تفسير سورة الأنعام

تفسير القرآن الكريم
تفسير سورة سورة الأنعام من كتاب تفسير القرآن الكريم .
لمؤلفه شحاته . المتوفي سنة 1423 هـ
دروس من سورة الأنعام
١- كيف أنزلت ؟
سورة الأنعام سورة مكية وهي أول سورة مكية في ترتيب الصحف فسورة البقرة وآل عمران والنساء والمائدة كلها سورة مدنية أما سورة الأنعام فهي أول سورة مكية، توضع في السبع الطوال من سور القرآن الكريم.
وقد جاءت عدة روايات تذكر فضل سورة الأنعام وتبين أنها نزلت جملة واحدة مشيعة بالملائكة.
قال الإمام الرازي في تفسيره ( مفاتيح الغيب ) :
( إن هذه السورة اختصت بنوعين من الفضيلة. أحدهما : أنه نزلت دفعة واحدة والثاني : أنها شيعها ألفا من الملائكة والسبب في ذلك أنها مشتملة على دلائل التوحيد والعدل والنبوة والمعاد وإبطال مذاهب المبطلين والملحدين ).
ويقول القرطبي :
قال العلماء : هذه السورة أصل في محاجة المشركين وغيرهم من المبتدعين ومن كذب بالبعث والنشور وهذا يقتضي إنزالها جملة واحدة لأنها في معنى واحد من الحجة وإن تصرف ذلك بوجوه كثيرة وعليها بني المتكلمون أصول الدين.
وعدد آيات سورة الأنعام ( ١٦٥ ) آية وعدد كلمتها ( ٣٠٥٣ ) كلمة.
٢- لم سميت بسورة الأنعام :
سميت هذه السورة بسورة الأنعام، والأنعام ذوات الخف والظلف : وهي الإبل والبقر والغنم بجميع أنواعها، لأنها هي السورة التي عرضت لذكر الأنعام على تفصيل لم يرد في غيرها من السور، فقد ورد ذكر الأنعام في مواضع كثيرة من القرآن عرضا، أما سورة الأنعام، فقد جاءت بحديث طويل عن الأنعام، استغرق خمس عشرة آية، من أول الآية ١٣٦ إلى آخر الآية ١٥٠. وقد تناول الحديث عن الأنعام في هذه الآيات من السورة جوانب متعددة، تتصل بعقائد المشركين فبينت السورة ما في عقائدهم من الخلل والفساد، إذ كانوا يحرمون بعض الأنعام على أنفسهم، ويجعلون قسما من الأنعام لآلهتهم وأصنامهم : وقسما لله، ثم يجورون على القسم الذي جعلوه لله فيأخذون منه لأصنامهم.
٣- تاريخ نزول السورة :
نزلت سورة الأنعام في السنة الرابعة من البعثة المحمدية، أي عقب أمر النبي صلى الله عليه و آله وسلم أن يصدع بالدعوة ويعلنها للناس بعد أن أسر بها ثلاث سنين.
وتميزت الفترة التي نزلت فيها سورة الأنعام بقسوة المشركين وعنفهم في مقاومة الدعوة الإسلامية وإنكارها، فقد بدأت الدعوة سرا ثم جهر النبي بدعوته في مكة، ونزلت سورة الأنعام بعد الجهر بالدعوة بسنة واحدة، فاستعرضت الأدلة على توحيد الله وقدرته ثم ساقت أدلة المشركين وشبههم فأبطلتها وفندتها.
وقد أخذ المشركون بالنجاح الذي صارت عليه دعوة الإسلام حتى استطاعت أن تستعلن بعد الخفاء، وأن تتحدى في صوت عال ونداء جهير، بعد أن كان المؤمنون بها يلجئون إلى الشعاب والأماكن البعيدة ليؤدوا صلاتهم، ورأى المشركون أن محمدا ماض في إعلان دعوته وتلاوة ما أنزل عليه من الكتاب، وفيه إنذار لهم وتنفيذ لمعتقداتهم وتسفيه لآرائهم، وإنكار لآلهتهم، وتهكم بأوثانهم وتقاليدهم البالية، فكان منهم من يستمع للقرآن متأثرا بقوته أو متذوقا لبلاغته، ومنهم من يبعد عنه خوفا منه. يومئذ واجهت دعوة الحق أعداءها مفسرة واضحة متحدية، ووقف هؤلاء الأعداء مشدوهين مضطربين، يشعرون في أعماق نفوسهم بصدقها وكذبهم، ويترقبون يوما قريبا لانتصارها وانهزامهم، ولا يجدون لهم حيلة إلا المكابرة والمعارضة المستميتة بما درجوا عليه من العقائد الباطلة، وبادعائهم كذب الرسول، وبزعمهم أن إرسال الرسل من البشر أمر لم يقع من قبل، وأن الله لو شاء إبلاغ عباده شيئا لأنزل إليهم الملائكة، وأنكر كفارة مكة البعث والدار الآخرة، واستماتوا في الدفاع عن عقائدهم وآلهتهم، ونسوا أن محمدا عاش فيهم عمرا طويلا لم يقل فيهم يوما قولة كاذبة، ولم يخن فيهم يوما أمانة اؤتمن عليها، وأنهم لذلك كانوا يلقبونه بالصادق الأمين.
ولكنهم فكروا فقط في أن الدعوة الجديدة يجب أن تموت في مهدها، ويجب أن تكتم أنفاسها قبل أن تنبعث حرارة هذه الأنفاس إلى البلاد والقبائل والشعوب.
ووجهت الدعوة الإسلامية بهذا النضال وتحملت جميع مقتضياته وأثقاله، وكانت سورة الأنعام مثالا لتحقيق هذه الدعوة الإسلامية في هذه الفترة. فقد جمعت كل العقائد الصحيحة، وعنيت بالاحتجاج لأصول الدين، وتفنيد شبه الملحدين، وإبطال العقائد الفاسدة، وتركيز مبادئ الأخلاق الفاضلة.
٤- مميزات المكي والمدني :
وضع العلماء ضوابط تميز السور المكية من المدنية، واستنبطوا خصائص الأسلوب والموضوعات التي تناولتها كل مجموعة منها.
فمن خصائص السور المكية ما يأتي :
١- الدعوة إلى التوحيد وعبادة الله وحده وإثبات الرسالة وإثبات البعث والجزاء وذكر القيامة وهولها والنار وعذابها والجنة ونعيمها، ومجادلة المشركين بالبراهين العقلية والآيات الكونية.
٢- وضع الأسس العامة للفضائل الأخلاقية التي يقوم عليها كيان المجتمع، وفضح جرائم المشركين في سفك الدماء. وأكل أموال اليتامى ظلما، ووأد البنات، وما كانوا عليه من سوء العادات.
٣- ذكر قصص الأنبياء والأمم السابقة زجرا للكافرين حتى يعتبروا بمصير المكذبين قبلهم، وتسلية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى يصبر على أذاهم ويطمئن على الانتصار عليهم.
٤- قصر الفواصل مع قوة الألفاظ، وإيجاز العبارة، بما يصخ الآذان ويشتد قرعه على المسامع، وينبه القلوب ويحرك الأفئدة.
ومن خصائص السور المدنية ما يأتي :
١- بيان العبادات والمعاملات، والحدود، ونظام الأسرة، والمواريث، وفضيلة الجهاد، والصلات الاجتماعية، والعلاقات الدولية في السلم والحرب وقواعد الحكم ومسائل التشريع.
٢- مخاطبة أهل الكتاب من اليهود والنصارى، ودعوتهم إلى السلام، وبيان تحريفهم لكتب الله، وتجنيهم على الحق، واختلافهم من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم.
٣- الكشف عن سلوك المنافقين، وتحليل نفسيتهم، وإزاحة الستار عن خباياهم، وبيان خطرهم على الدين.
٤- طول المقاطع والآيات في أسلوب يقرر الشريعة ويوضح أهدافها.
٥- خصائص السور المكية واضحة في سورة الأنعام :
( سورة الأنعام مثل كامل للخصائص المكية، إنها حشد من الصور الفنية العجيبة واللمسات الوجدانية الموحية، والمنطق الطبيعي الحي.. وهي كلها من أولها إلى آخرها تنبض بإيقاع واحد، وتترقرق بماء واحد وتفيض بينبوع زاخر متدفق ) ( ٥١ ).
( إن موضوعها الذي تعالجه من مبدئها إلى منتهاها هو موضوع العقيدة، بكل مقوماتها وبكل مكوناتها، وهي تأخذ بمجامع النفس البشرية وتطوف بها في الوجود كله، وراء ينابيع الحقيقة وموحياتها المستترة والظاهرة في هذا الوجود الكبير.. إنها تطوف بالنفس البشرية في ملكوت السماوات والأرض، تلحظ الظلمات فيها والنور، وترقب الشمس والنجوم، وتسرح في الجنات المعروشة وغير المعروشة، والحياة الباطلة والجارية، وتقف على مصارع الأمم الخالية، وآثارها البائدة والباقية، ثم تسبح مع ظلمات البحر والبر وأسرار الغيب والنفس، والحي يخرج من الميت والميت يخرج من الحي ومع الحبة المستكنة في ظلام الأرض، والنطفة المستكنة في ظلام الرحم. ثم تموج بالجن والأنس، والطير والوحش، والأولين والآخرين والاحياء والأموات، والحفظة من الملائكة على النفس بالليل والنهار.
إنه الحشد الكوني الذي يزحم أقطار النفس، و أقطار الحس، وأقطار اللمس وأقطار الخيال.. ثم إنها اللمسات المبدعة المحببة، التي تنتفض المشاهد بعدها والمعاني أحياء تمرح في النفس والخيال. وإذا كل مكرور مألوف من المشاهد والمشاعر جديد نابض كأنما تتلقاه النفس أول مرة، ولم يطلع عليه من قبل ضمير إنسان. إلا أنها القدرة المبدعة تتبدى في صورة من صورها الكثيرة فما يقدر على بث الحياة هكذا في الصور والمشاعر والمعاني إلا الله الذي بث في الوجود الحياة ( ٥٢ ).
٦- الأغراض الرئيسية لسورة الأنعام :
إن الأغراض الرئيسية التي استهدفتها هذه السورة الكريمة هي تركيز العقائد الأساسية الثلاث التي كان المشركون يومئذ يتنازعون فيها، وهذه العقائدة الأساسية هي :
أولا : توحيد الله. ويتصل بهذا إقامة الدليل على وحدة الألوهية، بلفت النظر إلى آثار الربوبية، وإلى صفات الله الخالق المتصرف، كما يتصل بها إبطال عقيدة الشرك، وشبهات المشركين، وتقرير أن العبادة والتوجه والتحريم والتحليل، إنما ترجع إلى الله.
