهما وقع في وقته المناسب له. وتفسير بعضهم للحكم هنا بالنبوة ضعيف للاستغناء عنه بذكر الرسالة. ومثله قوله تعالى حكاية عن إبراهيم ﴿ رب هب لي حكما ﴾ [ الشعراء : ٨٣ ] فإنه دعا هذا الدعاء وهو رسول عليم بعد محاجة قومه، فلم يبق إلا أنه طلب الحكم بمعنى الحكومة والسلطة.
ومن الشواهد على استعمال الحكم بمعنى العلم وفقه القلب قوله تعالى في يحيى ﴿ وآتيناه الحكم صبيا ﴾ [ مريم : ١٢ ] وقوله في شأن التوراة ﴿ يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا ﴾ [ المائدة : ٤٤ ] وهذه الثلاث مرتبة على حسب خصوصيتها فكل من أوتي الكتاب أوتي الحكم والنبوة، وكل من أوتي الحكم ممن ذكر كان نبيا، وما كل نبي منهم كان حاكما ولا صاحب كتاب منزل. وهذه مراتب الفصل بينهم، صلوات الله وسلامة عليهم، وإذا استعملنا الحكم بمعنييه على مذهب من يجيز ذلك في المشترك كان على التوزيع فإن كل نبي أوتي الحكم بمعنى العلم والفقه والفهم، وما أوتيه إلا بعضهم بمعنى القضاء بين الناس كما تقرر وتكرر.
وأما إذا جرينا على القول بأن المشار إليهم في الآية هم أولئك النبيون، ومن ذكر من آبائهم وذرياتهم وإخوانهم فالحاجة إلى استعمال المشترك في معنييه أقوى، فإن بعضهم كان نبيا غير حاكم، وبعضهم كان عالما حاكما غير نبي، وبعضهم عالما حكيما غير حاكم ولا نبي، ويكون إيتاء الكتاب اعم من إيحائه، فإن أمة الرسول الذي أنزل عليه الكتاب بإيحائه إليه يقال إنها قد أعطيت الكتاب، وآيات القرآن ناطقة بذلك. بل يقال أيضا إن الكتاب أنزل إليهم وعليهم كما نص في سورتي البقرة وآل عمران، فالإنزال على الرسل عبارة عن الوحي إليهم، والإنزال على الأمم عبارة عن مخاطبتهم بما أنزل على رسلهم لهدايتهم. ويؤيد هذا الوجه في تفسير الآية قوله تعالى :﴿ ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ﴾ [ الجاثية : ١٦ ] الآية.
ثم قال تعالى مبينا وجه العبرة بما ذكر للمخاطبين بالقرآن ﴿ فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين ( ٨٩ ) ﴾ أي فإن يكفر بهذه الثلاث – الكتاب والحكم والنبوة – هؤلاء المشركون من أهل مكة، وقد خصوا بدعوتهم إلى الإيمان بها قبل غيرهم، إذ أوتيها على الوجه الأكمل رسول منهم، فقد وكلنا بأمر رعايتها، ووفقنا للإيمان بها وتولي نصر الداعي إليها، قوما كراما ليسوا بها بكافرين، بل منهم من آمن ومنهم من سيؤمن عندما يدعى، أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله « فإن يكفر بها هؤلاء » : يعني أهل مكة، يقول إن يكفروا بالقرآن ( أي الجامع لما ذكر كله لرسول الله ) «فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين » يعني أهل المدينة والأنصار اه. وروى مثله عبد بن حميد عن سعيد بن المسيب. وروي عن قتادة تفسير من يكفر بها بأهل مكة كفار قريش، وتفسير الموكلين بها بالأنبياء الثمانية عشر الذين ذكرهم الله تعالى هنا. وعن أبي رجاء العطاردي تفسير الموكلين بها بالملائكة. هذا هو المأثور، الذي اقتصر عليه في الدر المنثور. وروى ابن جرير نحو قول ابن عباس عن الضحاك والسدي وابن جريج، وذهب بعض المفسرين إلى أن الموكلين بها هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مطلقا، وقيل كل من يؤمن به، وقيل الفرس.
والمختار عندنا أنهم جميع الصحابة فإن المهاجرين قد كانوا أول من آمن بها، وصبر على بلائها، وكانوا بعد الهجرة في مقدمة الأنصار، في كل عمل وكل جهاد، ولكن الأنصار مقصودون بالذات لأن القوة والمنعة لم تكن إلا بهم، ولذلك قال «ليسوا بها بكافرين » فإن الأنصار لم يكونوا عند نزول هذه السورة مؤمنين. – أما تفسير القوم الموكلين بها بمن ذكر من الأنبياء فقد اختاره ابن جرير واحتج بأن الكلام السابق واللاحق فيهم، فالكلام في الأثناء ينبغي أن يكون فيهم كذلك، وتبعه الزمخشري قضية وحجة. ونقله الرازي عن الحسن واختار الزجاج. والمعنى أنه تعالى وكل بها من ذكر في أزمنتهم. ولعل من هؤلاء من يريد بتوكيل أولئك النبيين المرسلين بها ما أخذه الله من العهد عليهم في قوله ﴿ وإذا أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ﴾ [ آل عمران : ٨١ ] الآية ولم يصرحوا بذلك.
وأما تفسير القوم بالملائكة فقد استبعده الرازي معللا ذلك بأن اسم القوم قلما يقع على غير بني آدم، ونقول إن السياق هنا يدل على قوم كرام من بني آدم بدليل التنكير، وإن أطلق لفظ القوم على الجن في التنزيل، ولا ينافي ذلك وقوعه في سياق الكلام عن الأنبياء فإن قصص الأنبياء لم تذكر إلا لإقامة الحجة بها على الكافرين والهداية والعبرة للمؤمنين. ووصفهم بأنهم ليسوا بها بكافرين، وصف لقوم حاضرين، منهم المؤمن بالقوة والمؤمن بالفعل، ووصف الأنبياء السابقين بذلك لا يظهر له وجه.
رؤيا مبشرة لا مغررة
بعد كتابة ما تقدم بزهاء شهر رأيت في الرؤيا نفرا من أهل بلدنا ( طرابلس الشام ) مقبلين في عمائم وأقبية من الحرير النفيس، وأنا جالس مع أناس، فقال أحدهم هذا فلان، وذكر اسم رجل كان زعيما لطائفة كبيرة من الرجال المعروفين بالشجاعة والنجدة، فقمنا له وسلمنا عليه وعلى من معه، ففاجأونا بنبأ عظيم موضوعه أنه قد ظهر في هذه الأيام مصداق قوله تعالى :﴿ فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين ﴾ قالوا ألم تعلموا بذلك ؟ قلنا لا، قالوا إن هذه مسألة عظيمة قد عرفت في أوربة وذكرت في بعض جرائدها – وظننت أنه كان معهم شيء من الجرائد – وقد اهتم لها فلان باشا – وذكروا رئيس وزراء الدولة العثمانية – وسافر لأجلها فصرت أفكر في هذه الكلمة الأخيرة والمراد منها. قلت في نفسي ليت شعري هل سخر الله للملة الإسلامية قوما ينصرونها غير المدعين لذلك ؟ ومن هؤلاء القوم الذين لم نعلم من خبرهم هذا شيئا ؟ وما معنى اهتمام الوزير وسفره من العاصمة لأجلها ؟ وإلى أين سافر ؟ وهل يريد أن يكون مع هؤلاء القوم وحده أو مع أحد من شيعته كما تقتضيه السياسة أم فر منهم ؟
وقد اتسعت خواطري في ذلك بما لا حاجة إلى ذكره، وأردت أن أسأل الجماعة المخبرين عن ذلك فاستيقظت قبل أن أفعل، وكان ذلك في وقت السحر. وقد تذكرت قرب عهدي بتفسير الآية عندما قصصت رؤياي فحسبتها من المبشرات بأن الله تعالى قد يسخر للإسلام من غير الكافرين من ينصره، ويصلح ما أفسد فيه أهله وغير أهله، ويعيدون بناء ما هدم من شرعه، ورفع عماد ما ثل من عرشه ولو بإزالة العلل والموانع، وتمهيد السبيل لذلك. وقد يكون ذلك على وجه غير ما ينظره الجماهير من ظهور المهدي بعد أن خابت الآمال في كثير من أدعياء المهدية. وإذا كان الله قد أرانا في تاريخنا مصداق قول رسوله «إن الله تعالى ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر »١ وقوله :« إن الله تعالى ليؤيد الإسلام برجال ما هم من أهله »٢ أفيضيق على فضله أن يكون مضمون هذه الآية عاما مكررا، ويؤيد الله الإسلام بقوم ليسوا بكافرين، كملاحدة هذا العصر المعروفين، ولا كالصحابة مؤمنين كاملين، بل بين ذلك كخيار هذا العصر من المسلمين ؟ وبهذا يظهر من السر في وصف القوم في الآية بعدم الكفر، ما هو أعم مما ذكر من قبل، فافهم.
١ أخرجه البخاري في الجهاد باب ١٨٢، والمغازي باب ٣٨، والقدر باب ٥، ومسلم في الإيمان حديث ١٧٨، وابن ماجه في الفتن باب ٣٥، والدارمي في السير باب ٧٣، وأحمد في المسند ٢/٣٠٩، ٥/٥٤..
٢ رواه الطبراني عن ابن عمر بسند ضعيف..
﴿ أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ﴾ الهدى ضد الضلال، وهو يطلق في مقام الدين على الطريق الموصل إلى الحق وهو الصراط المستقيم الذي نطلبه في صلاتنا وعلى سلوك ذلك الطريق والاستقامة في السير عليه، وقال الراغب : الهدى والهداية في موضوع اللغة واحد ولكن قد خص الله عز وجل لفظة الهدى بما تولاه وأعطاه واختص هو به دون ما هو إلى الإنسان اه، وهو لا يصح مطردا. والاقتداء في اللغة السير على سنن من يتخذ قدوة أي مثالا يتبع. قال في اللسان : يقال – قدوة وقدوة لما يقتدى به، ابن سيده : القدوة والقدوة ما تسننت به. ثم قال : وقد اقتدى به والقدوة الأسوة بعد هذا ينبغي أن نعلم ما يكون به الاقتداء وما لا يكون، ولا سيما اقتداء النبي المرسل، بالشرع الأكمل، بغيره ممن لو كان حيا لما وسعه إلى اتباعه، فأما العلم بتوحيد الله وتنزيهه وإثبات صفات الكمال له وبسائر أصول الدين وعقائده كالإيمان بالملائكة وأمر البعث والجزاء فكل ذلك مما أوحاه الله تعالى إلى رسوله على أكمل وجه فكان علما ضروريا وبرهانيا له – كما تقدم تقريره من عهد قريب – فلا يمكن أن يؤمر بالإقتداء فيه بمن قبله ولا مما يقع فيه الاقتداء.
وقوله تعالى له صلى الله عليه وسلم ﴿ ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين ﴾ [ النحل : ١٢٣ ] معناه أن الملة التي أوحاها إليه وأمره باتباعها وهي العقيدة وأصل الدين هي ملة إبراهيم، وإنما يتبعها لأمر الله لا لأنها ملة إبراهيم، إذ ليست مما علمه من إبراهيم بالتلقي عنه لأنه لم يكن في عصره، ولا بالنقل لأنه لم يكن صلى الله عليه وسلم ناقلا ذلك عن العرب، وإن كان من المشهور المتواتر عند العرب أن إبراهيم صلى الله عليه وسلم كان موحدا حنيفا. وأما الشرائع العملية فلا يقتدي فيها الرسول بأحد أيضا، وإنما يتبعها لأن الله أمره باتباعها، ذلك بأن الرسول لا يتبع في الدين إلا ما أوحي إليه من حيث إنه أوحي إليه، وقد تقدم مما فسرنا من هذه السورة فيه قوله تعالى حكاية عن رسوله بأمره ﴿ إن اتبع إلا ما يوحى إلي ﴾ [ الأنعام : ١٠٦ ] ومثله في أواخر سورة الأعراف وقال تعالى :﴿ ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ﴾ [ الجاثية : ١٨ ] الآية.
وموافقة رسول لمن قبله في أصول الدين وبعض فروعه لا يسمى اقتداء ولا تأسيا، وإنما يكون التأسي به في طريقته التي سلكها في الدعوة إلى الدين وإقامته. ومن الشواهد على هذا قوله تعالى :﴿ قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه، إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله ﴾ [ الممتحنة : ٤ ] الآية – فإنه تعالى أرشد المؤمنين إلى التأسي بإبراهيم ومن آمن معه وجعلهم قدوة لهم في سيرتهم العملية التي كانت من هدى الله تعالى لهم، وهي البراءة من معبودات قومهم ومنهم ما داموا عابدين لها – ولما كان وعد إبراهيم لأبيه بالاستغفار له وهو مشرك ليس من هذا الهدى بل كان مسألة شاذة لها سبب خاص استثناها تعالى من التأسي به فقال :﴿ إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك ﴾ [ الممتحنة : ٤ ] الخ.
فمعنى الجملة على هذا : أولئك الأنبياء الثمانية عشر الذين ذكرت أسماؤهم في الآيات المتلوة آنفا، والموصوفون في الآية الأخيرة بإيتاء الله إياهم الكتاب والحكم والنبوة، هم الذين هداهم الله تعالى الهداية الكاملة فبهداهم دون ما يغايره ويخالفه من أعمال غيرهم وهفوات بعضهم اقتد أيها الرسول فيما يتناوله كسبك وعملك مما بعثت به من تبليغ الدعوة وإقامة الحجة، والصبر على التكذيب والجحود، وإيذاء أهل العناد والجمود، ومقلدة الآباء والجدود، وإعطاء كل حال حقها من مكارم الأخلاق وأحاسن الأعمال، كالصبر والشكر، والشجاعة والحلم، والإيثار والزهد، والسخاء والبذل، والحكم بالعدل، الخ ﴿ وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما تثبت به فؤادك ﴾ [ هود : ١٢٠ ] - ﴿ ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله، ولقد جاءك من نبأ المرسلين ﴾ [ الأنعام : ٣٤ ] – ﴿ فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ولا تستعجل لهم ﴾ [ الأحقاف : ٣٥ ].
فأما قوله تعالى له في آخر سورة ن ﴿ فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم ﴾ [ القلم : ٤٨ ] وصاحب الحوت هو يونس أحد هؤلاء الأنبياء الثمانية عشر – فالنهي فيه مما دل عليه الحصر بتقديم « فبهداهم » على « اقتده » كما تقدم فإن هذه الحالة لم تكن من الهدى الذي هدى الله يونس إليه، بل هفوة عاقبه الله عليها ثم تاب عليه، ولا يحط هذا من قدر يونس عليه السلام، ولإزالة توهم ذلك قال صلى الله عليه وسلم :« لا ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى »١ وقال :« لا تفضلوني على يونس بن متى »٢ أي في أصل النبوة لأجل هفوته، وهو كقوله :« لا تفضلوا بين الأنبياء »٣ وفيه « ولا أقول إن أحدا أفضل من يونس بن متى »٤ وكل ذلك في الصحاح، والمراد منه عدم التفريق بين الرسل والأنبياء لا منع مطلق التفضيل، فعلم بهذا أن الله يأمر خاتم رسله بالاقتداء بكل فرد من أولئك الأنبياء في كل عمل، وإنما أمره أن يقتدي بهداهم الذي هداهم إليه في سيرتهم، سواء ما كان منه مشتركا بينهم وما امتاز في الكمال فيه بعضهم، كما امتاز نوح وإبراهيم وآل داود بالشكر ويوسف وأيوب وإسماعيل بالصبر، وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس بالقناعة والزهد، وموسى وهارون بالشجاعة وشدة العزيمة في النهوض بالحق، فالله تعالى قد هدى كل نبي ورفعه درجات في الكمال، وجعل درجات بعضهم فوق بعض، ثم أوحى إلى خاتم رسله خلاصة سير أشهرهم وأفضلهم وهم المذكورون في هذه الآيات وفي سائر القرآن الكريم، وأمره أن يقتدي بهداهم ذاك، وهذه هي الحكمة العليا لذكر قصصهم في القرآن، وقد شهد الله تعالى به أنه جاء بالحق وصدق المرسلين وأنه لم يكن بدعا من الرسل.
فعلم بهذا أنه كان مهتديا بهداهم كلهم، وبهذا كانت فضائله ومناقبه الكسبية أعلى من جميع مناقبهم وفضائلهم، لأنه اقتدى بها كلها فاجتمع له من الكمال ما كان متفرقا فيهم، إلى ما هو خاص به دونهم، ولذلك شهد الله تعالى له بما لم يشهد به لأحد منهم، فقال :﴿ وإنك لعلى خلق عظيم ﴾ [ القلم : ٤ ] وأما فضائله وخصائصه الوهبية فأمر تفضيله عليهم فيها أظهر، وأعظمها عموم البعثة، وختم النبوة والرسالة، وإنما كمال الأشياء في خواتيمها، صلى الله عليه وعليهم أجمعين. والهاء في قوله « اقتده » للسكت أثبتها في الوقف والوصل جمهور القراء، وحذفها في الوصل حمزة والكسائي، وقرأ ابن عامر بكسر الهاء من غير إشباع، وهو ما يسمونه الاختلاس، ولهم في تخريجها وجوه.
بعد كتابة ما تقدم راجعت أقوال المفسرين في تفسير ما به الاقتداء فرأيت الرازي لخصها بقوله : فمن الناس من قال المراد أن يقتدي بهم في الأمر الذي أجمعوا عليه وهو القول بالتوحيد والتنزيه عن كل ما لا يليق به ( أي بالله تعالى ) في الذات والصفات والأفعال وسائر العقليات، وقال آخرون المراد الاقتداء بهم في جميع الأخلاق الحميدة والصفات الرفيعة الكاملة من الصبر على أذى السفهاء والعفو عنهم. وقال آخرون المراد الاقتداء بهم في شرائعهم إلا ما خصه الدليل. وبهذا التقدير كانت الآية دليلا على أن شرع من قبلنا يلزمنا – ثم ذكر بعد مقدمة وجيزة أن المراد – اقتد بهم في نفي الشرك وإثبات التوحيد وتحمل سفاهات الجهال في هذا الباب قال : وقال آخرون اللفظ مطلق فهو محمول على الكل إلا ما خصه الدليل المنفصل. اه.
وهذه الأقوال متداخلة، وأقربها إلى الصواب ثانيها من حيث إنه مفصل، وآخرها المجمل الذي لا يعلم المراد منه.
وقد نظم الرازي هنا جميع العقليات في سلك أصول الدين من التوحيد والتنزيه وإثبات الصفات وجميع ذلك عنده لا يمكن أن يعرفه الأنبياء ولا غيرهم إلا بنظر العقل كما نقلناه عنه في هذا السياق مردودا عليه، والاقتداء في النظر والاستدلال لا يظهر له معنى وجيه فإن غايته أن يستدل بما استدل به مجموعهم أو كل فرد منهم وهو لا يصح ولم يقل به أحد، أو أن يستدل كما استدلوا وليس هذا اقتداء ولا يصح أن يكون مرادا، وقد أورد الرازي عن القاضي في هذه المسألة اعتراضا وضعه في غير موضعه وأجاب عنه بما هو حجة عليه لا له. وأورد السعد على المسألة أن الواجب في الاعتقادات وأصول الدين هو اتباع الدليل من العقل والسمع فلا يجوز سيما للنبي صلى الله عليه وسلم أن يقلد غيره فيه فما معنى أمره بالاقتداء فيه ؟ وأجاب بأن اعتقاده عليه السلام حينئذ ليس لأجل اعتقادهم بل لأجل الدليل فلا معنى لأمره بذلك. وجعل غيره معناه تعظيم أولئك الرسل والإعلام بأن طريقهم هو الحق الموافق للدليل، وهو تكلف لا يقبله التنزيل.
وأما القول بأن المراد الاقتداء بهم في فروع شرائعهم فهو أضعف الأقوال وأبعدها عن الصواب، لا لما قيل من اختلافها وتناقضها وقبولها النسخ وكون المنسوخ لم يبق هدى. بل الأمر أعظم من ذلك : إن الله بعث محمدا خاتما للنبيين والمرسلين، وأكمل لنا على لسانه دينه المبين، وأرسله رحمة لجميع العالمين، وأنزل عليه في أواخر ما أنزله بعد ذكر التوراة والإنجيل وأهل الكتاب ﴿ وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ﴾ [ المائدة : ٤٨ ] فهذه الآية ناطقة صراحة بأن كتاب هذا الرسول صلى الله عليه وسلم مهيمن ورقيب وحاكم على ما قبله من الكتب الإلهية لا تابع لشيء منها – وبأنه صلى الله عليه وسلم أمر بأن يحكم بين أهل الكتاب بما جاءه من الحق لا بما في كتبهم ولا يتبع أهواءهم إذ يود كل فريق منهم أن يحكم له بما يوافق كتبه ومذهبه، وكل ذي دعوى أن يحكم له بما يوافق مصلحته.
على أنه لم يثبت لنبي من أولئك الثمانية عشر شريعة مفضلة إلا لموسى عليه السلام ولم يذكر الله تعالى لرسوله من تلك الشريعة إلا أحكاما قليلة ذكرها إقامة الحجة على اليهود وذلك بعد نزول هذه السورة المكية بسنين، وقد شهد القرآن على اليهود بأنهم حرفوا وبدلوا ونسوا حظا مما ذكروا به، وكذلك أهل الإنجيل شهد عليهم بأنهم نسوا حظا مما ذكروا به، وقد أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري بأن لا نصدق اليهود فيما يروونه من التوراة ولا نكذبهم، فهل يمكن مع هذا أن يكون المراد بقوله تعالى :﴿ فبهداهم اقتده ﴾ اقتد أيها الرسول الخاتم للنبيين، الذي أكمل على لسانه الدين، بالأحكام القليلة التي نوحيها إليك من أحكام التوراة بعد سنين إن الذين اخترعوا هذا القول في الآية إنما جعلوه حجة جدلية لقول اتخذوه مذهبا وهو أن شرع من قبلنا شرع لنا. وقد فصلنا القول ببطلانه وبطلان الاحتجاج بهذه الآية عليه في تفسير آية المائدة المذكورة آنفا ( ٥ : ٥١ ) فيراجع في جزء التفسير السادس وبقية تلك الأقوال التي أوردها الرازي داخلة فيما ذكرناه منها. فعلم بهذا أن ما قررناه أولا هو الوجه الصحيح الذي يدل عليه القرآن العزيز، بما ذكرنا من شواهد آياته في هذا التقرير.
ولم يرد في التفسير المأثور شيء في هذه المسألة إلا ما أخرجه البخاري وبعض رواة التفسير عن ابن عباس ( رضي الله عنه ) أنه استدل بالآية على سجود التلاوة عند قوله تعالى عن داود في سورة صلى الله عليه وسلم { فاست
١ أخرجه البخاري في الأنبياء باب ٢٣، ٣٥، وتفسير سورة ٤، باب ٢٦، وسورة ٦، باب ٤، والتوحيد بلب ٥٠، وأبو داود في السنة باب ١٣، والترمذي.
٢ أخرجه البخاري في الأنبياء باب ٣٥، وتفسير سورة ٦، باب ٤.
٣ أخرجه البخاري في الأنبياء باب ٣٥، ومسلم في الفضائل حديث ١٥٩..
٤ أخرجه البخاري في الأنبياء باب ٣٥، ومسلم في الفضائل حديث ١٥٩..
﴿ وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون ٩١ وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به وهم على صلاتهم يحافظون ٩٢ ﴾
ختم الله سبحانه سياق قصة إبراهيم مع قومه بذكر هداية بعض الرسل من أهل بيته وذريته تمهيدا بذلك إلى بيان كون رسالة خاتمهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جنس رسالتهم، وكون هدايته متممة ومكملة لهدايتهم، ومن ذلك أنه لا يسأل على تبليغ هذا القرآن أجرا، ولا يرجو من غير الله عليه فائدة ولا نفعا، وقفى على ذلك بالردة على منكري الوحي، وبيان أنهم ما قدروا الله حق القدر، وتفنيد ما عرض لهم من الشبهة، وإقامة الحجة الواضحة المحجة، قال :
﴿ وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء ﴾ قدر الشيء ( بسكون الدال وفتحها ) ومقداره – مقياسه الذي يعرف به ومبلغه، يقال قدر يقدره إذا قاسه، وقادرت الرجل مقادرة قايسته وفعلت مثل فعله، والقدر والقدرة والمقدار القوة. ومنه القدر بمعنى الغنى واليسار – وكذا الشرف – لأنه كله قوة كما قال صاحب اللسان، وكل ما تقدم مختصر منه، ( قال ) وقوله تعالى :﴿ وما قدروا الله حق قدره ﴾ أي ما عظموه حق تعظيمه. وقال الليث ما وصفوه حق صفته، والقدر والقدر هنا بمعنى واحد اه. وعزى الأول إلى ابن عباس وروى عنه أيضا أن القدر هنا بمعنى القدرة، قال إن الآية نزلت في الكفار الذين لم يؤمنوا بقدرة الله عليهم فمن آمن أن الله على كل شيء قدير. فقد قدر الله حق قدره. وعن الأخفش أن المعنى ما عرفوه حق معرفته. وعن أبي العالية ما وصفوه حق صفته. وتفسيره بالمعرفة أقوى، لأنه بالمعنى الاشتقاقي ألصق، وتعلق الظرف « إذ قالوا » بفعله أو معنى نفيه أظهر، سواء تضمن معنى العلة أم لم يتضمن، والعبارة محتلة الأمرين. فمنكرو الوحي الذين يكفرون برسل الله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله، ما عرفوا الله حق معرفته، ولا عظموه حق تعظيمه ولا وصفوه حق صفته، ولا آمنوا بهذا النوع من قدرته. وهو إضافة ما شاء من علمه بما يصلح به أمر الناس من الهدى والشرع على من شاء من البشر بواسطة الملائكة، أو بتكليمه إياهم بدون واسطة، أو قدرته على ما يتبع الرسالة من تأييد الرسل بالآيات، وبهذا الاعتبار يكون تفسير القدر بالقدرة أظهر، ومن يجيز استعمال المشترك في كل معانيه والجمع بين حقيقته ومجازه مع أمن اللبس يجيز إرادة كل ما ذكر من معاني القدر هنا. على أن المعنى المختار يتضمن سائر هذه المعاني فمن عرف الله حق معرفته وصفه حق وصفه وآمن بقدرته على كل شيء وعظمه حق تعظيمه.
نطقت الآية بأن منكري الوحي ما عرفوا الله تعالى حق معرفته ولا وصفوه بما يجب وصفه به ولا عرفوا كنه فضله على البشر إذ قالوا إنه ما أنزل شيئا ما على أحد منهم، فهي دليل على أن إرسال الرسل وإنزال الكتب من شؤونه سبحانه ومتعلق صفاته في النوع البشري. فإنها من مقتضى الحكمة، وأجل آثار الرحمة، فمن عرفه تعالى بصفات الكمال، التي هي متعلق أحاسن الأفعال، ومصدر النظام التام، في عوالم الأرواح والأجسام كالحكمة البالغة، والرحمة السابغة، والعلم المحيط، والقيام بالقسط، ونظر في الآيات البينات في أنفس البشر والآفاق، فعلم منها أنه أحسن كل شيء خلقه، وأبدع كل شيء صنعه، وخلق الإنسان في أحسن تقويم، مستعدا للعروج إلى أعلى عليين، والهبوط إلى أسفل سافلين، وجعل كماله الذي ترقيه إليه مواهب روحه الملكية، ونقصه الذي تدسيه فيه مطالب جسده الحيوانية، أثرا لعلومه وأعماله الكسبية، التي عليها مدار حياته الدنيوية والأخروية.
ثم علم من تدبر أحواله في حياته الحاضرة، ومن درس طباعه وتاريخ أجياله الغابرة، أنه لم يكد يوجد فرد من أفراده أحاط علما بمصالح شخصه، فلم يجن على جسده ولا على نفسه، ولم يوجد جيل من أجياله، ولا شعب من شعوبه، ارتقت به علومه الكسبية، وقوانينه الوضعية، إلى نيل السعادة المنزلية والقومية، والكمال الذي يؤهله للسعادة الأبدية » إلا من اهتدى بهداية المرسلين، وهم في كل ملة ثلة من الأولين وقليل من الآخرين، - من عرف الله بما ذكرنا من الصفات، وعرف البشر بما أجملنا من الأحوال والمميزات، علم علم اليقين أن إرسال الرسل وإنزال الكتب من آثار تلك الصفات التي هي مصادر النظام ومظاهر الكمال، قد توقف عليه إكمال استعداد البشر للعروج الذي أشرنا إليه، وتوقي الهبوط الذي ذكرنا به، فكان إرشاد الوحي سببا لكل ارتقاء إنساني، في ركني وجوده الجسماني والروحاني.
وقد فتن في هذا العصر خلق كثير بترقي النظام الاجتماعي، وسعة التمتع الشهواني، في شعوب كانت قد استفادت كثيرا من هداية الوحي، ثم نسيت ذلك الأصل الذي هو مصدر كل الخير، فعتت عن أمر ربها ورسله، فمنها من كفر بهم وحدهم ومنها من كفر بهم وبه، وادعوا أنهم قد استغنوا بعقولهم عن تلك الهداية، بل وصموها بما وصموها به من سمات الغواية، حتى إذا ما برح الخفاء، وفضح الرياء، وانكشف الغطاء، ظهر أن تلك المدنية، هي أفظع الوحشية والهمجية، فأيهم أوسع فيها علوما وفنونا، وأدق نظاما وقانونا هم أشد فتكا بالإنسان وتخريبا للعمران وإن غاية هذا الترقي استعباد الأقوياء للضعفاء بتسخيرهم لخدمتهم، واستخراج خيرات الأرض لهم، استمتاعا بالشهوات الحيوانية السفلى، وإسرافا في زينة هذه الحياة الدنيا.
وقد بين شيخنا الأستاذ الإمام في ( رسالة التوحيد ) وجه حاجة البشر إلى الرسل من طريقين أو مسلكين : المسلك الأول : مبني على عقيدة بقاء النفس واستعداد البشر لحياة أبدية في عالم غيبي، وحاجتهم إلى إرشاد إلهي يعلمون به ما يجب عليهم من العلم والعمل للسعادة في تلك الحياة، وكون إيتاء الله تعالى إياهم ذلك من آثار إحسانه كل شيء خلقه، وإتقانه كل شيء صنعه، إذ اختص بعض أفراد هذا النوع بفطرة عالية، وأعد أرواحهم للإشراف على عالم الغيب وتلقي علم الهداية عن رب العالمين بواسطة الروح الأمين من الملائكة، أو بغير واسطة. وبذالك كانوا نهاية الشاهد، وبداية الغائب، في هذا النوع الذي جعل الله من التفاوت بين أفراده في العلم والعمل ما لا يعهد مثله ولا ما يقاربه في نوع آخر من أنواع الأحياء حتى أن الواحد منهم لينهض بأمة أو أمم فيرفع شأنها، وألوف الألوف يكونون كأنعام يسخرهم لخدمته رجل واحد أو آحاد منهم أو من غيرهم.
والمسلك الثاني مبني على ما علم من فطرة الإنسان من كونه خلق ليعيش مجتمعا متعاونا يقوم أفراد متفرقون وجماعات متعاونون بكل نوع من أنواع الأعمال التي يحتاج إليها في حفظ حياته الشخصية والنوعية، ويظهر به استعداده لتسخير جميع ما في عالمه لمنافعه، وكونه يعمل أعماله بحسب علمه وشعوره وتخيله، وكون أفراده يختلفون في ذلك اختلافا يقتضي التنازع والشقاق، الذي يفضي إلى التخاذل والتقاتل إذا لم يتداركه الله بهداية تزيل الخلاف، وتوحد الآراء والأهواء، وهذه الهداية هي هداية الوحي الذي بعث الله به الرسل، وإنما تزيل الخلاف لأن الله أودع في فطرة الإنسان فوق كل ما ذكر غريزة هي أقوى غرائزه وأعلاها، وهي غريزة الشعور بوجود قوة غيبية هي فوق قوته، وقوى جميع عالم الشهادة الذي يعيش فيه، والخضوع لكل ما يأتيه من جانب ذلك السلطان الأعلى، فأرسل الله الرسل بالآيات الدالة على تأييدهم من قبل تلك القوة العالية، والسلطة الغالبة وكونهم يتكلمون عن قيوم السموات والأرض، بما جاءوا به من الكتاب ليحكم بين الناس بالقسط. فزال من بين المؤمنين لهم كل خلاف، وتمهد لهم طريق السير إلى الكمال، فكان العاملون بالكتاب من كل أمة خيارها وعدولها. ولولا البغي الذي حمل آخرين على الخلاف في الكتاب المزيل للخلاف، لبلغت به منتهى ما هي مستعدة له من السعادة والكمال :
من غص داوى بشرب الماء غصته فكيف يفعل من قد غص بالماء
ومن شاء أن يقف على هذا البحث بالتفصيل، ورد ما يرد من الاعتراض عليه بالدليل، فليقرأ بالإمعان والتدبر في رسالة التوحيد، وليراجع في الجزء الثاني من هذا التفسير، ما قلناه عن الأستاذ الإمام في تفسير قوله :﴿ كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ﴾ [ البقرة : ٢١٢ ] وقد بذ الأستاذ أثابه الله تعالى في هذه المسألة جميع العلماء والحكماء، الذين كتبوا في بيان حكمة بعثة الأنبياء، ولولا أن طال هذا الجزء وتجاوز كل تقدير لنقلنا عبارة رسالة التوحيد برمتها هنا، ولعلنا نجد لها مناسبة في جزء آخر وإن كانت أضعف من مناسبة هذه الآية التي يصح أن يكون ذلك البحث تفسيرا لها.
﴿ قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا ﴾ هذا رد على منكري الوحي والرسالة لقنه الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم في إثر بيان كون ذلك من شؤونه تعالى ومقتضى صفاته في تدبير أمر البشر كما تقدم آنفا. قرأ ابن كثير وأبو عمرو « يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون » بالمثناة التحتية على أنها أخبار عن الذين أنكروا الوحي وهم مشركو العرب ومن على شاكلتهم. وقرأها الآخرون « تجعلونه » الخ بالمثناة الفوقية على الخطاب، وبذلك اختلف المفسرون في الآية وعدها بعضهم من مشكلات القرآن، وقد تقدم في الكلام على نزول السورة في أول تفسيرها أن بعضهم عد هذه الآية مما استثني من نزول هذه السورة كلها دفعة واحدة بمكة، وزعموا أنها نزلت في شأن بعض اليهود في المدينة، وأن ظاهر معنى الآية يدل على ذلك لأن هذا الاحتجاج إنما يقوم على اليهود دون مشركي العرب الذين خوطبوا بسائر السورة.
وقد ورد في أسباب نزولها عن ابن عباس أنه قال : قالت اليهود يا محمد أنزل الله عليك كتابا ؟ قال نعم. قالوا : والله ما أنزل الله من السماء كتابا، وعن السدي قال : قال فنحاص اليهودي ما أنزل الله على محمد من شيء. – وعن محمد بن كعب القرظي قال أمر الله محمدا أن يسأل أهل الكتاب عن أمره وكيف يجدونه في كتبهم فحملهم حسدهم على أن يكفروا بكتاب الله ورسله فقالوا : ما أنزل الله على بشر من شيء – فأنزل الله ﴿ وما قدروا الله حق قدره ﴾ الآية. وروي عن قتادة وكذا عن مجاهد أن الآية نزلت في اليهود ولم يذكروا اسما ولا قصة، وعن عكرمة وسعيد بن جبير أنها نزلت في مالك بن الصيف اليهودي قال الكلمة في قصة سيأتي ذكرها. وفي رواية عن مجاهد أنها في العرب ورجحه ابن جرير فإنه بعد ذكر الخلاف صوب قول من قال إن الآية في مشركي قريش بأن الكلام في سياق الخبر عنهم ولم يجر لليهود ذكر في هذه السورة، وبأنه لم يصح من الرواية عن نزولها فيهم خبر متصل الإسناد، وبأن المعروف من دين اليهود أنهم لا ينكرون الوحي بل يقرون بنزوله على إبراهيم وموسى وداود ( قال ) : فلا يجوز لنا أن نصرف الآية عما يقتضيه سياقها من أولها إلى هذا الموضع بل إلى آخرها بغير حجة من خبر صحيح أو عقل. وذكر أنه يظن أن من قال إنها نزلت في اليهود تأولوا بذلك قراءة الأفعال فيها بالخطاب « تجعلونه
﴿ وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ﴾ أي ذلك ما لزمكم من أن التوراة كتاب أنزله الله على موسى عليه السلام أي أوحاه إليه ليكتب ويهتدي به، إلى أن ينزل بترقيته تعالى لاستعداد جملة البشر ما ينسخه، وهذا ( أي القرآن ) « كتاب » عظيم القدر، فتنكيره للتفخيم « أنزلناه » على خاتم رسلنا محمد صلى الله عليه وسلم كما أنزلنا التوراة على موسى من قبل « مبارك » باركه الله أو بارك فيه بما فضل به ما قبله من الكتب في النظم والمعنى، وبما يكون من ثباته وبقائه إلى آخر عمر البشر في الدنيا. وهو من البركة وهي بالتحريك النماء والزيادة والسعة النافعة كبركة الماء ومن معاني المادة الثبات والاستقرار كبرك البعير ﴿ مصدق الذي بين يديه ﴾ وهو ما تقدمه من كتب الأنبياء، أي مصدق لإنزال الله تعالى إياها في الجملة لا لكل ما يعزى إليها بالتفصيل، وقد ذكر فيه بعض الكتب بأسمائها والصحف مضافة إلى أصحابها، وذكر بعض قواعدها وأحكامها، على أنه أنزل مهيمنا عليها، ناعيا على بعض أهلها تحريفهم لها، ونسيانهم لحظ عظيم منها، وقد تقدم شرح ذلك في تفسير سورة المائدة وما قبلها.
ونقل الرازي في تفسير « مبارك » عن أهل المعاني أن معناه كثير خيره، دائم بركته ومنفعته، يبشر بالثواب والمغفرة، ويزجر عن القبيح والمعصية. ثم فسر ذلك هو : بأن ما فيه من العلوم النظرية فهو أشرفها وأكملها وهو العلم بالله تعالى وصفاته، وأفعاله وأحكامه وأسمائه، وما فيه من العلوم العملية لا تجد في غيره مثله سواء كانت أعمال الجوارح أو أعمال القلوب. ثم قال : وأنا قد نقلت أنواعا من العلوم النقلية والعقلية فلم يحصل لي بسبب شيء من العلوم من أنواع السعادات في الدين والدنيا مثل ما حصل بسبب خدمة هذا العلم اه أي علم القرآن بتفسيره فليعتبر بهذا من يضيعون جل أوقاتهم في طلب العلم الديني بعلوم الكلام وغيرها مما يعدون الرازي الإمام المطلق فيها، لعلهم يرجعون إلى كتاب الله تعالى ويهتدون، ويطلبون السعادة من فيضه دون غيره، ونسأل الله تعالى أن يوفقنا لإتمام تفسيره. وأن يجعله حجة لنا لا علينا بكمال التخلق به.
﴿ ولتنذر أم القرى ومن حولها ﴾ قال الزمخشري : إن هذا عطف على ما دل عليه صفة الكتاب كأنه قال : أنزلناه للبركات وتصديق ما تقدمه وللإنذار. واختار السعد التفتازاني كونه عطفا على صريح الوصف أي كتاب مبارك وكائن للإنذار- لأن عطف الظرف على المفرد كثير في بابي الخبر والصفة، وفيه بحث. ويجوز أن يكون عطفا على مقدر حذف لدلالة القرينة عليه كفعل التبشير الذي يقابل الإنذار وقد جمع بينهما في أول سورة الكهف وآخر سورة مريم وجرى البيضاوي على أن التعليل المحذوف دل عليه المذكور أي ولتنذر أم القرى أنزلناه. وقرأ أبو بكر عن عاصم « ولينذر » بالإسناد المجازي إلى الكتاب، وأم القرى مكة والمراد أهلها بالاتفاق، كنيت بهذه الكنية لأنها قبلة أهل القرى أي البلاد التي يجتمع فيها الناس كبيرة كانت أو صغيرة، أو لأن فيها أول بيت وضع للناس، أو لأنها حجهم ومجتمعهم، أو لأنها أعظم القرى شأنا في الدين، أو لأنهم يعظمونها كالأم، أو لأن الأرض دحيت من تحتها كما روي عن بعض مفسري السلف.
والمراد بالأخير أنها أول ما ظهر في الأرض اليابسة في الماء، ولا يعرف مثل هذا إلا بوحي صريح. والمراد بقوله تعالى :﴿ ومن حولها ﴾ أهل الأرض كافة كما روي عن ابن عباس، ويقويه تسميتها بأم القرى، ونحن نعلم الآن علم اليقين أن الناس يصلون متوجهين إلى بيت الله فيها، في جميع أقطار الأرض القريبة منها والبعيدة عنها، فهذا مصداق كونهم حولها، وزعم بعض اليهود المتقدمين وغيرهم أن المراد بمن حولها بلاد العرب فخصه بمن قرب منها عرفا، واستدلوا به على أن بعثة النبي صلى الله عليه وسلم خاصة بقومه العرب. والاستدلال باطل وإن سلم التخصيص المذكور، فإن إرساله صلى الله عليه وآله وسلم إلى قومه لا ينافي إرساله إلى غيرهم، وقد ثبت عموم بعثته في آيات أخرى كقوله تعالى في هذه السورة ﴿ وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ ﴾ [ الأنعام١٩ ] أي وكل من بلغه ووصلت إليه هدايته وقد تقدم وقوله في أول سورة الفرقان ﴿ تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا ﴾ [ الفرقان : ١ ] وقوله في سورة سبأ ﴿ وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ﴾ [ سبأ : ٢٨ ].
﴿ والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به ﴾ أي والذين يؤمنون بالدار الآخرة أو الحياة الآخرة وما فيها من الجزاء على الإيمان والأعمال إيمانا إذعانيا صحيحا أو استعداديا قويا سواء كانوا من أهل الكتاب أو من غيرهم يؤمنون بهذا الكتاب المبارك إذا بلغهم أو إذا بلغتهم دعوته لأنهم يجدون فيه أكمل الهداية على السعادة العظمى في تلك الدار، فمثلهم كمثل سفر ضلوا في مفازة من مجاهل الأرض حتى إذا كادوا يهلكون جاءهم رجل بكتاب في علم خرت الأرض وتقويم البلدان فيه بيان مكانهم وبيان أقرب السبل لمنجاتهم، فإنهم لا يتلبثون بقبوله والعمل به، وأما المنكرون البعث والجزاء فلا يشعرون بشدة الحاجة إلى هدايته، وفي هذا تعريض أو تصريح بسبب إعراض جمهور أهل مكة الأعظم عن هذا الكتاب الذي فيه سعادتهم. وبالغ الرازي في قوله : يحتمل أن يكون المراد من هذا الكلام التنبيه على إخراج أهل مكة من قبول هذا الدين لأن الحامل على تحمل مشقة النظر والاستدلال وترك رياسة الدنيا وترك الحقد والحسد ليس إلا الرغبة في الثواب والرهبة عن العقاب وكفار مكة لما لم يعتقدوا في البعث والقيامة امتنع منهم ترك الحسد وترك الرياسة فلا جرم يبعد قبولهم لهذا الدين واعترافهم بنبوة محمد عليه الصلاة والسلام اه ويعلم وجه المبالغة مما فسرنا به الجملة الشريفة.
﴿ وهم على صلاتهم يحافظون ( ٩٢ ) ﴾ يؤدونها في أوقاتها، مقيمين لأركانها وآدابها، فإن الإيمان بالبعث وبالقرآن يقتضي ذلك حتما، وخصت الصلاة بالذكر لأنه لم يكن فرض عند نزول السورة من أركان العبادات غيرها، على أنه لما كانت الصلاة عماد الدين ورأس العبادات، وممدة الإيمان بالتقوية وكمال الإذعان كانت المحافظة عليها داعية إلى القيام بسائر العبادات المفروضة وترك جميع المحركات المنصوصة ومحاسبة النفس على الشبهات والأفعال المكروهة.
﴿ ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون ٩٣ ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون ٩٤ ﴾
هاتان الآيتان في بيان وعيد من كذب على الله وادعى الوحي أو الإتيان بمثله قفي بهما على ما تقدم من كون الوحي من شؤونه تعالى ومتعلق صفاته، ومن الرد على منكريه وإثبات كون هذا القرآن الذي أنكروا إنزاله على محمد صلى الله عليه وسلم لأنه بشر كالتوراة التي يعترفون بإنزالها على موسى وهو بشر، على أنه أكمل من التوراة وغيرها من الكتب الإلهية، ولذلك خوطب به جميع الناس، وجعل مكملا وخاتما للأديان. وهذا الوعيد يتضمن الشهادة بصدق النبي صلى الله عليه وسلم ذلك أن من كان يؤمن بالله واليوم الآخر إذا لم يكن له مندوحة عن الإيمان بأن القرآن من عند الله تعالى وعن الاهتداء به بالمحافظة على الصلوات وما يتبعها ويستلزمها كما تقدم آنفا. فكيف يمكن أن يكون أكمل الناس إيمانا بالله وخشية له، وإيمانا بالدار الآخرة وما فيها من الجزاء – وهو محمد عليه أفضل الصلاة والسلام – ممن يعرض نفسه لهذا الجزاء وهو منتهى الظلم الذي يترتب عليه أشد الوعيد.
قال تعالى :﴿ ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا ﴾ : افتراء الكذب على الله الاختلاق عليه بالحكاية عنه والعزو إليه أو باتخاذ الشركاء والأنداد له كما يؤخذ من مجموع ما ورد في ذلك، وهو المتبادر من اللفظ، وقد سبق مثل هذا الاستفهام الإنكاري في أوائل هذه السورة وسيأتي مثله في أواخرها ﴿ فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم ﴾ [ الأنعام : ١٤٤ ] وهو فيمن يدعي الوحي كذبا. ومثل ذلك في الأعراف ويونس وهود والكهف والعنكبوت والصف. وأشبه ما في هذه السور بمعنى الآية التي تفسرها آية يونس فإنها في سياق الكلام على القرآن، قال ﴿ وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذي لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله، قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي، إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته أنه لا يفلح المجرمون ﴾ [ يونس : ١٥، ١٧ ] وقد فسر الآلوسي افتراء الكذب هنا بإنكار الوحي وهو لا يتفق مع ما بيناه آنفا والمعنى لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذبا.
﴿ أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ﴾ جعل بعضهم أو هنا بمعنى الواو كقوله تعالى حكاية عن قوم شعيب ﴿ أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا ﴾ [ هود : ٦٢ ] ﴿ أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء ﴾ [ هود : ٨٧ ] وقول الشاعر :
عليها تقاها أو عليها فجورها١
فيكون العطف فيه لتفسير افتراء الكذب، وتعقب بأن التفسير لا يأتي بأو، والمختار أنه من عطف المقيد على المطلق أو الخاص على العام، فإن افتراء الكذب على الله يشمل كل قول على الله بغير علم سواء كان ذلك في ذاته أو صفاته أو أفعاله فيدخل فيه ادعاء الوحي، ومنه ادعاء التحليل والتحريم وغير ذلك من أحكام الشرع بغير علم، وفي هذا الأخير آية الأنعام ١٤٤ وهي الثالثة في هذا المعنى وستأتي إن شاء الله تعالى. وجعل بعضهم « أو » للتنويع في المعنى الواحد كأن يراد بالافتراء ادعاء النبوة من غير ذكر الوحي، وبالثاني ادعاء الوحي من غير ذكر النبوة والرسالة، وإن كانا متلازمين. وما اخترناه أظهر. قالوا : نزل هذا في الذين ادعوا النبوة من العرب وروي عن عكرمة وقتادة تخصيص مسيلمة الكذاب، والحق أنه يدخل في عموم حكمه من ذكر، والسورة مكية نزلت قبل ادعائهم النبوة بزمن طويل فالمعروف أن مسيلمة ادعى النبوة سنة عشر من الهجرة حتى قيل إن ذلك كان بعد حجة الوداع وفي أثناء مرض النبي صلى الله عليه وسلم الذي توفي فيه، فلما سمع الناس بمرضه وثب الأسود العنسي باليمن ومسيلمة باليمامة وطليحة في بني أسد فادعوا النبوة. ذكره ابن الأثير في تاريخه. ويكفي في صحة الوعيد فرض وقوع الذنب أو توقعه، وناهيك بوعيد عالم الغيب والشهادة جل وعز.
﴿ ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله ﴾ أي لا أحد أظلم ممن افترى على الله أو ادعى الوحي منه وممن ادعى انه قادر على إنزال مثل ما لأنزل على رسوله، كمن قال من المشركين ( لو نشاء لقلنا مثل هذا ) وهو النضر بن الحارث فقد كان ممن يقول من كفار مكة عن القرآن أساطير الأولين وإنه شعر لو نشاء لقلنا مثله. وروى ابن جرير عن عكرمة والسدي أن هذا نزل في عبد الله بن سعد بن أبي سرح أخي بني عامر بن لؤي أسلم وكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم فكان إذا أملى عليه « سميعا عليما » كتب هو « عليما حكيما » والعكس فشك وكفر وقال إن كان محمد يوحى إليه فقد أوحى إلي وإن كان الله ينزله فقد أنزلت مثل ما أنزل الله. هذا تمثيل رواية السدي لما كان يغيره من عبارة الوحي. وعبارة عكرمة أنه كان يملي عليه «عزيز حكيم » فيكتب «غفور رحيم » وهاتان الروايتان باطلتان فإنه ليس في شيء من السور المكية «سميعا عليما » ولا «عليما حكيما » ولا «عزيز حكيم » إلا في سورة لقمان والمروي عن ابن عباس أنها نزلت بعد سورة الأنعام وأن الآية التي ختمت بقوله تعالى :﴿ عزيز حكيم ﴾ منها واثنتين بعدها مدنيات ( كما في الإتقان ).
وذكر بعض المفسرين أن النبي صلى الله عليه وسلم أملى عليه قوله سبحانه في سورة المؤمنين ﴿ ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ﴾ - فلما انتهى قوله تعالى- ﴿ ثم أنشأناه خلقا آخر ﴾ [ المؤمنين : ١٤ ] عجب عبد الله من تفصيل خلق الإنسان فقال :( فتبارك الله أحسن الخالقين ) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :« هكذا أنزلت علي » فشك حينئذ وقال : لئن كان محمد صادقا لقد أوحي إلي، ولئن كان كاذبا لقد قلت كما قال. ولم أر هذه الرواية في كتب التفسير المأثور. ويقال فيها مثل ما قيل في الروايتين الأوليين من حيث التاريخ فالمروي أن الأنعام نزلت قبل سورة المؤمنين وأن بينهما سورة مكية. وما قيل من احتمال نزول هذه الآية بالمدينة لا حاجة إليه والرواية غير صحيحة ولكن ذكروا في التفسير المأثور أن عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ) قال ذلك فكان مما وافق فيه خاطره القرآن، وهو جائز إن صحت الرواية، وقد يكون من الكشف الذي يعبر عنه علماء النفس اليوم بقراءة الخواطر. ورووا مثله أيضا عن معاذ وإنما أسلم معاذ في المدينة بعد نزول السورة. وروي أن عبد الله بن سعد لما ارتد كان يطعن في القرآن ولعله قال شيئا مما ذكر في الروايات عنه كذبا وافتراء فإن السور التي نزلت في عهد كتابته لم يكن فيها شيء مما روي عنه أنه تصرف فيه كما علمت، وقد رجع إلى الإسلام قبل الفتح ولو تصرف في القرآن تصرفا أقره عليه النبي صلى الله عليه وسلم فشك في الوحي لأجله لما رجع إلى الإسلام.
ثم ذكر تعالى وعيد الظالمين الذين يعد من وصفوا في الآية أشدهم ظلما وأفحشهم جرما فقال ﴿ ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت ﴾ الخ الخطاب للرسول ثم لكل من سمعه أو قرأه، وجواب « لو » محذوف للتهويل، والغمرات جمع غمرة قيل هي في أصل اللغة المرة من غمره الماء إذا غطاه ثم استعيرت للشدة وعليه الشهاب، وقال الراغب أصل الغمر إزالة أثر الشيء ومنه قيل للماء الكثير الذي يزيل أثر سيله غمر وغامر. والغمرة معظم الماء الساترة لمقرها وجعل مثلا للجهالة التي تغمر صاحبها، وقيل للشدائد غمرات اه ملخصا والمعنى لو تبصر أو تعلم إذ يكون الظالمون الذين ذكروا في الآية أو جنس الظالمين الشامل لهم ولغيرهم في غمرات الموت وهي سكراته وما يتقدمه من شدائد الآلام البدنية أو النفسية أو مجموعهما التي تحيط بهم كما تحيط غمرات الماء بالغرقى.
﴿ والملائكة باسطوا أيديهم ﴾ إليهم بالعذاب يوم البعث أو باسطوها لقبض أرواحهم الخبيثة بالعنف والضرب كما قال :﴿ فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم ﴾ [ محمد : ٢٧ ] واختاره ابن جرير. وقد استعمل بسط اليد بمعنى الإيذاء المطلق في قوله تعالى :﴿ إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم ﴾ [ المائدة : ١١ ] فإن أكثر الإيذاء العملي يكون بمد اليد، فإن أريد إيذاء معين ذكر كقوله تعالى حكاية في قصة ابني آدم ﴿ لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ﴾ [ المائدة : ٢٨ ] الآية وقوله :﴿ أخرجوا أنفسكم ﴾ حكاية لقول الملائكة لهم عند بسط أيديهم لتعذيبهم أو لقبض أرواحهم، ومعناه أخرجوها مما هي فيه أي إن استطعتم- فهو أمر توبيخ وتهكم، أو أخرجوها من أبدانكم. قال صاحب الكشاف إن هذا تمثيل لفعل الملائكة في قبض أرواح الظلمة بفعل الغريم الملح يبسط يده إلى من عليه الحق ليعنف عليه في المطالبة ولا يمهله ويقول له : اخرج ما لي عليك الساعة ولا أريم ( أي لا أبرح ) مكاني حتى أنزعه من أحداقك. ووافقه صاحب الكشف في المعنى ولكنه جعل الكلام كناية عن العنف في السياق، والإلحاح والتشديد في الإرهاق، من غير تنفيس ولا إمهال. وإنه ليس هناك بسط يد ولا قول لسان، وكل من القولين جائز لغة لا تكلف فيه، وكان يكون متعينا، لو كان صدور ما ذكر عن الملائكة متعذرا، ولو كشف لصاحبي الكشاف والكشف الحجاب عن تمثيل الملائكة للبشر بمثل صورهم، ومخاطبتهم بمثل كلامهم، لرأيا أنهما في مندوحة عن العدول عن الحقيقة إلى التمثيل أو الكناية. وقد تعقب الأول ابن المنير بأن هذه الأمور ممكنة على الحقيقة فلا معدل عنها.
﴿ اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون ( ٩٣ ) ﴾ هذا من قول الملائكة أو تتمته هنا. واليوم في اللغة الزمن المحدود بصفة أو عمل يقع فيه كأيام الأسبوع وأيام العرب المعروفة في تحديد وقائعها وحروبها، والمراد به يوم القيامة الذي يبعث الناس فيه للحساب والجزاء، وقيل إن المراد به وقت الموت بناء على القولين في بسط اليد، والتحقيق أن المراد ببسط اليد مدها لتعذيبهم يوم القيامة وحينئذ يقولون لهم هذا القول ولا يصح القول الآخر إلا إذا صح جعل وقت الموت مبدأ يوم القيامة وهو خلاف الظاهر، والمعنى : اليوم تلقون عذاب الذل والهوان٢ لا ظلما من الرحمن، بل جزاء ظلمكم لأنفسكم بسبب ما كنتم تقولون مفترين على الله غير الحق، كقول بعضكم : ما أنزل الله على بشر من شيء، وزعم بعض آخر أنه أوحي إليه ولم يوح إليه شيء، وجحد طائفة منكم لما وصف الله تعالى به نفسه من الصفات، واتخاذ أقوام له البنين والبنات، واستكبار آخرين عما نصبه وما أنزله من الآيات البينات، احتقارا من بعضهم لمن كرمه الله بإظهارها على يده ولسانه، وخشية بعض آخر من تغيير عشرائه وأقرانه، وحاصل المعنى : ولو ترى أيها المخاطب بهذا ما يحل بالظالمين عند الموت ويوم البعث والجزاء مما ذكر لرأيت أمرا عظيما وعذابا أليما.
١ يروي البيت بتمامه:
وقد زعمت ليلى بأني فاجر لنفسي تقاها أو عليها فجورها
والبيت من الطويل، وهو لتوبة بن الحمير في ديوانه ص ٣٧، والأزهية ص ١١٤، وأمالي المرتضى ٢/٥٧، وخزانة الأدب ١١/٨٦، والدرر ٦/١١٧، وشرح شواهد المغني ١/١٩٤، ومغني اللبيب ١/٦٢، وبلا نسبة في رصف المباني صف ١٣٢، ٤٢٧، ولسان العرب (أوا)، وهمع الهوامع ٢/١٣٤..

٢ الهون بالضم والهوان بالفتح الذل منه « أيمسكه على هون أم يدسه في التراب» والهون بالفتح اللين والرفق والدعة ومنه « الذين يمشون على الأرض هونا» فيختلف المعنى باختلاف حركة الهاء..
﴿ ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون ٩٣ ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون ٩٤ ﴾
هاتان الآيتان في بيان وعيد من كذب على الله وادعى الوحي أو الإتيان بمثله قفي بهما على ما تقدم من كون الوحي من شؤونه تعالى ومتعلق صفاته، ومن الرد على منكريه وإثبات كون هذا القرآن الذي أنكروا إنزاله على محمد صلى الله عليه وسلم لأنه بشر كالتوراة التي يعترفون بإنزالها على موسى وهو بشر، على أنه أكمل من التوراة وغيرها من الكتب الإلهية، ولذلك خوطب به جميع الناس، وجعل مكملا وخاتما للأديان. وهذا الوعيد يتضمن الشهادة بصدق النبي صلى الله عليه وسلم ذلك أن من كان يؤمن بالله واليوم الآخر إذا لم يكن له مندوحة عن الإيمان بأن القرآن من عند الله تعالى وعن الاهتداء به بالمحافظة على الصلوات وما يتبعها ويستلزمها كما تقدم آنفا. فكيف يمكن أن يكون أكمل الناس إيمانا بالله وخشية له، وإيمانا بالدار الآخرة وما فيها من الجزاء – وهو محمد عليه أفضل الصلاة والسلام – ممن يعرض نفسه لهذا الجزاء وهو منتهى الظلم الذي يترتب عليه أشد الوعيد.
﴿ ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة ﴾ هذه جملة مستأنفة بين الله تعالى فيها ما يقوله لهؤلاء يوم القيامة بعد بيان ما تقوله لهم ملائكة العذاب كما جزم ابن جرير، لا معطوفة على ما قبلها من حكاية قول الملائكة كما حكاه الرازي أحد وجهين وزعم أنه أقوى، غافلا عن قوله تعالى :﴿ خلقناكم ﴾ ولا ينافي هذا الخطاب قوله تعالى :﴿ ولا يكلمهم الله يوم القيامة ﴾ [ البقرة : ١٧٤ ] لأن معناه أنه لا يكلمهم كلام تكريم ورضاء، أو هو كناية عن الغضب والإعراض ؛ والمعنى لقد جئتمونا متفرقين فردا بعد فرد١ أو وحدانا منفردين عن الأنداد والأوثان، والأهل والإخوان، والأنصار والأعوان، مجردين من الخول والخدم والأملاك والأموال، كما خلقناكم أول مرة من بطون أمهاتكم حفاة عراة غلفا، أكد تعالى الخبر بمجيئهم بعد وقوعه تذكيرا لهم بما كان من جحودهم إياه واستعبادهم لوقوعه، كما ذكرهم بمشابهة بعثهم وإعادتهم لبدء خلقهم، وهو المثل الذي جاءهم به الرسول صلى الله عليه وسلم من ربهم.
﴿ وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم ﴾ فلم تقدموا لأنفسكم منه شيئا بين أيديكم. معنى خولناكم أعطيناكم، وأصل التخويل إعطاء الخول، كالعبيد والنعم، ويعبر بالترك وراء الظهر عما فات الإنسان التصرف فيه والانتفاع به، لفقده إياه أو بعده عنه، وبالتقديم بين الأيدي عما ينتفع به في المستقبل، فالمراد هنا أن ما كان شاغلا لهم من المال والولد، والخدم والحشم، والأثاث والرياش، عن الإيمان بالرسل والاهتداء بما جاؤوا به، لم ينفعهم كما كانوا يتوهمون أن الله فضلهم به على المؤمنين، وأنهم يمكنهم الافتداء به أو ببعضه من عذاب الآخرة، إن صح قول الرسل أن بعد الحياة الدنيا حسابا وجزاء في حياة أخرى، وإنما كان يمكنهم الانتفاع به لو آمنوا بالرسل وأنفقوا في سبيل الله، ولولا أن هذا هو المراد لاستُغنيَ عن هذه الجملة بما قبلها، ومثل هذا يقال في قوله :
﴿ وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء ﴾ فإن الأديان الوثنية قائمة على قاعدتي الفداء والشفاعة كما تقدم بيانه مرارا، أي وما نبصر معكم شفعاءكم – من الملائكة وخيار البشر وغيرهم- أو تماثيلهم وقبورهم – الذين زعمتم في الدنيا أنهم فيكم شركاء لله تعالى، تدعونهم ليشفعوا لكم عند الله ويقربوكم إليه زلفى، بتأثيرهم في إرادته، وحملهم إياه على ما لم تتعلق في الأزل به. وقد تقدم شرح هذه العقيدة الوثنية والتفرقة بينها وبين أحاديث الشفاعة في تفسير هذه السورة وغيرها.
﴿ لقد تقطع بينكم ﴾ البين الصلة أو المسافة الحسية أو المعنوية الممتدة بين شيئين أو أشياء فيضاف دائما إلى المثنى كقوله تعالى :﴿ فأصلحوا بين أخويكم ﴾ [ الحجرات : ١٠ ] ﴿ فأصلحوا بينهما بالعدل ﴾ [ الحجرات : ٩ ] أو الجمع لفظا أو معنى كقوله تعالى :﴿ أو إصلاح بين الناس ﴾ [ النساء : ١١٤ ] ولا يضاف إلى الاسم المفرد إلا إذا كرر نحو ﴿ هذا فراق بيني وبينك ﴾ [ الكهف : ٧٨ ] ﴿ ومن بيننا وبينك حجاب ﴾ [ فصلت : ٥ ] ويستعمل في الغالب ظرفا غير متمكن وفي القليل اسما. وقد قرأه هنا عاصم وحفص عنه والكسائي بفتح النون أي تقطع ما كان بينكم من صلات النسب والملك والولاء والخلة، وقدر بعضهم : تقطع الوصل بينكم. وقرأه الجمهور بالرفع على الفاعلية قالوا أي تقطع وصلكم أو تواصلكم.
﴿ وضل عنكم ما كنتم تزعمون ( ٩٤ ) ﴾ أي وغاب عنكم ما كنتم تزعمون من شفاعة الشفعاء، وتقريب الأولياء، وأوهام الفداء، إذ علمتم بطلان غروركم به واعتمادكم عليه، أو ضل عنكم الشفعاء الذين كنتم تزعمون أنهم يشفعون لكم، ففي الكلام نشر على ترتيب اللف، فإن تقطع البين راجع إلى ترك ما خولوا، وفقد الشفاعة أو الشفعاء راجع إلى ما بعده. وجملة القول أن آمالهم خابت في كل ما كانوا يزعمون ويتوهمون. وقد سبق لهذا نظير في الآيات ( ٢٠-٢٤ ) من هذه السورة فراجع تفسيرها في هذا الجزء.
١ قيل إن فرادى جمع فرد على خلاف القياس وقيل إنه جمع فريد كأسارى جمع أسير، والصواب أنه لا يطلق جمعا لفرد كأفراد وإنما خص بمجيئه حالا في مثل جاؤوا فرادى فهو يشبه مثنى وثلاث في الاستعمال..
﴿ إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنى تؤفكون ٩٥ فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم ٩٦ وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون ٩٧ وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون ٩٨ وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرا تخرج منه حبا متراكبا ومن النحل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه انظروا إلى ثمره إذا أثمر إن في ذالكم لآيات لقوم يؤمنون ٩٩ ﴾
هذه طائفة من آيات التنزيل، مبينة ومفصلة لطائفة من آيات التكوين، تدل أوضح الدلالة على وحدانية الله تعالى وقدرته، وعلمه وحكمته، ولطفه ورحمته، جاءت تالية لطائفة من الآيات في أصول الإيمان الثلاثة، - التوحيد والبعث والرسالة، فهي مزيد تأكيد في إثباتها، وكمال بيان في معرفة الله تعالى، بما فيها من بيان سننه وحكمه في الإحياء والإماتة والأحياء والأموات، وتقديره لأمر النيرات في السموات، وأنواع حججه ودلائله في أنواع النبات.
قال عز وجل :﴿ إن الله فالق الحب والنوى ﴾ : الفلق والفرق والفتق جنس واحد للشق، ونحوه الفأو والفأي والفأس والفت والفتح والفجر والفرج والفرز والفرس والفرص والفرض والفري والفصل وأشباهها. ومنه قوله تعالى :﴿ وإذ فرقنا بكم البحر ﴾ [ البقرة : ٥٠ ] مع قوله فيه ﴿ فانفلق فكان كل فرق كالطود ﴾ [ الشعراء : ٦٣ ] ومن أسماء الصبح الفلق بالتحريك، والفتق – بالفتح – والفتيق، وقول الراغب : الفلق شق الشيء وإبانة بعضه من بعض والفتق الفصل بين المتصلين. غير ظاهر، بل التنزيل يدل على عكس قوله إن الفتق يعتبر فيه الانشقاق والفلق يعتبر فيه الانفصال. وفيه أن مواد الفلق والفتق والشق والفطر ومطاوعتها قد استعملت في الأشياء المادية في باب الخلق والتكوين وما يقابله من خراب العالم بقيام القيامة، وإن الفرق استعمل في الأمور المادية والمعنوية جميعا، ومن الثاني تسمية القرآن فرقانا وتلقيب عمر بالفاروق، فإن المراد بهما الفرق بين الحق والباطل. والحب بالفتح اسم جنس للحنطة وغيرها مما يكون في السنبل والأكمام والجمع حبوب مثل فلس وفلوس والواحدة حبة. والحب بالكسر بزر ما لا يقتات مثل بزور الرياحين الواحدة حبة بالكسر. قاله في المصباح ونحوه في مفردات الراغب. والنوى جمع نواة وهي عجمة التمر والزبيب وغيرهما كما في اللسان، والعجمة بالتحريك ما يكون في داخل التمرة والزبيبة ونحوها، وجمعها عجم وقيل إن النوى إذا أطلق ينصرف إلى عجم التمر فإن أريد غيره قيد فقيل نوى الخوخ ونوى المشمش. ولعل هذا تابع للقرينة ولم أر من قال إنه كذلك في أصل اللغة.
والمعنى إن الله هو فالق ما تزرعون من حب الحصيد ونوى الثمرات وشاقه بقدرته وتقديره الذي ربط به أسباب الإنبات بمسبباتها. ومنها جعل الحب والنوى في التراب وإرواء التراب بالماء. وعن ابن عباس أن المراد بالفلق هنا الخلق والإيجاد، والأول أظهر في بيان المراد، وقد بين ذلك بقوله :﴿ يخرج الحي من الميت ﴾ أي يخرج الزرع من نجم وشجر وهو حي – أي متغذ نام – من الميت وهو ما لا يتغذى ولا ينمى من الحب والنوى وغيرهما من البزور كما يخرج الحيوان من البيضة والنطفة. فإن قيل : إن علماء المواليد يزعمون أن في كل أصول الإحياء حياة فكل ما ينبت من ذلك ذو حياة كامنة إذا عقم بالصناعة لا ينبت. قلنا إن هذا اصطلاح لهم يسمون القوة أو الخاصية التي يكون بها الحب قابلا للإنبات حياة، ولكن هذا لا يصح في اللغة إلا بضرب من التجوز، وإنما حقيقة الحياة في اللغة ما يكون به الجسم متغذيا ناميا بالفعل وهذا أدنى مراتب الحياة عند العرب ولها مراتب أخرى كالإحساس والقدرة والإرادة والعلم والعقل والحكمة والنظام، وهذه أعلى مراتب الحياة في المخلوق، وفوق ذلك حياة الخالق التي هي مصدر كل حياة وحكمة ونظام في الكون. وما قلنا إنه الحقيقة أظهر من مقابله، وهو جعل إطلاق الميت على الحب والنوى من مجاز التشبيه كأنه لما لم تظهر فيه آيات حياته الكامنة من النماء وغيره سمي ميتا، فإن واضعي اللغة في طور البداوة لم يكونوا يعلمون أن في الحب والنوى صفة هي مصدر النماء، قد تزول فلا يبقى قابلا للإنبات. وجعل بعضهم كلا من الحي والميت هنا مجازا ويرده مثل قوله تعالى :﴿ وجعلنا من الماء كل شيء حي ﴾ [ الأنبياء : ٣٠ ] ﴿ ومخرج الميت من الحي ﴾ [ الأنعام : ٩٥ ] كالحب والنوى من النبات والبيضة والنطفة من الحيوان وهذا قيل إنه عطف على « فالق الحب » لأن الأصل في الكلام الفصيح أن يعطف الاسم على الاسم، ولأن إخراج الميت من الحي لا يدخل في بيان فلق الحب والنوى.
وقيل إنه عطف على « يخرج الحي من الميت » سواء كان بيانا لما قبله أو خبرا بعد خبر، لأن التناسب بين هذين الأمرين المتقابلين أقوى من التناسب بين الثاني وبين فلق الحب والنوى، ولذلك وردا بصيغة الفعل في سورتي يونس والروم ﴿ يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ﴾ [ الأنعام : ٩٥ ] وقد حسن عطف اسم الفاعل ( مخرج ) على الفعل ( يخرج ) لنكتة بيان التفاوت بين الأمرين مع كون اسم الفاعل بمعنى فعل المضارع فإن مخرج الشيء هو الذي يخرجه في الحال أو الاستقبال، ولكن هذا الفعل يدل أيضا على التجدد والاستمرار. وقد يراد بوضعه موضع اسم الفاعل أو موضع الفعل الماضي إفادة تجدده واستمراره، أو تصور حدوث متعلقة واستحضار صورته.
مثال الأول المقابلة التي أوردها الشيخ عبد القاهر في دلائل الإعجاز بين قوله تعالى :﴿ هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء ﴾ [ فاطر : ٣ ] وقوله :﴿ وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد ﴾ [ الكهف : ١٨ ] فصيغة الفعل في يرزقكم تدل على أنه يرزقهم حالا فحالا وساعة فساعة، وصيغة الاسم في باسط ذراعيه تفيد البقاء على تلك الحالة.
ومثال الثاني قوله تعالى :﴿ ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة ﴾ [ الحج : ٦٣ ] جعل ( فتصبح ) موضع فأصبحت لإفادة استحضار تلك الهيئة الجميلة وتمثلها كأنها حاضرة مشاهدة. وكل من هذين المعنيين للمضارع قيل بأنه مراد بقوله تعالى ﴿ يخرج الحي من الميت ﴾ القائل بالأول هو فخر الدين الرازي والقائل بالآخر هو ابن المنير في الانتصاف على الكشاف.
وقال الرازي في تعليل اختلاف التعبير في المعنى : إن العناية بإيجاد الحي من الميت أكثر وأكمل من العناية بإخراج الميت من الحي. وقال ابن المنير إن الأول أظهر في القدرة من الثاني وإنه أول الحالين والنظر أو ما يبدأ به – فلهذا كان جديرا بالتصور والتأكيد في النفس وبالتقديم اه. وذهب الخطيب الإسكافي في ( درة التنزيل ) إلى جعل اختلاف التعبير لفظيا محضا. وملخص كلامه أن مقتضى السياق أن يقال « ومخرج الحي من الميت مخرج الميت من الحي » لمناسبة ( فالق الحب ) قبله و( فالق الإصباح ) بعده، ولكن لما كان ذلك مستثقلا في النطق بعد كلمة « والنوى » الذي اجتمع فيها ثلاثة من حروف العلة عدل عن ( ومخرج ) المبدأ بحرف العلة إلى ( يخرج ) التي بمعناها، ثم عطف عليها ( ومخرج ) لمناسبة اسم الفاعل قبله وبعده اه. والمراد أن « والنوى » بدئت بالواو المفتوحة وختمت بها فإذا عطف عليها ( ومخرج ) تتكرر الواو المفتوحة تكرارا مستثقلا كما هو ظاهر.
ونقل بعض المفسرين عن ابن عباس ( رضي الله عنه ) أن معنى الجملتين يخرج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن، ومثله إخراج البار من الفاجر والصالح من الطالح والعالم من الجاهل وعكسه بحمل الحياة والموت على المعنوي منهما على حد قوله تعالى :﴿ أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس ﴾ [ الأنعام : ١٢٢ ] ولكن هذا التفسير لا يناسب هذا السياق وإنما يناسب سياق آيتي آل عمران ( ٣ : ٢٧ ) ويونس ( ٣١ : ١٠ ) ( فراجع تفسير الأولى في ج ٣ من التفسير ).
﴿ ذلكم الله فأنى تؤفكون ﴾ أي ذلكم المتصف بما ذكر من مقتضى القدرة الكاملة والحكمة البالغة هو الله خالق كل شيء فكيف تصرفون عن عبادته وحده، وتشركون به من لا يقدر على فلق نواة ولا حبة، ولا إحداث سنبلة ولا نخلة ؟
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:ومن مباحث البلاغة في الآيات، واختلاف الإعراب والترتيب بين المتناسبات، أن هذا السياق بدئ بفلق الحب والنوى وإخراج الحي من الميت وعكسه، وقفى عليه بما يناسبه من فلق الإصباح، وعطف على هذا ما يقابله من معاقبة الليل للنهار، وأشير إلى فوائدهما وفوائد النيرين، اللذين هما آيتا هذين الملوين، وناسب ذكر النيرين التذكير بخلق النجوم، والمنة بالاهتداء بها والإيماء إلى ما فيها من آيات العلوم، ثم عطف على هذا النوع من الآيات إنشاءنا من نفس واحدة فمنها المستقر والمستودع، وقفى عليه بإنزال الماء، وجعله سببا لنبات كل شيء من هذه الأحياء، وكل منهما تفصيل لقوله في الآية الأولى من السياق ﴿ يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ﴾ وقد لون في تفصيل خلق النبات الخطاب، وتفنن في طرق الإعراب، للتنبيه إلى ما فيه من أنواع الألوان، وتشابه ما فيه من الثمار والأفنان، فبدئت الآية بضمير الواحدة الغائب المفرد تبعا لسياق ما قبلها من هذه الآيات، وعطف عليه ضمير المتكلم الجمعي لطريق الالتفات. إذ قال :« فأخرجنا به نبات كل شيء» بعد قوله :« أنزل من السماء ماء» فحكمة الالتفات أن تلتفت الأذهان، إلى ما يعقب ذلك من البيان، فتتنبه إلى أن هذا الإخراج البديع، والصنع السنيع، من فعل الحكيم الخلاق لا من فلتات المصادفة والاتفاق.
ولما كان الماء واحدا والنبات جمعا كثيرا ناسب إفراد الفعل الأول وجمع الفعل الآخر. ومعلوم أن الواحد إذا قال فعلنا أراد إفادة تعظيم نفسه إذا كان مقامه أهلا لذلك كما يقول الملك أو الأمير حتى في هذا العصر في أول ما يصدره من نحو نظام أو قانون « أمرنا بما هو آت» ونكتة العدول عن الماضي إلى المضارع في قوله « نخرج منه حبا متراكبا» تحصل بإرادة استحضار صورته العجيبة في حسنها وانتظامها، وتنضد سنابلها واتساقها، وعطف عليه ما يخرجه تعالى من طلع النخل، من القنوان المشابه لسنابل القمح، في نضد ثمره وتراكبها، ومنافعها وغرائبها، فإن في كل منهما أفضل غذاء للناس، وعلف للدواب والأنعام، وذكر بعده جنات الأعناب، لأنها أشبه بالنخيل في هذه الأبواب، فالعناقيد تشبه العراجين في تكونها، وتراكب حبها وألوان ثمرها، كما تشبهها في درجات تطورها، فالحصرم كالبسر والعنب كالرطب والزبيب كالتمر، ويخرج من كل منهما عسل وخل وخمر، ثم ذكر الزيتون والرمان معطوفا على نبات كل شيء أو منصوبا على الاختصاص، لا على ما قبله من النخيل والأعناب، لأن ما بينهما من التشابه في الصورة، محصور في الورق دون الثمر، وأما مكانهما من المنفعة والفائدة، فالأول في الدرجة الثالثة والآخر في الدرجة الرابعة، ذلك بأن الزيتون وزيته غذاء فقط ولكنه تابع للطعام غير مستقل بالتغذية، والرمان فاكهة وشراب فقط ولكنهما دون فواكه النخيل والأعناب وأشربتهما في المرتبة، فناسب جعله بعدهما، والإشارة باختلاف الإعراب إلى رتبة كل منهما، وبناء على اختلاف المراتب قدم نبات الحب على الجميع لأنه الغذاء الأعظم الأعم لأكثر الناس وأكثر أنواع الحيوان الأهلية التي تقوم أكثر مرافقهم ومنافعهم بها، فسبحان من هذا كلامه.

﴿ إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنى تؤفكون ٩٥ فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم ٩٦ وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون ٩٧ وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون ٩٨ وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرا تخرج منه حبا متراكبا ومن النحل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه انظروا إلى ثمره إذا أثمر إن في ذالكم لآيات لقوم يؤمنون ٩٩ ﴾
هذه طائفة من آيات التنزيل، مبينة ومفصلة لطائفة من آيات التكوين، تدل أوضح الدلالة على وحدانية الله تعالى وقدرته، وعلمه وحكمته، ولطفه ورحمته، جاءت تالية لطائفة من الآيات في أصول الإيمان الثلاثة، - التوحيد والبعث والرسالة، فهي مزيد تأكيد في إثباتها، وكمال بيان في معرفة الله تعالى، بما فيها من بيان سننه وحكمه في الإحياء والإماتة والأحياء والأموات، وتقديره لأمر النيرات في السموات، وأنواع حججه ودلائله في أنواع النبات.
﴿ فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ﴾ جمع تعالى في هذه الآية المنزلة بين ثلاث آيات سماوية، بعد الجمع فيما قبلها بين ثلاث آيات أرضية، ( فالآية الأولى ) فلق الإصباح، والمراد به الصبح وأصله مصدر «أصبح الرجل » إذا دخل في وقت الصباح ومن الشواهد عليه قول امرئ القيس :
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي بصبح وما الإصباح منك بأمثل١
وقرأ الحسن بفتح الهمزة وأنشد قول الشاعر :
أفنى رياحا وبني رياح تناسخ الإمساء والإصباح
بالكسر والفتح – مصدرين، وجمع مساء وصبح. وفلق الإصباح عبارة عن فلق ظلمة الليل وشقها بعمود الصبح الذي يبدو في جهة مطلع الشمس من الأفق مستطيلا، فلا يعتد به حتى يصير مستطيرا، تتفرى الظلمة عنه من أمامه وعن جانبيه إلى أن تنقشع وتزول، ولذلك سمي فجرا فإن الفجر بمعنى الفلق كما تقدم آنفا. والله تعالى هو فالق الإصباح بنور الشمس الذي يتقدمها، إذ هو خالقها ومقدر مواقع الأرض منها في سيرها، كما نبينه في الآية الثالثة من آيات هذه الآية فإنها معللة للآيتين قبلها، والمراد من التذكير بالآية الأولى التأمل في صنع الله بتفري الليل إذا عسعس، عن صبحه إذا تنفس، وإفاضة النور الذي هو مظهر جمال الوجود، ومبدأ زمن تقلب الأحياء في القيام والقعود، والركوع والسجود، ومضيهم في تجلي النهار، إلى ما يسروا له من الأعمال، وما لله في ذلك من نعم وحكم وأسرار. ويدل على ذلك ذكر الآية الثانية بفائدتها، وهي آية الليل يجعله الله سكنا، فهذا المذكور، يدل على مقابلة المحذوف وهو جعل النهار وقتا للحركة بالسعي للمعاش، والعمل الصالح للمعاد.
وقد صرح بنوعي الفائدتين في آيات كقوله تعالى :﴿ ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون ﴾ [ القصص : ٧٣ ] فهذه الآية على إيجازها جامعة للفوائد الدنيوية والدينية، وفيها اللف والنشر، أي لتسكنوا في الليل وتطلبوا الرزق من فضل الله في النهار، وليعدكم لشكر نعمه عليكم بهما، وبمنافعكم في كل منهما، ومن الآيات المصرحة بذكرهما ما قرن بالتذكير بفائدتهما الدنيوية فقط كقوله تعالى :﴿ وجعلنا الليل لباسا، وجعلنا النهار معاشا ﴾ [ النبأ : ١٠ ] ومنها ما قرن بالتذكير بفائدتهما الدينية فقط كقوله تعالى :﴿ وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا ﴾ [ الفرقان : ٦٢ ] فيا لله من إيجاز القرآن وبلاغته في اختلاف عبارته ! !
قرأ عاصم والكسائي «وجعل الليل » بالفعل الماضي وقرأه الجمهور بصيغة اسم الفاعل «وجاعل » ورسمهما في المصحف الإمام واحد، والأولى تقوي جانب الإعراب فإن الشمس والقمر المعطوفين على الليل منصوبان بإجماع القراء، ولا يظهر نصبهما على القراءة الثانية إلا بتقدير جعل، أو جعل «جاعل » بمعناه، وهو تكلف يجتنب في الفصيح. والثانية تناسب السياق والنسق بعطف الاسم على الاسم وهو الأصل الذي لا يخرج عنه في الفصيح إلا لنكتة. فبالجمع بين القراءتين زال التكلف وتم التناسب، فيالله من فصاحة القرآن في عبارته، واختلاف قراءته ! !
والسكن بالتحريك السكون وما يسكن فيه من مكان كالبيت وزمان كالليل، وكذا ما يسكن إليه، وهو ما اختاره الكشاف هنا قال : السكن ما يسكن إليه الرجل ( أي وغيره ) ويطمئن استئناسا به واسترواحا إليه من زوج أو حبيب، ومنه قيل للنار سكن لأنه يستأنس بها، ألا تراهم سموها المؤنسة، والليل يطمئن إليه التعب بالنهار لاستراحته فيه وجمامه. ويجوز أن يراد وجعل الليل مسكونا فيه من قوله :« لتسكنوا فيه ) اه. وهذا الأخير المرجوح عنده هو الراجح المختار عندنا إلا أنه يجوز الجمع بينهما، ودليل الترجيح نص ( لتسكنوا فيه ) وكون السكون فيه أعم وأظهر من السكون إليه، فإن كثيرا من الناس يستوحشون من الليل ولا يأنسون به، وإن كان له على آخرين أياد جلية أو خفية، تنقض مذهب المانوية، فيستطيله المرضى والمهمومون والمهجورون، ويستقصره العابدون الواصلون، والعاشقون الموصولون، فذاك يقول ما أطوله ويطلب انجلاءه، وهذا يقول ما أقصره ويتمنى بقاءه :
يود أن سواد الليل دام له ويزيد فيه سواد القلب والبصر
والمراد بالسكون فيه ما يعم سكون الجسم وسكون النفس. أما سكون الجسم فبراحته من تعب بالنهار، وأما سكون النفس فبهدوء الخواطر والأفكار، والليل زمن السكون لأنه لا يتيسر فيه من الحركة وأنواع الأعمال ما يتيسر في النهار، لما خص به الأول من الإظلام والثاني من الإبصار، ﴿ وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب ﴾ [ الإسراء : ١٢ ] فأكثر الأحياء من إنسان وحيوان تترك العمل والسعي في الليل، وتأوي إلى مساكنها للراحة التي لا تتم وتكمل إلا بالنوم، الذي تسكن به الجوارح والخواطر ببطلان حركتها الإرادية، كما تسكن به الأعضاء الرئيسية سكونا نسبيا بقلة حركتها الطبيعية، فتقل نبضات القلب بوقوفها بين كل نبضتين، ويقل إفراز خلايا الجسم للسوائل والعصارات التي تفرزها، ويبطئ التنفس ويقل ضغط الدم في الشرايين ولا سيما في أول النوم إذ تكون الحاجة إلى الراحة به على أشدها، ويضعف الشعور حتى يكاد يكون مفقودا، فيستريح الجهاز العصبي، ولا سيما الدماغ والحبل الشوكي، وتستريح جميع الأعضاء باستراحته، وتقل الفضلات التي تنحل من البدن وتكثر الدقائق التي تتكون من الدم لتحل محلها. وإنما تكثر الفضلات وانحلال الذرات بكثرة العمل، فالعمل العقلي يجهد الدماغ والعضلي يجهد الأعضاء العاملة فتزداد الحرارة ويكثر الاحتراق بحسب كثرة العمل وتكون الحاجة إلى الراحة بالنوم بقدر ذلك، وقد علل النوم تعليلات كثيرة ولما يصل العلماء إلى كشف سره، واستجلاء كنه سببه.
وأما الآية الثالثة الكونية في الآية فهي جعل الشمس والقمر حسبانا أي علمي حساب، لأن طلوعهما وغروبهما وما يظهر من تحولاتهما واختلاف مظاهرهما كل ذلك بحساب، كما قال تعالى :﴿ الشمس والقمر بحسبان ﴾ [ الرحمان ٣ ] فما هنا بمعنى آية الإسراء ( ١٧ : ١٢ ) التي ذكرت آنفا وآية يونس﴿ هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ﴾ [ يونس : ٥ ] فالحساب بالكسر والحسبان بالضم مصدران لحسب يحسب ( من باب نصر ) وهو استعمال العدد في الأشياء والأوقات. وأما الحسبان بالكسر فهو مصدر حسب ( بوزن علم ) وفضل الله تعالى في ذلك عظيم فإن حاجة الناس إلى معرفة حساب الأوقات لعباداتهم ومعاملاتهم وتواريخهم لا تخفى على أحد منها في جملتها، وعند خواص العلماء من ذلك ما ليس عند غيرهم، وعلماء الفلك والتقاويم متفقون في هذا العصر على أن للأرض حركتين : حركة تتم في ٢٤ ساعة وهي مدار حساب الأيام، وحركة تتم في سنة وبها يكون اختلاف الفصول وعليها مدار حساب السنين الشمسية، ولعلنا نشرح هذا في تفسير سورة يونس وغيرها.
﴿ ذلك تقدير العزيز العليم ﴾ أي ذلك الجعل العالي الشأن، البعيد المدى في الإبداع والإتقان، فوق بعد النيرات عن الإنسان، المترتب على ما ذكر من سبب اختلاف الأيام والفصول وتقدير السنين الشمسية، ومن تشكلات القمر التي نعرف بها الشهور القمرية، هو تقدير الخالق الغالب على أمره في تنظيم ملكه، الذي وضع المقادير والأنظمة الفلكية وغيرهما بما اقتضاه واسع علمه، فهذا النظام والإبداع من آثار عزته وعلمه عز وجل، فليس في ملكه جزاف ولا خلل، ( إنا كل شيء خلقناه بقدر ).
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:ومن مباحث البلاغة في الآيات، واختلاف الإعراب والترتيب بين المتناسبات، أن هذا السياق بدئ بفلق الحب والنوى وإخراج الحي من الميت وعكسه، وقفى عليه بما يناسبه من فلق الإصباح، وعطف على هذا ما يقابله من معاقبة الليل للنهار، وأشير إلى فوائدهما وفوائد النيرين، اللذين هما آيتا هذين الملوين، وناسب ذكر النيرين التذكير بخلق النجوم، والمنة بالاهتداء بها والإيماء إلى ما فيها من آيات العلوم، ثم عطف على هذا النوع من الآيات إنشاءنا من نفس واحدة فمنها المستقر والمستودع، وقفى عليه بإنزال الماء، وجعله سببا لنبات كل شيء من هذه الأحياء، وكل منهما تفصيل لقوله في الآية الأولى من السياق ﴿ يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ﴾ وقد لون في تفصيل خلق النبات الخطاب، وتفنن في طرق الإعراب، للتنبيه إلى ما فيه من أنواع الألوان، وتشابه ما فيه من الثمار والأفنان، فبدئت الآية بضمير الواحدة الغائب المفرد تبعا لسياق ما قبلها من هذه الآيات، وعطف عليه ضمير المتكلم الجمعي لطريق الالتفات. إذ قال :« فأخرجنا به نبات كل شيء» بعد قوله :« أنزل من السماء ماء» فحكمة الالتفات أن تلتفت الأذهان، إلى ما يعقب ذلك من البيان، فتتنبه إلى أن هذا الإخراج البديع، والصنع السنيع، من فعل الحكيم الخلاق لا من فلتات المصادفة والاتفاق.
ولما كان الماء واحدا والنبات جمعا كثيرا ناسب إفراد الفعل الأول وجمع الفعل الآخر. ومعلوم أن الواحد إذا قال فعلنا أراد إفادة تعظيم نفسه إذا كان مقامه أهلا لذلك كما يقول الملك أو الأمير حتى في هذا العصر في أول ما يصدره من نحو نظام أو قانون « أمرنا بما هو آت» ونكتة العدول عن الماضي إلى المضارع في قوله « نخرج منه حبا متراكبا» تحصل بإرادة استحضار صورته العجيبة في حسنها وانتظامها، وتنضد سنابلها واتساقها، وعطف عليه ما يخرجه تعالى من طلع النخل، من القنوان المشابه لسنابل القمح، في نضد ثمره وتراكبها، ومنافعها وغرائبها، فإن في كل منهما أفضل غذاء للناس، وعلف للدواب والأنعام، وذكر بعده جنات الأعناب، لأنها أشبه بالنخيل في هذه الأبواب، فالعناقيد تشبه العراجين في تكونها، وتراكب حبها وألوان ثمرها، كما تشبهها في درجات تطورها، فالحصرم كالبسر والعنب كالرطب والزبيب كالتمر، ويخرج من كل منهما عسل وخل وخمر، ثم ذكر الزيتون والرمان معطوفا على نبات كل شيء أو منصوبا على الاختصاص، لا على ما قبله من النخيل والأعناب، لأن ما بينهما من التشابه في الصورة، محصور في الورق دون الثمر، وأما مكانهما من المنفعة والفائدة، فالأول في الدرجة الثالثة والآخر في الدرجة الرابعة، ذلك بأن الزيتون وزيته غذاء فقط ولكنه تابع للطعام غير مستقل بالتغذية، والرمان فاكهة وشراب فقط ولكنهما دون فواكه النخيل والأعناب وأشربتهما في المرتبة، فناسب جعله بعدهما، والإشارة باختلاف الإعراب إلى رتبة كل منهما، وبناء على اختلاف المراتب قدم نبات الحب على الجميع لأنه الغذاء الأعظم الأعم لأكثر الناس وأكثر أنواع الحيوان الأهلية التي تقوم أكثر مرافقهم ومنافعهم بها، فسبحان من هذا كلامه.


١ البيت من الطويل، وهو لامرئ القيس في ديوانه ص ١٨، والأزهية ص ٢٧١، وخزانة الأدب ٢/٣٢٦، ٣٢٧، وسر صناعة الإعراب ٢/٥١٣، ولسان العرب (شلل)، والمقاصد النحوية ٤/٣١٧، وبلا نسبة في أوضح المسال ٤/٩٣، وجواهر الأدب ص ٧٨، ورصف المباني ص ٧٩، وشرح الأشموني ٢/٤٩٣..
﴿ إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنى تؤفكون ٩٥ فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم ٩٦ وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون ٩٧ وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون ٩٨ وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرا تخرج منه حبا متراكبا ومن النحل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه انظروا إلى ثمره إذا أثمر إن في ذالكم لآيات لقوم يؤمنون ٩٩ ﴾
هذه طائفة من آيات التنزيل، مبينة ومفصلة لطائفة من آيات التكوين، تدل أوضح الدلالة على وحدانية الله تعالى وقدرته، وعلمه وحكمته، ولطفه ورحمته، جاءت تالية لطائفة من الآيات في أصول الإيمان الثلاثة، - التوحيد والبعث والرسالة، فهي مزيد تأكيد في إثباتها، وكمال بيان في معرفة الله تعالى، بما فيها من بيان سننه وحكمه في الإحياء والإماتة والأحياء والأموات، وتقديره لأمر النيرات في السموات، وأنواع حججه ودلائله في أنواع النبات.
﴿ وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر ﴾ هذا نوع آخر من آيات التكوين العلوية مقرون بفائدته في تعليل جعله، والمراد بالنجوم ما عدا الشمس والقمر من نيرات السماء، لأن ذلك هو المتبادر من السياق والمعهود في الاهتداء، ذكرنا تعالى ببعض فضله في تسخير هذه النيرات التي ترى صغيرة بعد التذكير ببعض فضله في النيرين الأكبرين في أعين الناس، وقيل إنهما يدخلان في عموم النجوم لأن القمر مما يهتدى به في الظلمات، فإذا استثنيت بعض ليالي الشهر قلنا وأي نجم يهتدي به في جميع الأوقات ؟ وكانت العرب في بدايتها تؤقت بطلوع النجم لأنهم ما كانوا يعرفون الحساب، وإنما يحفظون أوقات السنة بالأنواء، وهي نجوم منازل القمر في مطالعها ومغاربها – وسيأتي بيان ذلك في موضع آخر – وقد سموا الوقت الذي يجب الأداء فيه « نجما » تجوزا لأن الاستحقاق لا يعرف إلا به، ثم سموا المال الذي يؤدى نجما، وقالوا نجمه إذا جعله أقساطا. وفي الظلمات هنا وجهان ظلمات الليل بالبر والبحر أضافهما إليها لملابستها لهما – أو مشتبهات الطرق شبهها بالظلمات، قاله في الكشاف. وكان اهتداؤهم بالنجوم قسمان أحدهما معرفة الوقت من الليل أو من السنة والثاني معرفة المسالك والطرق والجهات. وقد سبق ذكر الظلمات وبيان أنواعها في البر والبحر في تفسير الآية ٦٣ من هذه السورة.
وهاهنا يذكر المفسرون النهي عن علم النجوم الذي يزعم أهله أنهم يعرفون به ما سيكون في المستقبل من الأحداث قبل حدوثها. ومنهم من بالغ فأطلق النهي عن علم النجوم إلا القدر الذي يهتدي به في الظلمات ويعرف به الحساب، ويحصل به الاعتبار بزينة السماء، لأن هذه الأشياء هي التي هدى إليها الكتاب. والصواب أن المذموم هو تلك الأوهام التي يزعمون معرفة الغيب بها دون علم الهيئة الفلكية الذي يعرف به آيات قدرة الله وعلمه وحكمته ما لا يعرف من علم آخر، وقد اتسع هذا العلم في عصرنا هذا بما استحدث من المراصد المقربة للأبعاد والآلات المحللة للنور التي يعرف بها سرعة سيره وأبعاد الأجرام السماوية بعضها من بعض ومساحة الكواكب وكثافتها والمواد المؤلفة منها. وإننا نقتبس مما نقل عن علماء الهيئة كلمة في أبعاد بعض النجوم الثوابت التي هي شموس من جنس شمسنا :
« النجوم تعد بالملايين لكن علماء الفلك لم يتمكنوا حتى الآن إلا من معرفة أبعاد المئات منها لأن سائرها أبعد من أن يرى اختلاف في مواقعه والذي عرف بعده منها جرت العادة أن لا يحسب بعده بالأميال بل بالمسافة التي يقطعها النور في سنة من الزمان، فإن النور يسير٨٦٠٠٠ ميل في الثانية فيقطع في الدقيقة ٥١٦٠٠٠ ميل وفي السنة نحو ٦٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠ ميل وقد وجد بالرصد أن أقرب النجوم منا لا يصل نوره إلينا إلا في أربع سنوات ونحو نصف سنة، فيقال إن بعده عنا أربع سنوات ونصف سنة نورية. ومن النجوم ما لا يصل النور منه إلينا إلا في ألف سنة أو أكثر، فالنجم المسمى بالنسر الطائر يصل النور منه إلينا في أربع عشرة سنة ونصف سنة لأن بعده ٨٧٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠ ميل. والنجم المسمى بالنسر الواقع يصل النور منه إلينا في نحو ثلاثين سنة لأن بعده عنا نحو ١٨٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠ والنجم المسمى بالسماك الرامح يصل النور منه إلينا في نحو خمسين سنة لأن بعده عنا ٣٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠ وأما الشعرى العبور وهي أسطع النجوم نورا فبعدها عنا نحو تسع سنوات نورية، والعيوق بعده عنا نحو ٣٢ سنة نورية.
وأول من قاس أبعاد النجوم بالضبط الفلكي ( ستروف ) فإنه قاس بعد النسر الواقع سنة ١٨٢٥ إلى سنة ١٨٣٨ ( ميلادية ) فجاءت نتيجة قياسه مطابقة لنتيجة القياسات الحديثة مع أن الفلكيين يستخدمون الآن من الوسائل ما لم يكن معروفا في عصره اه.
ولعل كثرة الآيات في عالم السماء هي نكتة تذييل الآية بقوله تعالى :﴿ قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون ﴾ سواء أريد بها آيات التنزيل أو آيات التكوين. فإن أريد بها المعنى الأول فوجهه أن هذه الآية وما قبلها وما في معناهما من الآيات المنزلة في الحث على النظر في ملكوت السماء كله تفصيل مبين لطرق النظر والبحث في العالم السماوي للذين يعلمون بالفعل أو بالقوة والاستعداد شيئا من حكم الله تعالى وعجائب صنعه فيه فيزدادون بهذا التفصيل بحثا وعلما، فيكون علمهم ناميا مستمرا. وإن أريد الثاني فوجهه أظهر، وهو أن الآيات الدالة على علم الله تعالى وحكمته وفضله على خلقه لا يستخرجها من النظر في النجوم إلا الذين يعلمون أي أهل العلم بهذا الشأن، الذين يقرنون العلم بالاعتبار، ولا يرضون بأن يكون منتهى الحظ، ما تمتع به اللحظ، ولا غاية النظر والحساب، أن يقال إن هذا لشيء عجاب.
ومن الاعتبار قول صاحب المقتطف بعد مقالات لخص فيها بعض « بسائط علم الفلك » – ومنها الكلمة المذكورة آنفا – فإنه قال لما انتهى من الكلام على النظام الشمسي ورجح أنه لا يصلح شيء من سياراته لحياة البشر غير الأرض، وأنه يحتمل أن تكون سيارات سائر الشموس كذلك وكلها أكبر من هذه الشمس قال :«والإنسان أوسع هذه المخلوقات إدراكا وهو على سعة إدراكه لا يعلم تركيب جسم النملة ولا كيفية تجمع الدقائق في حبه الرمل، علم واسع وجهل مطبق، وكلاهما ناطق بأن مبدع هذا الكون أعظم وأعلم وأحكم من كل ما يتصور عقل الإنسان ».
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:ومن مباحث البلاغة في الآيات، واختلاف الإعراب والترتيب بين المتناسبات، أن هذا السياق بدئ بفلق الحب والنوى وإخراج الحي من الميت وعكسه، وقفى عليه بما يناسبه من فلق الإصباح، وعطف على هذا ما يقابله من معاقبة الليل للنهار، وأشير إلى فوائدهما وفوائد النيرين، اللذين هما آيتا هذين الملوين، وناسب ذكر النيرين التذكير بخلق النجوم، والمنة بالاهتداء بها والإيماء إلى ما فيها من آيات العلوم، ثم عطف على هذا النوع من الآيات إنشاءنا من نفس واحدة فمنها المستقر والمستودع، وقفى عليه بإنزال الماء، وجعله سببا لنبات كل شيء من هذه الأحياء، وكل منهما تفصيل لقوله في الآية الأولى من السياق ﴿ يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ﴾ وقد لون في تفصيل خلق النبات الخطاب، وتفنن في طرق الإعراب، للتنبيه إلى ما فيه من أنواع الألوان، وتشابه ما فيه من الثمار والأفنان، فبدئت الآية بضمير الواحدة الغائب المفرد تبعا لسياق ما قبلها من هذه الآيات، وعطف عليه ضمير المتكلم الجمعي لطريق الالتفات. إذ قال :« فأخرجنا به نبات كل شيء» بعد قوله :« أنزل من السماء ماء» فحكمة الالتفات أن تلتفت الأذهان، إلى ما يعقب ذلك من البيان، فتتنبه إلى أن هذا الإخراج البديع، والصنع السنيع، من فعل الحكيم الخلاق لا من فلتات المصادفة والاتفاق.
ولما كان الماء واحدا والنبات جمعا كثيرا ناسب إفراد الفعل الأول وجمع الفعل الآخر. ومعلوم أن الواحد إذا قال فعلنا أراد إفادة تعظيم نفسه إذا كان مقامه أهلا لذلك كما يقول الملك أو الأمير حتى في هذا العصر في أول ما يصدره من نحو نظام أو قانون « أمرنا بما هو آت» ونكتة العدول عن الماضي إلى المضارع في قوله « نخرج منه حبا متراكبا» تحصل بإرادة استحضار صورته العجيبة في حسنها وانتظامها، وتنضد سنابلها واتساقها، وعطف عليه ما يخرجه تعالى من طلع النخل، من القنوان المشابه لسنابل القمح، في نضد ثمره وتراكبها، ومنافعها وغرائبها، فإن في كل منهما أفضل غذاء للناس، وعلف للدواب والأنعام، وذكر بعده جنات الأعناب، لأنها أشبه بالنخيل في هذه الأبواب، فالعناقيد تشبه العراجين في تكونها، وتراكب حبها وألوان ثمرها، كما تشبهها في درجات تطورها، فالحصرم كالبسر والعنب كالرطب والزبيب كالتمر، ويخرج من كل منهما عسل وخل وخمر، ثم ذكر الزيتون والرمان معطوفا على نبات كل شيء أو منصوبا على الاختصاص، لا على ما قبله من النخيل والأعناب، لأن ما بينهما من التشابه في الصورة، محصور في الورق دون الثمر، وأما مكانهما من المنفعة والفائدة، فالأول في الدرجة الثالثة والآخر في الدرجة الرابعة، ذلك بأن الزيتون وزيته غذاء فقط ولكنه تابع للطعام غير مستقل بالتغذية، والرمان فاكهة وشراب فقط ولكنهما دون فواكه النخيل والأعناب وأشربتهما في المرتبة، فناسب جعله بعدهما، والإشارة باختلاف الإعراب إلى رتبة كل منهما، وبناء على اختلاف المراتب قدم نبات الحب على الجميع لأنه الغذاء الأعظم الأعم لأكثر الناس وأكثر أنواع الحيوان الأهلية التي تقوم أكثر مرافقهم ومنافعهم بها، فسبحان من هذا كلامه.

﴿ إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنى تؤفكون ٩٥ فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم ٩٦ وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون ٩٧ وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون ٩٨ وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرا تخرج منه حبا متراكبا ومن النحل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه انظروا إلى ثمره إذا أثمر إن في ذالكم لآيات لقوم يؤمنون ٩٩ ﴾
هذه طائفة من آيات التنزيل، مبينة ومفصلة لطائفة من آيات التكوين، تدل أوضح الدلالة على وحدانية الله تعالى وقدرته، وعلمه وحكمته، ولطفه ورحمته، جاءت تالية لطائفة من الآيات في أصول الإيمان الثلاثة، - التوحيد والبعث والرسالة، فهي مزيد تأكيد في إثباتها، وكمال بيان في معرفة الله تعالى، بما فيها من بيان سننه وحكمه في الإحياء والإماتة والأحياء والأموات، وتقديره لأمر النيرات في السموات، وأنواع حججه ودلائله في أنواع النبات.
﴿ وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع ﴾ بعد أن ذكرنا الله تعالى ببعض آياته الكونية في الأرض وفي السماء ذكرنا في هذه الآية ببعض آياته في أنفسنا. الإنشاء إيجاد الشيء وتربيته أو إحداثه بالتدريج. وقد استعمل في التنزيل في خلق الإنسان بجملته وخلق أعضائه ومشاعره، وإيجاد الأقوام والقرون من أممه بعضها في أثر بعض، وفي البعث، وفي خلق الشجر والجنات، وفي أحداث السحاب. قال في حقيقة الأساس : وأنشأ حديثا وشعرا وعمارة. اه والنفس ما يحيا به الإنسان وذاته فيطلق على الروح وعلى المرء المركب من روح وبدن. والمستقر ( بفتح القاف ) حيث يكون القرار والإقامة قال تعالى :﴿ ولكم في الأرض مستقر ﴾ [ البقرة : ٣٦ ] كما قال :﴿ جعل الأرض قرارا ﴾ [ النمل : ٦١ ] قال الراغب : قر في مكانه يقر قرارا إذا ثبت ثبوتا جامدا، وأصله من القر وهو البرد وهو يقتضي السكون، والحر يقتضي الحركة اه.
والمستودع موضع الوديعة وهي ما يتركه المرء عند غيره مؤقتا ليأخذه بعد فهي فعلية من ودع الشيء إذا تركه بمعنى مفعولة. ويكون كل من المستقر والمستودع مصدرا ميميا بمعنى الاستقرار والاستيداع، ويكون الثاني اسم مفعول بمعنى الوديعة، ولا يكون الأول كذلك لأن فعله لازم إلا ما جاء على طريقة الحذف كقولهم ظرف مستقر، أي مستقر فيه.
والمعنى أنه تعالى هو الذي أنشأكم من نفس واحدة، وهي إما الروح التي هي الخلق الآخر في قوله تعالى بعد ذكر أطوار خلق الجسد ﴿ ثم أنشأناه خلقا آخر ﴾ [ المؤمنون : ١٤ ] وإما الذات المركبة من الروح والجسد، والمراد بها الإنسان الأول الذي تسلسل منه سائر الناس بالتوالد بين الأزواج، وهو عندنا وعند أهل الكتاب آدم عليه السلام وتقدم مثل هذا في أول سورة النساء مع بحث طويل في تفسيره وسيجيء شبهه في سورة الأعراف. وفي إنشاء جميع البشر من نفس واحدة آيات بينات على قدرة الله وعلمه وحكمته ووحدانيته، وفي التذكير به إرشاد إلى ما يجب من شكر نعمته، ومن وجوب التعارف والتآلف والتعاون بين البشر، وعدم جعل تفرقهم إلى شعوب وقبائل، مدعاة للتعادي والتقاتل، وقد فصلنا القول في هذا المعنى في أول تفسير آية سورة النساء.
قرأ ابن كثير وأبو عمرو المستقر بكسر القاف والباقون بفتحها. واختلف في المراد بالمستقر والمستودع فروى جمهور رواة التفسير وأبو الشيخ والحاكم وصححه عن ابن عباس قال : المستقر ( بالفتح ) ما كان في الرحم والمستودع ما استودع في أصلاب الرجال والدواب – وفي لفظ : المستقر ما في الرحم وعلى ظهر الأرض وبطنها مما هو حي ومما هو قد مات – وفي لفظ : المستقر ما كان في الأرض والمستودع ما كان في الصلب، وروي عن ابن مسعود أنه قال في تفسير العبارة : مستقرها في الدنيا ومستودعها في الآخرة، أي النفس. وفي رواية عنه المستقر الرحم والمستودع المكان الذي يموت فيه. وروي مثله عن الحسن وقتادة. وأورد الرازي قول الحسن مفسرا له، فقال المستقر حاله بعد الموت أنه إن كان سعيدا فقد استقرت تلك السعادة وإن كان شقيا فقد استقرت تلك الشقاوة ولا تبديل في أحوال الإنسان بعد الموت، وأما قبل الموت، فالأحوال متبدلة، فالكافر قد ينقلب مؤمنا والزنديق قد ينقلب صديقا، فهذه الأحوال لكونها على شرف الزوال والفناء لا يبعد تشبيهها بالوديعة، وذكر للأصم قولين أحدهما أن المستقر من خلق من النفس الأولى ودخل الدنيا واستقر فيها والمستودع الذي لما يخلق بعد، وثانيهما المستقر من استقر في قرار الدنيا والمستودع من في القبور حتى يبعث ( وإنما يظهر وجه هذين القولين على قراءة كسر القاف أو جعل المستقر بفتح القاف مصدرا ) وحكي عن أبي مسلم الأصفهاني أن التقدير – فمنكم مستقر ذكر، ومنكم مستودع أنثى، فعبر عن الذكر بالمستقر لأن النطفة تتولد في صلبه وعبر عن الأنثى بالمستودع لأن الرحم شبيهة بالمستودع. ولعله أخذه الشاعر :
وإنما أمهات الناس أوعية مستودعات وللآباء أبناء
وأقول ليس في الكتاب العزيز ما نستعين به على تفسير هذه العبارة كدأبنا في تفسير القرآن بالقرآن إلا قوله تعالى في سورة الحج :﴿ يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ﴾ [ الحج : ٥ ]. وقوله تعالى في سورة هود :﴿ وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين ﴾ [ هود : ٦ ] قال ابن عباس : مستقرها حيث تأوي ومستودعها حيث تموت. وقال مستقرها في الأرحام ومستودعها حيث تموت. فهذا يرجح أن المراد بالمستقر ( بفتح القاف ) الرحم والمستودع القبر. وأما المستقر ( بكسر القاف ) فالظاهر أنه من يطول عمره في الدنيا كأنه قال : فمنكم مستقر في الدنيا يعمر عمرا طويلا ومنكم مستودع لا استقرار له فيها بل تخترمه المنية طفلا أو يافعا، ويمكن تفسير قراءة الفتح بهذا أي فمنها ذو استقرار وذو استيداع. وآخر ما خطر لي بعد تلخيص أقوال المفسرين أن المستقر الروح- وهو يذكر ويؤنث- والمستودع البدن. والجملة مما يتسع المجال فيه للتفسير والتقدير، والإيجاز ومقصود به.
﴿ قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون ﴾ أي قد جعلنا الآيات المبينة لسننا في خلق البشر مفصلة. كل فصل ونوع منها يدل على قدرة الخالق وإرادته، وعمله وحكمته، وفضله ورحمته، فصلناها كذلك لقوم يفقهون ما يتلى عليهم أي يفهمون المراد منه ومرماه، ويفطنون لدقائقه وخفاياه، فالفقه- وإن فسر بالعلم وبالفهم- أخص منهما. قال الراغب : الفقه هو التوصل إلى علم غائب بعلم شاهد فهو أخص من العلم. وقال ابن الأثير في النهاية إن اشتقاقه من الفتح والشق، وأحسن منه قول الحكيم الترمذي أن فقه وفقأ واحد فإن الإبدال بين الهمزة والهاء كثير. وفقأ البثرة شقها وسبر غورها، فالفقء مستعمل في الحسيات والفقه في المعنويات، والجامع بينهما النظر في أعماق الشيء وباطنه. فمن لا يفهم إلا ظواهر الكلام ولا يفطن إلا لمظاهر الأشياء لا يقال أنه فقه ذلك، وإنما سمي علم الشرع فقها لما فيه من الاستنباط.
ولما كان استخراج الحكم والعبر من خلق البشر يتوقف على غوص في أعماق الآيات، وفطنة في استخراج دقائق الحكم والبينات، عبر عنها بالفقه، وأما العلم بمواقع النجوم والاهتداء بها في ظلمات البر والبحر فهو من الأمور الظاهرة التي لا تتوقف على دقة النظر، ولا غوص الفكر، وكذلك أكثر مظاهر علم الفلك، فلذلك اكتفى في الآية السابقة لهذه بالتعبير بالعلم الشامل لما لا يشترط فيه دقة الاستنباط كظواهره ولغيره كدقائقه. وقد فطن لذلك الزمخشري- وما أجدره به- فقال :( فإن قلت ) لم « يعلمون » مع ذكر النجوم، و ( يفقهون ) مع ذكر إنشاء بني آدم ( قلت ) لأن إنشاء الإنس من نفس واحدة وتصريفهم بين أحوال مختلفة ألطف وأدق صنعة وتدبيرا فكان ذكر الفقه الذي هو استعمال فطنة وتدقيق نظر مطابقا له اه. وتعقبه ابن المنير فزعم أن هذا كلام صناعي وأن التحقيق أن اختلاف التعبير للتفنن، وذكر وجها آخر بناء على زعمه أن الفقه أدنى درجات العلم، لأنه عبارة عن مجرد الفهم، وما بني على الفاسد فاسد، وأين هو في فهم أسرار اللغة من الزمخشري ؟ وأين المقلد لظواهر بعض النقول من الإمام اللوذغي ؟ وأيهما السليقي والصناعي ؟
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:ومن مباحث البلاغة في الآيات، واختلاف الإعراب والترتيب بين المتناسبات، أن هذا السياق بدئ بفلق الحب والنوى وإخراج الحي من الميت وعكسه، وقفى عليه بما يناسبه من فلق الإصباح، وعطف على هذا ما يقابله من معاقبة الليل للنهار، وأشير إلى فوائدهما وفوائد النيرين، اللذين هما آيتا هذين الملوين، وناسب ذكر النيرين التذكير بخلق النجوم، والمنة بالاهتداء بها والإيماء إلى ما فيها من آيات العلوم، ثم عطف على هذا النوع من الآيات إنشاءنا من نفس واحدة فمنها المستقر والمستودع، وقفى عليه بإنزال الماء، وجعله سببا لنبات كل شيء من هذه الأحياء، وكل منهما تفصيل لقوله في الآية الأولى من السياق ﴿ يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ﴾ وقد لون في تفصيل خلق النبات الخطاب، وتفنن في طرق الإعراب، للتنبيه إلى ما فيه من أنواع الألوان، وتشابه ما فيه من الثمار والأفنان، فبدئت الآية بضمير الواحدة الغائب المفرد تبعا لسياق ما قبلها من هذه الآيات، وعطف عليه ضمير المتكلم الجمعي لطريق الالتفات. إذ قال :« فأخرجنا به نبات كل شيء» بعد قوله :« أنزل من السماء ماء» فحكمة الالتفات أن تلتفت الأذهان، إلى ما يعقب ذلك من البيان، فتتنبه إلى أن هذا الإخراج البديع، والصنع السنيع، من فعل الحكيم الخلاق لا من فلتات المصادفة والاتفاق.
ولما كان الماء واحدا والنبات جمعا كثيرا ناسب إفراد الفعل الأول وجمع الفعل الآخر. ومعلوم أن الواحد إذا قال فعلنا أراد إفادة تعظيم نفسه إذا كان مقامه أهلا لذلك كما يقول الملك أو الأمير حتى في هذا العصر في أول ما يصدره من نحو نظام أو قانون « أمرنا بما هو آت» ونكتة العدول عن الماضي إلى المضارع في قوله « نخرج منه حبا متراكبا» تحصل بإرادة استحضار صورته العجيبة في حسنها وانتظامها، وتنضد سنابلها واتساقها، وعطف عليه ما يخرجه تعالى من طلع النخل، من القنوان المشابه لسنابل القمح، في نضد ثمره وتراكبها، ومنافعها وغرائبها، فإن في كل منهما أفضل غذاء للناس، وعلف للدواب والأنعام، وذكر بعده جنات الأعناب، لأنها أشبه بالنخيل في هذه الأبواب، فالعناقيد تشبه العراجين في تكونها، وتراكب حبها وألوان ثمرها، كما تشبهها في درجات تطورها، فالحصرم كالبسر والعنب كالرطب والزبيب كالتمر، ويخرج من كل منهما عسل وخل وخمر، ثم ذكر الزيتون والرمان معطوفا على نبات كل شيء أو منصوبا على الاختصاص، لا على ما قبله من النخيل والأعناب، لأن ما بينهما من التشابه في الصورة، محصور في الورق دون الثمر، وأما مكانهما من المنفعة والفائدة، فالأول في الدرجة الثالثة والآخر في الدرجة الرابعة، ذلك بأن الزيتون وزيته غذاء فقط ولكنه تابع للطعام غير مستقل بالتغذية، والرمان فاكهة وشراب فقط ولكنهما دون فواكه النخيل والأعناب وأشربتهما في المرتبة، فناسب جعله بعدهما، والإشارة باختلاف الإعراب إلى رتبة كل منهما، وبناء على اختلاف المراتب قدم نبات الحب على الجميع لأنه الغذاء الأعظم الأعم لأكثر الناس وأكثر أنواع الحيوان الأهلية التي تقوم أكثر مرافقهم ومنافعهم بها، فسبحان من هذا كلامه.

﴿ إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنى تؤفكون ٩٥ فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم ٩٦ وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون ٩٧ وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون ٩٨ وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرا تخرج منه حبا متراكبا ومن النحل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه انظروا إلى ثمره إذا أثمر إن في ذالكم لآيات لقوم يؤمنون ٩٩ ﴾
هذه طائفة من آيات التنزيل، مبينة ومفصلة لطائفة من آيات التكوين، تدل أوضح الدلالة على وحدانية الله تعالى وقدرته، وعلمه وحكمته، ولطفه ورحمته، جاءت تالية لطائفة من الآيات في أصول الإيمان الثلاثة، - التوحيد والبعث والرسالة، فهي مزيد تأكيد في إثباتها، وكمال بيان في معرفة الله تعالى، بما فيها من بيان سننه وحكمه في الإحياء والإماتة والأحياء والأموات، وتقديره لأمر النيرات في السموات، وأنواع حججه ودلائله في أنواع النبات.
﴿ وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا ﴾ هذه الآية المنزلة مرشدة إلى نوع آخر من آيات التكوين وهو إيجاد الماء، وإنزاله من السماء، وجعله سببا للنبات، وجعل النبات المسبب عنه أنواعا كثيرة، مشتبهة وغير متشابهة، وبذلك يلتقي آخر هذه السياق بأوله. أي وهو الذي أنزل من السحاب ماء فأخرجنا بسبب هذا الماء الواحد نبات كل شيء من أصناف هذا النامي الذي يخرج من الأرض فأخرجنا منه أي من النبات خضرا أي شيئا غضا أخضر بالخلقة لا بالصناعة وهو ما تشعب من أصل النبات الخارج من الحب كساق النجم وأغصان الشجر، نخرج منه أي من هذا الأخضر المتشعب من النبات آنا بعد آن حبا متراكبا بعضه فوق بعض وهو السنبل- فهذا تفصيل لنماء النجم الذي لا ساق له من النبات ونتاجه، وعطف عليه حال نظيره من الشجر فقال :
﴿ ومن النخل من طلعها قنوان دانية ﴾ النخل الشجر الذي ينتج التمر يستعمل لفظه في المفرد والجمع وجمعه نخيل. و « من طلعها » بدل مما قبله، وطلعها أول ما يطلع أي يظهر من زهرها الذي يكون منه ثمرها وقبل أن ينشق عنه كافوره أي وعاؤه، وما ينشق عنه الكافور من الطلع يسمى الغريض والإغريض، والقنوان جمع قنو ( بالكسر ) وهو العذق الذي يكون فيه الثمر، ومثله في وزنه واستواء مثناه وجمعه الصنو والصنوان وهو ما يخرج من أصل الشجرة من الفروع. والقنوان من النخل كالعناقد من العنب والسنابل من القمح. والمعنى أنه يخرج من طلع النخل قنوان دانية القطوف سهلة التناول أو بعضها دان قريب من بعض لكثرة حملها.
﴿ وجنات من أعناب ﴾ قرأ الجمهور « جنات » بالنصب وتقدير الكلام : ونخرج منه أي من ذلك الخضر- جنات من أعناب. وقرأها أبو بكر عن عاصم بالرفع وهو المروي عن علي المرتضى وابن مسعود والأعمش وغيرهم وتقدير الكلام : ولكم جنات من أعناب- أو- وهناك جنات- أو- ومن الكرم جنات الخ وسنبين حكمة اختلاف الإعراب بعد ﴿ والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه ﴾ أي وأخص من نبات كل شيء الزيتون والرمان حال كونه مشتبها في بعض الصفات غير متشابه في بعض آخر، قيل إن هذه الحال من الرمان وحده فإنه أنواع تشتبه في شكل الورق والثمر وتختلف في لون الثمر وطعمه، فمنه الحلو والحامض والمر. وقيل إن الحال من مجموع الزيتون والرمان أي مشتبها ما ذكر منهما في شكل ورق الشجر، وغير متشابه في الثمر- أو المعنى كل منهما مشتبه وغير متشابه وذلك ظاهر مما قبله. وصرحوا بأن المشتبه والمتشابه هنا بمعنى إذ يقال اشتبه الأمران وتشابها كما يقال استويا وتساويا. وقد قرئ في الشواذ متشابها وغير متشابه وهو ما أجمعوا عليه في آية ﴿ وهو الذي أنشأ جنات معروشات ﴾ [ الأنعام : ١٤١ ] الخ وسيأتي، والحق أن بين الصيغتين فرقا فمعنى اشتبها التبس أحدهما بالآخر من شدة الشبه بينهما، ومعنى تشابها أشبه أحدهما الآخر ولو في بعض الوجوه والصفات فهذا أعم مما قبله. ولا شك في أن بعض ما ذكر يتشابه ولا يشتبه وبعضه حتى يشتبه حتى على البستاني الماهر، كما شاهدنا ذلك واختبرناه في بعض أنواع الرمان الحلو مع الحامض، وهذا دقة تعبير التنزيل في تحديد الحقائق.
﴿ انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه ﴾ أي انظروا نظر تأمل واعتبار إلى ثمر ما ذكر إذا هو تلبس واتصف بالأثمار، وإلى ينعه عندما يينع، أي يبدو صلاحه وينضج، وتأملوا صفاته في كل من الحالين وما بينهما، يظهر لكم من لطف الله وتدبيره، وحكمته في تقديره، ما يدل أوضح الدلالة على وجوب توحيده ﴿ إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون ( ٩٩ ) ﴾ أي في ذلكم الذي أمرتم بالنظر إليه والنظر فيه دلائل عظيمة أو كثيرة للمستعدين للاستدلال من المؤمنين بالفعل والمستعدين للإيمان، وأما غيرهم فإن نظرهم كنظر الطفل وإن كانوا من العالمين بأسرار عالم النبات، والغواصين على ما فيه من المحاسن والنظام. لا يتجاوز هذه الظواهر، ولا يعبرها إلى ما تدل عليه من وجود الخالق، ومن إثبات صفاته التي تتجلى فيها، ووحدته التي ينتهي النظام إليها، وإن كانوا يعلمون أن وحدة النظام في الأشياء المختلفة، لا يمكن أن تصدر عن إرادات متعددة.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:ومن مباحث البلاغة في الآيات، واختلاف الإعراب والترتيب بين المتناسبات، أن هذا السياق بدئ بفلق الحب والنوى وإخراج الحي من الميت وعكسه، وقفى عليه بما يناسبه من فلق الإصباح، وعطف على هذا ما يقابله من معاقبة الليل للنهار، وأشير إلى فوائدهما وفوائد النيرين، اللذين هما آيتا هذين الملوين، وناسب ذكر النيرين التذكير بخلق النجوم، والمنة بالاهتداء بها والإيماء إلى ما فيها من آيات العلوم، ثم عطف على هذا النوع من الآيات إنشاءنا من نفس واحدة فمنها المستقر والمستودع، وقفى عليه بإنزال الماء، وجعله سببا لنبات كل شيء من هذه الأحياء، وكل منهما تفصيل لقوله في الآية الأولى من السياق ﴿ يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ﴾ وقد لون في تفصيل خلق النبات الخطاب، وتفنن في طرق الإعراب، للتنبيه إلى ما فيه من أنواع الألوان، وتشابه ما فيه من الثمار والأفنان، فبدئت الآية بضمير الواحدة الغائب المفرد تبعا لسياق ما قبلها من هذه الآيات، وعطف عليه ضمير المتكلم الجمعي لطريق الالتفات. إذ قال :« فأخرجنا به نبات كل شيء» بعد قوله :« أنزل من السماء ماء» فحكمة الالتفات أن تلتفت الأذهان، إلى ما يعقب ذلك من البيان، فتتنبه إلى أن هذا الإخراج البديع، والصنع السنيع، من فعل الحكيم الخلاق لا من فلتات المصادفة والاتفاق.
ولما كان الماء واحدا والنبات جمعا كثيرا ناسب إفراد الفعل الأول وجمع الفعل الآخر. ومعلوم أن الواحد إذا قال فعلنا أراد إفادة تعظيم نفسه إذا كان مقامه أهلا لذلك كما يقول الملك أو الأمير حتى في هذا العصر في أول ما يصدره من نحو نظام أو قانون « أمرنا بما هو آت» ونكتة العدول عن الماضي إلى المضارع في قوله « نخرج منه حبا متراكبا» تحصل بإرادة استحضار صورته العجيبة في حسنها وانتظامها، وتنضد سنابلها واتساقها، وعطف عليه ما يخرجه تعالى من طلع النخل، من القنوان المشابه لسنابل القمح، في نضد ثمره وتراكبها، ومنافعها وغرائبها، فإن في كل منهما أفضل غذاء للناس، وعلف للدواب والأنعام، وذكر بعده جنات الأعناب، لأنها أشبه بالنخيل في هذه الأبواب، فالعناقيد تشبه العراجين في تكونها، وتراكب حبها وألوان ثمرها، كما تشبهها في درجات تطورها، فالحصرم كالبسر والعنب كالرطب والزبيب كالتمر، ويخرج من كل منهما عسل وخل وخمر، ثم ذكر الزيتون والرمان معطوفا على نبات كل شيء أو منصوبا على الاختصاص، لا على ما قبله من النخيل والأعناب، لأن ما بينهما من التشابه في الصورة، محصور في الورق دون الثمر، وأما مكانهما من المنفعة والفائدة، فالأول في الدرجة الثالثة والآخر في الدرجة الرابعة، ذلك بأن الزيتون وزيته غذاء فقط ولكنه تابع للطعام غير مستقل بالتغذية، والرمان فاكهة وشراب فقط ولكنهما دون فواكه النخيل والأعناب وأشربتهما في المرتبة، فناسب جعله بعدهما، والإشارة باختلاف الإعراب إلى رتبة كل منهما، وبناء على اختلاف المراتب قدم نبات الحب على الجميع لأنه الغذاء الأعظم الأعم لأكثر الناس وأكثر أنواع الحيوان الأهلية التي تقوم أكثر مرافقهم ومنافعهم بها، فسبحان من هذا كلامه.

﴿ وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعلى عما يصفون ١٠٠ بديع السموات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم ١٠١ ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل ١٠٢ لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير ١٠٣ ﴾
حكى الله تعالى في هذه الآيات بعض ضروب الشرك التي قال بها بعض العرب، وروى التاريخ كثيرا من نوعها عن أمم العجم، وهي اتخاذ شركاء لله من عالم الجن المستتر عن العيون، واختراع نسل له من البنات والبنين، حكى هذا بعد تفصيل ما تقدم فيما قبله من أنواع الآيات، الدالة على توحده بالخلق والتدبير في عوالم الأرض والسموات، وتعقبه بإنكاره وتنزيه الخالق المبدع عنه.
وذلك قوله عز وجل :
﴿ وجعلوا لله شركاء الجن ﴾ أي وجعل هؤلاء المشركون لله سبحانه شركاء – وفسر هؤلاء الشركاء بالجن على طريق البدل النحوي – ولم يقل. وجعلوا الجن شركاء لله، بل قدم وأخر في النظم لإفادة أن محل الغرابة والنكارة أن يكون لله شركاء لا مطلق وجود الشركاء، ثم كون الشركاء من الجن فقدم الأهم فالأهم. ولو قال :« وجعلوا الجن شركاء لله » لأفاد أن موضع الإنكار أن يكون الجن شركاء لله لكونهم جنا، وليس الأمر كذلك، بل المنكر أن يكون لله شريك من أي جنس كان. وفي المراد بالجن هنا أقوال أحدها أنهم الملائكة فقد عبدوهم، روي هذا عن قتادة والسدي. والثاني أنهم الشياطين فقد أطاعوهم في أمور الشرك والمعاصي، روي عن الحسن وسنشير إلى شاهد يأتي له بعد عشرين آية. والثالث أن المراد بالجن إبليس فقد عبده أقوام وسموه ربا ومنهم من سماه إله الشر والظلمة وخص الباري بألوهية الخير والنور.
وروي عن ابن عباس أنه قال : أنها نزلت في الزنادقة الذين يقولون إن الله تعالى خالق الناس والدواب والأنعام والحيوان وإبليس خالق السباع والحيات والعقارب والشر. ورجحه الرازي وضعف ما سواه وقال إن المراد بالزنادقة المجوس الذين قالوا إن كل خير في العالم فهو من ( يزدان ) وكل شر فهو من ( أهرمن ) أي إبليس، فأما كون إبليس والشياطين من الجن فقطعي وأما كون الملائكة منهم فقيل إنه حقيقي لأنهم من العوالم الخفية فتصدق عليهم كلمة الجن، وقيل إنه مجازي، وفسروا الجنة في قوله تعالى :﴿ وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ﴾ [ الصفات : ١٥٨ ] بالملائكة وقال بعض العرب إنه تعالى صاهر إلى الجن فولدت سرواتهم له الملائكة. وقد يقابل الجن بالملائكة كقوله تعالى في موضوع عبادة المشركين لهم ﴿ ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون*قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون ﴾ [ سبأ : ٤٠ ] فهذا مع آية الأنعام الآتية :﴿ وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون ﴾ [ الأنعام : ١٢ ] مما يرد إنكار الرازي لتسمية طاعة الشياطين عبادة.
﴿ وخلقهم ﴾ أي والحال أن الله تعالى قد خلق هؤلاء الجاعلين له الشركاء وليس لشركائهم فعل ولا تأثير في خلقهم، أو خلق الشركاء المجعولين، كما خلق غيرهم من العالمين، فنسبة الجميع إليه واحدة، وامتياز بعض المخلوقين على بعض في صفاته وخصائصه، أو ما خلق مستعدا له من الأعمال التي يفضل بها غيره، لا يخرجه عن كونه مخلوقا، ولا يجعله أهلا لأن يكون إلها أو ربا.
﴿ وخرقوا له بنين وبنات بغير علم ﴾ أي واختلقوا له تعالى بحماقتهم وجهلهم بنين وبنات بغير علم ما بذلك كما سيأتي، فسمى مشركو العرب الملائكةَ بنات الله ﴿ وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله، ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل ﴾ [ التوبة : ٣٠ ] وهاك بيان ذلك : الخرق والخزق والخرم والخرب والخرز ألفاظ فيها معنى الثقب بإنفاذ شيء في الجسم، وقال الراغب الخرق قطع الشيء على سبيل الفساد من غير تدبر ولا تفكر، قال تعالى :﴿ أخرقتها لتغرق أهلها ﴾ [ الكهف : ٧١ ] وهو ضد الخلق فإن الخلق هو فعل الشيء بتقدير ورفق والخرق بغير تقدير – وذكر الآية – وقوله بغير تقدير أي بغير نظام ولا هندسة هو الصواب وقوله قبله من غير روية ولا تدبر خطأ ظاهر. ويناسب هذا من معاني المادة الخرق ( بالضم ) وهو الحمق ضد الرفق يقال خرق زيد يخرق ( بالضم فيهما ) فهو أخرق وهي خرقاء.
وقال صاحب اللسان : وخرق ( من باب ضرب ) الكذب وتخرقه وخرقه كله اختلقه – وذكر الآية وأن نافعا قرأ وخرقوا ( بالتشديد ) وسائر القراء قرأوا بالتخفيف، ثم قال : ويقال خلق الكلمة واختلقها وخرقها واخترقها إذا ابتدعها كذبا. اه ولعل ما تقدم من الفرق بين الخلق والخرق في الأفعال، يأتي نظيره في الأقوال، فالخلق الكذب المقدر المنظم والخرق الكذب الذي لا تقدير فيه ولا نظام، ولا روية ولا إنعام، فههنا يظهر التقييد بنفي التدبر والنظر، ويؤيده قوله تعالى :« بغير علم » قال في الكشاف : من غير أن يعلموا حقيقة ما قالوه من خطأ وصواب، ولكن رميا بقول عن عمي وجهالة من غير فكر وروية اه وهو بيان وتوكيد لمعنى « خرقوا » فهذا التعبير : من أدق بلاغة التنزيل، وهو بيان معنى الشيء بما يدل على تزييفه. وتنكير العلم هنا في حيز النفي بغير للدلالة على انسلاخ هؤلاء المشركين في خرقهم هذا عن كل ما يسمى علما فلا هم على علم بمعنى ما يقولون ولا على دليل يثبته، ولا على علم بمكانه من الفساد والبعد من العقل، ولا بمكانه من الشناعة والإزراء بمقام الألوهية والربوبية إذ لو علموا بذلك لما ارتضوه لأن أكثرهم مؤمنون بخالقهم وخالق كل شيء، وهم يتقربون إليه بما اتخذوه له من شريك وولد.
﴿ سبحانه وتعالى عما يصفون ( ١٠٠ ) ﴾ أي هو منزه عن ذلك متعال عنه لأنه نقص ينافي انفراده بالخلق والتدبير، وكونه ليس كمثله شيء. وتقدم تحقيق معنى سبحان والتسبيح والتقديس في أواخر سورة المائدة. والتعالي العلو والبعد عما لا يليق الذي يظهر للناظر المتفكر مرة بعد مرة بالنسبة إلى ما علا عنه وبعد عن مشابهته من الأشياء كلها، فهو من قبيل « توافد القوم » في الجملة، ولو كان له تعالى ولد لكان له جنس يعد جميع أفراده – ولا سيما أولاده – نظراء له فيه، وهذا باطل عقلا ونقلا عن جميع رسل الله وجميع حكماء البشر وعقلائهم من جميع الأمم، ولكن الذين اخترعوا للناس عقائد الوثنية في عصور الظلمات، وأزمنة التأويلات، ذهبوا هذه المذاهب من الأوهام، ولا نعرف أول من جعل لله ولدا ولا منشأ اختراع هذه العقيدة، وأقرب المآخذ لذلك ما بيناه في أواخر تفسير سورة النساء فيراجع هنالك ( ج٦ تفسير ).
وأما عبادة الجن فقديمة في الملل الوثنية أيضا. ففي الخرافات اليونانية والرومانية يجعلونهم ثلاث مراتب : الأولى : الآلهة وأولهم المولد لهم أجينوس وهو الخالق لكل شيء عندهم وهو نفس ( زفس ) أو ( جوبتير ) والثانية توابع الشعوب والأقطار والبلاد فلكل منها رب من الجن مدبر له ومتصرف فيه، وقد نصب الروم لجني رومية تمثالا من الذهب. والثالثة توابع الأفراد أي قرناؤهم. والهنود القدماء يقسمون الجن إلى قسمين أخيار وأشرار فيسمون الأخيار ( ديوه ) وهم عندهم فرق كالآلهة أشهرها ( الكنارة ) الذين دأبهم الترنم بمدائح ( باولسيتا ) ويليها ( الياكة ) الذين يقسمون الثروة والغنى بين الناس و( الغندورة ) وهم العازفون للشمس ويتألف منهم أجواق في السماء تدخل فيها الكنارة فيسبون العقول بتسبيحهم على معازفهم. ومنهم ( الأبسارة ) وهن إناث يملأن العالم كله ومختاراتهن في سماء ( اندرا ) يرقصن الرقص البهيج تحت أشجار الذهب والياقوت في جنة ( مندانا ) ومنهم ( الراجينة ) وهن قيان موكلات بالمعازف مقامهن في سماء ( برهما ) وعددهن ١٦ ألفا. ومنهم الفعلة الإلهيون ويسمون ( الجيدارة ) وهم الذين بنوا قصر الآلهة وأنشأوا جميع المباني العجيبة في العالم. ويقسمون الجن الأشرار إلى طوائف أيضا منهم ( الديتية والأسورة والدنارة والرقاسة ) ويقولون إن مقامهم في الظلمة وإنهم كانوا هاجموا الآلهة ليزلوهم عن عروشهم ففروا منهم إلى بلاد الساقة وأرادوا أن يسلبوهم شجر الحياة. وعقائد المانوية من الفرس في إلهي الخير والشر معروفة، وفي أساطير الفرس أن ( جنستان ) أي بلاد الجن في غربي إفريقية وقيل غير ذلك. وأساطير الأمم القديمة في الجن كثيرة.
وأما أهل الكتاب فقد لخص ( الدكتور جورج بوست ) في آخر الجزء الأول من ( قاموس الكتاب المقدس ) عقائدهم في الشيطان قال. الشيطان كائن حقيقي وهو أعلى شأنا من الإنسان ورئيس رتبة من الأرواح النجسة ( ١ كو ٦ : ٣ ) ويخبر الكتاب المقدس بطبيعته وصفاته وحالته وكيفية اشتغاله وأعماله ومقاصده ونجاحه ونصيبه، فلنا في شخصيته نفس البراهين التي لنا في شخصية الروح القدس والملائكة. أما طبيعة الشيطان فروحية وهو ملاك يمتاز بكل ما تمتاز به هذه الرتبة من الكائنات – إلى أن قال بعد ذكر كونه عدوا لله مطرودا من وجهه – غير أن طرده إلى عالم الظلمة لا يمنع اشتغاله في الأرض كإله هذا العالم وعدو الإنسان وخالقه اه.
وقد تقدم في تفسير هذه السورة كلام في الملائكة والجن والشياطين مما يؤثر عن العرب في الجاهلية وما ورد في الكتاب والسنة وبعض ما قاله علماؤنا في ذلك والتقريب بينه وبين العلوم النفسية والمادية، وعندنا أن ما يحفظ من أساطير الأولين والآخرين في ذلك له أصل من الوحي إلى أنبيائهم خلطوا فيه من بعدهم وجعلوا الحقيقة مجازا والمجاز حقيقة على نحو ما حققناه في تحريفهم معنى كلمة الله التي عبر بها عن التكوين فجعلوها ذاتا فاعلة خالقة وسماها بعضهم إلها وبعضهم « ابن الله » وتحريفهم معنى روح القدس كذلك وكلمة « ابن » المجازية كما بيناه في أواخر تفسير سورة النساء ( ج٣ تفسير ) فلا تتخذ موافقة الوحي لبعض تلك الأساطير شبهة على الوحي وسنزيد مسألة عبادة الجن بيانا في مواضع أخرى إن شاء الله تعالى.
﴿ وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعلى عما يصفون ١٠٠ بديع السموات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم ١٠١ ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل ١٠٢ لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير ١٠٣ ﴾
حكى الله تعالى في هذه الآيات بعض ضروب الشرك التي قال بها بعض العرب، وروى التاريخ كثيرا من نوعها عن أمم العجم، وهي اتخاذ شركاء لله من عالم الجن المستتر عن العيون، واختراع نسل له من البنات والبنين، حكى هذا بعد تفصيل ما تقدم فيما قبله من أنواع الآيات، الدالة على توحده بالخلق والتدبير في عوالم الأرض والسموات، وتعقبه بإنكاره وتنزيه الخالق المبدع عنه.
﴿ بديع السماوات والأرض ﴾ هذا بيان لما قبله من معنى تسبيح الباري وتعاليه عما يصفه به المشركون. البدع بالفتح الإنشاء والإيجاد المبتدأ والبدع بالكسر والبديع الشيء الذي يكون أولا كما قال في اللسان ومنه البدعة في الدين ويقال بدع الشيء ( من باب قطع ) وأبدعه وابتدعه وقال الراغب : الإبداع إنشاء صنعة بلا احتذاء واقتداء ومنه قيل ركية١ بديع أي جديدة الحفر وإذا استعمل في الله تعالى فهو إيجاد الشيء بغير آلة ولا مادة ولا زمان ولا مكان وليس ذلك إلا لله.
وقال صاحب اللسان : والبديع المحدث العجيب، والبديع المبدع، وأبدعت الشيء اخترعته لا على مثال، والبديع من أسماء الله تعالى لإبداعه الأشياء وإحداثه إياها، وهو البديع الأول قبل كل شيء ويجوز أن يكون بمعنى مبدع أو يكون من بدع الخلق أي بدأه والله تعالى كما قال سبحانه :﴿ بديع السموات والأرض ﴾ أي خالقهما ومبدعهما فهو سبحانه الخالق المخترع لا عن مثال سابق اه وذكر أن بديعا من بدع لا من أبدع، وهو معروف فإن الأصل في صيغة فعيل أن تكون من الثلاثي وقد سمع ورودها من الأفعال شذوذا، وهي تأتي بمعنى فاعل كقدير وبمعنى مفعول كقتيل، وهو هنا بمعنى الفاعل أو الصفة المشبهة.
والمعنى على اختلاف التقدير – أن الله هو الذي بدع السموات والأرض ؛ أو البديع سمواته وأرضه بما كان من إبداعه واختراعه لهما، أو البديع فيهما بمعنى أنه لا شبه له ولا نظير فيهما، وإذا كان هو المبدع للسموات والأرض ولم يوصفا بكونهما من ولده فكذلك الملائكة، وأولى بهذا وأجدر أن يكون خلقه للمسيح من أم بغير أب غير مسوغ لجعله ولدا له إذا قصارى ذلك أن يكون إبداعا ما، والإبداع التام هو إيجاد ما لم يسبق له نظير في ذاته ولا في وصفه ولا في سببه – إن كان له سبب – ليس ولادة، وأثر هذا الإبداع وهو المبدع لا يسمى ولدا، إذ الولادة ما كان ناشئا عن ازدواج بين ذكر وأنثى من جنس واحد وليس له تعالى جنس فيكون له منه زوج ولذلك قال :
﴿ أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة ﴾ أي كيف يكون له – وهو المبدع لكل شيء – ولد، والحال أنه لم يكن له زوج ينشأ الولد من ازدواجه بها ولا معنى للولد إلا ما كان كذلك، وإنما صدور جميع الكائنات السماوية والأرضية عنه صدور إيجاد إبداعي للأصول الأوالي، وإيجاد سببي كالتوالد بينها بحسب سننه في التوالي، ولذلك قال :﴿ وخلق كل شيء ﴾ خلقا ولم يلده ولادة فما خرقتم له من الولد مخلوق له لا مولود، فإن خرجتم عن وضع اللغات وسميتم صدور المخلوقات عنه ولادة فكل ما في السموات والأرض يكون من ولده وحينئذ يفوتكم ما أردتم من تخصيص بعض المخلوقات بهذه المرتبة تفضيلا لها على غيرها، ولا يقول أحد منهم بهذا. وهذا الجملة استئنافية مقررة لإنكار نفي الولد، أو حال بعد حال، واستدلال بعد استدلال، ومثلها قوله :
﴿ وهو بكل شيء عليم ﴾ وبيانه أن علمه بكل شيء ذاتي له، ولا يعلم كل شيء إلا الخالق لكل شيء «ألا يعلم من خلق. » ولو كان له ولد لكان هو أعلم به ولهدى العقول إليه بآيات الوحي ودلائل العلم، ولكنه كذب الذين خرقوه به بغير علم، بالوحي المؤيد بدلائل العقل، قال البيضاوي : وفي الآية استدلال على نفي الولد من وجوه : الأول : أنه من مبدعاته السموات والأرضون وهي مع أنها من جنس ما يوصف بالولادة مبرأة عنها لاستمرارها وطول مدتها فهو أولى بأن يتعالى عنها. والثاني : أن المعقول من الولد يتولد من ذكر وأنثى متجانسين والله تعالى منزه عن المجانسة. والثالث : أن الولد كفؤ للوالد ولا كفؤ له لوجهين الأول إن كان كل ما عداه مخلوقه فلا يكافئه، والثاني أنه لذاته عالم بكل المعلومات ولا كذلك غيره بالإجماع اه وقد تقدم مثل هاتين الآيتين سورة البقرة.
١ الركية بوزن القضية: البئر غير المطوية أي التي لم تبن..
﴿ وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعلى عما يصفون ١٠٠ بديع السموات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم ١٠١ ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل ١٠٢ لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير ١٠٣ ﴾
حكى الله تعالى في هذه الآيات بعض ضروب الشرك التي قال بها بعض العرب، وروى التاريخ كثيرا من نوعها عن أمم العجم، وهي اتخاذ شركاء لله من عالم الجن المستتر عن العيون، واختراع نسل له من البنات والبنين، حكى هذا بعد تفصيل ما تقدم فيما قبله من أنواع الآيات، الدالة على توحده بالخلق والتدبير في عوالم الأرض والسموات، وتعقبه بإنكاره وتنزيه الخالق المبدع عنه.
﴿ ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه ﴾ الخطاب للمشركين المحجوجين أو لجميع المكلفين، والإشارة إلى المنزه عما يصفون، المتصف بما وصف به نفسه من الإبداع والانفراد بخلق جميع الأشياء، وإحاطة العلم بالجليات والخفيات، من المشهودات والغائبات، أي ذلكم الذي شأنه ما ذكر هو الله ربكم، لا من خرقوا له من الأولاد، وأشركوا به من الأنداد، فاعبدوه إذا ولا تشركوا به شيئا لا إله إلا هو خالق كل شيء، فإنما الإله المستحق للعبادة هو الرب الخالق وما عداه مخلوق يجب عليه أن يعبد خالقه، فكيف يعبده ويؤلهه من هو مثله في ذلك ؟
﴿ وهو على كل شيء وكيل ﴾ أي وهو مع كل ما ذكر موكول إليه كل شيء يتصرف فيه ويدبره بعلمه وحكمته، يقال فلان وكيل على عقار فلان وماله، وقيل إن الوكيل هنا بمعنى الرقيب، وفي سورة المؤمن :﴿ ذلكم الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو فأنى تؤفكون ﴾ [ غافر : ٦٢ ] قدم فيه وصفه بالخلق عن كلمة التوحيد عكس ما هنا لأن ما هنا رد على المشركين فناسب فيه تقديم كلمة التوحيد، وآية سورة المؤمن جاءت بين آيات في الخلق ونعم الله فيه فناسب تقديم الوصف بالخلق فيها على التوحيد الذي هو نتيجة لذلك وغاية.
﴿ وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعلى عما يصفون ١٠٠ بديع السموات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم ١٠١ ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل ١٠٢ لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير ١٠٣ ﴾
حكى الله تعالى في هذه الآيات بعض ضروب الشرك التي قال بها بعض العرب، وروى التاريخ كثيرا من نوعها عن أمم العجم، وهي اتخاذ شركاء لله من عالم الجن المستتر عن العيون، واختراع نسل له من البنات والبنين، حكى هذا بعد تفصيل ما تقدم فيما قبله من أنواع الآيات، الدالة على توحده بالخلق والتدبير في عوالم الأرض والسموات، وتعقبه بإنكاره وتنزيه الخالق المبدع عنه.
﴿ لا تدركه الأبصار ﴾ البصر العين إلا أنه مذكر وأبصرت الشيء رأيته وقيل البصر حاسة الرؤية. ابن سيده : البصر حس العين والجمع أبصار. ذكره في اللسان وقال الراغب : البصر يقال للجارحة الناظرة نحو قوله :﴿ كلمح البصر ﴾ [ النحل : ٧٧ ] ﴿ وإذ زاغت الأبصار ﴾ [ الأحزاب : ١٠ ] وللقوة التي فيها. والإدراك اللحاق والوصول إلى الشيء. يقال تبعه أو أتبعه حتى أدركه. واتبع فرعون بجنوده بني إسرائيل ﴿ فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى لمدركون ﴾ [ الشعراء : ٦١ ] ويقال أدركه الطرف والموت ومنه ﴿ حتى إذا أدركه الغرق ﴾ [ يونس : ٩٠ ] في كل ذلك معنى اللحاق بعد اتباع حسي أو معنوي. والدرك ( بالفتح ) أقصى قعر البحر، ومنه ﴿ إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ﴾ [ النساء : ١٤٥ ] قرئ بالفتح والتحريك وقال الراغب الدرج كالدرك لكن الدرج يقال باعتبار الصعود والدرك اعتبارا بالحدود وأدرك بلغ أقصى الشيء وأدرك الصبي بلغ غاية الصبا وذلك حين البلوغ. اه ويقال فيما بعد أو دق وخفي : لا يدركه الطرف، فإن اجتهاد النظر لإدراك ما لطف ودق إعمال له كإعماله في محاولة إبصار البعيد. ففي الإدراك معنى اللحوق ومعنى بلوغ غاية الشيء. ومن هنا فسر الجمهور الإدراك في الآية برؤية الإحاطة التي يعرف بها كنهه عز وجل فتكون بمعنى ﴿ يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما ﴾ [ طه : ١١٠ ] ففي إحاطة العلم لا يستلزم نفي أصل العلم، وكذلك نفي إدراك البصر للشيء لا يستلزم نفي رؤيته إياه مطلقا. وهذا أقوى ما جمع به أهل السنة بين الآية والأحاديث الصحيحة الناطقة برؤية المؤمنين لربهم في الآخرة من جهة اللغة.
ومن سلم للمعتزلة وغيرهم من منكري الرؤية قولهم إن الإدراك هنا بمعنى الرؤية مطلقا قالوا إن النفي خاص بحال الحياة الدنيا التي يعدها المخاطبون ولا يعرفون فيها رؤية إلا للأجسام وصفاتها من الأشكال والألوان وهي التي يشترط فيها ما ذكروا كالمقابلة وعدم الحائل. وقالوا إن عائشة كانت تثبت الرؤية في الآخرة وتنفيها في الدنيا حتى عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي كان يرى من وراءه كما يرى من أمامه لغلبة روحه الشريفة اللطيفة، على جثته المنفية، وقد جلينا مسألة رؤية الرب في الآخرة في باب الفتوى من مجلد المنار التاسع عشر ( ص ٢٨٢-٢٨٨ ) وسنعود إليها في تفسير قوله تعالى لموسى عليه السلام ﴿ لن تراني ﴾ [ الأعراف : ١٤٣ ] من سورة الأعراف إن شاء الله تعالى وهنالك نلم بمسلك الصوفية في نفي الإدراك وإثبات الرؤية للرب، بتجليه تعالى الذي يكون هو به بصر العبد، الثابت في الحديث القدسي « ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به »١ الحديث، وهو في صحيح البخاري. وخلاصة هذا المسلك أنه تعالى هو الذي يرى نفسه بتجليه في بصر عبده، فما يرى الله إلا الله، وفاقا لقولهم لا يعرف الله إلا الله.
وأما قوله تعالى :﴿ وهو يدرك الأبصار ﴾ فمعناه أن الله تعالى يرى العيون الباصرة أو قوى الإبصار المودعة فيها رؤية إدراك وإحاطة بحيث لا يخفى عليه من حقيقتها ولا من علمها شيء.
وقد عرف البشر من تشريح العين ما تتركب منه طبقاتها ورطوبتها ووظائف كل منها في ارتسام المرئيات فيها، وعرفوا كثيرا من سنن الله تعالى في النور ووظائفه في رسم صور الأشياء في العينين، ولكن لم يعرفوا كنه الرؤية ولا كنه قوة الإبصار ولا حقيقة النور، وفي لسان العرب عن أبي إسحاق : اعلم الله أنه يدرك الأبصار وفي هذا الإعلام دليل على أن خلقه لا يدركون الأبصار أي لا يعرفون حقيقة البصر وما الشيء الذي صار به الإنسان يبصر من عينيه دون أن يبصر من غيرهما من سائر أعضائه، فاعلم أن خلقا من خلقه اللطيف الخبير. فأما ما جاء من الأخبار في الرؤية وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فغير مدفوع وليس في هذه الآية دليل على دفعها لأن معنى هذه الآية إدراك الشيء والإحاطة بحقيقته وهذا مذهب أهل السنة والعلم بالحديث اه.
﴿ وهو اللطيف الخبير ( ١٠٣ ) ﴾ أي وهو اللطيف بذاته الباطن في غيب وجوده، بحيث تخسأ الأبصار دون إدراك حقيقته، على أنه الظاهر بآياته التي تعرفه بها العقول بطريق بالبرهان، الظاهر في مجالي ربوبيته لأهل العرفان، بتجلياته التي تكمل في الآخرة فيكون العلم به رؤية عيان، وهو في كل من بطونه وظهوره منزه عن مشابهة الخلق، فتعالى الله الملك الحق. وهو الخبير بدقائق الأشياء ولطائفها، بحيث لا يعزب عن إدراكه ألطف أرواحها وقواها، ولا أدق جواهرها وأعراضها، ففي الآية لف ونشر مرتب.
اللطيف من الأجرام ضد الكثيف والغليظ فيطلق على الدقيق منها والرقيق، واللطيف من الطباع ضد الجافي، قال في اللسان : واللطيف من الأجرام والكلام ما لا جفاء فيه، وجارية لطيفة الخصر إذا كانت ضامرة البطن، واللطيف من الكلام ما غمض معناه وخفي، واللطف في العمل الرفق فيه اه، وكذا اللطف في المعاملة هو الرفق الذي لا يثقل منه الشيء. ويستعمل فعله لازما ومتعديا يقال لطف الشيء ( بوزن حسن ) أي صغر أو دق وصار لطيفا، ويقال لطف به ولطف له ( بوزن نصر ) وقال ابن الأثير في تفسير اللطيف من أسماء الله تعالى : هو الذي اجتمع له الرفق في الفعل والعلم بدقائق المصالح وإيصالها إلى من قدرها له من خلقه اه أرجعه إلى صفات الأفعال وإلى العلم من صفات المعاني. وهو في الأول أظهر وأكثر من الثاني، فمنه قوله تعالى في سورة الحج بعد ذكر إنبات النبات بالماء ﴿ إن الله لطيف خبير ﴾ [ الحج : ٦١ ] وقوله في سورة الشورى :﴿ الله لطيف بعباده يرزق من يشاء ﴾ [ الشورى : ١٧ ] أي رفيق بهم يوصل إليهم الخير والرزق، بمنتهى العناية والرفق. وفي سورة يوسف حكاية عنه ﴿ إن ربي لطيف لما يشاء ﴾ [ يوسف : ١٠٠ ] فسروه بلطف التدبير والعناية به وبأبويه وإخوته يجمع شملهم بعد أن نزغ الشيطان بينهم.
وعد بعضهم من لطف العلم قوله تعالى في سورة لقمان حكاية عنه ﴿ يا بني إنها تك مثقال حبة من خردل فتكن من صخرة أو في السموات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير ﴾ [ لقمان : ١٥ ] والأظهر في معناه هنا أنه اللطيف باستخراجها من كن خفائها الخبير بمكانها منه، ونزيد عليهم أن من لطفه تعالى جعل أحكام دينه يسرا لا حرج فيها وهي من صفة الكلام الذي هو مظهر لعلمه، ومنه قوله تعالى في سورة الأحزاب، في آخر ما خاطب به نساء الرسول صلى الله عليه وسلم من المواعظ والحكم والأحكام، ﴿ واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة، إن الله كان لطيفا خبيرا ﴾ [ الأحزاب : ٣٤ ] فلم يبق إلا الشاهد على لطفه تعالى في ذاته، المناسب في الكمال للطفه في صفاته وأفعاله وأحكامه، وهو الآية التي نحن بصدد تفسيرها لا يظهر فيها غيره.
والمتكلمون يأبون جعل اللطيف من صفات الذات له سبحانه- كالرحيم والحليم – والأثريون والصوفية لا يأبون مثل ذلك بل يثبتونه، وقد قال الزمخشري في الآية كلمة تشبه أن تكون تأييدا لمذاهب أهل الأثر والصوفية وهو معتزلي مبالغ في التنزيه وقد تابعه عليها المفسرون من الأشاعرة وغيرهم كالرازي والبيضاوي وأبي السعود والآلوسي، قال : وهو اللطيف يلطف عن أن تدركه الأبصار الخبير بكل لطيف فهو يدرك الأبصار لا تلطف عن إدراكه، وهذا من باب اللف اه نقلوا هذا المعنى عنه وجعلوا اللطيف مستعارا من مقابل الكثيف لما يدرك بالحاسة ولا ينطبع فيها.
قال الآلوسي : ويفهم من ظاهر كلام البهائي كما قال الشهاب أنه لا استعارة في ذلك حيث قال في شرح أسماء الله الحسنى : اللطيف الذي يعامل عباده باللطف، وألطافه جل شأنه لا تتناهى ظواهرها وبواطنها في الأولى والأخرى ﴿ وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ﴾ [ إبراهيم : ٣٤ ] وقيل اللطيف العليم بالغوامض والدقائق، من المعاني والحقائق، ولذا يقال للحاذق في صنعه لطيف. ويحتمل أن يكون من اللطافة المقابلة للكثافة. وهو وإن كان في ظاهر الاستعمال من أوصاف الجسم لكن اللطافة المطلقة لا توجد في الجسم لأن الجسمية يلزمها الكثافة، وإنما لطافتها بالإضافة، فاللطافة المطلقة لا يبعد أن يوصف بها النور المطلق الذي يجل عن إدراك البصائر فضلا عن الأبصار، ويعز عن شعور الأسرار فضلا عن الأفكار، ويتعالى عن مشابهة الصور والأمثال، وينزه عن حلول الألوان والأشكال، فإن كمال اللطافة إنما يكون لمن هذا شأنه، ووصف الغير بها لا يكون على الإطلاق، بل بالقياس إلى ما دونه في اللطافة، ويوصف بالإضافة إليه بالكثافة، انتهى. وتعقبه الآلوسي بقوله : والمرجح أن إطلاق اللطيف بمعنى مقابل الكثيف على ما ينساق إلى الذهن على الله تعالى ليس بحقيقة أصلا كما لا يخفى اه.
وأقول : إن ما ذكر في هذا الكلام اللطيف من إثبات اللطف بالذات، للذات التي لا تشبهها الذوات، ومن الإشارة إلى تضعيف جعل اللطيف بمعنى العليم بالدقائق، كلاهما من لباب الحقائق، إذ ما فسر به اللطيف هنا هو معنى الخبير، وقوله إن اللطافة المطلقة لا توجد في الجسم الخ له وجه من اللغة ولكن الجسم في عرف علماء المعقول من المتكلمين والحكماء أعم من الجسم في أصل في اللغة ومدلول اشتقاقها، فالجسم في اللغة من الجسامة أي الضخامة وهو كما في اللسان وغيره : جماعة البدن أو الأعضاء من الناس والإبل والدواب وغيرهم من الأنواع العظيمة الخلق. وأما في عرف العلماء فهو القابل للقسمة أو ما له طول وعرض وعمق. والموجودات المادية أعم من هذا أيضا. وقد عرف في علوم الكون واتساعها في هذا العصر وما هو ألطف من كل ما كان يعرف في العصور الخالية التي كان يضرب فيها المثل بلطف الهواء أو النسيم، إذ ثبت أن هذا النسيم اللطيف مركب من عنصرين كل منهما ألطف من المجموع المركب منهما، وقد ثبت أن للهواء المحيط بأرضنا حدا قريبا، وأن في الكون موجودا آخر ألطف منه ومن كل من عنصريه وأمثالهما من العناصر البسيطة اللطيفة الخفية هو الذي يحمل النور والحرارة من الشموس والكواكب المتفاوتة الأبعاد الشاسعة إلى هوائنا فأرضنا ويسمونه ( الأثير ) فهذا الموجود الساري في جميع الكائنات الرابط لبعضها ببعض كما يجزم به علماء الكون نظرا واستدلالا قد لطف عن إدراك العيون وعن تصرف أيدي الكيماويين الذين يرجعون الماء والهواء وغيرهما من المركبات إلى بسائطها اللطيفة التي لا ترى، ويتصرفون فيها أنواعا من التصرف، ويستعملونها في كثير من المضار والمنافع، ويرى بعض المثبتين لاستقلال الأرواح البشرية وقدرتها على التشكل في الأشباح اللطيفة والكثيفة أنها تستعين على هذا التشكل بالأثير، فألطف شبح تتجلى به يتخذ من الأثير المكثف بعض التكثيف، بحيث تدركه الأبصار. ولا يمنعه ذلك من النفوذ في كثائف الأجرام، كما ينفذ الأثير بالنور من الزجاج، وبغير النور من جميع الأجرام، وقد تأخذ شبحا لها من جسم بشر بينها وبينه تناسب كمستحضري الأرواح، فإذا خلعت الروح هذا الثوب امتنعت رؤيتها لتناهي لطافتها.
وإذا كان كل موجود في كل رتبة من رتب الوجود وكل صفة من صفات تلك الرتب قد استفاد وجوده وصفاته من الخالق الحكيم، وكان اللطف من تلك الصفات التي أشرنا إلى تفاوتها العظيم، فلا بد أن يكون لطفه تعالى أدق وأخفى من لطفها، وإذا كان لطف بعضها لا يستلزم الجسمية اللغوية ولا العرفية فلطفه عز وجل أجدر بذلك وأحق، فع
١ أخرجه البخاري في الرقاق باب ٣٨، وأحمد في المسند ٦/٢٥٦..
﴿ قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمى فعليها وما أنا عليكم بحفيظ ١٠٤ وكذلك نصرف الآيات وليقولوا درست ولنبينه لقوم يعلمون ١٠٥ اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين ١٠٦ ولو شاء الله ما أشركوا وما جعلناك عليهم حفيظا وما أنت عليهم بوكيل ١٠٧ ﴾
الآيات السابقة كلها في الإلهيات من عقائد الدين، وهذه الآيات في التنبيه لمكانتها من العلم والهداية، وفي المبلغ لها عن الله تعالى وما يقول المشركون فيه وإعلامه بسنة الله فيهم من حيث هم بشر وما يجب عليه وما ينفى عنه في هذا المقام.
قال تعالى :﴿ قد جاءكم بصائر من ربكم ﴾ البصائر جمع بصيرة ولها معان منها عقيدة القلب والمعرفة الثابتة باليقين أو اليقين في العلم بالشيء والعبرة والشاهد أو الشهيد المثبت للأمر، والحجة أو الفطنة، أو القوة التي تدرك بها الحقائق العلمية، وهذا يقابل البصر الذي تدرك به الأشياء الحسية، ومنه قول معاوية لبعض بني هاشم : إنكم يا بني هاشم تصابون في أبصاركم، وقول الهاشمي له : وأنتم يا بني أمية تصابون في بصائركم. أي قلوبكم وعقولكم، والمراد بالبصائر هنا الآيات الواردة في هذه السورة وفي هذا السياق الذي أوله ﴿ إن الله فالق الحب والنوى ﴾ أو هي وما في معناها من الآيات المثبتة لحقائق الدين، أو القرآن بجملته، وربما يرجح هذا بتذكير الفعل « جاءكم » إذ لا بد له من نكتة في الكلام البليغ لأنه خلاف الأصل وإن كان جائزا. وأقوى النكت وقوع اللفظ المؤنث على معنى مذكر. والخطاب وارد على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم كما قال ابن جرير وغيره، فالمعنى قد جاءكم في هذه الآيات الجلية، بصائر من الحجج العقلية والكونية، تثبت لكم عقائد الحق اليقينية، التي يتوقف عليها نيل السعادة الأبدية، جاءكم ذلك من ربكم الذي خلقكم وسواكم، وربى أجسادكم ومشاعركم وسائر قواكم، ليربي بها أرواحكم، بأحسن مما ربى به أشباحكم.
﴿ فمن أبصر فلنفسه ﴾ أي فمن أبصر بها الحق والهدى، فآمن وعمل صالحا ثم اهتدى، فلنفسه أبصر، ولسعادتها ما قدم من الخير وأخر، ﴿ ومن عمى فعليها ﴾ أي ومن عمي عن الحق بإعراضه عنها، وعدم النظر والاستبصار بها فأصر على ضلاله، ثباتا على عناده، أو تقليد آبائه وأجداده، فعليها جنى، وإياها أردى، ولعمى البصائر شر من عمى الأبصار، وأسوأ عاقبة في هذه الدار وفي تلك الدار، وهذا كقوله تعالى :﴿ من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها ﴾ [ فصلت : ٤٦ ] وقوله :﴿ لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ﴾ [ البقرة : ٢٨٦ ] وقوله :﴿ إن أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها ﴾ [ الإسراء : ٧ ]، وقوله هنا « فلها » بمعنى فعليها، ونكتته المشاكلة أو الازدواج وقيل غير ذلك.
﴿ وما أنا عليكم بحفيظ ﴾ يراقب أعمالكم ويحصيها عليها ويحفظها ليجازيكم عليها، وإنما أنا بشير ونذير، والله هو الرقيب الحفيظ، فهو يعلم ما تسرون وما تعلنون، ويجزيكم عليه بما تستحقون، فعليه وحده الحساب، وما علي إلا البلاغ.
﴿ قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمى فعليها وما أنا عليكم بحفيظ ١٠٤ وكذلك نصرف الآيات وليقولوا درست ولنبينه لقوم يعلمون ١٠٥ اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين ١٠٦ ولو شاء الله ما أشركوا وما جعلناك عليهم حفيظا وما أنت عليهم بوكيل ١٠٧ ﴾
الآيات السابقة كلها في الإلهيات من عقائد الدين، وهذه الآيات في التنبيه لمكانتها من العلم والهداية، وفي المبلغ لها عن الله تعالى وما يقول المشركون فيه وإعلامه بسنة الله فيهم من حيث هم بشر وما يجب عليه وما ينفى عنه في هذا المقام.
﴿ وكذلك نصرف الآيات ﴾ أي مثل ذلك التصريف والتفنن العلي الشأن، البعيد الشأو في فنون المعاني وأفنان البيان، الذي تراه في هذه السورة أو هذا السياق، نصرف الآيات في سائر القرآن، لإثبات أصول الإيمان، والهداية لأحاسن الآداب والأعمال، فنحولها من نوع إلى نوع ومن حال إلى حال، مراعاة لتفاوت العقول والأفهام، ولاختلاف استعداد الأفراد والأقوام.
﴿ وليقولوا درست ﴾ المعنى العام للدرس تكرار المعالجة وتتابع الفعل على الشيء حتى يذهب به أو يصل إلى الغاية منه، يقال درس الشيء كرسم الدار وآثارها يدرس ( من باب قعد ) إذا عفا وزال بفعل الريح أو تتابع المشي عليه وغير ذلك من الأسباب فهو دارس، ودرسته الريح أو غيرها، ودرس اللابس الثوب درسا أخلقه وأبلاه فهو دريس، ودرسوا الطعام أي القمح داسوه ليتكسر فيفرق بين حبه وتبنه، ودرس الناقة درسا راضها. ودرس الكتاب والعلم يدرسه درسا ودراسة، ودارسه مدارسة – من ذلك قال في اللسان عقب نقله كأنه عانده حتى انقاد لحفظه ثم قال : ودرست الكتاب أدرسه أي ذللته بكثرة القراءة حتى خف حفظه علي من ذلك، والدرسة بالضم الرياضة. ففي كل ما ذكر معنى تكرار العمل ومتابعته حتى بلوغ الغاية منه. قرأ الجمهور ( درست ) فعلا ماضيا للمخاطب وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ( دارست ) للمشاركة وهي مروية عن ابن عباس ومجاهد. وقرأ ابن عامر ويعقوب ( درست ) بفتح السين وسكون التاء وهي مروية عن أبي وابن مسعود وابن الزبير والحسن. والتعليل في قوله :﴿ درست ﴾ خاص معطوف على تعليل عام يعرف من القرينة والمعنى : وكذلك نصرف الآيات على أنواع شتى ليهتدي بها المستعدون للإيمان على اختلاف العقول والأفهام، وليقول هؤلاء المشركون الجاحدون، المعاندون منهم والمقلدون، قد درست من قبل يا محمد وتعلمت، وليس هذا بوحي منزل كما زعمت، وقد قالوا مثل هذا إفكا وزورا، وزعموا أنه تعلم من غلام رومي كان يصنع السيوف بمكة قيل إنه كان يختلف إليه كثيرا، وذلك قوله تعالى :﴿ ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر، لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين ﴾ [ النحل : ١٠٣ ] أو ليقولوا دارست العلماء وذاكرتهم، وجئتنا بما تلقيته عنهم، أو درست هذه العقائد ومحيت، بمعنى أنها أساطير قديمة قد رثت وخلقت، وهاتان القراءتان، في معنى قوله تعالى :﴿ وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاءوا ظلما وزورا وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملي عليه بكرة وأصيلا ﴾ [ الفرقان : ٤، ٥ ] وأظهر منه في تأييد القراءة الأخيرة قوله تعالى حكاية عن قوم هود في الشعراء ﴿ قالوا سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين إن هذا إلا خلق الأولين وما نحن بمعذبين ﴾ [ الشعراء : ١٣٦-١٣٨ ]. وحكمة القراءات الثلاث حكاية أقوال ثلاث فئات من المشركين، وهو من إيجاز القرآن العجيب في الكلم والرسم.
قيل إن اللام في قوله :« وليقولوا درست » للعاقبة والصيرورة أي ليكون عاقبة تصريف الآيات أن يقول الراسخون في الشرك مثل هذا القول مكابرة وعنادا، وجحودا وإلحادا، وقيل إن هذا تعليل صحيح يؤيده قوله تعالى :﴿ يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا ﴾ [ البقرة : ٢٦ ] ونقول ليس معنى يضل به كثيرا أن الإضلال من المقاصد التي أنزل لأجلها، أو التي من شأن القرآن في نفسه أن يكون علة وسببا لها، وإنما معناه أنه يترتب على وجوده إعراض فاسدي الفطرة عنه، وضلالهم بسبب الكفر به، فهو بمعنى العاقبة التي تترتب على إنزاله، كما يترتب على جميع المنافع التي خلقها الله للناس في الأنفس والآفاق، مضار كثيرة من سوء الاستعمال.
﴿ ولنبينه لقوم يعلمون ﴾ أي ولنبين هذا القرآن المشتمل على ما ذكر من تصريف الآيات، الذي يقول فيه بعض المكابرين إنه أثر درس واجتهاد، أو لنبين التصريف المفهوم من « نصرف » لقوم يعلمون بالفعل أو بالاستعداد، الذي لا يعارضه تقليد ولا عناد، ما تدل عليه الآيات من الحقائق، وما يترتب على الاهتداء بها من السعادة. فعلم من عطف هذا على ما قبله أن الذين يقولون للرسول إنك درست أو دارست حتى جئت بهذه الآيات المنزلة، إذ كانت أثر الدرس أو المدارسة، هم الجاهلون الذين لم يفهموا تلك الآيات، التي صرفها الله على أنواع و أشتات، أو لم يفقهوا سرها، وما يجب من إيثارها على منافع الدنيا بأسرها، وأما الذين يعلمون مدلولاتها، وحسن عاقبة الاهتداء بها، فهم الذين يتبين لهم بتأملها حقيقة القرآن، أو ما في التصريف من أنواع البيان، المؤيد بالحجة والبرهان.
وللمفسرين في الآية أقوال أخرى منقوضة منها : قول بعضهم إن المراد بدارست قارأت اليهود فحفظت عنهم بعض معاني هذه الآيات، وينهض هذا بما هو معلوم على سبيل القطع من نزول هذه السورة في أوائل البعثة بمكة ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم لقي أحدا من اليهود إذ لم يكونوا من أهلها، ولو تلقى عنهم كتبهم بالمدارسة لما سكتوا عن بيان ذلك لمشركي مكة حين أرسلوا إليهم يسألونهم عنه ولغيرهم من قومهم ومن المشركين، ولأن ما جاء به صلى الله عليه وسلم مهيمن على كتبهم ( ٥١ : ٤ ) قد بين أن ما عندهم محرف وفيه زيادة عما جاء به أنبياؤهم ونقص بما نسوا منه كما بينا ذلك في تفسير أول سورة آل عمران وتفسير النساء ( ٤٤ : ٤ ) والمائدة ( ١٤ : ٥ ) – فيراجع في الجزأين ٥ و ٦ من التفسير – كما أنه بين لهم كثيرا مما كانوا يخفون من الكتاب ( ١٦ : ٥ ) وهو من جهة أخرى أتم وأكمل لأنه خاتم النبيين، الذي أكمل الله على لسانه الدين.
ومنها : قول آخرين إن « ليقولوا دارست » على النفي أي لئلا يقولوا ذلك، قاله ابن جرير ونقله الرازي عن القاضي من المعتزلة ورده أشد الرد وله الحق، ولكنه غير مصيب في جعل العبارة مما يحتج به على الجبر أو القدر.
ومنها : قول الرازي أن الكفار كانوا يقولون في نزول القرآن نجوما : إن محمدا يضم هذه الآيات بعضها إلى بعض ويتفكر فيها ويصلحها آية فآية ثم يظهرها ولو كانت وحيا لجاء بها دفعة واحدة كما جاء موسى بالتوراة دفعة واحدة ومن ثم كان تصريف الآيات حالا فحالا هو الذي أوقع الشبهة للقوم في أن القرآن نتيجة مدارسة ومذاكرة مع الآخرين. ونقول إن هذا الكلام رأي ملفق لا يصح به في جملته نقل، فالعرب لم تكن تعتقد أن موسى جاء بالتوراة جملة واحدة من عند الله ولا أهل الكتاب وإنما تلك الوصايا العشر فقط، وسائر أحكام التوراة نزلت متفرقة بحسب الوقائع في أمكنة مختلفة كالقرآن، وتلك الوصايا لا تبلغ عشر هذه السورة ﴿ الأنعام ﴾ التي نزلت جملة واحدة كما أثبتنا ذلك في أول تفسيرها بل لا تزيد على نصف العشر إلا قليلا. ولعل كثرة ما فيها من الآيات البينات على أصول الدين هو الذي حمل بعض المفسرين على القول بأن معنى ( وليقولوا درست ) ولئلا يقولوا درست، فإن المجيء بهذه الآيات الكثيرة المنتظمة للحجج والبراهين المختلفة دفعة واحدة من شأنه أن يمنع المنصف من دعوى اقتباس القرآن بالمدارسة مع الآخرين، وأين هؤلاء المدارسون ؟ ولم يظهر من أحد منهم ولا من الرسول نفسه في مدة أربعين سنة شيء من هذه المعارف العالية. والبلاغة المعجزة، كلا إنما قالوا ذلك جحودا ومكابرة، وربما نطق به بعضهم بادي الرأي من غير تفكر في مخالفته لما هو معلوم بالضرورة عندهم من كونه أميا وكونه احتج على جمهورهم في ذلك بمثل قوله تعالى :﴿ قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون ﴾ [ يونس : ١٦ ] وقوله :﴿ وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون ﴾ [ العنكبوت : ٤٨ ] وهذه تدل على أنهم لم يرتابوا وإنما هي المكابرة.
﴿ قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمى فعليها وما أنا عليكم بحفيظ ١٠٤ وكذلك نصرف الآيات وليقولوا درست ولنبينه لقوم يعلمون ١٠٥ اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين ١٠٦ ولو شاء الله ما أشركوا وما جعلناك عليهم حفيظا وما أنت عليهم بوكيل ١٠٧ ﴾
الآيات السابقة كلها في الإلهيات من عقائد الدين، وهذه الآيات في التنبيه لمكانتها من العلم والهداية، وفي المبلغ لها عن الله تعالى وما يقول المشركون فيه وإعلامه بسنة الله فيهم من حيث هم بشر وما يجب عليه وما ينفى عنه في هذا المقام.
﴿ اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين ( ١٠٦ ) ﴾ بعد أن بين تعالى لرسوله أن الناس فريقان فريق قد فسدت فطرتهم ولم يبق فيهم استعداد للاهتداء بتلك البصائر المنزلة، ولا للعلم بما فيها من تصريف الآيات البينة، فحظهم منها مكابرتها، وجحود تنزيلها، وفريق يعلمون، وبالبيان يهتدون – أمره أن يتبع ما أوحي إليه من ربه، بالبيان له والعمل به، مشيرا بإضافة اسم الرب إلى ضميره، إلى تعظيم شأنه وتكبيره، وإلى كون الوحي إليه صلى الله عليه وسلم تربية له في نفسه، وناصبا إياه إماما لجميع أبناء جنسه، يتربى به من وفق منهم لاتباعه، وذلك أن الاقتداء لا يتم إلا بمن يعمل بما يعلم، ويأتمر بما يأمر، وقرن هذا الأمر بكلمة توحيد الألوهية، لبيان وجوب ملازمته لتوحيد الربوبية، فكما أن الخالق المربي للأشباح بما أنزل من الرزق، وللأرواح بما أنزل من الوحي واحد لا شريك له في الخلق ولا في الهداية، فالواجب أن يكون الإله المعبود واحدا لا شريك له في الجزاء على الأعمال بشفاعة ولا ولاية، فالأمر هنا بالاتباع ليس الغرض منه مجرد المداومة عليه، كما هو الشأن في أكثر من يأمر بالعمل من هو متلبس به، وإنما الغرض منه بيان كونه من متممات التبليغ، ثم عطف هذا الأمر المقرون بكلمة التوحيد، أمره صلى الله عليه وسلم بالاعتراض عن المشركين، بأن لا يبالي بإصرارهم على الشرك، ولا بمثل قولهم له دارست أو درست، لأن الحق يعلو متى ظهر بالقول والعمل مع الإخلاص، لا يضره الباطل بخرافات الأعمال ولا بزخارف الأقوال، ثم هون عليه أمره الإعراض عنهم، بقوله :﴿ ولو شاء الله ما أشركوا ﴾.
﴿ قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمى فعليها وما أنا عليكم بحفيظ ١٠٤ وكذلك نصرف الآيات وليقولوا درست ولنبينه لقوم يعلمون ١٠٥ اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين ١٠٦ ولو شاء الله ما أشركوا وما جعلناك عليهم حفيظا وما أنت عليهم بوكيل ١٠٧ ﴾
الآيات السابقة كلها في الإلهيات من عقائد الدين، وهذه الآيات في التنبيه لمكانتها من العلم والهداية، وفي المبلغ لها عن الله تعالى وما يقول المشركون فيه وإعلامه بسنة الله فيهم من حيث هم بشر وما يجب عليه وما ينفى عنه في هذا المقام.
﴿ ولو شاء الله ما أشركوا ﴾ الخ أي ولو شاء الله تعالى ألا يشركوا لما أشركوا، وذلك أنه لم يخلق البشر مؤمنين طائعين بالفطرة كالملائكة، وإنما خلقهم مستعدين للإيمان والكفر، والتوحيد والشرك، والطاعة والفسق، ومضت سنته في ذلك بأن يكونوا عاملين مختارين. فأما غرائزهم وفطرهم فكلها خير، وأما تصرفهم فيها وكسبهم لعلومهم وأعمالهم فمنه الخير والشر، وقد فصلنا هذه المسألة من قبل.
﴿ وما جعلناك عليهم حفيظا وما أنت عليهم بوكيل ﴾ وإنما أنت بشير ونذير، والله تعالى هو الحفيظ والوكيل عليهم، وهو مع ذلك لا يسلبهم استعدادهم، ولا يجبرهم بقدرته على الإيمان والطاعة له. إذ لو فعل ذلك لكان إخراجا لهم من جنس البشر إلى جنس آخر. ولعل في الجملتين احتباكا، والتقدير : وما جعلناك عليهم حفيظا تحفظ عليهم أعمالهم لحسابهم وتجازيهم عليها، ولا وكيلا تتولى أمورهم وتتصرف فيها، وما أنت عليهم بوكيل ولا حفيظ بملك ولا سيادة. أي ليس لك ذكر من الوصفين بأمرنا وحكمنا، ولا لك ذلك بالفعل كما يكون نحوه لبعض الملوك بالقهر أو التراضي. وقد تقدم تفسير الحفيظ والوكيل في الآية ٦٦ من هذه السورة ﴿ قل لست عليكم بوكيل ﴾ فيراجع تفسيرها وفيه روي عن ابن عباس أن تلك الآية منسوخة بآية السيف وروي ذلك عنه في هذه الآية أو ما قبلها، والجمهور لا يعدون مثل هذا من المنسوخ كما تقدم، نعم إنه نزل قبل أن تتكون الأمة ويصير النبي صلى الله عليه وسلم حاكما ولكن نزل مثله بعد ذلك لأن الحاكم ليس حفيظا ولا وكيلا على الأمة بالمعنى المراد هنا، ففي سورة النساء المدنية ﴿ من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا ﴾ [ النساء : ٧٩ ].
وفي هذه الآية وأمثالها من تقرير حرية الدين والاعتقاد، ما لا نظير له في قانون ولا كتاب.
خ١١١*
ومن مباحث البلاغة نكتة الفرق بين قوله تعالى في الآية ( ١١١ ) من هذه الآيات ﴿ ولو شاء ربك ما فعلوه ﴾ وقوله في الآية ( ١٠٦ ) من آيات قبلها في السورة ﴿ ولو شاء الله ما أشركوا ﴾ وهي أن المشيئة أسندت إلى اسم الجلالة في مقام إظهار الحقائق في شؤون المشركين وما يجب على الرسول وما ليس له، وأسندت إلى اسم الرب مضافا إلى الرسول في مقام تسليته وبيان سنته تعالى في أعداء الرسل قبله فكأنه يقول : هذا ما اقتضته مشيئة ربك الكافل لك بحسنى تربيته وعنايته نصرك على أعدائك وجعل العاقبة لكم لمن اتبعك من المؤمنين كما تقدم آنفا في تفسير الجملة والحمد لله ملهم الصواب.
﴿ ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون ١٠٨ وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون ١٠٩ ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لو يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون ١١٠ ﴾
أمر الله تعالى رسوله فيما قبل هذه الآيات بتبليغ وحيه بالقول والفعل، وبالإعراض عن المشركين بمقابلة جحودهم وطعنهم في الوحي بالصبر والحلم، وعلل ذلك بأن من مقتضى سنته في خلق البشر متفاوتي الاستعداد، مختلفي الفهم والاجتهاد، أن لا يتفقوا على دين، ومن مقتضى هدايته في بعثة الرسل أن يكونوا مبلغين لا مسيطرين، وهادين لا جبارين، فعليهم أن لا يضيقوا ذرعا بحرية الناس في اعتقادهم فإن خالقهم هو الذي منحهم هذه الحرية ولم يجبرهم على الإيمان إجبارا وهو قادر على ذلك، ثم عطف على هذا الإرشاد النهي عن سب آلهتهم، وطلب بعضهم للآيات وحقيقة حالهم فيها.
فقال :﴿ ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم ﴾ أي ولا تسبوا أيها المؤمنون معبوداتهم التي يدعونها من دون الله لجلب النفع لهم أو دفع الضر عنهم، بوساطتها وشفاعتها عند الله لهم، فيترتب على ذلك سبهم لله سبحانه وتعالى عدوا أي تجاوزا منهم في السباب والمشاتمة التي يغيظون بها المؤمنين إلى ذلك بغير علم منهم أن ذلك يكون سبا لله سبحانه لأنهم وهم مؤمنون بالله لا يتعمدون سبه ابتداء عن رؤية وعلم بل يسبونه بوصف لا يؤمنون به كسبهم لمن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتحقير آلهتهم أو لمن يقول إنها لا تشفع ولا تنفع أو يقولون قولا يستلزم سبه بحيث يفهم ذلك منهم وإن لم يعلم ذلك قائله – وهذا مما يجب اجتناب سببه حتى على القول بأن لازم المذهب ليس بمذهب – أو يقابلون الساب لمعبودهم بمثل سبه يريدون محض المجازاة فيتجاوزونها كما يقع كثيرا من المختلفين في الدين والمذهب : يسب نصراني نبي المسلم فيسب المسلم نبيه ويريد عيسى ( عليهما الصلاة والسلام ) ويسب شيعي يلاحي سنيا ويماريه أبا بكر فيسب عليا ( رضي الله عنهما ) والأول يعلم أن سب عيسى كفر كسب محمد صلى الله عليه وسلم، والثاني يعلم أن سب علي فسق كسب أبي بكر ( رضي الله عنه ). ومثل هذا يقع كثيرا، بل كثيرا ما يتساب أخوان من أهل دين واحد يسب أحدهما أب الآخر أو معبوده فيقابله بمثل سبه، يغيظه بسب أبيه مضافا إليه ويعده إهانة له فيسبه مضافا إلى أخيه إهانة لأخيه. وهذا كله من حب الذات والجهل الحامل على المعاقبة على الجريمة بارتكابها عينها، يهين والده المعظم عنده ومعبوده الذي هو أعظم منه احتماء لنفسه وعصبية لها. وقد جاء في الصحيحين عن عبد الله بن عمرو مرفوعا «من الكبائر شتم الرجل والديه » قالوا يا رسول الله وهل يشتم الرجل والديه ؟ قال :« يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه »١.
فالمراد بالعلم المنفي على هذا العلم الحضوري الباعث على العمل وهو إرادة السب التي يقصد بها إهانة المسبوب فإن هذا الساب هنا لا يتوجه قصده إلا إلى إهانة مخاطبة الذي سبه. ويجوز أن يراد بالعلم المنفي اعتقاد الساب أن خصمه لا يعبد الله تعالى بل يعبد إلها آخر لأنه يصف معبوده بما لا يصح أن يوصف به الله عنده، وقد ثبت عن بعض المختلفين في الأديان وفي مذاهب الدين الواحد وصف ربهم وإلههم بصفات، ورب خصومهم وإلههم بصفات تناقضها أو تضادها، كما يقول مثبتو الصفات ونفاتها بعضهم في بعض، ويمكن التمثيل لهذا باختلاف الأشعرية والمعتزلة في مسألة إرادة الله تعالى للشر والكفر وعدمها، فقد يبالغ كل منهما فيه فيزعم أن إلهه غير إله مخالفه، وقد نقل عن اثنين من أكابر علمائهما أنهما التقيا فقال المعتزلي : سبحان من تنزه عن الفحشاء، فقال الأشعري سبحان من لا يقع في ملكه إلا ما شاء، أي ومنه الفحشاء. فهل يبعد أن يعبر بعض المجازفين عن هذين المعنيين بصيغة السب لتأييد المذهب ؟
دع ما يقوله من هم أشد منهم غلوا في تضليل المخالف وتكفيره، والجميع يقولون إنهم يعبدون الله خالق السماوات والأرض وما بينهما وما فيهما، وهم صادقون في ذلك وإن اتخذ بعضهم له شريكا أو وصفه بما لا يليق به أو نفى عنه ما وصف به نفسه، ولكن تصعب المرء لنفسه ولمن تجمعه به جامعة ما قد تحمله على توسيع شقة الخلاف بمثل ذلك ولا سيما في أثناء الجدل. وفي هذا المقام تزداد فهما لقوله عز وجل :﴿ ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم، وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون ﴾ [ العنكبوت : ٤٦ ] هذا ما نراه في معنى النهي وتعليله وقد ورد في المأثور ما يؤيد بعضه ننقله عن الدر المنثور وهو :
« أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله :﴿ ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله ﴾ الآية قال قالوا : يا محمد لتنتهين عن سبك آلهتنا أو لنهجون ربك. فنهاهم الله أن يسبوا أوثانهم فيسبوا الله عدوا بغير علم.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال لما حضر أبا طالب الموت قالت قريش انطلقوا فلندخل على هذا الرجل فلنأمره أن ينهى عنا ابن أخيه فإنا نستحي أن نقتله بعد موته فتقول العرب كان يمنعه٢ فلما مات قتلوه، فانطلق أبو سفيان وأبو جهل والنضر بن الحارث وأمية وأبي ابنا خلف وعقبة بن أبي معيط وعمرو بن العاصي والأسود بن البختري وبعثوا رجلا منهم يقال له المطلب فقالوا استأذن لنا على أبي طالب فأتى أبا طالب فقال هؤلاء مشيخة قومك يريدون الدخول عليك، فأذن لهم عليه فدخلوا فقالوا يا أبا طالب أنت كبيرنا وسيدنا وإن محمدا قد آذانا وآذى آلهتنا فنحب أن تدعوه فتنهاه عن ذكر آلهتنا ولندعه وإلهه، فدعاه فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال له : هؤلاء قومك وبنو عمك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يريدون ؟ قالوا نريد أن تدعنا وآلهتنا ولندعك وإلهك، قال النبي صلى الله عليه وسلم « أرأيتم لو أعطيتكم هذا هل أنتم معطي كلمة إن تكلمتم بها ملكتم بها العرب ودانت لكم بها العجم وأدت لكم الخراج » قال أبو جهل وأبيك لنعطينكها وعشرة أمثالها فما هي ؟ قال :« قولوا لا إله إلا الله » فأبوا واشمأزوا، قال أبو طالب : قل غيرها فإن قومك قد فزعوا منها، قال :« يا عم ما أنا بالذي أقول غيرها حتى يأتوا بالشمس فيضعوها في يدي، ولو أتوني بالشمس فوضعوها في يدي ما قلت غيرها » إرادة أن يؤيسهم، فغضبوا وقالوا لتكفن عن شتم آلهتنا أو لنشتمك ونشتم من يأمرك، فأنزل الله ﴿ ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم ﴾.
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة قال كان المسلمون يسبون أصنام الكفار فيسب الكفار الله فأنزل الله ﴿ ولا تسبوا الذين تدعون من دون الله ﴾ اه أي أنزل ذلك في ضمن السورة كما تقدم نظيره اه.
وقد غفل بعض المفسرين عن مثل ذكرنا من شؤون الناس تحملهم على سب أعظم شيء عندهم في حال الغضب، والملاحاة في المراء والجدل، وعن التفسير المأثور عن السلف، حتى قال بعضهم إن المراد بسبهم لله تعالى هنا سب رسوله صلى الله عليه وسلم من باب التجوز على حد قوله تعالى :﴿ إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله ﴾ [ الفتح : ١٠ ] وهو تكلف بعيد، وقال الراغب : وسبهم لله ليس على أنهم يسبونه صريحا ولكن يخوضون في ذكره فيذكرونه بما لا يليق به ويتمادون في ذلك بالمجادلة فيزدادون في ذكره بما تنزه تعالى عنه اه وما قاله مما يقع مثله وليس كل المراد.
واستشكل بعضهم النهي بما ورد في الكتاب العزيز ومن وصف آلهتهم بأنها لا تضر ولا تنفع، ولا تقرب ولا تشفع، وأنها هي وإياهم حطب جهنم، وتسميتها بالطاغوت وهو مبالغة من الطغيان، وجعل عبادتها طاعة للشيطان. وقد يجاب عنه بأن هذا لا يسمى سبا، وإن زعموه جدلا، لأن السب الشتم وهو ما يقصد به الإهانة والتعيير، والغرض من ذكر معبوداتهم بذلك بيان الحقائق، والتنفير عن الخرافات والمفاسد، وأجيب على تقدير التسليم بأن سب ما يستحق السب جائز في نفسه، وإنما يحظر إذا أدى إلى مفسدة أكبر منه، والحال هنا كذلك. وقد صح النهي عن الصلاة في المقبرة والحمام، ومثلها التلاوة في المواضع المكروهة.
واستنبط العلماء من هذه الآية أن الطاعة إذا أدت إلى معصية راجحة وجب تركها فإن ما يؤدي إلى الشر شر، وفرقوا بين هذا وبين الطاعة في كل مكان فيه معصية لا يمكن دفعها. وهذه المسألة تحتاج إلى بسط وإيضاح فإن من الطاعة ما يجب وما لا يجب، ومن المعاصي والشرور التي تترتب على بعض الطاعات أحيانا ما هو مفسدة راجحة وما ليس كذلك، ومن كل منهما ما يمكن التفصي من ترتبه على الطاعة وما لا يمكن التفصي منه، ولكل من ذلك أحكام، وتعرض له درجات الإنكار الثلاث، « من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان »٣ رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن الأربعة.
ومن فروع هذه المسألة ما ذكرناه في العدد الأول من منار السنة الأولى في بحث اصطلاح كتاب العصر، وهو أن معنى لفظ الكفر في اللغة الستر والتغطية ومنه قيل الليل كافر والبحر كافر، وأطلق لفظ الكفار في سورة الفتح على الزراع وغلب لفظ الكفر في القرآن وعرف الفقهاء والمتكلمين بمعنى المقابل للإيمان الصحيح شرعا. ثم غلب في عرف كتاب هذا العصر على الملاحدة المعطلين المنكرين لوجود الله عز وجل، فصار إطلاقه على كل متدين سبا وإهانة، فيترتب على هذا أن إطلاقه على من يحرم إيذاؤه من أهل الأديان محرم شرعا إذا تأذى به ولا سيما في الخطاب. وذكرنا شاهدا لهذا من فتاوى الحنفية وهو ما في معين الحكام قال : إذا شتم الذمي يعزر لأنه ارتكب معصية. وفيه نقلا عن العنية : ولو قال للذمي يا كافر يأثم إن شق عليه اه.
ومنها : ما ذكرته في سياق الكلام في المختلفين في لعن معاوية بن أبي سفيان من ( المنار ص ٦٣٠ م ٧ ) بعد بيان ما يترتب على لعنه من التعادي بين الشيعة والسنيين وهو : لهذا لا أبالي أن أقول لو اطلع مطلع على الغيب وعلم أنه مات على غير الإسلام لما جاز له أن يلعنه. وغرضي من هذا أن اللعن يترتب عليه من مفاسد الشقاق بين المسلمين ما يجعله محرما وأكثر المسلمين يحرمون لعنه، وقد لعن الله الشيطان ويلعنه اللاعنون في كل مكان ومن لا يلعنه طول عمره لا يسأله الله عن ذلك لأنه لم يوجبه عليه كما قال بعض الأئمة، وليس هو من الطاعات التي أمرنا الله تعالى بها وإن كان جائزا في نفسه.
ومنها : ما نقل عن أبي منصور قال : كيف نهانا الله تعالى عن سب من يستحق السب لئلا يسب من لا يستحقه – وقد أمرنا بقتالهم وإذا قاتلناهم قتلونا وقتل المؤمن بغير حق منكر وكذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتبليغ والتلاوة عليهم وإن كانوا يكذبونه. وأجاب عنه بأن سب الآلهة مباح غير مفروض وقتالهم فرض وكذا التبليغ، وما كان مباحا ينهى عما يتولد منه ويحدث، وما كان فرضا لا ينهى عما يتولد عنه.
واختلف الفقهاء في إجابة الدعوة إلى وليمة النكاح المقارنة لبعض المعاصي كما يقع كثيرا هل يجيب الدعوة ويغير ما يراه من المنكر بيده أو بلسانه إن قدر، وإلا أنكره بقلبه وصبر أم يجيب في حال القدرة على التغيير دون حال العجز ؟ أم يفرق فيه بين من يقتدي به وغيره فيحرم حضور المنكر ولو مع النهي عنه على الأول دون الثاني ؟ أقوال لا مجال هنا لتحقيق الحق فيها، ولا للإطالة في فروع المسألة.
﴿ كذلك زينا لكل أمة عملهم ﴾ أي مثل ذلك التزيين الذي يحمل المشركين على ما ذكر حمية لمن يدعون من دون الله زينا لكل أمة عملهم من إيمان وكفر، وخير وشر، أي مضت سنتنا في أخلاق البشر وشؤونهم أن يستحسنوا ما يجرون عليه ويتعودونه مما كان عليه آباؤهم، أو مما استحدثوه بأنفسهم، إذا صار يسند وينسب إليهم، سواء كانوا على تقليد وجهل، أم على بينة وعلم، فسبب التزيين في الأول أنسهم به وكونه من شؤون أمتهم، التي يعد مدحها مدحا لها ولهم، وذمها عارا عليها وعليهم، وزد على ذلك في الثاني ما يعطيه العلم من كون ذلك حقا وخيرا في نفسه يترتب عليه فضلهم على غيرهم فيه وفي الجزاء عليه وشبهات الأول ليس لها مثل هذا التأثير.
فظهر بهذا أن التزيين أثر لأعمال اختيارية لا جبر
١ أخرجه مسلم في الإيمان حديث ١٤٥، والترمذي في البر باب ٤، وأحمد في المسند ٢/١٦٤..
٢ يمنعه: أي كان أبو طالب يحميه منهم...
٣ أخرجه مسلم في الإيمان حديث ٧٨، وأبو داود وفي الصلاة باب ٢٤٢، والملامح باب ١٧، والترمذي في الفتن باب ١١، والنسائي في الإيمان باب ١٧، وابن ماجه في الإقامة باب ١٥٥، وأحمد في المسند ٣/١٠، ٢٠، ٣٩، ٥٢..
﴿ ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون ١٠٨ وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون ١٠٩ ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لو يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون ١١٠ ﴾
أمر الله تعالى رسوله فيما قبل هذه الآيات بتبليغ وحيه بالقول والفعل، وبالإعراض عن المشركين بمقابلة جحودهم وطعنهم في الوحي بالصبر والحلم، وعلل ذلك بأن من مقتضى سنته في خلق البشر متفاوتي الاستعداد، مختلفي الفهم والاجتهاد، أن لا يتفقوا على دين، ومن مقتضى هدايته في بعثة الرسل أن يكونوا مبلغين لا مسيطرين، وهادين لا جبارين، فعليهم أن لا يضيقوا ذرعا بحرية الناس في اعتقادهم فإن خالقهم هو الذي منحهم هذه الحرية ولم يجبرهم على الإيمان إجبارا وهو قادر على ذلك، ثم عطف على هذا الإرشاد النهي عن سب آلهتهم، وطلب بعضهم للآيات وحقيقة حالهم فيها.
﴿ وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها ﴾ أي وأقسم أولئك المشركون المعاندون بالله أشد أيمانهم تأكيدا ومنتهى جهدهم ووسعهم مبالغة فيها، لئن جاءتهم آية من الآيات الكونية التي اقترحوها أو مطلقا ليؤمنن بها أنها من عند الله للدلالة على صدق رسوله صلى الله عليه وسلم فيكون إيمانهم إيمانا به، أو ليؤمنن بما دعاهم إليه بسببها ﴿ قل إنما الآيات عند الله ﴾ أي قل أيها الرسول إنما الآيات عند الله تعالى فهو وحده القادر عليها والمتصرف فيها، يعطيها من يشاء ويمنعها من يشاء بحكمته ﴿ وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله ﴾ [ الرعد : ٣٨ ] ومشيئته، وكمال الأدب معه تعالى أن يفوض إليه الأمر في ذلك. وتقدم تحقيق المسألة في أوائل تفسير السورة.
روى أبو الشيخ عن ابن جريج أن هذا نزل في المستهزئين الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية، وأخرج ابن جرير مثله عن محمد بن كعب القرظي مفصلا فذكر أنهم ذكروا له إخباره بعصا موسى وإحياء عيسى الموتى وناقة ثمود وطلبوا منه أن يجعل لهم الصفا ذهبا وأقسموا بالله لئن فعل ليتبعنه أجمعين، فقام صلى الله عليه وسلم يدعو فجاءه جبريل فخيره بين أن يصبح الصفا ذهبا على أن يعذبهم الله إذا لم يؤمنوا – أي عذاب الاستئصال حسب سنته تعالى كما تقدم في هذه السورة – وبين أن يتركهم حتى يتوب تائبهم، فاختار الثاني فأنزل الله فيهم :« وأقسموا بالله » حتى « ولكن أكثرهم يجهلون » أي فأنزل الله هذه الآيات في ضمن السورة التي نزلت دفعة واحدة، وتقدم تحقيق مثله مرارا.
﴿ وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون ﴾ أي أنكم ليس لكم شيء من أسباب الشعور بهذا الأمر الغيبي الذي لا يعلمه إلا علام الغيوب سبحانه وتعالى وهو أنهم لا يؤمنون إن جاءت الآية. والخطاب للمؤمنين الذين تمنوا مجيء الآية ليؤمنوا والنبي صلى الله عليه وسلم معهم وقيل لهم وحدهم، ويؤيد الأول رواية دعائه بذلك ورواية طلبه القسم منهم ليؤمنن بها. وقد غفل من غفل من المفسرين عن كون الاستفهام إنكاريا نافيا لشعورهم بهذا الأمر الثابت عنده تعالى في علم الغيب فذهب إلى أن المعنى وما يشعركم أنهم يؤمنون إذا جاءت ؟ فجعلوا النفي لغوا، وذهب بعضهم إلى أن « أنها » بمعنى لعلها، ونقلوا هذا عن الخليل وجاءوا عليه بشواهدَ هُمْ في غنى عنه وعنها. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر بخلاف عنه عن عاصم ويعقوب ( أنها ) بكسر الهمزة كأنه قال : وما يشعركم ما يكون منهم إذا جاءت وكأنهم قالوا ماذا يكون منهم ؟ فأخبرهم بذلك قائلا : إنها إذا جاءت لا يؤمنون. وقرأ ابن عامر وحمزة « لا تؤمنون » بالخطاب للمشركين، وهو كسابقه التفات وتلوين.
﴿ ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون ١٠٨ وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون ١٠٩ ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لو يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون ١١٠ ﴾
أمر الله تعالى رسوله فيما قبل هذه الآيات بتبليغ وحيه بالقول والفعل، وبالإعراض عن المشركين بمقابلة جحودهم وطعنهم في الوحي بالصبر والحلم، وعلل ذلك بأن من مقتضى سنته في خلق البشر متفاوتي الاستعداد، مختلفي الفهم والاجتهاد، أن لا يتفقوا على دين، ومن مقتضى هدايته في بعثة الرسل أن يكونوا مبلغين لا مسيطرين، وهادين لا جبارين، فعليهم أن لا يضيقوا ذرعا بحرية الناس في اعتقادهم فإن خالقهم هو الذي منحهم هذه الحرية ولم يجبرهم على الإيمان إجبارا وهو قادر على ذلك، ثم عطف على هذا الإرشاد النهي عن سب آلهتهم، وطلب بعضهم للآيات وحقيقة حالهم فيها.
﴿ ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ﴾ هذا عطف على قوله :«لا يؤمنون » وبيان لسنة الله تعالى في عدم إيمانهم برؤية الآية. أي وما يشعركم أيضا أننا نقلب أفئدتهم عند مجيء الآية بالخواطر والتأويلات، والتفكير في استنباط الاحتمالات، وأبصارهم في توهم التخيلات، كشأنهم في عدم إيمانهم بما جاءهم أول مرة من الآيات وقيل الضمير في قوله « به » للقرآن وقيل للنبي عليه الصلاة والسلام، وتقليب الأبصار من قبيل قوله تعالى :﴿ ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون ﴾ [ الحجر : ١٤، ١٥ ] فإن من لم يقنعه ما اشتمل عليه القرآن من الآيات العقلية العلمية، لا يقنعه ما يراه بعينيه من الآيات الحسية، بل يدعي أن عينيه خدعتا أو أصيبتا بآفة فهي لا ترى إلا صورا خيالية. أو أنه من أعمال السحر الصناعية، وهل هذا إلا خلق الأولين، في مكابرة آيات من بعث فيهم من المرسلين ؟
﴿ ونذرهم في طغيانهم يعمهون ﴾ العمه التردد في الأمر من الحيرة فيه، أي وندعهم في تجاوزهم الحدود في الكفر والعصيان، المشابه لطغيان الماء في الطوفان، الذي رسخوا فيه فترتب عليه ما ذكر من سنتنا في تقليب القلوب والأبصار، يترددون متحيرين فيما سمعوا ورأوا من الآيات، هل هو الحق المبين، أم السحر الذي يخدع الناظرين ؟ وهل الأرجح إتباع الحق بعدما تبين، أم المكابرة له والجدال فيه كبرا وأنفة من الخضوع لمن يرونه دونهم. وهذا صريح في أن رسوخهم في الطغيان، الذي هو منتهى الإسراف في الكفر والعصيان. هو سبب تقليب القلوب والأبصار، وإنما إسناده إلى الخالق لها لبيان سنته الحكيمة فيها. كغيره من ربط المسببات بأسبابها، وإنما يخطئ كثير من الناس هذا الأمر الواقع لعدم التأمل فيه، وتوهم أن جميع ما يسند إليه تعالى فهو من الخلق المستقل دون نظام للمقادير، وهي نزعة قدرية داخلة في قولهم :«الأمر أنف »، أي لا نظام فيه ولا قدر، يتبعهم خصومهم فيها وهم لا يشعرون، ويوقعهم التعصب للمذاهب في أظهر التناقض وهم غافلون، فنسأله تعالى أن يثبت أفئدتنا وأبصارنا على الحق، ويحفظنا من الطغيان والعمه في كل أمر، ويجعلنا ممن أبصر بما جاءه من البصائر، ويصلح لنا السرائر والظواهر. اللهم آمين.
بين الله سبحانه في الآيتين اللتين قبل هذه الآيات أن مقترحي الآيات الكونية على الرسول صلى الله عليه وسلم أقسموا بالله مجتهدين في أيمانهم مؤكديها قائلين : لئن جاءتنا آية لنؤمن بها وبما تدل عليه من صدق الرسول في دعوى الرسالة وما جاء به عن الله تعالى. وأن المؤمنين كانوا يودون إجابة اقتراحهم ويظنون أنها تفضي إلى إيمانهم، فبين الله تعالى لهم خطأ ظنهم بقوله ﴿ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ ( ١٠٨- ١٠٩ الأنعام ) نفى عنهم الشعور بسنته تعالى فيهم وفي أمثالهم من المعاندين وما يكون من شأنهم إذا رأوا آية تدل على خلاف ما يعتقدون وما يهوون وهي أنهم ينظرون إليها ويتفكرون فيها بقصد الجحود والإنكار فيحملونها على خداع السحر وأباطيله ويزعمون أنها لا تدل على المطلوب. وبعد بيان سنته تعالى فيهم عند مجيء الآية المقترحة صرح بما هو أبلغ من ذلك فقال :
﴿ وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ ﴾ فرأوها المرة بعد المرة بأعينهم وسمعوا شهادتها لك بالرسالة بآذانهم ﴿ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى ﴾ منهم بإحيائنا إياهم آية لك وحجة على صدق ما جئت به عن الله تعالى من أن الموت ليس عدما محضا للإنسان ﴿ وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ﴾ أي وجمعنا كل شيء من الآيات والدلائل غير الملائكة والموتى فسقناه وأرسلناه عليهم مقابلا لهم أو كافلا لصحة دعواك أو قبيلا ﴿ مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ ﴾ أي ما كان من شأنهم ولا مقتضى استعدادهم أن يؤمنوا، ونفي الشأن أبلغ من نفي الفعل، ذلك بأنهم لا ينظرون في شيء من الآيات نظر استدلال وإنما ينظرون إليها نظر من جاءه ولي يريد نصره وإغاثته وإخراجه من ضيق نزل به فظن أنه عدو يهاجمه ليوقع به ويسلبه ما بيده فينبري لقاتله فإذا قال له إنما أنا ولي نصير لا عدو مغير، ظن أنه يخدعه بقوله، وأنه إذا لم يسبق إلى قتله قتله، لا يعقل غير هذا.
وقوله تعالى ﴿ قبلا ﴾ قرأه عاصم وحمزة والكسائي بضم القاف والباء هنا وفي سورة الكهف وقرأه نافع وابن عامر بكسر القاف وفتح الباء فيهما، وابن كثير وأبو عمرو كالأولين هنا وكالآخرين في الكهف قيل إن معنى القراءتين واحد وهو المقابلة والمواجهة بالشيء ونقله الواحدي عن أبي زيد، والتقدير : وحشرنا عليهم كل شيء من أنواع الدلائل مواجهة ومعاينة وقيل إن الأولى جمع قبيل فهو كقضب ورغف ﴿ بضمتين فيهما ﴾ جمع قضيب ورغيف والتقدير : وحشرنا عليهم كل شيء من ذلك قبيلا قبيلا وصنفا صنفا، أي كل صنف منه على حدة. ومن استعمال مفرده في مثل هذا المقام قوله تعالى في حكاية اقتراحهم الآيات من سورة الإسراء، ﴿ أو تأتي بالله والملائكة قبيلا ﴾ ( الإسراء ٩٢ ) وقيل معناه الكفيل أي وحشرنا عليهم كل ما ذكر كفلاء يضمنون لهم صحة ما جئت به. وهو مروي عن أبي عبيدة والفراء والزجاج. وكل ما ذكر من المعاني للقراءتين متفق يؤيد بعضه بعضا.
وأما الاستثناء بقوله تعالى :﴿ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ ﴾ فقيل هو منقطع معناه لكن الله تعالى إن شاء إيمان أحد منهم آمن وقيل هو استثناء متصل من أعم الأحوال أو الأوقات، والمراد عليه أنهم ما داموا على صفاتهم التي هم عليها في زمن اقتراح الآيات لا يؤمنون وإذا شاء الله أن يزيلها فعل. والظاهر أنه مؤ يد لذلك الجزم بعدم إيمان هؤلاء الناس الموصوفين بما ذكر من العناد والكبرياء والمكابرة ومعناه : إن سنة الله تعالى في فقدهم الاستعداد للإيمان جارية بحسب مشيئته تعالى ككل ما يجري في هذا العالم ولو شاء غير ذلك لكان ولكنه لا يشاء لأنه تغيير لسننه، وتبديل لطباع هذا النوع من خلقه، ﴿ الإنسان ﴾ فهو إذا مزيد تأكيد لنفي الإيمان عنهم، والأستاذ الإمام يعد من هذا التأكيد قوله تعالى ﴿ سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله ﴾ ( الأعلى ٦- ٧ } فالمراد أنه لا ينسى البتة، وقد يفسر به ما استشكلوه وذهبوا المذاهب في تأويله من آيتي سورة هود ﴿ خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك ﴾ ( هود١٠٧ ) ولا حجة في الاستثناء بالمشيئة في هذه الآية وأمثالها للجبرية على جبرهم ولا للقائلين بخلق الله تعالى للشر ولا لمنكريه فكل ما يجري في الكون من أعمال البشر الاختيارية خيرها وشرها جار بنظام وسنن حكيمة وكلها بمشيئة الله تعالى وما هو شر من أفعال الناس الاختيارية لقبحه ولما يترتب عليه من ضررهم به وعقابهم عليه لا يستلزم ما قالته تك الفرق كما بيناه في هذا التفسير وفي مباحث أخرى من المنار.
﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ ﴾ سنن الله تعالى في عباده وانطباقها على الأفراد والجماعات لذلك يتمنى بعض المؤمنين لو يؤتى مقترحو الآيات ما اقترحوه لظنهم أنه يكون سببا لإيمانهم، وليست الآيات بملزمة ولا مغيرة البشر في اختيار ما ترجح عند كل منهم بحسب نظره فيها وفي غيرها، ولو شاء تعالى لجعلها كذلك ولو شاء أيضا لخلق الإيمان في قلوب البشر خلقا لا عمل لهم فيه ولا اختيار. وحينئذ لا يكونون محتاجين إلى رسل بل لا يكونون هم هذا النوع من الخلق الذي سمي الإنسان.
ذهب بعض المفسرين إلى أن هذه الجملة الأخيرة نزلت في المؤمنين فإن أكثرهم يجهلون قطعا هؤلاء المقترحين المعاندين من الذين فقدوا الاستعداد للإيمان والاستعداد للنظر الصحيح في الآيات والدلائل الموصلة إليه. وذهب بعضهم إلى أنها في الكافرين الذين لا يؤمنون كالجمل قبلها ولا شك أن جهلهم عظيم في هذا الأمر وفي غيره، ويرجح الأول إسناد الجهل إلى أكثرهم وهو عام شامل لهم ولاسيما إذا أريد بهم المستهزئون الخمسة خاصة كما تقدم في أول السياق في آخر الجزء السابع، وهم الوليد بن المغيرة المخزومي والعاصي بن وائل السهمي والأسود بن عبد يغوث الزهري والأسود بن المطلب والحارث بن حنظلة فقد كانوا أجهل القوم بهذه الهداية وأشدهم جهلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:
ومن مباحث البلاغة نكتة الفرق بين قوله تعالى في الآية ( ١١١ ) من هذه الآيات ﴿ ولو شاء ربك ما فعلوه ﴾ وقوله في الآية ( ١٠٦ ) من آيات قبلها في السورة ﴿ ولو شاء الله ما أشركوا ﴾ وهي أن المشيئة أسندت إلى اسم الجلالة في مقام إظهار الحقائق في شؤون المشركين وما يجب على الرسول وما ليس له، وأسندت إلى اسم الرب مضافا إلى الرسول في مقام تسليته وبيان سنته تعالى في أعداء الرسل قبله فكأنه يقول : هذا ما اقتضته مشيئة ربك الكافل لك بحسنى تربيته وعنايته نصرك على أعدائك وجعل العاقبة لكم لمن اتبعك من المؤمنين كما تقدم آنفا في تفسير الجملة والحمد لله ملهم الصواب.