ثانيا : الإيمان برسوله الذي أرسل، وكتابه الذي أنزل، وبيان وظيفة هذا الرسول ورد الشبهات التي تثار حول الوحي والرسالة.
ثالثا : الإيمان باليوم الآخر وما يكون فيه من ثواب وعقاب وجزاء.
وسوف نتناول كل غرض من هذه الأغراض بالتوضيح :
( أ‌ ) وحدة الألوهية :
لقد بدأت سورة الأنعام بتقرير الحقيقة الأولى في كل دين وعلى لسان كل رسول، تلك الحقيقة التي تؤمن بها الفطر السليمة ويدل عليها العالم بأرضه وسمائه. وما فيه من مخلوقات ناطقة
وصامته ظاهرة وخفية، وما فيه من تحولات وتقلبات ونور وظلمات ؛ وهذه الحقيقة هي أن الإله الذي له ( الحمد ) المطلق والتنزيه الذي لا يحد هو الله، لأنه هو الذي ( خلق ) وهو الذي ( جعل ) ؛ فالخلق إنشاء وإبداع، والجعل تصريف وتقليب، والعالم أجمع في دائرتيهما ؛ فلا ينفك شيء منه عن كلا هذين المظهرين :( خلق ) و ( جعل ) ومقتضى ذلك أن المخلوق المجهول، لايمكن أن يتسامى إلى مرتبة الخالق الجاعل فيعبد كما يعبد ؛ ويقصد كما يقصد ؛ ذلك هو مطلع السورة ( الحمد لله الذي خلق السموات والأرض، وجعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ). وكل ما جاء في هذه السورة إنما هو بيان وتفصيل ؛ أو تمثيل وتطبيق على هذه الحقيقة أحيانا بصفة مباشرة، وأحيانا بوسائط تقرب أو تبعد.
وهذا هو المعنى الذي يعبر عنه بعض العلماء بأنه الحكم بتوحيد الألوهية استدلالا بوحدانية الربوبية، وذلك في القرآن كثير فأول فاتحة الكتاب :
الحمد لله رب العالمين.
وأول الكهف :
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب.
وأول فاطر :
الحمد لله فاطر السموات والأرض جاعل الملائكة رسلا.
ولو ذهبنا نتتبع هذا المعنى فأوغلنا في التتبع، ورأينا الكثير من الآيات فإن هذا هو أصل الأديان كلها وهو الحقيقة الأولى كما تجلى ذلك في سورة الأنعام. وقد ساقت السورة عددا من الأدلة على توحيد الله، فهي تلفت النظر إلى مظاهر الملك التام، والسلطان القاهر في الخلق والتصرف الكامل، والعلم المحيط فتقول :
قل لمن ما في السموات والأرض قل لله. ( الأنعام : ١٢ ).
وله ما سكن في الليل والنهار وهو السميع العليم. ( الأنعام : ١٣ ).
وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر و البحر. ( الأنعام : ٥٩ ).
وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار. ( الأنعام : ٦٠ ).
وهي تلفت النظر إلى ملكوت السموات والأرض، وما خلق الله من شيء، لأن هذا النظر لابد أن يثمر الإيمان بالله.
بل تلفت نظر الإنسان إلى نفسه، ليتفكر في داخله كيف خلق ؟ وكيف يفكر وكيف يعيش وكيف يموت ؟
وبهذا تكون الحجة عامة لكل ذي عقل سليم وفطرة صافية وإخلاص في تطلب الحقيقة من دلائلها المبثوثة في آفاق السماوات والأرض ولذلك يقول جل شأنه :
سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أ

المفردات :
ثم الذين كفروا بربهم يعدلون : أي يسوون به غيره، تعالى الله عن ذلك.
التفسير :
١- الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور... الآية. الثناء الجميل والحمد كله مستحق لله تعالى، الذي أنشأ بقدرته هذه العوالم العلوية والسفلية وأوجد ما فيها من مخلوقات ناطقة وصامتة، وظاهرة وخافية وأحدث ما يتعاقب عليها من تحولات وتقلبات ونور وظلمات.
وجعل الظلمات والنور. أي جعل الله ظلام الليل ليكون سكنا. وجعل نور النهار ليكون مجال نشاط الناس وسر الحياة لزروعهم وحيواناتهم.
ثم الذين كفروا بربهم يعدلون. أي بعد هذا الخلق الكبير في خلق السماء وما أضلت، وخلق الأرضين وما أقلت، وتسخير الليل والنهار، فإن الذين كفروا يشركون بالله، ويعدلون به ويساوون به ما لا يقدر على شيء وهذا نهاية الحمق.
وقد بدأت خمس سور بالحمد لله. وهي : سورة الفاتحة، وسورة الأنعام، وسورة الكهف وسورة سبأ، وسورة فاطر.
فأول سورة الفاتحة : الحمد لله رب العالمين.
وأول سورة الأنعام : الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور.
وأول سورة الكهف : الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا
وأول سورة سبأ : الحمد لله الذي له ما في السموات وما في الأرض وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير.
وأول سورة فاطر : الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلا أولى أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شيء قدير.
المفردات :
ثم قضى أجلا : هو أجل الموت.
وأجل مسمى عنده : أجل القيامة.
تمترون : تشكون، يقال امترى في الأمر يمتري امتراء شك فيه، والمرية الشك.
التفسير :
٢- هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده... الآية.
هو الذي خلق آدم عليه السلام من الطين، ثم تناسل منه أبناءه من نطفة ثم علقة ثم مضغة، وكل فرد قد قدر عليه وهو في بطن أمه رزقه وأجله وشقي أو سعيد.
فمعنى ثم قضى أجلا : يعني حكم بالموت على الإنسان عند نهاية عمره.
وأجل مسمى عنده : يعني القيامة والبعث، وقيل الأجل الأول ما بين أن يخلق الإنسان إلى أن يموت والأجل الثاني ما بين أن يموت إلى أن يبعث.
ومن شأن القرآن أن يقابل بين الظلمات والنور، والكفر والإيمان، وهنا قابل بين الأجل الأول هو الحياة ونهايتها والموت والأجل الثاني من الموت إلى البعث.
وكل هذه الأمور من شأنها أن تبعث في النفس اليقين بوجود الإله الخالق الرازق.
ثم أنتم تمترون. ثم بعد كل هذه الأدلة على وحدانية الله، وعلى أن يوم القيامة حق، تشكون في ذلك، وتجادلون المؤمنين فيما تشكون فيه بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير.
قال الشوكاني في فتح القديم :( أي كيف تشكون في البعث مع مشاهدتكم في أنفسكم من الابتداء والانتهاء ما يذهب بذلك، فإن من خلقكم من طين، وصيركم أحياء تعلمون وتعقلون، وخلق لكم هذه الحواس والأطراف، ثم سلب ذلك عنكم، فصرتم أمواتا، وعدتم إلى ما كنتم عليه من الجمادية، لا يعجزه أن يبعثكم، ويعيد هذه الأجسام كما كانت ويرد إليها الأرواح.
المفردات :
وجهركم : أي وعلنكم، يقال جهر بقراءته يجهر بها جهرا أي أعلنها.
التفسير :
٣- وهو الله في السموات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون. وهو الله المالك المتصرف المعبود في السموات وفي الأرض.
قال تعالى : وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله. ( الزخرف : ٨٤ ).
يعلم سركم وجهركم. يعلم ما انطوت عليه قلوبكم، وما تفعلون بجوارحكم علانية.
ويعلم ما تكسبون. من الخير والشر، فيحصي ذلك عليكم ليجازيكم به عند معادكم.
وتتوالى الآيات كلها تبين عظمة القدرة الخالقة لهذا الكون الموجودة للإنسان لتنبه الجاحد وتوقظ الحس والمشاعر، وتدعوا الغافل والمستخف بشرائع الله، أن يعود إلى الله، وأن يخشاه، ويقي محارمه، لأن الله يطلع على كل ما ظهر وما بطن.
المفردات :
من آيات ربهم : المراد بالآيات، القرآن، أو ما يعمه، من الآيات الكونية.
معرضين : الإعراض ؛ الانصراف عن الشيء.
التفسير :
٤- وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين. وما تأتيهم من حجة من حجج ربهم. دالة على وحدانية الله وصدق رسوله – سواء أكانت قرآنية أو كونية – إلا قابلوها بالإعراض، واستقبلوها بالنبذ والاستخفاف.
والآية الكريمة كلام مستأنف لبيان كفرهم بآيات الله وإعراضهم عنها بالكلية، بعد بيان كفرهم بالله - تعالى – وإعراضهم عن بعض آيات التوحيد، وإمترائهم في البعث و إعراضهم عن أدلته ( ٥٤ ).
٥- فقد كذبوا بالحق لما جاءهم... الآية. أي فقد زادوا – على إعراضهم – تكذيبهم بالحق لما جاءهم على لسان محمد صلى الله عليه وآله وسلم، من غير تريث ولا تفكر والآية السابقة بينت إعراضهم عن التأمل في الدلائل والبيانات وهذه الآية بينت تكذيبهم بالآيات ثم استهزاءهم بها.
فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزءون. أي فسوف تأتيهم العقوبات التي توعدهم الله بها، جزاء تكذيبهم بالحق وإصرارهم على هذا التكذيب.
قال الزمخشري في الكشاف :
فسوف يأتيهم أنباء. الشيء الذي كانوا يستهزءون وهو القرآن، أي أخباره وأحواله، بمعنى : سيعلمون بأي شيء استهزءوا وسيظهر لهم أنه لم يكن بموضع استهزاء، وذلك عند إرسال العذاب عليهم في الدنيا أو في يوم القيامة، أو عند ظهور الإسلام وعلو كلمته.
المفردات :
من قرن : القرن ؛ مدة من الزمان يعيش فيها أهل عصر. وقد يطلق على أهله، وهو المراد هنا، وأشهر الأقوال أن القرن مائة سنة.
مكناهم في الأرض : أي جعلنا لهم فيها مكانا.
وأرسلنا السماء عليهم مدرارا : أي أرسلنا المطر أو السحاب عليهم كثير الدر بالمطر.