ولما تضمن القول السابق أن أولئك المشركين المقترحين للآيات أعداء للنبي صلى الله عليه وسلم وما اقترحوا إلا لاعتقادهم أنهم لا يؤتونه فيكون ذلك بابا للطعن في رسالته أراد الله تعالى تسليته صلى الله عليه وسلم عن ذلك ببيان أن تلك سنته في جميع النبيين فقال ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ ﴾ أي وكما جعلنا هؤلاء ومن على شاكلتهم أعداء لك جعلنا لكل نبي جاء قبلك أعداءهم شياطين الإنس والجن. والعدو ضد الصديق والحبيب وهو يطلق على المفرد والمثنى والجمع والذكر والأنثى، قال تعالى في آية أخرى ﴿ فإنهم عدو لي ﴾ ( الشعراء ٧٧ ) ولذلك بين العدو هنا بأنهم شياطين الإنس والجن فشياطين بيان لعدو أو بدل منه. ويجوز أن يكون المعنى جعلنا شياطين الإنس والجن أعداء لكل نبي بعثه الله تعالى.
ذهب عكرمة والسدي إلى أن المراد بشياطين الإنس الشياطين الذين يضلون الإنس بالوسوسة لهم وبشياطين الجن الذين يضلون الجن كذلك وكلهم من ولد إبليس وإنه ليس في الإنس شياطين. وهذا القول باطل بدليل قوله تعالى :﴿ وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم ﴾ ( البقرة ١٤ } الآية، والصواب ما روي عن مجاهد وقتادة والحسن وهو أن من الإنس شياطين ومن الجن شياطين ورجحه ابن جرير بحديث أبي ذر المرفوع الذي رواه من عدة طرق وهو أن النبي صلى الله علي وسلم قال له عقب صلاة " يا أبا ذر : هل تعوذت بالله من شر شياطين الإنس والجن ؟ قال : قلت : يا رسول الله وهل للإنس من شياطين ؟ قال نعم١ وقال ابن عباس كل عات متمرد من الجن والإنس فهو شيطان.
ومعنى هذا الجعل أن سنة الله تعالى في الخلق مضت بأن يكون الشرير المتمرد العاتي عن الحق والمعروف أي الذي لا ينقاد لهما كبرا وعنادا أو جمودا على ما تعود يكون عدوا للدعاة إليهما من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ومن ورثتهم وناشري هدايتهم وهكذا شأن كل ضدين يدعو أحدهما إلى خلاف ما عليه الآخر مما يتعلق بمنافعهم الاجتماعية، فإن كان أحدهما خيرا محقا نسبت العداوة إلى الآخر الشرير المبطل لأنه هو الذي يسعى إلى إيذاء مخالفه بكل وسيلة يستطيعها لأنه مخالف وإن كان يعلم أنه يريد الخير له. وليس كل مخالف مبطل عدوا يسعى جهده لإيذاء مخالفة المحق وإنما يتصدى لذلك العتاة المستكبرون المحبون للشهرة والزعامة بالباطل والمترفون الذين يخافون على نعيمهم فلم يكن كل كافر بالأنبياء عليهم السلام ناصبا نفسه لعداوتهم وإيذائهم وصد الناس عنهم بل أولئك هم العتاة المتمردون من الرؤساء والمترفين والقساة الذين ضربت أنفسهم بالعدوان والبغي وأولئك هم الشياطين المفسدون في الأرض سواء كانوا من جنس الإنس الظاهر أو من جنس الجن الخفي.
وحكمة عداوة الأشرار للأخيار هي ما يعبر عنه في عرف علماء الاجتماع البشري بسنة تنازع البقاء بين المتقابلات التي تفضي بالجهاد والتمحيص إلى ما يسمونه ( سنة الانتخاب الطبيعي ) أي انتصار الحق وبقاء الأمثل التي ورد بها المثل في قوله تعالى من سورة الرعد ﴿ أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا، ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله، كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال ﴾ ( الرعد ١٧ ) فالحياة الدنيا جهاد لا يكمل ويثبت فيها إلا المجاهدون الصابرون وكذلك العمل فيها للآخرة ﴿ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ﴾ ( آل عمران : ١٤٢ ) ﴿ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ؟ ألا إن نصر الله قريب ﴾ ( البقرة : ٢١٤ ) ﴿ والعاقبة للمتقين ﴾ ( الأعراف : ١٢٨ ) ولكن أكثر الناس حتى من أهل الحق بَلْهَ غيرهم يجهلون هذه السنن الحكيمة العالية وإذا ذكرت لهم يشتبهون في تطبيقها على أنفسهم وعلى غيرهم كما اشتبه كثير من المسلمين في سبب خذلان دولهم وسقوط حكوماتهم ظانين أن مجرد تسميتها مسلمة كاف لنصر الله إياها وإن خالفت هداية دينه بالظلم والفسق والكفر في زعمائها وإقرارهم عليه من دهمائها وخالفت سننه في تنازع البقاء وتوقفه على كمال الاستعداد كما قال :﴿ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ﴾ ( الأنفال ٦٠ ) وقال :﴿ ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم ﴾ ( الأنفال ٤٦ ) ولم يقيموا شيئا من هذه الأوامر والنواهي بل فعلوا ضدها، وقد سبق لنا تحقيق هذه المباحث في التفسير وغير التفسير من أبواب المنار.
ثم بين تعالى شر ضروب عداء هؤلاء الشياطين للأنبياء وهو مقاومة هدايتهم بقوله :﴿ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ﴾ أي يلقي بعضهم إلى بعض القول المزين المموه بما يظنون أنه يستر قبحه ويخفي باطله بطرق خفية دقيقة لا يفطن لباطلها كل أحد ليغروهم به. فالإيحاء الإعلام بالأشياء من طريق خفي دقيق سريع كالإيماء، وتقدم. والزخرف الزينة كالأزهار للأرض والذهب للنساء والتخييل الشعري في الكلام وما يصرف السامع عن الحقائق إلى الأوهام. والغرور ضرب من الخداع بالباطل مأخوذ من الغرة ﴿ بالكسر ﴾ والغرارة ﴿ بالفتح ﴾ وهما بمعنى الغفلة والبلاهة وعدم التجارب ومنه : شاب غر وفتاة غر ﴿ بالكسر ﴾ أي غافلان عن شؤون الرجال والنساء لا تجربة لهما. وهذا مأخوذ من غر الثوب ﴿ بالفتح ﴾ وهو الكسر والثني الذي يحدث من طيه. يقولون طويت الثوب على غره، أي على ثني طيته الأولى لم أحدث فيه تغييرا، ثم صار مثلا يضرب لكل ما يترك على حاله، يقال : طويته على غره.
والبصير الذي علمته التجارب حيل الناس وأباطيلهم لا يغر كما يغر من بقي على سجيته التي خلق عليها كالثوب الباقي على طيته الأولى. يقال غره يغره غرا وغرورا والمثال الأول من هذا الغرور هو ما أوحاه الشيطان الأول للإنسان الأول أبينا ﴿ آدم ﴾ ولزوجه وهو تزيينه لهما الأكل من الشجرة التي اختبرهما الله تعالى بالنهي عن قربها إذ قال لهما ﴿ إنها شجرة الخلد وملك لا يبلى ﴾ ﴿ وقاسمهما أني لكما لمن الناصحين فدلاهما بغرور ﴾ ( الأعراف ٢١ } ومنه ما يوسوس به شياطين الإنس والجن لمن يزينون لهم المعاصي بما فيها من اللذة والانطلاق من القيود المانعة من الحرية وإطماع المؤمن منهم بأماني الرحمة والمغفرة والكفارات والشفاعة، كقول أحد شياطين الإنس :
تكثر ما استطعت من الخطايا *** فإنك واجد ربا غفورا
تعض ندامة كفيك مما *** تركت مخافة النار السرورا
والتغرير بزخرف القول قد ارتقى عند شياطين هذا الزمان ولا سيما شياطين السياسة ارتقاء عجيبا فإنهم يخدعون الأحزاب منهم والأمم والشعوب من غيرهم فيصورون لها الاستعباد حرية، والشقاوة سعادة بتغيير الأسماء وتزيين أقبح المنكرات، وإن من الشعوب غرارا كالأفراد تلدغ من الجحر الواحد مرتين بل عدة مرار، فاعتبروا يا أولي الأبصار.
﴿ وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ ﴾ أي ولو شاء ربك أيها الرسول أن لا يفعلوا هذا الإيحاء الغار ما فعلوه ولكنه لم يشأ خلقهم، أو يجبرهم على خلاف ما زينته لهم أهواؤهم بل شاء أن يكون كل من الإنس والجن مستعدين للحق والباطل والخير والشر، وأن يكونوا مختارين في سلوك كل من الطريقين، كما قال في الإنسان ﴿ وهديناه النجدين ﴾ ( البلد ١٠ } ومن وسوسة هؤلاء الشياطين للناس وزخرفها تحريف مثل هذه الآية الحكيمة بحملها على معنى الجبر فيقولون : إن كل عاص لله معذور لأنه ما عصاه إلا بمشيئته التي لا يستطيع الخروج عنها. وسيأتي في هذه السورة قوله تعالى في ذلك ﴿ سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء. كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا ؟ إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون ﴾ ﴿ الأنعام ١٤٨ ﴾ فلا عذر بمشيئة الله لأحد لأنه لم يشأ أن تكون أفعالهم اضطرارية بل خلقهم بمشيئته يفعلون ما يفعلون باختيارهم ويحتجون على المنكرين عليهم كثيرا بأنهم على حق، وإذا اعترفوا بخطأ يلتمسون لأنفسهم فيه العذر.
﴿ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ﴾ من كذب، ويخلقون من إفك، ليصرفوا الناس عن الحق، واستقم كما أمرت فإنما عليك البلاغ، وعلينا الحساب والجزاء والعاقبة للمتقين، وسنريك سنتنا في أمثالهم بعد حين، وقد فعل عز وجل فأهلك المستهزئين بالقرآن الذين قيل إن السياق نزل فيهم، ونصر الله عبده وأعز جنده، وهكذا ينصر من ينصره، وأما المتنازعون على الباطل ومجد الدنيا الزائل، فإنما يكون الفلج بينهم بحسب سنن الله تعالى لأشدهم مراعاة لها في الاستعداد الحربي الاجتماعي وتخلقا بالأخلاق العالية كالصبر والثبات كما بيناه مرارا.
١ أخرجه بلفظ: "تعوذ بالله من شر شياطين الجن والإنس" النسائي في الاستعاذة باب ٤٨ واحمد في المسند ٥/ ١٧٨، ٢٦٥..
﴿ وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ ﴾ صغى إليه ﴿ كرضى ﴾ يصغي صغى وصغى إليه صغيا مال ومثله صغا يصغو صغوا. وأصغى إلى حديثه مال واستمتع وأصغى الإناء أماله. ويقال : صغي فلان وصغوه معك أي ميله وهواه كما يقال ضلعك معك. والمعنى : يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول ليغروهم به ويخدعوهم وينشأ عن ذلك أن تصغى إليه قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة لموافقته لأهوائهم ﴿ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ ﴾ أي ليترتب عليه أيضا أن يرضوه من غير بحث في صحته وعدمها وأن يقترفوا بتفسيره ما هم مقترفوه من المعاصي والآثام بغرورهم به ورضاهم عنه. اقترف المال اكتسبه والذنب اجترحه، وصرح باللام في هذه الجمل دون الغرور لأن الغرور من فعل الموحين وهذه الأفعال ليست منه وإنما هي مما يترتب عليه من أفعال المغترين به لاستعدادهم له وهم الذين لا يؤمنون بالآخرة فإنهم هم الذين لا يهمهم من حياتهم إلا اتباع أهوائهم وإرضاء شهواتهم. وقد غفل بعض المفسرين عن الفرق بين فعل الغر والغرور وبين ما يترتب عليه من أ فعال المغترين به فظن أن تفسير الكلام هكذا يكون من عطف الشيء على نفسه وإنما هو بمعنى زيد غر عمرا فاغتر وهذه اللام هي التي تسمى لام العاقبة والصيرورة قطعا.
﴿ أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ١١٤ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ١١٥ ﴾
بين الله تعالى في السياق الذي قبل هذا أن الذين اقترحوا على رسوله الآيات الكونية وأقسموا بأنهم يؤمنون بها إذا جاءتهم كاذبون في دعواهم وإيمانهم كما ثبت فيما مضت به سنة الله في أمثالهم من أعداء الرسل المعاندين وهم شياطين الإنس والجن الذين يغرون الجاهلين بزخرف أقوالهم فيصرفونهم بها عن الحق ويزينون لهم الباطل فتميل إليه قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة ويرضونه لموافقته لأهوائهم فيحملهم على اقتراف السيئات وارتكاب المنكرات. ثم قفى عليه بهاتين الآيتين المبينتين لآية الله الكبرى التي هي أقوى دلالة على رسالة نبيه من جميع ما اقترحوا ومما لم يقترحوا من الآيات الكونية، وهي القرآن الحكيم، وكون منزلها هو الذي يجب الرجوع إليه في الحكم في أمر الرسالة وغيره واتباع حكمه فيها دون شياطين الإنس والجن المبطلين المضلين.
فقال آمرا لرسوله أن يقول لهم :
﴿ أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا ﴾ الحكم ( بفتحتين كالجبل } هو من يتحاكم الناس إليه باختيارهم ويرضون بحكمه وينفذونه، أأطلب حكما غير الله تعالى يحكم بيني وبينكم في هذا الأمر وغيره ﴿ وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً ﴾ أي والحال أنه هو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا فيه كل ما يصح به الحكم فإنزاله مشتملا على الحكم التفصيلي للعقائد والشرائع وغيرها على لسان رجل منكم أمي مثلكم هو أكبر دليل وأوضح آية على أنه من عند الله تعالى لا من عنده هو كما قال بأمر الله في آية أخرى ﴿ فقد لبثت فيكم عمرا من قبله ﴾ ( يونس ١٦ ) جاوز الأربعين من السنين ولم يصدر عني فيه شيء من مثله في علومه ولا في إخباره بالغيب ولا في أسلوبه ولا في فصاحته وبلاغته ﴿ أفلا تعقلون ﴾ ( البقرة ٤٤ ) أن مثل هذا لا يكون إلا بوحي من العليم الحكيم ؟ ثم إن ما فصل فيه من سنن الله تعالى في طباع البشر وأخلاقهم وارتباط أعمالهم بما استقر في أنفسهم من الآراء والأفكار والأخلاق والعادات الموضح بقصص من قبلنا من الأمم برهان عملي على صحة ما حكم به في طلبكم الآية الكونية وزعمكم أنكم تؤمنون بها، وقد تقدم توجيهه في تفسير السياق الأخير في طلبها وفي أمثاله، كما تقدم بيان كون القرآن أدل على صحة الرسالة وصدق الرسول من جميع الآيات التي جاء بها الرسل عليهم السلام، وهو في مواضع من التفسير والمنار، ومن أقربها ما جاء في تفسير الآية ٣٧ من هذه السورة ( ج ٧ ).
﴿ وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ ﴾ أي والذين أعطيناهم علم الكتب المنزلة من قبله كعلماء اليهود والنصارى دون المقلدين منهم يعلمون أن هذا الكتاب منزل عليك من ربك بالحق. وبيان هذا من وجهين أحدهما : أن العالم بالشيء يميز بين ما كان منه وما لم يكن، فمن ألف كتابا في علم الطب كان الأطباء أعلم الناس بكونه طبيبا، ومن ألف كتابا في النحو كان النحاة أعلم الناس بكونه نحويا، كذلك المؤمنون بالوحي العالمون بما أنزل الله على أنبيائهم منه يعلمون أن هذا القرآن من جنس ذلك الوحي وفي أعلى مراتب الكمال منه وأن أوسع البشر علما لا يستطيع أن يأتي بمثله فكيف يستطيعه رجل أمي لم يقرأ ولم يكتب قبله شيئا ﴿ وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون ﴾ ( العنكبوت ٤٨ } ولذلك قال تعالى في آية أخرى ﴿ أو لم يكن لهم آية ان يعلمه علماء بني إسرائيل ﴾ ( الشعراء ١٩٧ }
ثانيهما : أن في الكتب الأخيرة كالتوراة والإنجيل بشارات بالنبي صلى الله عليه وسلم لم تكن تخفى على علمائهما في زمنه صلى الله عليه وسلم وقد بينا بعضها وسيأتي تفصيلها في الجزء التاسع وقال تعالى :﴿ الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون ﴾ ( البقرة ١٤٦ } وقد اعترف المنصفون من أولئك العلماء بذلك وآمنوا وكتم بعضهم الحق وأنكروه بغيا وحسدا كما بيناه في محله.
والخطاب في قوله تعالى :﴿ فلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ﴾ للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد غيره، على حد قولهم ( إياك أعني واسمعي يا جارة } وقيل : لكل مخاطب أي فلا تكونن من الشاكين في ذلك. على أن نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الشك في كون أهل الكتاب يعلمون أنه منزل بالحق مقرونا بإخباره به لا يقتضي جواز شكه فيه بعد هذا الإخبار فإن كان يشك فيه قبله فلا ضرر.
﴿ أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ١١٤ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ١١٥ ﴾
بين الله تعالى في السياق الذي قبل هذا أن الذين اقترحوا على رسوله الآيات الكونية وأقسموا بأنهم يؤمنون بها إذا جاءتهم كاذبون في دعواهم وإيمانهم كما ثبت فيما مضت به سنة الله في أمثالهم من أعداء الرسل المعاندين وهم شياطين الإنس والجن الذين يغرون الجاهلين بزخرف أقوالهم فيصرفونهم بها عن الحق ويزينون لهم الباطل فتميل إليه قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة ويرضونه لموافقته لأهوائهم فيحملهم على اقتراف السيئات وارتكاب المنكرات. ثم قفى عليه بهاتين الآيتين المبينتين لآية الله الكبرى التي هي أقوى دلالة على رسالة نبيه من جميع ما اقترحوا ومما لم يقترحوا من الآيات الكونية، وهي القرآن الحكيم، وكون منزلها هو الذي يجب الرجوع إليه في الحكم في أمر الرسالة وغيره واتباع حكمه فيها دون شياطين الإنس والجن المبطلين المضلين.
﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً ﴾ الكلمة تطلق على الجملة والطائفة من القول في معنى واحد أو غرض واحد طال أو قصر، فإذا ألقى أفراد خطبا أو كتبوا مقالات في موضوع ما، قيل في كل خطبة وكل مقالة : هذه كلمة فلان، وروي أن العرب كانت تسمي القصيدة من الشعر كلمة لأن القصيدة تقال في غرض واحد وإن اشتملت على معاني كثيرة، وتسمى جملة ﴿ لا إله إلا الله ﴾ كلمة التوحيد ومن هنا قال بعض المفسرين إن المراد بالكلمة في هذه الآية القرآن، وهو جائز لغة ولكنه غير ظاهر معنى، وإنما الظاهر المتبادر بقرينة السياق أن الكلمة هنا من قبيل قوله تعالى :﴿ وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ﴾ ( هود ١١٨ } وقوله :﴿ وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ﴾ ( الأعراف ١٣٦ } الآية فمعنى الجملة : وتمت كلمة ربك أيها الرسول فيما وعدك به من نصرك وما أوعد به هؤلاء المستهزئين بالقرآن المقترحين للآيات وأمثالهم وأقتالهم من معاندي قومك المستكبرين عن الإيمان بك من خذلانهم وهلاكهم، كما تمت من قبل في الرسل وأعدائهم من قبلك وهي قوله تعالى :﴿ ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون ﴾ ( الصافات ١٧١ ) وما في معناها من عام كقوله تعالى :﴿ إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ﴾ ( غافر ٥١ ) وخاص كقوله لرسوله عليه الصلاة والسلام :﴿ إنا كفيناك المستهزئين ﴾ الحجر ٩٥ }.
أما تمامها صدقا فهو وقوع مضمونها من حيث كونها خبرا، وأما تمامها عدلا فمن حيث كونها جزاء للكافرين المعاندين للحق بما يستحقون وللمؤمنين المهتدين بما يستحقون وللمؤمنين المهتدين بما يستحقون وإن كانوا بمقتضى الفضل يزادون، وإذا كانت هذه الآية نزلت بمكة قبل نصر الله تعالى نبيه على طغاة قومه في بدر وغيرها فالفعل الماضي فيها " تمت " بمعنى المستقبل فهو لتحقق وقوعه كأنه وقع، وهذا من ضروب المبالغة البليغة، وفيه وجه آخر وهو أن المراد بالخبر هنا لازمه وهو تأكيد ما تضمنته هذه الآيات من تسلية النبي صلى الله عليه وسلم عن كفر هؤلاء المعاندين وإيذائهم ولأصحابه وإيئاس الطامعين من المسلمين في إيمانهم بإيتائهم الآيات المقترحة كأنه يقول تمت كلمتي بنصر المرسلين، وخذلان هؤلاء الأعداء الطغاة المفسدين.
﴿ لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ ﴾ كما أنه لا تبديل لسنته ﴿ سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا ﴾ ( الأحزاب ٦٢ } والتبديل بالبدل وهذه الجملة تعليل لما قبلها والمعنى أن كلمة الله تعالى في نصرك أيها الرسول وخذلان أعدائك قد تمت وأصبح نفوذها حتما لا مرد له لأن كلمات الله التي هي من أفرادها لا مبدل لها إذ لا يستطيع أحد من خلقه وكل ما عداه فهو من خلقه أن يزيل كلمة من كلماته بكلمة أخرى تخالفها أو يمنع صدقها على من وردت فيهم، كأن يجعل الوعد وعيدا أو الوعيد وعدا أو يصرفهما عن الموعود بالثواب أو الموعد بالعقاب إلى غيرهما أو يحول دون وقوعهما البتة.
فإن قيل : إن بعض المتكلمين جوز تخلف الوعيد دون الوعد لأنه فضل وإحسان، قلنا لم يجوز أحد من محققي أهل الحق تخلف الوعيد مطلقا بل صرحوا بأن من أصول العقيدة أن نفوذ الوعيد في الكفار وفي طائفة من عصاة المؤمنين حق، وإنما قيل بتخلف شمول الوعيد لجميع العصاة الذي يدل عليه إطلاق بعض النصوص ولنا أن نقول إن هذا ليس بتخلف فيقال إنه تبديل لكلمات الله سبحانه وتكذيب لها فإنه تعالى لم يرد بتلك الإطلاقات الشمول العام لجميع أفراد من وردت فيهم تلك النصوص لأنه بين في نصوص أخرى أنه يعفو عن بعض الذنوب ويغفر لمن يشاء من مقترفيها ويعذب من يشاء وهو يعلم من أراد المغفرة لهم ومن أراد تعذيبهم ولا يبدل كلامه في أحد منهما، وأبهم ذلك علينا لنرجوه دائما ولا يوقعنا العمل الصالح في الغرور والأمن من عذابه فنقصر ونخافه دائما ولا يوقعنا ارتكاب الذنب في اليأس من رحمته فنهلك وقد أحسن أبو الحسن الشاذلي في قوله هذا المقام : وقد أبهمت الأمر علينا لنرجو ونخاف فأمن خوفنا ولا تخيب رجاءنا.
فإن قيل : أليس الشفعاء يؤثرون في إرادته تعالى فيحملونه على العفو عن المشفوع لهم والمغفرة لهم ؟ قلنا كلا إن المخلوق لا يقدر على التأثير في صفات الخالق الأزلية الكاملة، وقد نطقت الآيات بأن الشفاعة لله جميعا ليس لأحد من دونه ولي ولا شفيع ولا يستطيع أحد أن يشفع عنده إلا بإذنه وهو لا يأذن إلا لمن تعلقت مشيئته وعلمه في الأزل بالإذن لهم ﴿ ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون ﴾ ( الأنبياء ٢٨ } فيكون ذلك إظهار كرامة وجاه لهم عنده لا إحداث تأثير للحادث في صفات القديم وسلطان له عليها تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، وقد تقدم تحقيق هذه المسألة مرارا.
فإن قيل ألا يدل قوله ﴿ لا مبدل لكلماته ﴾ على استحالة التحريف أو التبديل في الكتب أي في لفظها وعبارتها كاستحالة التبديل في صدقها ونفوذها ؟ قلنا إنما ورد السياق والنص في صدقها وعدلها لا في لفظها وقد أثبت الله في كتابه تحريف أهل الكتاب قبلنا لكلامه ونسيانهم حظا منه وما كفل تعالى حفظ كتاب من كتبه بنصه إلا هذا القرآن المجيد الذي قال له :﴿ إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ﴾ ( الحجر ٩ ) وظهر صدق كفالته بتسخير الألوف الكثيرة في كل عصر لحفظه عن ظهر قلب، ولكتابةِ النُّسَخ التي لا تحصى منه في كل عصر من زمن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم إلى هذا العصر، وناهيك بما طبع من ألوف الألوف من نسخه في عهد وجود الطباعة بمنتهى الدقة والتصحيح. ولم يتفق مثل ذلك لكتاب إلهي ولا غير إلهي، فأهل الكتاب لم يحفظوا كتب رسلهم في الصدور ولا في السطور، وسيأتي بسط هذا في موضعه إن شاء الله تعالى.
وقد ختمت هذه الآية بقوله تعالى :﴿ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ لأنه تذييل للسياق الأخير كله لا لهذه الآية فقط وهو سياق محاجة المشركين المعاندين مقترحي الآيات وفيه ذكر اقتراحهم وأيمانهم الكاذبة وذكر سائر أعداء الرسل أمثالهم من شياطين الإنس والجن وخداعهم للناس بزخرف القول وصغي قلوب منكري البعث والجزاء إليه وضلالهم به فهو يقول إنه تعالى سميع لتلك الأقوال الخادعة منهم، عليم بما في قلوبهم من ذلك الصغي والميل وغيره من مقاصدهم ونياتهم وبما يقترفون من السيئات بكفرهم وغرورهم.
هذه الآيات سياق جديد في بيان ضلال جميع الأمم في عهد بعثة خاتم الرسل عليه الصلاة والسلام، وغلبة الشرك عليهم في أثر بيان ضلال مشركي العرب ومن على شاكلتهم في عقائدهم وإقامة حجج الإسلام عليهم ووصل ذلك ببيان مسألة اعتقادية عملية من أكبر أصول الشرك وهي مسالة الذبائح لغير الله تعالى.
قال عز وجل :﴿ وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ ﴾ هذه جملة معطوفة على ما قبلها متممة له فإنه بين فيما قبلها وحي شياطين الإنس والجن الذي يلقونه لغرور الناس به وصغى قلوب منكري الآخرة له وافتتانهم به، وما يقابل ذلك من هداية وحي الله المفصل لكل ما يحتاج الناس إليه من أمر دينهم الذي يترتب عليه صلاح دنياهم فهو تعالى يقول لرسوله لا تبتغ أنت ومن اتبعك حكما غير الذي أنزل إليك الكتاب مفصلا فهذا الكتاب هو الهداية التامة الكاملة فادع إليه الناس كافة ﴿ وإن تطع أكثر أهل الأرض يضلوك عن سبيل الله ﴾ التي بينها لك فيه، لأنهم ضالون متبعون لوحي الشياطين.
﴿ إن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ ﴾ أي ما يتبعون في عقائدهم وآدابهم وأعمالهم إلا الظن الذي ترجحه لهم أهواؤهم وما هم فيها إلا يخرصون خرصا في ترجيح بعضها على بعض كما يخرص أهل الحرث ثمرات النخيل والأعناب وغيرها ويقدرون ما تأتي به من التمر والزبيب، فلا شيء منها مبني على علم صحيح ولا ثابت بدلائل تنتهي إلى اليقين.
وهذا الحكم القطعي بضلال أكثر أهل الأرض ظاهر بما بينه به من اتباع الظن والخرص ولا سيما في ذلك العصر تؤيده تواريخ الأمم كلها فقد اتفقت على أن أهل الكتاب قد تركوا هداية أنبيائهم وضلوا ضلالا بعيدا وكذلك أمم الوثنية التي كانت أبعد عهدا عن هداية أنبيائهم رسلهم وهذا من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم وهو أمي لم يكن يعلم من أحوال الأمم إلا شيئا يسيرا من شؤون المجاورين لبلاد العرب خاصة.
هذه الآيات سياق جديد في بيان ضلال جميع الأمم في عهد بعثة خاتم الرسل عليه الصلاة والسلام، وغلبة الشرك عليهم في أثر بيان ضلال مشركي العرب ومن على شاكلتهم في عقائدهم وإقامة حجج الإسلام عليهم ووصل ذلك ببيان مسألة اعتقادية عملية من أكبر أصول الشرك وهي مسالة الذبائح لغير الله تعالى.
﴿ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾ أي إن ربك الذي رباك وعلمك أيها الرسول بما أنزل إليك الكتاب مفصلا وبين لك فيه ما لم تكن تعلم من الحق ومن شؤون الخلق هو أعلم منك ومن سائر خلقه بمن يضل عن سبيله القويم وهو أعلم بالمهتدين السالكين صراطه المستقيم إذ الضلال ما يصد عن سبيله ويبعد السالك عنه، والاهتداء ما يجذبه إليه ويقربه منه، فكيف لا يكون أعلم به من نفسه وأصدق في الحكم عليه من حسه، وهو فوق ذلك محيط بكل شيء علما ؟
ومن مباحث اللفظ أن البصريين والكوفيين من النحاة اضطربوا في إعراب قوله تعالى :﴿ أعلم من يضل ﴾ لمجيئه على خلاف المعهود الشائع من اقتران معمول اسم التفضيل بالباء كقوله تعالى في مثل هذه الآية في سورة القلم ﴿ إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ﴾ ( الأنعام ١١٧ ) فكان أبعد إعرابهم له عن التكلف أن الباء حذفت منه اكتفاء باقترانها بمقابلة المتصل به وهو قوله :﴿ أعلم بالمهتدين ﴾ ومخالفة المعهود في أساليب اللغة لا يكاد يقع في كلام بلغاء أهلها إلا لنكتة يقصدونها به وكلام رب البلغاء ومنطقهم باللغات أولى بذلك. والنكت منها لفظي كالاختصار والتفنن في الأسلوب ومنها معنوي وهو أعلى. وقد يكون من نكت مخالفة المعهود الكثير تنبيه الذهن للتأمل كمن يريد إيقاف سالك الطريق في مكان منه لفائدة له في الوقوف كما أرى الله تعالى نبيه موسى النار في الشجرة بجانب الطور فحمل أهله على المكث فيه لما علمنا من حكمة ذلك. وقد بينا هذا النوع من النكت من قبل وجعلنا منه عطف المرفوع على المنصوب في قوله تعالى :﴿ إن الذين آمنوا والذين هادوا والصائبون ﴾ ( المائدة ٦٩ } أي وكذا الصائبون أو الصائبون كذلك، خص هؤلاء بإخراجهم عن نسق من قبلهم في الإعراب لأن الناس لم يكونوا يعرفون أنهم بقايا أهل كتاب١ وقد يكون حذف الباء في قوله :﴿ إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله ﴾ للتنبيه إلى التأمل والتفكر في كون الله تعالى أعلم بأحوالهم لأنها هي المقصودة هنا بالذات بدليل سابق الكلام ولاحقه إذ هو فيهم، وما ذكر العلم بالمهتدين إلا لأجل التكملة والمقابلة ولذلك عطف على ما قبله عطف جملة لا عطف مفرد، فتأمل. ولو جازت الإضافة هنا نحو : أفضل من حج واعتمر، لكان الكلام احتباكا تقديره هو أعلم من يضل ومن يهتدي وهو أعلم بالضالين وبالمهتدين، فحذف من كل من المتقابلين ما أثبت نظيره في الآخر، وليس المانع من جواز الإضافة هنا كون صلة ( من ) فعلا مضارعا لا ماضيا كالمثال الذي أوردناه ونظائره، بل المانع هو أن المضاف في مثل هذا الكلام من جنس المضاف إليه وهو ممتنع في الآية لأنه تعالى لا جنس له ولو اقترن الموصول هنا بالجار فقيل هو أعلم ممن يضل عن سبيله لجزمنا بالاحتباك.
١ يراجع تحقيق هذا البحث في تفسيره آية ٥/ ٧٢ من جزء التفسير السادس..
هذه الآيات سياق جديد في بيان ضلال جميع الأمم في عهد بعثة خاتم الرسل عليه الصلاة والسلام، وغلبة الشرك عليهم في أثر بيان ضلال مشركي العرب ومن على شاكلتهم في عقائدهم وإقامة حجج الإسلام عليهم ووصل ذلك ببيان مسألة اعتقادية عملية من أكبر أصول الشرك وهي مسالة الذبائح لغير الله تعالى.
بعد أن بين تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم أن أكثر أهل الأرض يضلون من أطاعهم لأنهم ضالون خراصون وأنه أعلم بالضالين والمهتدين، رتب على ذلك أمر اتباع هذا الرسول بمخالفة الضالين من قومهم وغير قومهم في مسألة الذبائح وبترك جميع الآثام فقال ﴿ فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ ﴾ أي إذا كان أمر أكثر الناس على ما بينته لكم فكلوا مما ذكر اسم الله عليه من الذبائح دون غيره وهو ما يصرح به بعد آيتين من السياق إن كنتم بآياته التي جاءتكم بالهدى والعلم مؤمنين وبما يخالفها من ضلال الشرك والكفر وجهل أهله مكذبين، وحكمة الاهتمام بهذه المسألة وقرنها بمسائل العقائد هو أن مشركي العرب وغيرهم من أهل الملل جعلوا الذبائح من أمور العبادات، بل نظموها في سلك أصول الدين والاعتقادات فصاروا يتعبدون بذبح الذبائح لآلهتهم ومن قدسوا من رجال دينهم، ويهلون لهم بها عند ذبحها كما يأتي وهذا شرك بالله لأنه عبادة توجه إلى غيره سواء أسمي ذلك الغير إلها أو معبودا أم لا ؟
وقد غفل عن هذا بعض كبار المفسرين فلم يهتد إليه بذكائه وعلمه ولم يروه عن غيره، فاستشكل هو ومن تبعه المسألة، وقالوا إن المشركين لم يكونوا يحرمون ما ذكر اسم الله عليه ولا يمتنعون من أكله ولكنهم كانوا يأكلون الميتة أيضا فكيف نازعهم في المتفق عليه وسكت عن المختلف فيه ؟ وأجابوا عن السؤال باحتمال أنهم كانوا يحرمون المذكاة وبجوار أن يكون المراد ذكر اسم الله عليه الاقتصار على المذكى دون غيره فيكون بمعنى تحريم الميتة، وكلا الوجهين باطل ولا محل له هنا كما علمت، وقد بينا من قبل أن سبب غفلة أذكياء المفسرين عن أمثال هذه المسائل اقتصارهم في أخذ التفسير على الروايات المأثورة ومدلول الألفاظ في اللغة أو في عرف الفقهاء والأصوليين والمتكلمين الذي حدث بعد نزول القرآن بزمن طويل، ولا يغني شيء من ذلك عن الاستعانة على فهم الآيات الواردة في شؤون البشر بمعرفة الملل والنحل وتاريخ أهلها وما كانوا عليه في عصر التنزيل.
وقد كان من أثر تقصير المفسرين وعلماء الأحكام في أهم ما يتوقف عليه فهم المراد من أمثال هذه الآيات أن وقع كثير من المسلمين فيما كان عليه أولئك الضالون من مشركي العرب وغيرهم حتى الذبح لبعض الصالحين وتسييب السوائب لهم كجعل البدوي المشهور أمره في أرياف مصر، ولما سرت هذه الضلالة إلى المسلمين ذكر الفقهاء حكمها ومتى تكون كفرا كما سيأتي. وجملة القول إن مسألة الذبائح من مسائل العبادات التي كان يتقرب بها إلى الله تعالى ثم صاروا في عهد الوثنية يتقربون بها إلى غيره وذلك شرك غير صريح وهذا هو الوجه لذكرها في هذه السورة بين مسائل الكفر والإيمان والشرك والتوحيد.
هذه الآيات سياق جديد في بيان ضلال جميع الأمم في عهد بعثة خاتم الرسل عليه الصلاة والسلام، وغلبة الشرك عليهم في أثر بيان ضلال مشركي العرب ومن على شاكلتهم في عقائدهم وإقامة حجج الإسلام عليهم ووصل ذلك ببيان مسألة اعتقادية عملية من أكبر أصول الشرك وهي مسالة الذبائح لغير الله تعالى.
﴿ وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ ﴾ تقول العرب ما لك أن لا تفعل كذا وهو من موجز الكلام بالحذف والتقدير. وتقدير الكلام هنا وأي شيء ثبت لكم من الفائدة في ترك الأكل مما ذكر اسم الله عليه ؟ وكلمة " في " تحذف قبل أنْ وأنَّ قياسا. وقيل إن معنى الجملة : وأي شيء يمنعكم أن تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه ؟ وإن هذا معروف في كلامهم والتقدير الأول أظهر وأبعد عن التكلف. والاستفهام هنا للإنكار أي لا فائدة لكم البتة في عدم الأكل مما ذكر اسم الله وحده عليه دون ما أهل به لغيره كما يفعله المشركون من قومكم.
﴿ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ ﴾ أي والحال أنه فصل لكم ما حرم عليكم وبينه بقوله الآتي في هذه السورة :﴿ قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير ﴾ فإنه رجس ﴿ أو فسقا أهل لغير الله به ﴾ ( الأنعام ١٤٥ } أي ذكر اسم غيره عليه عند ذبحه كأسماء الأصنام أو الأنبياء والصالحين الذين وضعت الأصنام والتماثيل ذكرى لهم. والتفصيل والتبيين واحد فهو فصل بعض الأشياء وإبانتها من بعض آخر يتصل بها اتصالا حسيا أو معنويا كالأمور التي يشتبه بعضها ببعض حتى تعد كأنها شيء واحد في الجنس إذا أزلت ما به الاشتباه بينها بما يمتاز به بعضها عن بعض وجعلتها أنواعا تكون قد فصلت كل نوع من الجنس وأبنته من الآخر وتكرير الفصل هو التفصيل.
وقوله ﴿ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ ﴾ استثناء مما حرمه فمتى وقعت الضرورة بأن لم يوجد من الطعام عند شدة الجوع إلا المحرم زال التحريم وهذه قاعدة عامة في يسر الشريعة الإسلامية والضرورة تقدر بقدرها فيباح للمضطر ما تزول به الضرورة ويتقي الهلاك، وقد تقدم ذلك في تفسير آية التحريم المفصلة في أوائل سورة المائدة. ولعل بعض المؤمنين كانوا يأكلون مما يذبح المشركون على النصب ويهلون به لغير الله قبل نزول هذه الآيات بل مثل هذا من الأمور المعتادة التي لا يتركها أكثر الناس إلا بعد التصريح بتحريمها عليهم، وإنما يفطن لقبحها خواص أهل البصيرة فيتنزهون عنها قبل أن تحرم عليهم، ولذلك بينت بما ترى من الإسهاب والإطناب.
قرأ أهل الكوفة غير حفص " فصل " بفتح الفاء و " حرم " بضم الحاء، وقرأ أهل المدينة وحفص ويعقوب وسهل الفعلين بفتح أولهما وقرأهما الباقون بضم أولهما، ولا فرق بين هذه القراءات في المعنى وإنما هي توسعة في اللفظ.
﴿ وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ قرأ الجمهور يضلون ( بضم الياء ) وقرأه ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب بفتح الياء والأولى أبلغ وفائدة القراءتين بيان وقوع الأمرين بالإيجاز العجيب، والمعنى أن من الثابت القطعي أن كثيرا من الناس يضلون غيرهم كما ضلوا في مثل أكل ما أهل به لغير الله بذكر اسم ذلك الغير من نبي أو صالح أو وثن وضع لتعظيمه والتذكير به، كما أن كثيرا منهم يضل في ذلك من تلقاء نفسه أو بإضلال غيره ولا يتصدى لإضلال أحد فيه للعجز عن الإضلال أو لفقد الداعية، وكل من ذلك الضلال والإضلال واقع بأهواء أهله لا بعلم مقتبس من الوحي ولا مستنبط بحجج العقل.
ومهب هذه الأهواء ما كان سبب الوثنية وأصلها وهو أنه كان في القوم الذين أرسل الله إليهم نبيه نوحا عليه السلام رجال صالحون على دين الفطرة القديم فلما ماتوا وضعوا لهم أنصابا تمثلهم ليتذكروهم بها ويقتدوا بهم ثم صاروا يكرمونها لأجلهم ثم جاء من بعدهم أناس جهلوا حكمة وضعهم لها وإنما حفظوا عنهم تعظيمها وتكريمها والتبرك بها تدينا وتوسلا إلى الله تعالى، فكان ذلك عبادة لها، وتسلسل في الأمم بعدهم، فعلى هذا الأصل الذي بنيت عليه الوثنية كما في البخاري عن ابن عباس يبني المضلون مشبهاتهم على جميع أنواع العابدة التي عبدوا بها غير الله تعالى كالتوسل به ودعائه وطلب الشفاعة منه وذبح القرابين باسمه والطواف حول تمثاله أو قبره والتمسح بأركانهما وكل ذلك شرك في العبادة شبهته تعظيم المقربين من الله تعالى للتقرب بهم إليه وغير ذلك.
وقد راجت هذه الشبهات الوثنية في أهل الكتب الإلهية بالأهواء الجهلية، وأولوا لأجلها النصوص القطعية وأجاز بعض منتحلي العلم الديني منهم لأنفسهم وأتباعهم من ذلك ما يعدونه كفرا وشركا من غيرهم إما بإنكار تسميته عبادة أو بدعوى أن العبادة التي يتوجه بها إلى غير الله تعالى لأجل جعله واسطة ووسيلة إليه لا تعد شركا به وما الشرك في العبادة إلا هذا، ولو وجهت العبادة إلى هؤلاء الوسطاء لذواتهم طلبا للنفع أو دفع الضرر منهم أنفسهم وهذا واقع أيضا لكانت توحيدا لعبادة هؤلاء لا إشراكا لهم مع الله عز وجل ﴿ وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ﴾ ( البينة ٥ ) والمخلص لله من خلصت عبادته من التوجه إلى غيره معه والحنيف من كان مائلا عن غيره إليه، فما كل من يؤمن بالله موحد له ﴿ وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ﴾ ( يوسف ١٠٧ } وتقدم توضيح هذه المعاني مرارا.
﴿ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ ﴾ هذا التذبيل التفات عن خطاب المؤمنين كافة إلى خطاب الرسول خاصة، أي إن ربك الذي بين هذه الهداية على لسانك هو أعلم منك ومن سائر خلقه بالمعتدين الذين يتجاوزون ما أحله لهم إلى ما حرمه عليهم أو يتجاوزون حد الضرورة عند وقوعها اتباعا لأهوائهم. وتقدم تفصيل القول في الاعتداء العام والخاص في تفسير قوله من سورة المائدة ﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ﴾ ( المائدة ٩٠ ) وهذا الإخبار يتضمن الإنذار والوعيد أي فهو يجازيهم على اعتدائهم.
وقد استنبط بعضهم من الآية تحريم القول في الدين بمجرد التقليد وعصبية المذاهب لأن ذلك من اتباع الأهواء بغير علم إذ المقلد غير عالم بما قلد فيه وذلك بديهي في العقل ومتفق عليه في النقل. قال الرازي : دلت هذه الآية على أن القول في الدين بمجرد التقليد قول بمحض الهوى والشهوة والآية دلت على أن ذلك حرام.
هذه الآيات سياق جديد في بيان ضلال جميع الأمم في عهد بعثة خاتم الرسل عليه الصلاة والسلام، وغلبة الشرك عليهم في أثر بيان ضلال مشركي العرب ومن على شاكلتهم في عقائدهم وإقامة حجج الإسلام عليهم ووصل ذلك ببيان مسألة اعتقادية عملية من أكبر أصول الشرك وهي مسالة الذبائح لغير الله تعالى.
﴿ وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ ﴾ الإثم في اللغة القبيح الضار وفي الشرع كل ما حرمه الله تعالى وهو لم يحرم على العباد إلا ما كان ضارا بالأفراد في أنفسهم أو أموالهم أو عقولهم أو أعراضهم أو دينهم أو ضارا بالجماعات في مصالحهم السياسة أو الاجتماعية والظاهر منه ما فعل علنا والباطن ما فعل سرا، أو الظاهر ما ظهر قبحه أو ضرره للعامة وإن فعل سرا والباطن ما يخفي ذلك فيه إلا عن بعض الخاصة وإن فعل جهرا أو الظاهر ما تعلق بأعمال الجوارح والباطن ما تعلق بأعمال القلوب كالنيات والكبر والحسد والتفكير في تدبير المكايد الضارة والشرور ويجوز الجمع بين هذه الوجوه. ومما يقتضيه السياق مما يدخل في عموم باطن الإثم على بعض الوجوه ما أهل به لغير الله فهو مما يخفى على غير العلماء بحقيقة التوحيد، ومنه الاعتداء في أكل المحرم الذي يباح للمضطر بأن يتجاوز فيه حد الضرورة وقيل الحاجة وذلك قوله تعالى :﴿ فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم ﴾ ( المائدة ٣ } وهذه جملة من جوامع الكلام والأصول الكلية في تحريم الآثام حتى قال ابن الأنباري : إن المراد بهذا التعبير ترك الإثم من جميع جهاته أي جميع أنواع الظهور والبطون فيه. وقد خص بعض المفسرين الظاهر بزنا السفاح الذي يكون في المواخير والباطن باتخاذ الأخدان والصديقات في السر، وكانوا في الجاهلية يستبيحون زنا السر، ويستقبحون السفاح بالجهر، وخص بعضهم الظاهر بنكاح الأمهات والأخوات وأزواج الآباء والباطن بالزنا، والتخصيص بغير مخصص باطل.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ ﴾ تقدم معنى لفظ الاقتراف في تفسير الآية الثالثة من هذا الجزء ومعنى الجملة : إن الذين يكتسبون جنس الإثم سواء أكان ظاهرا أم باطنا سيلقون جزاء إثمهم بقدر ما كانوا يبالغون في إفساد فطرتهم وتدسية أنفسهم بالإصرار عليه ومعاودته المرة بعد المرة كما يدل عليه فعل الكون وصيغة المضارع الدالة على الاستمرار، وأما الذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون، فأولئك يتوب الله عليهم ويمحو تأثير الإثم من قلوبهم بالحسنات المضادة لها ﴿ إن الحسنات يذهبن السيئات ﴾ ( هود ١١٤ ) فتعود أنفسهم زكية طاهرة، وتلقى ربها سليمة بارة.
هذه الآيات سياق جديد في بيان ضلال جميع الأمم في عهد بعثة خاتم الرسل عليه الصلاة والسلام، وغلبة الشرك عليهم في أثر بيان ضلال مشركي العرب ومن على شاكلتهم في عقائدهم وإقامة حجج الإسلام عليهم ووصل ذلك ببيان مسألة اعتقادية عملية من أكبر أصول الشرك وهي مسالة الذبائح لغير الله تعالى.
﴿ وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ ﴾ أمر الله تعالى بالأكل مما ذكر اسمه عليه في مقام بيان ضلال المشركين وإضلالهم بأكل ما ذكر اسم غيره عليه ثم صرح بالمفهوم المراد من ذلك الأمر، ولم يكتف بدلالة السياق على القصر لشدة العناية بهذا الأمر الذي هو من أظهر أعمال الشرك، أي ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه من الذبائح عند تزكيته والحال أنه لفسق أهل به لغيره كما قال في آية المحرمات ﴿ أو فسقا أهل لغير الله به ﴾ ( الأنعام ١٤٥ } فالآية لا تدل على تحريم كل ما لم يذكر اسم الله عليه من الذبائح فضلا عن غيرها من الأطعمة خلافا لمن قال بهذا وذاك لأنها خاصة بتلك القرابين الدينية وأمثالها بقرينة السياق كما تقدم شرحه وبدليل تقييد النهي بالجملة الحالية كما حققه السعد التفتازاني ويؤيده قوله :
﴿ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ﴾ أي وإن شياطين الإنس والجن الذين يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ليوحون إلى أوليائهم بالوسوسة والتلقين الخادع الخفي ما يجادلونكم به من الشبهات في هذه المسألة وإن أطعتموهم فيها فجاريتموهم في هذه العبادة الوثنية الباطلة إنكم لمشركون مثلهم وإن كان لأجل التسول بذلك الغير إليه ليقرب المتوسل إليه زلفى ويشفع له عنده كما يفعل أهل الوثنية. ومن المعلوم أن أولياء الشياطين لم يجادلوا أحدا من المؤمنين فيما لم يذكر اسم الله ولا اسم غيره عليه من الذبائح المعتادة التي لا يقصد بها العبادة وأن من يأكل هذه الذبائح لا يكون مشركا وكذلك من يأكل الميتة لا يكون مشركا بل يكون عاصيا إن لم يكن مضطرا وإن كان قد وقع الجدال في هذه.
قال ابن جرير : اختلف أهل التأويل في المعنى بقوله :﴿ وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ﴾ فقال بعضهم : عني بذلك شياطين فارس ومن على دينهم من المجوس ( إلى أوليائهم ) من مردة مشركي قريش يوحون إليهم زخرف القول ليصل إلى نبي الله وأصحابه في أكل الميتة. وروى بسنده عن عكرمة في تحريم الميتة قال أوحت فارس إلى أوليائها من قريش أن خاصموا محمدا وقولوا له إن ما ذبحت فهو حلال وما ذبح الله فهو حرام ؟ وفي رواية عنه كتبت فارس إلى مشركي قريش أن محمدا وأصحابه يزعمون أنهم يتبعون أمر الله فما ذبح الله بسكين من ذهب فلا يأكله محمد وأصحابه وأما ما ذبحوا هم فيأكلون. وذكر أنه وقع في أنفس ناس من المسلمين من ذلك شيء فنزلت الآية في ذلك.
ثم ذكر عن بعض آخر أنهم أولوا الآية بوسوسة شياطين الجن لمشركي قريش ما قالوه للمسلمين في روايات أخرى كرواية ابن عباس أنهم قالوا لهم ما قتل ربكم فلا تأكلونه ؟ وما قتلتم أنتم تأكلونه ؟ فأنزل الله الآية في ذلك أي في أثناء السورة ورجح ابن جرير شمول الآية للقولين في وحي الشياطين لأن هذا من فروع قوله تعالى قبله :﴿ شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ﴾ ثم ذكر خلافهم في المحرم بهذه الآية المراد بما لم يذكر اسم الله عليه فروي عن ابن جريح أنه قال قلت لعطاء ما قوله :﴿ فكلوا مما ذكر اسم الله عليه ﴾ قال يأمر بذكر اسم الله عليه قال ينهى عن ذبائح كانت في الجاهلية على الأوثان. ثم ذكر روايات أخرى ورجح شمول الآية لما ذبح للأصنام والآلهة وما مات أو ذبحه من لا تحل ذبيحته من المشركين دون المسلمين وأهل الكتاب قال وذبائح أهل الكتاب ذكية سموا عليها أم لم يسموا لأنهم أهل توحيد وأصحاب كتب لله يدينون بأحكامها يذبحون الذبائح بأديانهم كما يذبح المسلم بدينه سمى الله على ذبيحته أم لم يسمه إلا أن يكون من ترك تسمية الله على ذبيحته على الدينونة بالتعطيل أو بعبادة شيء سوى الله فيحرم حينئذ أكل ذبيحته ا ه ملخصا.
وقال الرازي في المسألة الأولى من مسائل الآية " نقل عن عطاء أنه قال كل ما لم يذكر اسم الله عليه من طعام وشراب فهو حرام تمسكا بعموم هذه الآية. وأما سائر الفقهاء فإنهم أجمعوا على تخصيص هذا العموم بالذبح. ثم اختلفوا فقال مالك كل ما ذبح ولم يذكر عليه اسم الله فهو حرام سواء ترك ذلك الذكر عمدا أو نسيانا وهو قول ابن سيرين وطائفة من المتكلمين. وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى : إن ترك الذكر عمدا حرم وإن ترك نسيانا حل وقال الشافعي رحمه الله تعالى يحل متروك التسمية سواء كان عمدا أو خطأ إذا كان الذابح أهلا للذبح، وقد ذكرنا هذه المسألة على الاستقصاء في تفسير قوله :﴿ إلا ما ذكيتم ﴾ فلا فائدة في الإعادة.
قال الشافعي رحمه الله : هذا النهي مخصوص بما إذا ذبح على اسم النصب ويدل عليه وجوه أحدهما : قوله تعالى :﴿ وإنه لفسق ﴾ وأجمع المسلمون على أنه لا يفسق آكل ذبيحة المسلم الذي ترك التسمية وثانيها : قوله تعالى :﴿ وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم ﴾ وهذه المناظرة إنما كانت في مسألة الميتة. روي أن ناسا من المشركين قالوا للمسلمين ما يقتله الصقر والكلب تأكلونه وما يقتله الله فلا تأكلونه. وعن ابن عباس أنهم قالوا تأكلون ما تقتلونه ولا تأكلون ما يقتله الله، فهذه المناظرة مخصوصة بأكل الميتة وثالثها : قوله تعالى :﴿ وإن أطعمتموهم إنكم لمشركون ﴾ وهذا مخصوص بما ذبح على النصب يعني لو رضيتم بهذه الذبيحة التي ذبحت على اسم إلهية الأوثان فقد رضيتم بإلهيتها وذلك يوجب الشرك.
" قال الشافعي رحمه الله تعالى : فأول هذه الآية وإن كان عاما بحسب هذه الصيغة إلا أن آخرها لما حصلت فيه هذه القيود الثلاثة علمنا أن المراد من ذلك العموم هو هذا الخصوص ومما يؤكد هذا المعنى أنه تعالى قال :﴿ ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق ﴾ فقد صار هذا النهي مخصوصا بما إذا كان هذا الأكل فسقا ثم طلبنا في كتاب الله تعالى أنه متى يصير فسقا فرأينا هذا الفسق مفسرا في آية أخرى وهو قوله تعالى :﴿ قل لا أجد فيما أوحي إلى محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به ﴾ ( الأنعام ١٤٥ ) فصار الفسق في هذه الآية مفسرا بما أهل به لغير الله وإذا كان كذلك كان قوله :﴿ ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق ﴾ مخصوصا بما أهل به لغير الله. ا ه.
وقد سبق البحث فيما أهل به لغير الله وفي الذبائح والتسمية عليها في تفسير آية المائدة فتراجع في الجزء السادس من التفسير.
وقد عد بعض الفقهاء مما يذبح لغير الله ويتناوله التحريم ما ذبح عند قدوم السلطان أو غيره من كبراء الدنيا تكريما له إذا ذكر اسمه عليه عند ذبحه والتحقيق في هذا المقام أن كل ما يذبح بباعث ديني فهو عبادة والعبادة لا تكون ألا لله تعالى فلا يذكر غير اسمه عليه. وما كان لأجل التكريم بالمبالغة في الضيافة فلا يدخل في هذا الباب. ولا يذكر المسلم اسم السلطان أو غيره من الضيوف المكرمين عند الذبح كما يذكر اسم الله تعالى أو كما يهل من يذبحون للأصنام أو للأنبياء والصالحين بأسمائهم عند الذبح وإنما يذكره من يذكره لبيان أن هذا لأجل ضيافته. وقد ذكر هذه المسألة صاحب ( الروضة الندية بشرح الدرر البهية } وبين وجه الخلاف فيها وجاء في سياق الكلام بفوائد تتعلق بالمقام فقال :
" وأما الذبح للسلطان وهل هو داخل في عموم ما أهل به لغير الله أم لا فقد أجاب الماتن١ رحمه الله في بحث له على ذلك بما لفظه : اعلم أن الأصل الحل كما صرحت به العمومات القرآنية والحديثية فلا يحكم بتحريم فرد من الأفراد أو نوع من الأنواع إلا بدليل ينقل ذلك الأصل المعلوم من الشريعة المطهرة مثل تحريم ما ذبح على النصب والميتة والمتردية والنطيحة والموقوذة وما أهل به لغير الله ولحم الخنزير وكل شيء خرج من ذلك الأصل بدليل من الكتاب أو السنة المطهرة كتحريم كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير وتحريم الحمر الإنسية. وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن أصول التحريم الكتاب والسنة والإجماع والقياس أو وقوع الأمر بالقتل أو النهي عنه أو الاستخباث أو التحريم على أمم السالفة إذا لم ينسخ فلابد للقائل بتحريم فرد من الأفراد أو نوع من الأنواع من اندراجه تحت أصل من هذه الأصول فإن تعذر عليه ذلك فليس له أن يتقول على الله ما لم يقل، فإن من حرم ما أحل الله كمن حلل ما حرم الله لا فرق بينهما، وفي ذلك من الإثم ما لا يخفى على عارف، ولا شك أن البراءة الأصلية بمجردها كافية على ما هو الحق، فكيف إذا انضم إليها من العمومات مثل قوله تعالى :﴿ قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما ﴾ ( الأنعام ١٤٥ ) الآية وقوله :﴿ أحل لكم الطيبات ﴾ ( المائدة ٤ ) وقوله ﴿ والطيبات من الرزق ﴾ ( الأعراف ٣٢ ) وقوله :﴿ كلوا من طيبات ما رزقناكم ﴾ ( البقرة ٥٧ ) وقوله :﴿ هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ﴾ ( البقرة ٢٩ ) وقوله :﴿ ويحل لهم الطيبات ﴾ ( الأعراف ١٥٧ ).
" والحاصل أن الواجب وقف التحريم على المنصوص على حرمته والتحليل على ما عداه وقد صرح بذلك حديث سلمان عند الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" الحلال ما أحل الله في كتابه والحرام ما حرم الله في كتابه وما سكت عنه فهو مما عفا عنه " ٢ وأخرج أبو داود عن ابن عباس موقوفا : كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء تقذرا فبعث الله تعالى نبيه وأنزل كتابه فأحل حلاله وحرم حرامه، فما أحل فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عفو، وتلا ﴿ قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما ﴾. وأخرج الترمذي وأبو داود من حديث قبيسة ابن هلب قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد قال له رجل : إن من الطعام طعاما أتحرج منه فقال :" ضارعت النصرانية لا يختلجن في نفسك شيء " ٣.
" إذا تقرر هذا فمسألة السؤال أعني ما ذبح من الأنعام لقدوم السلطان والاستدلال على تحريم ذلك بقوله تعالى :﴿ وما أهل به لغير الله ﴾ فاسد فإن الإهلال رفع الصوت للصنم ونحوه وذلك قول أهل الجاهلية : باسم اللات والعزى. كذا قال الزمخشري في الكشاف والذابح عند قدوم السلطان لا يقول عند ذبحه " باسم السلطان " ولو فرض وقوع ذلك كان محرما بلا نزاع لكنه يقول باسم الله وقد استدل على ذلك بما رواه أحمد ومسلم والنسائي من حديث أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول :" لعن الله من ذبح لغير الله " ٤ الحديث وليس ذلك الاستدلال بصحيح، فإن الذبح لغير الله كما بينه شراح هذا الحديث من العلماء أن يذبح باسم غير الله كمن ذبح للصنم أو للصليب أو لموسى أو لعيسى أو للكعبة أو نحو ذلك فكل هذا حرام، ولا تحل هذه الذبيحة سواء كان الذابح مسلما أو يهوديا أو نصرانيا، كما نص على ذلك الشافعي وأصحابه. قال النووي في شرح مسلم فإن قصد الذابح مع ذلك تعظيم المذبوح له وكان غير الله تعالى والعبادة له كان ذلك كفرا، فإن كان الذابح مسلما قبل ذلك صار بالذبح مرتدا ا ه.
" وهذا إذا كان الذبح باسم أمر من تلك الأمور لا إذا كان لله وقصد به الإكرام لمن يجوز إكرامه فإنه لا وجه لتحريم الذبيحة ههنا كما سلف. وذكر الشيخ إبراهيم المروذي من أصحاب الشافعي أن ما يذبح عند استقبال السلطان تقربا إليه أفتى أهل بخاري بتحريمه لأنه مما أهل لغير الله وقال الرافعي : هذا إنما يذبحونه استبشارا بقدومه فهو كذبح العقيقة لولادة مولود ومثل هذا لا يوجب التحريم ا ه.
١ هو الإمام الشوكاني صاحب الدرر البهية..
٢ أخرجه الترمذي في اللباس باب ٦ وابن ماجه في الأطعمة باب ٦٠..
٣ أخرجه أبو داود في الأطعمة باب ٢٣ و أحمد في المسند ٥/ ٢٢٦..
٤ أخرجه مسلم في الأضاحي حديث ٤٣- ٤٥ والنسائي في الضحايا باب ٣٤ و أحمد في المسند ١/ ١٠٨- ١١٨- ١٥٢- ٢١٧- ٣٠٩- ٣٠٧..
فلما بين تعالى ما ذكر ضرب له مثلا يتبين به الفرق بين المؤمنين المهتدين للاقتداء بهم، والكافرين الضالين للتنفير من طاعتهم والحذر من غوايتهم وبيان أن سببه ما زين للكافرين من أعمالهم فلم يميزوا بين النور والظلمات، وسنة الله في مكر أكابر المجرمين السيئات، فقال :﴿ أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ﴾.
وجه اتصال هاتين الآيتين بما قبلهما أنه جاء في الآيات التي قبلها أن أكثر أهل الأرض ضالون متبعون الظن والخرص وأن كثيرا منهم يضلون غيرهم بأهوائهم بغير علم، وأن الشياطين المتمردين العاتين عن أمر ربهم يوحون إلى أوليائهم ما يجادلون به المؤمنين ليضلوهم ويحملوهم على اقتراف الآثام التي نهت تلك الآيات عن ظاهرها وباطنها بل ليحملوهم على الشر أيضا بالذبح لغير الله تعالى والتوسل به إليه وذلك عبادة له معه
﴿ أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ﴾ قرأ جمهور القراء ميتا بسكون الياء ونافع ويعقوب بتشديدها والتشديد أصل التخفيف الذي حذفت فيه الياء الثانية المنقلبة عن الواو في التشديد، والاستفهام للإنكار، وهمزة الاستفهام داخلة على جملة محذوفة للعلم بها من السياق ﴿ وهو من لطائف الإيجاز ﴾ عطف عليها قوله :﴿ ومن كان ميتا ﴾ والتقدير أأنتم أيها المؤمنون كأولئك الشياطين أو كأوليائهم الذين يجادلونكم بما أوحوه إليهم من زخرف القول الذي غروهم به، ومن كان ميتا بالكفر والجهل فأحييناه بالإيمان وجعلنا له نورا يمشي به في الناس وهو نور القرآن وما فيه من العلم الإلهي والهداية بالآيات إلى العلم النظري، كمن مثله أي صفته ونعته الذي يمثل حاله هو أنه خابط في ظلمات الجهل والتقليد الأعمى وفساد الفطرة ليس بخارج منها لأنها قد أحاطت به وألفتها نفسه فلم يعد يشعر بالحاجة إلى الخروج منها إلى النور بل ربما يشعر بالتألم منه فهو بإزاء النور المعنوي كالخفاش بإزاء النور الحسي. هذا التقدير للجملة الاستفهامية المحذوفة هو الذي ارتضاه بعض المدققين في العربية.
ويمكن أن يقدر ما هو أقرب منه إلى المعنى الذي يصل الآية بما قبلها مباشرة وهو قوله تعالى :﴿ وإن أطعتموهم أنكم لمشركون ﴾ ( الأنعام ١٢١ ) بأن يقال عن تقدير الكلام : إطاعة هؤلاء المتبعين لوحي الشياطين، كطاعة وحي الله تعالى وهو النور المبين، ومن كان ميتا بالكفر والشرك فأحييناه بالإيمان، وكان متسكعا في ظلمات الجهل والغباوة وتقليد أهل الضلال فجعلنا له نورا من آيات القرآن المؤيدة بالحجة والبرهان، يمشي به في الناس على بصيرة من أمره في دينه وآدابه ومعاملاته للناس، كمن مثله المبين لحقيقة حاله كمثل السائر في ظلمات بعضها فوق بعض ظلمة الليل وظلمة السحاب وظلمة المطر ؟ وفسر بعضهم النور بالدين والإسلام والمصداق واحد، والعبرة في هذا المثل أن يطالب المسلم نفسه بأن يكون حيا عالما على بصيرة في دينه وأعماله وحسن سيرته في الناس، وقدوة لهم في الفضائل والخيرات، وحجة على فضل دينه على جميع الأديان، وعلو آدابه على جميع الآداب.
هذا المثل عام يشمل كل من ينطبق عليه في زمن التنزيل وغيره وعليه عامة أهل التفسير. وروي أنه نزل في رجلين بأعيانهما والمراد والله أعلم أنه نزل في ضمن السورة صادقا عليهما ظاهرا فيهما أتم الظهور، فإن السورة نزلت جملة واحدة كما تقدم ومن استثنى منها بعض آيات لم يذكروا هذه الآية منها وإلا لكان شموله من باب قاعدة : العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، على أنهم اختلفوا في الرجلين، واختلافهما يرجح ما قلناه من إرادة صدق المثل عليهما فروي عن ابن عباس وزيد بن أسلم والضحاك أن الأول صاحب النور عمر بن الخطاب ( رض ) وعن عكرمة أن الأول عمار بن ياسر كذا في كتب التفسير بالمأثور وذكر الرازي قولين آخرين عزا أحدهما إلى ابن عباس وهو أن الأول حمزة ( رض ) عم النبي صلى الله عليه وسلم والثاني أنه النبي صلى الله عليه وسلم نفسه وعزاه إلى مقاتل، وهذا أضعف الأقوال وأهواها فإن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقال إنه كان قبل النبوة ميتا وإن ورد في سورة الضحى أنه كان ضالا أي لا يعرف المخرج من الحيرة التي كان فيها من أمر إصلاح الناس وهدايتهم ولا الكتاب ولا الإيمان التفصيلي الذي أوحى إليه بعد ذلك.
وقد اتفق أصحاب هذه الأقوال على أن الرجل الثاني في المثل هو أبو جهل لعنه الله تعالى. قال الرازي في الرواية الأولى إن أبا جهل رمى النبي صلى الله عليه وسلم بفرث " وهو ما في الكرش " وحمزة يومئذ لم يؤمن فأخبر بذلك عند قدومه من صيد له والقوس بيده فعمد إلى أبي جهل وتوخاه بالقوس وجعل يضرب رأسه فقال أبو جهل : أما ترى ما جاء به ؟ سفه عقولنا وسب آلهتنا. فقال حمزة أنتم أسفه الناس تعبدون الحجارة من دون الله. أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله. وقال في الثانية إن أبا جهل قال : زاحمنا بنو عبد مناف بالشرف حتى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا : منا نبي يوحي إليه، والله لا نؤمن به إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه. وقصة إلقاء فرث الجزور على النبي صلى الله عليه وسلم وهو ساجد مشهور، وكذا قول أبي جهل في بني عبد مناف ولم يكن شيء متهما سببا لنزول هذه الآية.
﴿ كذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ أي مثل هذا التزيين الذي تضمنه المثل في الجملة السابقة وهو تزيين نور الهدى والدين لمن أحياه الله تلك الحياة المعنوية العالية، وتزيين ظلمات الضلال والكفر لموتى القلوب، قد زين للكافرين ما كانوا يعملونه من الآثام كعداوة النبي صلى الله عليه وسلم وذبح القرابين لغير الله تعالى وتحريم ما لم يحرمه وإحلال من ما حرمه عليهم بمثل تلك الشبهات التي تقدم شرحها في تفسير الآيات السابقة. وقد بني فعل التزيين هنا للمفعول لأن المشبه به حسن وقبيح فالأول تزيين عمل المؤمن للمؤمن والثاني تزيين عمل الكافر للكافر، وإنما لم يذكر في المشبه إلا النوع الثاني لأن السياق له وإنما ذكر الأول في المثل المشار إليه في التشبيه لبيان قبح الضد بمقابلته بحسن ضده، والذي يزين للكافرين أعمالهم القبيحة هو الشيطان بوسوسته كما قال في خطابه للباري تعالى :﴿ لأزينن لهم في الأرض ﴾ ( الحجر ٣٩ ) وسائر شياطين الإنس والجن كما تقدم في تفسير الآية ١١١ وإن كان كل ما يجري في الكون يسند إلى الله تعالى باعتبار الخلق والتقدير وإقامته نظام الكون بسنن ارتباط الأسباب بالمسببات وتقدم إسناد تزيين الأعمال إلى الشيطان في الآية ٤٣ من هذه السورة. وقد حققنا في تفسير قوله تعالى :﴿ زين للناس حب الشهوات ﴾ ( آل عمران ١٣ ) ما يسند من التزيين إلى الله تعالى وما يسند منه إلى الشيطان وما يبني فعله للمجهول بالشواهد من الآيات الكثيرة الواردة في ذلك. فليراجع في الجزء الثالث من التفسير ومنه يعلم ضعف استدلال بعض المفسرين والمتكلمين بالآية على مذاهبهم.
فلما بين تعالى ما ذكر ضرب له مثلا يتبين به الفرق بين المؤمنين المهتدين للاقتداء بهم، والكافرين الضالين للتنفير من طاعتهم والحذر من غوايتهم وبيان أن سببه ما زين للكافرين من أعمالهم فلم يميزوا بين النور والظلمات، وسنة الله في مكر أكابر المجرمين السيئات، فقال :﴿ أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ﴾.
وجه اتصال هاتين الآيتين بما قبلهما أنه جاء في الآيات التي قبلها أن أكثر أهل الأرض ضالون متبعون الظن والخرص وأن كثيرا منهم يضلون غيرهم بأهوائهم بغير علم، وأن الشياطين المتمردين العاتين عن أمر ربهم يوحون إلى أوليائهم ما يجادلون به المؤمنين ليضلوهم ويحملوهم على اقتراف الآثام التي نهت تلك الآيات عن ظاهرها وباطنها بل ليحملوهم على الشر أيضا بالذبح لغير الله تعالى والتوسل به إليه وذلك عبادة له معه
﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا ﴾ اختلف في وجه التشبيه هنا فاستنبطه بعضهم من قرينة الحال التي نزلت فيها السورة وهي بيان حال أهل مكة في كفرهم وعداوتهم للنبي صلى الله عليه وسلم بإغراء أكبارهم المستكبرين، وتقديره : وكما جعلنا في مكة أكابر مجرميها ليمكروا فيها جعلنا في كل قرية من قرى الأمم أكابر مجرميها ليمكروا فيها فليس هؤلاء الأكابر ببدع من الأكابر المجرمين، بل ذلك شأن الأكابر المترفين المتكبرين في كل أمة، واستنبطه بعضهم من عبارة الآية التي قبل هذه الآية فجعل القرينة له لفظية فقال في التقدير : وكما زين للكافرين ما كانوا يعملون كذلك جعلنا في كل قرية الخ وجمع بعضهم بين القرينتين اللفظية والحالية المعنوية فعلى هذا يكون التقدير هكذا : وكما أن أعمال أهل مكة مزينة لهم جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها فزين لهم بحسب سنتنا في البشر سوء أعمالهم في عداوة الرسل ومقاومة الإصلاح اتباعا للهوى واستكبارا في الأرض.
ولفظ أكابر جمع أكبر، وفسره مجاهد وقتادة بالعظماء أي الرؤساء إشارة إلى أنه جمع كبير، قال ابن جرير ولو قيل هو جمع كبير فجمع أكابر لكان صوابا. واستدل بما سمع عن العرب من قولهم الأكابرة والأصاغرة والأكابر والأصاغر بغير الهاء قال : وكذلك تفعل العرب بما جاء من النعوت على أفعل إذا أخرجوها إلى الأسماء مثل جمعهم الأحمر والأسود الأحامر والأحامرة والأساود والأساودة ومنه قول الشاعر :
إن الأحامرة الثلاثة أهلكت***مالي وكنت بهن قديما مولعا١
وذكر البيت الثاني الذي بين الشاعر في الأحامرة وهي اللجم والخمر والزعفران من الطيب وقد اختلفوا في روايته وهو للأعشى.
والمجرمون أصحاب الجرم أو فاعلو الإجرام وهو ما فيه الفساد والضرر من الأعمال، والقرية البلد الجامع للناس ويستعمل في التنزيل بمعنى العاصمة في عرف هذا العصر أي المدينة الجامعة التي يقيم فيها زعماء الشعب وأولو أمره : وكذا بمعنى الشعب أو الأمة ويعبر عنها أهل هذا العصر بالبلد فيقولون : ثروة البلد ومصلحة البلد أي الأمة والمعاهدات بين البلدين تقتضي كذا أي بين الأمتين أو الدولتين. " وجعلنا " متعدية لمفعول واحد عند بعضهم ولمفعولين عند الأكثرين واختلفوا في إعرابها فلخص البيضاوي أشهر الأقوال بقوله : أي كما جعلنا في مكة أكابر مجرميها ليمكروا فيها جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها وجعلنا بمعنى صيرنا ومفعولاه " أكابر مجرميها " على تقديم المفعول الثاني أو في كل قرية أكابر مجرميها بدل، ويجوز أن يكون مضافا إليه إن فسر الجعل بالتمكين وافعل التفضيل إذا أضيف جاز فيه الإفراد والمطابقة ولذلك قرئ ( أي في الشواذ ) " أكبر مجرميها " ا ه ورجح الرازي أن المعنى : جعلنا في كل قرية مجرميها أكابر.
والمكر صرف المرء غيره عما يريده إلى غيره بضرب من الحيلة من الفعل أو الخلابة في القول والأكثر فيه أن يكون الصرف عن الحق إلى الباطل وعن الخير إلى الشر لأن الحق والخير قلما يحتاج إلى إخفاءهما. بالحيلة والخلابة.
ونقول في العبرة بالآية بما يناسب حال هذا العصر إن سنة الله تعالى في الاجتماع البشري قد مضت بأن يكون في كل عاصمة لشعب أو أمة أو كل قرية وبلدة بعث فيها رسول أو مطلقا رؤساء وزعماء مجرمون يمكرون فيها بالرسل، أو بأن يكون أكابرها المجرمون ماكرين فيها بالرسل في عهدهم وبسائر المصلحين من بعدهم. وكذلك شأن أكثر أكابر الأمم والشعوب ولا سيما في الأزمنة التي تكثر فيها المطامع ويعظم حب الرياسة والكبرياء : يمكرون بالناس من أفراد أمتهم وجماعتها ليحفظوا رياستهم ويعززوا كبرياءهم ويثمروا مطامعهم فيها، ويمكر الرؤساء والساسة منهم بغيرهم من الأمم والدول لإرضاء مطامع أمتهم وتعزيز نفوذ حكومتهم في تلك الأمم والدول. وقد عظم هذا المكر في هذا العصر فصار قطب رحى السياسة في الدول، وعظم الإفك بعظمه لأنه أعظم أركانه، وقد كتبنا مقالا في بيان ذلك وشرح علله وأسبابه عنوانه ( دولة الكلام المبطلة الظالمة ) نشر في الجزء الخامس من مجلد المنار الحادي والعشرين فليراجعه من شاء.
وهذا العموم في الآية صحيح واقع يعرفه أهل البصيرة والعلم بشؤون الاجتماع والعمران، ولا تظهر صحة العموم في القرى والأكابر جميعا بجعل الأكابر المجرمين ماكرين في جميع القرى، أو بجعل جميع المجرمين فيها أكابر أهلها بحيث يكون الإجرام هو سبب كونهم أكابرها، بل قد يتحقق بكون أكثر الأكابر الزعماء مجرمين ماكرين ولا سيما في القرى التي استحقت الهلاك بحسب سنة الاجتماع المبينة في قوله تعالى في سورة الإسراء :﴿ وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا ﴾ ( الإسراء ٦٦ ) ولا سيما على القول الراجح بأن معناه أمرنا مترفيها بما نرسل به الرسل من التوحيد وعبادة الله وحده وما يلزمه حتما من الصلاح والإصلاح والعدل ففسقوا عن أمر ربهم وظلموا وأفسدوا فحق عليها القول الذي أوحاه الله إلى الرسل بمثل قوله :﴿ فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ﴾ فدمرناها تدميرا وكذا على القول بأن معنى ﴿ أمرنا مترفيها ﴾ كثرانهم لأن كثرتهم وقلة الصالحين المتقين لا تتحقق عادة إلا إذا كان جمهور الأكابر منهم.
وقد راجعنا بعد كتابة ما تقدم تفسير الحافظ ابن كثير فألفيناه قد استشهد بآية الإسراء في تفسير الآية التي نحن بصدد تفسيرها وقال : قيل معناه أمرناهم بالطاعة فخالفوا فدمرناهم وقيل أمرناهم أمرا قدريا كما قال هنا " ليمكروا فيها " وقوله تعالى :﴿ أكابر مجرميها ليمكروا فيها ﴾ قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال : سلطنا شرارهم فعصوا فيها فإذا فعلوا ذلك أهلكناهم. ا ه والمراد بالأمر القدري ويعبر عنه بعضهم بأمر التكوين ما اقتضته سنة الله تعالى في نظام الخلق وتكوينه كما قال :﴿ إنا كل شيء خلقناه بقدر ﴾ ( القمر ٤٩ ) أي بنظام مقدر لا أنفا، وبحكمة بالغة لا جزافا، ثم نعود إلى بحث العموم في الآية فنقول : لو كانت العبارة نصا في أن جميع أكابر كل قرية مجرمون ماكرون لوجب جعلها من باب العموم المراد به الخصوص، بأن يراد بالأكابر المجرمين من يقاومون دعوة الإصلاح ويعادون المصلحين من الرسل وورثتهم لينطبق على الواقع، وإلا فإن أكابر أهل مكة لم يكونوا كلهم ماكرين بالنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وإنما كان أكثرهم كذلك.
وعلل المفسرون تخصيص أكابر بأنهم أقدر على المكر واستتباع الناس، ومن قال منهم بأن المعنى جعلنا مجرميها أكابر ينبغي له أن يجعل اللام في قوله :" ليمكروا " لام العاقبة فإن المجرمين إذا صاروا أكابر بلد وزعماءه لا يمكنهم أن يحافظوا على مكانتهم فيه إلا بالمكر والخداع فيصير أمرهم إليهما.
﴿ وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ﴾ هذا بيان حقيقة أخرى من طبائع الاجتماع الإنساني متممة لما قبلها وهي تتضمن الوعي لأكابر مجرمي مكة الماكرين والوعد والتسلية للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وذلك بالإيجاز الذي يستنبطه الأذكياء من أمثال هذه القواعد العامة وسيصرح به في الآيات التالية. أي وما يمكر أولئك الأكابر المجرمون الذين يعادون الرسل في عصرهم ودعاة الإصلاح من ورثتهم بعدهم إلا بأنفسهم وكذا سائر من يعادون الحق والعدل والصلاح لبقاء ما هم عليه من الفسق والفساد لأن عاقبة هذا المكر السيئ تحيق بهم في الدنيا والآخرة، أما في الآخرة فالأمر ظاهر والنصوص واضحة، وأما في الدنيا فيما ثبت في الآيات من نصر المرسلين وهلاك الكافرين المعاندين لهم ومن علو الحق على الباطل ودمغه له، ومن هلاك القرى الظالمة المفسدة وبما أيد ذلك من الاختيار حتى صار من قواعد علم الاجتماع أن تنازع البقاء ينتهي ببقاء الأمثل والأصلح وفاقا للمثل الذي ضربه الله تعالى للحق والباطل ﴿ فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ﴾ ( الرعد ١٧ ).
ومن النصوص الصريحة فيه بمعنى الآية قوله تعالى في مجرمي مكة ﴿ وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم. فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا استكبارا في الأرض ومكر السيئ ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله فهل ينظرون إلا سنة الأولين ؟ فلن تجد لسنة الله تبديلا، ولن تجد لسنة الله تحويلا ﴾ ( فاطر ٤٢- ٤٣ } وهذا نص فيما انفردنا بفهمه من أن هذه الآيات بيان لسنن الله تعالى في الاجتماع البشري وقوله تعالى في رهط قوم صالح المفسدين، وهو ما أشار إليه هنا من سنة الأولين ﴿ ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين ﴾ ( النمل ٥٢- ٥٣ } فالذين كانوا يمكرون السيئات لمقاومة إصلاح الرسل حرصا على رياستهم وفسقهم وفسادهم، لم يكونوا يشعرون بأن عاقبة مكرهم تحيق بهم لجهلهم بسنن الله تعالى في خلقه وهم جديرون بهذا الجهل.
وأما أكابر المجرمين في هذا العصر فهم لا يعذرون بالجهل بعد هذا الإرشاد ولكن هؤلاء قلما يقاومون بمكرهم إصلاحا يرضي الله تعالى كإصلاح الرسل وورثتهم لأنه لا يكاد يوجد فيقاوموه، ومن هذا القليل مكر أكابر الاتحاديين العثمانيين، لإزالة ما كان في الدولة من بقايا الشرع وفي الأمة من بقايا الدين وسوء عاقبتهم دليل على ذلك وهو حجة على المتعصبين لهم، وعلى المشتبهين في أمرهم. وإنما يمكر أكثر زعماء الأمم اليوم بأمثالهم من المعارضين لهم من أمتهم في الأمور الداخلية ومن خصومها في السياسة الخارجية والمطامع الأجنبية، فمكرهم في الغالب باطل يصادم باطلا، وإن كان بعضه يسمى حقا عرفيا أو سياسيا، فإن وجد بعض هذا الصدام حق صحيح ووجد من يؤيده وينصره فلا بد أن تكون العاقبة له، وتحقيق معنى الحق والباطل دقيق جدا، وقد حررنا فيه مقالا خاصا عنوانه ( الحق والباطل والقوة ) بينا في حقيقته وأنواعه كالحق في الفلسفة والنظريات العقلية، والحق في الوجود وسنن الكون، والحق في السنن الاجتماعية، والحق في القوانين والمواضعات العرفية، والحق في الدين والشريعة الإلهية. وبينا بالدليل الواضح أن الحق الصحيح يغلب الباطل في كل شيء ومعنى وعد الله بنصر المؤمنين وصدقه بشرطه، وحال المسلمين في هذا العصر مع الأمم الغالبة لهم. وقد نشرنا هذا المقال في المجلد التاسع من المنار ( ص ٥٢ ٦٥ ).
١ البيت من الكامل وهو للأعشى في لسان العرب (حمر) ومقاييس اللغة ٢/ ١٠١ وأساس اللغة (حمر) وليس ديوانه وبلا نسبة في تهذيب اللغة ٥/ ٩٥ والمخصص ١٣/ ٢٢٤..
الآية الأولى من هذه الآيات معطوفة هي وما في حيزها على آخر أمثالها من طوائف الآيات التي تصف أحوال المشركين وعقائدهم وأعمالهم ومقاومتهم للإسلام وصدهم عنه وعن الرسول الداعي إليه مبدوءا أولها بالحكاية عنهم بضمير الغيبة، ثم قد يتخللها آيات بضمير الخطاب على طريقة الالتفات، ويتضمن بعضها ما يتضمن من الحقائق في الإيمان وسنن الاجتماع وطبائع الأمم، وأقرب هذه الطوائف الآيات المبدوءة بضمير الغيبة في الحكاية عنهم الآية التي افتتح بها هذا الجزء ( الثامن ) وهي قوله تعالى :﴿ ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ﴾ ( الأنعام ١١١ } وهي إبطال لما حكاه عنهم بقوله :﴿ وأقسموا بالله جهد إيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمن بها ﴾ ( الأنعام ١٠٩ } إلى آخر الآيتين اللتين ختم بهما الجزء السابق ( السابع ).
وقد تضمنت هذه الطائفة من الآيات ـ من أول الجزء إلى هناـ احتجاجا على المشركين في آية القرآن وكونها أقوى حجة على الرسالة من جميع آيات الرسل وحقائق في طباع البشر وشؤون الكفار في جميع الأمم، وإثبات ضلال أكثر أهل الأرض وتخصيص مسألة الذبائح لغير الله من ضلالهم بالذكر لأنها من أكبرها، ووحي الشياطين لأوليائهم في المجادلة فيها، وتلا ذلك ضرب المثل للمؤمنين والكافرين، وبيان قاعدة الاجتماع البشري في الأمم الضالة بمكر زعمائها المجرمين وهذه القاعدة تنطبق أتم الانطباق على جمهرة أكابر مكة وبذلك يكون التناسب والاتصال بين هذه الآيات وبين ما قبلها من وجهين وجه عام يتعلق بالأسلوب في الطوائف الكثيرة من آيات كل سياق، ووجه خاص يتعلق ببيان كون مجرمي مكة الماكرين المبين حالهم في الآية الأولى ليسوا إلا بعض أفراد العام في الآية التي قبلها، وهو المقصود أولا بالذات من الاعتبار بتلك القاعدة ويليها بيان سنة الله في المستعدين للإيمان والهدى وغير المستعدين مع ظهور الحق في نفسه وهو صراط الرب وجزاء سالكه عند الله تعالى.
قال عز وجل :﴿ وَإِذَا جَاءتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ ﴾ أي وإذا جاءت أولئك المشركين الذين ﴿ أقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها ﴾ آيةٌ بينة من القرآن تتضمن حجة عقلية ظاهرة الدلالة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به عن ربه من التوحيد والهدى قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله إلى الأمم قبلنا. قال هذا أكابرهم المجرمون، ورؤساؤهم الماكرون، وتبعهم عليه الغوغاء المقلدون. قال ابن جرير فيه : يعنون حتى يعطيهم الله من المعجزات مثل الذي أعطى موسى من فلق البحر وعيسى من إحياء الموتى وإبراء الأكمة والأبرص، وقال ابن كثير أي حتى تأتينا الملائكة من الله بالرسالة كما تأتي إلى الرسل كقوله جل وعلا :﴿ وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا ﴾ ( الفرقان ٢١ ) الآية.
فالقول الأول معناه أنهم لا يؤمنون بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم إلا إذا أوتوا على يديه من الآيات الكونية التي يؤيده الله بها مثل ما أوتي أولئك الرسل عليهم السلام. ومعنى القول الآخر أنهم لا يكونون مؤمنين بالرسالة مطلقا إلا إذا صاروا رسلا يوحى إليهم، وهذا أقرب إلى قوله تعالى في الرد عليهم ﴿ اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ﴾، وإن كان كل من المعنيين صحيحا واقعا.
قرأ " رسالته " ( بالإفراد ) ابن كثير وحفص عن عاصم وقرأها الباقون ( رسالاته ) ( بالجمع ) أي رسالاته إلى رسله. وهذه الجملة من كلام الله تعالى رد عليهم وبيان لجهالتهم ينتظره السامع والقارئ بعد حكاية ما تقدم من قولهم، والوقف قبله تام لأنه آخر قولهم المحكي عنهم.
قال الحافظ ابن كثير : أي هو أعلم حيث يضع رسالته ومن يصلح لها من خلقه كقوله تعالى :﴿ وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم أهم يقسمون رحمة ربك ؟ ﴾ ( الزخرف ٣١- ٣٢ ) الآية يعنون لولا نزل هذا القرآن على رجل عظيم كبير جليل مبجل في أعينهم من القريتين، أي مكة والطائف وذلك أنهم قبحهم الله كانوا يزدرون الرسول صلوات الله وسلامه عليه بغيا وحسدا وعنادا واستكبارا، كقوله تعالى مخبرا عنه ﴿ وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي يذكر آلهتكم وهم بذكر الرحمن هم كافرون ﴾ ( الأنبياء ٣٦ ) وقال تعالى :﴿ وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا ﴾ ( الفرقان ٤١ ) وزاد ابن كثير أنهم كانوا مع ذلك معترفين بفضله وشرفه ونسبه وطهارة بيته ومرباه ومنشئه صلى الله وملائكته والمؤمنون عليه، وأنهم كانوا يسمونه الأمين، واستشهد على ذلك بشهادة أبي سفيان لهرقل بصدقه والثناء عليه يوم كان أشد أولئك الأكابر مجاهرة بعداوته ومكرا به، كأنه يعني أن ما يعلمون من فضائله الذاتية والنسبية والبيتية ينبغي أن يكون مقنعا لهم بأنه أولى من جميع أولئك الأكابر الحاسدين له بالرسالة، وكل كرامة صحيحة من الحكم العدل العليم الخبير، ولكن حسد الأكابر وبغيهم وتقليد من دونهم لهم بتأثير مكرهم، قد كانا هما الباعثين لهم على تلك الأقوال فيه، والأفعال في عداوته ومعاندته.
وقوله تعالى :﴿ الله أعلم حيث يجعل رسالته ﴾ حجة لأهل الحق على أن الرسالة فضل من الله تعالى يختص به من يشاء من خلقه لا ينالها أحد بكسب ولا يتوسل إليها بسبب ولا نسب، وعلى أنه تعالى لا يختص بهذه الرحمة العظيمة، والمنقبة الكريمة، إلا من كان أهلا لها بما أهله هو من سلامة الفطرة وعلو الهمة وزكاء النفس، وطهارة القلب، وحب الخير والحق. وكان أذكياء العرب في الجاهلية على شركهم بالله تعالى يعلمون أن الصادقين محبي الحق وفاعلي الخير من الفضلاء أهل لكرامته تعالى وعنايته كما يؤخذ من استنباط أم المؤمنين خديجة في حديث أم المؤمنين عائشة في بدء الوحي فإنه صلى الله عليه وسلم لما قال لخديجة رضوان الله عليها ﴿ لقد خشيت على نفسي ﴾ قالت له : كلا فوالله لا يخزيك الله أبدا : إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق١ هذا لفظ مسلم.
وذكر الرازي أن في قوله تعالى :﴿ الله أعلم حيث يجعل رسالته ﴾ تنبيها على دقيقة حقيقة بالذكر { وهي أن أقل ما لابد منه في حصول النبوة والرسالة البراءة من المكر والغدر والغل والحسد، وقولهم " " لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله " عين المكر والغدر والحسد فكيف يعقل حصول النبوة والرسالة مع هذه الصفات ا ه وذكر ( الرازي ) قبل ذلك أن هذه الآية نزلت في قول الوليد بن المغيرة : والله لو كانت النبوة حقا لكنت أنا أحق بها من محمد فإني أكثر منه مالا وولدا، ومن المعهود أن يصل الغرور ببعض المغرورين بالمال والقوة على اعتقاد مثل هذا وانتحاله لأنفسهم وإن كانت الرواية في كون هذا القول كان سببا للنزول لم تصح. وقيل في سبب نزول غيرها كما أنه عهد منهم أن يقولوا مثل هذا القول كبرا وعنادا يكابرون بهما أنفسهم، وخداعا وغرورا يغشون بهما غيرهم، ولا يهتدي لمثل استنباط خديجة ( رض ) إلا الأفراد من الفضلاء المنصفين. وقد سبق في غير موضع من تفسير هذه السورة تحقيق القول في طلب المشركين للآيات الكونية وفي كبريائهم وحسدهم وغرورهم وكونها هي العلل الحقيقية لكفرهم وجحودهم.
بعد أن رد الله تعالى على أولئك المستكبرين المغرورين ما تضمنه قولهم من دعوى الاستعداد لمنصب الرسالة يخطر في بال القارئ ما يسائل به نفسه عن جزائهم، فقال تعالى في بيان ذلك :﴿ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ ﴾. هذا الوعيد صريح في كون قائلي ذلك القول :﴿ لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله ﴾ من المجرمين الماكرين الذين مضت سنة الله تعالى أن يكونوا أكابر وزعماء في كل قرية دب فيها الفساد، وكان أهلها مقاومين للإصلاح. وفيما ذهبنا إليه من عود مكرهم عليهم بعقاب الله تعالى إياهم في الآخرة باضطراد، وفي الدنيا حيث يمكرون بالرسل ويصدون عما جاءوا به أو ما يقرب مما جاءوا به من الإصلاح، وقد قصر الحافظ ابن كثير في اقتصاره على ذكر عقابهم في الآخرة.
الصغار كالصغر ( بالتحريك ) في الأمور المعنوية كالصغر ( بوزن العنب ) في الأشياء الحسية كما قال الراغب وقد فسروه بالذلة والهوان، جزاء على الكبر والطغيان وفسر الراغب الصاغر بالراضي بالمنزلة الدنية وهو أقرب إلى الصواب والتحقيق في تفسير ﴿ حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ﴾ ( التوبة ٢٩ ) أن المراد بالصغار خضوعهم لأحكامنا. ونقل ابن جرير عن بعض أهل التفسير المأثور أن إعطاءهم إياها هو الصغار، أي لأنه طاعة وخضوع لغيرهم، وهناك قولان آخران لهم : أحدهما : ما رواه عن الضحاك أن معناه أن تأخذها وأنت جالس وهو قائم. وثانيهما : أن يمشوا بها وينقلوها إلى العامل. وليس هذا ولا ذاك بمعنى الصغار في اللغة وإنما أراد قائلوهما أنه يتحقق بهما ولم يريدوا أن اللفظ يدل عليه بوضعه اللغوي.
ومعنى كون هذا الصغار يصيبهم عند الله أنه يحصل لهم في الآخرة إذ كل ما فيها يطلق عليه أنه عند الله باعتبار أنه ليس لأحد من الخلق هنالك تصرف ما ولا تأثير، لا كالدنيا التي صرف الله فيها الناس أنواعا من التصرف. أو معناه أنه مما اقتضاه حكمه وعدله وسبق به تقديره، فإن ما هو ثابت عند الله في حكمه القدري التكويني الذي دبر به نظام الخلق وما ثبت في حكمه الشرعي التكليفي الذي أقام به العدل والحق، يطلق على كل منهما أنه عنده. قال تعالى في أهل الإفك ﴿ فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون ﴾ ( النور ١٣ } ثم قال فيه ﴿ وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم ﴾ ( النور ١٥ ) وعلى القول الثاني يصح أن يحصل هذا الجزاء لهم بالصغار على استكبارهم عن الحق في الدار الدنيا قبل الآخرة. وعلى القول الأول يتعين أن يكون في الآخرة، وحينئذ يكون المراد بالعذاب الشديد ما يصيبهم في الدنيا أو في الدنيا والآخرة جميعا.
قال تعالى :﴿ كذب الذين من قبلهم فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون فأذاقهم الله الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون ﴾ ( الزمر ٢٥- ٢٦ ) وقال في عاد قوم هود بعد ما ذكر من استكبارهم وجحودهم ﴿ فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون ﴾ ( فصلت ١٥ ) وعذاب الأمم في الدنيا بذنوبها مطرد ولا يطرد عذاب الأفراد وإن كانوا من المجرمين الماكرين، ولكن أكابر مجرمي مكة الذين تصدوا لإيذاء النبي صلى الله عليه وسلم والكيد له قد عذبوا في الدنيا كالخمسة المستهزئين الذين قيل إن السياق السابق في طلب الآيات الذي يعد هذا السياق تابعا له نزل فيهم لأنهم رؤساء المجرمين ( راجع آخر ج ٧ وأول ج ٨ ) وقتل منهم في بدر كما هو معروف في السيرة النبوية.
١ أخرجه البخاري في بدء الوحي باب ٣ والكفالة باب ٤ ومناقب الأنصار باب ٤٥ وتفسير سورة ٦ باب ١ والتعبير باب ١ ومسلم في الإيمان حديث ٢٥٢ واحمد في المسند ٦/ ٢٢٣- ٢٣٣..
الآية الأولى من هذه الآيات معطوفة هي وما في حيزها على آخر أمثالها من طوائف الآيات التي تصف أحوال المشركين وعقائدهم وأعمالهم ومقاومتهم للإسلام وصدهم عنه وعن الرسول الداعي إليه مبدوءا أولها بالحكاية عنهم بضمير الغيبة، ثم قد يتخللها آيات بضمير الخطاب على طريقة الالتفات، ويتضمن بعضها ما يتضمن من الحقائق في الإيمان وسنن الاجتماع وطبائع الأمم، وأقرب هذه الطوائف الآيات المبدوءة بضمير الغيبة في الحكاية عنهم الآية التي افتتح بها هذا الجزء ( الثامن ) وهي قوله تعالى :﴿ ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ﴾ ( الأنعام ١١١ } وهي إبطال لما حكاه عنهم بقوله :﴿ وأقسموا بالله جهد إيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمن بها ﴾ ( الأنعام ١٠٩ } إلى آخر الآيتين اللتين ختم بهما الجزء السابق ( السابع ).
وقد تضمنت هذه الطائفة من الآيات ـ من أول الجزء إلى هناـ احتجاجا على المشركين في آية القرآن وكونها أقوى حجة على الرسالة من جميع آيات الرسل وحقائق في طباع البشر وشؤون الكفار في جميع الأمم، وإثبات ضلال أكثر أهل الأرض وتخصيص مسألة الذبائح لغير الله من ضلالهم بالذكر لأنها من أكبرها، ووحي الشياطين لأوليائهم في المجادلة فيها، وتلا ذلك ضرب المثل للمؤمنين والكافرين، وبيان قاعدة الاجتماع البشري في الأمم الضالة بمكر زعمائها المجرمين وهذه القاعدة تنطبق أتم الانطباق على جمهرة أكابر مكة وبذلك يكون التناسب والاتصال بين هذه الآيات وبين ما قبلها من وجهين وجه عام يتعلق بالأسلوب في الطوائف الكثيرة من آيات كل سياق، ووجه خاص يتعلق ببيان كون مجرمي مكة الماكرين المبين حالهم في الآية الأولى ليسوا إلا بعض أفراد العام في الآية التي قبلها، وهو المقصود أولا بالذات من الاعتبار بتلك القاعدة ويليها بيان سنة الله في المستعدين للإيمان والهدى وغير المستعدين مع ظهور الحق في نفسه وهو صراط الرب وجزاء سالكه عند الله تعالى.
وإذ قد بين تعالى عاقبة المجرمين الماكرين الذين حرموا الاستعداد للإسلام بعد بيان حالهم قفى عليه بالمقابلة بينهم وبين المستعدين له، ثم ببيان ظهور هدايته، واستقامة محجته وبجزاء المهتدين به على حسب سنته في كتابه فقال :
﴿ فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ ﴾ هذا وصف لحال المستعد لهداية الإسلام بسلامة فطرته وطهارة نفسه من الخلقين الصادين عن إجابة دعوة الحق وهما الكبرياء والحسد وبتحليها أي نفسه بالهاديين إلى الحق والرشاد وهما استقلال الفكر الصاد عن تقليد الآباء والأجداد، وقوة الإرادة الصارفة عن اتباع الرؤساء أو مجاراة الأنداد، فمن كان كذلك كان أهلا بإرادة الله تعالى وتقديره لقبول دعوة الإسلام الذي هو دين الفطرة ومهذبها، فإذا ألقيت إليه وجد لها في صدره انشراحا واتساعا بما يشعر به قلبه من السرور وداعية القبول، وذلك أنه لا يجد مانعا من النظر الصحيح فيما ألقي إليه فيتأمله فتظهر له آيته، وتتضح له دلالته فتتوجه إليه إرادته ويذعن له قلبه فتتبعه جوارحه، وهذا هو النور الذي يفيض عليه من القرآن أو الذي يسير فيه باتباعه له، فهذه الآية مقابلة لآية المثل الذي ضربه الله تعالى في هذا السياق للمؤمنين والكافرين وما العهد بها ببعيد، وفي معناها قوله تعالى :﴿ أفمن شرح الله صدره للسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين ﴾ ( الزمر ٢٢ ).
﴿ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء ﴾ قرأ ابن كثير ضيقا بتخفيف الياء والباقون بتشديدها فهو كميت وميت وهين وهين ولين ولين. وقرأ نافع وأبو بكر عن عاصم " حرجا " بكسر الراء على الصفة المشبهة والباقون بفتحها على الوصف بالمصدر، فهو كذنف ودنف، وقرأ ابن كثير ( يصعد ) بسكون الصاد مضارع صعد الثلاثي ( كفرح يفرح ) وأبو بكر عن عاصم يصاعد بالألف وتشديد الصاد وأصله يتصاعد أي يحاول الصعود المرة بعد المرة، والباقون ( يصعد ) بتشديد الصاد والعين وأصله يتصعد أي يتكلف الصعود ويحاول منه ما لا يستطيع.
وهذا وصف للكافر غير المستعد لقبول الإسلام بما أفسد من فطرته بالشرك وأعماله وبما تدنست به نفسه من رذيلتي الكبر والحسد اللذين يصرفان المدنس بهما عن التأمل فيما يدعى إليه والحرص على استبانة الحق والباطل فيه، ويشغلانه بما يكون من شأنه مع الداعي له إلى الشيء، فيعز على المستكبر والحاسد أن يكون تابعا لغيره، وهو يرى نفسه أجدر بالإمامة منها بالقدوة، أو بما سلبه استقلال الفكر وصحة النظر من التقليد الأعمى الأصم، أو ما حرمه حرية التصرف وهو ضعف الإرادة عن مخالفة الجمهور، فهو إذا عرضت عليه الدعوة يجد صدره ضيقا حرجا أو ذا حرج شديد، وهو تأكيد للضيق لأنه بمعناه وقيل بل هو أضيق الضيق، وجعله الراغب وغيره مشتقا من الحرجة التي هي الشجر الكثير الملتف بعضه ببعض بحيث لا يتسع للزيادة.
وروي أن عمر سأل أعرابيا من مدلج عن الحرجة فقال هي الشجرة تكون بين الأشجار لا تصل إليها راعية ولا وحشية. فقال عمر كذلك قلب المنافق لا يصل إليه شيء من الخير. ذكره الحافظ ابن كثير. وفي لسان العرب عن الفراء قال : الحرج فيما فسر ابن عباس هو الموضع الكثير الشجر الذي لا تصل إليه الراعية، قال وكذلك صدر الكافر لا تصل إليه الحكمة ا ه وهذا يتفق مع ما قبله فإن الحرج بالتحريك جمع حرجة وهي الشجر المذكور. وأطلق كل منهما على المكان ذي الشجر الكثير الملتف. والمعنى أنه يجد صدره شديد الضيق لا يتسع لقبول شيء جديد مناف لما استحوذ على قلبه وفكره من التقاليد أو لما يزلزل كبرياءه ويصادم حسده من الخضوع والاتباع لمن يرى نفسه أولى منه بالرياسة والإمامة فيكون استثقاله لإجابة الدعوة وشعوره بالعجز عنها كشعوره بالعجز عن الصعود بجسمه في جو السماء لأجل الوصول إليها أو التصاعد فيها بالتدريج أو التصعد أي التكلف له وصعود السماء يضرب به المثل فيما لا يستطاع أو ما يشق على النفس حتى كأنه غير مستطاع. وروي عن مجاهد والسدي تفسير الضيق الحرج بالشاك، وعن عطاء الخراساني بما ليس فيه للخير منفذ، وعن سعيد بن جبير قال : لا يجد فيه مسلكا ولا مصعدا.
﴿ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ أي مثل جعل الصدر ضيقا حرجا بالإسلام وعلى هذا النحو في سنة الله فيه وتقديره له بما ذكرنا من أسبابه يجعل الله الرجس على الذين يعرضون عن الإيمان، فيظهر في أعمالهم وتصرفاتهم، ولا سيما مع أهل الدعوة فيكون معظمها قبيحا سيئا في ذاته أو فيما بعث عليه من قصد ونية، فإن الرجس يطلق في اللغة على كل ما يسوء أو يستقذر حسا أو عقلا وعرفا. وقد أطلنا في شرح معناه في تفسير آية الخمر من سورة المائدة ( ٥ : ٩٣ ) فهو يفسر في كل كلام بما يناسب المقام، وقد روي عن ابن عباس تفسيره هنا بالشيطان وعن مجاهد بكل ما لا خير فيه، وعن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم بالعذاب، وقال الزجاج هو اللعنة في الدنيا والعذاب في الآخرة وقال تعالى في سورة يونس ﴿ وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون ﴾ ( يونس ١٠٠ ) وكأن الجعل في الآيتين ضمن معنى الإلقاء أي على ذلك النحو في أسباب جعل الصدر ضيقا حرجا بأصل الإسلام يقع الرجس بتقدير الله تعالى على الذين لا يؤمنون بأن يكون لازما لهم، وتلقى تبعته عليهم، لأن الإيمان الذي اجتنبوه هو الذي يصد عنه، ويطهر الأنفس منه، ولأجل هذا لم يقل : كذلك يجعل الله الرجس عليهم، أو على الكافرين.
واعلم أيها القارئ أن هذه الآية كانت معترك أهل الكلام من القدرية الجبرية والمعتزلة والأشعرية، فالقدرية الذين ينكرون أن خلق الخلق وقع بتقدير سابق من الله تعالى ونظام ثابت بسنن حكيمة يقولون : إن الآية ظاهرة في أن الله تعالى إذا أراد هداية امرئ يخلق في صدره انشراحا للإسلام فيكون قبوله له بخلق الله، وهذا الخلق يحصل آنفا أي جديدا غير مرتب على تقدير سابق، والجبري منهم ومن غيرهم يقول : إذا كان الأمر كذلك فإسلام المرء ليس باختياره ولا كسبه بل بفعل الله تعالى وحده، ومن الأشعرية من يقول له فيه كسب ينسب إليه ولكنه مخلوق لله لا تأثير له في نفسه، وحاصل القولين واحد، ويقولون مثل هذا فيمن يريد أن يضله فيخلق له من ضيق الصدر والحرج ما يثبت به على كفره ويمتنع من قبول الإيمان. وللمعتزلة تأويلات في الآية حاولوا فيها تطبيقها على مذهبهم في كون إيمان المرء وكفره من فعله المستقل فجعلها بعضهم خاصة بهداية المؤمن في الآخرة إلى طريق الجنة وضلال الكافر عنه. وبعضهم من قبيل ما يعبرون عنه بمنح الألطاف والتوفيق المسهل لمن أراد الله هدايته أن يهتدي بفعله وكسبه وعدم منح ذلك لمن لا يريد منه ذلك، فيبقى على كفره بإرادته واختياره، وهذا أقرب ما قالوه إلى مذهب أهل السنة.
وإنما وقع حذاق النظار في أمثال هذا الخلاف لاتخاذ مذاهبهم أصولا مسلمة، ومحاولة حمل نصوص كتاب الله تعالى وأخبار رسوله صلى الله عليه وسلم عليها لتصحيحها وإبطال مذاهب خصومهم المخالفة لها، فهم ينظرون في كل آية تتعلق بقواعد هذه المذاهب مفردة على حدتها ولا يعرضونها على سائر الآيات التي في موضوعها ليكونوا مؤمنين وعاملين بالكتاب كله غير جاعليه عضين. ومن استعرض عقله عند تحقيق كل عقيدة أو مسألة مجموع ما ورد فيها يتجلى له الحق وأنه لا مجال للاختلاف في كتاب الله سبحانه :﴿ ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ﴾ ( النساء ٨٢ ) ففي الكتاب أن الله تعالى خلق كل شيء بقدر لا آنفا جديدا غير مرتبط بنظام سابق، وفيه أن كل شيء بإرادته ومشيئته وأن مشيئته مقرونة بحكمته التي اقتضت النظام والتقدير، وتنزه بها عن الأنف والجزاف والتفاوت والخلل وفيه أن إيمان العبد المكلف يقع بفعله واختياره وأن الله تعالى هو الذي خلقه فاعلا بالإرادة والاختيار، وبهذا لا يكون فعله وكسبه منافيا لخلق الله ومشيئته ولا جاعلا له مستقلا دونه تعالى مستغنيا عن توفيقه وإمداده في كل حين حتى يقال إنه جعل خالقا لعمله، فالفرق بين الفعلين عظيم وبهذا الجمع بين نصوص الوحي، تظهر حجة الله البالغة على الخلق.
والتوفيق عناية خاصة من الله تعالى يتفضل بها على بعض عباده وهو أعلم حيث يضع توفيقه كما هو أعلم حيث يجعل رسالته. فيجمع لمن تفضل عليه به بين ما جعله في مقدوره وتناول كسبه وبين ما ليس كذلك مما فيه الخير والمصلحة له، فيتفق له الأمران. والخذلان ضده أو عدمه فهو أمر سلبي ولا يظلم الله العبد المخذول شيئا، وقد يفسر الشيء تفسيرا سلبيا تكون حقيقته إيجابية وتفسيرا إيجابيا تكون حقيقته سلبية.
قال المحقق ابن القيم في بيان مشهد التوفيق والخذلان من كتابه ﴿ مدارج السالكين ) : وقد أجمع العارفون بالله أن التوفيق هو أن لا يكلك الله إلى نفسك، والخذلان هو أن يخلي بينك وبين نفسك ا ه وهذا تعريف بالرسم واضح المعنى فيما قلناه، فمعنى أن لا يكلك إلى نفسك هو أن يمنحك فوق كل ما في قدرتك وما تتوجه إليه إرادتك مما تعلم من الخير لنفسك ما يتوقف عليه النجاح وإصابة الخير مما ليس في مقدورك ولا يصل إليه اجتهادك وحدك وبعض ذلك نفسي وبعضه خارجي، فمعنى التوفيق إيجابي، وقولهم في تفسير الخذلان { أن يكلك إلى نفسك ﴾ معناه أن لا يمنحك شيئا من العناية الخاصة فيما يصل إليك كسبك ولا تسخير ما لا يصل إليه فلا تنال من الخير إلا بقدر قدرتك على ما تعلم تريد من أسبابه. وقدرتك لا تصل إلى كل ما تعلم أن فيه الخير لك، وعلمك غير محيط بما فيه ذلك الخير فأنت تجهل كثيرا، وما أوتيت من العلم إلا قليلا، وكثيرا ما تظن الجهل علما والشر خيرا.
وقد جاء ابن القيم بعد ذلك بتفسير إيجابي فقال : والتوفيق إرادة الله من نفسه أن يفعل بعبده ما يصلح به العبد بأن يجعله قادرا على فعل ما يرضيه مريدا له محبا له، مؤثرا له على غيره، ويبغض إليه ما يسخطه ويكرهه إليه وهذا مجرد فعله والعبد محل له قال الله تعالى :﴿ ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون فضلا من الله ونعمة والله عليم حكيم ﴾ ( الحجرات ٧ ) فهو سبحانه عليم بمن يصلح لهذا الفضل ومن لا يصلح له، حكيم يضعه في مواضعه وعند أهله، لا يمنعه أهله، ولا يضعه عند غير أهله –إلى آخر ما قال وأجاد.