التفسير :
٦- ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم... الآية. أعموا عن الحق وأعرضوا عن دلائله ولم يروا بتدبر وتفكر، كم أهلكنا من قبلهم من أقوام كانوا أشد منهم قوة وأكثر جمعا. حيث منحناهم الغنى والسعة والاقتدار على التعميد فعمروا الأرض وبنوا الحصون والقصور.
وأرسلنا السماء عليهم مدرارا وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم. عدد الله النعم على هؤلاء السابقين حيث أرسل المطر متتابعا وجعله نافعا بغزارة وكثرة، وعبر عنه بالسماء لأنه ينزل منها.
وصفهم القرآن هنا بأنهم كانوا منعمين بالمياه الكثيرة التي يسيرون مجاريها كما يشاءون، فيبنون مساكنهم على ضفافها، ويتمتعون بالنظر إلى مناظرها الجميلة.
وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم. أي صيرنا الأنهار تجري من تحت مساكنهم. وبين مزارعهم فيمتعون حسن مرآها، وجمال جريانها، ولا يجدون صعوبة في الانتفاع بها.
فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين. أي فكفروا بنعمة الله وجحدوا فضل الله عليهم، فأهلكناهم بسبب ذنوبهم إذ الذنوب سبب الانتقام وزوال النعم.
والإهلاك بسبب الذنوب له مظهران :
أحدهما : أن الذنوب ذاتها تهلك الأمم، إذ تشيع فيها الترف والغرور والفساد في الأرض، وبذلك تنحل وتضمحل وتذهب قوتها.
المظهر الثاني : إهلاك الله تعالى لها عقابا على أوزارها ) ( ٥٥ ).
جاء في ظلال القرآن للأستاذ سيد قطب :
وتفيد الآيات أن الذنوب والفساد سبيل إلى هلاك الأمة والأفراد، إما بقارعة من الله عاجله كما كان يحدث في التاريخ القديم، مثل غرق قوم نوح، وهلاك عاد وثمود ومدين وقوم لوط.
وإما بالانحلال البطيء الفطري الطبيعي الذي يسري في كيان الأمم مع الزمن وهي التوغل في متاهة الذنوب !
( وأمامنا في التاريخ القريب – نسبيا– الشواهد الكافية على فعل الانحلال الأخلاقي، والدعارة الفاشية، واتخاذ المرأة فتنة وزينة، والترف والرخاوة، والتلهي بالنعيم، أمامنا الشواهد الكافية من فعل هذا كله، في انهيار الإغريق والرومان – وقد أصبحوا أحاديث – وفي الانهيار الذي تتجلى أوائله وتلوح نهايته في الأفق في أمم معاصرة، كفرنسا وانجلترا كذلك – على الرغم القوة الظاهرة والثراء العريض ) ( ٥٦ ).
وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين. من سنن الله إهلاك المفسدين إما بقارعة وإما بتسليط بعضهم على بعض حتى يهلك الفاسد، ويتولى الملك قوة جديدة امتحانا وابتلاء لها وقد تكون صالحة أو طالحة، فالظالم سوط الله في الأرض ينتقم به ثم ينتقم منه قال تعالى : ولو دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض. ( البقرة : ٢٥١ ).
وهلاك المفسد وعقوبة الظالم لا ينقصان من ملك الله تعالى شيئا، فهو سبحانه كلما أهلك أمة أنشأ من بعدها أخرى وفي الحديث القدسي :
( يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أثقى قلب رجل واحد ما زاد ذلك في ملكي شيئا يا عبادي لو أن أولكم وأخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئا يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم اجتمعوا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كلا مسألته ما نقص ذلك من ملكي شيئا، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها عليكم فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ( ٥٧ ).
ويقول الله تعالى : وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم. ( محمد : ٣٨ ).
المفردات :
في قرطاس : القرطاس ؛ - بتثليث القاف، والكسر أشهر – ما يكتب فيه
فلمسوه بأيديهم : اللمس ؛ كالمس ؛ إدراك الشيء بظاهر البشر. وقد يستعمل بمعنى طلب الشيء والبحث عنه. والمراد هنا : الأول.
إن هذا إلا سحر : أي خداع وتمويه.
التفسير :
٧- ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم... الآية. لقد بلغ الحزن والأسف من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كل مبلغ لإصرار قومه على الكفر مع وضوح الدليل والحجة على صدقه فبين القرآن له هنا فسادهم وجحودهم وعنادهم حتى لو ظهر الدليل على صدقه واضحا للعيان ملموسا باليد.
ومعنى الآية :
إننا لو نزلنا عليك كتابا من السماء قرطاس – كما اقترحوا – فشاهدوه بأعينهم وهو نازل عليك ولسموه بأيديهم منذ وصوله إلى الأرض، وباشروه بعد ذلك بجميع حواسهم بحيث يرتفع عنهم كل ارتياب، ويزول كل إشكال... لو أننا فعلنا ذلك استجابة لمقترحاتهم المتعنتة، لقالوا بلغة العناد والجحود ما هذا الذي أبصرناه ولمسناه إلا سحر مبين.
والقرطاس بكسر القاف وقد تفتح وتضم، ما يكتب عليه من رق أو ورق أو من غيرهما، ولا يطلق على ما يكتب فيه قرطاس إلا إذا كان مكتوبا.
وقريب من هذه الآية قوله تعالى :
وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين. ( النمل : ١٤ ).
وقوله سبحانه فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون. ( الأنعام : ٣٣ ).
وقوله تعالى : ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون. ( الحجر : ١٤، ١٥ ).
المفردات :
لقضي الأمر : أي لتم أمر إهلاككم.
ثم لا ينظرون : أي لا يهملون طرفة عين.
التفسير :
٨- وقالوا لولا أنزل علينا ملك يحكي القرآن لونا آخر من اقتراحات المشركين التي تؤيد تعنتهم وجحودهم للحق، فالرسول أمامهم عرف بينهم بالصدق والأمانة وحسن الخلق، والقرآن أمامهم يلمسون إعجازه وتفوقه وسلاسته وسلامته من كل عيب، ويدركون أنه فوق مستوى البشر ومع كل ذلك يقترحون ألوانا من الاقتراحات ومنها ما حكاه القرآن الكريم في عدد من السور، وكمثال ذلك ما ورد في سورة الإسراء وهو يتضمن مثل هذا الاقتراح بمجيء ملك أو ملائكة تصدق الرسول في دعواه الرسالة واقتراحات عدة تدل على التعنت. وتدل على الجهل بكثير من الحقائق الكونية، وكثير من القيم الحقيقية.
قال تعالى : ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا. ( الإسراء : ٨٩-٩٥ ).
فقد اقترحوا في هذه الآيات تفجير ينابيع الأرض في مكة حتى تنبت الجنان والبساتين، أو نزول عذاب من السماء أو مجيء الله والملائكة يصدقون رسالته أو أن يملك محمد بيتا من الذهب، أو يصعد في السماء شريطة : أن يأتي بكتاب معه من السماء يؤيد صدقه.
وكان جواب القرآن إنني بشر يوحى إلي برسالة تخاطب العقل والفطرة وتقدم الأدلة العقلية على صدقها.
وقد كذبت أمم السابقين بسبب استكثارهم أن يختار الله بشرا ثم يوحي إليه بالرسالة، مع أن هذا لا غرابة فيه فالرسول ينبغي أن يكون بلسان قومه ليبين لهم، ولو كانت الأرض فيها ملائكة تمشي في منطقة منها لأرسل الله إليهم ملكا مثلهم يحمل رسالة الله إليهم.
وقد كان تصور عرب الجاهلية عن الملائكة تصورا فجا فيه الكثير من الأخطاء فقد زعموا أن الملائكة بنات الله، وأن الله قد اختار زوجة من الجن لتنجب له الملائكة، وسموا بعض الآلهة بأسماء الملائكة، وقد صحح القرآن ضلالاتهم في سورة النجم وفي غيرها من السور.
وقالوا لولا أنزل عليه ملك. روى ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن محمد بن إسحاق في سبب نزول هذه الآية قال :
( عاد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قومه إلى الإسلام وكلمهم فأبلغ، فقال زمعة بن الأسود بن المطلب، والنضر بن الحارث وأبي بن خلف، والعاص بن وائل بن هشام : لو جعل معك يا محمد ملك يحدث عنك الناس، ويرى معك فأنزل الله في ذلك قوله : وقالوا لولا أنزل عليك ملك... ).
أي قال الكافرون للنبي صلى الله عليه وآله وسلم هلا كان معك يا محمد ملك لكي يشهد بصدقك، ونسمع كلامه ونرى هيئته، وحينئذ نؤمن بك ونصدقك.
ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون. لقد جرت سنة الله في إنزال الملائكة أن يرسلهم لإهلاك المكذبين. كما أرسلهم إلى قوم لوط، أو جرت سنته في أن من طلب آية أو معجزة ثم تحقق إرسال الآية ولم يؤمن أن يهلكه الله ولا ينظره فقد أعطى ثمود الناقة آية فعقروها : فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها ولا يخاف عقباها ( الشمس : ١٤-١٥ ). أو أن الله لو أرسل ملكا في سورته الحقيقية فشاهدوه بأعينهم، لزهقت أرواحهم من هول ما يشاهدون من غير تأخير أو انتظار.
من أجل هذا لم يستجب لأهل مكة حتى لا ينزل بهم عذاب الاستئصال تكريما للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وتحقيقا لوعده : وما كان الله أن يعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون. ( الأنفال : ٣٣ ).
المفردات :
وللبسنا : أي خلطنا.
التفسير :
٩- ولو جعلنا ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون. أي لو استجبنا لهم في إنزال ملك لمثلناه رجلا ليقوى على مشاهدته وسماع كلامه لعدم استطاعتهم رؤية الملك على صورته الأصلية.
ومن أجل هذا كانت الملائكة تأتى الرسل على هيأة البشر أحيانا، وكان جبريل يأتي النبي صلى الله عليه وآله وسلم في صورة دحية الكلبى، وقد رآه النبي صلى الله عليه وآله وسلم على صورته الأصلية مرتين وذكر ذلك في أول سورة النجم.
ولو جعل الله الملاك بشرا ليأنسوا به لاعتقدوا أنه بشر لأنهم لا يدركون منه صورته وصفاته التي تمثل بها وحينئذ، يقعون في نفس اللبس والاشتباه.
قال الإمام القرطبي :
قوله تعالى : ولو جعلنه ملكا لجعلناه رجلا. ( لأن كل جنس يأتي بجنسه، وينفر من غير جنسه فلو جعل الله تعالى الرسول إلى البشر ملكا لنفروا من مقاربته، ولما أنسوا به، ولداخلهم من الرعب من كلامه، والاتقاء له، ما يكفهم عن كلامه، ويمنعهم عن سؤاله فلا تعم المصلحة، ولو نقله عن صورة الملائكة إلى مثل صورتهم ليأنسوا به و ليسكنوا إليه لقالوا لست ملكا، وإنما أنت بشر فلا نؤمن بك، وعادوا إلى مثل حالهم ) ( ٥٨ ).
والخلاصة أن الحكمة الإلهية اقتضت أن يكون الرسول بشرا من جنس وقومه وأن يؤيده الله بالمعجزات حتى يمكن الاقتداء به في قوله وفعله وسلوكه.
قال تعالى : وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم... الآية. ( إبراهيم ٤ ).
وقال تعالى : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا. ( الأحزاب : ٢١ ).
المفردات :
فحاق : حاق به الأمر ؛ أحاط به. ولا يكاد يستعمل إلا في الشر.
التفسير :
١٠- ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزءون. سخر الكفار من رسل الله واستهزءوا بهم، فحاق بالكافرين الخسف والزلازل والطاعون والغرق، قال تعالى : ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم. ( هود : ٣٨، ٣٩ ).
لقد وقف الكفار موقف العناد من رسل الله وهددوهم بالطرد والأذى والتنكيل : وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين. ( إبراهيم : ١٣ ).
وتأتي هذه الآية لبيان مسلك الكفار في إيذاء الرسل والسخرية بهم كما جاء في قوله تعالى :
وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزءون. ( الحجر : ١١ ).
وقد أنزل الله بالمستهزئين بالرسل ما يستحقونه من العذاب فأغرق الله قوم نوح.
وأغرق فرعون وقومه وأهلك هامان وجنوده.
وفي الآية ما يأتي :
١- تعليم النبي صلى الله عليه وآله وسلم سنن الله مع الأمم.
٢- تسلية للرسول صلى الله عليه وآله وسلم وعزاء له مما يلقى من المشركين من عناد، وتثبيت قلبه.
٣- بشارة له بحسن العاقبة، وما سيكون له من نصر وتأييد، حيث أهلك سبحانه المستهزئين به قال تعالى : إنا كفيناك المستهزئين. ( الحجر : ٩٥ ).
والخلاصة :
لا تحزن يا محمد من إيذاء الكفار لك فهذا شأن الدعاة والرسل، ولقد أوذي من سبقك من الرسل الكرام وسخر الساخرون منهم فصبروا على ما كذبوا وأوذوا وجاءهم في النهاية نصر الله الذي وعدهم، أما أعداء الرسل فقد نزل بهم من العذاب والنكال ما يستحقونه جزاء استهزائهم، قال تعالى : الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد فصب عليهم ربك سوط عذاب إن ربك لبالمرصاد. ( الفجر : ١١ : ١٤ ).
١١- قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين.
كانت للعرب رحلة إلى الشام ورحلة إلى اليمن بحثا عن طلب المعاش، فأمرهم الله أن يسيروا في الأرض وطلب منهم التأمل والاعتبار. بما أصاب الأمم السابقة التي كذبت أنبياءها وخرجت على منهج الله.
إن هذا التفسير التربوي للتاريخ جزء من منهج القرآن الكريم حيث فتح العيون والأبصار للتأمل والاعتبار وحيث بين القرآن أن سنن الله باقية خالدة ومن السنن مكافأة العاملين ومعاقبة الظالمين.
إن هذه الآية دعوة إلى الرحلة والسياحة والتأمل والاعتبار في قوانين الله مكافأة العاملين حيث قال تعالى : ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون. ( الأنبياء : ١٠٥ )، ومن قوانين الله إهلاك المكذبين. قال تعالى : ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور. ( سبأ : ١٧ ).
والسعيد من اتعظ بغيره، وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتحين الفرصة لتحريك العظة والاعتبار في قلوب المؤمنين. وفي غزوة تبوك مر على قرى قوم لوط، فاستحث راحلته، وحنى ظهره مشفقا ضارعا إلى الله، وقال صلى الله عليه وآله وسلم :( لا تمروا على قرى القوم الذين ظلموا أنفسهم إلا وأنتم مشفقون أن يصيبكم ما أصابهم ) ( ٥٩ ).
المفردات :
كتب على نفسه الرحمة : أي أوجبها على نفسه، فضلا منه وكرما.
التفسير :
١٢- قل لمن ما في السموات والأرض قل لله... الآية. أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين الجاحدين المعرضين عن دعوتك : لمن هذا الكون بكل ما فيه من يملك السماء وما فيها من شموس وأقمار وملائكة وأبراج وأفلاك ؟
ومن يملك الأرض وما فيها من نبات، وإنسان وحيوان وحشرات وإنس وجن وغير ذلك من المخلوقات ؟
إن الإجابة الصحيحة التي يعترفون بها ولا يستطيعون إنكارها، أن هذا الكون كله قد خله الله.
قال تعالى : ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون. ( العنكبوت : ٢١ ).
وإنما أمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أن يتولى الإجابة عنهم لأن هذا الجواب معترف به منهم لا يسعهم إنكاره.
قال الإمام الرازي : وقوله : قل لمن ما في السموات والأرض. سؤال، وقوله : قل لله. جواب فقد أمره الله تعالى بالسؤال أولا ثم الجواب ثانيا، وهذا إنما يحسن في الموضع الذي يكون الجواب قد بلغ في الظهور إلى حيث لا يقدر على إنكاره منكر، ولا يقدر على دفعه دافع، وهنا كذلك لأن القوم كانوا معترفين بأن العالم كله لله وتحت تصرفه وقهره وقدرته ( ٦٠ ).
قال الزمخشري :
والمقصود من السؤال هنا، التبكيت والتوبيخ.
كتب على نفسه الرحمة. أي أوجهها على نفسه لعباده فضلا منه ومنة فهو سبحانه خالق الكون ومبدعه على غير مثال سابق، وهو سبحانه يسمع النداء ويجيب الدعاء، وهو سبحانه غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، وهو سبحانه قريب من عباده، متحنن على خلقه، وهو سبحانه قسم الرحمة مائة جزء أنزل جزءا واحدا في الدنيا يتراحم به الناس وادخر ٩٩ جزءا يرحم بها عباده يوم القيامة، وهو سبحانه، يتلطف ويتحنن على عباده فيفتح بابه بالليل ليتوب مسيء النهار ويفتح بابه بالنهار ليتوب مسيء الليل، وفي الحديث الصحيح :( ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير فينادي يا عبادي : هل من داع فأستجب له، هل من مستغفر فأغفر له، هل من تائب فأتوب عليه، هل من طالب حاجة فأقضيها له حتى يطلع الفجر ( ٦١ ).
ومن رحمة الله بعباده أنه يجمعهم للجزاء والثواب والعقاب يوم القيامة، وبذلك يثق المؤمن أن وراء هذه الدنيا دارا أخرى هي دار الجزاء العادل، والفاجر يرتدع وينزجر ولا يتمادى في فجوره، ومن رحمة الله أن جعل جزاء الحسنة عشر أمثالها وجعل جزاء السيئة سيئة مثلها، وفي الصحيحين، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( إن الله لما خلق الخلق كتب كتابا عنده فوق العرش إن رحمتي تغلب غضبي ) ( ٦٢ ).
وقد أفاض الأستاذ سيد قطب عند تفسير هذا المقطع من الآية في بيان فضل الله ورحمته وكرمه ولطفه وإنعامه على عباده.
ثم نقل طائفة كثيرة من الأحاديث النبوية الشريفة في بيان رحمة الله وفضله، ثم نقل جانبا من سعة رحمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتربيته لأصحابه على معاني الرحمة حيث بين لهم أن امرأة بغيا رأت كلبا في يوم حار يطيف ببئر قد أخرج لسانه من العطش فنزعت خفها فسقته به فغفر الله لها ( ٦٣ ) وفي رواية عند مالك والشيخين أن رجلا سقى كلبا فشكر الله له فغفر له، قالوا يا رسول الله وإن لنا في البهائم لأجرا ؟ قال : في كل كبد رطبة أجر. ( ٦٤ ).
ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه. وهذا الجمع من سعة فضل الله ورحمته وعدله بين عباده فقد جمعهم لإثابة المحسن ومعاقبة المسيء، وقد أكد هذا المعنى بلام القسم وبنون التأكيد الثقيلة، وبقوله سبحانه لا ريب فيه. أي، ه يوم لا ينبغي لأحد أن يرتاب فيه لوضوح أدلته.
الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون. ستكون خسارتهم شديدة يوم القيامة، هؤلاء الذين عطلوا أماكن الإدراك في أنفسهم، فعموا أعينهم عن الحق، وصموا آذانهم عن سماع النصح، وأغلقوا قلوبهم عن التفتح لنداء الإيمان، وأهدروا قواهم العقلية وعطلوها عن النظر في آيات الله.
لقد خسروا أنفسهم فلم تعد لهم نفس تؤمن، إن هؤلاء لم يخسروا شيئا ويربحوا شيئا، إن خسارتهم كاملة فقد خسروا أنفسهم وخسروا بواعث الإيمان وخسارتهم أكبر الخسائر في الدنيا وعند البعث والجزاء.
قال الألوسي : في تفسيره روح المعاني :
الفاء في قوله : فهم لا يؤمنون. للدلالة على أن عدم إيمانهم وإصرارهم على الكفر مسبب عن خسرانهم، فإن إبطال العقل والانهماك في التقليد أدى بهم إلى الإصرار على الكفر والامتناع عن الإيمان.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وفي الآيات الخمس ١٢ – ١٦ من سورة الأنعام.
نجد القرآن قد أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله : قل خمس مرات وهو أسلوب إنذاري تلقيني كثر استعماله في هذه السورة، لأنه يلقن النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحجج التي تزلزل كيان المشركين، وتأتي على بنيانهم من القواعد.
وفضلا عن ذلك فهو لون من التفنن في أسلوب الدعوة إلى الله يحتاج إليه المرشدون والدعاة.
لأن التزام أسلوب واحد في إقامة الحجة على الخصم يفضي إلى السآمة والملل، ومن هنا فقد لون القرآن في أساليبه حتى تناسب العقول على اختلاف مداركها. قال تعالى : وكذلك أنزلناه قرءانا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا. ( طه : ١١٣ ).