فصل في الرد على الجبرية والقدرية بسنن الله وآياته


قد سبق لنا قول في الرد على الجبرية والقدرية بإثبات سنن الله تعالى في تفسير ﴿ كذلك زينا لكل أمة عملهم ﴾ ( الأنعام ١٠٨ ) ( ج ٧ ) رددنا فيه على الفخر الرازي إمام هذه النزعة وفارس هذه الحلبة، ثم إننا رأيناه قد عاد في تفسير هذه الآية إلى بسط القول في تلك المسألة والرد على المعتزلة فاستحسنا أن ننقل أقوى كلامه ونقفي عليه بقول وجيز فيه قال :
" ولنختم تفسير هذه الآية بما روي عن محمد بن كعب القرظي أنه قال : تذاكرنا في أمر القدرية عند ابن عمر فقال : لعنت القدرية على لسان سبعين نبيا منهم نبينا صلى الله عليه وسلم، فإذا كان يوم القيامة نادى مناد وقد جمع الناس بحيث يسمع الكل : أين خصماء الله فتقوم القدرية. وقد أورد القاضي هذا الحديث في تفسيره
الآية الأولى من هذه الآيات معطوفة هي وما في حيزها على آخر أمثالها من طوائف الآيات التي تصف أحوال المشركين وعقائدهم وأعمالهم ومقاومتهم للإسلام وصدهم عنه وعن الرسول الداعي إليه مبدوءا أولها بالحكاية عنهم بضمير الغيبة، ثم قد يتخللها آيات بضمير الخطاب على طريقة الالتفات، ويتضمن بعضها ما يتضمن من الحقائق في الإيمان وسنن الاجتماع وطبائع الأمم، وأقرب هذه الطوائف الآيات المبدوءة بضمير الغيبة في الحكاية عنهم الآية التي افتتح بها هذا الجزء ( الثامن ) وهي قوله تعالى :﴿ ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ﴾ ( الأنعام ١١١ } وهي إبطال لما حكاه عنهم بقوله :﴿ وأقسموا بالله جهد إيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمن بها ﴾ ( الأنعام ١٠٩ } إلى آخر الآيتين اللتين ختم بهما الجزء السابق ( السابع ).
وقد تضمنت هذه الطائفة من الآيات ـ من أول الجزء إلى هناـ احتجاجا على المشركين في آية القرآن وكونها أقوى حجة على الرسالة من جميع آيات الرسل وحقائق في طباع البشر وشؤون الكفار في جميع الأمم، وإثبات ضلال أكثر أهل الأرض وتخصيص مسألة الذبائح لغير الله من ضلالهم بالذكر لأنها من أكبرها، ووحي الشياطين لأوليائهم في المجادلة فيها، وتلا ذلك ضرب المثل للمؤمنين والكافرين، وبيان قاعدة الاجتماع البشري في الأمم الضالة بمكر زعمائها المجرمين وهذه القاعدة تنطبق أتم الانطباق على جمهرة أكابر مكة وبذلك يكون التناسب والاتصال بين هذه الآيات وبين ما قبلها من وجهين وجه عام يتعلق بالأسلوب في الطوائف الكثيرة من آيات كل سياق، ووجه خاص يتعلق ببيان كون مجرمي مكة الماكرين المبين حالهم في الآية الأولى ليسوا إلا بعض أفراد العام في الآية التي قبلها، وهو المقصود أولا بالذات من الاعتبار بتلك القاعدة ويليها بيان سنة الله في المستعدين للإيمان والهدى وغير المستعدين مع ظهور الحق في نفسه وهو صراط الرب وجزاء سالكه عند الله تعالى.
﴿ وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا ﴾ أي وهذا الإسلام الذي يشرح الله له صدر من يريد هدايته، هو صراط ربك أيها الرسول الذي بعثك به، وبين لك في هذه الآيات أو هذه السورة أصوله وعقائده بالحجج النيرات، والآيات البينات حال كونه مستقيما في نظر العقل الصحيح ومقتضى الفطرة السليمة من فساد الإفراط والتفريط، فلا اعوجاج فيه ولا التواء وإنما هو السبيل السواء ومن عرفه تبين له اعوجاج ما عداه من السبل، التي عليها سائر أهل الملل والنحل.
﴿ قد فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ﴾ أي قد بينا الآيات والحجج المثبتة لحقيته وأصوله الراسخة، ومحاسن فروعه المثمرة النافعة، لقوم يتذكرون ما بلغوه منها، كلما عرضت الحاجة إليه، فيزدادون بها يقينا ورسوخا في الإيمان، ويدرءون ما يورد عليهم من الشبهات والأوهام، كما يزدادون إذعانا وموعظة تبعثهم على الأعمال الصالحة، ولذلك خصوا بالذكر دون غيرهم. وتفسيرنا للمشار إليه بقوله :" وهذا صراط ربك " بالإسلام هو الموافق لقواعد العربية لأنه أقرب مذكور يصح أن يكون هو المراد، وهو المروي عن ابن عباس، ومن خالفه فقد تكلف وتعسف. وقوله " مستقيما " منصوب على الحال والعامل فيها ما في اسم الإشارة أو التنبيه من معنى الفعل.
الآية الأولى من هذه الآيات معطوفة هي وما في حيزها على آخر أمثالها من طوائف الآيات التي تصف أحوال المشركين وعقائدهم وأعمالهم ومقاومتهم للإسلام وصدهم عنه وعن الرسول الداعي إليه مبدوءا أولها بالحكاية عنهم بضمير الغيبة، ثم قد يتخللها آيات بضمير الخطاب على طريقة الالتفات، ويتضمن بعضها ما يتضمن من الحقائق في الإيمان وسنن الاجتماع وطبائع الأمم، وأقرب هذه الطوائف الآيات المبدوءة بضمير الغيبة في الحكاية عنهم الآية التي افتتح بها هذا الجزء ( الثامن ) وهي قوله تعالى :﴿ ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ﴾ ( الأنعام ١١١ } وهي إبطال لما حكاه عنهم بقوله :﴿ وأقسموا بالله جهد إيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمن بها ﴾ ( الأنعام ١٠٩ } إلى آخر الآيتين اللتين ختم بهما الجزء السابق ( السابع ).
وقد تضمنت هذه الطائفة من الآيات ـ من أول الجزء إلى هناـ احتجاجا على المشركين في آية القرآن وكونها أقوى حجة على الرسالة من جميع آيات الرسل وحقائق في طباع البشر وشؤون الكفار في جميع الأمم، وإثبات ضلال أكثر أهل الأرض وتخصيص مسألة الذبائح لغير الله من ضلالهم بالذكر لأنها من أكبرها، ووحي الشياطين لأوليائهم في المجادلة فيها، وتلا ذلك ضرب المثل للمؤمنين والكافرين، وبيان قاعدة الاجتماع البشري في الأمم الضالة بمكر زعمائها المجرمين وهذه القاعدة تنطبق أتم الانطباق على جمهرة أكابر مكة وبذلك يكون التناسب والاتصال بين هذه الآيات وبين ما قبلها من وجهين وجه عام يتعلق بالأسلوب في الطوائف الكثيرة من آيات كل سياق، ووجه خاص يتعلق ببيان كون مجرمي مكة الماكرين المبين حالهم في الآية الأولى ليسوا إلا بعض أفراد العام في الآية التي قبلها، وهو المقصود أولا بالذات من الاعتبار بتلك القاعدة ويليها بيان سنة الله في المستعدين للإيمان والهدى وغير المستعدين مع ظهور الحق في نفسه وهو صراط الرب وجزاء سالكه عند الله تعالى.
﴿ لَهُمْ دَارُ السَّلاَمِ عِندَ رَبِّهِمْ ﴾ أي لهؤلاء القوم المتذكرين السالكين صراط ربهم المستقيم دون غيرهم من متبعي سبل الشياطين دار السلام عند ربهم بسلوكهم صراطه الموصل إليها، وهو ما كانوا يعلمونه كما صرح به في آخر الآية. فهذا بيان جزاء المؤمنين الصالحين، في مقابل ما بين قبله من جزاء المجرمين، بقوله ﴿ سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون ﴾ ( الأنعام ١٢٤ ) ودار السلام هي الجنة دار الجزاء للمؤمنين المتقين أضيفت إلى اسم الله " السلام " كما رواه ابن جرير عن السدي، وعزاه بعض المفسرين إلى الحسن وابن زيد أيضا، وقيل إن السلام مصدر سلم كالسلامة. والإضافة على التفسير الأول للتشريف وكذا للإيذان بسلامة تلك الدار من العيوب، وسلامة أهلها من جميع المنغصات والكروب خلافا لمن زعم أن إفادة هذا المعنى خاصة يجعل السلام مصدرا كالسلامة وقوله :" عند ربهم " تقدم معناه في تفسير مقابله الذي ذكر آنفا.
﴿ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ الضمير راجع إلى ربهم أو السلام على القول بأنه هو الله تعالى. ووليهم متولي أمورهم وكافيهم كل أمر يعنيهم، بسبب ما كانوا يعملونه بباعث الإيمان به والإذعان لما جاء به رسوله من أعمال الصلاح المزكية لأنفسهم، والإصلاح المفيد لكل من يعيش معهم، وهذه الولاية الإلهية للمتذكرين من المؤمنين الصالحين تشمل ولاية الدنيا والآخرة، والآية نافية للقول بالجبر، ومبطلة للقول بإنكار القدر، بصراحتها بنوط الجزاء بالعمل فإسناد العمل إليهم ينفي الجبر، ونوط الجزاء به يثبت القدر الذي هو جعل شيء مرتبا على شيء آخر مقدارا بقدره، وليس خلقا أنفا، أي مبتدأ ومستأنفا والله أعلم وأحكم.
﴿ وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ ﴾
اشتمل سياق الآيات السابقة لهذه الآيات على وعيد بما أعد الله من العذاب للمجرمين ووعد بالنعيم في دار السلام للمؤمنين في إ ثر بيان أحوالهم وأعمالهم التي استحق بها كل منهما جزاءه. وقفى عليه في هذه الآيات بذكر ما يكون قبل ذلك الجزاء من الحشر وبعض ما يكون في يومه من الحساب وإقامة الحجة على الكفار، وسنة الله في إهلاك الأمم وجعل درجات الجزاء بالعمل.
قال ﴿ وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ ﴾ قرأ حفص عن عاصم وروح عن يعقوب " يحشرهم " بالياء والباقون " نحشرهم " بنون العظمة. والمعشر الجماعة الذين يعاشر بعضهم بعضا وقال في لسان العرب : ومعشر الرجل أهله، والمعشر الجماعة متخالطين كانوا أو غير ذلك. قال ذو الأصبع العدواني :
وأنتم معشر زيد على مائة فأجمعوا أمركم طرا فكيدوني١
والمعشر والنفر والقوم والرهط معناه الجمع لا واحد لهم من لفظهم للرجال دون النساء قال والعشرة أيضا للرجال. والعالم أيضا للرجال دون النساء. وقال الليث : المعشر كل جماعة أمرهم واحد نحو معشر المسلمين ومعشر المشركين. والمعشر جماعات الناس اه ثم ذكر أن المعشر يطلق على الإنس والجن واستشهد بالآية ﴿ يا معشر الإنس والجن ﴾ ( الرحمن ٣٣ ) وإنما سمي كل من الجن والإنس معشرا لأنهم جماعة من عقلاء الخلق. وليس المعنى لفظ المعشر مرادف للفظ الإنس وللفظ الجن وإنما يضاف إليه إضافة بيانية والظاهر أنه مشتق من المعاشرة ونقل الآلوسي عن الطبرسي أن المعشر " الجماعة التامة من القوم التي تشتمل على أصناف الطوائف ومنه العشرة لأنها تمام العقد " اه وهو قول لا دليل عليه ولا نقل يثبته فيما نعلم.
تكرر في التنزيل مثل هذا التعبير في التذكير بيوم القيامة والإعلام بما يكون فيه من الأهوال والحساب والجزاء كقوله تعالى في سورة يونس :﴿ ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم ﴾ ( يونس ٢٨ ) وقوله في سورة الفرقان :﴿ ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله ﴾ ( الفرقان ١٧ ) الآية وقوله فيها :﴿ ويوم تشقق السماء بالغمام ﴾ ( الفرقان ٢٧ ) الآيات. وقوله في سورة القصص ﴿ ويوم يناديهم ﴾ ( القصص ٦٢- ٦٥- ٧٤ ) الآيات وجمهور المفسرين يجعلون كلمة " يوم " في أمثال هذه الآيات مفعولا لفعل محذوف تقديره " واذكر " وهو خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم أي واذكر لهم فيما تتلوه عليهم يوم يكون كذا وكذا. لأن هذا معهود ومعروف عندهم ودليل عليه ﴿ واذكر في الكتاب إبراهيم ﴾ ( مريم ٤١ ) وأمثاله بعده.
وبعضهم يجعله ظرفا لفعل مقدر إن لم يوجد بعده ما يصلح أن يكون عاملا فيه مذكورا أو مقدورا ومنه فعل القول المقدر هنا قبل النداء فيقال هنا : ويوم يحشرهم جميعا يقول المعشر الجن منهم يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس. فالضمير في " يحشرهم " للجن والإنس الذين سبق ذكرهم في هذه السورة بقوله :﴿ وجعلوا لله شركاء الجن ﴾ ( الأنعام ١٠٠ ) وقوله :﴿ شياطين الإنس والجن ﴾ ( الأنعام ١١٢ ) وهو أقرب والشياطين هم الأشرار من الفريقين فهم المرادون هنا لأن الخطاب لهم لا لجميع الجن. وفيمن ضل من الإنس بهم لا في جميع الإنس. قال الحافظ ابن كثير : يعني الجن وأولياؤهم من الإنس الذين كانوا يعبدونهم في الدنيا ويعوذون بهم ويطيعونهم ويوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ( قال ) ومعنى قوله : قد استكثرتم من الإنس أي من إغوائهم وإضلالهم كقوله تعالى :﴿ ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم ولقد أضل منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون ﴾ ( يس ٥٩- ٦١ ) وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس " يا معشر الجن قد استكثر تم من الإنس " يعني أضللتم منهم كثيرا. وكذلك قال مجاهد والحسن وقتادة اه فالاستكثار هنا أخذ الكثير لا طلبه كقولهم استكثر الأمير من الجنود أي أخذ كثيرا وفلان من الطعام أي أكل كثيرا. والمراد أنهم استتبعوهم بسبب إضلالهم إياهم فحشروا معهم لأن المكلفين يحشرون يوم القيامة مع من اتبعوهم في الحق والخير أو في الباطل والشر.
﴿ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ ﴾ أوليائهم هم الذين تولوهم أي أطاعوهم في وسوستهم وما ألقوه إليهم من وحي الغرور، والاستمتاع طلب الشيء لجعله متاعا. أو جعله متاعا بالفعل والمتاع ما ينتفع به انتفاعا طويلا ممتدا وإن كان قليلا لأن أصل معناه الطول والارتفاع أي وقال الذين تولوا الجن من الإنس في جواب الرب تعالى : يا ربنا قد تمتع كل منا بالآخر أي بما كان للجن من اللذة في إغوائنا بالأباطيل وأهواء الأنفس وشهواتها وبما كان لنا في طاعة وسوستهم من اللذة في اتباع الهوى والانغماس في اللذات.
قال الحسن : وما كان استمتاع بعضهم ببعض إلا أن الجن أمرت وعملت الإنس، وقال ابن جرير كان الرجل في الجاهلية ينزل بالأرض فيقول : أعوذ بكبير هذا الوادي فذلك استمتاعهم فاعتذروا به يوم القيامة اه ونقله ابن كثير عن ابن جرير بلفظ : وأما استمتاع الجن بالإنس فإنه كان فيما ذكر ما ينال الجن من الإنس من تعظيمهم إياهم في استعاذتهم بهم فيقولون قد دنا الإنس والجن ومقتضاه أن المشركين من أهل الجاهلية يظلون يوم القيامة على خرافاتهم التي كانوا عليها في الدنيا إذ كانوا يخافون من الجن في أسفارهم ويستعيذون بعظمائهم من أذى دهمائهم، وهو مستبعد، وأبعد منه اعتذارهم به لله تعالى، وأبعد منهما جعله هو المراد من الآية وهي عامة لجميع من استمتع من الفريقين بالآخر ممن كان يستعيذ بعظماء الجن وسادتهم من شرارهم في الأودية كعرب الجاهلية وممن لا يعرف هذا من مصدق بوجود الجن وإن لم يخف منهم ولم يستعذ بسيد من مسود. ومن مكذب بوجودهم أو غير مصدق ولا مكذب فإن كل إنسي يوسوس له شياطين الجن بما يزين له الباطل والشر ويغريه بالفسق والفجور كما تقدم مفصلا، فإن هذا الخلق الخفي الذي هو من جنس الأرواح البشرية يلابسها بقدر استعدادها للباطل والشر ويقوي فيها داعيتهما كما تلابس جنة الحيوان الخفية الأجساد الحيوانية فتفسد عليها مزاجها وتوقعها في الأمراض والأدواء.
وقد مر على البشر ألوف من السنين وهم يجهلون طرق دخول هذه النسم الحية في أجسامهم وتقوية الاستعداد للأمراض والأدواء فيها بل إحداث الأمراض الوبائية وغيرها بالفعل حتى اكتشفها الأطباء في هذا العصر وعرفوا هذه الطرق والمداخل الخفية بما استحدثوا من المناظير التي تكبر الصغير حتى يرى أكبر مما هو عليه بألوف من الأضعاف. ولو قيل لأكبر أطباء قدماء المصريين أو الهنود أو اليونان أو العرب إن في الأرض أنواعا من النسم الخفية تدخل الأجساد من خرطوم البعوضة أو البرغوث أو القملة ومع الهواء والماء والطعام وتنمي فيها بسرعة عجيبة فتكون ألوف الألوف وبكثرتها تتولد الأمراض والأوبئة القاتلة –لقالوا إن هذا القول من تخيلات المجانين.
ولكن العجب لمن ينكر مثل هذا في الأرواح بعد اكتشاف ذلك في الأجساد وأمر الأرواح أخفى، فعدم وقوفهم على ما يلابسها ألوفا من السنين أولى.
وقد روي في الآثار مما يدل على جنة الأجسام ولو صرح به قبل اختراع هذه المناظر التي يرى بها لكان فتنة لكثير من الناس بما يزيدهم استبعادا بما جاء به الرسل من خبر الجن. ففي الحديث " تنكبوا الغبار فإن منه تكون النسمة " ٢، والنسمة في اللغة كل ما فيه روح وفسره ابن الأثير في الحديث بالنفس ( بالتحريك ) أي توا تره الذي يسمى الربو والنهيج وتبعه شارح القاموس وغيره، وهو تجوز لا يؤيد الطب ما يدل عليه من الحصر. وروي عن عمرو بن العاص : اتقوا غبار مصر فإنه يتحول في الصدر إلى نسمة. وهو بعيد عن تأويلهم وظاهر فيما يقوله الأطباء اليوم وهو مأخوذ من الحديث الذي تأولوه، وعمرو من فصحاء قريش جهابذة هذا اللسان.
﴿ بَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا ﴾ أي وصلنا بعد استمتاع بعضنا ببعض إلى الأجل الذي حددته لنا وهو يوم البعث والجزاء، وقد اعترفنا بذنوبنا ولك الأمر فينا فالمراد من ذكر بلوغ الأجل لازمه وهو إظهار الحسرة والندامة على ما كان من تفريطهم في الدنيا، والاضطرار إلى تفويضهم الأمر إلى الرب جل وعلا. ولم يذكر هنا قولا للمتبوعين من الشياطين، وعلله بعضهم بأن الاقتصار على حكاية كلام الضالين دون المضلين يؤذن بأن المضلين قد أفحموا فلم يتكلموا. والصواب أن الله تعالى يذكر لنا بعض ما يكون يوم القيامة في آي متفرقة من سور متعددة لأن المراد به وهو العظة والاعتبار ينبغي أن يكون متفرقا لما بيناه من حكمته في مواضع من هذا التفسير. وقد قال تعالى في الفريقين ﴿ ويوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ﴾ ( العنكبوت ٢٥ ) وبين في سورة البقرة كيف يتبرأ بعضهم من بعض، وقال بعده ﴿ كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم ﴾ ( البقرة ١٦٧ ) وحكى في سورة إبراهيم أقوال كل من الضعفاء التابعين من الناس وقول المتكبرين المتبوعين لهم وقول الشيطان للفريقين وتنصله من استحقاق الملام وكفره بما أشركوه.
بعد ما تقدم ينتظر السامع والقارئ جواب الله تعالى لهم وقد بينه قوله :﴿ قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ ﴾ النار اسم لدار الجزاء المعدة للمشركين والمجرمين. والمثوى مكان الثواء والثواء نفسه هو الإقامة والسكنى. والخلود المكث الثابت الطويل غير الموقت كمكث أهل الوطن في بيوتهم المملوكة لهم فيه، أي تثوون فيها ثواء خلود أو مقدرين الخلود موطنين أنفسكم عليه، إلا ما شاء الله تعالى مما يخالف ذلك، فكل شيء بمشيئته وهذا الجزاء يقع باختياره فهو مقيد بها، فإن شاء أن يرفعه كله أو بعضه عنكم أو عن بعضكم فعل، لأن مشيئته نافذة في كل شيء تتعلق به قدرته الكاملة وسلطانه الأعلى. ولكن هل يشاء شيئا من ذلك أم لا ؟ ذلك ما يعلمه هو سبحانه حق العلم وحده ولا يعلمه غيره إلا بإعلامه وإنما تتعلق الإرادة بما يقتضيه العلم والحكمة، وقد بين ذلك بقوله :
﴿ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ ﴾ أي عليم بما يستحقه كل من الفريقين، حكيم فيما تتعلق به مشيئته من جزائهم المنصوص عليه في كتابه وفي هذا الاستثناء ومدلوله وتأويله وغايته، والبشر لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وإنما تكلم من تكلم في الاستثناء هنا وفي سورة هود بالتأويل للآيات الواردة في الجزاء والجمع بينها للجزم بأن الاختلاف والتعارض في كتاب الله تعالى محال. وكذا تأويل ما ورد في الأحاديث المبينة لما أنزله تعالى، ومنها أحاديث سبق الرحمة وغلبها على الغضب وسعتها لكل شيء وعمومها.
أما ما ورد في التفسير المأثور في الاستثناء هنا فيؤيد ما جرينا عليه من تفويض الأمر فيه إلى الله تعالى وعدم الحكم على مشيئته في هذا الأمر الغيبي وهو ما رواه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس قال : إن هذه الآية
١ البيت من البسيط وهو لذي الإصبع العدواني في ديوانه ص ٩٥ ولسان العرب (زيد) (عشر) والتنبيه والإيضاح ٢/ ٢٥ وتاج العروس (زيد) (جمع) وأساس البلاغة (زيد) وكتاب الجيم ٢/ ٥٩ وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص ٦٤٣ ومقاييس اللغة ٣/ ٤٠ وديوان الأدب ٣/ ٣٢٣..
٢ ورواه ابن كثير الجزري في النهاية في غريب الحديث ٥/ ٤٩..
﴿ وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ﴾ المعنى العام لمادة الولاء هو أن يكون بين الشيئين أو الأشياء نوع من الاتصال في الحصول أو العمل بأن يفصل بينهما أو بينها ما شأنه أن يفصل من حدث أو جثة أو زمن. وولي الرجل العمل أو الأمر قام به بنفسه ومنه ولاية الأحكام " بكسر الواو " وصاحبها وال، وولاء القرابة وولاية النصرة ( وكلاهما بفتحها ) وصاحبهما ولي. ومنه الموالاة في الوضوء وولى وجهه الكعبة توجه إليها ﴿ فول وجهك شطر المسجد الحرام ﴾ ( البقرة ١٤٤ ) وولاه الشيء أو العمل أو القضاء جعله إليه ليقوم به بنفسه فتولاه، وتولى زيد عمرا نصره وكذلك القوم ﴿ لا تتولوا قوما غضب الله عليهم ﴾ ( الممتحنة ١٣ ) وأما تولية الله للناس بعضهم بعضا فهو جعلهم أولياء وأنصارا بعضهم لبعض إما بمقتضى أمره في شرعه ومقتضى سننه وقدره معا وإما بمقتضى الثاني فقط، فالأول ولاية المؤمنين بعضهم بعضا في الحق والخير والمعروف، فقد أمرهم بذلك في شرعه ونهاهم عن ضده وهو مقتضى الإيمان الصادق وأثره الذي لا ينفك عنه بحسب تقدير الله الذي مضت به سنته في خلقه. والثاني ولاية الكفار المجرمين والمنافقين بعضهم بعضا فهو أثر مترتب على الاعتقاد والأخلاق والمنفعة المشتركة بينهم بحسب تقديره وسننه في نظام الحياة البشرية وهو لم يأمرهم بشيء مما يتناصرون به في الباطل والشر والمنكر بل نهاهم عنه.
وقد بينا مرارا أن هذا النظام المعبر عنه بالقدر والتقدير الشامل للحق والباطل والخير والشر هو عبارة عن نفي ما زعمت القدرية من أن الله تعالى يخلق كل ما وقع في الكون خلقا أنفا أي مبتدأ منه غير جار على نظام تكون فيه المسببات على قدر الأسباب. والجبر يستلزم نفي القدر أيضا، بتولية الله الناس بعضهم لبعض ليس خلقا مبتدأ من الله، ولا واقعا من الناس بالإجبار والاضطرار ولا بالاستقلال المنافي للخضوع للسنن والأقدار وإنما جرت سنة الله تعالى في البشر بأن يكون لكل عمل من الأعمال النفسية والبدنية التي تصدر منهم تأثيرا في أنفسهم يصير بالتكرار عادة فخلقا وملكة وأن الأفراد والجماعات يميل كل منهم إلى من على شاكلته في ذلك ويتولى بعضهم بعضا في التعاون والتناصر فيما يشتركون فيه على من يخالفهم فيه. وقد جهل الجبرية والقدرية النفاة جميعا حقيقة القدر، وصار كل منهما يحمل الآيات على ما ذهب إليه، كأنها مختلفة متعارضة، وهي مخالفة لكل منهما ولا اختلاف ولا تعارض فيها.
فمعنى الآية على ما تقدم. ومثل ذلك الذي تقدم أي في الآية التي قبلها من استمتاع أولياء الإنس والجن بعضهم ببعض في الدنيا لما بينهم من التناسب والمشاكلة ولي بعض الظالمين لأنفسهم وللناس بعضا بسبب ما كانوا يكسبونه باختيارهم من أعمال الظلم الجامعة بينهم أي يقع ذلك منهم بسنتنا وقدرنا، الذي قام به النظام العام في خلقنا، فليس خلقا مبتدأ كما تزعم القدرية ولا أفعالا اضطرارية كما تزعم الجبرية، ويؤيد هذا روايات في التفسير المأثور.
روي عن قتادة أنه قال في الآية : إنما يولي الله بين الناس بأعمالهم فالمؤمن ولي المؤمن من أين كان وحيثما كان، والكافر ولي الكافر من أين كان وحيثما كان، ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولعمري لو عملت بطاعة الله ولم تعرف أهل طاعة الله ما ضرك ذلك ولو عملت بمعصية الله وتوليت أهل طاعة الله ما نفعك ذلك شيئا اه يعني أن انتماء المرء إلى المؤمنين ودخوله في جامعتهم ونصرته لهم لا تجعله منهم حقيقة إلا إذا كان يعمل عملهم وينصرهم لمشاركته إياهم في ذلك لا لمجرد العصبية الجنسية أو المنفعة الدنيوية، وأما العمل بهدي دينهم فإنه ينفعه بدون توليهم إذا كان عدم توليهم لعدم معرفته بهم، وهو لا يكون إلا كذلك لأنه إذا عرفهم لا يسعه إلا أن يتولاهم إذا كان موافقا لهم في الجامعة الاعتقادية العملية التي تقتضي المشاركة بحسب قدر الله وشرعه، قال تعالى :﴿ إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض ﴾ ( الأنفال ٧٣ ) الآية ﴿ والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إن لا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير ﴾ ( الأنفال ٧٤ ) أي إن لا تفعلوا أيها المؤمنون هذا التولي بالتعاون والتناصر بينكم تكن فتنة في الأرض وفساد كبير. رواه ا ابن جرير عن ابن جريج ورجحه لأن الفظ يدل عليه دون القول الآخر بأنه خاص بولاية الإرث.
وقد وقعت الفتنة والفساد الكبير بترك المسلمين هذه الولاية بينهم وتخاذلهم وتولي بعضهم لمن نهاهم الله عن ولاتهم وأولئك هم الظالمون. وقال تعالى :﴿ المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم ( التوبة ٦٧ ) الخ ثم قال بعد أربع آيات { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله ﴾ ( التوبة ٧١ ) فالآيات كلها تقرن الولاية بين كل فريق بالعمل الاختياري. وقد قدم في الآية الأخيرة العمل المتعلق بالأمور الاجتماعية وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على العمل الشخصي حتى إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة لأنه هو المناسب لمقام التعاون والتناصر.
وروى أبو الشيخ عن منصور ابن أبي الأسود قال سألت الأعمش عن قوله تعالى :﴿ وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا ﴾ ما سمعتهم يقولون فيه. ؟ قال سمعتهم يقولون إذا فسد الناس أمر عليهم شرارهم. والأعمش تابعي فهو إنما يسأل عن أقوال الصحابة وكبار علماء التابعين وهذا المعنى الذي قاله يدخل في عموم قول قتادة، فإن الأمة الصالحة لا تقبل الأمراء والحكام الفاسدين الظالمين بل تسقطهم إذا نزوا على مصالحها وتولي الخيار ولا سيما إذا كان صلاحها بقواعد الإسلام الذي جعل أمر الناس شورى بينهم فأهل الحل والعقد من زعماء الأمة هم الذين يولون الإمام الأعظم ويراقبون سيره في إقامة الحق والعدل ويعزلونه إذا اقتضت المصلحة ذلك.
وقد اتبع السيوطي رواية الأعمش في الدر المنثور بأثر من الزبور في انتقام الله تعالى من المنافق بالمنافق ثم الانتقام منهم جميعا ثم قال : وأخرج الحاكم في التاريخ والبيهقي في شعب الإيمان من طريق يحيى بن أبي هاشم حدثنا يونس بن إسحاق عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" كما تكونون كذلك يؤمر عليكم " قال البيهقي هذا منقطع ويحيى ضعيف ثم نقل عن البيهقي آثارا إسرائيلية في معنى هذا الحديث أولها قول كعب الأحبار إن لكل زمان ملكا يبعثه الله على نحو قلوب أهله فإذا أراد صلاحهم بعث عليهم ملكا مصلحا وإذا أراد هلكتهم بعث عليهم مترفهم اه ذلك بأن الملوك يتصرفون في الأمم الجاهلة الضالة، تصرف الرعاة في الأنعام السائمة، فالملك المترف وهو الذي أكبر همه التمتع باللذات الجسدية ومظاهر العظمة والسلطان يتخذ لنفسه الوزراء والقواد والبطانة والحاشية من أمثاله المترفين فيقلدهم جمهور الناس في أعمالهم السيئة لأن الناس كما قيل على دين ملوكهم وبذلك يكون الفساد أغلب من الصلاح والفسق عن أمر الله وسننه في القوة والنظام أعم من الاتباع وبهذا هلك من هلك من الأمم بانقراض أهلها أو بتسلط الأمم القوية عليها كما قال تعالى :﴿ وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا ﴾ ( الإسراء ١٦ ) كما بيناه من قبل فأثر كعب الأحبار مفسر للآية.
ولما كان الملك المترف يفسد الأمة حتى تهلك كان الملك الصالح يصلح الأمة الفاسدة باتخاذ الوزراء والقواد والبطانة والحاشية له من الصالحين المصلحين الذين يقيمون ميزان الحق والعدل ويكونون قدوة للناس في العفة والاعتدال والقصد، ويأخذون على أيدي أهل الفحشاء والمنكر والبغي فيقلدهم الأكثرون، ويرهب جانبهم الأشرار والمفسدون فتقوى دولتهم، وتعتز أمتهم، حتى يمكن الله لهم في الأرض ويجعلهم من الوارثين :﴿ ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون ﴾ ( الأنبياء ١٠٥ ) أي الصالحون لتوليها والقيام بشؤونها ولو بالنسبة إلى من يعارضهم في ذلك ممن هو دونهم صلاحية، فالصلاح كالتقوى يفسر في كل مقام بحسبه.
وأما الأمم العالمة بسنن الاجتماع ذات الرأي الذي يمثله الزعماء الذين تعتمد عليهم في الحل والعقد فلا يستطيع الملوك أن يتصرفوا فيها كما يشاءون كما قلنا آنفا، بل يكونون فيها تحت مراقبة أولي الأمر منها. وقد وضع الإسلام هذا الأساس المتين للإصلاح بجعله أمر شورى بين أهل الحل والعقد المذكورين وأمره الرسول نفسه بالمشاورة وجريان الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك حتى برجوعه عن رأيه إلى رأي الأمة وجعله الولاية العامة وهي الإمامة أو الخلافة بالانتخاب وقد أفصح عن ذلك الخليفة الأول أبو بكر الصديق رضي الله عنه بقوله في أول خطبة خطب بها الناس عقب مبايعته : أما بعد فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم فإذا استقمت فأعينوني وإذا زغت فقوموني، واشتهر عن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب ( رض ) أنه قال على المنبر من رأى منكم في عوجا فليقومه. الخ وروي عن الخليفة الثالث عثمان ( رض ) أنه قال على المنبر في أيام الفتنة : أمري لأمركم تبع.
وبعد علي والحسن عليهما السلام تحول أمر الإسلام من خلافة نبوة إلى ملك مصداقا للحديث الصحيح " الخلافة بعدي في أمتي ثلاثون سنة ثم ملك بعد ذلك " ١ رواه أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم من حديث سفينة. وقد دعم بنو أمية ملكهم بالعصبية فلم تغن عنهم حين ظهر فيهم الفسق فنفر منهم معظم الأمة لغلبة الصلاح فيها فسهل انتزاع الملك منهم بسرعة. وليس التطويل في هذه المسألة من موضوعنا هنا فحسبنا إيضاح ما ورد في التفسير المأثور عن السلف في الآية والتذكير بأن الأمم الأخرى قد استفادت من هداية الإسلام في هذا الأمر الذي ترك المسلمون هداية دينهم فيه فلم يعد أمر صلاحها وفسادها بأيدي ملوكها ورؤساء حكومتها وحدهم بل في أيدي نوابها الذين تختارهم لمراقبة الحكومة والسيطرة عليها، على أن الوزراء كثيرا ما يغشون جمهور نواب الأمة ويستعينون ببعضهم على بعض.
وليس لفظ الظالمين في الآية خاصا بالملوك الأمراء وتعاونهم مع عمالهم على أعمالهم بل هو عام يشمل ظالمي أنفسهم والظالمين للناس من الحكام وغيرهم كل من هؤلاء وأولئك يتولى من يشاكله في أخلاقه وأعماله ويتناصرون على من يخالفهم فيها وإن وافقهم في غيرها من الروابط والجوامع الأخرى حتى رابطة الدين والجنس، فإن كل جامعة بين الناس لا يؤيدها العمل تضعف حتى تكون صورية أو لفظية، ولذلك نرى الطامحين من العلماء الأقوياء إلى السيادة على الجهلاء الضعفاء يجدون في السعي قبل كل شيء إلى إفساد تربيتهم وتعليمهم ما يضعف كل الروابط العامة التي تربط بعضهم ببعض أو يحلها ويذهب بها فلا يكون للأفراد منهم هم إلا في أشخاصهم وتمتيعها باللذات والشهوات وحينئذ يتولون من يوصلهم إليها ولو بمساعدته على أمتهم إذا كان يفيض عليهم من بعض ما ينتزعه منها بمؤازرتهم ولو آزروها عليهم لكان خيرا لهم.
فالمدار في الولاية بين الناس على المشاكلة النفسية التي قررها الكسب والعمل لا الصورية أو اللفظية التي لم يقرر الكسب معناها، ولذلك قال :﴿ بما كانوا يكسبون ﴾ ولم يقل بم
١ أخرجه بلفظ: "ثلاثون عاما ثم يكون بعد ذلك الملك" أحمد في المسند ٥/ ٢٢٠- ٢٢١ وأخرجه بلفظ: "خلافة النوة ثلاثون سنة" أبو داود في السنة باب ٨ والترمذي في الفتن باب ٤٨ واحمد في المسند ٤/ ٢٧٣- ٥/ ٤٤- ٥٠- ٤٠٤..
﴿ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ ﴾ هذا بيان لما يخطر في بال من يقرأ ما قبله أو يسمعه فإنه يقول في نفسه يا ليت شعري كيف يكون حال هؤلاء الظالمين الذين يتولى بعضهم بعضا في الدنيا بما كانوا يكسبون من الأوزار إذ قدموا على الله يوم القيامة ؟ فجاء الجواب في هذه الآية بأنهم ينادون ويسألون عن دعوة الرسل لإقامة الحجة عليهم بها فيما يترتب من الجزاء على مخالفتها وقد حققنا معنى المعشر في تفسير الآية ١٢٧ ( ج ٨ تفسير ) فما العهد بها ببعيد.
والاستفهام هنا للتقرير التوبيخي وقوله :﴿ رسل منكم ﴾ ظاهره أن كلا من الفريقين قد أرسل الله منهم رسلا إلى أقوامهم والجمهور على أن الرسل كلهم من الإنس كما يدل عليه ظاهر الآيات كحصر الرسالة في الرجال وجعلها في ذرية نوح وإبراهيم ولذلك صرفوا النظم عن ظاهره وقالوا إن المراد بقوله منكم من جملتكم لا من كل منكم، وهو يصدق برسل الإنس الذين تثبت رسالتهم إلى الإنس والجن وذكروا له شاهدا من القرآن قوله تعالى :﴿ يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان ﴾ ( الرحمن ٢٢ ) بعد قوله :﴿ مرج البحرين ﴾ ( الرحمن ١٩ ) الخ أي الملح والحلو وهو البحيرات وكبار الأنهار، وهذا مبني على زعمهم أن البحار الحلوة لا يخرج منها لؤلؤ ولا مرجان، والصواب أن اللؤلؤ لا يخرج من بعضها كبعض أنهار الهند ثبت ذلك قطعا واستدركه ( سايل ) مترجم القرآن بالإنكليزية على البيضاوي. وهو مما أخبر به القرآن من حقائق الأكوان التي لم تكن معروفة عند العرب حتى في أيام حضارتهم واستعمارهم للأقطار. ذكر هذا الشاهد ابن جرير وتبعه به من بعده.
وروي عن ابن جرير أنه قال في الآية : جمعهم كما جمع قوله :﴿ ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها ﴾ ( فاطر ١٢ ) ولا يخرج من الأنهار حلية اه وقد علمت أن هذا خطأ، ولفظ هذه الآية أبعد عن هذا التأويل من آية الرحمن بل هو يبطله وخرجه بعضه من باب التغليب كقولهم أكلت تمرا ولبنا ( قال ابن جريج ) قال ابن عباس هم الجن الذين لقوا قومهم وهم رسل إلى قومهم اه يعني أن الرسل من الجن هم الذين تلقوا منهم الدعوة من رسل الإنس وبلغوها لقومهم من الجن كالذين أنزل الله فيهم قوله في سورة الأحقاف ﴿ وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضى ولوا إلى قومهم منذرين ﴾ ( الأحقاف ٢٩ ) الآيات وهو مبني على جواز تسمية رسول الرسول رسولا وذكروا أن منه رسل أصحاب القرية في أوائل سورة يس ( ٣٦- : ١٢- ٢٠ ) وذكر ابن جرير أن المسألة خلافية وروي أن الضحاك سئل عن الجن هل كان فيهم نبي قبل أن يبعث الله النبي صلى الله عليه وسلم فقال للسائل ألم تسمع إلى قول الله :﴿ يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا ﴾ فقالوا بلى ؟ وذكر أن الذين يقولون بقول الضحاك يردون التأويل السابق بأنه خلاف المتبادر من اللفظ ولو صدق في رسل الجن لصدق في رسل الإنس لعدم الفرق.
وذكر غيره أن الضحاك استدل على ذلك بقوله تعالى :﴿ وإن من أمة إلا خلا فيها نذير ﴾ ( فاطر ٢٤ ) ومثله قوله :﴿ ولكل أمة رسول ﴾ ( يونس ٤٧ ) قوله :﴿ ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ﴾ ( النحل ٣٦ ) مع ضميمة إطلاق لفظ الأمة على جميع أنواع الأحياء لقوله تعالى :﴿ وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ﴾ ( الأنعام ٣٨ ) وتقدم في تفسيره أن بعض الصوفية قال بتكليف الحيوانات واستدلوا بآية ( ٣٥ : ٢٤ ) وأن الشعراني ذكر في الجواهر أنه يجوز أن يكون نذرها منها وأن يكونوا من غيرها واستدل أيضا بقوله تعالى :﴿ ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا ﴾ ( الأنعام ٩ ) أي بناء على استئناس الجنس بالجنس وفهمه عنه، وقد يرد هذا بأنه ثبت في القرآن أن الجن يفهمون من رسل الإنس.
وجملة القول في الخلاف أنه ليس في المسألة نص قطعي والظواهر التي استدل بها الجمهور يحتمل أن تكون خاصة برسل الإنس لأن الكلام معهم وليست أقوى من ظاهر الآيات التي استدل بها على كون الرسل من الفريقين. والجن عالم غيبي لا نعرف عنه إلا ما ورد به النص وقد دل القرآن –وكذا الحديث الصحيح- على رسالة نبينا صلى الله عليه وسلم إليهم وحكى تعالى عن الذين استمعوا القرآن منهم أنهم قالوا :﴿ إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى ﴾ ( الأحقاف ٣٠ ) فظاهره أنه كان مرسلا إليهم. فنحن نؤمن بما ورد ونفوض الأمر فيما عدا ذلك إلى الله تعالى.
ثم إنه تعالى وصف الرسل الذين أرسلهم إلى الفريقين منهم بقوله :﴿ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا ﴾ أي يتلون عليكم آياتي التي أنزلتها عليكم المبينة لأصول الإيمان، ومكارم الأخلاق وحسنات الأعمال التي يترتب عليها صلاح الأحوال وسلامة المآل، وينذرونكم لقاء يومكم هذا بإعلامكم ما يقع فيه من الحساب والعقاب على من كفر عن جحود أو ارتياب.
﴿ قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا ﴾ هذا ما حكاه تعالى من جوابهم عن السؤال عندما يؤذن لهم في بعض مواقف القيامة بالكلام وثم مواقف أخرى لا ينطقون فيها ولا يؤذن لهم فيعتذرون ومواقف يكذبون فيها على أنفسهم بما ينكرون من كفرهم وأعمالهم وتقدم شيء من ذلك. وجوابهم هذا وجيز يدل على أنهم يعترفون بكفرهم ويقرون بإتيان الرسل وبلوغهم دعوتهم منهم أو ممن نقلها عنهم. وأنهم كذبوا واتبعوا أهواءهم. ولذلك قال :
﴿ وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ﴾ أي غرهم متاع الحياة الدنيا من الشهوات والمال والجاه وحب الرياسة والسلطان على الناس، ورأوا من دعوة الرسل في عصرهم أن اتباعهم إياهم يجعل الرئيس منهم مرؤوسا لضعفاء المؤمنين في جميع الحقوق والمعاملات، وقد يكرمون عليه بما يفضلونه به من التقوى وصالح الأعمال، وكذلك حال من على مقربة من الرؤساء والزعماء بشجاعتهم أو ثروتهم أو عصبيتهم. فهؤلاء كانوا يكفرون بالرسل كفر كبر وعناد يقلدهم فيه كثير من أتباعهم تقليدا فيغتر كل منهم بما يغتز به من التعاون مع الآخر. وكان عصر الخلفاء الراشدين نحوا من عصر الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه المساواة ولكنه اختلف عنه بما تجدد للإسلام من الملك والثروة والقوة ولم يكن ذلك مانعا لجبلة بن الأيهم من الارتداد عنه لما علم أن عمر يقتص منه لأحد السوقة.
وأما غرور أهل هذه الأعصار بالدنيا المانع لهم من اتباع الرسل فهو ما غلب عليهم من الإسراف في الشهوات المحرمة والجاه الباطل المذمومين في كل دين وقد زالت من أكثر البلاد الحكومات الدينية التي كان أهل الدين يعتزون بها وحل محلها حكومات مادية لا يرتقي فيها ولا ينال الحظوة عند أهلها من يتبع الرسل، بل لم يعد هذا الاتباع سببا من أسباب نعيم الدنيا ورياستها المشروعين فما القول بالمحظورين. وهذا على خلاف الأصل في الدين فإنه شرع ليكون سببا لسعادة الدنيا والآخرة ولكن الناس لبسوه مقلوبا حتى جهلوا حقيقة ولا سيما دين الإسلام الكامل المكمل المتمم بجمعه بين حاجة الروح والجسد وجميع مصالح الاجتماع والسيادة بالحق. ولو كان للإسلام ملك قوي في هذا العصر لقل في اللابسين لباسه النفاق والفسوق دع الكفر والمروق ولدخل الناس فيه من سائر الأمم أفواجا.
﴿ وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ ﴾ أي وشهدوا في ذلك الموقف من مواقف ذلك اليوم إذ تقوم الحجة عليهم بأنهم كانوا في الدنيا كافرين بتلك الآيات والنذر التي جاء بها الرسل، إذ لا يجدون فيه مجالا للكذب والمكابرة ولا للتأويل. وليس الكفر بما جاء به الرسل محصورا في تكذيبهم بالقول، بل منه عدم الإذعان النفسي الذي يتبعه العمل بحسب سنة الله تعالى في الطباع والأخلاق وترتب الأعمال عليها، فالكفر نوعان : عدم الإيمان بما جاء به الرسول، وعدم الإسلام له بالإذعان والعمل والذنب العارض لا ينافي الإسلام كما فصل مرارا.
﴿ ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ ﴾ أي ذلك الذي ذكر من إتيان الرسل يقصون على الأمم آيات الله تعالى في الإصلاح الروحي والاجتماعي وينذرونهم يوم الحشر والجزاء بسبب أن ربك أيها الرسول المبعوث بالإصلاح الأكمل لبقية الأمم كلها لم يكن من شأنه ولا من سننه في تربية خلقه أن يهلك القرى أي الأمم بعذاب الاستئصال الذي أوعد به مكذبي الرسل ولا بعذاب فقد الاستقلال الذي أوعد به مخالفي هدايتهم بظلم منه لهم أو بظلم منهم وهم غافلون عما يجب عليهم أن يتقوا به هذا الهلاك، بل يتقدم هلاك كل أمة إرسال رسول يبلغها ما يجب أن تكون عليه من الصلاح والحق والعدل والفضائل بما يقصه عليها من آيات الوحي في عصره، أو بما ينقل إليها من يبلغونها دعوته من بعده، فإنما العبرة بالدعوة التي تنبه أهل الغفلة فلا يكون أخذهم على غرة، ذلك بأن من حكمة الله تعالى في الأمم جعل جميع ما ينزل بهم من عقاب جزاء على عمل استحقوه به فيكون عقابهم تربية لمن يسلم منهم ولكل من عرف سنة الله في ذلك، ولهذا عبر بلفظ الرب، ومنه يعلم أن له تعالى الحجة البالغة على خلقه بأنه لا يظلمهم شيئا وإنما هم الذين يظلمون أنفسهم. وإن الإهلاك والتعذيب ليس صفة من صفاته النفسية التي لا بد من وقوع متعلقها سواء أذنب المكلفون أم لم يذنبوا، بل هو من أفعاله التي يربي بها عباده.
أشرنا إلى أن قوله " بظلم " فيه وجهان للمفسرين بيناهما بما رأيت وقد سبق إلى ذلك شيخهم ابن جرير الطبري ولخص قوله الحافظ ابن كثير وشايعه عليه قال : قال الإمام أبو جعفر ابن جرير : ويحتمل قوله تعالى :" بظلم " وجهين أحدهما ذلك من أجل أن لم يكن ربك ليهلك القرى بظلم أهلها بالشرك ونحوه وهم غافلون. يقول : لم يكن يعاجلهم بالعقوبة حتى يبعث إليهم من ينبههم على حجج الله عليهم وينذرهم عذاب الله يوم معادهم ولم يكن بالذي يأخذهم غفلة فيقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير، والوجه الثاني : ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم : يقول لم يكن ليهلكهم دون التنبيه والتذكير بالرسل والآيات والعبر فيظلمهم بذلك والله غير ظلام للعبيد. ثم شرع يرجح الوجه الأول ولا شك أنه أقوى والله أعلم اه
ونقول إن كلا من المعنيين صحيح في نفسه ومذهبنا أنه لا مانع من إرادة الله تعالى لكل ما يحتمله نظم كتابه من معنى صحيح. وقد ورد في هذا الموضوع عدة آيات منها ما هو نص في إهلاك القرى بظلمها ومنها ما هو بيان لسنته تعالى في ذلك كهذه الآية. ومن الأول قوله تعالى في سورة هود :﴿ وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة أن أخذه أليم شديد ﴾ ( هود ١٠٣ ) ومن الثاني قوله فيها ﴿ وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون ﴾ ( هود ١١٨ ) وقد جزم بعضهم بأن المراد بالظلم هنا الشرك واستدلوا عليه بما صح مرفوعا من تفسيره به في معنى قوله تعالى :﴿ الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم ﴾ ( الأنعام ٨٣ ) الآية واستشهاد الحديث على ذلك بقول لقمان الذي حكاه الله عنه ﴿ إن الشرك لظلم عظيم ﴾ ( لقمان ١٣ ) وقد بينا في تفسير تلك الآية أن الظلم إنما صلح تفسيره فيها بالشرك الذي هو أعظم الظلم وهو نكرة في سياق النفي لأنه وارد في الظلم الذي يلبس به الإيمان فصح فيه العموم المقيد الذي ورد فيه لأن قليل الشرك يفسد الإيمان ككثيره.
وأما الظلم في الآية التي نفسرها الآن وفي آية هود المماثلة لها فقد ورد نكرة في سياق النفي في مقام بيان سبب إهلاك القرى فيجب أن يكون العموم فيه مطلقا لما ثبت في الآيات الأخرى المؤيدة بوقائع التاريخ من هلاك الأمم بالظلم في الأعمال والأحكام، وبقائها زمنا طويلا مع الشرك إذا كانت مصلحة فيهما كما هو ظاهر آية هود. ولله در الحافظ ابن كثير فإنه نقل عبارة الإمام ابن جرير بالمعنى فقال في الوجه الأول : بالشرك ونحوه أي وما يشبهه من الظلم في الأعمال والأحكام فأشار إلى العموم، وعبارة ابن جرير : بشرك من أشرك وكفر من كفر من أهلها كما قال لقمان ﴿ إن الشرك لظلم عظيم ﴾ وهي تنافي صيغة العموم وسبحان من لا يخطئ ولا يعزب عن علمه شيء.
هذا وإننا قد فصلنا من قبل ما ذكرناه آنفا بالإجمال من أن عقاب الله تعالى للأمم وكذا الأفراد في الدنيا والآخرة أنواع وأن منه ما يسمى عذاب الاستئصال لمن عاندوا الرسل بعد أن جاءوهم بما اقترحوا عليهم من الآيات الكونية وأنذروهم الهلاك إذا لم يؤمنوا بعد تأييد الله إياهم بها كعاد وثمود وقوم لوط فسنة الله في ذلك خاصة وقد انقطعت بانقطاع إرسال الرسل إذ ليست جارية على سائر سنن الاجتماع. ومنه هلاك الأمم بما يغلب عليها من الظلم أو الفسق والفجور الذي يفسد الأخلاق ويقطع روابط الاجتماع ويجعل بأس الأمة بينها شديدا فيكون ذلك سببا اجتماعيا لسلب استقلالها وذهاب ملكها بحسب سنن الاجتماع، وقد أنذرنا الله هذا في كتابه وعلى لسان رسوله كما شرحناه من قبل، فيراجع تفصيل ذلك فيما مضى من التفسير.
ثم إن هذه الآية وما في معناها من الآيات كآية هود من قواعد علم الاجتماع البشري الذي لا يزال في طور الوضع والتدوين وهو العلم بسنن الله تعالى في قوة الأمم والشعوب وضعفها وعزها وذلها وغناها وفقرها وبداوتها وحضارتها وأعمالها ونحو ذلك. وفائدة هذا العلم في الأمم كفائدة علم النحو والبيان في حفظ اللغة، وفي القرآن الحكيم أهم قواعده وأصوله وقد سبق بعض الحكماء المسلمين إلى بيان بعضها، وبدأ ابن خلدون بجعله علما مدونا يرتقي بالتدريج كغيره من العلوم والفنون، ولكن استفاد غير المسلمين مما كتبه في ذلك وبنوا عليه ووسعوه فكان من العلوم التي سادوا بها على المسلمين الذين لم يستفيدوا منه كما كان يجب، لأنه كتب في طور تدليهم وانحطاطهم، بل لم يستفيدوا من هداية القرآن العليا في إقامة أمر ملكهم وحضارتهم على ما أرشدهم إليه من القواعد وسنن الله تعالى فيمن قبلهم. ولا يزالون معرضين عن هذا الرشد والهداية على شدة حاجتهم إليها بسبب ما وصل إليه تنازع البقاء بين الأمم في هذا العصر وإنا نرى بعضهم يعزي نفسه عن ضعف أمته ويعتذر عن تقصيرها بالقدر الذي يفهمه مقلوبا بمعنى الجبر أو يسليها بأن هذا من علامات الساعة، وارتكس بعضهم في حمأة جهله بالإسلام حتى ارتدوا عنه سرا أو جهرا زاعمين أن تعاليمه هي التي أضعفتهم وأضاعت عليهم ملكهم، والتمسوا هداية غير هدايته ليقيموا بها دنياهم، فخسروا الدنيا والآخرة وذلك هو الخسران المبين.
﴿ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ ﴾ أي ولكل من معشري الجن والإنس الذين بلغتهم دعوة الرسل درجات ومنازل من جزاء أعمالهم تتفاوت بتفاوتهم فيها ﴿ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ﴾ بل هو عالم به ومحصيه عليهم، فجزاء سيئة سيئة مثلها، ويضاعف الله الحسنات دون السيئات، لأن الفضل ما كان فوق العدل. فإن أريد بكل من الفريقين آخر من ذكر منهم وهم الكافرون على ما هو الأكثر في الاستعمال فالدرجات بمعنى الدركات كالدرج والدرك، والأصل في الأول أن يستعمل في الخير وجزائه والثاني في مقابله ومنه ﴿ إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ﴾ ( النساء ١٤٥ ) والراغب يفرق بينهما بأن الدرج يقال باعتبار الصعود والدرك باعتبار الحدور والهبوط. وجمهور المفسرين جعلوا كلا هنا عاما لفريقي المؤمنين والكافرين فيكون استعمال الدرجات من باب تغليب المؤمنين. وشذ من قال إن مسلمي الجن لا يدخلون الجنة إذ ليس لهم ثواب وأشد منه شذوذا من زعم أنهم لا يدخلون الجنة ولا النار، نقل ذلك السيوطي عن ليث بن أبي سليم وهو مخالف لنصوص القرآن وليث هذا مضطرب الحديث وإن روى عنه مسلم وقد اختلط عقله في آخر عمره ولعله قال هذا القول وغيره مما أنكر عليه بعد اختلاطه.
هذا وإننا وإن بينا أن هذه الآية مبطلة للقول بالجبر الباطل الهادم لشرائع والأديان، الذي ألبسوه ثوب القدر الثابت بالعلم المؤيد للقرآن، فإننا نرى أن نصرح بأن الفخر الرازي عفا الله عنه قد صرح في تفسيرها بأنها تدل على الجبر وأن نذكر عبارته بنصها ونبين بطلانها وإن سبق لنا مثل ذلك في غيرها حتى لا يغتر بها من ينخدع بلقبه وكبر شهرته قال :
" اعلم أن هذه الآية تدل أيضا على صحة قولنا في مسألة الجبر والقدر وذلك لأنه تعالى حكم لكل واحد في وقت معين بحسب فعل معين بدرجة معينة وعلم تلك الدرجة بعينها تلك الدرجة المعينة في اللوح المحفوظ وأشهد عليه زمرة الملائكة المقربين فلو لم تحصل تلك الدرجة لذلك الإنسان لبطل ذلك الحكم ولصار ذلك العلم جهلا ولصار ذلك الإشهاد كذبا وكل ذلك محال، فثبت أن لكل درجات مما عملوا ﴿ وما ربك بغافل عما يعملون ﴾ وإذا كان الأمر كذلك فقد جف القلم بما هو كائن على يوم القيامة والسعيد من سعد في بطن أمه والشقي من شقى في بطن أمه ) اه
ونقول إن حكم الله تعالى القدري لا يمكن أن يكون ناقصا ومبطلا لحكمه الشرعي ومكذبا لوحيه، وقد قال تعالى إن الدرجات تكون للمكلفين بأعمالهم وإذا كان الرازي قد صرح بأنه تعالى : قد حكم لكل واحد في وقت معين بحسب فعل معين بدرجة معينة " الخ فمن أين علم أنه قد جعله مجبورا على هذا الفعل وهو يجد في نفسه أنه مختار، والقرآن قد صدق الوجدان بإثبات المشيئة والإرادة للإنسان، ونوط مشيئته بمشيئة الله معناه أنه تعالى شاء أن يكون فاعلا بالإرادة والاختيار ولو لم يشأ ذلك لم يكن ولكنه شاءه فكان، وعلم ذلك وكتبه ورتب عليه دينه وشرعه.
﴿ وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاء كَمَآ أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ١٣٣ إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ١٣٤ قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدِّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ١٣٥ ﴾
هذه الآيات الثلاث مؤيدة للثلاث التي قبلها ومتممة لبيان المراد منها. أما تلك فبيان لحجة الله تعالى على المكلفين الذين بلغتهم دعوة الرسل فجحدوا بها وتقرير لهم يشهدون به على أنفسهم يوم القيامة أنهم كانوا كافرين وأن عقابهم هنالك حق وعدل وبيان لسنته تعالى في إهلاك الأمم في الدنيا بجنايتها على أنفسها لا بظلم منه بل بظلمها لأنفسها ظلما لا عذر لها فيه وبيان أن لكل من المكلفين جماعات وأفرادا درجات في الجزاء على أعمالهم. وحاصل الثلاث أن الأعمال النفسية والبدنية هي التي يترتب عليها الجزاء في الدنيا والآخرة.
وأما هذه الآيات التي قفى بها عليها فهي أيضا في بيان عقاب الأمم في الدنيا بالهلاك الصوري والمعنوي وتحقيق وعيد الآخرة وكون كل منهما مرتبا على أعمال المكلفين لا بظلم منه سبحانه ولا لحاجة له تعالى فيه لأنه غني عن العالمين بل هو مع كونه مقتضى الحق والعدل، مقرون بالرحمة والفضل، وهاك تفصيله بالقول الفصل.
ختم الآيات السابقة بقوله تعالى :﴿ وما ربك بغافل عما يعملون ﴾ أي بل هو محيط بها ومجاز عليها وبدأ هذه بقوله ﴿ وربك الغني ذو الرحمة ﴾ لإثبات غناه تعالى عن تلك الأعمال والعاملين لها وعن كل شيء، ورحمته في التكليف والجزاء وغيرهما. والجملة تفيد الحصر أو القصر كما قالوا. أي وربك غير الغافل عن تلك الأعمال هو الغني وذو الرحمة الكاملة الشاملة التي وسعت كل شيء أما الأول فبيانه أن الغنى هو عدم الحاجة وإنما يكون على إطلاقه وكمال معناه بل هو أصل معناه لواجب الوجود والصفات الكمالية بذاته وهو الرب الخالق، إذ كل ما عداه فهو محتاج إليه في وجوده وبقائه ومحتاج بالتبع لذلك إلى الأسباب التي جعلها تعالى قوام وجوده. وإنما يقال في الخلق هذا غني إذا كان واجدا لأهم هذه الأسباب، فغنى الناس مثلا إضافي عرفي لا حقيقي مطلق فإن ذا المال الكثير الذي يسمى غنيا كثير الحاجات فقير إلى كثير من الناس كالزوج والخادم والعامل والطبيب والحاكم دع حاجته إلى خالقه وخالق كل شيء التي قال تعالى فيها ﴿ يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد ﴾ ( فاطر ١٥ ) وقد " كان الله تعالى ولا شيء معه " غنيا عن كل شيء " وهو الآن على ما عليه كان " غير محتاج إلى عمل الطائعين لأنه ينفعه بل ينفعهم، ولا إلى دفع عمل العاصين لأنه لا يضره بل يضرهم، فالتكليف والجزاء عليه رحمة منه سبحانه بهم يكمل له نقص المستعد للكمال.
روى أحمد ومسلم والترمذي وابن ماجه من حديث أبي ذر ﴿ رضي الله عنه ﴾ عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل :( مما يسمى بالحديث القدسي ) أنه قال :" يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، يا عبادي أنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا دخل البحر يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله تعالى، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه " ١ والمراد بإطعامه تعالى وكسوته لعباده خلقه لهم ما يأكلون وما يصنعون منه لباسهم وباستطعامه واستكسائه طلب ذلك منه بالعمل بما هداهم إليه من سننه في أسباب المعاش. والحديث حجة على الجبرية كالآيات.
وأما كونه تعالى ذو الرحمة الكاملة وحده فجلي ظاهر عقلا وفعلا ونقلا فنحن نعلم من أنفسنا أنه ما من أحد منا إلا ويقسو ويظلم نفسه وغيره أحيانا حتى أحب الناس إليه وأقربهم منه كالزوج والولد والوالد فما القول بمن دونهم، على أن كل ذي رحمة فرحمته من فيض رحمة الله تعالى خالق الأحياء وواهب الغرائز والصفات. روى الشيخان في صحيحيهما من حديث عمر بن الخطاب ( رض ) قال قدم على النبي صلى الله عليه وسلم بسبي فإذا امرأة من السبي قد تحلب ثديها بسقي إذا وجدت صبيا في السبي أخذته وأرضعته فوجدت صبيا فأخذته فالتزمته وفي وراية فألصقته ببطنها فأرضعته فقال النبي صلى الله عليه وسلم " أترون هذه طارحة ولدها في النار ؟ " قلنا لا وهي قادرة على ألا تطرحه فقال الله أرحم بعباده من هذه بولدها " ٢ ورويا أيضا من حديث أبي هريرة قال سمعت ر سول الله صلى الله عليه و سلم يقول :" جعل الله الرحمة في مائة جزء فأمسك عنده تسعة وتسعين جزءا وأنزل في الأرض جزءا واحدا فمن ذلك الجزء يتراحم الخلق ترفع الفرس حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه " ٣ روياه من عدة طرق منها " إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة فأمسك عنده تسعا وتسعين رحمة وأرسل في الخلق كلهم رحمة واحدة، فلو يعلم الكافر بكل الذي عند الله من الرحمة لم ييأس من الجنة ولم يعلم المؤمن بكل الذي عند الله من العذاب لم يأمن من النار " ٤ وقد ذكر بعض العلماء في شرح الحديث أن الرحمة رحمتان صفة ذات قائمة بذات الله تعالى وهي لا تتعدد وصفة فعل وهي التي جعلت مائة قسم، والمتبادر أن الحديث في نسبة رحمة جميع الخلق إلى رحمة الله تعالى لبيان تعظيم قدرها، فيا حسرة على من لم يقدرها قدرها ويا حسرة على من اغتر بها ففسق عن أمر ربه ونسي حكمته في الجزاء، وهذه الرواية في الحديث لبيان وجوب الجمع بين الخوف والرجاء. وقد سبق فيما نقلناه عن حادي الأرواح كلام حافل في رحمة الله تعالى في التكليف والجزاء ثوابا وعقابا يغني عن إعادة القول فيها هنا.
وقد بين الرازي وجه حصر الغنى والرحمة في اتصاف الرب بهما وحده على طريقة المتكلمين من الأشعرية والمعتزلة ثم قال :{ واعلم يا أخي أن الكل لا يحاولون إلا التقديس والتعظيم وسمعت الشيخ الإمام الوالد ضياء الدين عمر بن الحسين رحمه الله قال سمعت الشيخ أبا القسم سليمان بن ناصر الأنصاري يقول : نظر أهل السنة على تعظيم الله في جانب القدرة ونفاذ المشيئة، ونظر المعتزلة على تعظيم الله في جانب العدل والبراءة عن فعل ما لا ينبغي ولكن منهم من أخطأ ومنهم من أصاب ورجاء الكل متعلق بهذه الكلمة " وربك الغني ذو الرحمة " اه.
أقول : إنه يعني بأهل السنة هنا الأشعرية لأن كلامه في علماء النظر فالأشعرية يبالغون في قصر نظرياتهم على تعلق المشيئة حتى أنهم يجوزون تعذيب المؤمنين الصالحين وتنعيم الكفار المجرمين والمعتزلة يبالغون في قصر نظرياتهم على عدل الله وحكمته وتنزهه عن كل ما لا يليق بكماله حتى عطلوا بعض الصفات الثابتة بالنص وأوجبوا على الله ما أوجبوا، وتقدم شرح حال الفريقين، وأن علماء الأثر المحققين المتبعين للسلف أكمل من كل منهما علما وإيمانا لجمعهم بين كل ما ثبت في الكتاب والسنة من صفات الله تعالى وعدم تأويل بعضها برده إلى مذهب يلتزم لطائفة معينة، وهم أهل السنة على أكمل وجه، أو بكل معنى الكلمة- كما يعبر هذا العصر- ثم رتب على ذلك قوله :
﴿ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاء كَمَآ أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ ﴾ أي إن يشأ إذهابكم أيها الكافرون برسوله المعاندون له واستخلاف غيركم بعدكم يذهبكم بعذاب يهلككم به كما أهلك أمثالكم من معاندي رسله كعاد وثمود وقوم لوط ويستخلف من بعدكم ما يشاء من الأفراد أو الأقوام فإنه غني عنكم وقادر على إهلاككم وإنشاء قوم آخرين من ذريتكم أو ذرية غيركم أحق برحمته منكم كما قدر على إنشائكم من ذرية قوم آخرين. ولكن هؤلاء الخلفاء يكونون خيرا منكم يؤمنون بالله ورسوله ويقيمون الحق والعدل في الأرض.
وقد أهلك تعالى أولئك الذين عادوا خاتم رسله كبرا وعنادا وجحدوا بما جاء به مع استيقانهم صدقة، واستخلف في الأرض غيرهم ممن كان كفرهم عن جهل أو تقليد لمن قبلهم لم يلبث أن ذهبت به آيات الله في كتابه وفي الأنفس والآفاق بإرشاده فكانوا أكمل الناس إيمانا وإسلاما وإحسانا وهم المهاجرون والأنصار وذرياتهم الذين كانوا أعظم مظهر لرحمة الله للبشر بالإسلام، حتى في حروبهم وفتوحهم كما شهد بذلك المنصفون من مؤرخي الإفرنج حتى قال بعضهم : ما عرف التاريخ فاتحا أعدل ولا أرحم من العرب. وشذ بعض المفسرين فقالوا إن المراد بهؤلاء المستخلفين الجن وقال بعضهم إنهم ليسوا من الإنس ولا الجن لأنه أبلغ في الدلالة على القدرة وهو تصور باطل إذ ليس المقام مقام بيان عجائب آثار القدرة ولا الإبهام لأجل ذهاب الخيال كل مذهب فيه، بل مقام الإنذار بالسنن الإلهية المؤيدة بمحفوظ التاريخ وبقايا العاديات والآثار، فهذه الآية الواردة بعد وصفه تعالى بالغنى والرحمة على وجه الكمال الذي لا يشاركه فيه غيره هي كقوله تعالى بعد وصفه الناس بالفقر ووصف نفسه بالغني الحميد بصيغة الحصر ﴿ إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد ﴾ ( إبراهيم ١٩ ) وقوله تعالى في آخر سورة القتال ﴿ والله الغني وأنتم الفقراء وإن تولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم ﴾ ( محمد ٣٨ ).
١ أخرجه ملم في البر حديث ٥٥ واحمد في المسند ٥/ ١٦٠..
٢ أخرجه مسلم في التوبة حديث ٢٢..
٣ أخرجه البخاري في الأدب باب ١٩ ومسلم في التوبة حديث ١٨ والدرامي في الرقاق باب ٦٩..
٤ أخرجه البخاري في الرقاق باب ١٩..
﴿ وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاء كَمَآ أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ١٣٣ إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ١٣٤ قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدِّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ١٣٥ ﴾
هذه الآيات الثلاث مؤيدة للثلاث التي قبلها ومتممة لبيان المراد منها. أما تلك فبيان لحجة الله تعالى على المكلفين الذين بلغتهم دعوة الرسل فجحدوا بها وتقرير لهم يشهدون به على أنفسهم يوم القيامة أنهم كانوا كافرين وأن عقابهم هنالك حق وعدل وبيان لسنته تعالى في إهلاك الأمم في الدنيا بجنايتها على أنفسها لا بظلم منه بل بظلمها لأنفسها ظلما لا عذر لها فيه وبيان أن لكل من المكلفين جماعات وأفرادا درجات في الجزاء على أعمالهم. وحاصل الثلاث أن الأعمال النفسية والبدنية هي التي يترتب عليها الجزاء في الدنيا والآخرة.
وأما هذه الآيات التي قفى بها عليها فهي أيضا في بيان عقاب الأمم في الدنيا بالهلاك الصوري والمعنوي وتحقيق وعيد الآخرة وكون كل منهما مرتبا على أعمال المكلفين لا بظلم منه سبحانه ولا لحاجة له تعالى فيه لأنه غني عن العالمين بل هو مع كونه مقتضى الحق والعدل، مقرون بالرحمة والفضل، وهاك تفصيله بالقول الفصل.
ثم إنه تعالى بعد أن أنذرهم عذاب الدنيا وهلاكهم فيها أنذرهم عذاب الآخرة بقوله :﴿ إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ ﴾ على سنة القرآن في الجمع بينهما، أي إنما توعدون من جزاء الآخرة بعد البعث لآت لا مرد له وما أنتم بمعجزين لله بهرب ولا منع مما يريد فهو قادر على إعادتكم كما قدر على بدء خلقكم. وهذا برهان جلي كرر في القرآن مرارا. وقد قرب العلم في هذا العصر أمر البعث من العقول، بما قرره من كون كل ما في العالم ثابت أصله لا يزول وإنما هلاك الأشياء وفناؤها عبارة عن تحلل موادها وتفرقها، وبما أثبته من تركيب المواد المتفرقة وإرجاعها إلى تركيبها الأول في غير الأحياء، بل تصدى بعض علماء الألمان لإيجاد البشر بطريقة علمية صناعية بتنمية البذرة التي يولد منها الإنسان إلى أن صارت علقة فمضغة وزعم أنه يمكن باتخاذ وسائل أخرى لتغذية المضغة في حرارة كحرارة الرحم أن تتولد فيها الأعضاء حتى تكون إنسانا تاما، وقد بين تجربته في ذلك وما ارتآه من النظريات لإتمام العمل بإيجاد معامل لإيجاد الناس كعامل التفريخ لإيجاد الدجاج في خطاب قرأه على طائفة من أشهر الأطباء وعلماء الكون فأعجبوا بنظرياته، ولم ينكر أحد منهم إمكان ذلك وإنما ينكر الكثيرون وصول العلم البشري إلى إخراجه من حيز الإمكان إلى حيز الوجود بالفعل، وأن المخترع الشهير أديسون أكبر علماء الكهرباء يحاول اختراع آلة كهربائية لأجل اتصال الناس بأرواح من يموت واستفادتهم منهم إن كان ذلك مما تعنى الأرواح به بعد الموت، فيكون هذا هو الذي يبين حقيقة ما يدعيه الروحيون من رؤية من يسمونهم الوسطاء للأرواح وتجسدها وتلقيهم عنها هل هو صحيح كما يقولون أو خداع كما يقول المنكرون عليهم١ وغرضنا من ذكر هذا أن أمثال هذا العالم المخترع الكبير يرى أن ذلك جائز ممكن وإن لم يثبت عنده أنه وقع بالفعل. فأين هذا ممن يكفرون بالبعث تقليدا لأمثال هؤلاء لظنهم أنهم يعدون هذا محالا لا يمكن تحققه، وإذا كان هذا جائزا ويرى أكبر علماء المادة أنه يمكن وصولهم إليه فعلا فهل يعجز عنه خالق البشر وكل شيء ﴿ سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم ؛ ألا إنه بكل شيء محيط ﴾ ( فصلت ٥٣- ٥٤ ).
هذا وإن كان ( توعدون ) مضارع مجهول لوعد الثلاثي الذي غلب استعماله في الخير والنفع وهو في أصل اللغة وفي استعمال القرآن شامل لهما –ولأوعد الرباعي الخاص استعماله في الشر أو الضر، ورجح الثاني في الآية لأن الخطاب في إنذار الكافرين ونفي الإعجاز فيه للتهديد، وهو ظاهر ما جرى عليه جمهور المفسرين.
قال الرازي وفيه احتمال آخر وهو أن الوعد مخصوص بالإخبار عن الثواب وأما الوعيد فهو مخصوص بالإخبار عن العقاب فقوله :﴿ إنما توعدون لآت ﴾ يعني كل ما تعلق بالوعد والثواب فهو آت لا محالة فتخصيص الوعد بهذا الجزم يدل على أن جانب الوعد ليس كذلك. ويقوي هذا الوجه آخر الآية وهو أنه قال :﴿ وما أنتم بمعجزين ﴾ يعني لا تخرجون عن قدرتنا وحكمنا. فالحاصل أنه لما ذكر الوعد جزم بكونه آتيا، ولما ذكر الوعيد ما زاد على قوله ﴿ وما أنتم بمعجزين ﴾ وذلك يدل على أن جانب الرحمة والإحسان غالب اه.
ونقول : إن هذا يصلح أن يكون من الأوجه التي أوردها العلامة ابن القيم في ترجيح فناء النار ولكننا نراه ضعيفا وإن كنا نقول بأن جانب الرحمة والإحسان سابق وغالب في أفعال الله تعالى في الدنيا والآخرة، ووجه ضعفه أن المقام مقام الوعيد والتهديد للكفار وأن اللفظ ليس نصا في الوعيد كما أن الوعد ليس خاصا بالثواب كما تقدم ومن استعماله في العقاب قوله تعالى :﴿ قل أفأنبئكم بشر من ذلكم ؟ النار وعدها الله الذين كفروا ﴾ ( الحج ٧٢ ) وقوله ﴿ ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده ﴾ ( الحج ٤٧ }.
١ نشرنا مقالا فيما روي عنه في هذا الأمر فينظر في الجزء الرابع من المجلد ٢١ من المنار (المؤلف)..
﴿ وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاء كَمَآ أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ١٣٣ إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ١٣٤ قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدِّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ١٣٥ ﴾
هذه الآيات الثلاث مؤيدة للثلاث التي قبلها ومتممة لبيان المراد منها. أما تلك فبيان لحجة الله تعالى على المكلفين الذين بلغتهم دعوة الرسل فجحدوا بها وتقرير لهم يشهدون به على أنفسهم يوم القيامة أنهم كانوا كافرين وأن عقابهم هنالك حق وعدل وبيان لسنته تعالى في إهلاك الأمم في الدنيا بجنايتها على أنفسها لا بظلم منه بل بظلمها لأنفسها ظلما لا عذر لها فيه وبيان أن لكل من المكلفين جماعات وأفرادا درجات في الجزاء على أعمالهم. وحاصل الثلاث أن الأعمال النفسية والبدنية هي التي يترتب عليها الجزاء في الدنيا والآخرة.
وأما هذه الآيات التي قفى بها عليها فهي أيضا في بيان عقاب الأمم في الدنيا بالهلاك الصوري والمعنوي وتحقيق وعيد الآخرة وكون كل منهما مرتبا على أعمال المكلفين لا بظلم منه سبحانه ولا لحاجة له تعالى فيه لأنه غني عن العالمين بل هو مع كونه مقتضى الحق والعدل، مقرون بالرحمة والفضل، وهاك تفصيله بالقول الفصل.
وقد ختم الله هذا الوعيد والتهديد بقوله لرسوله ﴿ قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدِّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ﴾. في هذا النداء ضرب في الاستمالة للكفار الذين خوطبوا بالدعوة أولا بما يذكرهم بأنهم قوم الرسول الذين يحبهم ويحرص على خيرهم ومنفعتهم بباعث الفطرة والتربية والمنافع المشتركة وقد كانت النعرة القومية عند العرب أقوى منها عند المعروف حالهم اليوم من سائر الأمم فكان نداؤهم بقوله :" يا قوم " جديرا بأن يحرك هذه العاطفة في قلوبهم فتحمل المستعد على الإصغاء لما يقول والتأمل فيه، وقد أمر الله تعالى رسوله بمثل هذا في آخر سورة هود وأواسط سورة الزمر وحكى مثله عن شعيب عليهما السلام. والمكانة في اللغة حسية وهي المكان الذي يتبوأه الإنسان ومعنوية وهي الحال النفسية أو الاجتماعية التي يكون فيها. والمعنى اعملوا على مكانتهم وشاكلتكم التي أنتم عليها، إني عامل على مكانتي وشاكلتي التي هداني ربي إليها وأقامني فيها، فسوف تعلمون بعد حين من تكون له العاقبة الحسنى في هذه الدار بتأثير عمله. نبههم بذلك إلى الاستدلال العلمي الاجتماعي في ترتب أحوال الأمم على أعمالها المنبعثة على عقائدها وصفاتها النفسية ليستدلوا به، ثم صرح لهم بما يرشدهم على تلك العاقبة كما سنفصله.
وقال الزمخشري في الكشاف : المكانة تكون مصدرا يقال مكن مكانة إذ تمكن أبلغ التمكن وبمعنى المكان يقال مكان ومكانة ومقام ومقامة. وقوله :﴿ اعملوا على مكانتهم ﴾ يحتمل اعملوا على تمكنكم من أمركم وأقصى استطاعتكم وإمكانكم أو اعملوا على جهتكم وحالكم التي أنتم عليها، يقال للرجل إذا أمر أن يثبت على حاله : على مكانتك يا فلان : أي اثبت على ما أنت عليه لا تنحرف عنه ( إني عامل ) على مكانتي التي أنا عليها المعنى اثبتوا على كفركم وعداوتكم فإني ثابت على الإسلام وعلى مصابرتكم ﴿ فسوف تعلمون ﴾ أينا تكون له العاقبة المحمودة. وطريقة هذا الأمر طريقة قوله :﴿ اعموا ما شئتم ﴾ ( فصلت ٤٠ ) وهي التخلية والتسجيل على المأمور بأنه لا يأتي منه الشر فكأنه مأمور به وهو واجب عليه حتم ليس له أن يتفصى عنه ويعمل بخلافه اه.
وقد أشار فيه إلى ترجيح كون قوله تعالى :﴿ من تكون له عاقبة الدار ﴾ استفهام كقوله :﴿ لنعلم أي الحزبين أحصى ﴾ ( الكهف ١٢ ) الخ ثم بينه وذكر فيه وجها آخر وهو أن " من " بمعنى الذي أي فسوف تعرفون الفريق الذي تكون له العاقبة الحسنى التي خلق الله هذه الدار ( الدنيا ) لها. قال : وهذا طريق من الإنذار لطيف المسلك فيه إنصاف في المقال وأدب حسن مع تضمن شدة الوعيد والوثوق بأن المنذر ( بكسر الذال ) محق والمنذر ( بفتح الذال ) مبطل اه.
وأقول : إن غاية هذا الإنذار وروحه الإحالة على المستقبل في صدق وعد الله لرسوله بنصره ووعيده لأعدائه بقهرهم في الدنيا إذ كان هذا شيء لا بد أن يراه جمهور المخاطبين بأعينهم فيكون حجة على صدق وعده ووعيده في أمر الآخرة إذ لا فرق بينهما في كون الإخبار بهما من الإنباء بالغيب ولا في السبب الذي لأجله كانت عاقبة الرسول ومن اتبعه هي الحسنى في الدنيا والآخرة وجعل عاقبة من كفر به وناوأه هي السوءى. وقد أشار إلى هذا السبب بفاصلة الآية ﴿ إنه لا يفلح الظالمون ﴾ أي لأنفسهم بالكفر بنعم الله واتخاذ الشركاء له في ألوهيته بالتوجه إليهم فيما يتقرب به إليه تعالى أو فيما لا يطلب إلا منه وهو كل ما أعيت المرء أسبابه أو كانت مجهولة عنده فيجب أن يتوجه إليه ويدعي في هذا وحده. وأما ما عرف سببه فيطلب من طريق السبب مع العلم بأن خالق الأسباب ومسخرها هو الله خالق كل شيء ﴿ إن الشرك لظلم عظيم ﴾ ( لقمان ١٣ ) فهذا شر الظلم وأشده إفسادا للعقول والآداب والأعمال فيلزمه إذا سائر أنواع الظلم أنواع الظلم الحقيقي والإضافي.
وقد تقدم شرح هذا المعنى في تفسير ﴿ الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون ﴾ ( الأنعام ٨٢ ) من هذه السورة، وإذا كان فلاح الظالمين لأنفسهم وللناس بالأولى منتفيا بشرع الله وسنته العادلة انحصر الفلاح والفوز في أهل الحق والعدل الذين يقومون بحقوق الله وحقوق أنفسهم ومن يرتبط معهم في شؤون الحياة وهذا لا يكمل إلا لرسل الله وجندهم من المؤمنين الصالحين. ألم تر كيف نصر الله رسوله على الظالمين من قومه أولا كأكابر مجرمي مكة المستهزئين به ؟ ثم على سائر مشركي العرب ثم نصر أصحابه على أعظم أمم الأرض وأقواها جندا وأعظمها ملكا وأرقاها نظاما كالرومان والفرس ؟ ثم نصر من بعدهم من المسلمين من كل أمة وشعب على من ناوأهم وقاتلهم من أهل الشرق والغرب في الحروب الصليبية والفتوح العثمانية وغيرها بقدر حظهم من اتباع ما جاء به من الحق والعدل.
فلما ظلموا أنفسهم وظلموا الناس وصار حظهم من هداية دينهم نحوا مما كان من حظ أهل الكتاب قبلهم من هداية رسلهم أو أقل لم يعد لهم مزية ثابتة في هذا السبب المعنوي للنصر والفلاح بل انحصر الفوز في الأسباب المادية والفنية، وسائر الأسباب المعنوية، كالصبر والثبات والعدل والنظام ونرى كثيرا من الجاهلين بالإسلام يقولون ما بال المسلمين قد أضاعوا ملكهم إذ كان الله قد وعد بنصرهم ؟ وجوابه أن الله تعالى لم يعد قط بنصر من يسمون مسلمين كيفما كانت حالهم، وإنما وعد بنصر من ينصره ويقيم ما شرعه من الحق والعدل وبإهلاك الظالمين مهما تكن أسمائهم وألقابهم إذا نازعهم البقاء من هم أقرب إلى الحق والعدل أو النظام منهم ﴿ فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الأرض من بعدهم ﴾ ( إبراهيم ١٣- ١٤ ) وقد سبق تفصيل لهذا البحث غير مرة.
قرأ أبو بكر عن عاصم " مكاناتكم " بالجمع في كل القرآن والباقون بالإفراد والأصل في المكانة ألا تجمع لأنها مصدر ونكتة جمعها في هذه القراءة إفادة أن للكفار مكانات متفاوتة، لتعدد الباطل ووحدة الحق، وقرأ حمزة والكسائي " من يكون له عاقبة الدار " بالتحتية والباقون " تكون " بالفوقية وذلك أن تأنيث العاقبة لفظي غير حقيقي وقد فصل بينه وبن العامل فحسن تذكير الفعل كتأنيثه وفي حال الفصل يجوز تذكير العامل وإن كان المعمول مؤنثا حقيقيا.
ومن مباحث البلاغة اقتران سوف بالفاء هنا وفي سورة الزمر لأنها في جواب الشرط الذي يقتضيه المقام وتركت الفاء في آية هود ( ١١ : ٩٣ ) لأنها في جواب شعب لقومه عن قولهم :﴿ ما نفقه كثيرا مما تقول ﴾ الخ فهو إخبار لهم بأنهم سوف يعلمون عاقبة ما قالوا أنهم لا يفقهونه اه ملخصا من درة التنزيل.
بعد محاجة مشركي مكة وسائر العرب فيما تقدم من أصول الدين وآخرها البعث والجزاء ذكر بعض عبادتهم الشركية في الحرث والأنعام وقتل الأولاد والتحليل والتحريم بباعث الأهواء النفسية والخرافات الوثنية، فقال :﴿ وَجَعَلُواْ لِلّهِ مِمِّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا ﴾ أي وكان من أمرهم في ضلالتهم العملية أن جعلوا لله نصيبا مما ذرأ وخلق لهم من ثمر الزرع وغلته كالتمر والحبوب ونتاج الأنعام ونصيبا لمن أشركوا معه من الأوثان والأصنام وقد حذف ذكر هذا النصيب إيجاز لدلالة ما بعده عليه وهو قوله تعالى :﴿ فَقَالُواْ هَذَا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَآئِنَا ﴾ أي فقالوا في الأول هذا لله أي نتقرب به إليه وفي الثاني هذا لشركائنا أي معبوداتهم يتقربون به إليها، وقوله في الأول بزعمهم معناه بتقولهم ووضعهم الذي لا علم لهم به ولا هدى من الله لأن جعله قربة لله يجب أن لا يشرك معه غيره فمثله وأن يكون بإذن منه تعالى لأنه دين وإنما الدين لله ومن الله وحده ؟ وأما كونه لله خلقا وملكا فغير مراد في هذه القسمة فإن له تعالى كل شيء لأنه خالق كل شيء لا شريك له في الخلق، وهذا لا خلاف فيه بينهم وبين المؤمنين وإنما الخلاف في التقرب إلى غيره تعالى بمثل ما يتقرب به إليه من دعاء وصدقة وذبائح نسك، وأن يطاع غيره طاعة خضوع في التحليل والتحريم لذاته بغير إذن منه تعالى وغير ذلك، فهذا شرك جلي، ومنه هذه القسمة بين الله تعالى وبين ما أشركوا معه.
روي أنهم كانوا يجعلون نصيب الله تعالى لقرى الضيفان وإكرام الصبيان والتصدق على المساكين ونصيب آلهتهم لسدتنا وقرابينها وما ينفق على معاهدها، فإن قيل لمَ قرن الأول بالزعم الذي يعبر به عن قول الكذب والباطل على ما فيه من البر والخير دون الثاني الذي هو شر محض وباطل بحت وبه كان الأول شركا في القسمة ودون جعله لكل منهما ؟ نقول إن الأول وحده هو الذي يمكن أن يستحسنه المؤمن أو العاقل وإن لم يكن مؤمنا فاحتيج إلى قرنه بكونه زعما مخترعا لهم لا دينا مشترعا لله تعالى فكان بهذا باطلا في نفسه فوق كونه مقرونا بالشرك إذ جعلوا مثله لما اتخذوا لله من الأنداد مع أحكام أخرى لهم فيه فصلها بقوله :
﴿ فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللّهِ ﴾ أي فما كان منه للتقرب إلى شركائهم التي جعلوها لله فلا يصل إلى الوجوه التي جعلوها لله لا بالتصدق ولا بالضيافة ولا غيرهما بل يعنون بحفظه لها بإنفاقه على سدنتها وذبح النسائك عندها ونحو ذلك ﴿ وَمَا كَانَ لِلّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ ﴾ أي وما جعلوه لله فهو يحول أحيانا إلى التقرب به إليها فيما ذكر آنفا وفي غيره مما سيأتي ﴿ سَاء مَا يَحْكُمُونَ ﴾ أي قبح حكمهم هذا أو ما يحكمون به. وقبحه من وجوه منها أنه اعتداء على الله بالتشريع، ومنها الشرك في عبادته ولا يجوز أن يكون لغير الله أدنى نصيب مما يتقرب به إليه، ومنها ترجيح ما جعلوه لشركائهم على ما جعلوه لخالقها فيما فصل آنفا وهو أدنى الوجوه الثلاثة المحتملة في القسمة، والثاني المساواة بين ما لشركائهم وما لله سبحانه، والثالث ترجيح ما لله تعالى. ومنها أن هذا الحكم لا مستند له من العقل، كما أنه لا هداية فيه من الشرع، وهذا مما يستدل به عل أن العقول تدرك حسن الأحكام وقبحها ويحتج بها فيها. ولما كان مورد هذا هو الرواية وقد روي عنهم سخافات أخرى في هذه القسمة الجائرة اخترنا أن ننقل ما أورده الحافظ ابن كثير في تفسير الآية قال :
قال علي بن أبي طلحة والعوفي عن ابن عباس أنه قال في تفسير هذه الآية إن أعداء الله كانوا إذا حرثوا حرثا أو كانت لهم ثمرة جعلوا لله منه جزءا وللوثن جزءا فما كان من حرث أو ثمرة أو شيء من نصيب الأوثان حفظوه وأحصوه وإن سقط منه شيء فيما سمي للصمد، ردوه إلى ما جعلوه للوثن وإن سبقهم الماء الذي جعلوه للوثن فسقى شيئا جعلوه ذلك للوثن، وإن سقط شيء من الحرث والثمرة الذي جعلوه لله فاختلط بالذي جعلوه للوثن قالوا هذا فقير ولم يردوه إلى ما جعلوه لله، وإن سبقهم الماء الذي جعلوه لله فسقى ما سمي للوثن تركوه للوثن. وكانوا يحرمون من أموالهم البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي فيجعلونه للأوثان ويزعمون أنهم يحرمونه قربة لله فقال الله تعالى :﴿ وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا ﴾ الآية.
وهكذا قال مجاهد وقتادة والسدي وغير واحد، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في الآية : كل شيء يجعلونه لله من ذبح يذبحونه لا يأكلونه أبدا حتى يذكروا معه أسماء الآلهة وما كان للآلهة لم يذكروا اسم الله معه، وقرأ الآية حتى بلغ ﴿ ساء ما يحكمون ﴾ أي ساء ما يقسمون لأنهم أخطأوا أولا في القسم لأن الله تعالى هو رب كل شيء ومليكه وخالقه وهو الملك وكل شيء له وفي تصرفه وتحت قدرته ومشيته لا إله غيره ولا رب سواه، ثم لما قسموا فيما زعموا القسمة الفاسدة لم يحفظوها بل جاروا فيها كقوله جل وعلا :﴿ ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون ﴾ ( النحل ٥٧ ) وقال تعالى :﴿ وجعلوا له من عباده جزءا إن الإنسان لكفور مبين ﴾ ( الزخرف ١٥ ) وقال تعالى :﴿ ألكم الذكر وله الأنثى ؟ تلك إذا قسمة ضيزى ﴾ ( النجم ٢١- ٢٢ ) اه.
﴿ وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ ﴾ هذا حكم آخر مما كانوا عليه من أعمال الشرك التي لا يستحسنها عقل سليم، ولم تستند إلى شرع إلهي قويم، أي ومثل ذلك التزيين لقسمة القرابين من الحرث والأنعام بين الله تعالى وبين آلهتهم زين لكثير من المشركين شركاؤهم قتل أولادهم. فأما الشركاء هنا فقيل هم سدنة الآلهة وخدمها وقيل بل هم الشياطين الذين يوسوسون لهم ما يزين ذلك في أنفسهم وإنما سمي كل منهما شريكا لأنه يطاع ويدان له فيما لا يطاع به إلا الله تعالى ولهذا التزيين وجوه :
أحدهما : اتقاء الفقر الواقع أو المتوقع فالأول هو ما بينه الله تعالى بقوله :﴿ ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ﴾ ( الأنعام ١٥١ ) والثاني : ما بينه بقوله :﴿ ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم ﴾ ( الإسراء ٣١ ) وقدم في الأول رزق الوالدين على رزق الأولاد لأن الولد الصغير تابع لوالده في الرزق الحال، وقدم في الثاني رزق الأولاد على رزق الوالدين لتعلقه بالمستقبل وكثيرا ما يعجز فيه الآباء عن كسب الرزق ويحتاجون إلى إنفاق أولادهم عليهم.
والوجه الثاني : اتقاء العار وهو خاص بوأد البنات أي دفنهن حيات خشية أن يكن سببا للعار إذا كبرن، فهم يصورون البنت لوالدها الجبار العاتي ترتكب الفاحشة، أو تقترن بزوج دونه في الشرف والكرامة فتلحقه الخسة، أو تسئ في القتال.
والوجه الثالث : التدين بنحر الأولاد للآلهة تقربا إليها بنذر أو بغير نذر، وكان الرجل ينذر في الجاهلية لئن ولد له كذا غلاما لينحرن أحدهم كما حلف عبد المطلب وخبره معروف يذكر في قصص المولد النبوي. ولولا الشرك الذي يفسد العقول لما راجت هذه الوسوسة عندهم ولذلك عبر عنهم هنا بوصف ( المشركين ) في مقام الإضمار لأن الكلام السابق فيهم. وسمى المزينين لهم ذلك من شياطين الإنس كالسدنة أو الجن شركاء وإن لم يسموهم هم آلهة أو شركاء لأنهم أطاعوهم طاعة إذعان ديني في التحليل والتحريم، وهو خاص بالرب المعبود، كما ورد مرفوعا في تفسير ﴿ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ﴾ ( التوبة ٣١ ) فإن مقتضى الفعل الإذعاني أقوى دلالة من مدلول القول اللساني لكثرة الكذب في هذا دون ذاك، وإننا نرى كثيرا من الذين يدعون التوحيد يدعون غير الله تعالى من الموتى تضرعا وخفية خاشعين عند قبورهم باكين متضرعين ويتقربون إليهم بالصدقات وذبائح النسك منذورة أو غير منذورة ولكنهم لا يسمونهم شركاء لله ولا يسمون عبادتهم هذه شركا ولا عبادة وقد يسمونها توسلا. والأسماء لا تغير الحقائق والأفعال، ومنها الأقوال كالدعاء أدل على الحقائق من التسمية الاصطلاحية والتأويلات الجدلية فهذه الأفعال عبادة لغير الله حقيقة لغة وشرعا لا مجازا.
وقرأ ابن عامر ( زين ) بالبناء للمفعول الذي هو ( قتل ) ونصب ﴿ أولادهم ﴾ مفعولا للقتل وجر الشركاء بإضافة القتل إليه مع الفصل بينهما بمفعوله، وهو غير فصيح في عرف النحاة وإن أجازوه حتى في غير الشعر، ولذلك أنكر القراءة الزمخشري وغلط ابن عامر لظنه أنه استنبطها من كتابة بعض المصاحف وانتصر لها ابن مالك في الألفية وشنعوا على الزمخشري في إنكارها وكادوا يكفرونه به ولكن سبقه به إمام المفسرين ابن جرير الطبري والقرآن في جميع رواياته الثابتة بالتواتر حجة على كل أحد وقد تكون القراءة فصيحة على لغة القبيلة التي وردت ببيان عملها وإن لم تكن فصيحة عند من راعى جمهور النحاة لغاتهم في القواعد، وقد يكون ورود القراءة بغير الشائع في الاستعمال وهو ما يسميه النحاة الشاذ لنكتة تجعلها من البلاغة بمكان، كإفادة معنى جديد مع منتهى الإيجاز، كما يدل عليه معنى هذه القراءة وكثير من القراءات. معناها زين لكثير من المشركين قتل شركائهم لأولادهم أي استحسنوا ما توسوسه شياطين الإنس من سدنة الأصنام وشياطين الجن من قتل الأولاد فكأن هؤلاء الشركاء هم الذين قتلوهم، ففائدة هذه القراءة إذا تذكير أولئك السفهاء بقبح طاعة أولئك الشركاء في أفظع الجرائم والجنايات وهو قتل الأولاد.
ثم علل هذا التزيين بقوله تعالى :﴿ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ ﴾ أي زينوا لهم هذه المنكرات ليردوهم أي يهلكوهم بالإغواء وهو إفساد الفطرة، الذي يذهب بما أودع في قلوب الوالدين من عواطف الرأفة والرحمة. بل يقلبها على منتهى الوحشية والقسوة، حتى ينحر الوالد ريحانه قلبه بمديته، ويدفن بنته الضعيفة وهي حية بيده، فهذا إرداء نفسي معنوي فوق الإرداء الحسي وهو القتل، وتقليل النسل : وأما لبس دينهم عليهم فالمراد بالدين فيه ما كانوا يدعونه من دين إسماعيل وملة إبراهيم عليهما السلام، وقد اشتبه واختلط عليهم بما ابتدعوه من هذه التقاليد الشركية حتى لم يعد يعرف الأصل الذي كان يتبع من هذه الإضافات الشركية التي لا تزال تبتدع، فاللبس الخلط بين الشيئين أو الأشياء الذي يشتبه فيه بعضها ببعض، وقيل إن المراد دينهم الذي وجب أن يكونوا عليه، وقيل ليوقعوهم في دين ملتبس مشتبه لا تتجلى فيه حقيقة، ولا تخلص فيه هداية. وهذا التعليل ظاهر على القول بأن الشركاء شياطين الجن وتزيينهم وسوستهم. وأما على القول بأن الشركاء هم سدنة الآلهة فاللام للعاقبة والصيرورة لأن السدنة لا تقصد الإرداء لهم ولبس الدين عليهم، كذا قيل وهو ظاهر في الإرداء، ولا يصح على إطلاقه في لبس الدين فإن كثيرا من السدنة والكهنة يقصدون العبث بدين من يتبعهم ويدين لهم التذاذا بطاعتهم واستعلاء بالرياسة فيهم.
قال تعالى :﴿ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ﴾ أي ولو شاء الله تعالى ألا يفعل الشركاء ذلك التزيين أو المشركون ذلك القتل لما فعلوه وذلك بأن يغير خلقهم وسننه الحكمية فيهم ولكنه أخبرنا بأنه لا تبديل لخلقه ولا لسننه، أو بأن يخلق الناس من أول الأمر مطبوعين على عبادة الله تعالى طبعا لا يستطيعون غيره كالملائكة فلا يؤثر فيهم إغواء بل لا تتوجه إليهم وسوسة لعدم استعدادهم لقبولها، ولكنه شاء أن يخلق الناس مستعدين للتأثر بكل ما يريد على أنفسهم من المعلومات الحسية والفكرية ولا اختيار ما يترجح في أنفسهم أنه خير لهم على ما يقابله، ولأجل هذا يغلب على كل إنسان ما رسخ في نفسه بالتعليم والاستنباط وتأثير المعاشرة والاختلاط، فيكون عليه اعتماده في ترجيح بعض الأعمال على بعض، والناس متفاوتون في هذا استعدادا واستفادة فلا يمكن أن يكونوا على دين واحد أو رأي واحد، فدع أيها الرسول هؤلاء المفترين على الله بانتحال ما لم يشرعه له وما يفترونه من العقائد والأعمال المستندة إليها وعليك بما أمرت به من التبليغ، ولله تعالى سنن في الاهتداء لا تتغير ولا تتبدل، فلا يحزنك أمرهم، فإن من سنته أن يغلب حقك باطلهم.
هذا معنى الآية الموافق لكتاب الله ومقتضى صفاته وسننه في خلقه التي أخبر بأنها لا تبديل لها ولا تحويل، وليس معناها أن مشيئة الله تعالى قد تعلقت بأن يقتل هؤلاء أولادهم تعلقا ابتدائيا بأن يكون أمرا خلقيا كدوران الدم في البدن لا اختيار لهم فيه ولا يستطيعون سبيلا إلى تركه، كيف وقد وصفهم في الآية الآتية بأنهم يفعلونه سفها بغير علم وقد تركوا هذا السفه والجهل بهداية الإسلام، فلا حجة في الآية للجبرية وإن لهج بها خواصهم وعوامهم بغير علم ولا فهم.
﴿ وَقَالُواْ هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَن نّشَاء بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لاَّ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهَا ﴾ هذه ثلاثة أنواع أخرى من أحكامهم المخترعة المبنية على غواية شركهم فالأول : أنهم كانوا يقتطعون بعض أنعامهم وأقواتهم من الحبوب وغيرها ويمنعون التصرف فيها إلا فيما يخصونها له تعبدا ويقولون " هي حجر " وهو بالكسر بمعنى المحجور الممنوع أن يتصرف فيه كالذبح بمعنى المذبوح والطحن بمعنى المطحون، ويجري وصفا للمذكر والمؤنث والمفرد والمثنى والجمع لأن حكمه حكم الأسماء غير الصفات وأصله ما أحيط بالحجارة ومنه حجر الكعبة وسمي العقل حجرا لأنه يمنع صاحبه مما يضر ويقبح من الأعمال.
قال ابن عباس ومجاهد والضحاك والسدي : الحجر الحرام مما حرموا من الوصيلة وتحريم ما حرموا اه أي وما حرموا من غيرها. وقال زيد بن أسلم حجر إنما احتجروها لآلتهم. وقال قتادة حجر عليهم في أموالهم من الشياطين وتغليظ وتشديد ولم يكن من الله. أي ولهذا قال بزعمهم. قالوا وكانوا يحتجرونها عن النساء ويجعلونها للرجال وقالوا إن شئنا جعلنا للبنات فيها نصيبا وإن شئنا لم نجعل. وهذا أمر افتروه على الله.
والثاني : أنعام حرمت ظهروها أي أن تركب قال السدي هي البحيرة والسائبة والحامي. وقد تقدم ذكرها في سورة المائدة ﴿ ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام، ولكن الذي كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون ﴾ ( المائدة ١٠٣ ).
والثالث : أنعام لا يذكرون اسم الله عليها في الذبح. بل يهلون بها لآلهتهم وحدها. وعن أبي وائل كانوا لا يحجون عليها فلا يلبون على ظهورها، وقال مجاهد : كان من إبلهم طائفة لا يذكرون اسم الله عليها ولا في شيء من شأنها لا إن ركبوا ولا إن حلبوا ولا إن حملوا ولا إن سبحوا ولا إن عملوا شيئا اه.
وجملة القول أنهم قسموا أنعامهم هذا التقسيم الذي جعلوه من أحكام الدين فنسبوه إلى الله تعالى حكما وديانة ﴿ افْتِرَاء عَلَيْهِ ﴾ أي قالوه أو فعلوه مفترين إياه أو افتروه افتراء واختلقوه اختلاقا والله بريء منه لم يشرعه لهم، وما كان لغير الله أن يحلل أو يحرم على العباد ما لم يأذن به كما قال في آية أخرى :﴿ قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا، قل الله أذن لكم أم على الله تفترون ﴾ ( يونس ٥٩ ) أي بل أنتم تفترون عليه. ولا يزال بعض الناس يحلون ويحرمون على أنفسهم وعلى الناس بأهوائهم أو تقليد بعض المصنفين من أوليائهم والمنتحلين لمذاهبهم، إما موقتا بيمين أو نذر أو تنسك تصوف، وإما تحريما مطلقا دائما، وهم يجهلون على ادعائهم للعلم والدين، أنهم يتبعون بذلك المشركين الذين بينت هذه الآيات سوء حالهم، وذيلت هذه الآية يتبعون سوء مآلهم، وهو قوله تعالى :﴿ سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ﴾ أي سيجزون الجزاء الشديد الأليم بسبب هذا الافتراء القبيح.
﴿ وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِن يَكُن مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاء ﴾ هذا ضرب آخر من أحكامهم السخيفة في التحريم والتحليل وهو خاص بما في بطون بعض الأنعام من اللبن والأجنة. روي أن المراد بالأنعام هنا البحائر وحدها أو هي والسوائب : كانوا يجعلون لبنها للذكور ويحرمونه على الإناث وكانت إذا ولدت ذكرا حيا جعلوه خالصا للذكور لا تأكل منه الإناث وإذا كان ميتا اشترك فيه الذكور والإناث وإذا ولدت أنثى تركوها لأجل النتاج. وبعض مفسري السلف لم يقيدوا هذه الأنعام بالبحائر والسوائب فيمكن حمل المطلق على المقيد، ويحتمل أنهم كانوا يقولون ذلك في أنعام أخرى يعينونها بغير وصف البحيرة أي مشقوقة الأذن والسائبة التي تسيب وتترك الآلهة فلا يتعرض لها أحد وعن الشعبي وعكرمة وقتادة وغيرهم أن البحيرة لا يأكل من لبنها إلا الرجال وإن مات منها شيء أكله الرجال والنساء. فإن قيل إن الآية في شأن ما في بطون هذه الأنعام لا في نفسها فلا يصح إدخال قول هؤلاء في تفسيرها قلنا يصح ذلك بل هو المتبادر من بعض القراءات.
قرأ ابن عامر " وإن تكن " بالتاء و " ميتة " بالرفع، وابن كثير يكن بالياء وميتة بالرفع، وأبو بكر عن عاصم يكن بالياء وميتة بالنصب. فأما الأول فليس في قراءته إلا تأنيث الفعل " تكن " لتأنيث خبره وأما قراءة ابن كثير فقالوا إن فيها حذف الخبر والتقدير وإن يكن لهم ميتة أو وإن يكن هناك ميتة، وتذكير الفعل لأن الميتة بمعنى الميت، وهذا يصدق بتلك الأنعام نفسها وبأجنتها التي في بطونها، ومثل ذلك ما إذا جعلت يكن بمعنى يوجد أي فعلا تاما. وقالوا في تقدير قراءة عاصم : وإن تكن المذكورة ميتة وهو يشمل تلك الأنعام وما في بطونها أيضا. بل قال بعضهم مثل هذا في قراءة الباقين ولكن الذي يتبادر إلى ذهن العربي الفصيح من قوله تعالى :﴿ وإن يكن ميتة ﴾ بالنصب أن المراد وإن يكن ما في بطون تلك الأنعام ميتة. فالفائدة المعنوية في اختلاف القراءات ما ذكرنا وما عداه فاختلاف وجوه جائزة في اللغة.
ومن مباحث اللفظ في الآية أن قوله خالصة فيه وجوه : أحدها أن التاء فيه للمبالغة في الوصف كراوية وداهية وطاغية فلا يقال أنه غير مطابق للمبتدأ على القول بأنه خبر، وثانيهما أن المبتدأ وهو " ما في بطون هذه الأنعام " مذكر اللفظ مؤنث المعنى لأنه المراد به الأجنة فيجوز تذكير خبره باعتبار اللفظ وتأنيثه باعتبار المعنى، وثالثها أنه مصدر فتكون العبارة مثل قولهم عطاؤك عافية والمطر رحمة والرخصة نعمة، ورابعها أنه مصدر مؤكد أو حال من المستكن في الظرف وخبر المبتدأ " لذكورنا ".
﴿ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حِكِيمٌ عَلِيمٌ ﴾ يقال جزاه كذا وبكذا أي جعله جزاء له على عمل عمله، قال تعالى :﴿ أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ﴾ ( الفرقان ٧٥ ) الخ وقال :﴿ فذلك نجزيه جهنم ﴾ ( الأنبياء ٢٩ ) وقال ﴿ هل تجزون إلا ما كنتم تعلمون ﴾ ( النمل ٩٠ ) وقال :﴿ هل تجزون إلا ما كنتم تعملون ﴾ ( النمل ٩٠ ) وجعل الجزاء عين العمل قد تكرر في سورة أخرى وقدروا له كلمة جزاء أو ثواب وعقاب بناء على أن العمل هو ما يجازي عليه لا ما يجازي به، ولكن تعبير الكتاب لا يكون إلا لنكتة عالية في البلاغة وهي عندنا الإيذان بأن الجزاء لما كان أثرا لما يحدثه العمل في النفس من تزكية أو تدسية، كان كأنه عين العمل، فإن النفس تنعم أو تعذب بالصفة التي تطبعها فيها الأعمال، وبهذا يتجلى لك هنا معنى جعل جزاء المفترين على الله في التشريع وصفهم ولا سيما إذا جعل الوصف هنا بمعنى الصفة التي هي حالة النفس وصورتها، وقد بينا هذا المعنى في التفسير مرارا.
ومعنى الجملة مع تعليلها سيجزيهم الله بمقتضى حكمته في الخلق وعلمه بشؤونهم وأعمالهم ومناشئها من صفاتهم بأن يجعل عقابهم عين ما يقتضيه وصفهم ونعتهم الروحي، فإن لكل نفس في الآخرة صفات تجعلها في مكان معين من عليين، أو سجين في أسفل سافلين، كما أن صفة الجسم السائل الخفيف تقتضي بسنن الله أن يكون فوق الجسم الثقيل كما ترى في الزيت إذا وضع في إناء مع الماء. وما يعرف الناس من درجات الحرارة في موازينها المعروفة مثال موضح للمراد، فمنشأ الجزاء نفس الإنسان باعتبار عقائدها وسائر صفاتها التي يطبعها العمل عليها. وإذا جعل الوصف مصدرا فلا بد من تقدير معموله كأن يقال سنجزيهم وصفهم لربهم بما جعلوا له من الشركاء في العبادة والتشريع، أو وصف ألسنتهم الكذب بما افتروا عليه فيهما ﴿ ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب : هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب ﴾ ( النحل ١١٦ ) الآية.
قال الزمخشري في مادة وصف الأساس : ومن المجاز وجهها يصف الحسن ولسانه يصف الكذب وذكر هذه الآية ثم قال : وهذه ناقة تصف الإدلاج قال الشماخ :
إذا ما أدلجت وصفت يداها لها الإدلاج ليلة لا هجوع١
وفي روح المعاني أن الجملة كما قال بعض المحققين من بليغ الكلام وبديعه فإنهم يقولون : وصف كلامه الكذب إذا كذب : وعين تصف السحر أي ساحرة، وقد يصف الرشاقة بمعنى رشيق مبالغة حتى كأن من سمعه أو رآه وصف له ذلك بما يشرحه له. قال المعري :
سرى برق المعمرة بعد وهن فبات برامة يصف الملالا
١ البيت من الوافر، وهو للشماخ في ديوانه ص ٢٢٦ ولسان العرب (وصف) (لا) وأساس البلاغة (وصف) وتاج العروس (وصف) (لا) وبلا نسبة في تهذيب اللغة ١٥/ ٤١٨..
﴿ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلاَدَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ اللّهُ افْتِرَاء عَلَى اللّهِ قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ ﴾ حاصل ما أنكر الله تعالى على مشركي العرب في هذا السياق يرجع إلى الأمرين الفظيعين اللذين نعتهما عليهم هذه الآية وحكمت عليهم فيهما حكما حقا وعدلا وهو أنهم خسروا بقتل أوالدهم وبوأد البنات الآتي بيانه وغيره خسرانا عظيما دل عليه حذف مفعول خسروا الدال على العموم في بابه ليتروى السامع فيه، ويتأمل ما وراء قوادمه من خوافيه، وذلك أن خسران الأولاد يستلزم خسران كل ما كان يرجى من فوائدهم من العزة والنصرة، والبر والصلة والفخر والزينة، والسرور والغبطة، كما يستلزم خسران الوالد القاتل لعاطفة الأبوة ورأفتها وما يتبع ذلك من القسوة والغلظة والشراسة وغير ذلك من مساوي الأخلاق التي يضيق بها العيش في الدنيا ويترتب عليها العقاب في الآخرة. ولذلك علل هذا الجرم بسفه النفس وهو اضطرابها وحماقتها، وبالجهل أي عدم العلم بما ينفع ويضر وما يحسن ويقبح.
ثم بين بعد هذا أنهم حرموا ما رزقهم الله من الطيبات وهذا سفه وجهل أيضا ولكنه دون ما سبقه من هذه الجهة، ولذلك اقتصر على تعليله بشر ما فيه من القبح وهو الافتراء على الله بجعله دينا يتقرب به إليه. ثم بين نتيجة الأمرين بأنهم قد ضلوا فيهما وما كانوا مهتدين إلى شيء من الحق والصواب من طريق العقل ولا من طريق الشرع ولا من منافع الدنيا ولا من سعادة الآخرة، فهذه الأعمال أقبح ما كانت عليه العرب من غواية الشرك، وقد عاد إلى المسلمين شيء منه بتحريم ما لم يحرم الله وجعله دينا وهم لا يشعرون.
أخرج البخاري١ وغيره عن ابن عابس قال : إذا سرك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين ومائة من سورة الأنعام :﴿ قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها ﴾ إلى قوله ﴿ وما كانوا مهتدين ﴾ وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن عكرمة في الآية قال : نزلت فيمن كان يئد البنات من مضر وربيعة. كان الرجل يشترط على امرأته أنك تئدين جارية ( أي بنتا ) وتستحيين ( أي تبقين ) أخرى فإذا كانت الجارية التي توأد غدا من عند أهله أو راح وقال أنت علي كأمي ( أي محرمة ) إن رجعت إليك ولم تئديها، فترسل إلى نسوتها فيحفرن لها حفرة فيتداولنها بينهن فإذا بصرن به مقبلا دسسنها في حفرتها ويسوين عليها التراب أي وهي حية وهذا هو الوأد. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في الآية قال : هذا صنع أهل الجاهلية كان أحدهم يقتل ابنته مخافة السباء والفاقة ويغذو كلبه.
١ كتاب المناقب باب ١٢.
هذه الآيات إلى تمام العشر بعدها في تتمة سياق مسألة تحريم المشركين ما لم يحرم الله تعالى من الأنعام وغيرها من الأغذية وما يتعلق به، وقد قلنا إنه ذكر في هذه السورة المنزلة في أصول الدين وما يقابلها من أصول الشرك والكفر لأنه من هذه الأصول لا لمجرد كونه من جهالاتهم وضلالاتهم العملية. ذلك بأن أصل الدين الأعظم توحيد الله تعالى باعتقاد الألوهية والربوبية له وإفراده بالعبادة وحق التشريع بأن نؤمن بأنه لا رب ولا خالق غيره ولا إله يعبد معه أو من دونه ولا شارع سواه لعبادة ولا حلال ولا حرام، وفي هذه العقيدة منتهى تكريم الإنسان فتأمل ذلك كله في هذه الآيات البينات.
﴿ وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ ﴾ الإنشاء إيجاد الأحياء وتربيتها وكذا كل ما يكمل بالتدريج كإنشاء السحاب وكتب العلم والشعر والدور. والجنات البساتين والكروم الملتفة الأشجار بحيث تجن الأرض وتسترها. والمعروشات المسموكات على العرائش وهي ما يرفع من الدعائم ويجعل عليها مثل السقوف من العيدان والقصب. ومادة عرش تدل على الرفع ومنها عرش الملك.
والمعروشات معروفة عند العامة والخاصة يقال عرش دوالي العنب عرشا وعروشا وعرشها تعريشا إذا رفعه على العريش. ويقال عرشت الدوالي تعرش ( بكسر الراء ) إذا ارتفعت بنفسها. وعن ابن عباس أن المعروشات ما يعرش من الكرم وغيره وغير المعروشات ما لا يعرش منها. وفي رواية عنه أن الأول ما عرش الناس أي في الأرياف والعمران والثاني ما خرج في الجبال والبرية من الثمرات.
والمعهود أن الكرم منه ما يعرش ومنه ما يترك منبسطا على الأرض وكله من جنس المعروشات التي أودع الله فيها خاصية التسلق والاستمساك بما تتسلق عليه من عريش مصنوع أو شجر أو جدار ونحوه فالمتبادر من صيغة الجمع في القسمين أن المراد بالأول أنواع المعروشات بالقوة كالكرم وإن لم يوجد ما تعرش عليه بالفعل وبالثاني غير المعروشات من سائر أنواع الشجر الذي يستوي على سوقه ولا يتسلق على غيره، وخصهما بعضهم بالكرم، وعلى هذا يكون عطف النخل عليه وقرنه به لأنه قسيمه في كون ثمرها من أصول الأقوات وقرينه فيما سيأتي بيانه من الفوائد والشبه.
وأما على القول بأن النخل من قسم الجنات غير المعروشات فيكون ذكره تخصيصا له من أفراد العام لما فيه من المنافع الكثيرة ولا سيما للعرب فإن يسره ورطبه فاكهة وغداء، وتمره من أفضل الأقوات التي تدخر، وأيسرها تناولا في السفر والحضر ليس فيه مؤنة ولا يحتاج إلى طبخ ولا معالجة، ونواه علف للرواحل، ولهم منه شراب حلال لذيذ إذا نبذ في الماء زمنا قليلا وهو النبيذ أي النقوع وكان أكثر خمرهم منه ومن بسره { ولا منة في الرجس ) دع ما في جريد النخل وليفه من المنافع والفوائد فهو بمجموع هذه المزايا يفضل الكرم الذي هو أقرب الشجر منه وأشبه به شكلا ولونا في عنبه وزبيبه ومنافعه تفكها وتغذيا وتحليا وشربا.
ثم عطف عليه الزرع وهو النبات الذي يكون بحرث الناس وهو عام لكل ما يزرع على القول بالعموم فيما قبله. وأما على القول بتخصيص الجنات بالكرم فينبغي أن يخص بما يأتي منه القوت كالقمح والشعير ويكون ترتيب المعطوفات على طريقة الترقي من الأدنى في التغذية واقتيات الناس إلى الأعلى والأعم فإن الحبوب هي التي عليها معول أكثر البشر في أقواتهم وهذا عكس الترتيب في قوله تعالى :﴿ وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرا نخرج حبا متراكبا ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه ﴾ ( الأنعام ٩٨ ) فترتيب الأقوات في هذه الآية على طريق التدلي من الأعلى في الاقتيات إلى الأدنى فالأدنى، والفرق بينهما أن هذه جاءت في مقام سرد الآيات الكونية على وحدانية الله وقدرته وحكمته ورحمته بعباده. وقبلها آيات في آياته في العام العلوي وفي خلق الإنسان وهو دونه وعالم النبات أدنى منهما فروعي التدلي في أنواعه كما روعي فيما بينه وبين ما قبله.
والمقام في الآية التي نفسرها وما بعدها مقام ذكر الأقوات لبيان شرع منشئها في إباحتها في مقابلة ضلال المشركين فيما ذكر قبلها من التحليل والتحريم بأهواء الشرك وهو قوله :﴿ وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا ﴾ ( الأنعام ١٣٦ ) الخ فقدم هناك الحرث على الأنعام لأن ضلالهم فيه أقل من ضلالهم فيها وجرى هنا على الترتيب فذكر الحرث أولا لما ذكر وترقى إلى ذكر الأنعام لكثرة ضلالهم فيها وما يحتاج إليه من تفضيل القول الحق في ذلك، وهو انتقال من المهم إلى الأهم في المعنى المراد وتأخير لما اقتضت الحال إطالة القول فيه على الأصل. فحسن الترقي في ذكر أنواع الأقوات النباتية تفصيلا كما حسن فيها بينها بجملتها وبين الأقوات الحيوانية. ولما ذكرنا من اختلاف المقام في الآيتين قال في آية :﴿ انظروا إلى ثمره ﴾ ( الأنعام ٩٩ ) وقال هنا ﴿ كلوا من ثمره ﴾ ولم أر أحدا تعرض لهذه النكت هنا.
أنشأ تعالى ما ذكر ﴿ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ ﴾ الأكل ما يؤكل وفيه لغتان ضم الهمزة والكاف وبه قرأ جمهور القراء وسكون الكاف مع ضم الهمزة وبه قرأ نافع وابن كثير والضمير فيه قيل إنه راجع إلى الزرع ومنه يعلم حكم ما قبله وقيل بالعكس، والأرجح أنه راجع إلى كل ما قبله. والمعنى أنه أنشأ ما ذكر من الجنات والنخل والزرع حال كونه مختلفا ثمره الذي يؤكل منه في شكله ولونه وطعمه وريحه عندما يوجد أي قدر ذلك فيه عند إنشائه، فهو كقوله تعالى في سورة يس بعد ذكر الحب وجنات النخيل والأعناب ﴿ ليأكلوا من ثمره ﴾ ( يس ٣٥ ) أي ثمر المذكور قاله الزمخشري وجها واستشهد له ولمثله في آيات أخرى بقول رؤبة ابن العجاج :
فيها خطوط من سواد وبلق كأنه في الجلد توليع البهق١
وقال إنه قيل له في ذلك أي لم قال كأنه ولم يقل كأنها وهي جمع مؤنث فقال أردت كأن ذلك. والذي راجعه فيه هو الراوية أبو عبيدة.
﴿ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ ﴾ أي وأنشأ الزيتون والرمان متشابها في المنظر وغير متشابه في المطعم، قاله ابن جريج، قيل إن المراد التشابه بين الزيتون والرمان في شكل الورق دون الثمر، وقيل بل المراد ما بين أنواع الرمان من التشابه في الشجر والثمر مع التفاوت في الطعم من حلو وحامض ومر وفي لون الحب من أحمر قانئ قمد أو فقاعي وأبيض ناصع أو أزهر مشرب بحمرة. ويراجع في هذا وفي مكان الزيتون والرمان مما ذكر قبله تفسير الآية ( ٩٨ ) من هذه السورة ومنه تعلم وجه تخصيص هذين النوعين بالذكر.
﴿ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ ﴾ أي كلوا من ثمر ذلك الذي ذكر من أول الآية على ما اخترناه في قوله مختلفا أكله وسيأتي معنى هذا الشرط. وقد قالوا إن الأمر هنا للإباحة أي بعد أن آذن الله تعالى عباده بأنه هو الذي أنشأ لهم ما في الأرض من الشجر والنبات الذي يستغلون منه أقواتهم آذنهم بأنه أباحه كله لهم فليس لأحد غيره أن يحرم شيئا منه عليهم، لأن التحريم حق للرب الخالق للعباد والأقوات جميعا فمن انتحله لنفسه فقد جعل نفسه شريكا له تعالى، ومن أذعن لتحريم غير الله وأطاعه فيه فقد أشركه معه سبحانه وتعالى، كما علم من تفسير الآيات التي قبل هذه ويؤكده ما في الآيات بعدها والكلام في التحريم الديني كما هو ظاهر. وأما منع بعض الناس من بعض هذا الثمر لسبب غير التشريع الديني فلا شرك فيه، وقد يوافق بعض أدلة الشرع فيكون منعا شرعيا أي تحريما كمنع الطبيب بعض المرضى من أكل الخبز أو الثمر لأنه يضره، فمن ثبت عنده بشهادة الطبيب الثقة أن التمر يضره مثلا حرم عليه أن يأكله، وهذا التحريم ليس تشريعا من الطبيب بل الله تعالى هو الذي حرم كل ضار وإنما الطبيب معرف للمريض بأنه ضار فلا فرق بينه وبين من يخبر بأن هذا الطعام قد طبخ بلحم الخنزير أو لحم كبش أهل به لغير الله فيحرم على كل من صدقه أكله ما لم يكن مضطرا إليه. وكذلك منع السلطان من صيد بعض الطير في بعض الأحوال للمصلحة العامة كالحاجة إلى كثرته في حفظ بعض الزرع لأنه يأكل الحشرات المهلكة له مثلا. ولكن مثل هذين ليس تحريما ذاتيا لما ذكر يدوم بدوامه بل موقت بدوام سببه، ولا هو مبني على أن للسلطان أن يحرم بمحض إرادته وإنما هو مكلف شرعا بصيانة المصالح ودرء المفاسد فإذا أخطأ في اجتهاده بشيء من ذلك وجب على الأمة الإنكار عليه ووجب عليه الرجوع إلى الحق.
وقوله :﴿ إذا أثمر ﴾ لإفادة أن أول وقت إباحة الأكل وقت اطلاع الشجر الثمر والزرع الحب لئلا يتوهم أنه لا يباح إلا إذا أدرك وأينع، وفي آية أخرى كلوا من ﴿ ثمره إذا أثمر وينعه ﴾ ( الأنعام ٩٩ } فالكرم ينتفع به بثمره حصرما فعنبا فزبيبا، والنخل يؤكل ثمره بسرا فرطبا فتمرا، والقمح يؤكل حبه فريكا قبل يبسه وأكله برا مطبوخا أو طحنه وجعله خبزا. وقيل إن المراد إباحة الأكل منه قبل أداء حقه الذي أمر به في قوله :
﴿ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ﴾ أي وأعطوا الحق المعلوم فيما ذكر من الزرع وغيره لمستحقيه من ذوي القربى واليتامى والمساكين زمن حصاده في جملته بحسب العرف، لا كل طائفة منه ولا بعد تنقيته وفيه تغليب الحصاد الخاص بالزرع في الأصل فيدخل فيه جني العنب وصرم النخل، كتغليب الثمر فيما قبله لإدخال حب الحصيد فيه وهو في الأصل خاص بالشجر، وهذه مقابلة تشبه الاحتباك جديرة بأن تعد نوعا خاصا من أنواع البديع.
أخرج ابن المنذر والنحاس وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله :﴿ وآتوا حقه يوم حصاده ﴾ قال :" ما سقط من السنبل " وقال مجاهد فيه : إذا حصدت فحضرك المساكين فاطرح لهم من السنبل فإذا طيبته وكرسته فحضرك المساكين فاطرح لهم منه فإذا دسته وذريته فحضرك المساكين فاطرح لهم منه فإذا ذريته وجمعته وعرفت كيله فاعزل زكاته. وإذا بلغ النخل وحضرك المساكين فاطرح لهم من التفاريق والبسر فإذا جددته ( أي قطعته ) فحضرك المساكين فاطرح له منه فإذا جمعته وعرفت كيله فاعزل زكاته. وعن ميمون بن مهران ويزيد بن الأصم أن أهل المدينة كانوا إذا صرموا النخل يجيئون بالعذق فيضمونه في المسجد فيجيء السائل فيضربه بالعصا فيسقط منه، فهو قوله :﴿ وآتوا حقه يوم حصاده ﴾.
وعن سعيد بن جبير قال كان هذا قبل أن تنزل الزكاة. الرجل يعطي من زرعه ويعلف الدابة ويعطي اليتامي والمساكين ويعطي الضغث. يعني أن هذا الأمر في الصدقة المطلقة غير المحدودة المعينة ويؤيده أن السورة مكية والزكاة المحدودة فرضت بالمدينة في السنة الثانية من الهجرة. وقيل إنه في الزكاة المفروضة المحدودة في الأقوات التي هي العشر وربع العشر، وقد روي عن أنس بن مالك وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس وهو قول الحسن وطاوس وزيد بن أسلم وغيرهم ويرد عليه الإجماع على أن السورة مكية ولم يصح استثناء هذه الآية منها إلا أن يقال : مرادهم أن الإطلاق فيها قيد بعد الهجرة بالمقادير التي بينتها الزكاة كأمثالها من الآيات المكية التي ورد فيها الأمر بالزكاة، وقد صرح بعضهم بأن الزكاة المقيدة المعروفة نسخت فرضية الزكاة المطلقة والنسخ عند السلف أعم من النسخ في عرف الأصوليين فيدخل فيه تخصيص العام.
أخرج سعيد بن منصور وابن شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله تعالى :﴿ وآتوا حقه يوم حصاده ﴾ قال نسخها العشر. وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم عن عطية العوفي فيها قال كانوا إذا حصد وإذا درس وإذا غربل أعطوا منه شيئا فنسخها العشر ونصف العشر. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد الله ابن حميد وأبو داود في ناسخه وابن المنذر عن سفيان قال سألت السدي عن هذه الآية قال هي مكية نسخها العشر ونصف العشر. قلت له عمن ؟ قال العلماء. أي علماء الصحابة والتابعين وهذا هو الصواب ومعناه نسخ فرضيتها المطلقة فلم يبق بعد فرض الزكاة المحدودة إلا صدقة التطوع كما هو صريح قول
١ الرجز لرؤبة في ديوانه ص ١٠٤ وأساس البلاغة (ولع) والأشباه والنظائر ٥/ ٦٣ ولسان العرب (ولع) (بهق) وكتاب العين ٣/ ٣٧١ ومقاييس اللغة ١/ ٣١٠ وبلا نسبة في شرح شواهد المغني ٢/ ٩٥٥ والمخصص ٥/ ٨٩..
هذه الآيات إلى تمام العشر بعدها في تتمة سياق مسألة تحريم المشركين ما لم يحرم الله تعالى من الأنعام وغيرها من الأغذية وما يتعلق به، وقد قلنا إنه ذكر في هذه السورة المنزلة في أصول الدين وما يقابلها من أصول الشرك والكفر لأنه من هذه الأصول لا لمجرد كونه من جهالاتهم وضلالاتهم العملية. ذلك بأن أصل الدين الأعظم توحيد الله تعالى باعتقاد الألوهية والربوبية له وإفراده بالعبادة وحق التشريع بأن نؤمن بأنه لا رب ولا خالق غيره ولا إله يعبد معه أو من دونه ولا شارع سواه لعبادة ولا حلال ولا حرام، وفي هذه العقيدة منتهى تكريم الإنسان فتأمل ذلك كله في هذه الآيات البينات.
﴿ وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا ﴾ أي وأنشأ من الأنعام حمولة وهي ما يحمل عليه الناس الأثقال من الإبل والبقر وهو كبارها وهي كالركوبة لما يركب لا واحد له من لفظه وفرشا وهو ما يفرش للذبح من الضأن والمعز وكذا صغار الإبل والبقر أو ما يتخذ الفرش من صوفه ووبره وشعره، وقد روي نحو هذا عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وروي عن عبد الله بن مسعود أن الحمولة ما حمل عن الإبل والفرش صغارها، وهو رواية عن ابن عباس وتلميذه مجاهد والرواية الأخرى عنه أن الحمولة الإبل والخيل والبغال والحمير وكل شيء يحمل عليه والفرش الغنم، وهذا التفسير للحمولة لغوي فإن الخيل والبغال والحمير ليست من الأنعام، وعن أبي العالية الحمولة الإبل والبقر، والفرش الضأن والمعز، ذكره في الدر المنثور من رواية عبد بن حميد عنه.
قال بعضهم وهذا ظاهر على القول أن الفرش سميت فرشا لصغرها ودنوها من الأرض وقال الراغب في مفرداته والفرش ما يفرش من الأنعام أي يركب وكنى بالفراش عن كل واحد من الزوجين فقال النبي صلى الله عليه وسلم " الولد للفراش " ١ و فلان كريم المفارش اه. وفي معنى هذه الآية آيات كقوله تعالى في سورة المؤمن :﴿ الله الذي جعل لكم الأنعام لتركبوا منها ومنها تأكلون ولكم فيها منافع ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم وعليها وعلى الفلك تحملون ﴾ ( غافر ٧٩- ٨٠ ) ومثلهما في سورة يس وفي سورة النحل.
﴿ كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ ﴾ من هذه الأنعام وغيرها وانتفعوا بسائر أنواع الانتفاع منها ﴿ وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ﴾ بتحريم ما لم يحرمه الله عليكم ولا بغير ذلك من إغوائه فهو سبحانه هو المنشئ والمالك لها حقيقة وقد أباحها لكم ربكم فأنى لغيره أن يحرم عليكم ما ليس له خلقا وإنشاء ولا ملكا، ولا هو برب لكم فيتعبدكم به تعبدا، والخطوات جمع خطوة بالضم وهي المسافة التي بين القدمين ومن بالغ في اتباع ما يتبع خطواته كلما انتقل تأثيره فوضع خطوه مكان خطوه وتحريم ما أحل الله من أقبح المبالغة في اتباع إغواء الشيطان لأنه ضلال في حرمان من الطيبات لا في تمتع بالشهوات كما هو أكثر إغوائه.
﴿ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ﴾ هذا تعليل للنهي أي لا تتبعوه لأنه عدو لكم من دون الخلق مظهر للعداوة أو بينها ظاهرها بكونه لا يأمر إلا بما يفحش قبحه ويسوء فعله أو أثره في الحال أو الاستقبال وبالافتراء المحض على الله بغير علم كما قال تعالى :﴿ إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعمون ﴾ ( البقرة ١٦٩ ) وهذا حق بين لكل من حاسب نفسه وأقام الميزان لخواطرها، ومن أجهل ممن يتبع خطوات عدوه حتى في حرمان نفسه من منافعها.
١ روي الحديث بطرق وأسانيد متعددة، أخرجه البخاري في البيوع باب ٣ ١٠٠ والخصومات باب ٦ والوصايا باب ٤ والمغازي باب ٥٣ والفرائض باب ١٨ ٢٨ والحدود باب ٢٣ والأحكام باب ٢٩ ومسلم في الرضاع حديث ٣٦- ٣٧ وأبو داود في الطلاق باب ٣٤ والترمذي في الر ضاع باب ٨ والوصايا باب ٥ والنسائي في الطلاق باب ٤٨- ٤٩- ٨٤ وابن ماجه في النكاح باب ٥٩ والوصايا باب ٦ والدرامي في النكاح باب ٤١ والفرائض باب ٤٥ ومالك في الأقضية حديث ٦٠ وأحمد في المسند ١/ ٢٥- ٥٩- ٦٥- ٦٩- ١٠٤، ٢/ ١٧٩- ٣٢٦، ٦/ ٣٧- ١٢٩- ٢٠٠- ٢٣٧.
.