المفردات :
وله ما سكن : سكن ؛ من السكنى. والمعنى : ما اشتمل عليه الليل والنهار. وقيل : سكن هنا ؛ من السكون والمعنى وله ما سكن في الليل والنهار وما تحرك. فاكتفى بأحد الضدين عن الآخر. كما جاء في قوله تعالى :(... سرابيل تقيكم الحر... ) أي البرد.
التفسير :
١٣- وله ما سكن في الليل والنهار وهو السميع العليم. قيل المراد ما سكن في الليل والنهار، وما تحرك فيهما.
قال القرطبي : سكن معناه هدأ واستقر والمراد وما تحرك فحذف لعلم السامع، وقيل : خص السكان بالذكر لأن ما يعمه السكون أكثر مما تعمه الحركة.
وقال الشوكاني في تفسيره فتح القدير :
وله ما سكن في الليل والنهار. أي كل شيء فإن الأشياء منها ما هو ساكن كل الوقت وهو الجمادات، ومنها ما يسكن في الليل وهو أغلب الحيوانات، ومنا ما يسكن في النهار ككثير من الطيور والحشرات والسباع.
وهو السميع العليم. المطلع على كل شيء المجازي على الفتيل والقطمير، فهو يسمع دبيب النمل في الليلة الظلماء تحت الصخرة الملساء. يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. ( غافر : ١٩ ).
ومن كان كذلك فلا يغيب عنه إيمان مؤمن، ولا كفر كافر ولا دعوة داع، ولا حاجة محتاج.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وفي الآيات الخمس ١٢ – ١٦ من سورة الأنعام.
نجد القرآن قد أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله : قل خمس مرات وهو أسلوب إنذاري تلقيني كثر استعماله في هذه السورة، لأنه يلقن النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحجج التي تزلزل كيان المشركين، وتأتي على بنيانهم من القواعد.
وفضلا عن ذلك فهو لون من التفنن في أسلوب الدعوة إلى الله يحتاج إليه المرشدون والدعاة.
لأن التزام أسلوب واحد في إقامة الحجة على الخصم يفضي إلى السآمة والملل، ومن هنا فقد لون القرآن في أساليبه حتى تناسب العقول على اختلاف مداركها. قال تعالى : وكذلك أنزلناه قرءانا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا. ( طه : ١١٣ ).

التفسير :
وليا : أي ناصرا ومعينا.
فاطر : أي خالق يقال فطر الله الإنسان يفطره. فطرة. أي خلقه.
وهو يطعم ولا يطعم : أي هو الرازق لغيره ولا يرزقه أحد.
التفسير :
١٤- قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السموات والأرض وهو يطعم ولا يطعم... الآية. أي : قل لهم يا محمد – موبخا وزاجرا – بأي عقل أبحتم لأنفسكم الإشراك بالله، واتخذتم من دونه معبودا سواه مع أنه باعترافكم هو الخالق لكم وللسماوات والأرض، ولكل شيء ؟
وهو سبحانه الرازق يرزق غيره ولا يرزقه غيره، فهو الذي يرزق الكائنات الحية ويطعمها، ويمدها بما يحفظ وجودها وبقائها وليس هو بحاجة إلى من يرزقه ويطعمه.
وكيف يصح أن يكون مصدر العطاء محتاجا إلى عطاء ؟
وكيف يتخذ المضلون من البشر أولياء مع الغني الحميد الفعال لما يريد.
قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونن من المشركين. أي قل أيها الرسول بعد إيراد هذه الآيات والحجج الدالة على وحدانية الله، إني أمرت من خالقي أن أكون أول من يسلم له وجهه ويخصه بالعبادة، كما أني نهيت عن أن أكون من المشركين الذين يجعلون مع الله آلهة أخرى. ( وصح عطف الجملة الثانية الإنشائية على الأولى الخبرية لأن الأولى الخبرية في اللفظ، ولكنها إنشائية في المعنى فكانت في قوة الجملة الطلبية والتقدير :
كن أول من أسلم، ولا تكونن من المشركين ( ٦٥ ).
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وفي الآيات الخمس ١٢ – ١٦ من سورة الأنعام.
نجد القرآن قد أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله : قل خمس مرات وهو أسلوب إنذاري تلقيني كثر استعماله في هذه السورة، لأنه يلقن النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحجج التي تزلزل كيان المشركين، وتأتي على بنيانهم من القواعد.
وفضلا عن ذلك فهو لون من التفنن في أسلوب الدعوة إلى الله يحتاج إليه المرشدون والدعاة.
لأن التزام أسلوب واحد في إقامة الحجة على الخصم يفضي إلى السآمة والملل، ومن هنا فقد لون القرآن في أساليبه حتى تناسب العقول على اختلاف مداركها. قال تعالى : وكذلك أنزلناه قرءانا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا. ( طه : ١١٣ ).

١٥- قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم. أي قل يا محمد لهؤلاء، الذين دعوك إلى مشاركتهم في عبادة آلهتهم، إني أخاف عذاب يوم تشيب فيه الولدان. ( وهذه الآية جملة مزلزلة على قلوب المشركين في ذلك الزمان، وقلوب المشركين بالله في كل زمان.
جملة مزلزلة تصور العذاب في ذلك اليوم العظيم يطلب الفريسة، ويلحق عليها ويهجم ليأخذها، فلا تصرفه عنها إلا القدرة القادرة التي تأخذ بخطامه فتلويه عنها ). ( ٦٦ )
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وفي الآيات الخمس ١٢ – ١٦ من سورة الأنعام.
نجد القرآن قد أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله : قل خمس مرات وهو أسلوب إنذاري تلقيني كثر استعماله في هذه السورة، لأنه يلقن النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحجج التي تزلزل كيان المشركين، وتأتي على بنيانهم من القواعد.
وفضلا عن ذلك فهو لون من التفنن في أسلوب الدعوة إلى الله يحتاج إليه المرشدون والدعاة.
لأن التزام أسلوب واحد في إقامة الحجة على الخصم يفضي إلى السآمة والملل، ومن هنا فقد لون القرآن في أساليبه حتى تناسب العقول على اختلاف مداركها. قال تعالى : وكذلك أنزلناه قرءانا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا. ( طه : ١١٣ ).

المفردات :
من يصرف عنه يومئذ : أي من يبعد عنه العذاب يوم القيامة.
التفسير :
١٦- من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه وذلك الفوز المبين. تصور الآية هول هذا العذاب فمن نجاه الله منه وصرف عنه هذا العذاب في اليوم الآخر فقد شملته الرحمة الإلهية، وهذا هو الفوز الأكبر، قال تعالى : فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وفي الآيات الخمس ١٢ – ١٦ من سورة الأنعام.
نجد القرآن قد أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله : قل خمس مرات وهو أسلوب إنذاري تلقيني كثر استعماله في هذه السورة، لأنه يلقن النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحجج التي تزلزل كيان المشركين، وتأتي على بنيانهم من القواعد.
وفضلا عن ذلك فهو لون من التفنن في أسلوب الدعوة إلى الله يحتاج إليه المرشدون والدعاة.
لأن التزام أسلوب واحد في إقامة الحجة على الخصم يفضي إلى السآمة والملل، ومن هنا فقد لون القرآن في أساليبه حتى تناسب العقول على اختلاف مداركها. قال تعالى : وكذلك أنزلناه قرءانا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا. ( طه : ١١٣ ).

المفردات :
وإن يمسسك : المس ؛ الإصابة. يقال : مسه السوء والكبر والعذاب والتعب أي أصابه ولحق به.
بضر : أي ببلية كمرض أو فقر.
التفسير :
١٧-وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير...
بينت الآيات السابقة أن الله سبحانه هو المتصرف في اليوم الآخر، وبينت هذه الآية أن الله سبحانه هو المتصرف في شؤون الدنيا.
والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو لكل من يتأتى منه الخطاب.
والمعنى وإن يصبك أيها الإنسان ضر كمرض وفقر وحزن وغير ذلك من البلايا التي يختبر الله بها عباده، فلا يرجى لكشف هذا الضر غيره، إذ لا راد لقضائه ولا معقب لأمره إلا ما كان من لطفه ورحمته بعبده حتى يستقبل القضاء برضا ويتحمله بصبر.
وإن يمسسك بخير كصحة وغنى وقوة وجاه فهو وحده قادر على حفظه عليك وإدامته لك، كما قدر على إعطائك إياه، فهو على كل شيء قدير. ومن جملة ذلك المس بالضر والخير.
والآية أصل في سلامة العقيدة وحسن اليقين، وصدق الإيمان والثقة : بأن الله هو النافع وهو الضار فلا يجوز أن يلجأ الإنسان إلى الشفعاء والوسطاء والمتكهنة والأولياء، بل يسأل الله تعالى وحده ويخلص في الدعاء، ويأخذ في الأسباب التي تعين على دفع الضر وجلب الخير.
روى الترمذي وقال حديث حسن صحيح عن ابن عباس قال :( كنت رديف النبي صلى الله عليه وآله وسلم على بغلته فقال : يا غلام، إني أعلمك كلمات :
احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده اتجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء كتبه الله تعالى لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك بشيء كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف ) ( ٦٧ ).
ومن دعاء الرسول( اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد ) ( ٦٨ ).
وفي معنى الآية قوله تعالى : ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم. ( فاطر : ٢ ).
١٨- وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير. قال ابن كثير : " هو الذي خضعت له الرقاب، وذلت له الجباه، وعنت له الوجوه، وقهر كل شيء، ودانت له الخلائق، وتواضعت لعظمة جلاله وكبريائه الأشياء، وتضاءلت بين يديه وتحت قهره وحكمه ).
وهو الحكيم في تدبير مراده، الخبير بمواضع نعمه ونقمه.
المفردات :
لأنذركم به : الإنذار إخبار فيه تخويف بخلاف التبشير فإنه إخبار فيه سرور.
ومن بلغ : معطوف على ضمير المخاطبين، أي لأنذركم به يا أهل مكة وسائر من بلغه من الأسود والأحمر.
التفسير :
١٩- قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ... الآية.
أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يخاصمونك فيما تدعوا إليه : أي شيء في هذا الوجود شهادته أكبر شهادة، وأعظمها بحيث تقبلونها عن تسليم وإذعان ؟
ثم أمره أن يجيب على هذا السؤال، بأن شهادة الله هي أكبر شهادة وأقواها وأزكاها، لأنها شهادة من يستحيل عليه الكذب أو الخطأ.