هذه الآيات إلى تمام العشر بعدها في تتمة سياق مسألة تحريم المشركين ما لم يحرم الله تعالى من الأنعام وغيرها من الأغذية وما يتعلق به، وقد قلنا إنه ذكر في هذه السورة المنزلة في أصول الدين وما يقابلها من أصول الشرك والكفر لأنه من هذه الأصول لا لمجرد كونه من جهالاتهم وضلالاتهم العملية. ذلك بأن أصل الدين الأعظم توحيد الله تعالى باعتقاد الألوهية والربوبية له وإفراده بالعبادة وحق التشريع بأن نؤمن بأنه لا رب ولا خالق غيره ولا إله يعبد معه أو من دونه ولا شارع سواه لعبادة ولا حلال ولا حرام، وفي هذه العقيدة منتهى تكريم الإنسان فتأمل ذلك كله في هذه الآيات البينات.
﴿ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ ﴾ نصب ثمانية على أنه بدل من حمولة وفرشا بناء على كونهما قسمين لجميع الأنعام على القول الراجح والزوج يطلق في اللغة على كل واحد من القرينين الذكر والأنثى في الحيوانات المتزاوجة وعلى كل قرينين فيها وفي غيرها كالخف والنعل وعلى كل ما يقترن بآخر مماثلا له أو مضادا. قال الراغب والاثنان زوجان يقال : له زوجا حمام ﴿ وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى ﴾ ( النجم ٤٥ ).
وقوله :﴿ مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ ﴾ شروع في بيان هذه الأزواج الثمانية وتبكيتهم وتجهيلهم على تحريم بعضها دون بعض مخصص أي من الضأن زوجين اثنين هما الكبش والنعجة ومن المعز زوجين اثنين هما التيس والعنز، وفي المعز لغتان قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر ويعقوب بفتح العين والباقون بسكونها وقد بدأ في هذا التفصيل بنوع الفرش على أحد الأقوال فيه وبما لا يصلح إلا للأكل منه على القول بشموله لصغار الإبل والبقر، لأنه هو المناسب في مقام إنكار تحريم أكل بعضه دون بعض بغير مخصص بعد أن قدم في الإجمال ذكر الحمولة لأنها أهم مقام الخلق والإنشاء والمنة بكون خلقها أعظم والانتفاع بها أعم فإنها كما يحمل عليها يؤكل منها وناهيك بسائر منافعها وبقوله تعالى تعجيبا بخلق أعظم صنفيها ﴿ أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت ﴾ ( الغاشية ١٧ ).
﴿ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ ﴾ أي قل لهم أيها الرسول أحرم الله الذكرين من كل واحد من الزوجين وحدهما، كما يدل عليه تقديم المفعول على عامله، أم الأنثيين وحدهما، أم الأجنة التي اشتملت عليها أرحام إناث الزوجين كليهما سواء أكانت ذكورا أم إناثا ؟ والاستفهام للإنكار، أي إنه لم يحرم شيئا من هذه الثلاث. وبهذا السؤال التفصيلي يظهر للمتفكر فيه منهم أنه لا وجه يعقل لقولهم، لأن ترتيب الحكم على الوصف بالذكورة أو الأنوثة أو الحمل يكون لغوا أو جهالة فاضحة إذا لم يكن تعليلا، والتعليل بهذه الأوصاف لا وجه له ويلزمه ما لا يقولون به، وبعدمه يلزمهم التحكم في أحكام الله وكون الافتراء عليه بغير أدنى علم ولا عقل، ولذلك قال :﴿ نَبِّؤُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ أي خبروني بعلم يؤثر عن أحد رسل الله أو بينة متلبسة بعلم يركن إليه العقل بأن الله حرمها عليكم، وإلا كان تخصيص ما حرمتم دون أمثاله جهل محض كما أنه افتراء كذب.
هذه الآيات إلى تمام العشر بعدها في تتمة سياق مسألة تحريم المشركين ما لم يحرم الله تعالى من الأنعام وغيرها من الأغذية وما يتعلق به، وقد قلنا إنه ذكر في هذه السورة المنزلة في أصول الدين وما يقابلها من أصول الشرك والكفر لأنه من هذه الأصول لا لمجرد كونه من جهالاتهم وضلالاتهم العملية. ذلك بأن أصل الدين الأعظم توحيد الله تعالى باعتقاد الألوهية والربوبية له وإفراده بالعبادة وحق التشريع بأن نؤمن بأنه لا رب ولا خالق غيره ولا إله يعبد معه أو من دونه ولا شارع سواه لعبادة ولا حلال ولا حرام، وفي هذه العقيدة منتهى تكريم الإنسان فتأمل ذلك كله في هذه الآيات البينات.
﴿ وَمِنَ الإِبْلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ ﴾ الإبل اسم جمع لجنس الأباعر وهي مؤنثة لأن اسم الجمع الذي لا واحد له من لفظه إذا كان لما لا يعقل لزمه التأنيث، وتدخله الهاء إذا صغر نحو أبيلة وغنيمة، وتسكن باؤه لغة للتخفيف. ومفرده بعير وهو يقع في أصل اللغة على الذكر والأنثى مثل الإنسان، ولكنه غلب في عرف المولدين على الذكر، وإنما الجمل اسم للذكر كالرجل في الناس والناقة للأنثى كالمرأة. والبقر اسم جنس وتطلق البقرة على الذكر والأنثى كما قال الجوهري كالشاه من الغنم، وإنما الهاء للوحدة، والثور الذكر من البقر والأنثى ثورة والجمع ثيران وأثورة وثيرة ( كعنبة ) والبقر الأهلية صنفان عراب وجواميس ويقابلها بقر الوحش وليست من الأنعام وإن كانت تؤكل، والمراد بالذكرين والأنثيين وما حملت أرحام الأنثيين مثل ما تقدم في الغنم والمعز إذ لا فرق بينهما في طريق الإنكار المراد من الاستفهام. وقد لخص السيد الألوسي أقوال المفسرين في هذه الآية أحسن تلخيص في روح المعاني :
والمعنى كما قال كثير من أجلة العلماء إنكار أن الله تعالى حرم عليهم شيئا من هذه الأنواع الأربعة وإظهار كذبهم في ذلك وتفصيل ما ذكر من الذكور والإناث وما في بطونها للمبالغة في الرد عليهم، بإيراد الإنكار على كل مادة من مواد افترائهم، فإنهم كانوا يحرمون ذكور الأنعام تارة وإناثها تارة وأولادها كيفما كانت تارة أخرى، مسندين ذلك كله لله سبحانه. وإنما لم يل المنكر وهو التحريم الهمزة، والجاري في الاستعمال أن ما نكر وليها، لأن ما في النظم الكريم أبلغ. وبيانه على ما قاله السكاكي أن إثبات التحريم يستلزم إثبات محله لا محالة فإذا انتفى محله وهو الموارد الثلاثة لزم انتفاء التحريم على وجه برهاني، كأنه وضع الكلام موضع من سلم أن ذلك قد كان، ثم طالبه ببيان محله كي يتبين كذبه ويفتضح عند المحاقة، وإنما لم يورد سبحانه الأمر عقيب تفضيل الأنواع الأربعة بأن يقال : قل الذكور حرم أم الإناث ؟ أما اشتملت عليه أرحام الإناث لما في التكرير من المبالغة أيضا في الإلزام والتبكيت.
ونقل الإمام عن المفسرين أنهم قالوا إن المشركين من أهل الجاهلية كانوا يحرمون بعض الأنعام فاحتج الله سبحانه على إبطال ذلك بأن للضأن والمعز والإبل والبقر ذكرا وأنثى فإن كان قد حرم سبحانه منها الذكر وجب أن يكون كل ذكورها حراما وإن كان حرم جل شأنه الأنثى وجب أن يكون كل إناثها حراما، وإن كان حرم الله تعالى ما اشتملت عليه أرحام الإناث وجب تحريم الأولاد كلها، لأن الأرحام تشتمل على الذكور والإناث. وتعقبه بأنه بعيد جدا لأن لقائل أن يقول هب أن هذه الأجناس الأربعة محصورة في الذكور والإناث إلا أنه لا يجب أن تكون على تحريم ما حكموا بتحريمه محصورة في الذكورة والأنوثة بل علة تحريمها كونها بحيرة أو سائبة أو وصيلة أو غير ذلك من الاعتبارات، كما إذا قلنا إنه تعالى حرم ذبح بعض الحيوانات لأجل الأكل، فإذا قيل إن ذلك الحيوان إن كان قد حرم لكونه ذكرا وجب أن يحرم كل حيوان ذكر، وإن كان قد حرم لكونه أنثى وجب أن يحرم كل حيوان أنثى، ولما لم يكن هذا الكلام لازما عليه فكان هو الوجه الذي ذكره المفسرون. ثم ذكر في الآية وجهين من عنده وفيما ذكرنا غنى عن نقلهما.
ومن الناس من زعم أن المراد من الأنثيين في الضأن والمعز والبقر : الأهلي والوحشي، وفي الإبل : العربي والبختي، وهو مما لا ينبغي أن يلتفت إليه، وما روي عن ليث بن سليم لا يدل عليه، وقول الطبرسي إنه المروي عن أبي عبد الله رضي الله عنه كذب لا أصل له وهو شنشنة أعرفها من أخزم اه.
وأقول إن قول الرازي إن علة تحريم ما حرموا من الأنعام هي كونها بحيرة أو سائبة أو وصيلة لا كونها ذكرا أو أنثى أو حملا لها فيه أن الإنكار عليهم في جعلهم إياها كذلك كما هو صريح آية المائدة فهو جهل لا يعقل أن يكون علة للتحريم فالحرام منه مثل الحلال، وما ذكر في التفصيل في الإنكار يذكر المفكر المستقل، بأن ما قالوه عن الجهل، وهو ما انفردنا ببيانه آنفا.
وقوله :﴿ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ وَصَّاكُمُ اللّهُ بِهَذَا ﴾ بعد تعجيزهم عن الإتيان بعلم يؤثر عن أحد من رسل الله بتحريم ما زعموا ألزمهم هنا ادعاء تحريم الله إياه عليهم بوصية سمعوها منه لأن العلم عن الله إما أن يكون برواية رسول له يخبر بوصية عنه أو بتلقي ذلك منه سبحانه وتعالى بغير واسطة رسول، والشهداء هم الحضور المشاهدون للشيء وهو جمع شهيد. والمعنى أعندكم علم يؤثر عن أحد من رسل الله فنبئوني به أم شاهدتم ربكم فوصاكم بهذا التحريم كفاحا بغير واسطة ؟ وهم لا يدعون هذا ولا ذاك وإنما يفترون على الله الكذب بدعوى التحريم افتراء مجردا من كل علم، ويقلد بعضهم بعضا في قوله إن الله أمرهم بتحريم ما حرموا واقتراف كل ما اقترفوا كما قال تعالى في :﴿ وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها وجدنا آباءنا والله أمرنا بها. قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون ﴾ ( الأعراف ٢٨ ) والاستفهام الإنكاري هنا يتضمن التهكم بهم إذ كانوا بعدم اتباع أحد من رسل الله كالمدعين على إنكارهم للرسالة بأنهم يشاهدون الله ويتلقون منه أحكام الحلال والحرام، وما استبعدته أنظارهم السقيمة من الوحي أقرب من هذا يقعون فيه بإنكارهم له بمثل قولهم :﴿ ما أنزل الله على بشر من شيء ﴾ ( الأنعام ٩١ ) وإلا لزمهم الافتراء على الله تعالى لإضلال عباده وهو أشد الظلم الذي يجنيه الإنسان على نفسه وغيره ولذلك قال تعالى تعقيبا على ما تقدم :
﴿ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ أي وإذا كان الأمر كذلك وقامت عليكم الحجة به فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا بتحريم ما لم يحرمه وشرع ما لم يشرعه ليضل الناس به بحملهم على اتباعه فيه مع نسبته إلى الله تعالى بغير علم ما يكون حجة له فيه. والاستفهام إنكاري والمعنى لا أحد أظلم منكم لأنكم من هؤلاء المفترين على الله بقصد الإضلال عن جهل عام تام، فالعلم المنفي يشمل ما يؤثر أو يعقل وينبسط كالنظر العقلي والتجارب العملية وطرق درء المفاسد والشرور والمضار وتقدير المصالح والمنافع وعمل البر والخير، كما يدل عليه تنكيره في حيز النفي المستفاد من كلمة غير، فإن قيل ما حكمة نفي كل نوع من أنواع العلم في أمر التشريع الديني الذي ليس له مصدر غير وحي الله ورسله ؟ قلنا هي تسجيل الجهل العام المطلق عليهم عامة، وسوء النية على مفتري ذلك لهم خاصة بأنه ليس له أثارة من علم، ولا قصد إلى شيء من الهدى إلى حق أو خير، وتسجيل الغباوة وعمى البصيرة على متبعيه بمحض التقليد من غير عقل ولا هدى.
وقد وجد في البشر أناس آخرون تفكروا وبحثوا في العلم الإلهي وما يجب أن يشكر الله تعالى به تعبدا له من اتباع الحق والعدل وفعل الخيرات التي يدل عليها العقل، وفيما ينبغي اجتنابه من طعام وشراب ضار بالبدن أو العقل، وهم الحكماء، فأصابوا في بعض ما هدتهم إليه عقولهم وتجاربهم وأخطأوا في بعض، فكانوا خير الناس لأنفسهم وللناس في فترات الرسل التي فقدت فيها هداية الوحي، وهم المشار إليهم بقوله تعالى :﴿ إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم ﴾ ( آل عمران ٢١ ) فالذين يأمرون بالقسط وهو العدل والاعتدال في الأخلاق والآراء والأعمال وبشكر المنعم هم حكماء البشر وعقلاؤهم، وقد وضع قصي للعرب سننا حسنة لسقاية الحاج ورفادتهم وإطعامهم وللشورى في الخطوب، ومن أعمال قريش الحسنة حلف الفضول لمنع الظلم، وقد مدحه النبي صلى الله عليه وسلم بعد الإسلام لأنه من الأمر بالقسط بسائق العقل وسلامة الفطرة. ومن أهل الجاهلية من حرم على نفسه الخمر لمفاسدها، ويدل هذا القيد على تعظيم الإسلام لشأن العلم وله نظائر في الكتاب العزيز. وقد ثبت في الصحيح أن عمرو بن لحي الخزاعي هو أول من سيب لهم السوائب وبحر البحائر وغير دين إسماعيل فاتبعوه، وسنعقد لهذا فصلا خاصا وفاء ما وعدنا في تفسير آية المائدة.
﴿ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ إلى الحق والعدل لا من طريق العلم. فإنهم ما داموا متصفين بالظلم متعاونين عليه فهو يصدهم عن استعمال عقولهم، فيما يهديهم إلى صوابهم، وإذا كان هذا شأن الظالمين مهما تكن درجة ظلمهم فكيف يكون حال أظلم الناس على الإطلاق، وهم الذين وصفت الآية ظلمهم بالافتراء على الله لإضلال عباده.

فصل في تاريخ وثنية العرب الإسماعيليين وما تبعها من هذه الضلالة


روى أحمد والبخاري ومسلم من حديث أبي هريرة مرفوعا " رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار، وكان أول من سيب السوائب زاد مسلم وبحر البحيرة وغر دين إسماعيل " ١ وروى نحوه البخاري من حديث عائشة في غير ما موضع. وروى البخاري في باب قصة خزاعة من كتاب المناقب عن أبي هريرة قبل حديثه المذكور آنفا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف أبو خزاعة " ٢ قال الحافظ في شرح الحديث الأول من الفتح : وأورده ابن إسحاق في السيرة الكبرى عن محمد بن إبراهيم التيمي عن أبي صالح أتم منه ولفظه : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأكثم بن الجون " رأيت عمرو بن لحي يجر قصبه في النار لأنه أول من غير دين إسماعيل فنصب الأوثان وسيب السائبة وبحر البحيرة ووصل الوصيلة وحمى الحامي " ثم قال الحافظ : وذكر ابن إسحاق أن سبب عبادة لحي للأصنام أنه خرج إلى الشام وبها يومئذ العماليق وهم يعبدون الأصنام فاستوهبهم واحدا منها وجاء به إلى مكة فنصبه إلى الكعبة ﴿ وهو هبل ﴾ وكان قبل ذلك قد فجر رجل يقال له أساف بامرأة يقال لها نائلة في الكعبة فمسخها الله جل وعلا حجرين فأخذهما عمرو بن لحي فنصبها حول الكعبة فصار من يطوف يتمسح بهما يبدأ بأساف ويختم بنائلة.
وفي تفسير سورة نوح من صحيح البخاري عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس في تفسير الأوثان التي كانت في قوم نوح ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر أنها كانت أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابا وسموها بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد حتى إذا وسموها بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونسخ العلم عبدت، وأخرج عبد بن حميد عن محمد بن كعب فيهم قال : كانوا قوما صالحين بين آدم ونوح فنشأ قوم بعدهم يأخذون كأخذهم في العبادة فقال لهم إبليس لو صورتم صورهم فكنتم تنظرون إليها، فصوروا ثم ماتوا فنشأ قوم بعدهم فقال لهم إبليس عن الذين كانوا قبلكم كانوا يعبدونها، فعبدوها. ومعنى قول إبليس : وحيه ووسوسته. وكانت العبادة لهم توسلا بهم واستشفاعا وتقربا إلى الله وذبائح تذبح لهم منذورة أو غير منذورة وطوافا بتماثيلهم ونحو ذلك مما يفعل الآن كثير من أهل الكتاب ومن اتبع سننهم من المسلمين شبرا بشبر وذراعا بذراع مصداقا للحديث المتفق عليه، فإن المسلمين لا يتخذون للأنبياء والصالحين صورا ولا تماثيل يعظمونها ويطوفون بها وي
١ أخرجه البخاري في تفسير سورة ٥ باب ١٣ ومسلم في الجنة حديث ٥١ واحمد في المسند ١/ ٤٤٦- ٢/ ٢٧٥- ٣٦٦..
٢ أخرجه البخاري في المناقب باب ٩ ومسلم في الجنة حديث ٥٠..
﴿ قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ١٤٥وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ١٤٦ فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ١٤٧ ﴾
تقرر في الآيات السابقة أنه ليس لأحد أن يحرم على أحد شيئا من الطعام وكذا غيره إلا بإذن من الله في وحيه إلى رسله، وأن من فعل ذلك فهو مفتر على الله تعالى معتد على مقام الربوبية إذ لا يحرم على العباد إلا ربهم، وأن من أطاعه في ذلك فقد اتخذه شريكا لله تعالى في ربوبيته. والآيات في هذا المعنى كثيرة وإن من هذا الشرك والافتراء على الله تعالى ما حرمت الجاهلية من الأنعام والحرث كما فصل في الآيات التي قبل هذه وختم الله تعالى هذا السياق ببيان ما حرمه على عباده من الطعام على لسان خاتم رسله وشرع من قبله فقال :﴿ قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ ﴾ : أي قل أيها الرسول لهؤلاء المفترين على الله تعالى فيما يضرهم من تحريم ما لم يحرم عليهم ولغيرهم من الناس، لا أجد فيما أوحاه الله تعالى إلي طعاما محرما على آكل يريد أن يأكله، بل الأصل في جميع ما شأنه أن يؤكل أن يكون مباحا لذاته إلا أن يكون ميتة أي بهيمة ماتت حتف أنفها ولو بسبب غير التذكية بقصد الأكل أو دما مسفوحا أي مصبوبا كالدم الذي يجري من المذبوح أو لحم خنزير فإن ذلك كله خبيث تعافه الطباع السليمة وضار بالأبدان الصحيحة١ أو فسقا أهل لغير الله به وهو ما يتقرب به إلى غيره تعبدا ويذكر اسم ذلك الغير عليه عند ذبحه٢ وجعل بعضهم الوصف بالرجس للحم الخنزير خاصة واستدلوا به على نجاسة عينه حتى قال بعضهم بنجاسة شعره، وما اخترناه من كون الوصف لجميع ما ذكر من الأنواع الثلاثة هو المتبادر وهو أظهر في الميتة والدم المسفوح منه في لحم الخنزير ولا سيما إذا أريد بالرجس الحسي منه فإن طباع أكثر البشر تستقذرهما وتعافهما ولحم الخنزير من أجمل اللحوم منظرا فلا يعافه إلا من يعتقد حرمته وذلك استقذار معنوي لا حسي وإنما يستقذر الخنزير حيا بملازمته للأقذار وأكله منها. والأرجح أن سبب تحريم لحمه ما فيه من الضرر لا كونه من القذر وتقدم بيان ذلك في تفسير آية المائدة.
قرأ ابن كثير وحمزة ( تكون ميتة ) بالتاء لتأنيث ميتة وابن عامر بالتاء مع رفع ميتة على معنى إلا أن توجد ميتة وهذه وجوه في العربية كلها جائزة فصيحة.
﴿ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ أي فمن دفعته ضرورة المجاعة وفقد الحلال إلى أكل شيء من هذه المحرمات حال كونه غير باغ أي مريد لذلك قاصد له ولا معتد فيه قدر الضرورة فإن ربك الذي لم يحرم ما ذكر إلا لضرره، غفور رحيم فلا يؤاخذه بأكل ما يسد رمقه ويدفع به الهلاك عن نفسه. وقيل إن المراد بالباغي من يبغي على مضطر مثله فينزع منه ما هو مضطر إليه إيثارا لنفسه عليه. وهذا مما يعلم حظره من أدلة أخرى. وقيل هو من يبغي على الإمام الحق ويخرج عليه. وهذه معصية لا دخل لها في حل الطعام وحرمته.
وظاهر الآية مع عطف ما حرم على بني إسرائيل عليها أن حصر محرمات الأطعمة في الأنواع الأربعة أصل من أصول شرائع جميع رسل الله تعالى والمعنى لا أجد فيهما أوحي إلي من أخبار الأنبياء وشرائعهم ولا فيما شرع على لساني أن الله حرم طعاما ما على طاعم ما يطعمه إلا هذه الأنواع الأربعة وما يحرمه على اليهود تحريما موقتا عقوبة لهم وهو ما ذكر جملته او أهمه في الآية التالية ودليل كونه مؤقتا ما في سورة آل عمران حكاية عن عيسى عليه السلام ﴿ ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم ﴾ ( آل عمران : ٥٠ ) وما سيأتي في سورة الأعراف فيمن يتبع خاتم المرسلين منهم ﴿ ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم ﴾ ( الأعراف ١٥٧ ) ودليل كونه عقوبة لا لذاته ما سيأتي. وقوله تعالى :﴿ كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة ﴾ ( آل عمران ٩٣ ).
الآية وردت بصيغة الحصر القطعي فهي نص قطعي في حل ما عدا الأنواع الأربعة التي حصر التحريم بها فيها وقد بينا في تفسير آية المائدة أن المنخنقة والموقوذة والمتردية وأكيلة السبع اللاتي تموت بذلك ولا تدرك تذكيتها قبل الموت من نوع الميتة فهي تفصيل لها لا أنواع حرمت بعد ذلك حتى تعد ناسخة لآية الأنعام. وتحريم الخبائث لا يدل على محرمات أخرى في الطعام غير هذه فيجعل ناسخا للحصر فيها فإن لفظ الخبائث يشمل ما ليس من الأطعمة كالأقذار وأكل أموال الناس بالباطل وكل شيء رديء قال تعالى :﴿ ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ﴾ ( البقرة ٢٦٧ ) فليس في القرآن ناسخ لهذه الآية وما في معناها من الآيات المؤكدة لها ولا مخصص لعمومها وما يريد الله نسخه أو تخصيصه لا يجعله بصيغة الحصر المؤكدة كل هذا التأكيد الذي نشرحه بعد. ولكن ورد في الأحاديث تحريم الحمر الأهلية وكل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير والجوارح وغير ذلك مما يأتي ولذلك اختلفت أقوال مفسري السلف والخلف في الآية. وهاك ملخص المأثور فيها من الأخبار والآثار نقلا عن كتاب الدر المنثور :
أخرج عبد بن حميد عن طاوس قال إن أهل الجاهلية كانوا يحرمون أشياء ويستحلون أشياء فنزلت :﴿ قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما ﴾ الآية.
وأخرج عبد بن حميد وأبو داود وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والحاكم وصححه عن ابن عباس قال كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء تقذرا فبعث الله نبيه وأنزل كتابه وأحل حلاله وحرم حرامه فما أحل فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عفو منه، ثم تلا هذه الآية ﴿ قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما ﴾ إلى آخر الآية.
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن ابن عباس أنه تلا هذه الآية :﴿ قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما ﴾ فقال ما خلا هذا فهو حلال.
وأخرج البخاري وأبو داود وابن المنذر والنحاس وأبو الشيخ عن عمرو بن دينار قال قلت لجابر بن زيد إنهم يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر فقال قد كان يقول ذلك الحكم بن عمرو والغفاري عندنا بالبصرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن أبى ذلك البحر ابن عباس وقرأ ﴿ قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما ﴾ الآية٣.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال ليس من الدواب شيء حرام أي ما حرم الله في كتابه :﴿ قل لا أجد فيما أوحي إلى محرما ﴾ الآية.
وأخرج سعيد بن منصور وأبو داود وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عمر أنه سئل عن أكل القنفذ فقرأ :﴿ قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما ﴾ الآية فقال شيخ عنده سمعت أبا هريرة يقول ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال خبيث من الخبائث فقال ابن عمر إن كان النبي صلى الله عليه وسلم قاله فهو كما قال٤.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس وأبو الشيخ وابن مردويه عن عائشة أنه كانت إذا سئلت عن كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير تلت ﴿ قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما ﴾ الآية.
وأخرج أحمد والبخاري والنسائي وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس أن شاة لسودة بنت زمعة ماتت فقالت يا رسول الله ماتت فلانة تعني الشاة قال :" فلولا أخذتم مسكها " ٥ قالت يا رسول الله أنأخذ مسك شاة قد ماتت ؟ فقرأ النبي صلى الله عليه وسلم :" قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة } وإنكم لا تطعمونه وإنما تذبغونه حتى تنتفعوا به " فأرسلت إليها فسلختها ثم دبغته فاتخذت منه قربة حتى تخرقت عندها٦.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قرأ هذه الآية : قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة } إلى آخر الآية وقال إنما حرم من الميتة ما يؤكل منها وهو اللحم فأما الجلد والقد والسن والعظم والشعر والصوف فهو حلال.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس قال كان أهل الجاهلية إذا ذبحوا أودجوا الدابة وأخذوا الدم فأكلوه قالوا هو دم مسفوح.
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن قتادة قال حرم من الدم ما كان مسفوحا فأما لحم يخالطه الدم فلا بأس به.
وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله أو دما مسفوحا، قال المسفوح الذي يهراق ولا بأس بما كان في العروق منها.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عكرمة قال : جاء رجل إلى ابن عباس فقال له : آكل الطحال ؟ قال نعم، قال إن عامتها دم، قال إنما حرم الله الدم المسفوح.
وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن أبي مجلز في الدم يكون في مذبح الشاة أو الدم يكون على القدر ؟ قال لا بأس إنما نهى عن الدم المسفوح.
وأخرج أبو الشيخ عن الشعبي أنه سئل عن لحم الفيل والأسد فتلا ﴿ قل لا أجد فيما أوحي إلي ﴾ الآية.
وأخرج ابن أبي شيبة وأبو الشيخ عن أبن الحنفية أنه سئل عن أكل الجريث٧ فقال :﴿ قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما ﴾ الآية.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أنه سئل عن ثمن الكلب والذئب والهر وأشباه ذلك فقال :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تسالوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ﴾ كان ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرهون أشياء فلا يحرمونها وإن الله أنزل كتابا فأحل فيه حلالا وحرم فيه حراما وأنزل في كتابه : قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير }.
وأخرج ابن أبي شيبة والبخاري ومسلم والنسائي عن ابن عمر قال : نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر٨
وأخرج ابن أبي شيبة والبخاري ومسلم والنسائي عن أبي ثعلبة قال : حرم رسول الله لحوم الحمر الأهلية٩.
وأخرج ابن أبي شيبة والبخاري ومسلم عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءه جاء فقال أكلت الحمر ثم جاءه جاء فقال أفنيت الحمر فأمر مناديا فنادى في الناس " إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية فإنها رجس " فاكفئت القدور وإنها لتفور باللحم١٠.
وأخرج مالك والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي ثعلبة الخشني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير١١.
وأخرج ابن أبي شيبة والترمذي وحسنه عن جابر قال : حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر الحمر الانسية ولحوم البغال وكل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير والمجثمة والحمار الإنسي١٢.
وأخرج ابن أبي شيبة والترمذي وحسنه عن أبي هريرة أن النبي
١ قد فصلنا القول في تفسير آية المائدة ﴿حرمت عليكم الميتة والدم﴾ إلخ في علة التحريم وحكمته بما في هذه المحرمات من الضرر (المؤلف)..
٢ وقد فصلنا القول فيه قربا في تفسير قوله تعالى: ﴿ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لف سق﴾ (الأنعام ١٢) من هذه السورة وهذا الجزء وسبق لنا تفصيل دونه في تفسير آية المائدة وكذا تفسير آية البقرة التي بمعنى هذه الآية (المؤلف).
.

٣ أخرجه البخاري في الذبائح باب ٢٨ وأبو داود في الأطعمة باب ٣٣.
.