إنه الله رب العالمين، هو الشهيد بيني وبينكم.
وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ. لقد أنزل الله الوحي بهذا القرآن لأجل أن أنذركم به.
( وأنذر من بلغ إليه من الناس جميعا... بجميع شعوبهم. وأصنافهم، من موجود ومعدوم سيوجد في الأزمنة المستقبلية، فأحكام القرآن شاملة للبشر والجن جميعا ممن كان منهم موجودا يوم الرسالة أو يوجد بعدها إذا بلغتهم دعوة الإسلام وسمعوا بهذا القرآن، وهو نذير لهم بأنهم مسؤولون عن استجابتهم لدعوة الله وعن أعمالهم في الدنيا عند لقاء الله ) ( ٦٩ ).
قل لا أشهد. فأنا لا أشهد معكم بأن مع الله آلهة أخرى لكون هذه الشهادة من أبطل الباطل.
قل إنما هو إله واحد. أي أشهد بوحدانية الله وأتبرؤ من الأوثان وعابديها، و لا أقدم ولائي ولا يقيني ولا ثقتي ولا رجائي إلا لهذا الإله الواحد الاحد الفرد الصمد.
وإنني بريء مما تشركون. أي من الأصنام التي تجعلونها آلهة أو من إشراككم بالله وقد أشارت الآية إلى ما يأتي :
١- وجوب تبليغ رسالة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وفي الصحيح ( بلغوا عنى ولو آية ) الحديث.
٢- شهادة الله لرسوله تتجلى فيما يأتي :
( أ‌ ) قوله :( يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا * وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ).
( ب‌ ) شهادة كتب الله السابقة به، وبشارة الرسل السابقين به.
( ج ) تأييد الرسول بالآيات الكثيرة التي من أعظمها القرآن فهو المعجزة الخالدة الدائمة.
٣- شهادة الرسول لله بالوحدانية، وتتجلى في هذه الآية الكريمة.
أي أن الآية مشتملة على شهادة الله لرسوله بالرسالة وشهادة الرسول لله تعالى بالوحدانية والألوهية وأن الرسول بريء من إلحاد الملحدين وكفر الكافرين.
التفسير :
٢٠- الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم... الآية. إن علماء أهل الكتاب من اليهود والنصارى، يعرفون صدق ما جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم معرفة تماثل معرفتهم لأبنائهم الذين هم من أصلابهم، فهي معرفة بلغت حد اليقين، وذلك بسبب ما عندهم من الأخبار والأنباء من الرسل المتقدمين، فإن الرسل كلهم بشروا بوجود محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومبعثه وصفته وبلده ومهاجره، وصفة أمته.
ويجوز أن يكون المعنى :
الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم. يعرفون صدق القرآن، وإعجازه وقوته وأنه كتاب الله، كما يعرفون أبناءهم معرفة حقيقية، لكنهم يعرضون عن الاعتراف بالحق.
الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون. أي أن الكفار الخاسرين لأنفسهم بعنادهم، وإعراضهم، وتمردهم هم الذين لا يؤمنون بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قال الزمخشري : الذين خسروا أنفسهم. من المشركين ومن أهل الكتاب الجاحدين فهم لا يؤمنون. به.
وهذه الآية مكية. لأن سورة الأنعام كلها مكية والسياق يؤكد أنها مكية، وذهب بعض العلماء إلى أنها مدنية وهو قول ضعيف.
قال الشيخ محمد المدني في تفسير سورة الأنعام :
( ويظهر أن القائلين بأن الآية مدنية. لما وجدوا الحديث في هذه الآية عن أهل الكتاب. ووجدوا أن هذه الآية نظيرة لآية أخرى مدنية تبدأ بما بدأت به وهي قوله تعالى في سورة البقرة : الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبنائهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون. ( البقرة : ١٤٦ ).
ومن المعروف أن صلة الإسلام بأهل الكتاب إنما كانت بعد الهجرة. وفي المدينة دون مكة، لما وجدوا هذا قرروا أن الآية مدنية، فالمسألة ليست إلا اجتهادا حسب رواية مسندة وهو اجتهاد غير صحيح ( ٧٠ ).
وقد رجع الأستاذ سيد قطب وغيره من العلماء : أن الآية مكية، واستنبط من الآية ما يشير إلى أن طائفة من اليهود والمستشرقين يعرفون أهمية القرآن وقوة الإسلام، ويجهدون أنفسهم في دراسات استشراقية يحاولون فيها تقديم هذا الدين بعيدا عن منابع قوته.
فقد ألفوا أن الحملات الصليبية والغزو الفكري يستثير الهمم عند المسلمين للدفاع عن هذا الدين.
فلجأوا إلى حيلة أخرى هي مدح هذا الدين ومن خلال هذا المدح يقدمون الإسلام المستأنس، المتفرغ للعبادة والإيمان البعيد عن الحكم والسياسة ومصادر القوة وشؤون الحياة، والقرآن بهذه الآية يلفت أنظار المسلمين حتى لا يفتروا بثناء المستشرقين على الإسلام ثم يدسون السم في العسل وينبغي أن تأخذ كلام المستشرقين عن الإسلام بتحفظ ( ٧١ ).
وجاء في حاشية الجمل على الجلالين : روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما قدم المدينة وأسلم عبد الله بن سلام قال له عمر : الله أنزل على نبيه بمكة : الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبنائهم.
فكيف هذه المعرفة ؟ قال عبد الله بن سلام يا عمر، لقد عرفته حين رأيته كما أعرف ابني، ولأنا أشد معرفة بمحمد مني يا بني ! ! قال عمر : كيف ذلك ؟
فقال أشهد أنه رسول حقا، ولا أدري ما تصنع النساء ( ٧٢ ).
٢١- ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته... الآية. أي لا أحد أظلم ممن اختلف على الله الكذب، فنسب إلى التوراة أو الإنجيل أو القرآن ما لم يكن فيها.
أو كذب بآياته. من المعجزة الواضحة البينة، أو من آيات القرآن العظيم، فجمع بين كونه كاذبا على الله، ومكذبا بما أمره الله بالإيمان به.
إنه لا يفلح الظالمون. إن هؤلاء الذين سقطوا في أقصى درجات الكذب لن يفوزوا ولن يفلحوا ( فلا عبرة بما تراه العيون القصيرة النظر، في الأمد القريب، فلاحا ونجاحا... فهذا الاستدراج المؤدي إلى الخسار والبوار، ومن أصدق من الله حديثا ؟ ) ( ٧٣ ).
ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون.
أي أذكر لهم خبر يوم القيامة يوم يجمع الله عنده بين العابدين والمعبودين من دون الله.
ثم نسأل الذين أشركوا، أين الشركاء ؟
الذين كنتم تزعمون في الدنيا أنهم أولياؤكم من دون الله وأنهم يقربونكم إليه زلفى، ويشفعون لكم عنده والسؤال هنا سؤال تقريع وتشهير. أي أين هي لتنفعكم ؟
قال القرطبي : وهو سؤال إفضاح لا إيضاح. وقد وبخهم الله بقوله : أين شركاؤكم. مع أنهم محشورون معهم، لأنه لا نفع يرجى من وجودهم معهم، فلما كانوا كذلك نزلوا منزلة الغائب، وجعل وجودهم لعدم نفعه كعدم وجودهم. كما تقول لمن جعل أحدا ظهيرا بعينه في الشدائد، إذا لم يعنه وقد وقع في ورطة بحضرته، أين فلان ؟ فتجعله لعدم نفعه، وإن كان حاضرا كالغائب ( ٧٤ ).
وفي معنى هذه الآية قوله تعالى : وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون. ( الأنعام : ٩٤ ).
٢٣- ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا ربنا ما كنا مشركين. يتلفت القوم إلى الشركاء فلا يجدون لهم أثرا، ويخيل إليهم من ضلالهم أن فتنتهم وكفرهم الذي لزموه مدة أعمارهم وافتخروا به قد اختفى، وأنهم لن يؤخذوا بهذا الجرم الذي لا يقوم شاهد على وجوده، فيقولون كذبا وبهتانا : والله ربنا ما كنا مشركين.
أو أنهم حين كشف الحجاب ورأوا البعث والحشر والحساب والجزاء وأن الملك في ذلك اليوم لله وحده أعلنوا إيمانهم بالله، وتبرءوا من الشرك في وقت لا ينفع فيه ذلك وقريب منه رجاء المشركين أن يعودوا إلى الدنيا ليؤمنوا حيث يقولون : لو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين. ( الشعراء : ١٠٢ ).
قال أبو إسحاق الزجاج : تأويل هذه الآية لطيف جدا، وذلك أنه تعالى كون المشركين مفتونين بشركهم متهالكين في حبه، فذكر أن عاقبة كفرهم الذي لزموه أعمارهم وقاتلوا عليه، وافتخروا به، وقالوا إنه دين آبائنا، لم يكن حين رأوا الحقائق إلا أن تبرأوا من الشرك، وأقسموا على عدم التدين به.
ونظير هذا في اللغة، أن ترى إنسانا يحب شخصا مذموم الطريقة، فإذا وقع في محنة بسببه تبرأ منه، فيقال له : ما كانت عاقبة محبتك لفلان : إلا أن تبرأت منه وتركته.
وجاء في تفسير القرطبي ما يأتي :
قال ابن عباس : يغفر الله تعالى لأهل الإخلاص ذنوبهم، ولا يتعاظم عليه ذنب أن يغفره، فإذا رأى المشركون ذلك، قالوا : إن ربنا يغفر الذنوب، ولا يغفر الشرك، فتعالوا نقل : إنا كنا أهل ذنوب، ولم نكن مشركين.
فقال الله تعالى : أما إذ كتموا الشرك فاختموا على أفواههم فيختم على أفواههم، فتنطق أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون، فعند ذاك، يعرف المشركون : أن الله لا يكتم حديثا، فذلك قوله :
يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا. ( النساء : ٤٢ ).
أنظر كيف كذبوا على أنفسهم... الآية. أي انظر وتأمل وتعجب أيها العاقل كيف كذب هؤلاء المشركون على أنفسهم حين قالوا : والله ربنا ما كنا مشركين. فأنكروا ما وقع منهم في الدنيا من الشرك.
وضل عنهم ما كانوا يفترون. أي زال وذهب افتراؤهم، وتلاشى وبطل ما كانوا يظنونه من أن الشركاء يقربونهم إلى الله، وفارقهم ما كانوا يعبدون من دون الله، فلم يغن عنهم شيئا.
قال الزمخشري :
فإن قلت : كيف يصح أن يكذبوا حين يطلعون على حقائق الأمور، مع أن الكذب والجحود لا وجه لمنفعته ؟ قلت : الممتحن ينطق بما ينفعه وبما لا ينفعه من غير تمييز بينهما خبرة ودهشا : ألا تراهم يقولون ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون. وقد أيقنوا بالخلود ولم يشكوا فيه، ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك.. وقد علموا أنه لا يقضي عليهم ( ٧٥ ).
المفردات :
أكنة : الأكنة ؛ الأغطية. جمع كنان.
وقرا : الوقر بالفتح ؛ الثقل في السمع، يقال : وقرت أذنه من باب تعب ووعد : صمت وثقل سمعها.
يجادلونك : يخاصمونك وينازعونك.
أساطير : أباطيل.
التفسير :
٢٥- ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه... أي : ومن هؤلاء المشركين والمكذبين من يستمع إليك استماع استعلاء وانتقاد فلا تتفتح قلوبهم للحق ولا تستجيب للهدى، فقد جعل الله عليها أغطية معنوية، من التكبر والعناد فلا يفقهون القرآن ولا يستجيبون لداعي الرحمن.
جاء في كتب التفسير ( ٧٦ ) روى عن ابن عباس قال :
حضر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أبو سفيان، والوليد بن المغيرة، والنضر بين الحارث، والحارث بن عامر، وأبو جهل، في جمع كثير، واستمعوا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو يقرأ القرآن، فقالوا للنضر يا أبا قتيلة، ما يقول محمد ؟ فقال والذي جعل الكعبة بيته، ما أدري ما يقول، إلا أنى أراه يحرك شفتيه، ويتكلم بأساطير الأولين، مثل ما كنت أحدثكم به عن القرون الماضية – وكان النضر كثير الحديث عن القرون الأولى، يحدث قريشا بما يستملحونه، قال أبو سفيان : إني لا أدري بعض ما يقول محمد حقا، فقال أبو جهل : كلا... فأنزل الله الآية : ومنهم من يستمع إليك وجعلنا قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا.
قال السيد رشيد رضا : وجعل الأكنة على القلوب، والوقر في الآذان في الآية من تشبيه الحجب والموانع المعنوية بالحجب والموانع الحسية، فإن القلب الذي لا يفقه الحديث ولا يتدبره كالوعاء الذي وضع عليه الكن أو الكنان، وهو الغطاء حتى لا يدخل فيه شيء، والآذان التي لا تسمع الكلام سماع فهم وتدبر كالآذان المصابة بالثقل أو الصمم، لأن سمعها وعدمه سواء. ( ٧٧ ).
وقال الأستاذ الشيخ محمد أبو زهرة :
( وهنا يسأل سائل : إذا كان منع الهداية من الله تعالى بالغشاوة على قلوبهم والختم عليها، وبالوقر في آذانهم فلا يسمعون سماع تبصر، فماذا يكون عليهم من تبعة يحاسبون عليها حسابا عسيرا بالعذاب الأليم ؟
والجواب عن ذلك أن الله سبحانه وتعالى، يسير الأمور وفق حكمته العليا، فمن يسلك سبيل الهداية يرشده وينير طريقه ويثبته، ومن يقصد إلى الغواية ويسير في طريقها تجيئه النذر تباعا إنذارا بعد إنذار، فإن أيقظت النذر ضميره، وتكشفت العماية عن قلبه فقد اهتدى وآمن بعد كفر، ومن لم تجد فيه النذر المتتابعة، ولم توقظ له ضميرا، ولم تبصره من عمى، فقد وضع الله تعالى على قلبه غشاوة وفي آذانه وقرا ( ٧٨ ).
وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها... الآية.
لقد عطلوا منافذ الإدراك في قلوبهم ونفوسهم فإذا شاهدوا الآيات الدالة على صحة نبوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أعرضوا عنها عنادا واستكبارا مع وضوح حجتها وظهور الحق فيها.
لأن قلوبهم وأسماعهم مستغرقة في أنانيتهم وعنجهيتهم، فلا تستجيب للإيمان ولا تقبل الهدى.
حتى إذا جاءوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين. والمعنى أنهم بلغوا من الكفر والعناد أنهم إذا جاءوك محاولين منكرين للحق لم يكتفوا بمجرد عدم الإيمان، بل يبحثون عن أسباب الرد والتكذيب، ويتلمسون أوجه الشبهات البعيدة فيصفون القرآن بأنه يحكي أساطير الأولين، حين يحكي عن أخبار الأمم الغابرة من باب التمحل والتماس أو هي الأسباب.
ورد أن مالك بن النضر كان يحفظ أساطير فارسيه عن رستم واسفنديار من أبطال الفرس وكان يجلس مجلسا قريبا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يتلوا القرآن، فيقول للناس : إن كان محمد يقص عليكم أساطير الأولين، فعندي أحسن منها، ثم يروح يقص عليهم مما عنده من الأساطير فيصرفهم عن الاستماع إلى القرآن الكريم.
المفردات :
وينأون عنه : أي : يبعدون عنه.
التفسير :
٢٦- وهو ينهون عنه وينئون عنه... الآية. النهي : الزجر، والنأى : البعد. والمعنى أن هؤلاء المشركين لا يكتفون بمحاربة الحق، بل يزجرون الناس عن اتباعه، ويبعدون أنفسهم عن الاستماع إليه والإنصات إلى صوت القرآن وجمال الوحي وقريب منه قوله تعالى :
وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون. ( فصلت : ٢٦ ).
وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون. إنهم يحاربون الإيمان في أنفسهم، ويمنعون غيرهم عن الإيمان، لا يهلكون أحدا بهذا التصرف الأحمق إلا أنفسهم. وما يشعرون بهذا البلاء الذي جلبوه على أنفسهم، حيث عرضوها لسخط الله في الدنيا وعقابه في الآخرة.
وقيل إن هذه الآية نزلت في أبي طالب حيث كان ينهى الكفار عن إيذاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو التعرض له بسوء، ولكنه في الوقت نفسه يبتعد عن دعوته فلا يؤمن بها. مع اعترافه بأن الإسلام هو الدين الحق، ومما روى عنه في هذا المعنى قوله :
والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفينا
فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة وأبشر بذاك وقر منك عيونا
ودعوتني وزعمت أنك ناصحي فلقد صدقت وكنت قبل أمينا
وعرضت دينا قد عرفت بأنه من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة أو حذار مسبة لوجدتني سمحا بذاك يقينا
وإذا تأملنا السياق وجدنا أنه في الحديث عن المشركين منهم الذين كانوا يحرضون الناس على إيذاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلى الابتعاد عنه.
وهذا يرجح أن الآية لم تنزل في أبي طالب، وإنما نزلت في مشركي مكة.
المفردات :
ولو ترى إذ وقفوا على النار : حبسوا عليها يوم القيامة، ومن معاني الوقف الحبس.
يا ليتنا نرد : أي إلى الدنيا
التفسير :
٢٧- ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين. من أسلوب القرآن التنويع وتصريف القول.
وقد كان يحكى عن الكافرين إعراضهم عن الإيمان ومنعهم الناس منه، وهنا يعرض مشهدا رهيبا، تذهب النفس فيه كل مذهب.
لو. شرطية حذف جوابها لتذهب النفس في تصوره كل مذهب وذلك أبلغ من ذكره.
والمعنى : لو ترى يا محمد أو أيها السامع، ما يحل بهؤلاء الكفار المعاندين من الفزع حين حبسوا بقرب النار، معاينين لها، لرأيت شيئا مخيفا لا يحيط به الوصف، وهولا مفزعا لا تدركه العبارة.
وحين يعاينون هذه الأهوال يتمنون الرجوع إلى الدنيا، والإيمان بما كذبوا به في حياتهم.
وفي تعبير بقوله تعالى على النار. مما يشعر بأنهم سيسقطون فيها وتبتلعهم، وأنه لا مفر من ذلك.
فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين. أي يقول هؤلاء المشركون حين يرون النار ويحبسون عليها، ليتنا نرد إلى الدنيا نتوب ونعمل صالحا، ولا نكذب بآيات الله وحججه التي نصبها على وحدانيته وصدق رسله، بل نكون من المصدقين بالله ورسله والمتبعين لأمره ونهيه.
وفي تمنيهم الرد إلى الدنيا، دليل على أنهم يلجأون حتى إلى المستحيل، وهو عودتهم إلى الدنيا، لشدة الضيق والحرج الذي هم فيه.
المفردات :
بل بدا لهم ما كانوا يخفون : أي ما كانوا من نفاقهم وقبح فعالهم.
التفسير :
٢٧- بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل... الآية. والمعنى ليس الأمر كما يوهمه كلامهم في التمني من أنهم يردون العودة إلى الدنيا للهداية والإيمان، بل ظهر لهم ما كانوا يخفون من النفاق والكفر وسيء الأعمال، وعرفوا أنهم هالكون بشركهم فعدلوا إلى التمني والمواعيد الكاذبة.
ويحتمل أن المراد : ظهر لهم حقيقة ما كانوا يخفونه في قلوبهم من صدق محمد صلى الله عليه وآله وسلم في أخباره، وإن ادعوا في مجامعهم تكذيبهم له.
ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه.. ولو ردوا إلى الدنيا حسبما تمنوا لعادوا لفعل ما نهوا عنه من القبائح التي رأسها الشرك.
وإنهم لكاذبون. في وعدهم بأن يكونوا مؤمنين، وإنما يقولون ذلك لمجرد الخلاص مما هم فيه.
كما عاين إبليس ما عاين من آيات الله ثم عاند فالآية الكريمة تصور ما طبع عليه هؤلاء الجاحدون من فجور وعناد وافتراء، لأنهم حتى لو أجيبوا إلى طلبهم – على سبيل القرض والتقدير – لما تخلفوا عن كفرهم، واتباع شهواتهم، ومحاربتهم للأنبياء والمصلحين.
٢٩- وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين. أي قال هؤلاء المشركون ليس هناك حياة سوى الحياة الدنيا، ننعم فيها بكل ما نشتهي، ونتمتع بما استطعنا من متع وليس هناك بعث ولا حشر ولا جزاء.
وجمهور المفسرين على أن هذه الآية تتمة للآية السابقة لها من حيث المعنى.