٤ أخرجه أبو داود في الأطعمة باب ٢٩ واحمد في المسند ٢/ ٣٨١..
٥ المسك بضم الميم: الجلد..
٦ أخرجه أحمد في المسند ١/ ٣٢٧..
٧ الجريث، بكسر الجيم والراء المشددة: سمك يشبه الحيات، وهو الأنقليس وتسمية عامة مصر بالثعبان..
٨ أخرجه البخاري في الذبائح باب ٢٨، والمغازي باب ٣٨، ومسلم في الصيد حديث ٢٣- ٢٥، ٢٧ والنسائي في الصيد باب ٣١..
٩ راجع الحاشية السابقة..
١٠ أخرجه البخاري في المغازي باب ٣٨ والذبائح باب ٢٨ ومسلم قي الصيد حديث ٣٤..
١١ أخرجه البخاري في الكب باب ٥٧ ومسلم في الصيد حديث ١٥- ١٦ وأبو داود في الأطعمة باب ٣٢، والترمذي في الصيد باب ٩ والنسائي في الصيد باب ٧٦ وابن ماده في الصيد باب ١٣، والدرامي في الأضاحي باب ١٨ وأحمد في المسند ١/ ١٤٧، ٤/ ١٩٣، ١٩٤..
١٢ أخرجه الترمذي في الصيد باب ٩..
ثم بين تعالى ما حرمه على بني إسرائيل خاصة عقوبة لهم لا على أنه من أصول شرعه على ألسنة رسله قبلهم أو بعدهم فكان من الملحق بالمستثنى في الآية بالعطف عليه، فإنه بعد نفي تحريم أي طعام على أي طاعم استثنى من هذا العام ما حرمه تحريما عاما مؤبدا على غير المضطر، ثم ما حرمه تحريما عارضا على قوم معينين لسبب خاص إلى أن يجيء رسول آخر يبيحه لهم باتباعهم إياه وهو قوله عز وجل :
﴿ وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُر ﴾ الذين هادوا هم اليهود من قولهم الآتي في سورة الأعراف ﴿ إنا هدنا إليك ﴾ ( الأعراف ١٥٦ ) أي رجعنا وتبنا، وأصل الهود الرجوع برفق قاله الراغب. أي على الذين هادوا دون غيرهم من أتباع الرسل حرمنا فوق ما ذكر من الأنواع الأربعة كل ذي ظفر الخ وقولنا دون غيرهم هو ما يدل عليه تقديم المعمول على عامله. والظفر من الأصابع معروف ويكون للإنسان وغيره من طائر وغيره، ولذلك فسروا المخلب بظفر سباع الوحش والطير، فالظفر عام والمخلب خاص بما يصيد كالبرثن للسبع ومنه قولهم في الاستعارة : أنشبت المنية أظفارها في فلان.
وفي اللسان عن الليث ظفر الأصبع وظفر الطائر وفيه : وقالوا الظفر لما لا يصيد والمخلب لما يصيد، أي خاص بما يصيد من الطير ثم ذكر الآية وقال : دخل في ذي الظفر ذوات المناسم من الإبل والنعام لأنها لها كالأظفار. وهذا توجيه لغوي لما روي عن ابن عباس من تفسير كل ذي ظفر بالبعير والنعامة. وظاهر أنه مجاز، وقال مجاهد : هو كل شيء لم تفرج قوائمه من البهائم وما انفرج أكلته اليهود. ومثله عن ابن جرير : وذكروا من ذلك الإبل والنعام والورنية والبط والوز وحمار الوحش. ونقل الرازي أن عبد الله بن مسلم قال : إنه كل ذي مخلب من الطير وكل ذي حافر من الدواب، ثم قال كذلك قال المفسرون وقال وسمي الحافر ظفرا على الاستعارة. وتعقبه بأنه لا يجوز تسمية الحافر ظفرا ولو أراد الله الحافر لذكره وجزم بوجوب حمل الظفر على المخالب والبراثن، قال : وعلى هذا التقدير يدخل فيه أنواع السباع والكلاب والسنانير ويدخل فيه الطيور التي تصطاد لأن هذه الصفة تعم هذه الأجناس ثم قال :
إذا ثبت هذا فنقول : قوله تعالى :﴿ وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ﴾ يفيد تخصيص هذه الحرمة بهم من وجهين : الأول : أن قوله وعلى الذين هادوا حرمنا كذا وكذا يفيد الحصر في اللغة والثاني : أنه لو كانت هذه الحرمة ثابتة في حق الكل لم يبق لقوله ﴿ وعلى الذين هادوا حرمنا ﴾ فائدة، فثبت أن تحريم السباع وذي المخلب من الطير مختص باليهود، فوجب ألا تكون محرمة على المسلمين. وعند هذا نقول ما روي أنه صلى الله عليه وسلم حرم كل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطيور١ ضعيف لأنه خبر واحد على خلاف كتاب الله تعالى فوجب ألا يكون مقبولا وعلى هذا التقدير يقوى قول مالك في هذه المسألة اه.
وأقول : إن تضعيفه الحديث مع صحة روايته في الصحيحين وغيرهما إنما هو من جهة المتن، وقد قالوا إن من علامة وضع الحديث مخالفته للقرآن وكل ما هو قطعي، وهذا إنما يصار إليه إذا تعذر الجمع بين الحديث الظني والقرآن القطعي، وقد جمعنا بينهما بحمل النهي على الكراهة في حال الاختيار وهو مذهب مالك كما تقدم تفصيله. وقد فسروا بهذه الآية قوله تعالى :﴿ فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم ﴾ ( النساء ١٦٠ ) وعلى هذا تكون ذوات الأنياب من السباع والمخالب من الطير طيبات بالنص. وقد بينا في تفسير هذه الآية من سورة النساء أن التحقيق فيها إبقاء قوله تعالى :﴿ بظلم ﴾ وقوله :﴿ طيبات ﴾ على نكارتهما وإبهامهما، وأن آية ﴿ كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة ﴾ ( آل عمران ٩٣ ) معناها أن كل الطعام كان حلا لهم ولمن قبلهم من الرسل واتباعهم كإبراهيم وذريته إلا ما حرموا هم على أنفسهم بسبب الظلم الذي ارتكبوه وكان سببا لتشديد أحكام التوراة عليهم.
وإن ما يروى عن مفسري السلف في تفسير هذه الآية وأمثالها مأخوذ من الإسرائيليات التي كان اليهود يقصونها على المسلمين، وفيها الغث والسمين وكان فيهم من يصدق في بيان ما في كتبهم ومن يمين، والمحرمات عليهم في التوراة كثيرة مفصلة في سفر اللاويين، ( الأحبار ) ففي الفصل الحادي عشر منه بيان أن ما يحل لهم من الحيوان هو ذو الأظلاف المشقوقة الذي يجتر دون غيره كالجمل والوبر والأرنب فإنه نجس لعدم انشقاق ظلفه وإن كان يجتر الخنزير لأنه لا يجتر وإن كان مشقوق الظلف ويدخل في المحرم جميع أنواع السباع كما هو ظاهر ثم بيان ما يحل من حيوان الماء وهو ما له زعانف وحرشف. ثم بيان ما يحرم عليهم من الطير وهي النسر والأنوق والعقاب والحدأة والباشق على أجناسه وكل غراب على أجناسه والنعامة والظليم والسأف والبازي على أجناسه والبوم والغواص والكركي والبجع والقوق والرخم واللقلق والببغاء على أجناسه والهدهد والخفاش. وكل هذه الأنواع ذوات أظافر وأكثرها مما تسمى أظافره مخالب. وهو ما يصيد ويأكل اللحوم. وكل ما حرم عليهم فهو نجس لهم كما صرح به مرارا. ومن المعلوم أن الآية ليست نصا في إحصاء كل ما هو محرم عليهم ومجموع الآيات يدل على أن كل ما حرم عليهم من غير الأنواع الأربعة التي حرمت على المسلمين كافة فهو من الطيبات وقد غفل عن الجمع بين الآيات ودلالة جملتها على ما ذكر أكثر الفقهاء الذين ينظرون في كل مسألة جزئية على حدتها.
﴿ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ﴾ قال ابن سيده الشحم جوهر السمن أي المادة الدهنية التي يكون بها الحيوان سمينا وفي معاجم اللغة أن العرب تسمي سنام البعير وبياض البطن شحما، وشحم شحامة سمن وكثر شحمه فهو شحيم، ويغلب الشحم في عرفنا على المادة الدهنية البيضاء التي تكون على كرش الحيوان وكليلته وأمعائه وفيها وفي سائر الجوف ولا يطلق على الإلية وما على ظاهر اللحم من المادة البيضاء وهو تخصيص مولد لا ندري متى حدث. والحوايا جمع حاوية كزاوية وزوايا أو حوية كقضية وقضايا وفسرت بالمباعر وبالمرابض وبالمصارين والأمعاء. والمرابض مجتمع الأمعاء في البطن. قال ابن جريج إنما حرم عليهم الثرب وشحم الكلية وكل شحم كان ليس في عظم. والثرب كفلس الشحم الرقيق الذي يكون على الكرش والأمعاء وقوله :﴿ إلا ما حملت ظهورهما ﴾ قال ابن عباس يعني ما علق بالظهر من الشحم والحوايا المباعر، أو ما اختلط بعظم قال الإلية إذا اختلط شحم الإلية بالعصعص فهو حلال وكل شحم القوائم والجنب والرأس والعين والأذن. يقولون قد اختلط ذلك بعظم فهو حلال لهم إنما حرم عليهم الثروب وشحم الكلية وكل شيء كذلك ليس في عظم.
وقد يقال إن الآية أوجزت أبلغ الإيجاز في بيان ما حرم عليهم من الشحوم وما أحل لهم فلم يكن من مقتضى الإيجاز أن يكون التعبير : وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر وشحوم البقر والغنم إلا كذا وكذا منها ؟ وما نكتة هذا التعبير الخاص فيها ؟ نقول قد بين ذلك صاحب الكشاف بجعله " كقولك : من زيد أخذت ماله تريد بالإضافة زيادة الربط، والمعنى أنه حرم عليهم لحم كل ذي ظفر وشحمه وكل شيء منه وترك البقر والغنم على التحليل لم يحرم منهما إلا الشحوم الخالصة وهي الثروب وشحوم الكلى " اه.
وأقول : إن المعنى المتبادر الذي تظهر فيه النكتة هو : ومن البقر والغنم دون غيرهما مما أحل لهم من حيوان البر والبحر حرمنا عليهم شحومهما الزائدة التي تنتزع بسهولة لعدم اختلاطها بلحم ولا عظم، وأما ما حملت الظهور أو الحوايا أو ما اختلط بعظم فلم يحرم عليهم. فتقديم ذكر البقر والغنم لبيان الحصر، واختلف في الاستثناء هنا هل هو منقطع أو متصل من الشحوم، وبنوا عليه أحكاما فيمن يحلف لا يأكل شحما فأكل مما استثني والصواب أن مبنى الأيمان على العرف لا على حقيقة مدلول اللغة وكل منهما معروف عند أهله. وسبب تخصيص البقر والغنم بالحكم هو أن القرابين عندهم لا تكون إلا منهما وكان يتخذ من شحمها المذكور الوقود للرب كما هو مفصل في الفصل الثالث من سفر اللاويين وقد صرح فيه بأنه الشحم الذي يغشي الأحشاء والكليتين والإلية من عند العصعص ( أي دون ما في عظم العصعص ) وقال بعد التفصيل في قرابين السلامة من البقر والغنم بقسيمه الضأن والمعز ما نصه " ٣ : ١٦ كل الشحم للرب ١٧- فريضة في أجيالكم في جميع مساكنكم لا تأكلوا شيئا من الشحم ولا من الدم " اه.
﴿ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِم ﴾ الإشارة إلى التحريم أو الجزاء المأخوذ من فعله أي جزيناهم إياه بسبب بغيهم وظلمهم، قال قتادة في تفسير هذه الجملة : إنما حرم الله ذلك عليهم عقوبة بغيهم فشدد عليهم بذلك وما هو بخبيث، وقد سبق تفصيل القول في ذلك في تفسير آية ( كل الطعام ) أول الجزء الرابع وتفسير ﴿ فبظلم من الذين هادوا ﴾ في أواخر سورة النساء من أوائل الجزء السادس.
ولما كان هذا الخبر عن شريعة اليهود من الأنباء التي لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ولا قومه يعلمون منها شيئا لأميتهم وكان مظنة تكذيب المشركين لعدم إيمانهم بالوحي وجزمهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم ليس بأعلم منهم بشرع اليهود، ومظنة تكذيب اليهود أن تحريم الله تعالى ذلك عليهم عقوبة لهم ببغيهم وظلمهم المبين في آيات أخرى، قال تعالى بعده ﴿ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ ﴾ فأكد حقية الخبر وصدق المخبر بإنّ والجملة الاسمية المعرفة الطرفين ولام القسم، أي صادقون في هذه الأخبار عن التحريم وعلته لأن أخبارنا صادرة عن العلم المحيط بكل شيء والكذب محال علينا لاستحالة كل نقص على الخالق.
١ أخرجه البخاري في الذبائح باب ٢٨، ٢٩، ومسلم في الصيد حديث ١٦ وأبو داود في الأطعمة باب ٣٦، والترمذي في الصيد باب ١١ والنسائي في ال صيد باب ٨٦، وابن ماجه باب ١٣، والدرامي في الأضاحي باب ١٨، وأحمد في المسند ١/ ٢٢٤٤- ٢٨٦- ٣٠٢- ٣٢٧- ٣٣٢- ٣٣٩- ٣٧٣- ٣/ ٣٢٣- ٣/٨٩- ٩٠..
﴿ فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ﴾ أي فإن كذبك كفار قومك أو اليهود في هذا وهو المروي عن مجاهد والسدي قيل وهو الذي يقتضيه الظاهر لأنهم أقرب ذكرا والصواب أنه خلاف الظاهر من جهة السياق فإن الكلام في محاجة المشركين الجاهلين فهم المقصودون بالخطاب بالذات، إلا أنه يمكن أن يقوى بالجواب، وهو أن اليهود لما كان يثقل عليهم أن يكون بعض شرعهم عقابا لهم للتشديد في تربيتهم على ما كان من بغيهم على الناس وظلمهم لهم ولأنفسهم وتمردهم على رسولهم ينتظر منهم أن يكذبوا الخبر من حيث تعليله بما ذكر ويحتجوا على إنكار كونه عقوبة بكون الشرع رحمة من الله، ولذلك أمر الله رسوله أن يجيبهم بما يدحض هذه الشبهة بإثباته لهم أن رحمة الله تعالى واسعة حقيقة، ولكن سعتها لا تقتضي أن يرد بأسه ويمنع عقابه عن القوم المجرمين. والبأس الشدة والمكروه.
وإصابة الناس بالمكاره والشدائد عقابا على جرائم ارتكبوها قد يكون رحمة بهم وقد يكون عبرة وموعظة لغيرهم لينتهوا عن مثلها أو ليتربوا على ترك الترف والخنوثة فتقوى عزائمهم وتعلو هممهم فيربأوا بأنفسهم عن الجرائم والمنكرات، وهذا العقاب من سنن الله تعالى المطردة في الأقوام والأمم وإن لم يطرد في الأفراد لقصر أعمارهم، وقد بينا ذلك في التفسير مرارا كثيرة، ولذلك قال :﴿ عن القوم المجرمين ﴾ ولم يقل عن المجرمين. وذهب بعض المفسرين إلى أن تكذيب اليهود لهذا الخبر إنما هو بزعمهم أن يعقوب هو الذي حرم على نفسه الإبل أو عرق النسا كما قالوه في تفسير ﴿ إلا ما حرم إسرائيل على نفسه ﴾ ( آل عمران ٩٣ ) وهو من الإسرائيليات التي كان بعض اليهود يغش بها المسلمين عندما خالطوهم وعاشروهم كما بيناه في تفسير تلك الآية وجرينا عليه آنفا في تفسير آية التحريم هنا.
ويمكن توجيه هذا الجواب في تكذيبي مشركي مكة بأنه تهديد لهم إذا أصروا على كفرهم وما يتبعه من الافتراء على الله بتحريم ما حرموا على أنفسهم وإطماع لهم في رحمة الله الواسعة إذا رجعوا عن إجرامهم، وآمنوا بما جاء به رسولهم، إذ يكونون سعداء في الدنيا بحل الطيبات وسائر ما يتبع الإسلام من السعادة والسيادة وسعداء في الآخرة بالنجاة من النار، ودخول الجنة مع الأبرار، جعلنا الله منهم بكمال الاتباع، والحمد لله على توفيقه وعلى كل حال.
﴿ سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ١٤٨ قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ١٤٩ قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ١٥٠ ﴾
قد كان ما تقدم من هذه السورة بيانا مفصلا لعقائد الإسلام في الإلهيات والنبوة والبعث ودحضا لشبهات المشركين التي كانوا يحتجون بها على شركهم وتكذبيهم للرسل وإنكارهم للبعث، وعلى أعمالهم التي هي مظاهر شركهم من تحريم وتحليل، وخرافات وتضليل، وأوهام وأباطيل، وقد جاء في هذه الآيات بشبهة من أكبر شبهاتهم التي ضل بمثلها كثير من الكفار قبلهم، ولم يكونوا أوردوها على الرسول صلى الله عليه وسلم ولكن الله تعالى جعل هذه السورة جامعة لكل ما يتعلق بتقرير العقائد وإثباتها بالحجة الناهضة وإبطال ما يرد عليها من الشبهات الداحضة، ما قيل منها، وما سيقال للرسول صلى الله عليه وسلم بعد نزولها فذكرها ورد عليها بما يبطلها، فكان ذلك من إخباره بأمور الغيب قبل وقوعها.
وذلك قوله عز وجل :﴿ سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ ﴾ أي سيقول هؤلاء المشركون لو شاء الله تعالى أن لا نشرك به من اتخذنا له من الأولياء والشفعاء من الملائكة والبشر وأن لا نعظم ما عظمنا من تماثيلهم وصورهم أو قبورهم وسائر ما يذكر بهم وأن لا يشرك آباؤنا من قبلنا كذلك لما أشركوا ولا أشركنا ولو شاء أن لا نحرم شيئا مما حرمنا من الحرث والأنعام وغيرها لما حرمنا. أي ولكنه شاء أن نشرك هؤلاء الأولياء والشفعاء به وهم له يقربوننا إليه زلفى، وشاء أن نحرم ما حرمنا من البحائر والسوائب وغيرها فحرمناها، فإتياننا ما ذكر دليل على مشيئة الله تعالى له، بل على رضاه وأمره به أيضا كما حكى عنهم في آية أخرى بقوله :﴿ وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها. قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون ﴾ ( الأعراف ٢٨ ).
وقيل أرادوا أن مشيئته ملزمة ومجبرة فهم غير مختارين في ذلك. ولما وقع هذا القول منهم بالفعل حكاه تعالى عنهم بقوله في سورة النحل :﴿ وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين ﴾ ( النحل ٣٥ ) وفي معناه قوله تعالى :﴿ وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم. ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون ﴾ ( الزخرف ٢٠ ).
وقد رد تعالى شبهتهم هنا بقوله :﴿ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا ﴾ إلخ أي مثل هذا التكذيب من مشركي مكة للرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من إبطال الشرك وإثبات توحيد الله في الألوهية والربوبية، ومنها حق التشريع والتحليل والتحريم قد كذب الذين من قبلهم لرسلهم. أي مثله في كونه تكذيبا جهليا غير مبني على أساس من العلم. والرسل ولا سيما خاتمهم عليهم الصلاة والسلام قد أقاموا الحجج العلمية والعقلية على التوحيد وغيره، وأيدهم الله تعالى بالآيات البينات، ولكن المكذبين لم ينظروا في هذه الآيات نظر الإنصاف لاستبانة الحق بل أعرضوا عنها وأصروا على جحودهم وعنادهم حتى ذاقوا بأسه تعالى وهو عذاب الاستئصال للمعاندين الذين اقترحوا على رسلهم آيات معينة فجعلها الرسل نذيرا لهم بالاستئصال فتماروا بالنذر، وما دونه لغيرهم. ولو كانت مشيئة الله لما كانوا عليه من الشرك والمعاصي إجبارا مخرجا لذلك عن كونه من أعمالهم لما عاقبهم عليه وهو قد قال إنه أخذهم بذنوبهم وأهلكهم بظلمهم وكفرهم ولو كانت مشيئته لذلك متضمنة لرضاه عن فاعله وأمره إياه به خلافا لما قال الرسل لما عاقبهم عليه تصديقا للرسل. فقوله تعالى :﴿ حتى ذاقوا بأسنا ﴾ بيان للبرهان الفعلي الواقع الدال على صدق الرسل في دعواهم وبطلان شبهات المشركين المكذبين لهم، وأمثالهم من الجبرية الذين عطلوا شرائعهم، وهم يزعمون كمال الإيمان بها وبهم.
وبعد هذا التذكير بهذا البرهان أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يطالب المشركين بدليل علمي على زعمهم فقال :﴿ قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا ﴾ أي هل عندكم بما تقولون علم ما تعتمدون عليه وتحتجون به فتخرجوه لنا لنبحث معكم فيه ونعرضه على ما جئناكم به من الآيات العقلية والمحكية عن وقائع الأمم التي قبلكم، وننصب بينهما الميزان القسط ليظهر الراجح من المرجوح ؟ والاستفهام هنا للتعجيز والتوبيخ، ولذلك قفى عليه ببيان حقيقة حالهم فقال :﴿ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ ﴾ أي لستم على شيء ما من العلم بل ما تتبعون في بقائكم على ما أنتم عليه من عقيدة وقول في الدين وعمل به إلا الظن، وهو في اللغة ما ليس من مدركات الحس ولا ضروريات العقل، وقد يكون منه ما يؤخذ من نظريات يطمئن لها القلب ويرجحها العقل، وهم لم يكونوا على هذا النوع منه وإن كان لا يكفي في إثبات أصلي الدين وهما عقائده وقواعد التشريع التي يجب الجزم بها، بل كانوا يتبعون أدنى درجاته وأضعفها لا يعدونها، وهي درجة الخرص أي الحزر والتخمين الذي لا يمكن أن يستقر عنده الحكم، كخرص ما يأتي من النخيل والكرم من التمر والزبيب، وكثيرا ما يطلق الخرص على لازمه الذي ينذر أن يفارقه وهو الكذب، وقد فسر به هنا.
﴿ سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ١٤٨ قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ١٤٩ قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ١٥٠ ﴾
قد كان ما تقدم من هذه السورة بيانا مفصلا لعقائد الإسلام في الإلهيات والنبوة والبعث ودحضا لشبهات المشركين التي كانوا يحتجون بها على شركهم وتكذبيهم للرسل وإنكارهم للبعث، وعلى أعمالهم التي هي مظاهر شركهم من تحريم وتحليل، وخرافات وتضليل، وأوهام وأباطيل، وقد جاء في هذه الآيات بشبهة من أكبر شبهاتهم التي ضل بمثلها كثير من الكفار قبلهم، ولم يكونوا أوردوها على الرسول صلى الله عليه وسلم ولكن الله تعالى جعل هذه السورة جامعة لكل ما يتعلق بتقرير العقائد وإثباتها بالحجة الناهضة وإبطال ما يرد عليها من الشبهات الداحضة، ما قيل منها، وما سيقال للرسول صلى الله عليه وسلم بعد نزولها فذكرها ورد عليها بما يبطلها، فكان ذلك من إخباره بأمور الغيب قبل وقوعها.
بعد أن نفى عنهم أدنى ما يقال له علم، وحصر ما هم عليه من الدين في أدنى مراتب الظن، مع أن أعلاها لا يغني من الحق من شيء، أثبت لذاته العلية في مقابلة ذلك الحجة العليا التي لا تعلوها حجة فقال :﴿ قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ﴾. الحجة في اللغة الدلالة المبينة للمحجة أي المقصد المستقيم كما قال الراغب فهي من الحج الذي هو القصد. والمعنى قل أيها الرسول لهؤلاء الجاهلين الذين بنوا قواعد دينهم على أساس الخرص الذي هو أضعف الظن، بعد تعجيزك إياهم عن الإتيان بأدنى دليل أو قول يرتقي إلى أدنى درجة من العلم : إن لم يكن عندكم علم ما في أمر دينكم، فلله وحده أعلى درجات العلم : بما بعثني به من محجة دينه القويم، وصراطه المستقيم، وهو الحجة البالغة ما أراد من إحقاق الحق وإزهاق الباطل، وهي ما بينه في هذه السورة وغيرها من الآيات البينات على أصول العقائد وقواعد الشرائع وموافقتها لحكم العقول السليمة والفطر الكاملة، وسنن الله في الاجتماع البشري وتكميلها للنظام العام، الذي يعرج عليه الإنسان في مراقي الكمال، ولكن لا يكاد يهتدي بهذه الآيات المنبثة في الأكوان، المبينة في آية الله الكبرى وهي القرآن، إلا المستعد للهداية وهو المحب للحق الحريص على طلبه، الذي يستمع القول فيتبع أحسنه، دون من أطفأ باتباع الهوى نور فطرته، أو استخدام عقله لكبريائه وشهوته، المعرض عن النظر في الآيات استكبارا عنها، أو حسدا للمبلغ الذي جاء بها، أو جمودا على تقليد الآباء، واتباع الرؤساء.
فإنما الحجة علم وبيان، لا قهر ولا إلزام، وما على الرسل إلا البلاغ، وإلا فلو شاء هدايتكم بغير هذه الطريقة التي أقام أمر البشر عليها وهي التعليم والإرشاد بطريق النظر والاستدلال، وما ثم إلا الخلق والتكوين أو القهر والإلزام لهداكم أجمعين بجعلكم كذلك بالفطرة، كما خلق الملائكة مفطورين على الحق والخير وطاعة الرب ﴿ لا يعصون الله ما أمركم ويفعلون ما يؤمرون ﴾ ( التحريم ٦ ) أو بخلق الطاعة فيكم بغير شعور منكم ولا إرادة كجريان دمائكم في أبدانكم وهضم معدكم لطعامكم، أو مع الشعور بأنها ليست من أفعالكم. وحينئذ لا تكونون من نوع الإنسان الذي قضت الحكمة وسبق العلم بأن يخلق مستعدا لاتباع الحق والباطل، وعمل الخير والشر. وكونه يرجح بعض ما هو مستعد له على بعض بالاختيار واختياره لأحد النجدين على الآخر بمشيئته لا ينفي مشيئة الله تعالى ولا يعارضها فإنه تعالى هو الذي شاء أن يجعله فاعلا باختياره كما بيناه من قبل في مواضع.
ومثل هذه الآية قوله تعالى من هذه السورة :﴿ ولو شاء الله ما أشركوا ﴾ ( الأنعام : ١٠٦ ) وقوله منها أيضا :﴿ ولو شاء الله لجمعهم على الهدى ﴾ ( الأنعام : ٣٦ ) وأيضا ﴿ من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم ﴾ ( الأنعام : ٣٩ ) وقوله :﴿ ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ﴾ ( المائدة : ٥١ ) وقوله :﴿ ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم ﴾ ( هود : ١١٨ ) وقوله :﴿ ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا. أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ﴾ ( يونس : ٩٩ ) فالآيات في هذا المعنى كلها بيان لسنة الله في خلق الإنسان كما بيناه في تفسير ما تقدم منها وفي مواضع أخرى وهي حجة على المجبرة والقدرية جميعا لا لهما. وقد تماري المعتزلة والأشعرية في تطبيق هذه الآيات على مذاهبهما في إنكار تعلق المشيئة الإلهية بما هو قبيح كالشرك والمعاصي وفي نفي عقيدة الجبر عند المعتزلة وإثبات الأشعرية لهما. وقد جمعنا فيما جرينا عليه آنفا بين رد الشبهتين لأن المفتونين بهما إلى اليوم كثيرون ينتمون إلى مذاهب ما لهم بها من علم.
وقد رأينا أن نلخص أقوال المفسرين من السلف والخلف في الآيات ليعرف منه ضعف المذاهب النظرية المتعارضة لأهل الكلام. قال الزمخشري في تفسير ﴿ كذلك كذب الذين من قبلهم ﴾ بعد إن قال إن احتجاجهم كمذهب المجبرة بعينه ما نصه : أي جاءوا بالتكذيب المطلق لأن الله عز وجل ركب في العقول وأنزل في الكتب ما دل على غناه وبراءته من مشيئة القبائح وإرادتها والرسل أخبروا بذلك. فمن علق وجود القبائح من الكفر والمعاصي بمشيئة الله وإرادته فقد كذب التكذيب كله وهو تكذيب الله وكتبه ورسله ونبذ أدلة العقل والسمع وراء ظهره اه.
وقد رد عليه خصومهم الأشعرية بأن الرسل لم تنف بل أثبتت وقوع كل شيء بمشيئة الله وتقديره وإن كان قبيحا ممن فعله لما يترتب عليه من عقابه عليه لإتيانه إياه باختياره كالكفر والمعصية وأن المشيئة والإرادة منه تعالى ليست بمعنى الرضا ولا تستلزمه، وقرر جمهورهم أن مراد المشركين بشبهتهم أن الله تعالى راض عن شر كهم وتحريمهم لما حرموا بدليل مشيئته له منهم دون غيره لا أنه أجبرهم عليه. وقد احتج السلف بالآية على منكري القدر قبل حدوث مذهبي المعتزلة والأشعرية فقد روى أكثر مدوني التفسير المأثور وأبو الشيخ والحاكم وصححه والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس أنه قيل له إن أناسا يقولون إن الشر ليس بقدر، فقال ابن عباس بيننا وبين أهل القدر هذه الآية ﴿ سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ﴾ إلى قوله ﴿ فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين ﴾.
وأخرج أبو الشيخ عن علي بن زيد قال انقطعت حجة القدرية عند هذه الآية أي الأخيرة. وقال الحافظ ابن كثير في قوله تعالى في رد الآية على شبهتهم : أي بهذه الشبهة ضل من ضل قبل هؤلاء، وهي حجة داحضة باطلة لأنها لو كانت صحيحة لما أذاقهم الله بأسه ودمر عليهم، وأدال عليهم رسله الكرام، وأذاق المشركين من أليم الانتقام اه وقد جزم ابن جرير أيضا بأن الله تعالى كذب المشركين هنا بزعمهم أن الله رضي منهم عبادة الأوثان، وتحريم ما حرموا من الحرث والأنعام، لا بقولهم ﴿ لو شاء الله ما أشركنا ﴾ إلخ فإنه قول صحيح أي ولكنه حق أريد به باطل واستدل على ذلك بتشبيهه تعالى تكذبيهم بتكذيب من كان قبلهم من المشركين لرسل الله إليهم وما جاءهم به من التوحيد وإنكار الشرك وما لم يأذن الله به من الشرع في التحليل والتحريم والعبادة وغير ذلك. ولكن عبارته في هذا المقام مضطربة ليست كسائر عباراته في الجلاء. وقد قال في آخرها إن لها عنده عللا أخرى غير ما ذكره يطول ذكرها في الكتاب قال :" وفيما ذكرناه كفاية لمن وفق لفهمه " وما قال هذا إلا عن شعور بضعف العبارة وإنها لا تكاد تفهم بسهولة.
وقد جارى أحمد بن المنير صاحب الكشاف على جعل شبهة المشركين عين شبهة المجبرة ثم جعل الآيتين مبطلتين لمذهبي المعتزلة والمجبرة جميعا فقال في الانتصاف ما نصه : قد تقدم أيضا الكلام على هذه الآية وأوضحها أن الرد عليهم إنما كان لاعتقادهم أنهم مسلوبون اختيارهم وقدرتهم وأن إشراكهم إنما صدر منهم على وجه الاضطرار وزعموا أنهم يقيمون الحجة على الله ورسله بذلك فرد الله قولهم وكذبهم في دعواهم عدم الاختيار لأنفسهم وشبههم بمن اغتر قبلهم بهذا الخيال فكذب الرسل وأشرك بالله واعتمد على أنه إنما يفعل ذلك كله بمشيئة الله ورام إفحام الرسل بهذه الشبهة، ثم بين الله تعالى أنهم لا حجة لهم في ذلك وأن الحجة البالغة له لا لهم بقوله :﴿ قل فلله الحجة البالغة ﴾ ثم أوضح تعالى أن كلا واقع بمشيئته وأنه لم يشأ منهم إلا ما صدر عنهم وأنه لو شاء منهم الهداية لاهتدوا أجمعون بقوله :﴿ فلو شاء لهداكم أجمعين ﴾ والمقصود من ذلك أن يتمحض وجه الرد عليهم وتتخلص عقيدة نفوذ المشيئة وعموم تعلقها بكل كائن عن الرد، وينصرف الرد إلى دعواهم بسلب الاختيار لأنفسهم وإلى إقامتهم الحجة بذلك. وإذا تدبرت هذه وجدتها كافية في الرد على من زعم من أهل القبلة أن العبد لا اختيار له ولا قدرة البتة بل هو مجبور على أفعاله مقهور عليها وهم الفرقة المعروفة بالمجبرة.
والمصنف يغالط في الحقائق فيسمي أهل السنة مجبرة وإن أثبتوا للعبد اختيارا وقدرة، لأنهم يسلبون تأثير قدرة، العبد ويجعلونها مقارنة لأفعاله الاختيارية، مميزة بينها وبين أفعاله القسرية، فمن هذه الجهة سوى بينهم وبين المجبرة ويجعله لقبا عاما لأهل السنة وجماع الرد على المجبرة الذين ميزناهم على أهل السنة في قوله تعالى :﴿ سيقول الذين أشركوا ﴾ إلى قوله ﴿ قل فلله الحجة البالغة ﴾ وتتمة الآية رد صراح على طائفة الاعتزال القائلين بأن الله تعالى شاء الهداية منهم أجمعين فلم تقع من أكثرهم، ووجه الرد أن " لو " إذا دخلت على فعل مثبت نفته فيقتضي ذلك أن الله تعالى لما قال " فلو شاء " لم يكن الواقع أنه شاء هدا يتهم ولو شاءها لوقعت فهذا تصريح ببطلان زعمهم ومحل عقدهم، فإذا ثبت اشتمال الآية على رد عقيدة الطائفتين المذكورتين المجبرة في أولها والمعتزلة في آخرها فاعلم أنها جامعة لعقيدة السنة منطبقة عليها في المخالفة والعصيان، وآخرها يثبت نفوذ مشيئة الله في العبد وأن جميع أفعاله على وفق المشيئة الإلهية خيرا أو غيره، وذلك عين عقيدتهم. فإنهم كما يثبتون للعبد مشيئة وقدرة يسلبون تأثيرهما ويعتقدون أن ثبوتهما قاطع لحجته، ملزم له بالطاعة على وفق اختياره ويثبتون مشيئة الله أيضا وقدرته في أفعال عباده، فهم كما رأيت تبع للكتاب العزيز يثبتون ما أثبت وينفون ما نفى، مؤيدون بالعقل والنقل والله الموفق اه.
ونقول : إنه قد أجاد، إلا في زعمه أن مذهب أهل السنة أن قدرة العبد لا تأثير لها فهذا مذهب الأشعرية أو أكثرهم ومذهب أهل الأثر وهم أئمة السنة وبعض محققي الأشاعرة كإمام الحرمين أن قدرة العبد مؤثرة في عمله كتأثير سائر الأسباب في المسببات بمشيئة الله الذي ربط بعضها ببعض كما هو ثابت بالحس والوجدان والقرآن وأطال المحقق ابن القيم في إثباته في شفاء العليل وغيره.
﴿ سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ١٤٨ قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ١٤٩ قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ١٥٠ ﴾
قد كان ما تقدم من هذه السورة بيانا مفصلا لعقائد الإسلام في الإلهيات والنبوة والبعث ودحضا لشبهات المشركين التي كانوا يحتجون بها على شركهم وتكذبيهم للرسل وإنكارهم للبعث، وعلى أعمالهم التي هي مظاهر شركهم من تحريم وتحليل، وخرافات وتضليل، وأوهام وأباطيل، وقد جاء في هذه الآيات بشبهة من أكبر شبهاتهم التي ضل بمثلها كثير من الكفار قبلهم، ولم يكونوا أوردوها على الرسول صلى الله عليه وسلم ولكن الله تعالى جعل هذه السورة جامعة لكل ما يتعلق بتقرير العقائد وإثباتها بالحجة الناهضة وإبطال ما يرد عليها من الشبهات الداحضة، ما قيل منها، وما سيقال للرسول صلى الله عليه وسلم بعد نزولها فذكرها ورد عليها بما يبطلها، فكان ذلك من إخباره بأمور الغيب قبل وقوعها.
ثم إنه تعالى أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يطالب مشركي قومه بإحضار من عساهم يعتمدون عليه من الشهداء في إثبات تحريم الله تعالى عليهم ما ادعوه من المحرمات بعد أن نفى عنهم العلم، وسجل عليهم اتباع الحرز والخرص ليظهر لهم أنهم ليسوا على شيء يعتد به من العلم الاستدلالي ولا الشهودي في أنفسهم، ولا على شيء من النقل عن ذي علم شهودي فقال له :﴿ قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللّهَ حَرَّمَ هَذَا ﴾. أي أحضروا شهدائكم الذين يخبرون عن علم شهودي أن الله حرم عليكم هذا الذي زعمتم تحريمه. وهو طلب تعجيز، لأنه ما ثم شهداء يشهدون فهو كالاستفهام عن العلم بذلك قبله، وكقوله من قبل ﴿ أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا ﴾ فراجع تفسيره، ولم يقل هاتوا شهداء ليحضروا أي امرئ يقول ما شاء، فإضافة الشهداء إليهم ووصفهم بما وصفهم يقتضي أن المطلوب منهم إحضاره هو جماعة من أهل العلم الذين تتلقى عنهم الأمم الأحكام الدينية وغيرها بالأدلة الصحيحة التي تجعل النظريات كالمشهودات بالحس، أو كالرسل الذين يتلقون الدين من الوحي الإلهي وهو أقوى العلوم الضرورية عندهم، كأنه يقول إذا لم تكونوا أنتم على علم تقيمون الحجة على صحته وكان عندكم شهداء تلقيتم عنهم ذلك وهم يقدرون على ما لا تقدرون عليه من الشهادة فأحضروهم لنا، ليدلوا بما عندهم من الحجة التي قلدتموهم لأجلها.
ثم قال له ﴿ فإن شهدوا فلا تشهد معهم ﴾ أي فإن فرض إحضار شهداء شهدوا فلا تشهد معهم أي فلا تقبل شهادتهم ولا تسلمها لهم بالسكوت عليها فإن السكوت عن الباطل في مثل هذا المقام كالشهادة به بل بين لهم بطلان زعمهم الذي سموه شهادة. فأمثال هذه الفروض تذكر لأجل التذكير بما يجب أن يترتب عليها إن وجدت كما يزعم أصحاب الأهواء فيها ولذلك قال :﴿ ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا ﴾ أي ولا تتبع أهواء هؤلاء الناس الذين كذبوا بآياتنا المنزلة وما أرشدت إليه من آياتنا في الأنفس والآفاق، فوضع الظاهر موضع الضمير ؛ إذ لم يقل ولا تتبع أهواءهم، لبيان أن المكذب بهذه الآيات والحجج الظاهرة إصرارا على تقاليده الباطلة إنما يكون صاحب هوى وظن لا صاحب علم وحجة.
﴿ وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ﴾ أي والذين هم على جهلهم واتباع أهوائهم لا يؤمنون بالآخرة فيحملهم الإيمان على سماع الحجة إذا ذكروا بها، وهم مع ذلك يشركون بربهم فيتخذون له مثلا وعدلا يعادله ويشاركه في جلب الخير والنفع ودفع الضر إن لم يكن باستقلاله وقدرته، فبحمله للرب على ذلك والتأثير في عمله وإرادته.
ومن مباحث اللفظ أن هلم اسم بمعنى فعل الأمر يستوي فيه عند أهل الحجاز وعالية نجد المذكر والمؤنث والمثنى والجمع، ويقول البصريون إن أصله ها التي للتنبيه ولم التي بمعنى القصد وفعله يذكر ويؤنث ويثنى ويجمع في لغة بني تميم فيقال هلمي وهلما وهلموا.
بين تعالى فيما قبل هذه الآيات حجته البالغة على المشركين الذين حرموا على أنفسهم ما لم يحرمه عليهم ربهم ودحض شبهتهم التي احتجوا بها على شركهم به وافترائهم عليه بعد أن بين لهم جميع ما حرمه على عباده من الطعام ثم بين في هذه الآيات أصول المحرمات ومجامعها في الأعمال والأقوال وما يقابلها من أصول الفضائل والبر.
فقال عز وجل من قائل :
﴿ قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ﴾ أي قل أيها الرسول لهؤلاء المتبعين للخرص والتخمين في دينهم، وللهوى فيما يحرمون ويحللون لأنفسهم ولسائر الناس أيضا بما لك من الرسالة العامة : تعالوا إلي وأقبلوا علي وأقرأ لكم ما حرم ربكم عليكم فيما أوحاه إلي من العلم الصحيح وحق اليقين، فإن الرب وحده هو الذي له حق التحريم والتشريع، وإنما أنا مبلغ عنه بإذنه، أرسلني لذلك وعلمني على أميتي ما لم أكن أعلم وأيدني بالآيات البينات. وقد خص التحريم بالذكر مع أن الوصايا التي بين بها التلاوة أعم لمناسبة ما سبق من إنكار أن يحرم غير الله ولأن بيان أصول المحرمات كلها يستلزم حل ما عداها لأنه الأصل وقد صرح بأصول الواجبات من هذا الحلال العام.
وأصل ( تعالوا ) و ( تعال ) الأمر ممن كان في مكان عال لمن دونه بأن يتعالى ويصعد إليه، ثم توسعوا فيه فاستعملوه في الأمر ممن في مكان عال لمن دونه بأنه يتعالى ويصعد إليه، ثم توسعوا فيه فاستعملوه في الأمر في الإقبال مطلقا. واستعمال المقيد في المطلق من ضروب المجاز المرسل إلا إذا كثر فلم يحتج إلى قرينة ولم ينظر فيه إلى علاقة كهذه الكلمة ولا سيما في غير هذا الموضع ولهي فيه خطاب ممن هو في أعلى مكان من العلم والهدى لمن هم في أسفل درك من الجهل والضلال، عبدة الأصنام، ومتبعي الظنون والأوهام.
وقوله :﴿ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا ﴾ شروع في بيان ما حرم الرب وما أوصى به من البر، وقد أورد بعضه بصيغة النهي عن الشيء وبعضه بصيغة الأمر بضده حسب ما تقتضيه البلاغة كما سيأتي. وأن تفسيرية وندع النحاة في اضطرابهم وخلافهم في تطبيق ما في حيزها من النهي والأمر على قواعدهم، فنحن لا يعنينا إلا فهم المعاني من الكلام بغير تكلف، وما وافق القرآن من قواعدهم كان صحيحا مطردا وما لم يوافقه فهو غير صحيح أو غير مطرد، وسنريك فيه من البيان ما يغنيك عن تحقيق السعد وحل إشكالات أبي حيان.
بدأ تعالى هذه الوصايا بأكبر المحرمات وأفظعها وأشدها إفسادا للعقل والفطرة وهو الشرك بالله تعالى سواء كان باتخاذ الأنداد له أو الشفعاء المؤثرين في إرادته المصرفين لها في الأعمال وما يذكر بهم من صور وتماثيل وأصنام أو قبور أو كان باتخاذ الأرباب الذين يشرعون الأحكام، ويتحكمون في الحلال والحرام وكذا من يسند إليهم التصرف الخفي فيما وراء الأسباب، وكل ذلك واضح من الآيات السابقة وتفسيرها. وتقدير الكلام : أول ما أتلوه عليكم في بيان هذه المحرمات وما يقابلها من الواجبات، أو أول ما وصاكم به تعالى من ذلك كما يدل عليه لاحق الكلام، هو أن لا تشركوا بالله شيئا من الأشياء وإن كانت عظيمة في الخلق كالشمس والقمر والكواكب، أو عظيمة في القدر كالملائكة والأنبياء والصالحين، فإنما عظم الأشياء العاقلة وغير العاقلة بنسبة بعضها إلى بعض، وذلك لا يخرجها عن كونها من خلق الله ومسخرة بقدرته وإرادته وعن كون العاقل منها من عبيده ﴿ إن كل من في السماوات والأرض إلا أتي الرحمن عبدا ﴾ ( مريم٩٣ ) أو أن لا تشركوا به شيئا من الشرك صغيره أو كبيره، ومقابله أن تعبدوه وحده بما شرعه لكم على لسان رسوله لا بأهوائكم، ولا بأهواء أحد من الخلق أمثالكم، وهذا هو المقصود بالذات الذي دعا إليه جميع الرسل، وهو لازم للنهي عن الشرك الذي عبر به هنا لأن الخطاب موجه إلى المشركين أولا وبالذات.
﴿ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾ أي والثاني مما أتلوه عليكم أو مما وصاكم به ربكم أن تحسنوا بالوالدين إحسانا تاما كاملا لا تدخرون فيه وسعا، ولا تألون فيه جهدا، وهذا يستلزم ترك الإساءة وإن صغرت فكيف بالعقوق المقابل لغاية الإحسان وهو من أكبر كبائر المحرمات. وقد تكرر في القرآن القران بين التوحيد والنهي عن الشرك وبين الأمر بالإحسان للوالدين. وتقدم بعضه في سورة البقرة والنساء وسيأتي أوسع تفصيل فيه في وصايا سورة الإسراء ( أو بني إسرائيل ) التي بمعنى هذه الوصايا في هذه السورة وفيه النهي عن قول أف لهما. وقد اختير في هذه الآية وأمثالها الأمر بالواجب من الإحسان على النهي عن مقابلة المحرم وهو الإساءة مطلقا للإيذان بأن الإساءة إليهما ليس من شأنها أن تقع فيحتاج إلى التصريح بالنهي عنها في مقام الإيجاز لأنها خلاف ما تقتضي الفطرة السليمة والآداب المرعية عند جميع الأمم.
وقد سبق في تفسير مثل الجملة أن الإحسان يتعدى بالباء وإلى فيقال أحسن به وأحسن إليه، والأول أبلغ، فهو بالوالدين وذي القربى أليق، لأن من أحسنت به هو من يتصل به برك وحسن معاملتك ويلتصق به مباشرة على مقربة منك وعدم انفصال عنك وأما من أحسنت إليه فهو الذي تسدي إليه برك ولو على بعد أو بالواسطة إذ هو شيء يساق إليه سوقا. ولم ترد هذه التعدية في التنزيل إلا في تعبيرين في مقامين : أحدهما : التعبير بالفعل حكاية عن يوسف عليه السلام في سورته وهو قوله لأبيه وإخوته :﴿ هذا تأويل رؤاي من قبل قد جعلها ربي حقا وقد أحسن بي إذا أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو ﴾ ( يوسف ١٠٠ ) والثاني : التعبير بالمصدر المفيد للتأكيد والمبالغة في مقام الإحسان بالوالدين في أربع سور البقرة والنساء ؛ وقد عطف فيهما ذو القربى على الوالدين بالتبع، والأنعام والإسراء. وفي سورة الأحقاف :﴿ ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا ﴾ ( الأحقاف ١٥ ) كما قرأه الكوفيون من السبعة وقرأه الباقون ( حسنا ) كآية سورة العنكبوت التي رويت كلمة إحسانا فيها من الشواذ. والظاهر أن الباء فيهما متعلقة بوصينا.
ولو لم يرد في التنزيل إلا قوله تعالى :﴿ وبالوالدين إحسانا ﴾ ولو غير مكرر لكفى في الدلالة على عظم عناية الشرع بأمر الوالدين بما تدل عليه الصيغة والتعدية، فكيف وقد قرنه بعبادته وجعله ثانيها في الوصايا وأكده بما أكده به في سورة الإسراء، كما قرن شكرهما بشكره في وصية سورة لقمان :﴿ أن أشكر لي ولوالديك ﴾ ( لقمان ١٤ ) وورد في معنى التنزيل عدة أحاديث نكتفي منها بحديث عبد الله بن مسعود ( رضي الله عنه ) في الصحيحين والترمذي والنسائي قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي العمل أفضل ؟ قال :" الصلاة على وقتها " وفي رواية لوقتها قلت ثم أي ؟ قال :" بر الوالدين " قلت ثم أي ؟ قال :" الجهاد في سبيل الله " ١ فقدم بر الوالدين على الجهاد في سبيل الله الذي هو أكبر الحقوق العامة على الإنسان. ذلك كله بأن حق الوالدين على الولد أكبر من جميع حقوق الخلق عليه، وعاطفة البنوة ونعرتها من أقوى غرائز الفطرة، فمن قصر في بر والديه والإحسان بهما كان فاسد الفطرة مضياعا للحقوق كلها فلا يرجى منه خير لأحد.
وقد بالغ بعض العلماء في الكلام على بر الوالدين حتى جعلوا من مقتضى الوصية بهما أن يكون الولد معهما كالعبد الذليل مع السيد القاسي الظالم، وقد أطمعوا بذلك الآباء الجاهلين المريضي الأخلاق حتى جروا ذا الدين منهم على أشد مما يتجرأ عليه ضعفاء الدين من القسوة على الأولاد وإهانتهم وإذلالهم وهذا مفسدة كبيرة لتربية الأولاد في الصغر وإلجاء لهم إلى العقوق في الكبر، وإلى ظلم أولادهم كما ظلمهم آباؤهم وحينئذ يكونون من أظلم الناس للناس، وقد فصلنا القول في ظلم الوالدين للأولاد وتحكمهما في شؤونهم ولا سيما تزويجهم بمن يكرهون في تفسير آية النساء ( ج ٥ تفسير ) وكم أفسدت الأمهات بناتهن على أزواجهن. والصواب أنه يجب على الوالدين تربية الأولاد على حبهما واحترامهما احترام المحبة والكرامة لا احترام الخوف والرهبة. وسنفصل ذلك في تفسير آيات سورة الإسراء إن أحيانا الله تعالى ووفقنا.
﴿ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ﴾ أي والثالث مما أتلوه عليكم مما وصاكم به ربكم أن لا تقتلوا أولادكم الصغار من فقر واقع بكم لئلا تروهم جياعا في حجوركم. فإنه هو الذي يرزقكم وإياهم أي ويرزقهم بالتبع لكم فالجملة تعليل للنهي. وسيأتي في سورة الإسراء ﴿ ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم ﴾ الإسراء ٣١ ) فقدم رزق الأولاد هنالك على رزق الوالدين عكس ما هنا لأنه متعلق بالفقر المتوقع في المستقبل الذي يكون الأولاد فيه كبارا كاسبين وقد يصير الوالدان في حاجة إليهم لعجزهم عن الكسب بالكبر. ففرق في تعليل النهي في الآيتين بين الفقر الواقع والفقر المتوقع فقدم في كل منهما ضمان رزق الكاسب للإشارة إلى أنه تعالى جعل كسب العباد سببا للرزق خلافا لمن يزهدونهم في العمل بشبهة كفالته تعالى لرزقهم. وقد ذكرنا هذه النكتة من بلاغة القرآن في تفسير ﴿ وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ﴾ الأنعام ١٣٧ } ( ج ٨ تفسير ).
﴿ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ﴾ أي والرابع مما أتلوه عليكم من وصايا ربكم أن لا تقربوا ما عظم قبحه من الأفعال والخصال كالزنا واللواط وقذف المحصنات ونكاح أزواج الآباء. وكل منها سمي في التنزيل فاحشة فهو مما ثبتت شدة قبحه شرعا وعقلا، ولذلك يستتر بفعل الأولين أكثر الذين يقترفونهما وقلما يجاهر بهما إلا المستولغ من الفساق الذي لا يبالي ذما ولا عارا إذا كان مع مثله، وهو يتبرأ منهما لدى خيار الناس وفضلائهم، وكان أهل الجاهلية يستقبحون الزنا ويعدونه أكبر العار ولا سيما إذا وقع من الحرائر فكان وقوعه منهن نادرا وإنما كان يجاهر به الإماء في حوانيت ومواخير تمتاز بأعلام حمر فيختلف إليها أراذلهم، وأما أشرافهم فيزنون سرا بمن يتخذون من الأخدان كما سبق بيانه في تفسير ﴿ محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان ﴾ ( النساء ٢٥ ) والخدن الصديق يطلق على الذكر والأنثى، ويعبرون بمصر عن خدن الفاحشة بالرفيقة والرفيق وعن المخادنة بالمرافقة وهو عند فساقهم فاش ولا سيما الأغنياء منهم.
روي عن ابن عباس رضي الله عنه في تفسير الآية قال. كانوا في الجاهلية لا يرون بأسا بالزنا في السر ويستقبحونه في العلانية فحرم الله الزنا بالسر والعلانية أي بهذه الآية وما في معناها، وليس هذا تخصيصا للفواحش ببعض أفرادها كما ظن بعض المفسرين بل مراده أن الآية دلت على ذلك بعمومها، وفي رواية عنه من طريق عطاء : ولا تقربوا الفواحش ما ظهر ( قال ) العلانية. وما بطن.. قال السر. وعنه أيضا : ما ظهر منها نكاح الأمهات والبنات وما بطن، الزنا. وأخرج ابن أبي حاتم عن عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " أرأيتم الزاني والسارق وشارب الخمر ما تقولون فيهم " ؟ قالوا الله ورسوله أعلم قال :" هن فواحش وفيهن عقوبة " وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي حازم الرهاوي أنه سمع مولاه يقول : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" مسألة الناس من الفواحش " وأخرج أيضا عن يحيى بن جابر قال : بلغني أن من الفواحش التي نهى الله عنهما في كتابه تزويج الرجل المرأة فإذا نفضت له ولدها طلقها من غير ريبة. نفضت له ولدها : ولدت له. وأخرج هو وأبو الشيخ عن عكرمة : ما ظهر منها ظلم الناس وما بطن الزنا والسرقة. أي لأن الناس يأتونهما في الخفاء. ذكر ذلك كله في الدر المنثور فدل على أن مفسري السلف في جملتهم يحملون الفواحش على عمومها وما ذكروه منها أمثلة لا تخصيص.
وما تقدم في تفسير { وذروا ظاهر الإث
١ أخرجه البخاري في مواقيت الصلاة باب ٥ والجهاد باب ١ والأداب باب ١ والتوحيد باب ٤٨ ومسلم في الإيمان حديث ١٣٧- ١٤٠ وأبو داود في الأداب باب ١٢٠ والترمذي في الصلاة باب ١٣ والبر باب ١- ٢ والنسائي في المواقيت باب ٥١ وابن ماجه في الآداب باب ١ وأحمد في المسند ١/ ١٨١، ١٨٦، ٤١٠، ٤١٨، ٤٢١، ٤٣٩، ٤٤٤، ٤٥١، ٥/ ٣٦٨..
بين تعالى فيما قبل هذه الآيات حجته البالغة على المشركين الذين حرموا على أنفسهم ما لم يحرمه عليهم ربهم ودحض شبهتهم التي احتجوا بها على شركهم به وافترائهم عليه بعد أن بين لهم جميع ما حرمه على عباده من الطعام ثم بين في هذه الآيات أصول المحرمات ومجامعها في الأعمال والأقوال وما يقابلها من أصول الفضائل والبر.
﴿ وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ أي والسادس مما أتلوه عليكم من وصايا ربكم فيما حرم وأوجب عليكم أن لا تقربوا مال اليتيم إذا وليتم أمره أو تعاملتم به ولو بوساطة وصيه أو وليه إلا بالفعلة أو الأفعال التي هي أحسن ما يفعل بماله من حفظه وتثميره وتنميته ورجحان مصلحته والإنفاق منه على تربيته وتعليمه ما يصلح به معاشه ومعاده. والنهي عن قرب الشيء أبلغ من النهي عنه لأنه يتضمن النهي عن الأسباب والوسائل التي تؤدي إليه وتوقع فيه وعن الشبهات التي تحتمل التأويل فيه فيحذرها التقي إذ يعدها هضما لحق اليتيم ويقتحمها الطامع إذ يراها بالتأويل مما يحل له لعدم ضررها باليتيم أو لرجحان نفعها له على ضررها، كأن يأكل من ماله شيئا بوسيلة له فيه ربح من جهة أخرى في عمل لولاه لم يربح ولم يخسر. وقد تقدم في تفسير الآيات المفصلة في اليتامى من أول سورة النساء وتفسير ﴿ ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم ﴾ ( البقرة ٢٢٠ ) من البقرة ما يغني عن التطويل هنا في تحرير مسألة مال اليتيم ومخالطته في المعيشة والمعاملة. ( راجع ج ٢ تفسير ).
وقوله تعالى :﴿ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ﴾ هو غاية للنهي عن هذا القرب لما له وما فيه من المبالغة في الترهيب عن التعامل فيه. أو غاية لما يتضمنه الاستثناء وهو ما يقابل النهي من إيجاب حفظ ماله حتى منه هو فإن الولي أو الوصي لا يجوز له أن يسمح ليتيم بتبديد شيء من ماله وإضاعته أو الإسراف فيه. وبلوغ الأشد عبارة عن بلوغه سن الرشد والقوة الذي يخرج به عن كونه يتيما أو سفيها أو ضعيفا. وقد اختلف أهل اللغة هل هو مفرد أو جمع لا واحد أو له واحد. قال في اللسان : الأشد مبلغ الرجل الحكمة والمعرفة. وهو موافق لتفسيرنا أو حجة له، ونقل عن ابن سيده : بلغ الرجل أشده إذا اكتهل، ونقل عن علماء اللغة والشرع أقوالا في لفظه ومعناه بلغت ثلثي ورقة منه، وملخص المعنى : أن له طرفين أدناهما الاحتلام الذي هو مبدأ سن القوة والرشد ونهايته سن الأربعين وهي الكهولة إذا اجتمعت للمرء حنكته وتمام عقله، قال فبلوغ الأشد محصور الأول محصور النهاية غير محصور ما بين ذلك. وقال الشعبي ومالك وآخرون من علماء السلف يعني حتى يحتلم، والاحتلام يكون غالبا بين الخامسة عشرة والثامنة عشرة : وقال السدي الأشد سن الثلاثين وقيل سن الأربعين وقيل الستين. والأخير باطل وما قبله مأخوذ من قوله تعالى :﴿ حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة ﴾ ( الأحقاف ١٥ ) ولكن قال المفسرون هذا لا يظهر هنا.
وأقول : إن المراد بالنهي عن قرب مال اليتيم النهي عن كل تعد عليه وهضم له من الأوصياء وغيرهم من الناس خلافا لمن جعل الخطاب فيه للأولياء والأوصياء خاصة، وحينئذ يظهر جعل ( حتى ) غاية للنهي وجعل ( الأشد ) بمعناه اللغوي وهو سن القوة البدنية والعقلية بالتجارب، والحديث العهد بالاحتلام يكون ضعيف الرأي قليل التجارب فيخدع كثيرا. وقد كان الناس في الجاهلية كأهل هذا العصر من أصحاب الأفكار المادية لا يحترمون إلا القوة ولا يعرفون الحق إلا للأقوياء، فلذلك بالغ الشرع في الوصية بالضعيفين المرأة واليتيم. وإنما كانت القوة التي يحفظ بها المرء ماله في ذلك الزمن قوة البدن مع الرشد العقلي وهو قلما يحصل بمجرد البلوغ، وأما هذا الزمان فلا يقدر على حفظ ماله فيه إلا من كان رشيدا في أخلاقه وعقله وتجاربه لكثرة الغش والحيل، وإن سفه الشبان الوارثين في مصر مضرب المثل، فأكثر الشبان من أبناء الأغنياء مسرفون في الشهوات، فمتى مات من يرثونه أقبل على معاشرتهم أخدان الفسق وسماسرته ومنهومو القمار، فلا يتركونهم إلا فقراء منبوذين، وقلما يستيقظ أحدهم من غفلته إلا في سن الكهولة التي يكمل فيها العقل وتعرف تكاليف الحياة الكثيرة ويهتم فيها بأمر النسل.
وقد اشترط الشرع لإيتاء اليتامى أموالهم سن الحلم والرشد معا وظهور رشدهم في المعاملات المالية بالاختبار بقوله تعالى :﴿ وابتلوا اليتامى ﴾ إلى قوله ﴿ فادفعوا إليهم أموالهم ﴾ ( النساء ٦ ) وهذا خطاب لأولياء والأوصياء.
﴿ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْط ﴾ أي والسابع مما أتلوه عليكم من وصايا ربكم أن أوفوا الكيل إذا كلتم للناس أو أكتلتم عليهم لأنفسكم والميزان إذا وزنتم لأنفسكم فيما تبتاعون أو لغيركم فيما تبيعون، فليكن كل ذك وافيا تاما بالقسط أي العدل، لا تكونوا من المطففين ﴿ الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون ﴾ ( المطففين ٢- ٣ ) أي ينقصون الكيل والوزن وهم الذين توعدهم الله بالويل والهلاك في أول السورة التي سميت باسمهم. فهذا هو النهي المقابل للأمر بالإيفاء وهو لازم له، فالجملة موجزة فكلمة بالقسط هي التي بينت أن الإيفاء يجب أن يكون من الجانبين في الحالين أي أوفوا مقسطين أو ملابسين للقسط متحرين له وهو يقتضي طرفين يقسط بينهما، فدل على أنه يجب على الإنسان أن يرضى لغيره ما يرضاه لنفسه.
وأين الذين يدعون اتباع القرآن في هذا الزمان من هذه الوصية ؟ لا تكاد تجد في المائة منهم في مثل بلادنا هذه بائعا يوفي الكيل والميزان لمبتاع يسلم الأمر له ويرضى بذمته.
﴿ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ﴾ هذه جملة مستأنفة لبيان حكم ما يعرض لأهل الدين والورع من الأمر بالقسط في الإيفاء فإن إقامة القسط أمر دقيق جدا لا يتحقق في كل مكيل وموزون إلا إذا كان بموازين كميزان الذهب الذي يضبط الوزن بالحبة وما دونها، وفي التزام ذلك في بيع الحبوب والخضر والفاكهة حرج عظيم يخطر في بال الورع السؤال عن حكمه، فكان جوابه أن الله تعالى لا يكلف نفسا إلا ما يسعها فعله بأن تأتيه بغير عسر ولا حرج، فهو لا يكلف من يشتري أو يبيع ما ذكر من الأقوات ونحوها أن يزنه ويكيله بحيث لا يزيد حبة ولا مثقالا بل يكلفه أن يضبط الوزن والكيل له أو عليه على حد سواء بحسب العرف، بحيث يكون معتقدا أنه لم يظلم بزيادة ولا نقص يعتد به عرفا.
وقاعدة اليسر وحصر التكليف بما وسع المكلف وما يقابله من رفع الحرج ونفي العسر، من أعظم قواعد هذا الشرع المبني على أقوى أساس من الحق والعدل فلا يساويه فيه قانون من قوانين الخلق، ولو عمل المسلمون بهذه الوصية لاستقامت أمور معاملتهم وعظمت الثقة والأمانة بينهم، وكانوا حجة على غيرهم من المطففين والمفسدين. وما فسدت أمورهم وقلّت ثقتهم بأنفسهم، وحل محلها ثقتهم بالأجانب الطامعين فيهم إلا بترك هذه الوصية وأمثالها، ثم تجد بعض المارقين الجاهلين منهم يهذون ويقولون إن ديننا هو الذي أخرنا وقدم غيرنا.
وقد قص التنزيل علينا فيما قص من أنباء الأمم لنعتبر ونتعظ بها أنه تعالى هلك قوم شعيب بما كان من ظلمهم وفسادهم ولا سيما التطفيف في الكيل الميزان وقال الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحاب الكيل والميزان :" إنكم وليتم أمرا هلكت فيه الأمم السالفة قبلكم " ١ رواه الترمذي من حديث ابن عباس مرفوعا بسند فيه راو ضعيف وقال إنه روي موقوفا بسند صحيح، وروى غيره ما يؤيده.
﴿ وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ﴾ أي والثامن مما أتلوه عليكم من وصايا ربكم هو أن تعدلوا في القول إذا قلتم قولا في شهادة أو حكم على أحد ولو كان المقول في حقه ذلك القول صاحب قرابة منكم فالعدل واجب في الأقوال كما أنه واجب في الأفعال كالوزن والكيل لأنه هو الذي تصلح به شؤون الناس فهو ركن العمران وأساس الملك وقطب رحى النظام للبشر في جميع أمورهم الاجتماعية، فلا يجوز لمؤمن أن يحابي فيه أحدا لقرابته ولا لغير ذلك، وقد فصل الله تعالى هذا الأمر الموجز بآيتين مدنيتين أولاهما قوله :﴿ يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط ﴾ ( النساء ١٣٤ ) إلخ والثانية قوله :﴿ يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ﴾ ( المائدة ٨ ) إلخ فيراجع تفسيرهما في أواخر الجزء الخامس ومنتصف الجزء السادس من التفسير.
﴿ وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُوا ﴾ أي والتاسع مما أتلوه عليكم من وصايا ربكم أن توفوا بعهد الله دون ما خالفه، وهو يشمل ما عهده الله تعالى إلى الناس على ألسنة رسله وبما أتاهم من العقل من العقل والوجدان والفطرة السليمة وما يعاهده الناس عليه، وما يعاهد عليه بعضهم بعضا في الحق موافقا للشرع قال تعالى :﴿ ولقد عهدنا إلى آدم ﴾ ( طه ١١٥ ) وقال :﴿ ألم أعهد إليكم يا بني آدم ألا تعبدوا الشيطان ﴾ ( يس ٦٠ ). وقال أيضا وهو من الثاني ﴿ وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ﴾ ( النحل ٩١ ) وقال :﴿ أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم ﴾ ( البقرة ١٠٠ ) وقال في صفات المؤمنين ﴿ والموفون بعهدهم إذ عاهدوا ﴾ ( البقرة ١٧٧ ) فكل ما وصى الله به وشرعه للناس فهو من عهده إليهم. ومن آمن برسول من رسله فقد عاهد الله بالإيمان به أنه يمتثل أمره ونهيه. وما يلتزمه الإنسان من عمل البر بنذر أو يمين فهو عهد عاهد ربه عليه كما قال في بعض المنافقين :﴿ ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به ﴾ ( التوبة ٧٥- ٧٦ ) إلخ وكذلك من عاهد الإمام وبايعه على الطاعة في المعروف. أو عاهد غيره على القيام بعمل مشروع. والسلطان يعاهد الدول فكل ذلك مما يجب الوفاء به إذا لم يكن معصية، ولكن لا يعد من عهد الله شيء من ذلك إلا إذا عقد باسمه أو بالحلف به وكذا تنفيذ شرعه.
ومن نكت البلاغة هنا تقديم معمول الفعل " أوفوا " عليه وهو يدل على الحصر ولما لم يظهر الحصر لبعض المفسرين جعلوا التقديم لمجرد الاهتمام الذي هو الأصل في كل ما يقدم على غيره في هذه اللغة، وهذا عجز منهم ألجأهم إليه تفسيرهم للعهد بهذه الوصايا أو بكل ما عهد الله إلى الناس على أن تدخل هذه الوصايا فيه دخولا أوليا. والأول باطل والثاني قاصر، أما بطلان الأول فلأن الوفاء بالعهد من الوصايا المقصودة المعدودة، وله معنى خاص فلا يصح أن يجعل عين ما قبله، وأما قصور الثاني فظاهر مما ذكرنا من سائر أنواع العهد بالشواهد من القرآن. فالعهد إذا عام لكل ما شرع الله للناس وكل ما التزمه الناس مما يرضيه ويوافق شرعه، ويقابله ما لا يرضي الله من عهد كنذر الحرام والحلف على فعله ومعاهدة الحربيين وغيرهم على ما فيه ضرر للأمة وهضم لمصالحها أو غير ذلك من المعاصي فحصر الله الأمر بالوفاء في الأول الذي يرضيه ليخرج منه هذا الأخير الذي يسخطه. ونكتفي من السنة في تعظيم شأن هذه الوصية بحديث عبد الله بن عمرو المرفوع في الصحيحين وغيرهما " أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر " ٢.
﴿ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون ﴾ قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم ﴿ تذكرون ﴾ مخففة من الذكر، والباقون بالتشديد من التذكر وأصله تتذكرون، وليس معناهما واحد كما قيل، فإن الصيغ من المادة الواحدة تعطي معاني خاصة ويتجوز في بعضها ما لا يصح في بعض، فالذكر يطلق في الأصل على إخطار معنى الشيء أو خطوره في الذهن ويسمى ذكر القلب، وعلى النطق باللفظ الدال عليه ويسمى ذكر اللسان، ويستعمل مجازا بمعنى الصيت والشرف وفسر به قوله تعالى :{ وإنه لذكر لك ولق
١ أخرجه الترمذي في البيوع باب ٩..
٢ أخرجه البخاري في الإيمان ٢٤ والمظالم باب ١٧ والجزية باب ١٧ ومسلم في الإيمان حديث ١٠٦، وأبو داود في السنة باب ١٥ والترمذي في الإيمان باب ١٤ والنسائي في الإيمان باب ٢٠ وأحمد في المسند ٢/ ١٨٩، ١٩٨..
بين تعالى فيما قبل هذه الآيات حجته البالغة على المشركين الذين حرموا على أنفسهم ما لم يحرمه عليهم ربهم ودحض شبهتهم التي احتجوا بها على شركهم به وافترائهم عليه بعد أن بين لهم جميع ما حرمه على عباده من الطعام ثم بين في هذه الآيات أصول المحرمات ومجامعها في الأعمال والأقوال وما يقابلها من أصول الفضائل والبر.
﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِه ﴾ أي والعاشر مما أتلوه عليكم من وصايا ربكم هو أن هذا الذي أدعوكم إليه من الدين القويم والشرع الحنفي العذب المورد السائغ المشرب بما تلوته عليكم من هذه السورة المشتملة على هذه الوصايا التي لا يكابر ذو مسكة من عقل في حسنها وفضلها –أو- أن هذا القرآن الذي أدعوكم إليه وأدعوكم به إلى ما يحييكم : هو صراطي ومنهاجي الذي أسلكه إلى مرضاة الله تعالى ونيل سعادة الدنيا والآخرة أشير إليه مستقيما ظاهر الاستقامة لا يضل سالكه، ولا يهتدي تاركه، فاتبعوه وحده ولا تتبعوا السبل الأخرى التي تخالفه وهي كثيرة فتتفرق بكم عن سبيله بحيث يذهب كل منكم في سيبل ضلالة منها ينتهي بها إلى الهلكة، إذ ليس بعد الحق إلا الضلال، وليس أمام تارك النور إلا الظلمات. وقد أضيف الصراط بهذا المعنى إلى الله تعالى إذ هو الذي شرعه وإلى الدعاة إليه والسالكين له من النبيين وغيرهم في سورة الفاتحة. والظاهر أن إضافته هنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأنه هو المخاطب للناس بهذه الوصية وفعلها مسند إليه تعالى بضمير الغيبة.
وقد جمع في هذه الوصية الجامعة بين الأمر بالحق والنهي عن مقابله، وهو الباطل.
قرأ حمزة والكسائي :﴿ وإن هذا صراطي ﴾ بكسر همزة إن والباقون بفتحها، فأما كسرها فعلى أن الكلام مستأنف في بيان وصية هي أم الوصايا الجامعة لما قبلها. ولغيرها وأما الفتح فعلى تقدير لام التعليل، فهو يقول : ولأجل أن هذا صراطي مستقيما لا عوج فيه عليكم أن تتبعوه إن كنتم تؤثرون الاستقامة على الاعوجاج، وترجحون الهدى على الضلال.
أخرج أحمد والنسائي والبزار وأبو الشيخ والحاكم وصححه وأكثر مصنفي التفسير المأثور عن عبد الله بن مسعود قال : خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا بيده ثم قال " هذا سبيل الله مستقيما " ثم خط خطوطا عن يمين ذلك الخط وعن شماله ثم قال :" وهذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه " ثم قرأ :﴿ وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ﴾١ وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن مردويه عن ابن مسعود أن رجلا سأله : ما الصراط المستقيم ؟ قال : تركنا محمد صلى الله عليه وسلم في أدناه وطرفه الجنة وعن يمينه جوادّ ( بالتشديد جمع جادة وهي الطريق ) وعن يساره جوادّ وثم رجال يدعون من مر بهم، فمن أخذ في تلك الجواد انتهت به إلى النار ومن أخذ على الصراط المستقيم انتهى به إلى الجنة ".
وروى أحمد والترمذي والنسائي عن النواس بن سمعان ( رض ) مرفوعا " ضرب الله مثلا صراطا مستقيما وعن جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داع يقول : أيها الناس هلم ادخلوا الصراط المستقيم جميعا ولا تفرقوا، وداع يدعو من جوف الصراط فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئا من تلك الأبواب قال له ويحك لا تفتحه فإنك إن تفتحه تلجه ( أي تدخله ) فالصراط الإسلام، والسوران حدود الله، والأبواب المفتحة محارم الله، وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله، والداعي من فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم " ٢ وأقول إن هذا الواعظ هو ما يعبر عنه الناس بالوجدان والضمير.
وقد أفرد الصراط المستقيم وهو سبيل الله وجمع السبل المخالفة له لأن الحق واحد والباطل ما خالفه، وهو كثير، فيشمل الأديان الباطلة من مخترعة وسماوية محرفة ومنسوخة، والبدع والشبهات، وبها فسرها مجاهد هنا. والمعاصي كما في حديث النواس بن سمعان. وقد نهى عن التفرق في صراط الحق وسبيله فإن التفرق في الدين الواحد هو جعله مذاهب يتشيع لكل منها شيعة وحزب ينصرونه ويتعصبون له، ويخطئون ما خالفه، ويرمون أتباعه بالجهل والضلال أو الكفر أو الابتداع، وذلك سبب لإضاعة الدين بترك طلب الحق المنزل فيه لأن كل شيعة تنظر فيما يؤيد مذهبها ويظهرها على مخالفيها لا في الحق لذاته والاستعانة على استبانته وفهم نصوصه ببحث أي عالم من العلماء بغير تعصب ولا تشيع، والحق لا يمكن أن يكون وقفا محبوسا من عند الله تعالى على عالم معين وعلى أتباعه، فكل باحث من العلماء يخطئ ويصيب، وهذا أمر قطعي ثابت بالعقل والنقل والإجماع، ولكن جميع المتعصبين للمذاهب الملتزمين لها مخالفون له، ومن كان كذلك لم يكن متبعا لصراط الله الذي هو الحق الواحد، وهذا ظاهر فيهم فإنهم إذا دعوا إلى كتاب الله وإلى ما صح من سنة رسوله أعرضوا عنهما وآثروا عليهما قول أي مؤلف لكتاب منتم إلى مذاهبهم.
ولما كان اتباع الصراط المستقيم وعدم التفرق فيه هو الحق الموحد لأهل الحق الجامع لكلمتهم، وتوحيدهم وجمع كلمتهم هو الحافظ للحق المؤيد له والمعز لأهله كان التفرق فيه بما ذكر سببا لضعف المتفرقين وذلهم وضياع حقهم، فبهذا التفرق حل بأتباع الأنبياء السابقين ما حل من التخاذل والتقاتل والضعف وضياع الحق، وقد اتبع المسلمون سننهم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى حل بهم من الضعف والهوان ما يتألمون منه ويتململون، ولم يردعهم عن ذلك ما ورد في التحذير منه في كتاب الله تعالى وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم وآثار الصحابة والتابعين، ولا ما حل بهم من البلاء المبين ولم يبق بينهم وبين من قبلهم فرق إلا في أمرين : أحدهما : حفظ القرآن من أدنى تغيير وأقل تحريف، وضبط السنة النبوية بما لم يسبق له في أمة من الأمم نظير، وثانيهما : وجود طائفة من أهل الحق في كل زمان تدعو إلى صراط الله وحده، وتتبعه بالعمل والحجة، كما بشر به صلى الله عليه وسلم. ولكن هؤلاء قد قلوا في القرون الأخيرة، وكل صلاح وإصلاح في الإسلام متوقف على كثرتهم، فنسأله تعالى أن يكثرهم في هذا الزمان ويجعلنا من أئمتهم فقد بلغ السيل الزبى.
روى ابن جرير في تفسيره عن ابن عباس في قوله :﴿ فاتبعوه ولا تتبعوا السبل ﴾ وقوله :﴿ أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ﴾ ونحو هذا في القرآن قال : أمر الله المؤمنين بالجماعة ونهاهم عن الاختلاف والفرقة وأخبرهم أنه إنما هلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات.
وقد سبق لنا سبح طويل في بحر هذه المسألة يراجع في مواضعه كتفسير ﴿ واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ﴾ ( آل عمران ١٠٣ ) وما بعدها في أوائل الجزء الرابع : وتفسير ﴿ فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ﴾ ( النساء ٦٢ ) وتفسير ﴿ رسلا مبشرين ومنذرين ﴾ ( النساء ١٦٣ ) وتفسير ﴿ اليوم أكملت لكم دينكم ﴾ ( المائدة ٣ ) وتفسير ﴿ قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا ﴾ ( الأنعام ٦٥ ) وفيه بحث مستفيض في عذاب هذه الأمة وتداعي الأمم عليها وضعفها بالتفرق في الدين، وغير ذلك مما يعلم من مظانه وفهارس أجزاء التفسير، وسيعاد البحث فيه في تفسير ﴿ إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء ﴾ من بعد بضع آيات.
﴿ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون ﴾ أي ذلكم الأمر باتباع صراط الحق المستقيم والنهي عن سبل الضلالات والأباطيل المعوجة وهو جامع الوصايا النافعة البعيد المرمى، الموصل إلى ما لا يحيط به الوصف من السعادة العظمى وصاكم الله به ليعدكم ويهيئكم لما يرجى لكل من اتبعه من اتقاء كل ما يشقيه ويرديه في دنياه وآخرته قال أبو حيان : ولما كان الصراط المستقيم هو الجامع للتكاليف وأمر سبحانه باتباعه ونهى عن اتباع غيره من الطرق ختم ذلك بالتقوى التي هي اتقاء النار، إذ من اتبع صراطه نجا النجاة الأبدية وحصل على السعادة السرمدية.
وأقول : إن كلمة التقوى تشمل كل ما يتقى من الضرر العام والخاص مهما يكن نوعه. وقد ذكرت في التنزيل في سياق الأوامر والنواهي المختلفة من عبادات ومعاملات، وآداب وقتال، وسنن اجتماع، وطعام وشراب، وعشرة وزواج، وغير ذلك فهي تفسر في كل موضع بحسبه كما بيناه من قبل. وهي في هذا الموضع تشمل جميع الأنواع لأنها جاءت في سياق اتباع صراط الله المستقيم الشامل لجميع أنواع الهداية الشخصية والاجتماعية.
وقد أشرت إلى موقع ختم الآية التي قبل هذه بالذكر والتذكر وما قبلهما بالعقل. وبعد تفسير الآيات كلها راجعت ما لدي من كتب التفسير فرأيت السيد الآلوسي قد أتى بما لم يأت به غيره مما قاله علماء البلاغة في نكت هذه الخواتيم للآيات الثلاث وهذا نصه :
وختمت الآية الأولى بقوله سبحانه :﴿ لعلكم تعقلون ﴾ وهذه بقوله تعالى ﴿ لعلكم تذكرون ﴾ لأن القوم كانوا مستمرين على الشرك وقتل الأولاد وقربان الزنا وقتل النفس المحرمة بغير حق ( غير ) مستنكفين ولا عاقلين قبحها فنهاهم سبحانه لعلهم يعقلون قبحها فيستنكفوا عنها ويتركوها، وأما حفظ أموال اليتامى عليهم وإيفاء الكيل والعدل في القول والوفاء بالعهد فكانوا يفعلونه ويفتخرون بالاتصاف به فأمرهم الله تعالى بذلك لعلهم يذكرون إن عرض لهم نسيان، قاله القطب الرازي ثم قال : فإن قلت إحسان الوالدين من قبيل الثاني أيضا فكيف ذكر من الأول ؟ قلت أعظم النعم على الإنسان نعمة الله تعالى ويتلوه نعمة الوالدين لأنهما المؤثران في الظاهر ومنهما نعمة التربية والحفظ عن الهلاك في وقت الصغر، فلما نهى عن الكفر بالله تعالى نهى بعده عن الكفران في نعمة الأبوين تنبيها على أن القوم لما لم يرتكبوا الكفران فبطريق الأولى أن لا يرتكبوا الكفر.
وقال الإمام ﴿ الرازي ﴾ : السبب في ختم كل آية بما ختمت أن التكاليف الخمسة المذكورة في الآية الأولى ظاهرة جلية فوجب تعقلها وتفهمها والتكاليف الأربعة المذكورة في هذه الآية أمور خفية غامضة لا بد فيها من الاجتهاد والفكر الكثير حتى يقف على موضع الاعتدال وهو التذكر انتهى.
﴿ قال الألوسي ﴾ : ويمكن أن يقال إن أكثر التكليفات الأول أدي بصيغة النهي وهو في معنى المنع، والمرء حريص على ما منع، فناسب أن يعلل الإيصاء بذلك بما فيه إيماءً إلى معنى المنع والحبس، وهذا بخلاف التكليفات الأخَر فإن أكثرها قد أدِّيَ بصيغة الأمر وليس المنع فيه ظاهرا كما في النهي، فيكون تأكيدات الطلب والمبالغة فيه ليستمر عليه ويتذكر إذا نسي، فليتدبر اه.
وإننا نختم هذه الوصايا العظيمة الشأن بأحاديث وردت فيها نقلا عن الدر المنثور : أخرج الترمذي وحسنه وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن مسعود قال : من سره أن ينظر إلى وصية محمد الذي عليه خاتمه فليقرأ هؤلاء الآيات :﴿ قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ﴾ إلى قوله ﴿ لعلكم تتقون ﴾٣ وأخرج عبد ابن حميد وابن أبي خاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والحاكم وصححه عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أيكم يبايعني على هؤلاء الآيات الثلاث ؟ ثم تلا :﴿ قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ﴾ إلى ثلاث آيات ثم قال : فمن وفى بهن فأجره على الله ومن انتقض منهن شيئا فأدركه في الدنيا كانت عقوبته ومن أخره إلى الآخرة كان أمره إلى الله إن شاء آخذه وإن شاء عفا عنه " وأخرج عبد بن حميد وأبو عبيد وابن المنذر عن منذر الثوري قال قال الربيع بن خيثم : أيسرك أن تلقى صحيفة من محمد صلى الله عليه وسلم بخاتم ؟ قلت نعم فقرأ هؤلاء الآيات من آخر سورة الأنعام ﴿ قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ﴾ إلى آخر الآيات.
وأخرج الب
١ أخرجه النسائي في الوصايا باب ١١ وأحمد في المسند ١/ ٣٢٥..
٢ أخرجه الترمذي في الأدب باب ٧٦ وأحمد في المسند ٤/ ١٨٢، ١٨٣..
٣ أخرجه الترمذي في تفسير سورة ٦ باب ٧.
﴿ ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِيَ أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ١٥٤ وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ١٥٥ أَن تَقُولُواْ إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ ١٥٦ أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ ١٥٧ ﴾
كانت الوصايا العشر في الآيات الثلاث التي قبل هذه الآيات من حجج الله الأدبية على حقية دينه القويم، ووجوب اتباع صراطه المستقيم، قفى بها على ما قبلها من الحجج العقلية على أصول هذا الدين، ودحض شبهات المعاندين والممترين، ولما كملت بذلك حجج السورة وبيناتها حسن أن ينبه هنا على مكانة القرآن في جملة من الهداية ووجوب اتباعه، واعذار المشركين بما يعملون به أنه لن يكون لهم عذر عند الله تعالى على ضلالهم بالجهل وعدم إرسال رسول إذا هم لم يتبعوه. وقد افتتح هذا التنبيه والتذكير والإعذار بذكر ما يشبه القرآن في شرعه ومنهاجه مما اشتهر عند مشركي العرب وهو كتاب موسى عليه السلام.
فقال عز وجل :
﴿ ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِيَ أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ﴾ سبق في هذه السورة وغيرها الجمع بين ذكر التوراة والقرآن للتذكير بالتشابه بينهما لأن العرب كانوا يعلمون أن اليهود المجاورين لهم أهل كتاب اسمه التوراة ولهم رسول اسمه موسى وأنهم أهل علم وشريعة وكان بعض عقلائهم يتمنى لو يؤتى العرب مثلما أوتي اليهود، ويقولون إنه لو جاءهم كتاب مثل كتابهم لكانوا أهدى منهم وأعظم انتفاعا لما يعتقدون من امتيازهم عليهم بالذكاء والعقل وعلو الهمة. ولكن اختلف المفسرون في بدء هذه الآية بثم التي تدل على تأخر ما عطف بها عما عطف عليه. فذهب ابن جرير إلى أن هذا عطف على ﴿ قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ﴾ بحذف " قل " والتقدير : قل أيها الرسول لهؤلاء الناس تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ووصاكم به وهو كذا وكذا ثم قل لهم وأعلمهم أننا آتينا موسى الكتاب إلخ وذهب الزمخشري إلى أنه عطف على وصاكم بطريق الالتفات بناء على أن هذه الوصايا قديمة وصى الله بها جميع الأمم على ألسنة أنبيائها، والتقدير " ذلكم وصاكم به " على ألسنة الرسل " ثم آتينا موسى الكتاب " وهو أبعد في نظم الكلام مما قبله ويمكن إيضاحه بأن موسى أعطي الكتاب بعد الوصايا العشر التي بمعنى هذه الوصايا فيه تفصيل أحكام العبادات والمعاملات الشرعية كما أن أحكام القرآن التفصيلية تجيء بعد هذه الوصايا في السور المدنية. وحكى الحافظ ابن كثير رأي الإمام ابن جرير وتعقبه بأن فيه نظرا وقال : إن " ثم " ههنا إنما لعطف الخبر بعد الخبر لا للترتيب كما قال الشاعر :
قل لمن ساد ثم ساد أبوه ثم قد ساد قبل ذلك جده١
وههنا لما أخبر الله سبحانه عن القرآن بقوله :﴿ وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ﴾ عطف بمدح التوراة وكثيرا ما يقرن سبحانه بين الكتابين بقوله :﴿ ومن قبله كتاب موسى إمام ورحمة ﴾ ( هود ١٧ ) ﴿ هذا كتاب مصدق لسانا عربيا ﴾ ( الأحقاف ١٢ ) وقوله أول هذه السورة ﴿ قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس ﴾ ( الأنعام ٩١ ) وبعدها ﴿ وهذا كتاب أنزلناه مبارك ﴾ ( الأنعام ٩٢ ) الآية اه المراد منه وقد أورد شواهد أخرى من الآيات في هذه المقارنة.
فهذا أحسن ما قيل في هذا العطف وكونه " بثم " لخصناه بأقرب تصوير. وقد نقل المفسرون الذين جاؤوا بعد هؤلاء أقوالهم بتصرف، جعلها في غاية التكلف، كما نقل ابن كثير قول ابن جرير بإيجاز مخل لا يتبين به مراده وقال إن فيه نظرا ولم يبين وجهه، وإنما رجح أن " ثم " لعطف الخبر على الخبر أي لا لعطف الإنشاء على الإنشاء كما جعلها ابن جرير. وفيه أن عطف الخبر بثم يراعى فيه الترتيب كما يراعى في عطف الإنشاء وعطف المفرد ولكن الترتيب قد يكون بحسب الزمان وقد يكون بحسب الذكر والانتقال من شيء إلى آخر كما قاله في تفسير قوله تعالى :﴿ خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها ﴾ ( الزمر ٦ ) والبيت الذي ذكره فيه ترتيب لتسلسل السيادة في بيت الممدوح بطريق الترقي بكونها كانت قبله في الأب ثم قبله في الجد. وفيه أيضا أن جملة " آتينا موسى الكتاب " فعلية وجملة " وأن هذا صراطي مستقيما " فيها قراءتان فهي جملة اسمية على إحداهما وهي قراءة من كسر همزة " إن " وإنشائية على الأخرى وهي قراءة من فتحها كما تقدم فكيف جعل ابن كثير عطف الجملة الفعلية عليها هو الصواب الذي لا مجال للنظر في صحته وفصاحته اللائقة بالتنزيل وجزم بأن عطف الجملة الإنشائية على مثلها فيه نظر مستغن عن لبيان والتأويل ؟ والإنصاف أنه ليس في قول ابن جرير وقفة لصاحب الذوق السليم إلا تقدير كلمة " قل " ولكن قرينته ظاهرة. وإن أحسن ما قاله ابن كثير هو التذكير بما تكرر في القرآن من القرآن بينه وبين التوراة لما بينهما من التشابه في كون كل منهما شريعة كاملة، والإنجيل والزبور ليسا كذلك. بل أكثر الأول عظات وأمثال، وأكثر الثاني ثناء ومناجاة.
ومن التشابه بين القرآن والتوراة أن هذه الوصايا التسع أو العشر في الآيات الثلاث ونظيرها في سورة الإسراء كانت من أول ما نزل بمكة قبل تفصيل كل شيء من أحكام العبادات والمعاملات في السور المدنية، كما أن الوصايا العشر المشهورة كانت أول ما نزل على موسى ( ع م ) من أصول الدين قبل تفصيل سائر الأحكام المدنية ووصايا القرآن أجمع للمعاني فهي تبلغ العشرات إذ فصلت، وقد روي عن كعب الأحبار أن وصايا سورة الأنعام هنا عين وصايا التوراة والصواب ما قلناه آنفا. ونحن نذكر نص وصايا التوراة من الفصل العشرين من سفر الخروج ليعرف به صحة قولنا وغش كعب للمسلمين وهو :
" أنا الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر من بيت العبودية ( ١ ) لا يكن لك آلهة أخرى أمامي ( ٢ ) لا تصنع لك تمثالا منحوتا ولا صورة ما مما في السماء من فوق ولا ما في الأرض من تحت، ولا ما في الماء من تحت الأرض لا تسجد لهن ولا تعبدهن، لأني أنا الرب إلهك إلى غيور افتقد ذنوب الآباء في الأبناء في الجيل الثالث والرابع من مبغضي، وأصنع إحسانا إلى ألوف من محبي وحافظي وصاياي ( ٣ ) لا تنطق باسم الرب إلهك باطلا، لأن الرب لا يبرئ من نطق باسمه باطلا ( ٤ ) اذكر يوم السبت لتقدسه، ستة أيام تعمل وتصنع جميع عملك، وأما اليوم السابع ففيه سبت للرب إلهك، لا تصنع عملا ما أنت وابنك وابنتك وعبدك وأمتك وبهيمتك ونزيلك الذي داخل أبوابك، لأن في ستة أيام صنع الرب السماء والأرض والبحر وكل ما فيها، واستراح في اليوم السابع. لذلك بارك الرب يوم السبت وقدسه ( ٥ ) أكرم أباك وأمك لكي تطول أيامك على الأرض التي يعطيك الرب إلهك ( ٦ ) لا تقتل ( ٧ ) لا تزن ( ٨ ) لا تسرق ( ٩ ) لا تشهد على قريبك شهادة زور ( ١٠ ) لا تشته بيت قريبك لا تشته امرأة قريبك ولا عبده ولا أمته ولا ثوره ولا حماره ولا شيئا مما لقريبك ".
ولما كان جل هذه الوصايا وتلك هي أصول دين الله على ألسنة جميع رسله حكمنا بأن كلام الكشاف في تقديره العطف وجيه من جهة المعنى وإن كان الناظر إليه من جهة اللفظ وحده يعده تكلفا. ويؤيده قوله تعالى في سورة الشورى ﴿ شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى ﴾ ( الشورى ١٣ ) وليس الدين المشترك الذي شرعه الله تعالى موصيا به هؤلاء الرسل وغيرهم إلا التوحيد وأصول الفضائل والنهي عن كبائر الفواحش والمنكرات المذكورة.
ثم قال تعالى في هذه الآية ﴿ ان أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ﴾ ( الشورى ١٣ ) كما قال في آخر وصايا الأنعام ﴿ ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون ﴾ ( الأنعام ١٥٣ ) فبهذا التشابه يقوى كون الخطاب بالوصية لجميع البشر الذين بعث إليهم خاتم الرسل وكون المراد بها ما أشير إليه في آية الشورى.
وقوله تعالى :﴿ تماما على الذي أحسن ﴾ معناه آتينا موسى الكتاب تماما للنعمة والكرامة على من أحسن في اتباعه واهتدى به كما قال في أواخر ما نزل من القرآن ﴿ اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ﴾ ( المائدة ٣ ) وقيل إن المعنى آتيناه الكتاب تماما كاملا جامعا لما يحتاج إليه من الشريعة كقوله :﴿ وكتبنا له في الألواح من كل شيء ﴾ ( الأعراف ١٤٥ ) جزاء على إحسانه أو تماما على إحسانه. التقدير الأول لابن كثير وجعله من قبيل قوله تعالى :﴿ وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما ﴾ ( البقرة ١٢٤ ) وقوله تعالى :﴿ وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا ﴾ ( السجدة ٢٤ ). والثاني عزاه إلى ابن جرير على جعل " الذي " مصدرية كقوله تعالى :﴿ وخضتم كالذي خاضوا ﴾ ( التوبة ٦٩ ) أي كخوضهم، وقول عبد الله بن رواحة في مدح النبي صلى الله عليه وسلم :
وثبت الله ما آتاك من حسن في المرسلين ونصرا كالذي نصروا
وما قدرناه أولا أبعد عن التكلف.
وقوله تعالى ﴿ وتفصيلا لكل شيء ﴾ عام في بابه : أي مفصلا كل شيء من أحكام الشريعة كالعبادات والمعاملات المدنية والعقوبات والحرب " وهدى ورحمة " أي علما من أعلام الهداية وسببا من أسباب الرحمة لمن اهتدى به " لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون " أي آتاه الكتاب جامعا لما ذكر ليعد به قومه ويجعلهم محل الرجاء للإيمان بلقاء الله تعالى في دار كرامته التي أعدها للمؤمنين المهتدين بوحيه.
١ يروى صدر البيت:
إن من ساد ثم ساد أبوه
والبيت من التخفيف وهو لأنذبي نواس في ديوانه ١/ ٣٥٥ وخزانة الأدب ١١/ ٣٧، ٤٠، ٤١ والدرر ٦/ ٩٣ وبلا نسبة في الجنى الداني ص ٤٢٨ وجواهر الأدب ٣٦٤ ورصف المباني ص ١٧٤ ومغتي اللبيب ١/ ١١٧..

﴿ ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِيَ أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ١٥٤ وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ١٥٥ أَن تَقُولُواْ إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ ١٥٦ أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ ١٥٧ ﴾
كانت الوصايا العشر في الآيات الثلاث التي قبل هذه الآيات من حجج الله الأدبية على حقية دينه القويم، ووجوب اتباع صراطه المستقيم، قفى بها على ما قبلها من الحجج العقلية على أصول هذا الدين، ودحض شبهات المعاندين والممترين، ولما كملت بذلك حجج السورة وبيناتها حسن أن ينبه هنا على مكانة القرآن في جملة من الهداية ووجوب اتباعه، واعذار المشركين بما يعملون به أنه لن يكون لهم عذر عند الله تعالى على ضلالهم بالجهل وعدم إرسال رسول إذا هم لم يتبعوه. وقد افتتح هذا التنبيه والتذكير والإعذار بذكر ما يشبه القرآن في شرعه ومنهاجه مما اشتهر عند مشركي العرب وهو كتاب موسى عليه السلام.
﴿ وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ ﴾ أي وهذا القرآن الذي يتلى عليكم كتاب عظيم القدر، فتنكيره للتعظيم، أنزلناه كما أنزلنا الكتاب على موسى. جامع لكل أسباب الهداية الثابتة الدائمة النامية الزائدة على ما في كتاب موسى، فالمبارك من البركة وهي الزيادة والنماء في الخير، قيل إنها من بركة الماء وقيل من برك البعير. وقد بينا من قبل مزايا القرآن على غيره من الكتب الإلهية ﴿ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ أي فاتبعوا ما هداكم إليه واتقوا ما نهاكم عنه وحذركم إياه لتكون رحمته تعالى مرجوة لكم في الدنيا والآخرة فإن الكتاب هدى ورحمة كما صرح به فيما يلي تعليلا لإنزاله.
﴿ ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِيَ أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ١٥٤ وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ١٥٥ أَن تَقُولُواْ إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ ١٥٦ أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ ١٥٧ ﴾
كانت الوصايا العشر في الآيات الثلاث التي قبل هذه الآيات من حجج الله الأدبية على حقية دينه القويم، ووجوب اتباع صراطه المستقيم، قفى بها على ما قبلها من الحجج العقلية على أصول هذا الدين، ودحض شبهات المعاندين والممترين، ولما كملت بذلك حجج السورة وبيناتها حسن أن ينبه هنا على مكانة القرآن في جملة من الهداية ووجوب اتباعه، واعذار المشركين بما يعملون به أنه لن يكون لهم عذر عند الله تعالى على ضلالهم بالجهل وعدم إرسال رسول إذا هم لم يتبعوه. وقد افتتح هذا التنبيه والتذكير والإعذار بذكر ما يشبه القرآن في شرعه ومنهاجه مما اشتهر عند مشركي العرب وهو كتاب موسى عليه السلام.
﴿ أَن تَقُولُواْ إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ ﴾ تقدم مثل هذا التعليل الذي معناه قطع طريق التعلل والاعتذار والمعنى على الخلاف في تقدير متعلق " أن " أنزلناه لئلا تقولوا أو كراهة أن تقولوا أو منعا لكم من أن تقولوا يوم الحساب والجزاء معتذرين عن شرككم وإجرامكم : إنما أنزل الكتاب الهادي إلى توحيد الله ومعرفته وطريق طاعته وتزكية الأنفس من دنس الشرك والرذائل على طائفتين من قبلنا وهم اليهود والنصارى، وأن حقيقة حالنا وشأننا أننا كنا غافلين عن دراستهم وتعليمهم لجهلنا بلغاتهم وغلبة الأمية علينا والحصر إنما يصح بالإضافة إليهم أو بحسب علمهم بحال الطائفتين لمجاورتهم لهم.
﴿ ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِيَ أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ١٥٤ وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ١٥٥ أَن تَقُولُواْ إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ ١٥٦ أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ ١٥٧ ﴾
كانت الوصايا العشر في الآيات الثلاث التي قبل هذه الآيات من حجج الله الأدبية على حقية دينه القويم، ووجوب اتباع صراطه المستقيم، قفى بها على ما قبلها من الحجج العقلية على أصول هذا الدين، ودحض شبهات المعاندين والممترين، ولما كملت بذلك حجج السورة وبيناتها حسن أن ينبه هنا على مكانة القرآن في جملة من الهداية ووجوب اتباعه، واعذار المشركين بما يعملون به أنه لن يكون لهم عذر عند الله تعالى على ضلالهم بالجهل وعدم إرسال رسول إذا هم لم يتبعوه. وقد افتتح هذا التنبيه والتذكير والإعذار بذكر ما يشبه القرآن في شرعه ومنهاجه مما اشتهر عند مشركي العرب وهو كتاب موسى عليه السلام.
﴿ أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم ﴾ لأننا أذكى أفئدة وأعلى همة وأمضى عزيمة، وقد قالوا هذا في الدنيا كما حكاه تعالى عنهم في آخر سورة فاطر بقوله :﴿ وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم، فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا استكبارا في الأرض ومكر السيئ ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله ﴾ ( فاطر ٤٢- ٤٣ ) إلخ وهذا التأكيد بالقسم مبني على اعتقادهم أنهم أكمل البشر فطرة وأعلاهم استعداد لكل فضيلة وكان اعتقادا راسخا في عقولهم متمكنا من وجدانهم ومن أدلته ما رواه التاريخ لنا من المفاخرات بين بعض العرب والفرس.
وإذا كانت قبائل العرب كلها تعتقد أن شعبهم أزكى من جميع الأعاجم فطرة وأدنى أفئدة وأعز أنفسا وأكمل عقولا وأفهاما وأفصح ألسنة وأبلغ بيانا، فما القول بقريش التي دانت لها العرب واعترفت بفضلها على غيرها منهم ؟ ولكن جمهور سادة قريش وكبراؤها قد استكبروا بذلك وعتوا عتوا كبيرا، حتى كذبوا بأعظم ما فضل الله به جيلهم وقومهم على جميع الأجيال والأقوام بالحق وهو القرآن وصدوا عنه وصدفوا عن آياته، فكان إقسامهم أنهم لو جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم المجاورة لهم حجة عليهم وإن صدق على غيرهم من قريش ومن سائر العرب الذين اهتدوا بالكتاب فسادوا به جميع الأمم، وكانوا أئمة لها في دينها ودنياها ما كانوا مهتدين به معتصمين بحبله، وإذا كان ذلك القسم صادرا عن عقيدة راسخة فلا جرم أنه لو لم يأتهم النذير بهذا الكتاب المنير لاعتذروا في الآخرة بهذا العذر على أن المعاندين منهم ظلوا يطالبون النذير الذي جاءهم به بمثل ما أتى به من قبله من الآيات الكونية وهو أي الكتاب أقوى منها دلالة على النبوة لأن دلالته علمية عقلية ودلالتها وضعية أو عادية على أنها تشتبه بالسحر والشعوذة وسائر الغرائب الصناعية، وقد وضحنا الفرق بينهما في غير موضع من تفسير هذه السورة الأنعام واعتبر هنا بقوله تعالى في آخر سورة طه ﴿ وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه ؟ أو لم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى ولولا أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى ﴾ ( طه ١٣٣- ١٣٤ ).
﴿ فَقَدْ جَاءكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَة ﴾ هذا هو الجواب القاطع لكل تعلة وعذر فإن القرآن بينة عظيمة كاملة من وجوه متعددة فتنكير البينة وما بعدها للتعظيم، إذ البينة ما تبين به الحق وهو مبين للحق في العقائد بالحجج والدلائل وفي الفضائل والآداب وأصول الشريعة وأمهات الأحكام بما تصلح به أمور البشر وشؤون الاجتماع وهدى كامل لمن تدبره وتلاه حق تلاوته، فإنه يجذبه ببيانه وبلاغته إلى الحق الذي قرره وإلى عمل الخير والصلاح الذي بين فوائده ومنافعه، ورحمة عامة للبشر الذين تنتشر فيهم هدايته. وتنفذ فيهم شريعته. حتى الخاضعين لأحكامها من غير المؤمنين به فإنهم يكونون آمنين في ظلها على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم. أحرارا في عقائدهم وعباداتهم مساوين للمؤمنين بها في حقوقهم ومعاملاتهم. عائشين في وسط خال من الفواحش والمنكرات. التي تفسد الأخلاق وتولد الأمراض. وأما المؤمنون به فهو رحمة لهم في الدنيا والآخرة جميعا هكذا كان وهكذا يكون. وإنما أنزلت هذه الآية في هذه السورة والمؤمنون قليلون مضطهدون. والجماهير مكذبون والرؤساء يصدون عن الكتاب ويصدفون.
﴿ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا ﴾ الاستفهام هنا إنكاري أي وإذا كانت آيات الله مشتملة على ما ذكر من البينة الكاملة والهداية الشاملة والرحمة الخاصة والعامة. فلا أحد أظلم ممن كذب بها وأعرض عنها ولم يكتف بصدوفه عنها. وحرمان نفسه منها. بل صدف الناس أي صرفهم وردهم أيضا كما كان يفعل كبراء مجرمي قريش بمكة في أثناء نزول هذه السورة. كانوا يصدفون العرب عن النبي صلى الله عليه وسلم ويحولون بينه وبينهم لئلا يسمعوا منه القرآن فينجذبوا إلى الإيمان، كما قال : وهم ينهون عنه وينأون عنه ﴿ وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون ﴾ ( الأنعام ٢٦ ) وتقدم في أوائل هذه السورة. فصدف بمعنى صد، واستعمل مثله لازما ومتعديا، وفي معناهما الصرف والصدع، ولا مانع عندي من استعمال صدف هنا لازما ومتعديا كما كانت حال أولئك الكبراء من قريش وسائر قبائل العرب الذين اقتدوا بهم في صد الناس عن سماع القرآن ومنع الرسول صلى الله عليه وسلم من تبليغ الدعوة، وهذا أقرب من استعمال المشترك في معنيين أو أكثر من معانيه إذا كانت العبارة تحتمل ذلك إذ لم يعد منه. ومن استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه بهذا الشرط وقد قال بهما ابن جرير والأصوليون في الشافعية.
على أن بين اللازم والمتعدي تلازما في هذا المقام فإن الصاد لغيره عن شيء يكرهه ويعادي الداعي إليه والقائم به يكون هو أشد صدودا وإعراضا عنه. وإنما ينهى عن الشيء ويصد عنه غيره من يحبه ويأخذ به إذا كان مرائيا أو خادعا لمن ينهاه ويصرفه عنه كالوعاظ المرائين، والتجار الغاشين، ومن الصد اللازم قوله تعالى في سورة النساء ﴿ وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا ﴾ ( النساء ٦١ ) ومن المتعدي قوله تعالى في أول سورة محمد أو القتال ﴿ الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم ﴾ ( محمد ١ ).
﴿ سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ ﴾ أي سنجزي الذين يصدفون الناس ويردونهم عن آياتنا والاهتداء بها سوء العذاب بسبب ما كانوا يجرون عليه من الصدف عنها والاستمرار عليه فإنهم بذلك يحملون أوزارهم وأوزار من صدفوهم عن الحق وحالوا بينهم وبين سبب الهداية. وقد وضع الموصول موضع الضمير فقال سنجزي الذين يصدفون ولم يقل سنجزيهم ليعلم أن هذا الوعيد إنما هو على الصدف الذي هو قطع طريق الحق على المستعدين لاتباعه، لأنهم بهذا كانوا أظلم الناس كما دل عليه الاستفهام الإنكاري في أول الآية لا على مجرد ظلمهم لأنفسهم بالتكذيب، وقد أكد ذلك بالتصريح بالسبب ولم يكتف بدلالة صلة الموصول عليه فهو بمعنى قوله تعالى في سورة النحل ﴿ الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون ﴾ ( النحل ٨٨ ) أي زدناهم عذابا سيئا شديدا بصدهم الناس عن سبيل الله فوق العذاب على كفرهم بسبب إفسادهم في الأرض بهذا الصد عن الحق. وقال في الآية التي بعد هذه ﴿ ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين ﴾ ( النحل ٧٩ ) فهاتان الآيتان من سورة النحل بمعنى آية سورة الأنعام.
﴿ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ١٥٨ ﴾
بين الله تعالى في السياق الأخير من هذه السورة أصول الدين في الآداب والفضائل، في أثر تفصيل السورة لجميع أصول العقائد وقفى على ذلك بالاعذار إلى كفار مكة ومن يتبعهم من العرب الذين كانوا يقسمون بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم المجاورة لهم من أهل الكتاب فلما جاءهم النذير استكبروا وزادوا نفورا عن الإيمان، وقرن هذا الإعذار بالإنذار الشديد والوعيد بسوء العذاب في الآية التي قبل هذه الآية وفي هذه أيضا، فإنه حصر فيها ما أمامهم وأمام غيرهم من الأمم بما يعرفهم بحقيقة ما ينتظرون في مستقبل أمرهم وأنه غير ما يتمنون من موت الرسول وانطفاء نور الإسلام بموته صلوات الله وسلامه عليه فقال :
﴿ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ ﴾ أي أنهم لا ينتظرون إلا أحد هذه الثلاثة بمعنى أنه ليس أمامهم غاية ينتهون إليها في نفس الأمر أو بحسب سنن الله في الخلق إلا أن تأتيهم وقرأ حمزة والكسائي يأتيهم الملائكة أي ملائكة الموت لقبض أرواحهم فرادى أو ملائكة العذاب لاستئصالهم ( هذا الأخير خاص بالأمم التي يعاند الرسل سوادها الأعظم بعد أن يأتوها بالآيات المقترحة ) أو يأتي ربك أيها الرسول. قيل إن إتيان الرب تعالى عبارة عن إتيان ما وعد به النبي صلى الله عليه وسلم من النصر وأوعد به أعداءه من عذابه إياهم في الدنيا كما قال في الذين ظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله ﴿ فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا ﴾ ( الحشر ٢ ) الآية، وقيل إتيان أمره بالعذاب أو الجزاء مطلقا. فههنا مقدر دل عليه قوله في سورة النحل التي تشابه هذه السورة في أكثر مسائلها ﴿ هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك ؟ كذلك فعل الذين من قلبهم وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ﴾ ( النحل ٣٣ ) وقيل بل المراد إتيانه سبحانه وتعالى بذاته في الآخرة بغير كيف ولا شبه ولا نظير، وتعرفه إلى عباده ومعرفة أهل الإيمان الصحيح إياه. وروي عن ابن مسعود " هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة " قال عند الموت " أو يأتي ربك " قال يوم القيامة. وعن قتادة مثله، وعن مقاتل في قوله " أو يأتي ربك " قال يوم القيامة في ظلل من الغمام.
وقد بينا هذا الوجه في تفسير قوله تعالى :﴿ هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة ﴾ ( البقرة ٢٠٩ ) ونقلنا فيه عن الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى قولا نفيسا فليراجع ( ج ٢ تفسير ) ولكن يضعف هذا الوجه هنا ذكره ثانيا، ولو كان هو المراد لجعل الأخير لأنه آخر ما ينتظر أو الأول لعظم شأنه.
وجوز بعض المفسرين أن يكون هذا الانتظار بحسب ما في أذهانهم لا بحسب الواقع فإنهم اقترحوا إنزال الملائكة عليهم ورؤية ربهم. وعلى هذا يكون إتيان بعض آيات الرب ما اقترحوه غير هذين، كنزول كتاب من السماء يقرؤونه وكتفجير ينبوع من الأرض بمكة، ويكون الاستفهام للتهكم لأن اقتراحهم كان للتعجيز. وأما على القول الذي جرينا عليه تبعا للجمهور من أن هذه الثلاث هي ما ينتظرونه كغيرهم في نفس الأمر فلا يصح أن يراد بهذا البعض شيء مما اقترحوه لأن إيتاء الآيات المقترحة على الرسل يقتضي في سنة الله هلاك الأمة بعذاب الاستئصال إذا لم تؤمن به كما قال تعالى :﴿ فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده ﴾ ( غافر ٨٥ ) والله لا يهلك أمة نبي الرحمة. بل يصدق هذا بكل آية تدل على صدق الرسول أو بما يحصل لرائيها اليأس من الحياة أو الإيمان القهري الذي لا كسب له فيه ولا اختيار. ولذلك قال في بيان ذلك البعض بما يترتب عليه :
﴿ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا ﴾ أي يوم يأتي بعض آيات ربك الموجبة للإيمان الاضطراري لا ينفع نفسا لم تكن آمنت من قبل إتيانها إيمانها بعده في ذلك اليوم، ولا نفسا لم تكن كسبت في إيمانها خيرا وعملا صالحا ما عساها من خير فيه، لبطلان التكليف الذي يترتب عليه ثواب الإيمان والعمل الصالح، فإنه أي التكليف مبني على ما وهب الله المكلف من الإرادة والاختيار بالتمكن من الإيمان والكفر وعمل الخير والشر وإنما الثواب والعقاب مبني على هذا التكليف. والبعض من هذه الآيات قد يطلع عليه الأفراد عند الغرغرة قبيل خروج الروح وهي القيامة الصغرى، ولا تراها الأمم كلها إلا قبيل قيام القيامة الكبرى، فإن لها آيات كآيات الموت بعضها ظني وبعضها قطعي، يترتب عليه حصول الإيمان القهري وفي الآية من الإيجاز البليغ ما ترى، فإن الفصل بين كلمة " نفسا " الدالة على الشمول لكونها نكرة في سياق النفي وبين صفتها التي هي جملة " لم تكن آمنت " إلخ بالفاعل وهو " إيمانها " وعطف جملة " أو كسبت في إيمانها خيرا " عليها قد أغنى عن التصريح بما بسطنا به المعنى آنفا.
وقد روي في أحاديث منها الصحيح السند والضعيف الذي لا يحتج به وحده بأن هذه الآية التي أبهمت وأضيفت إلى الرب تعالى لتعظيم شأنها وتهويله هي طلوع الشمس من مغربها قبيل تلك القارعة الصاخبة التي ترج الأرض رجا، وتبث الجبال بثا، فتكون هباء منبثا، إذا الشمس كورت، وإذا الكواكب انتثرت وبطل هذا النظام الشمسي. وقد كان طلوع الشمس من مغربها بعيدا عن المألوف المعقول ولا سيما معقول من كانوا يقولون بما تقول فلاسفة اليونان في الأفلاك والعقول، وأما علماء الهيئة الفلكية في هذا العصر فلا يتعذر على عقولهم أن تتصور حادثا تتحول فيه حركة الأرض اليومية فيكون الشرق غربا والغرب شرقا، ولا ندري أيستلزم ذلك تغييرا آخر في النظام الشمسي أم لا. وقد ورد في المأثور ما يؤيد هذا التوجيه فقد أخرج البخاري في تاريخه وأبو الشيخ في العظمة وابن عساكر عن كعب قال : إذا أراد الله أن تطلع الشمس من مغربها أدارها بالقطب ( أي المحور ) فجعل مشرقها مغربها ومغربها مشرقها اه وهذا من أحسن العلم المعقول الذي روي عن كعب والله على كل شيء قدير.
وأقوى الأحاديث الواردة في طلوع الشمس من مغربها ما رواه البخاري في كتاب الرقاق " عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون فذلك حين ﴿ لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا ﴾١ اه ومثله في التفسير وغيره من صحيحه في كتاب الفتن مطولا فيه ذكر آيات أخرى لقيام الساعة، وأخرجه أيضا أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه وغيرهم.
وأخرج أحمد والترمذي وغيرهما عن أبي هريرة أيضا رفعه " ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسا إيمانها إن لم تكن آمنت من قبل : طلوع الشمس من مغربها والدجال ودابة الأرض٢ وهو مشكل مخالف للأحاديث الأخرى الواردة في نزول المسيح بعد الدجال وإيمان الناس به، والمشكلات في الأحاديث الواردة في أشراط الساعة كثيرة أهم أسبابها فيما صحت أسانيده واضطربت المتون وتعارضت أو أشكلت من وجوه أخرى : أن هذه الأحاديث رويت بالمعنى ولم يكن كل الرواة يفهم المراد منها لأنها في أمور غيبية، فاختلف التعبير باختلاف الأفهام، على أنهم اختلفوا في ترتيب هذه الآيات. ومما استشكلوه أن علة عدم قبول الإيمان بعد طلوع الشمس من مغربها لا تنطبق إلا على من رآها أو رويت له بالتواتر وقد روي أن الشمس والقمر يكسيان النور بعد كسوف وظلمة ويعودان إلى الطلوع من المشرق. وقد روى عبد بن حميد عن ابن عمر مرفوعا وموقوفا " يبقى الناس بعد طلوع الشمس من مغربها عشرين ومائة سنة " ولكن رفعه لا يصح ويعارضه من حديثه ما رواه مرفوعا " الآيات خرزات منظومات في سلك إذا انقطع السلك تبع بعضها بعضا " قاله الحافظ ابن حجر وهو المعتمد، وروى الطبراني والحاكم عن عبد الله بن عمر حديثا ذكر فيه طلوع الشمس من مغربها وقال " فمن يومئذ إلى يوم القيامة لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل هذه الآية ".
هذا وإن أبا هريرة رضي الله عنه لم يصرح في هذه الأحاديث بالسماع من النبي صلى الله عليه وسلم فيخشى أن يكون قد روى بعضها عن كعب الأحبار وأمثاله فتكون مرسلة. ولكن مجموع الروايات عنه وعن غيره تثبت هذه الآية بالجملة فنؤمن بها ونحمل التعارض بين الروايات وما في بعضها من مخالفة الأدلة القطعية على ما أشرنا إليه من الأسباب كالرواية عن مثل كعب الأحبار من رواة الإسرائيليات٣ والله أعلم.
وللأشعرية والمعتزلة وأمثالهما من أهل الكلام جدال في هذه الآية : يستدل المعتزلة بها على أن الإيمان لا ينفع بدون عمل الخير ويمنع ذلك الآخرون. ولا مجال في الآية للجدل عند مستقلي الفكر الذين يجعلون القرآن فوق المذاهب، فإن معناها لا يعدو ما تقدم بيانه، وهو أن مشاهدة بعض آيات الرب قبل قيام الساعة هي بالنسبة إلى جميع البشر كمشهادة الآخرة قبيل خروج الروح بالنسبة إلى الأفراد منهم : لا ينفع الكافر حينئذ الرجوع عن الكفر إلى الإيمان. ولا ينفع العاصي التوبة من المعصية والرجوع إلى الطاعة. والتحقيق في مسألة اشتراط العمل بالشرع في صحة الإيمان أن الإيمان الصحيح بما جاء به الرسول وهو إيمان الإذعان والقبول يستلزم العمل بما جاء به في الجملة دون التفصيل الشمولي، فيجوز عقلا أن يترك المؤمن بعض الواجبات أو يرتكب بعض المحرمات لأسباب تعرض له، ولكنه يؤاخذ نفسه على ذلك ويتوب كما قال تعالى :﴿ ثم يتوبون من قريب ﴾ ( النساء ١٨ ) وكما قال :﴿ ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون ﴾ ( آل عمران ١٣٥ ) وقد يؤمن ويموت قبل أن يتمكن من العمل، وما أظن أنه يوجد عاقل يختلف في نجاة مثل هذا بمجرد الإيمان ولكن لا يجوز عقلا ولا شرعا أن لا يبالي المؤمن المذعن بالأمر والنهي بحيث يترك الفرائض ويرتكب الكبائر بغير جهالة عارضة بلا خوف ولا حياء من الله ولا اهتمام بالثواب والعقاب، ويصر على ذلك وهو يعلم حكم الله فيه. وليس لاستحلال ما ذكر معنى غير هذا، والمستحل لمثل هذا كافر عند أهل السنة كالمعتزلة.
قال تعالى لرسوله عليه الصلاة والسلام :﴿ قُلِ انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ ﴾ أي انتظروا أيها الكفار المعاندون ما تتوقعون إتيانه ووقوعه بنا واكتفاء أمر الإسلام به إنا منتظرون وعد ربنا لنا ووعده لكم، كقوله تعالى :﴿ فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم قل فانتظروا إني معكم من المنتظرين ﴾ ( يونس ١٠٢ ) أو انتظروا ما ليس أمامكم سواه في الواقع ونفس الأمر، وإن كنتم تجهلونه ولا تفكرون فيه وهو هذه الأمور الثلاثة إنا منتظروها على علم وإيمان، وهي مجيء الملائكة لقبض أرواح الأفراد أو إتيان الرب تعالى أي أمره بما وعدنا من النصر. وأوعدكم من الخزي والخسر. أو إتيانه تعالى لحساب الخلق، أو إتيان بعض آياته الدالة على تصديق رسوله قبيل قيام الساعة…وهذا الأمر يتضمن التهديد كقوله
١ أخرجه البخاري في الرقاق باب ٤٠ وتفسير سورة ٦ باب ٩ والفتن باب ٢٥ ومسلم في التوبة حديث ٣١ والإيمان حديث ٢٤٨ والفتن حديث ١٢٨- ١٢٩ وأبو داود في الملاحم باب ١٢ والترمذي في الفتن باب ٢١ وتفسير سورة ٦ باب ٨ وابن ماجه في الفتن باب ٢٥ وأحمد في المسند ١/ ١٩٢- ٢/ ٢٣١- ٢٧٥..
٢ أخرجه م سلم في الإيمان حديث ٢٤٩ والفتن حديث ٣٩- ٤٠ وأبو داود في الملاحم باب ١١ وأحمد في المسند ٢/ ١٦٤- ٢٠١- ٢٩٥- ٣٢٤- ٣٣٧..
٣ من رواة هذه الأحبار وهب بن منبه وقد جرحه بعضهم وأخوه همام وقد وثقه الجمهور وهما من رواة الإسرائيليات ككعب الأحبار وحديث أبي هريرة الذي هو أ قواها رواه البخاري في التفسير عن إسحاق غير منسوب عن عبد الرزاق عن معمر همام بن منبه. وعبد الرزاق على إمامته في هذه الصناعة قد جرحه عض أئمتها حتى بالكذب. رواه مسلم من طريق العلاء بن عبد الرحمن المدني مولى الحرقة عن أبيه عن أبي هريرة والعلاء ممن جرحوه من رجال مسلم ضعفه يحيى بن معين. وقال ابن عدي ليس بالقوي وقال أوب حاتم الرازي هو صالح الحديث أنكر من حديثه أشياء.
ومن هذه الأحاديث في الباب حديث أبي ذر جندب بن جنادة الذي يعد متنه من أعظم المتون إشكالا فهو يقول إن النبي صلى الله عليه وسلم سأله أتدري أ ين تذهب إذا غربت؟ قال قلت لا أدري قال "غنها تنتهي دون العرش فتخر ساجدة ثم تقوم حتى يقال لها ارجعي فيوشك يا أبا ذر أن يقال ارجعي من حيث دخ لت وذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قلب" وهذا الحديث رواه الشيخان من طرق عن إبراهيم بن يزيد بن شريك التيمي عن أبي ه عن أبي ذر وهو على توثيق الجماعة له مدلس قال الإمام احمد لم يلق أبا ذر كما قال الدارقطني لم يسمع من حفصة ولا من عائشة ولا أدرك زمنها وكما قال ابن المديني لم يسمع من علي ولا ابن عباس. ذكر ذلك في تهذيب التهذيب وقد روي عير هذا عن هؤلاء بالعنعنة فيحتمل أن يكون من حديثه عنهم غر ثقة فإذا كان في بعض روايات الصحيحين والسنن مثل هذه العلل وراء احتمال دخول الإسرائيليات وخطا النقل بالمعنى فما القول فيما تركه الشيخان وما تركه أصحاب السنن أيضا كحديث وهب بن منبه عن ان عباس مرفوعا في تفسير ابن مردويه وما فيه من الغرائب ككون الشمس والقمر يطلعان يومئذ مقرونين وإذا نصفا السماء رجعا ثم عاد إلى ما كان عليه قال الحافظ ابن كثير وهو حديث غريب جدا بل منكر بل موضوع إن ادعى انه مرفوع فأما وقفه على ابن عباس أو وهب بن منبه وهو الأشبه فهو غير موضوع اهـ ا وأقول إن الأشبه أيضا أن وهبا نقله عن بعض اليهود الذين كانوا يلقون إلى بعض الرواة م ثل هذا فيما يرون أن له منفذا عندهم يمكن دخوله منه (المؤلف)..

﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ ﴾ قد كانت خاتمة ما وصى الله تعالى به هذه الأمة على لسان خاتم رسله آنفا الأمر باتباع صراطه المستقيم والنهي عن اتباع غيره من السبل وقد ذكر بعد تلك الوصايا شريعة التوراة المشابهة لشريعة القرآن، ووصاياه بما علم به أن هذه أكمل لأن الأشياء إنما تكمل بخواتيمها، وقفى على ذلك بالمقارنة بين أهل الكتاب والعرب أئمة أهل القرآن مذكرا إياهم باعتقادهم أنهم أقوى من أهل الكتاب استعدادا للهداية، محتجا عليهم بذلك عسى أن يثوب المستعدون للإيمان إلى رشادهم ويفكر المعاندون في عاقبة عنادهم، وتلا ذلك تذكيره لهم ولسائر المخاطبين بالقرآن بما ينتظر في آخر الزمان لكل من الأمم والأفراد ولما تمت بذلك الحجة ووضحت المحجة. ذكر تعالى جده وجل ثناؤه هذه الأمة بما هي عرضة له بحسب سنن الاجتماع من إضاعة الدين بعد الاهتداء به بمثل ما أضاعه به من قبلهم وهو الاختلاف والتفرق فيه بالمذاهب والآراء والبدع التي تجعلهم أحزابا وشيعا تتعصب كل منها لمذهب من المذاهب أو إمام فيضيع العلم وتنفصم عروة الوحدة وتصير الأمة الواحدة بعد أخوة الإيمان أمما متعادية ليس لها مرجع متفق عليه يجمع كلمتها فيحل بها ما حل بالأمم التي تفرقت قبلها، فقال عز وجل :
﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ﴾ قرأ الجمهور فرقوا دينهم من التفريق وهو الفصل بين أجزاء الشيء الواحد وجعله فرقا وأبعاضا. وقرأ حمزة والكسائي ( فارقوا ) من المفارقة للشيء وهي تركه والانفصال منه، وهذه القراءة رويت عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما وهي تفيد أن تفريق الدين قد يستلزم مفارقته لأنه واحد لا يتجزأ. فمن التفريق الإيمان ببعض الكتاب دون بعض ولو بالتأويل وترك العمل والكفر بالبعض كالكفر بالجميع مفارقة للدين الذي لا يتجزأ ﴿ أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض ﴾ ( البقرة ٨٥ ) الآية. ومثله الإيمان ببعض الرسل دون بعض، على أن المفارقة قد تكون للجماعة التي تقيم الدين لا لأصل الدين بجحوده والكفر به أو تأويله وترك هدايته. وسيأتي تفصيل القول في ذلك.
ذهب بعض مفسري السلف إلى أن الآية نزلت في أهل الكتاب إذ فرقوا دين إبراهيم وموسى وعيسى فجعلوه أديانا مختلفة وكل منها مذاهب تتعصب لها شيع مختلفة يتعادون ويتقاتلون فيه. وذهب آخرون إلى أنها في أهل البدع والفرق الإسلامية التي مزقت وحدة الإسلام ما استحدثت من النحل والمذاهب. وكل من القولين حق. والصواب هو الجمع بينهما فإن الله تعالى بعد أن أقام حجج الإسلام في هذه السورة وأبطل شبهات الشرك ذكر أهل الكتاب وشرعهم. وأمر المستجيبين لدعوة الإسلام بالوحدة وعدم التفرق كما تفرق من قبلهم. وقد فصل هذا بقوله بعد الأمر بالاعتصام والنهي عن التفرق من سورة آل عمران :﴿ ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم ﴾ ( آل عمران ١٠٥ ) ثم بين أن رسوله بريء من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كما فعل أهل الكتاب فهو يحذر ما صنعوا فمن اتبع سننهم في هذا التفريق فهو أحق ببراءة الرسول صلى الله عليه وسلم منه بعد هذا البيان والتحذير.
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : اختلفت اليهود والنصارى قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم فلما بعث محمد أنزل الله عليه ﴿ إن الذين فرقوا دينهم ﴾ الآية. وأخرج أكثر رواة التفسير المأثور عن أبي هريرة في قوله تعالى :﴿ إن الذين فرقوا دينهم ﴾ قال هم في هذه الأمة. بل أخرج الحكيم الترمذي وابن جرير والطبراني وغيرهم عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم " هم أهل البدع والأهواء من هذه الأمة ". وأخرج الحكيم الترمذي وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والطبراني والبيهقي في شعب الإيمان وغيرهم عن عمر بن الخطاب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة :" يا عائشة إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا هم أصحاب البدع وأصحاب الأهواء وأصحاب الضلالة من هذه الأمة ليست لهم توبة، يا عائشة إن لكل صاحب ذنب توبة إلا أصحاب البدع وأصحاب الأهواء ليس لهم توبة، أنا منهم بريء وهم مني برءاء " وليس المعنى أنهم إذا عرفوا بدعتهم وظهر لهم خطأهم فرجعوا وتابوا إلى ربهم لا يقبل توبتهم بل معناه أنهم لا يتوبون لأنهم يزعمون أنهم مصيبون ا ه ملخصا من الدر المنثور.
وثم آثار رويت عن بعض السلف بأنهم الحرورية أو الخوارج مطلقا، ومراد قائليها أنهم منهم لا أن الآية فيهم وحدهم. وجاء في الكلام على الآية من كتاب الاعتصام للإمام أبي إسحاق إبراهيم الشاطبي ما نصه :
قال ابن عطية : هذه الآية تعم أهل الأهواء والبدع والشذوذ في الفروع وغير ذلك من أهل التعمق في الجدال والخوض في الكلام، هذه كلها عرضة للزلل ومظنة لسوء المعتقد. ( قال الشاطبي ) يريد والله أعلم بأهل التعمق في الفروع ما ذكره أبو عمر بن عبد البر في فصل ذم الرأي من كتاب العلم له وسيأتي ذكره بحول الله.
وحكى ابن بطال في شرح البخاري عن أبي حنيفة أنه قال لقيت عطاء بن أبي رباح بمكة فسألته عن شيء فقال من أين أنت ؟ قلت من أهل الكوفة. قال أنت من أهل القرية الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا ؟ قلت نعم. قال من أي الأصناف أنت ؟ قلت ممن لا يسب السلف ويؤمن بالقدر، ولا يكفر أحدا بذنب. فقال عطاء : عرفت فالزم.
وعن الحسن قال خرج علينا عثمان بن عفان رضي الله عنه يوما يخطبنا فقطعوا عليه كلامه فتراموا بالبطحاء، حتى جعلت ما أبصر أديم السماء، قال وسمعنا صوتا من إحدى حجر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فقيل هذا صوت أم المؤمنين. قال فسمعتها وهي تقول : ألا إن نبيكم قد برئ ممن فرق دينه واحتزب، وتلت ﴿ إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء ﴾ قال القاضي إسماعيل : أحسبه يعني بقوله أم المؤمنين أم سلمة وأن ذلك قد ذكر في بعض الحديث وقد كانت عائشة في ذاك الوقت حاجة. وعن أبي هريرة أنها نزلت في هذه الأمة. وعن أبي أمامة هم الخوارج. قال القاضي ظاهر القرآن يدل على أن كل من ابتدع في الدين بدعة من الخوارج وغيرهم فهو داخل في الآية لأنهم إذا ابتدعوا تجادلوا وتخاصموا وتفرقوا وكانوا شيعا ا ه ما أورده الشاطبي في ذم البدع بالأدلة النقلية من الباب الثاني ( ج ١ )، وأعاد الكلام عليها في بحث تفرق الأمة من الباب السادس ( ج ٣ ) فقال إن لفظ الدين فيها يشمل العقائد وغيرها.
وأقول : ما نقله عن القاضي من عموم الآية صحيح وهي أعم مما قال فمجموع الأخبار والآثار الواردة في تفسيرها تدل على شمولها للتفرق في أصول الدين وفروعه وحكومته وتولي أهله بعضهم بعضا، فعصبية المذاهب الكلامية والفقهية كلها داخلة في ذلك كعصبية الخلافة والملك والعصبية الجنسية التي تفرق بين العربي والتركي والفارسي والهندي والملاوي إلخ، بحيث يعادي المسلمون بعضهم بعضا ويقاتل بعضهم بعضا كما قالت أم المؤمنين في الثورة على عثمان وقد خرج بعضهم أن ذلك كان يوم مقتله كما رواه عبد بن حميد في تفسيره عن الحسن قال : رأيت يوم قتل عثمان ذراع امرأة من أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخرجت من بين الحائط والستر وهي تنادي : ألا إن الله ورسوله بريئان من الذين فارقوا دينهم فكانوا شيعا. والظاهر أن الرواية واحدة.
هذا وإن قراءة فر قوا وحدها لا تدل أن كل تفرق في الدين مفارقة له وردة عنه كما تدل على ذلك قراءة فارقوا فالظاهر أن بين التفريق والمفارقة عموما وخصوصا من وجه ولكن الله تعالى يقول في سورة الروم :﴿ ولا تكونوا من المشركين : من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون ﴾ ( الروم ٣١- ٣٢ ) وفيها القراءتان أيضا وقد قال المفسرون إن قوله تعالى " من الذين فرقوا دينهم " بدل من قوله " من المشركين ".
وجملة القول في تفسير الجملة إن المراد بالذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا أهل الكتاب والمراد بجعل الرسول صلى الله عليه وسلم بريئا منهم تحذير أمته من مثل فعلهم ليعلم أن من فعل فعلهم من هذه الأمة فالرسول صلى الله عليه وسلم بريء منهم بالأولى لا كما يزعم بعض الجاهلين المضلين من أن ما ورد في الكتاب والسنة من صفات الكفار وأفعالهم خاص بهم فإذا تلبس به المسلمون لا يكون حكمهم فيه كحكم من قبلهم كأن الله تبارك وتعالى أباح للمسلمين الشرك والكفر والنفاق والبدع والضلالات، وضمن لهم جنته ورضوانه بمجرد انتسابهم إلى الإسلام أو إلى مذهب زيد أو عمرو من علماء الكلام، وهذا هدم لكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وسيرة المهتدين بهما من خير القرون.
ثم بين تعالى عاقبة هؤلاء المفرقين لدينهم بقوله.
﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ ﴾ أي أنه عز وجل هو الذي يتولى وحده أمر جزائهم على مفارقة دينهم والتفريق له في الدنيا بما مضت به سنته في الاجتماع البشري من ضعف المتفرقين، وفشل المتنازعين، وتسلط الأقوياء عليهم ولبسهم شيعا يذيق بعضهم بأس بعض، بما تثيره عداوة التفرق بينهم من التقاتل والحروب كما بينه تعالى في آيات أخرى كقوله تعالى :﴿ ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا ﴾ ( البقرة ٢٥٣ ) إلخ وقوله :﴿ فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون ﴾ ( المائدة ١٥ ) وقوله :﴿ قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم ﴾ ( الأنعام ٣٥ ) إلخ وبعد تعذيبهم بأيديهم وأيدي أعدائهم في الدنيا يبعثهم في الآخرة ثم ينبئهم عند الحساب بما كانوا يفعلون في الدنيا من الاختلاف والتفرق بتفريق الدين أو مفارقته اتباعا للأهواء وما يستلزم ذلك ويجازيهم عليه في النار.
تطبيق أو طباق في أسباب افتراق المسلمين وما آل إليه
لافتراق هذه الأمة في دينها وما تبعه من ضعفها في دنياها أربعة أسباب كلية ١- السياسة والتنازع على الملك ٢- عصبية الجنس والنسب ٣- عصبية المذاهب في الأصول والفروع ٤- القول في دين الله بالرأي، وهناك سبب خامس قد دخل في كل منها وهو دسائس أعداء هذا الدين وكيدهم له، فالقول في الدين بالرأي أصل لما ذكر قبله وليس له حد يقف عنده، وآراء الناس تختلف باختلاف الزمان والمكان، و شؤون المعيشة وأحوال الاجتماع. والدين في عقائده وعباداته وفضائله وحلاله وحرامه وضع إلهي موحى من الله تعالى، ومن فوائده المدنية جمع قلوب الأفراد والشعوب الكثيرة بأقوى الروابط وأوثق العرى الثابتة والرأي يفرقها إذ قلما يتفق شخصان مستقلان فيه، فأنى تتفق الألوف الكثيرة من الشعوب الكثيرة في الأزمنة المختلفة ؟ واجتماع الكثيرين بالتقليد يستلزم تفرقا شرا من التفرق في الرأي عن دليل، لأنه تفرق جهل لا مطمع في تلافي ضرره إلا بزواله.
تكلم علماء الكلام في تفرق المذاهب وخصوه بالتفرق في الأصول دون الفروع وعللوه بأن هؤلاء قد كفر بعضهم بعضا دون المختلفين في الفروع، وفيه نظر والتحقيق العموم كما تقدم فإن هؤلاء يصدق عليهم أيضا أنهم فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب ما لديهم فرحون، وأنهم تعادوا في الدين تعاديا كان من أسباب ضعفه وضعف أهله وقوة أ
﴿ مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ﴾ هذه الآية استئناف لبيان الجزاء العام في الآخرة على الحسنات وهي الإيمان والأعمال الصالحة، وعلى السيئات وهي الكفر والأعمال الفاسدة. جاءت في خاتمة السورة التي بينت قواعد العقائد وأصول الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وأقامت عليها البراهين و فندت ما يورده الكفار عليها من الشبهات كما بينت بالبراهين فساد ما يقابلها من قواعد الشرك وأصول الكفر وأبطلت شبهات أهله، ثم بينت في الوصايا العشر أصول الآداب والفضائل التي يأمر بها الإسلام وما يقابلها من أصول الرذائل والفواحش التي ينهى عنها، فناسب بعد ذلك كله أن يبين الجزاء على كل منهما في الآخرة بعد الإشارة إلى فوائد الأمر والنهي وما فيهما من المصالح الدنيوية بما ذيلت به آيات الوصايا، وما سبق من ذكر الجزاء في أثناء السورة غير مغن عن هذه الآية لأنه ليس عاما كعمومها ولا مبينا للفرق بين الحسنات والسيئات كبيانها.
فقوله تعالى :﴿ مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ﴾ معناه أن كل من جاء ربه يوم القيامة متلبسا بالصفة الحسنة التي يطبعها في نفسه طابع الإيمان والعمل الصالح فله عنده من الجزاء عشر حسنات أمثالها من العطايا، فإذا كان تأثير الحسنة في نفسه أن تكون حاله حسنة بقدر معين بحسب سننه تعالى في ترتيب الجزاء على آثار الأعمال الحسنة في تزكية الأنفس، فهو يعطيه ذلك مضاعفا عشرة أضعاف تغليبا لجانب الحق والخير على جانب الباطل والشر رحمة منه جل ثناؤه بعبيده المكلفين. ( وقد قرأ يعقوب " عشر " بالتنوين و " أمثالها " بالرفع على الوصف ) والظاهر أن هذه العشر لا تدخل فيما وعد الله تعالى به من المضاعفة لمن يشاء على بعض الأعمال كالنفقة في سبيله فقد وعد بالمضاعفة عليها بإطلاق في قوله من سورة التغابن :﴿ إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم ويغفر لكم الله والله شكور حليم ﴾ ( التغابن ٢٧ )، وبالمضاعفة الموصوفة بالكثرة في قوله من سورة البقرة ﴿ من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة ﴾ ( البقرة ٢٤٥ ) الآية، ثم بالمضاعفة سبعمائة ضعف في قوله منها أيضا ﴿ مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة. والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم ﴾ ( البقرة ٢٦١ ).
قيل إن المراد بالمضاعفة لمن يشاء هذه المضاعفة نفسها وقيل بل المراد به غيرها أو ما يزيد عليها، وقيل أيضا عن المضاعفة كلها خاصة بالإنفاق. والأرجح أن المضاعفة عامة وأن الجملة على إطلاقها فتتناول ما زاد على سبعمائة ضعف وما نقص عنه، وهي تشير إلى تفاوت المنفقين وغيرهم من المحسنين في الصفات النفسية كالإخلاص في النية، والاحتساب والأريحية وفيما يتبعها من العمل كالإخفاء سترا على المعطى وتباعدا من الشهرة، والإبداء لأجل حسن القدوة، وتحري المنافع والمصالح، وفي الأحوال المالية الاجتماعية كالغنى والفقر والصحة والمرض، وفيما يقابل ذلك من الصفات والأعمال كالرياء وحب الشهرة الباطلة والمن والأذى.
فالعشرة مبذولة لكل من أتى بالحسنة والمضاعفة فوقها تختلف بمشيئته تعالى بحسب ما يعلم من اختلاف أحوال المحسنين، فقد بذل أبو بكر ( رض ) ما يملك في سبيل الله عند الحاجة إليه وبذل عمر ( رض ) نصف ما يملك، رواه أبو داود والترمذي وغيرهما وزاد بعضهم أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل النسبة بينهما كالنسبة بين عطاءهما، والدرهم من المسكين والفقير أعظم من دينار الغني ذي المال الكثير، ومن يبذل الدرهم متعلقة به نفسه حزينة على فقده. ليس كمن يبذله طيبة به نفسه مسرورة بالتوفيق لإيثار ثواب الآخرة به على متاع الدنيا ﴿ لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل، أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى ﴾ ( الحديد ١٠ )، وتفصيل التفاوت فيما ذكرنا يطول وفيما أوردناه ما يرشد إلى غيره لمن تكفر وتدبر، وقد غفل عن هذا من قال من المفسرين إن ذكر العشرة مثال يراد به الكثرة لا التحديد ليتفق مع المضاعفة المعينة في سورة البقرة، وقد ورد في الأحاديث النبوية ما يؤيد ما اخترناه وسنذكر بعضها.
﴿ وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا ﴾ أي ومن جاء ربه يوم القيامة بالصفة السيئة التي يطبعها في نفسه الكفر وارتكاب الفواحش والمنكرات فلا يجزي إلا عقوبة سيئة مثلها بحسب سنته تعالى في تأثير الأعمال السيئة في تدسية النفس وإفسادها وتقديره الجزاء عليها بالعدل. وإنما قلنا الصفة الحسنة والسيئة ولم نقل الفعلة لأن الأفعال أعراض تزول وتبقى آثارها في النفس فالجزاء عليها يكون بحب تأثيرها في النفس وهو الذي يكون وصفا لها لا يفارقها بالموت كما صرح به في قوله تعالى من هذه السورة :﴿ سيجزيهم وصفهم ﴾ ( الآية ١٣٠ ). فيراجع تفسيره السابق في هذا الجزء.
وأما قوله تعالى :﴿ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ﴾ فيحتمل أنه في أهل السيئات لأنهم هم الذين يحتاج إلى نفي وقوع الظلم عليهم ولا سيما أهل الشرك والكفر منهم، مع ما ورد من الشدة في وصف عذابهم، والمعنى أن الله تعالى لا يظلمهم بالجزاء فإنه منزه عن الظلم عقلا ونقلا، والآيات فيه كثيرة، وروى مسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال :" يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا " ١إلخ والذي صرحوا به أنها في الفريقين فإن معنى الظلم في أصل اللغة النقص من الشيء كما قال تعالى :﴿ كلتا الجنتين آتت أكلها ولم –تظلم منه شيئا ﴾ ( الكهف ٣١ ) ثم توسع فيه فأطلق على كل تعد وإيذاء بغير حق.
والمعنى إنهم لا يظلمون في يوم الجزاء لا من الله عز وجل لما ذكر ولا من غيره إذ لا سلطان لأحد من خلقه ولا كسب في ذلك اليوم يمكنه من الظلم كما يفعل الأقوياء الأشرار في الدنيا بالضعفاء. وفي جواز تعلق القدرة الإلهية بالظلم وعدمه جدال بين الأشعرية والمعتزلة يتأول كل منهما الآيات لتصحيح مذهبه فيه وقد سبق بيان الحق فيه غير مرة ويراجع فيه وفي معنى مضاعفة الأعمال الحسنة تفسير قوله تعالى :﴿ إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما ﴾ ( النساء ٣٩ ) فإنه يجلي معنى هذه الآية بما يعلم منه ما في خلاف الأشعرية مع المعتزلة من الضعف في مسألة جواز الظلم على الباري تعالى عقلا واستحالته بحيث لا يقال إن الباري سبحانه قادر عليه.
روى أحمد والبخاري ومسلم من حديث ابن عابس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل قال :{ إن الله تعالى كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك بقوله فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة فإن هو هم بها فعملها كتبها الله له عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة. ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة فإن هو هم بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة " ٢ هذا لفظ البخاري وقالوا إن معنى كتبها الله له أمر الملائكة بذلك وأخذوا هذا من حديث أبي هريرة في كتاب التوحيد من البخاري مرفوعا قال :" يقول الله إذا أراد عبدي أن يعمل سيئة فلا تكتبوها عليه حتى يعملها فإن عملها فاكتبوها عليه بمثلها وإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة، وإن أراد أن يعمل حسنة فلم يعملها فا كتبوها له حسنة فإن عملها فاكتبوها له بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف " ٣ وهذا يفسر كتابة ترك عمل السيئة حسنة بأن الكتابة ليست لأمر سلبي محض بل لعمل نفسي وهو مخالفة النفس بكفها عن عمل السيئة من أجل ابتغاء رضوان الله واتقاء سخطه وعذابه.
وروى أحمد والبخاري ومسلم والنسائي وابن حبان عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أقول : والله لأصومن النهار ولأقومن الليل ما عشت، فقلت قد قلته يا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" فإنك لا تستطيع ذلك صم وافطر ونم وقم وصم من الشهر ثلاثة أيام فإن الحسنة بعشر أمثالها وذلك كصيام الدهر " ٤ وروى مسلم وأصحاب السنن الأربعة من حديث أبي أيوب الأنصاري سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال كان كصيام الدهر " ٥ هذا لفظ مسلم والمعنى أن رمضان بعشرة أشهر والستة الأيام بستين يوما.
ومن المباحث الكلامية في الآية قول الأشعرية إن الثواب كله بفضل الله تعالى ولا يستحق أحد من المحسنين منه شيئا، وقول المعتزلة إن الثواب هو المنفعة المستحقة على العمل والتفضل المنفعة غير المستحقة وأن الثواب يجب أن يكون أعظم من التفضل في الكثرة والشرف إذ لو جاز العكس أو المساواة لم يبق في التكليف فائدة فيكون عبثا وقبيحا، ومن ثم قال الجبائي وغيره يجب أن تكون العشرة الأمثال في جزاء الحسنة تفضل والثواب غيرها وهو أعظم منها، وقال آخرون يجوز أن يكون أحد العشرة هو الثواب والتسعة تفضل بشرط أن يكون الواحد أعظم وأعلى شأنا من التسعة. ونقول إن هذه النظريات كلها ضعيفة ولا فائدة فيها وإذا كان التفضل ما زاد وفضل على أصل الثواب المستحق بوعد الله تعالى وحكمته وعدله فأي مانع أن يزيد الفرع على الأصل وهو تابع له ومتوقف عليه وإنما كان يكون الثواب حينئذ عبثا على تقدير التسليم لو كان التفضل يحصل دونه فيستغنى به عنه كما هو واضح.
وقد أورد الرازي في تفسير الآية إشكالات شرعية وأجاب عنها أجوبة ضعيفة قال : الأول : كفر ساعة كيف يوجب عقاب الأبد على نهاية التغليظ ( جوابه ) إنه كان الكافر على عزم أنه لو عاش أبدا لبقي على ذلك الاعتقاد أبدا، فلما كان ذلك العزم مؤبدا عوقب عقاب الأبد خلاف المسلم المذنب فإنه يكون على عزم الإقلاع عن ذلك الذنب فلا جرم كانت عقوبته منقطعة ا ه بنصه.
ونقول في الرد عليه أولا : إننا لا نسلم أن كل كافر يعزم أو يخطر بباله العزم المذكور ولا سيما من عرضت له عقيدة أو فعلة مما عدوه كفرا ساعة من الزمان ومات عليها والكفر عند المتكلمين والفقهاء لا ينحصر في جحود العناد وربما كان أكثر الكفار يعتقدون أنهم مؤمنون ناجون عند الله تعالى.. ثانيا : إن كون العقاب الأبدي على العزم المذكور يحتاج إلى نص والعقل لا يوجبه بل لا يوجب عند الأشعرية حكما ما من أحكام الشرع، وهذا الإشكال لا يرد على ما جرينا عليه هنا تبعا لما وضحناه مرارا من كون الجزاء على قدر تأثير الاعتقاد والعمل في النفس. ثالثا : قد تنصل بعض العلماء من هذا الإشكال بمثل ما قلناه في تفسير ﴿ خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم ﴾ ( الأنعام ١٢٨ ) وهو يرجع إلى قولين أحدهما : نفي كون العذاب أبديا لا نهاية له وثانيهما تفويض الأمر فيه إلى حكمة الله تعالى وعلمه ثم قال الثاني : إعتاق الرقبة الواحدة تارة جعل بدلا عن صيام ستين يوما في كفارة الظهار، وتارة جعل بدلا عن صيام أيام قلائل وذلك يدل على أن المساواة غير معتبرة. ( جوابه ) أن المساواة إنما يحصل بوضع الشرع وحكمه ا ه. ونقول إن جعل الشرع العتق كفارة لذنوب متفاوتة إنما هو لعنايته بتحرير الرقيق وهو لا ينافي كون كل ذنب منها له جزاء في الآخرة بقدره يشير إلى تفاوت الكف
١ أخرجه مسلم في البر حديث ٥٥ واحمد في المسند ٥/ ١٦٠..
٢ أخرجه البخاري في الرقاق باب ٣١ ومسلم في الإيمان حديث ٢٠٦- ٢٠٧ واحمد في المسند ١/ ٢٧٩- ٣١٠- ٣٦١- ٢/ ٢٣٤- ٤١١- ٣/ ١٤٩..
٣ أخرجه البخاري في التوحيد باب ٣٥..
٤ أخرجه البخاري في الصوم باب ٥٦ والأنبياء باب ٣٧ ومسلم في الصيام حديث ١٧١ والنسائي في الصيام باب ٧٦ واحمد في المسند ٢/ ١٨٨..
٥ أخرجه البخاري في الصيام حديث ٢٠٤ وأبو داود في الصوم باب ٥٨ والترمذي في الصوم باب ٥٢ والدرامي في الصوم باب ٤٤ واحمد في المسند ٣/ ٣٠٨- ٣٢٤- ٣٤٤- ٥/* ٤١٧- ٤١٩..
﴿ قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ١٦١ قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ١٦٢ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ١٦٣ قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ١٦٤ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ١٦٥ ﴾
قد ختم الله تعالى هذه السورة بهذه الآيات الكريمة الجامعة فكانت خير الخواتيم في براعة المقطع. ذلك بأننا بينا في مواضع من تفسيرها أنها أجمع السور لأصول الدين وإقامة الحجج عليها ودفع الشبه عنها، ولإبطال عقائد الشرك وتقاليده وخرافات أهله، وهذه الخاتمة مناسبة لجملة السورة في أسلوبها ومعانيها. وذلك بأنه كان مما امتازت به السورة كثرة بدء الآيات فيها بخطاب الرسول صلى الله عليه وسلم بكلمة " قل " لأنها لتبليغ الدعوة، كما كثر فيها حكاية أقوال أهل الشرك والكفر مبدوءة بكلمة ( وقالوا ) مع التعقيب عليها بكشف الشبهة وإقامة الحجة ترى بعد هذا وذاك في آخر العشر الأول وأول العشر الثاني منها فجاءت هذه الخاتمة بالأمر الأخير له صلى الله عليه وسلم بأنه يقول لهم القول الجامع لجملة ما قبله، وهو أن ما فصل في السورة هو صراط الله المستقيم ودينه القيم الذي هو ملة إبراهيم، دون ما يدعيه العرب المشركون. وأهل الكتاب المحرفون، وأنه عليه صلوات الله وسلامه إنما يدعو إليه وهو معتصم به قولا وعملا وإيمانا وتسليما على أكمل وجهه، فهو أول المسلمين، وأخلص الموحدين، وأخشع العابدين، بما جاء به من تجديد الدين وإكماله، بعد تحريفه وانحراف جميع الأمم عن صراطه وأن توحيد الألوهية الذي يخالفنا فيه المشركون مبني على توحيد الربوبية الذي هم به مؤمنون ﴿ وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ﴾ ( يوسف ١٠٦ ) وأن الجزاء عند الله على الأعمال مبني على عدم انتفاع أحد أو مؤاخذته بعمل غيره وأن المرجع إلى الله تعالى وحده، وأن له تعالى سننا في استخلاف الأمم واختبارها بالنعم والنقم وأنه هو الذي يتولى عقاب المسيئين والرحمة للمحسنين وكل ذلك مما يهدم أساس الشرك الذي هو الاتكال على الوسطاء بين الله والناس في غفران ذنوبهم وقضاء حاجهم.
﴿ قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ أي قل أيها الرسول الخاتم للنبيين لقومك وسائر أمة الدعوة وهم جميع البشر : إنني أرشدني ربي وأوصلني بما أوحاه إلي بفضله واختصاصه في هذه السورة وكذا غيرها إلى طريق مستقيم يصل سالكه إلى سعادة الدارين الدنيا والآخرة من غير عائق ولا تأخير لأنه لا عوج فيه ولا اشتباه، كما قال في آية أخرى :﴿ ويهديك صراطا مستقيما ﴾ ( الفتح ٢ ) وهو الذي أدعوكم إلى طلبه منه تعالى في مناجاتكم إياه :﴿ أهدنا الصراط المستقيم ﴾ ( الفاتحة ٦ ).
﴿ دِينًا قِيَمًا ﴾ أي أن هذا الصراط المستقيم هو الدين الذي يصلح ويقوم به أمر الناس في المعاش والمعاد فقوله :﴿ دينا ﴾ بدل من صراط مستقيم باعتبار المحل و ﴿ قيما ﴾ صفة له قرأه ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي بكسر القاف وفتح الياء على أنه مصدر نعت به للمبالغة وكان قياسه " قوما " كعوض ولكنه أعل تبعا لفعله " قام " كالقيام وأصله القوام. وتقدم في أوائل تفسير النساء وأواخر المائدة أنه ما يقوم ويثبت به الشيء، وقرأه الباقون بفتح القاف وتشديد الياء بوزن ( سيد ) وقد قالوا إنه أبلغ من المستقيم بزينته وهيئته، وهذا أبلغ بصيغته وكثرة مادته وقيل بما في الصيغة من معنى الطلب فكان المستقيم هو الذي يقتضي أن يكون الشيء قيما، أو يجعل ذلك سهلا. وتقدم في تفسير قوله تعالى :﴿ جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس ﴾ ( المائدة ٩٧ ) ما يفيد القارئ تفصيلا فيما فسرنا به الدين القيم.
﴿ مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ ﴾ أي أعني أو الزموا ملة إبراهيم حال كونه حنيفا أي مائلا عن جميع ما سواه من الشرك والباطل والعوج والضلال مستقيما عليه، ﴿ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ فإن الحنيفية تنافي الشرك ففيه تكذيب لهم في دعواهم أنهم على ملة إبراهيم وقد وصف إبراهيم بالحنيف في سورة البقرة ( ٢ : ١٣٥ ) وسورة آل عمران وسورة النحل ( ١٦ : ١٢٠، ١٢٣ ) وسورة الأنعام ( ٦ : ٨٠ ) وهذه الآية التي نفسرها وفي كل آية من هذه الآيات وصف بأنه لم يكن من المشركين وجاء في سورة النساء :﴿ ومن أحسن دينا ممن أسلم وجه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا ﴾ ( النساء ١٢٤ ) ولكن قيل إن حنيفا هنا حال ممن أسلم وجهه لله وقيل من إبراهيم.
هذا الدين دين التوحيد والاستقامة والإخلاص لله وحده في العبادة هو الدين الذي بعث الله به جميع رسله وقرره في جميع كتبه، وإنما عبر عنه بملة إبراهيم لأنه عليه الصلاة والسلام وعلى آله هو النبي المرسل الذي أجمع على الاعتراف بفضله وصحة دينه وحسن هديه العرب ومن حولهم من أهل الكتاب اليهود والنصارى وكل يدعي الاهتداء بهداه، وقد كانت قريش ومن وافقها من العرب يسمون أنفسهم الحنفاء مدعين أنهم على ملة إبراهيم ولذلك وصل وصفه بالحنيف بنفي الشرك عنه، وكذا فعل أهل الكتاب بادعاء أتباعه وأتباع موسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام وكذا يفعل أهل البدع الشركية من المنتمين إلى الإسلام، لأن الشرك والكفر يسري إلى أكثر الناس من حيث لا يشعرون أنه شرك وكفر وقد بينا هذا الاحتراس في تفسير ﴿ ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفيا مسلما وما كان من المشركين ﴾ ( آل عمران ٦٧ ).
وقد قال تعالى في إرشاد هذه الأمة :﴿ فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور حنفاء لله غير مشركين به ﴾ ( الحج ٢٨- ٢٩ ) ومثله في أواخر سورة يونس :﴿ وأن أقم وجهك للدين حنيفا ولا تكونن من المشركين ﴾ ( يونس ١٠٥ ) وفي الروم :﴿ فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون ﴾ ( الروم ٢٩- ٣١ ) فهذا بمعنى ما نحن بصدد تفسيره في جملته وسياقه كما نبهنا إليه في الكلام على التفرق في الدين وما هو ببعيد.
وأما أمره تعالى لخاتم رسله بالإخبار بأن ما هداه الله تعالى إليه من الدين القيم هو ملة إبراهيم فهو بمعنى أمره باتباع ملة إبراهيم في سورة النحل حيث قال :﴿ إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم وآتيناه في الدنيا حسنة وأنه في الآخرة من الصالحين ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين ﴾ ( النحل ١٢٠- ١٢٣ ) فحكمة كل من الأخبار والأمر استمالة العرب ثم أهل الكتاب إلى الإسلام ببيان أن أساسه وقواعد عقائده ودعائم فضائله هي ما كان عليه إبراهيم المتفق على هداه وجلالته، وكذا سائر رسل الله تعالى، وإنما تختلف الأحكام العملية من العبادات والمعاملات المدنية والسياسية كما تقدم بيانه في قوله تعالى بعد ذكر التوراة والإنجيل من سورة المائدة :﴿ وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم، فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون ﴾ ( المائدة ٥٠ ) وقد ذكرنا الآية بطولها لمناسبة آخرها لخاتمة هذه السورة التي هي أول ما نزل من السور الطول والمائدة آخر ما نزل منها. وإذ علمنا حكمة الإخبار والأمر بإتباع ملة إبراهيم فلا مجال بعد لتوهم أن إبراهيم أفضل، ولا أن ملته أكمل، إذ ليس هذا بمناف ولا بمعارض لنص آية إكمال الدين، وإتمام النعمة على العالمين، على لسان خاتم النبيين، المبعوث رحمة للخلق أجمعين.
﴿ قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ١٦١ قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ١٦٢ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ١٦٣ قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ١٦٤ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ١٦٥ ﴾
قد ختم الله تعالى هذه السورة بهذه الآيات الكريمة الجامعة فكانت خير الخواتيم في براعة المقطع. ذلك بأننا بينا في مواضع من تفسيرها أنها أجمع السور لأصول الدين وإقامة الحجج عليها ودفع الشبه عنها، ولإبطال عقائد الشرك وتقاليده وخرافات أهله، وهذه الخاتمة مناسبة لجملة السورة في أسلوبها ومعانيها. وذلك بأنه كان مما امتازت به السورة كثرة بدء الآيات فيها بخطاب الرسول صلى الله عليه وسلم بكلمة " قل " لأنها لتبليغ الدعوة، كما كثر فيها حكاية أقوال أهل الشرك والكفر مبدوءة بكلمة ( وقالوا ) مع التعقيب عليها بكشف الشبهة وإقامة الحجة ترى بعد هذا وذاك في آخر العشر الأول وأول العشر الثاني منها فجاءت هذه الخاتمة بالأمر الأخير له صلى الله عليه وسلم بأنه يقول لهم القول الجامع لجملة ما قبله، وهو أن ما فصل في السورة هو صراط الله المستقيم ودينه القيم الذي هو ملة إبراهيم، دون ما يدعيه العرب المشركون. وأهل الكتاب المحرفون، وأنه عليه صلوات الله وسلامه إنما يدعو إليه وهو معتصم به قولا وعملا وإيمانا وتسليما على أكمل وجهه، فهو أول المسلمين، وأخلص الموحدين، وأخشع العابدين، بما جاء به من تجديد الدين وإكماله، بعد تحريفه وانحراف جميع الأمم عن صراطه وأن توحيد الألوهية الذي يخالفنا فيه المشركون مبني على توحيد الربوبية الذي هم به مؤمنون ﴿ وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ﴾ ( يوسف ١٠٦ ) وأن الجزاء عند الله على الأعمال مبني على عدم انتفاع أحد أو مؤاخذته بعمل غيره وأن المرجع إلى الله تعالى وحده، وأن له تعالى سننا في استخلاف الأمم واختبارها بالنعم والنقم وأنه هو الذي يتولى عقاب المسيئين والرحمة للمحسنين وكل ذلك مما يهدم أساس الشرك الذي هو الاتكال على الوسطاء بين الله والناس في غفران ذنوبهم وقضاء حاجهم.
﴿ قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ هذا بيان إجمالي لتوحيد الإلهية بالعمل، بعد بيان أصل التوحيد المجرد بالإيمان، والمراد بالصلاة جنسها الشامل للمفروض والمستحب. والنسك في الأصل العبادة أو غايتها والناسك العابد، ويكثر استعماله في القرآن والحديث في عبادة الحج وعبادة الذبائح والقرابين فيه أو مطلقا، وفسر بالوجهين قوله تعالى في حكاية دعاء إبراهيم وإسماعيل ﴿ وأرنا مناسكنا ﴾ ( البقرة ١٢٧ ) وأما قوله تعالى :﴿ فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آبائكم أو أشد ذكرا ﴾ ( البقرة ٢٠٠ ) فلا خلاف في أن المراد به عبادات الحج كلها كما أن لا خلاف في تخصيص النسك ببعض الذبائح في قوله تعالى :﴿ ففدية من صيام أو صدقة أو نسك ﴾ ( البقرة ١٩٦ ) فالنسك في هذه الفدية ذبح شاة وقوله تعالى في سورة الحج :﴿ ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام ﴾ ( الحج ٣٤ ).
قد عين السياق كون المراد بالنسك فيه القرابين التي تذبح أو تنحر تقربا إليه تعالى وبعد هذه الآية آيات أخرى في ذلك خاصة. وأما قوله بعد آيات أخرى منها :﴿ لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه فلا ينازعك في الأمر وادع إلى ربك أنك لعلى هدى مستقيم ﴾ ( الحج ٦٧ ) فالسياق يدل على أنه أعم ما ورد من هذا الحرف في القرآن وأنه بمعنى الدين أو الشريعة وهو ما قدمه بعضهم ولكن روي تفسيره في المأثور بالذبح وفسره بعضهم بالعيد.
وحقق ابن جرير أن الأصل فيه الموضع الذي يتردد إليه الناس لخير أو شر ومن هنا أطلق على مشاعر الحج ومعاهده وعلى المواضع التي كانوا يذبحون فيها للأصنام كالنصب.
وأما المأثور في تفسير " نسكي " هنا فعن سعيد بن جبير قال : ذبيحتي وعن قتادة، حجي ومذبحي، وفي رواية أخرى : ضحيتي، وعن مجاهد : ذبيحتي في الحج والعمرة. وعن مقاتل : يعني الحج. ولا ينافي تفسيره بالذبيحة الدينية مطلقا سواء كانت فدية أو أضحية في الحج أو غيره قوله صلى الله عليه وسلم عند التضحية :﴿ إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين ﴾ ( الأنعام ٧٩ ) ﴿ إن صلاتي ونسكي ﴾ إلى قوله ﴿ أول المسلمين ﴾، الحديث رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث جابر ومثله حديث عمران بن حصين عند الحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لفاطمة :" يا فاطمة قومي فاشهدي أضحيتك فإنه يغفر لك بأول قطرة تقطر من دمها كل ذنب عملته وقولي :﴿ إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين ﴾ قلت يا رسول الله هذا لك ولأهل بيتك خاصة فأهل ذلك أنتم أم للمسلمين عامة ؟ " بل للمسلمين عامة ".
وعلى هذا التفسير للنسك يكون الجمع بين الصلاة وذبح النسك كالأمر بهما في قوله تعالى :﴿ فصل لربك وانحر ﴾ ( الكوثر ٢ ) وإذا فسر النسك بالعبادة مطلقا يكون عطفه على الصلاة من عطف العام على الخاص لأنها منه، وإلا كان سبب الاقتصار عل ذكر هذين النوعين أو الثلاثة من العبادة هو كونها أعظم مظاهر العبادة التي فشا فيها الشرك، فأما الصلاة فروحها الدعاء والتعظيم وتوجه القلب إلى المعبود والخوف منه والرجاء فيه وكل ذلك مما يقع فيه الشرك ممن يغلون في تعظيم الصالحين وما يذكر بهم كقبورهم أو صورهم وتماثيلهم، وأما الحج والذبائح فالشرك فيهما أظهر وقلما يقع الشرك في الصيام لأنه أمر سلبي خفي، ولكن بعض النصارى ابتدعوا صياما أضافوه إلى بعض مقدسيهم كصوم السيدة ولا أعلم أن أحدا من المسلمين اتبعهم فيه ولا ينافي هذا صدق الحديث الصحيح الوارد في اتباعهم سننهم شبرا بشبر وذراعا بذراع فإنه في الكليات دون الجزئيات.
وقد كانت الذبائح عند الوثنيين من العبادات يقربونها لآلهتهم ويهلون بها لهم، ثم سرى ذلك إلى بعض أهل الكتاب فخرجوا بقرابينهم عما شرعت له من كفارة يتقرب بها إلى الله وحده، فصاروا يهلون بها للأنبياء والصالحين، وينذرونها لأولئك القديسين، وذلك كله من عبادة الشرك فمن فعلها من المسلمون فله حكم من فعلها من أولئك المشركين كما تقدم تفصيله في تفسير ﴿ ما أهل به لغير الله ﴾ ( البقرة ١٧٣ ) من هذه السورة وسورتي البقرة والمائدة وما تأويل بعض المعممين لهم إلا كتأويل من سبقهم من الرهبان والقسيسين :
وهل أفسد الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها
والعبادات إنما تمتاز على العادات بالتوجه فيها إلى المعبود تقربا إليه وتعظيما له وطلبا لمثوبته ومرضاته، وكل من يتوجه إليه المصلي أو الذابح بذلك ويقصد به تعظيمه فهو معبود له، سواء عبر فاعله عن ذلك بقول يدل عليه أم لا ؟ فالعبادة لا تنبغي إلا لله رب العباد وخالقهم، فإن توجه أحد إليه وإلى غيره من عباده المكرمين أو غيرهم مما يستعظم خلقه كان مشركا والله لا يقبل من العبادة إلا ما كان خالصا لوجهه الكريم.
إن كون الصلة والنسك لا يكونان في الدين الحق إلا خالصين لله وحده أمر ظاهر يعد من ضرورات الدين. وأما المحيا والممات فهما مصدران ميميان بمعنى الحياة والموت، وزعم الرازي أن معنى كونهما مع الصلاة والنسك لله أنه هو الخالق لذلك وأن هذا دليل على قول أصحابه الأشعرية أن أفعال العباد مخلوقة لله وليس للعباد فيها تأثير. وهذا من أغرب ما انفرد به من السخف بعصبية المذهب مع الغفلة عن منافاة قوله :﴿ وبذلك أمرت ﴾ له وعن كونه ليس مما يختلف فيه المؤمن الموحد والمشرك فلا يصح أن يكون هو المراد في بيان تقرير حقيقة التوحيد.
والمتبادر أن معنى كون حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وموته وكذا من تأسى به لله وحده هو أنه قد وجه وجهه وحصر نيته وعزمه في حبس حياته لطاعته ومرضاته تعالى وبذلها في سبيله ليموت على ذلك كما يعيش عليه. وفي الكشاف أن معناه وما آتيه في حياتي وما أموت عليه من الإيمان والعمل الصالح كله لله رب العالمين. زاد البيضاوي : أو طاعات الحياة والخيرات المضافة إلى الممات كالوصية والتدبير١ أو الحياة والممات أنفسهما ا ه. ويزاد في الأعمال التي تضاف إلى الموت كل ما يبتدئ ثوابه به كالصدقة الجارية المعلقة على الموت وما يستمر بعده وإن وجد قبله كالصدقات الجارية المبتدأة في عهد الحياة والتصانيف التي ينتفع بها الناس.
وبهذا تكون الآية جامعة لجميع الأعمال الصالحة التي هي غرض المؤمن الموحد من حياته وذخيرته لمماته بجعلها خالصة لله رب العالمين. ولفظ الجلالة ( الله ) و " رب العالمين " لم يكن المشركون يطلقونهما على معبوداتهم ولا معبودات غيرهم المتخذة التي أشركوها مع الخالق سبحانه وتعالى، وقد قرأ نافع ( محياي ) بإسكان الياء إجراء للوصل مجرى الوقف وهو مما كان يجري على ألسنة بعض العرب ولا يزال جاريا على ألسنة العراقيين حتى في الشعر.
فتذكر أيها المؤمن أن الذي يوطن نفسه على أن تكون حياته لله ومماته لله يتحرى الخير والصلاح والإصلاح في كل عمل من أعماله ويطلب الكمال في ذلك لنفسه ليكون قدوة في الحق والخير في الدنيا وأهلا لرضوان ربه الأكبر في الآخرة. ثم يتحرى أن يموت ميتة مرضية لله تعالى فلا يحرص على الحياة لذاتها ولا يخاف الموت فيمنعه الخوف من الجهاد في سبيل الله لإحقاق الحق وإبطال الباطل وإقامة ميزان العدل والأخذ على أيدي أهل الجور والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فهذا مقتضى الدين يقوم به من يأخذه بقوة، ولا يفكر فيه من يكتفون بجعله من قبيل الروابط الجنسية، والتقاليد الاجتماعية فأين أهل المدينة المادية من أهل الدين إذا أقاموه كما أمر الله ؟ أولئك الماديون الذين لا هم لهم في حياتهم إلا التمتع بالشهوات الحيوانية، والتعديات الوحشية. يعدو الأقوياء منهم على الضعفاء لاستعبادهم، وتسخيرهم لشهواتهم ومنافعهم. و لكن المنتمين إلى الدين في هذه القرون الأخيرة قد تركوا هدايته وفتنوا بزينة أهل المدنية المادية وقوتهم، ولم يجاروهم في فنونهم وصناعتهم، فخسروا الدنيا والآخرة وذلك هو الخسران المبين، ولو اعتصموا بحلبه المتين، وعادوا إلى صراطه المستقيم، لنالوا سيادة الدنيا وسعادة الآخرة وذلك هو الفوز العظيم، وعسى أن يكون الزمان قد أيقظهم من رقادهم، وهداهم إلى السير على سنن أجدادهم، وما ذلك على الله بعزيز.
١ التدبير: هو العتق المعلق على الموت.
﴿ قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ١٦١ قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ١٦٢ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ١٦٣ قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ١٦٤ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ١٦٥ ﴾
قد ختم الله تعالى هذه السورة بهذه الآيات الكريمة الجامعة فكانت خير الخواتيم في براعة المقطع. ذلك بأننا بينا في مواضع من تفسيرها أنها أجمع السور لأصول الدين وإقامة الحجج عليها ودفع الشبه عنها، ولإبطال عقائد الشرك وتقاليده وخرافات أهله، وهذه الخاتمة مناسبة لجملة السورة في أسلوبها ومعانيها. وذلك بأنه كان مما امتازت به السورة كثرة بدء الآيات فيها بخطاب الرسول صلى الله عليه وسلم بكلمة " قل " لأنها لتبليغ الدعوة، كما كثر فيها حكاية أقوال أهل الشرك والكفر مبدوءة بكلمة ( وقالوا ) مع التعقيب عليها بكشف الشبهة وإقامة الحجة ترى بعد هذا وذاك في آخر العشر الأول وأول العشر الثاني منها فجاءت هذه الخاتمة بالأمر الأخير له صلى الله عليه وسلم بأنه يقول لهم القول الجامع لجملة ما قبله، وهو أن ما فصل في السورة هو صراط الله المستقيم ودينه القيم الذي هو ملة إبراهيم، دون ما يدعيه العرب المشركون. وأهل الكتاب المحرفون، وأنه عليه صلوات الله وسلامه إنما يدعو إليه وهو معتصم به قولا وعملا وإيمانا وتسليما على أكمل وجهه، فهو أول المسلمين، وأخلص الموحدين، وأخشع العابدين، بما جاء به من تجديد الدين وإكماله، بعد تحريفه وانحراف جميع الأمم عن صراطه وأن توحيد الألوهية الذي يخالفنا فيه المشركون مبني على توحيد الربوبية الذي هم به مؤمنون ﴿ وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ﴾ ( يوسف ١٠٦ ) وأن الجزاء عند الله على الأعمال مبني على عدم انتفاع أحد أو مؤاخذته بعمل غيره وأن المرجع إلى الله تعالى وحده، وأن له تعالى سننا في استخلاف الأمم واختبارها بالنعم والنقم وأنه هو الذي يتولى عقاب المسيئين والرحمة للمحسنين وكل ذلك مما يهدم أساس الشرك الذي هو الاتكال على الوسطاء بين الله والناس في غفران ذنوبهم وقضاء حاجهم.
﴿ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ أي لا شريك له تعالى في ربوبيته، فيستحق أن يكون له شركة ما في عبادته، بأن يتوجه إليه معه لأجل التأثير في إرادته، أو تذبح له النسائك لأجل شفاعته عنده ﴿ من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ﴾ ( البقرة ٢٥٥ ) ﴿ ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون ﴾ ( الأنبياء ٢٨ ) وبذلك التجريد في التوحيد والبراءة من الشرك الجلي والخفي، أمرني ربي، ولا يعبد الرب إلا بما أمر، دون أهواء الأنفس ونظريات العقول وتقاليد البشر، وأنا أول المسلمين أي على الإطلاق في علو الدرجة والرتبة، وأولهم في الزمن بالنسبة إلى هذه الأمة وبيان أنه صلى الله عليه وسلم أكمل المذعنين لأمر ربه ونهيه، بحسب ما أعطاه من الدرجات العلى التي فضله بها على جميع رسله، كما أنه أول من لقنه ربه الإسلام، في هذه الأمة الشاملة دعوتها لجميع الأنام، والموصوفة بعد إجابة الدعوة بأنها خير أمة أخرجت للناس، وقد يستلزم عموم بعثته وخيرية أمته وأوليته صلى الله عليه وسلم وأولويته بالتقدم على الرسل الذين بعثوا قبله أيضا، فيكون أولا في كل من مزاياه الخاصة ورسالته العامة المتعدية. وهذا التفسير للأول مما فتحه الله تعالى علي الآن وهو الفتاح العليم.
﴿ قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ١٦١ قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ١٦٢ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ١٦٣ قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ١٦٤ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ١٦٥ ﴾
قد ختم الله تعالى هذه السورة بهذه الآيات الكريمة الجامعة فكانت خير الخواتيم في براعة المقطع. ذلك بأننا بينا في مواضع من تفسيرها أنها أجمع السور لأصول الدين وإقامة الحجج عليها ودفع الشبه عنها، ولإبطال عقائد الشرك وتقاليده وخرافات أهله، وهذه الخاتمة مناسبة لجملة السورة في أسلوبها ومعانيها. وذلك بأنه كان مما امتازت به السورة كثرة بدء الآيات فيها بخطاب الرسول صلى الله عليه وسلم بكلمة " قل " لأنها لتبليغ الدعوة، كما كثر فيها حكاية أقوال أهل الشرك والكفر مبدوءة بكلمة ( وقالوا ) مع التعقيب عليها بكشف الشبهة وإقامة الحجة ترى بعد هذا وذاك في آخر العشر الأول وأول العشر الثاني منها فجاءت هذه الخاتمة بالأمر الأخير له صلى الله عليه وسلم بأنه يقول لهم القول الجامع لجملة ما قبله، وهو أن ما فصل في السورة هو صراط الله المستقيم ودينه القيم الذي هو ملة إبراهيم، دون ما يدعيه العرب المشركون. وأهل الكتاب المحرفون، وأنه عليه صلوات الله وسلامه إنما يدعو إليه وهو معتصم به قولا وعملا وإيمانا وتسليما على أكمل وجهه، فهو أول المسلمين، وأخلص الموحدين، وأخشع العابدين، بما جاء به من تجديد الدين وإكماله، بعد تحريفه وانحراف جميع الأمم عن صراطه وأن توحيد الألوهية الذي يخالفنا فيه المشركون مبني على توحيد الربوبية الذي هم به مؤمنون ﴿ وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ﴾ ( يوسف ١٠٦ ) وأن الجزاء عند الله على الأعمال مبني على عدم انتفاع أحد أو مؤاخذته بعمل غيره وأن المرجع إلى الله تعالى وحده، وأن له تعالى سننا في استخلاف الأمم واختبارها بالنعم والنقم وأنه هو الذي يتولى عقاب المسيئين والرحمة للمحسنين وكل ذلك مما يهدم أساس الشرك الذي هو الاتكال على الوسطاء بين الله والناس في غفران ذنوبهم وقضاء حاجهم.
ولما بين توحيد الألوهية، انتقل إلى برهانه الأعلى وهو توحيد الربوبية، بما أمره به تعالى في قوله :﴿ قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ الاستفهام للإنكار والتعجب والمعنى أغير الله خالق الخلق، وسيدهم ومربيهم بالحق، اطلب ربا آخر أشركه في عبادتي له بدعائه والتوجه إليه، أو ذبح النسائك أو نذرها له، لينفعني أو يمنع الضر عني أو ليقربني إليه زلفى ويشفع لي عنده كما تفعلون بآلهتكم، والحال أنه تعالى هو رب كل شيء مما عبد ومما لم يعبد فهو الذي خلق الملائكة وخواص البشر كالمسيح والشمس والقمر والكواكب والأصنام المذكرة ببعض الصالحين وصانعيها ﴿ والله خلقكم وما تعملون ﴾ ( الصافات ٩٦ ) فإذا كان تعالى هو الخالق المقدر، وهو السيد المالك المدبر، وهو الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، وفضل بعض المخلوقات على بعض ولكنها بالنسبة إليه على حد سوى، فكيف أسفه نفسي وأكفر ربي، بجعل المخلوق المربوب مثلي ربا لي ؟ وقد سبق تقرير هذه المسألة مرارا في تفسير هذه السورة وغيرها ومنه أن جميع المشركين كانوا يقرون بأن معبوداتهم مخلوقة وأن الله رب العالمين هو خالق الخلق أجمعين. إلا أن النصارى يقولون بخلق ناسوت المسيح دون لاهوته إذ اللاهوت عندهم هو الله سبحانه وتعالى عن الحلول في الأجساد والتحول في صور العباد.
﴿ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ﴾ هذه الجملة معطوفة على الجملة الحالية قبلها، لأنها معللة للإنكار ومقررة للتوحيد مثلها، وهي قاعدة من أصول دين الله تعالى الذي بعث به جميع رسله كما قال في سورة النجم :﴿ أم لم ينبأ بما في صحف موسى وإبراهيم الذي وفى ألا تزر وازرة وزر أخرى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ﴾ ( النجم ٣٦- ٣٩ ) وهي من أعزم أركان الإصلاح للبشر في أفرادهم وجماعاتهم، لأنها هادمة لأساس الوثنية، وهادية للبشر إلى ما تتوقف عليه سعادتهم الدنيوية والأخروية ( وهو عملهم ) وقد بينا مرارا أن أساس الوثنية طلب رفع الضر وجلب النفع بقوة من وراء الغيب، هي عبارة عن وساطة بعض المخلوقات العظيمة الممتازة ببعض الخواص والمزايا بين الناس وبين ربهم ليعطيهم ما يطلبون في الدنيا من ذلك بدون كسب ولا سعي إليه من طريق الأسباب التي جرت بها سنته تعالى في خلقه، وليحملوا عنهم أوزارهم حتى لا يعاقبهم تعالى بها، أو يحملوا الباري تعالى على رفعها عنهم وترك عقابهم عليها وعلى إعطائهم نعيم الآخرة وإنقاذهم من عذابها أي على إبطال سنته وتبديلها في أمثالهم، أو تحويلها عنهم إلى غيرهم، وإن قال في كتابه :﴿ ولن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا ﴾ ( فاطر ٤٣ ).
فمعنى الجملتين : ولا تكسب كل نفس عاملة مكلفة إثما إلا كان عليها جزاؤه دون غيرها، ولا تحمل نفس فوق حملها حمل نفس، إنما تحمل وزرها وحده ﴿ لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ﴾ ( البقرة ٢٨٦ ) دون ما كسب أو اكتسب غيرها. والوزر في اللغة الحمل الثقيل ووزره يزره حمله يحمله. قال ابن عباس في تفسير الجملتين بحاصل المعنى : لا يحمل أحد ذنب غيره. فالدين قد علمنا أن نجري على ما أودعته الفطرة من أن سعادة الناس وشقاءهم في الدنيا بأعمالهم، وأن عمل كل نفس يؤثر فيها التأثير الحسن الذي يزكيها إن كان صالحا، أو التأثير السيئ الذي يدسيها ويفسدها إن كان فاسدا وإن الجزاء في الآخرة مبني على هذا التأثير فلا ينتفع أحد ولا يتضرر بعمل غيره من حيث هو عمل غيره. وأما من كان قدوة صالحة في عمل أو معلما له فإنه ينتفع بعمل من أرشدهم بقوله وفعله زيادة على انتفاعه بأصل ذلك القول أو الفعل، ومن كان قدوة سيئة في عمل أو دالا عليه ومغريا به فإن عليه مثل إثم من أفسدهم كذلك، وكل من هذا وذاك يعد من عمل الهادين والمضلين، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم هذا بقوله :" من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء " ١ رواه مسلم من حديث جرير بن عبد الملك البجلي والترمذي بلفظ " من سن سنة خير.. ومن سن سنة شر.. " ٢ وبهذا يعلم أنه لا تعارض بين الآية وما في معناها وبين قوله تعالى في المضلين من الناس ﴿ ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ﴾ ( النحل ٢٥ ) وقوله فيهم :﴿ وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم ﴾ ( العنكبوت ١٣ ).
ولكن أشكل في هذا الباب حديث :" إن الميت يعذب ببعض بكاء أهله عليه " ٣ رواه الشيخان وغيرهما من حديث عبد الله بن عمر مرفوعا من عدة طرق وهذا لفظ البخاري في أحد طرقه وليس في سائرها ذكر " ببعض " والمراد به النياحة كما صرح به في بعض الروايات عنه وعن أبيه، وورد التصريح بعدم المؤاخذة بالبكاء المجرد وقد أوله بعضهم بأنه إنما يعذب بما نيح عليه إذا أوصى أهله به وكان ممن يرضى به، ويحتمل أن يكون المراد بتعذيب الميت بنواح الحي عليه أنه يشعر ببكائه فيؤلمه ذلك، لا أن الله تعالى يعذبه به ويؤاخذه عليه والله أعلم.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن أبي مليكة قال : توفيت أم عمرو بنت أبان بن عثمان فحضرت الجنازة فسمع ابن عمر بكاء فقال : ألا تنهى هؤلاء عن البكاء فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" إن الميت يعذب ببكاء الحي عليه " فأتيت عائشة فذكرت لها ذلك فقالت : والله إنك لتخبرني عن غير كاذب ولا متهم ولكن السمع يخطئ وفي القرآن ما يكفيكم :﴿ ولا تزر وازرة وزر أخرى ﴾ ا ه وكانت عائشة ترد كل ما يروى لها مخالفا للقرآن وتحمل رواية الصادق على خطأ السمع أو سوء الفهم ولكن العلماء قصروا في إعلال الأحاديث بمثل هذا مع أن مخالفة الرواية الآحادية للقطعي كالقرآن من علامة وضع الحديث عندهم.
ومما ينتفع به المرء من عمل غيره من حيث يعد من قبيل عمله لأنه كان سببا له دعاء أولاده له أو حجهم وتصدقهم عنه وقضاؤهم لصومه كما ثبت في الصحاح وهو داخل في حديث " إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له " ٤ رواه مسلم وأبو وداود والترمذي والنسائي من حديث أبي هريرة وقد ألحق الله ذرية المؤمنين بهم بنص القرآن وصح في الحديث أو ولد الرجل من كسبه٥ ومن قال بانتفاع الميت من كل عمل يعمل له وإن لم يكن العامل ولده فقد خالف القرآن ولا حجة له في الحديث الصحيح ولا القياس الصحيح. أما الحديث فقد صح فيه الإذن بالصدقة عن الوالدين في الصحيحين والسنن وبالصيام والحج المنذورين منهما أو المفروضين من حديث ابن عباس في الصحيحين وغيرهما وفيهما من حديث عائشة أنه صلى الله عليه وسلم قال :" من مات وعليه صيام فليصم عنه وليه " ٦ وقد شبه صلى الله عليه وسلم الصيام والحج الواجبين بقضاء دين العباد عنهما وأن دين الله أحق بأن يقضى. وقد روي هذا الحديث في الصحيحين وغيرهما بألفاظ مختلفة في السائل فقيل رجل وقيل امرأة من جهينة وهو الصحيح وفي المسؤول عنه فقيل أب وقيل أخت وقيل أم وهو الصحيح وفي المسؤول فيه هل هو الصيام أو الحج ولا تنافي بينهما لجواز الجمع بينهما وتدل عليه رواية لمسلم، وذكر الراوي وهو ابن عباس لكل منهما في وقت لاقتضاء المقام لذلك ولهذا الخلاف قال بعض العلماء أن الحديث مضطرب لا يحتج به، ولكن حديث عائشة لا اضطراب فيه.
وقد اختلفوا في الولي فيه فقيل كل قريب وقيل الوارث وقيل العصبة. والراجح المختار أنه الولد لينطبق على الآيات والأحاديث الأخرى. ومن أصولهم أن العبادات البدنية لا تصح النيابة فيها في الحياة ولا بعد الممات. ومذهب أشهر أئمة الفقه أنه لا يصام عن الميت مطلقا ومنهم أبو حنيفة ومالك والشافعي والإمام زيد بن علي والهادوية والقاسم من العترة وحصر أحمد وآخرون الجواز بالنذر عملا بحديث ابن عباس ويلزمه أن يكون من يصوم عن الميت ولده لأن الرواية وردت بذلك وما روي في بعض طرقها من ذكر الأخت غلط ظاهر لمخالفته للطريق الصحيح وللآيات والأحاديث وحديث ابن عباس الموقوف أو فتواه التي رواها النسائي بسند صحيح " لا يصل أحد عن أحد ولا يصم أحد عن أحد " ومثله عن عائشة. وقد جعل الحنفية فتوى ابن عباس مانعة من العمل بحديثه على مذهبهم في ذلك وهو أن العالم الصحابي لا يخالف روايته إلا إذا كان لديه ما يمنع العمل بها ككونها منسوخة، ومذهب غيرهم من أهل الأصول والحديث أن الحجة برواية الصحابي لا برأيه فإنه قد يترك العمل بالرواية سهوا أو نسيانا أو تأولا على أنه غير معصوم من تركه عمدا، وعندنا أنه لا تعارض بين قولي ابن عباس وعائشة وروايتهما لأن قولهما أو فتواهما بأن لا يصلي ولا يصوم أحد عن أحد هو أصل الشريعة العام في جمع الناس إلا ما استثنى بالنص من صيام الولد أو حجه أو صدقته عن والديه ولا سيما إذا كان ذلك حقا ثابتا بأصل الشرع أو بنذر أو إرادة وصية كما كانت الحال في وقائع فتوى النبي صلى الله عليه وسلم لأولئك الأولاد. فلا محل إذا لتخريج الحنفية ولا الجمهور في المسألة وكتاب الله فوق كل شيء.
وأما قياس عمل غير الولد على عمله فباطل، لمخالفته للنص القطعي على كونه قياسا مع الفارق، وقد غفل عن هذا من عودونا استدراك مثله على المتقدمين، كشيخي الإسلام٧ والشوكاني٨ من فقهاء الحديث المستقلين.
فعلم مما شرحناه أن كل ما جرت به العادة من قراءة القرآن والأذكار وإهداء ثوابها إلى الأموات واستئجار القراء وحبس الأوقاف على ذلك بدع غير مشروعة ومثلها ما يسمونه إسقاط الصلاة ولو كان لها أصل في الدين ما جهلها السلف ولو علموها لما أهملوا العمل بها، وليس هذا من قبيل ما لا شك في جوازه ووقوعه في كل زمن من فتح الله على بعض الناس بما لم يؤثر عمن قبلهم من حكم الدين وأسراره والفهم في كتابه كما قال أمير المؤمنين علي المرتضى كرم الله وجهه : إلا أن يؤتي الله عبدا فهما في القرآن، بل هو من العبادات العملية التي يهتم الناس بأمرها في كل زمان ولو فعلها الصحابة لتوفرت الدواعي على نقلها بالتواتر أو الاستفاضة.
﴿ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴾ أي ثم إن رجوعكم في الحياة الآخرة التي بعد هذه الحياة الدنيا إلى ربكم وحده دون غيره مما عبدتم من دونه زاعمين أنهم يقربونكم إليه فينبئكم بما كنتم تختلفون فيه من أمر أديانكم إذ كان بعضكم يعبده وحده، وبعضكم قد اتخذ له أندادا من خلقه، ويتولى هو جزاءكم عليه وحده بحسب علمه وإرادته القديمتين ويضل عنكم ما كنتم تزعمون من دونه ؛ فكيف تعبدون معه غيره ؟ وقد تقدم مثل هذا في سورة المائدة في سياق اختلاف الشرائع وذكرنا نصه آنفا وفي آل عمران في قصة عيسى :﴿ إلي مرجعكم فأحكم بينكم فما كنتم فيه تختلفون ﴾ ( آل عمران ٥٤ ) ومثله في البقرة بعد ذكر طعن اليهود والنصارى بعضهم ببعض ( ٢ : ١١٢ ) وله نظائر بعضها في الأنباء بالاختلاف أو الحكم فيه وبعضها في الأنباء بالعمل ومنه ما تقدم في هذه السورة ( آية ٢٠و ١٠٩ ) وكله إنذار بالجزاء وبيان أنه بيده تعالى وحده.
١ أخرجه مسلم في العلم حديث ١٥ والزكاة حديث ٢٩..
٢ أخرجه الترمذي في العلم باب ١٥..
٣ روي في الحديث بطرق وأسانيد متعددة أخرجه البخاري في الجنائز باب ٣٢- ٣٣- ٤٤ والمغازي باب ٨ ومسلم في الجنائز حديث ١٦- ١٨- ١٩- ٢٢- ٢٣- ٢٥- ٢٧- ٢٨- وأبو داود في الجنائز باب ٢٤- ٢٥ والترمذي في الجنائز باب ٢٢- ٢٤ والنسائي في الجنائز باب ١٣- ١٥ وابن ماجه في الجنائز باب ٥٤- ٥٨ ومالك في الجنائز باب ٣٧ وأحمد في المسند ١/ ٣٦- ٣٨- ٤١- ٤٢ ٤٥- ٤٧- ٥٤- ٢/ ٣١- ٣٨- ١٣٤- ٤/ ٤٣٧..
٤ أخرجه مسلم في الوصية حديث ١٤ وأبو داود في الوصايا باب ١٤ والترمذي في الأحكام باب ٤٦ والنسائي في الوصايا باب ٨ وأحمد في المسند ٢/ ٣١٦- ٣٥٠- ٣٧٢..
٥ أخرجه أبو داود في البيوع باب ٧٧ والنسائي في البيوع باب ١ وابن ماجه في التجارات باب ١ واحمد في المسند ٦/ ٣١- ٤٢- ١٢٧- ١٩٣- ٢٢٠..
٦ أخرجه البخاري في الصوم باب ٤٢ وأبو داود في الصوم باب ٤١ وابن ماجه في الصيام باب ٥١ والدرامي في الصوم باب ٤٩..
٧ أي ابن تيمية وابن القيم..
٨ الشوكاني جارى الجمهور في موضع ثم عاد في موضع آخر إلى مثل ما حققناه كما سيأتي في الاستدراك (المؤلف)..
﴿ قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ١٦١ قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ١٦٢ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ١٦٣ قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ١٦٤ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ١٦٥ ﴾
قد ختم الله تعالى هذه السورة بهذه الآيات الكريمة الجامعة فكانت خير الخواتيم في براعة المقطع. ذلك بأننا بينا في مواضع من تفسيرها أنها أجمع السور لأصول الدين وإقامة الحجج عليها ودفع الشبه عنها، ولإبطال عقائد الشرك وتقاليده وخرافات أهله، وهذه الخاتمة مناسبة لجملة السورة في أسلوبها ومعانيها. وذلك بأنه كان مما امتازت به السورة كثرة بدء الآيات فيها بخطاب الرسول صلى الله عليه وسلم بكلمة " قل " لأنها لتبليغ الدعوة، كما كثر فيها حكاية أقوال أهل الشرك والكفر مبدوءة بكلمة ( وقالوا ) مع التعقيب عليها بكشف الشبهة وإقامة الحجة ترى بعد هذا وذاك في آخر العشر الأول وأول العشر الثاني منها فجاءت هذه الخاتمة بالأمر الأخير له صلى الله عليه وسلم بأنه يقول لهم القول الجامع لجملة ما قبله، وهو أن ما فصل في السورة هو صراط الله المستقيم ودينه القيم الذي هو ملة إبراهيم، دون ما يدعيه العرب المشركون. وأهل الكتاب المحرفون، وأنه عليه صلوات الله وسلامه إنما يدعو إليه وهو معتصم به قولا وعملا وإيمانا وتسليما على أكمل وجهه، فهو أول المسلمين، وأخلص الموحدين، وأخشع العابدين، بما جاء به من تجديد الدين وإكماله، بعد تحريفه وانحراف جميع الأمم عن صراطه وأن توحيد الألوهية الذي يخالفنا فيه المشركون مبني على توحيد الربوبية الذي هم به مؤمنون ﴿ وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ﴾ ( يوسف ١٠٦ ) وأن الجزاء عند الله على الأعمال مبني على عدم انتفاع أحد أو مؤاخذته بعمل غيره وأن المرجع إلى الله تعالى وحده، وأن له تعالى سننا في استخلاف الأمم واختبارها بالنعم والنقم وأنه هو الذي يتولى عقاب المسيئين والرحمة للمحسنين وكل ذلك مما يهدم أساس الشرك الذي هو الاتكال على الوسطاء بين الله والناس في غفران ذنوبهم وقضاء حاجهم.
﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم ﴾ هذه الآية مبينة لبعض أحوال البشر التي نعبر عنها في عرف هذا العصر بالسنن الاجتماعية وقد عطفت على ما قبلها لأنها في سياق تقرير التوحيد وإبطال خرافات الشرك على ما سنبينه. والخلائف جمع خليفة وهو من يخلف أحدا كان قبله في مكان أو عمل أو ملك. وفي الخطاب وجهان أحدهما : أنه للبشر والمعنى أنه تعالى جعلهم خلفاءه في الأرض بالتبع لأبيهم آدم على ما تقدم في سورة البقرة أو جعل سنته فيهم أن تذهب أمة وتخلفها أخرى، ثانيهما : أن الخطاب للأمة المحمدية وأنه جعلهم خلفاء لمن سبقهم من الأمم في الملك واستعمار الأرض وهذا هو الراجح المختار ويؤيده قوله تعالى بعد ذكر إهلاك القرون الخالية ﴿ ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون ﴾ ( يونس ١٤ ) وفي معناها آيات أخرى وقال تعالى :﴿ وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم ﴾ ( النور ٥٣ ) وهذا استخلاف خاص وذلك عام.
والمعنى أن ربكم الذي هو رب كل شيء هو الذي جعلكم خلائف هذه الأرض بعد أمم سبقت لكم في سيرتها عبر ورفع بعضكم فوق بعض درجات في الخلق والخلق والغنى والفقر، والقوة والضعف والعلم والجهل والعقل والجهل١ والعز والذل ليختبركم فيما أعطاكم أي يعاملكم معاملة المختبر لكم في ذلك فيبني الجزاء على العمل، بمعنى أن سننه تعالى في تفاوت الناس فيما ذكرنا من الصفات الوهبية والأعمال الكسبية هي التي يظهر بها استعداد كل منهم ودرجة وقوفه في تصرفه في النعم والنقم عند وصايا الدين وحدود الشرع، ووجدان الاطمئنان في القلب، والحقوق والواجبات تختلف باختلاف أحوال الناس في تلك الدرجات، وسعادة الناس أفرادا وأسرا وأمما وشقاوتهم في الدنيا والآخرة تابعة لأعمالهم وتصرفاتهم في مواهبهم ومزاياهم وما يبتليهم به تعالى من النعم والنقم، ولا شيء مما يطلبه الناس من سعادة الدنيا ونعمها أو رفع نقمها أو من ثواب الآخرة والنجاة من عذابها إلا وهو منوط بأعمالهم التي ابتلاهم بها بحسب ما قرره شرعه المبني على توحيده المجرد، ومضت به سننه في نظام الأسباب والمسببات، فبقدر علمهم وعملهم بالشرع وسنن الكون والاجتماع البشري يكون حظهم من السعادة.
فهذه الهداية الاجتماعية مقررة لعقيدة التوحيد وهادمة لقواعد الشرك التي هي عبارة عن اتكال الناس واعتمادهم على ما اتخذوا بينهم وبين ربهم من الوسطاء ليقربوهم إليه ويشفعوا لهم عنده فيما يطلبون من نفع ودفع ضر كما تقدم شرحه ولهذا ترى هؤلاء المشركين من حيث يشعرون أو من حيث لا يشعرون أشقى الناس وأبعدهم عن نيل مآربهم، وترى خصومهم دائما ظافرين بهم، وإن كانوا شرا منهم فيما عدا هذا النوع من الشرك، فربما ترى قوما يدعون الإيمان بالله ورسله كلهم أو بعضهم يعتمدون في قضاء حاجهم من شفاء مرض وسعة رزق ونصر على عدو وغير ذلك على التوسل ببعض الأنبياء والصالحين وذبح النذور لهم ودعائهم والطواف بقبورهم والتمسح بها، وتجد آخرين ليس لهم مثل اعتقادهم وعملهم هذا وهم أحسن منهم صحة وأوسع رزقا وأعز ملكا، وإذا قاتلوهم ينتصرون عليهم ويسودونهم، وسبب ذلك أنهم يعرفون سنن الله في الأسباب والمسببات وأن الرغائب إنما تنال بالأعمال مع مراعاة تلك السنن سواء كانوا يعلمون مع ذلك أن الله تعالى رب الخلق هو الخالق والواضع لنظام خلقه بتلك السنن، وأنه لا تبديل لسننه كما أن لا تبديل لخلقه، أم لم يكونوا يعلمون ذلك.
ولو استوى شعبان من الناس في الجري على هذه السنن الربانية للاجتماع الإنساني في القوة والضعف والعز والذل والحرية والعبودية وكان أحدهما مؤمنا بالله مستمسكا بوصاياه وهداية دينه والآخر كافرا به غير مهتد بوصاياه، فلا شك في أن المؤمن المهتدي يكون أعز وأسعد في دنياه من الآخر كما أنه يكون في الآخرة هو الناجي من العذاب الفائز بالثواب، ومن جهل مصداق ذلك في تواريخ الأمم القديمة لعدم ضبطها فأمامه تاريخ الأمة الإسلامية واضح جلي ولكن أكثر المنتمين إلى الإسلام في هذا العصر يجهلون تاريخهم كما يجهلون حقيقة دينهم، حتى أن كثيرا من حملة العمائم الدينية منهم يجهلون حقيقة التوحيد الذي بينته هذه الآيات بالإجمال بعد شرح السورة له بالتفصيل، وربما يعد بعضهم الداعي إليه كافرا أو مبتدعا، ويعتمدون في هذا على قوة أنصارهم من العوام الذين أضلوهم، وهم غافلون عن عقاب الله لهم وعن كونهم صاروا فتنة للناس وحجة على الإسلام فأعداؤه يحتجون بجهلهم وسوء حالهم على فساد دينهم المسمى وإن لم يكن هو الإسلام الذي نزل به القرآن بل ضده، وأولياؤه الجاهلون يتسللون منه فرادى وثبات كالتلاميذ بما يظهر للذين يقتبسون علوم سنن الكائنات وعلم الاجتماع من مخالفته لها، وإنما المخالف لها بدعهم وتقاليدهم الخرافية. وأما دين الله في كتابه القرآن فهو المرشد الأعظم لها ولو فهموه وعملوا به لكانوا أسبق إليها.
وأضرب لهم مثلا أهل مراكش : أنشأنا منذ أنشأنا المنار نذكرهم بآيات الله وسننه وأنذرناهم بالهلاك والزوال بفقد الاستقلال إذ لم يوجهوا كل همتهم إلى ما تقتضيه حالة العصر من التربية والتعليم العسكري وغيره، وأرشدناهم إلى الاستعانة على ذلك بالدولة العثمانية فكان يبلغنا عنهم أنهم يجتمعون عند حلول النوائب بهم وتعدي الأجانب عليهم عند قبر ( مولاي إدريس ) في فاس راجين أن يكشف باستنجادهم إياه ما نزل لهم من البأس، أنذرناهم بطشة الله بترك هدي كتابه وتنكب سننه فتماروا بالنذر واتكلوا على ميت لا يملك لهم ولا لنفسه شيئا من نفع ولا ضرر وكم سبق هذه العبرة من عبر ﴿ ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مكدر ﴾ ( القمر ١٧ ) ؟
نزل في معنى هذه الآية آيات كثيرة ناطقة بأن نعم الله في الأنفس والآفاق مما يفتن الله به عباده أي يربيهم ويختبرهم ليظهر أيهم أحسن عملا فيترتب عليه الجزاء في الدارين. قال تعالى في بني إسرائيل ﴿ وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجون ﴾ ( الأعراف ١٦٧ ) وقال في خطاب كل البشر ﴿ ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون ﴾ ( الأنبياء ٣٥ ) وقال بعد ذكر خلق السماوات والأرض وخلق الموت والحياة ﴿ ليبلوكم أيكم أحسن عملا ﴾ ( هود ٧ والملك ٢ ) وقال :﴿ إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا ﴾ ( الكهف ٧ ) وقال في ابتلاء المؤمنين بالكافرين ﴿ وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون ﴾ ( الفرقان ٢٠ ) وقال في خطاب المؤمنين ﴿ لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وأن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور ﴾ ( آل عمران ١٨٦ ) وقال :﴿ ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين ﴾ ( البقرة ١٥٤ ) وقال :﴿ ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم ﴾ ( محمد ٣٤ ) وقال : ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين } ( العنكبوت ١- ٢ ) وقال حكاية عن نبيه سليمان ﴿ هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم ﴾ ( النمل ٤٠ ) وثم آيات أخرى.
أرشدنا الله تعالى في هذه الآيات وأمثالها إلى طريق الاستفادة من سننه في جعلنا خلائف في الأرض ورفع بعضنا درجات على بعض، بأن نصبر في البأساء والضراء، ونشكر في السراء، والشكر عبارة عن صرف النعم فيما وهبت لأجله، وهو ما يرضي المنعم تعالى وتظهر به حكمته، وتعم رحمته كإنفاق فضل المال في وجوه البر التي تنفع الناس وإعداد القوة بقدر الاستطاعة لتأييد الحق وإقامة العدل. ولكل نعمة بدنية أو عقلية أو علمية أو مالية أو حكمية شكر خاص، ومن لم يهتد بهذه الهداية الربانية في الاستفادة من النعم والنقم فإنه يسيء التصرف في الحالتين فيظلم نفسه ويظلم الناس، وإن العقل الصحيح والفطرة السليمة مما يهدي إلى الصبر والشكر، ولكن لا تكمل الهداية إلا بتعليم الوحي، لأن الإسلام قد شرع لمساعدة العقل على حفظ مواهب الله تعالى في الفطرة ومنع الهوى من إفسادها، وصدها عن الوصول إلى كمالها، ولذلك سمي دين الفطرة.
فالمسلمون أجدر الناس بالصبر، والصبر عون على الجهاد والجلاد، ومنجاة من جميع الشدائد والأهوال، وأحقهم بالشكر والشكر سبب للمزيد من النعم. فلو كانوا معتدين به كما يجب لكانوا أعظم الناس ملكا وأعدلهم حكما. وأوسعهم علما، وأشدهم قوة، وأكثرهم ثروة، وكذلك كان به سلفهم. وقد أخبرهم الله بأنه لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. ولكن التقليد أضلهم عن تدبر القرآن، والاتكال على الميتين حال بينهم وبين سنن الله في هذا الإنسان ﴿ فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى ﴾ ( طه ١٢١- ١٢٢ ) ﴿ وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا لنفتنهم فيه ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا ﴾ ( الجن ١٦- ١٧ ) ولعذاب الآخرة أشد وأبقى، ونعيمها أدوم وأعلى كما قال تعالى بعد بيان حال من يريد بعمله حظوظ الدنيا وحدها، ومن يريد الآخرة ويسعى لها سعيها ﴿ كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا ا نظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا ﴾ ( النحل ٢٠- ٢١ ) وإنما جعل الدنيا للمؤمن والكافر، والبر والفاجر لئلا تعظم الفتنة بجعل نعيمها كله أو معظمه للكفار وحدهم فيكون الناس كلهم لضعفهم كفارا، قال تعالى :﴿ أهم يقسمون رحمة ربك ؟ نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا، ورحمة ربك خير مما يجمعون ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون ﴾ إلى قوله ﴿ والآخرة عند ربك للمتقين ﴾ ( الزخرف ٣١- ٣٢ ).
﴿ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ أي إنه تعالى سريع العقاب لمن كفر به أو بنعمه وخالف شرعه وتنكب سننه، وسرعة العقاب تصدق في عقاب الدنيا والآخرة فإن العقاب العام عبارة عما يترتب على ارتكاب الذنوب من سوء التأثير وهو في الدنيا ما حرمت لأجله من الضرر في النفس أو العقل أو العرض أو المال أو غير ذلك من الشؤون الاجتماعية، فإن الذنوب ما حرمت إلا لضرها وهو واقع مطرد في الدنيا في ذنوب الأمم وأكثري في ذنوب الأفراد ولكنه يطرد في الآخرة بتدنيسها النفس وتدسيتها كما وضحناه مرارا، وقد يستبطئ الناس العقاب قبل وقوعه لأن ما في الغيب مجهول لديهم فيستبعدونه وهو عند الله معلوم مشهود فليس ببعيد ﴿ أنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا ﴾ ( المعارج ٦- ٧ ).
وأنه تعالى على سرعة عقابه وشدة عذابه للمشركين والكافرين غفور للتوابين الأوابين رحيم بالمؤمنين والمحسنين. بل سبقت رحمته غضبه ووسعت كل شيء ولذلك جعل جزاء الحسنة عشر أمثالها وقد يضاعفها بعد ذلك أضعافا كثيرة، وجزاء السيئة سيئة مثلها وقد يغفرها لمن تاب منها ﴿ وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير ﴾ ( الشورى ٣٠ ) وقد أكد المغفرة والرحمة ه
١ الجهل يطلق بمعنى ضد العلم وبمعنى ضد العقل والحلم، كالخفة والطيش..
Icon