والتقدير. ولو ردوا إلى الدنيا لعادوا لما نهوا عنه من الكفر وسيء الأعمال.
وقالوا ما الحياة إلا حياتنا الدنيا. ويكون قوله تعالى وإنهم لكاذبون. جملة اعتراضية.
وفي تفسير هذه الآية تكلم صاحب الظلال كلاما طويلا عن حكمة الإيمان بالحياة الآخرة، فهي تجعل المؤمن غير محصور في هذه الدنيا، بل يمتد إيمانه عبر الزمان والمكان، فيؤمن بدار الآخرة فيها جنان عرضها السماوات والأرض، ومن هذا الإيمان يقوى يقينه حين يجاهد لإصلاح هذه الدنيا وإخفاق الحق ومحاربة الباطل.
التفسير :
٣٠- ولو ترى إذ وقفوا على ربهم قال أليس هذا بالحق... الآية.
تتوالى مشاهد القيامة على هؤلاء المكذبين، فمن مشهد الحشر والمحاكمة، إلى مشهد الوقوف على النار وهنا مشهد الوقوف على أمر ربهم فيهم. فهو المالك المتصرف في ذلك اليوم.
والمعنى : ولو ترى – أيها المتأمل – هؤلاء المعاندين المكذبين، وقد حبسوا على ما يكون من قضاء ربهم فيهم، لهالك أمرهم ولرأيت ما لا يحيط به نطاق الكلام.
وجعلهم موقوفين على ربهم، لأن من تقفهم الملائكة، وتحبسهم في موقف الحساب امتثالا لأمر الله فيهم كما قال تعالى : وقفوهم إنهم مسؤولون ( الصافات : ٢٤ ). يكون أمرهم مقصورا على الله، حيث لا سلطان فيه لغيره عز وجل : يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله. ( الانفطار : ١٩ ).
فهم وقد انتهى بهم الموقف إلى ما هم فيه من بلاء، لا يقتصر أمرهم على ذلك، بل يسألون سؤال تأنيب وتبكيت : أليس هذا بالحق. أي أليس هذا البعث الذي تنكرونه كائنا موجودا، وهذا الجزاء الذي تجدونه حاضرا ؟
قالوا بلى وربنا. قالوا بلى. أي ما نحن فيه من الشدائد والأهوال حق نستحقه ولا شك فيه، وهكذا اعترفوا بما أنكروا وأكدوا اعترافهم بالقسم.
قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون. أي فباشروا العذاب، وانغمسوا في آلامه وأهواله بسبب كفركم الذي كنتم مصرين عليه دائبين فيه.
والذوق هنا كناية عن الإحساس الشديد بالعذاب بعد أن وقعوا فيه.
المفردات :
جاءتهم الساعة : الساعة ؛ القيامة.
بغتة : فجأة.
يا حسرتنا : الحسرة ؛ الندم الشديد على ما فات. على ما فرطنا : التفريط ؛ التقصير.
أوزارهم : آثامهم الكبيرة.
٣١- قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله... الآية. لقد خسروا في الدنيا حين ضحوا بالحق والعدل والإيمان وأقبلوا على الشهوات وغرهم حطام الدنيا عن الآخرة، وخسروا في الآخرة حين رأوا ما أعد الله للمؤمنين، كما خسروا العزاء الروحي، الذي يغرس في قلب المؤمن الطمأنينة والصبر عند البلاء لأن المؤمن يعتقد أن ما عند الله خير وأبقى، بخلاف الكافر فإن الدنيا منتهى آماله.
حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة. أي وما زال هؤلاء على التكذيب حتى فاجأتهم الساعة بغتة بغير انتظار.
قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها. أي قالوا متحسرين بأسلوب النداء، للإشارة إلى شدة وقع المفاجأة عليهم ولذلك نادوا الحسرة نداء تفجع وقالوا : يا حسرتنا أقبلي فهذا أوانك، فإننا لم نستعد لهذا اليوم بل أهملناه ولم نلتفت إليه.
وعلى ذلك يكون المراد بالساعة يوم القيامة، وقيل المراد بالساعة وقت مقدمات الموت. فلما كان الموت من مبادئ الساعة سمي باسمها ولذلك قال صلى الله عليه وآله وسلم :( من مات فقد قامت قيامته ) ( ٧٩ ).
وسميت القيامة ساعة، لسرعة الحساب فيها، ولأنها فاصلة بين نوعين من الحياة، فانية، وأخرى باقية.
وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم. أي يحملون ذنوبهم وخطاياهم على ظهورهم.
والمعنى : أنها لزمتهم الآثام فصاروا مثقلين بها كأنها على الظهور.
وقيل إن الكلام على حقيقته، وأنهم سيحملون ذنوبهم على ظهورهم فعلا حيث إن الذنوب والأعمال ستجسم يوم القيامة، وبهذا الرأي قال كثير من أهل السنة.
ألا ساء ما يزرون. أي بئس ما يحملون. أي يحشرون وما أثموا به على ظهورهم بغية تعذيبهم به.
قال الأستاذ سيد قطب : ومشهدهم كالدواب الموترة بالأحمال وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم.
بل الدواب أحسن حالا، فهي تحمل أوزارا من الأثقال ولكن هؤلاء يحملون أوزارا من الآثام، والدواب تحط عنها أوزارها فتذهب لتستريح، وهؤلاء يذهبون بأوزارهم إلى الجحيم، مشيعين بالتأثيم.
المفردات
لعب ولهو : اللعب واللهو كلاهما، الاشتغال بما لا يفيد العاقل ولا يهمه.
التفسير :
٣٢- وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهم... الآية. أي أن هذه الحياة التي نعتها الكفار بأنها لا حياة سواها وما هي إلا لهو ولعب لمن يطلبها بأنانية وشره، من غير استعداد لما يكون وراءها من حياة أخرى فيها الحساب والجزاء وفيها النعيم الذي لا ينتهي.
فالحياة الدنيا لعب ولهو لمن اتخذوها فرصة للتكاثر والتفاخر وجمع الأموال من حلال وحرام، ولم يقيموا وزنا للأعمال الصالحة التي كلفهم الله تعالى بها.
أما بالنسبة للذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا، فإن الحياة الدنيا تعتبر وسيلة إلى رضا الله الذي يظفرون به يوم القيامة.
وللدار الآخرة خير للذين يتقون. أي وللحياة الآخرة، أكثر نفعا وأعظم أجرا للذين اتقوا ربهم وأطاعوا أمره واجتنبوا نواهيه، فكانوا في الدنيا عاملين للخير، سابقين لأهل الدنيا في الدنيا وسابقين لهم في الآخرة.
أفلا تعقلون. أي أفلا تعقلون عما في الآخرة من ثواب ونعيم، فلا تعقلون أن الانصراف إلى الدنيا مهلك، وأن العمل للآخرة والإقبال عليها، هو السعادة والنجاة ؟
والاستفهام في قوله تعالى : أفلا تعقلون. للحث على التدبر والتفكر والموازنة بين اللذات العاجلة الفانية في الدنيا وبين النعيم الدائم الذي يكون في الآخرة.
وفي هذا المعنى يقول الله تعالى : بل تؤثرون الحياة الدنيا * والآخرة خير وأبقى.
أي أنتم لقصر نظركم تفضلون الدنيا لأنها أمام عيونكم الفانية، والآخرة أطول نعيما وأبقى خلودا ولو كانت الدنيا من ذهب يفنى والآخرة من خزف يبقى لوجب إيثار ما يبقى على ما يفنى فكيف والحال إن الدنيا من خزف يفنى، والآخرة من ذهب يبقى :
إنما الدنيا كبيت نسجته العنكبوت
كل ما فيها لعمري عن قريب سيموت
إنما يكفيك منها أيها الراغب قوت
المفردات :
ليحزنك : الحزن ؛ الشعور بالألم عند وقوع مكروه.
يجحدون : الجحود و الجحد ؛ نفي ما في القلب إثباته أو إثبات ما في القلب نفيه.
التفسير :
٣٣- قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون. كان صلى الله عليه وآله وسلم حريصا على هداية قومه، وكان يشق عليه تكذيبهم له، وهنا يقول الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
قد أحاط علمنا بحزنك مما يقوله هؤلاء المعاندون، وأنك مشفق عليهم من لجاجهم وشططهم، ونحن معك أيها الحزين الآسف على كفر قومه.
إنهم لا يتهمونك بالكذب في نفس الأمر.
ولكنهم يعاندون الحق ويدفعونه بصدورهم لقد كانت فيها طبقات من الأغنياء والمترفين وهم أعرف الناس بصدق محمد وصدق رسالته ولكن الحرص على منافع الدنيا، وقوة الجحود والإعراض عن الحق دفعتهم إلى المكابرة والعناد وعدم الدخول في الإسلام.
وقد وردت روايات متعددة تدل على اعترافهم بصدق الرسول، ولكن الحسد والغيرة والدوافع الشخصية والأنانية تحركت في صدورهم فمنعتهم من الاستجابة للحق.
قال سفيان الثوري عن علي قال : قال جهل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم : إنا كنا لا نكذبك يا محمد ولكن نكذب ما جئت به فأنزل الله : فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون.
وقد أورد صاحب الظلال طائفة من الروايات والأحاديث تؤيد اعتراف القوم بصدق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
من ذلك ما رواه ابن إسحاق قال : حدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري : أنه حدث أن أبا سفيان بن حرب وأبا جهل بن هشام والأخنس بن شريق. خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو يصلي من الليل في بيته فأخذ كل رجل منهم مجلسا يستمع فيه وكل لا يعلم بمكان صاحبه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق فتلاموا. وقال بعضهم لبعض : لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائهم لأوقعتم في نفسه شيئا ثم انصرفوا.
حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه وفعلوا مثل ذلك في الليلة الثالثة، فقالوا لا نبرح حتى نتعاهد ألا نعود فتعاهدوا على ذلك.
والقصة طويلة وهي تؤكد تصديق باطنهم للنبي ثم مكابرة عقولهم، ورفضهم الإذعان حرصا على مصالحهم الدنيوية.
وعن أبي يزيد المدني أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقي أبا جهل فصافحه فقال رجل لأبي جهل : ألا أراك تصافح هذا الصابئ ؟
فقال والله إني لأعلم أنه لنبي، ولكن متى كنا لبني عبد مناف تبعا ؟ وتلا أبو يزيد : فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون.
فالآية الكريمة مسوقة على سبيل الاستئناف لتسلية النبي صلى الله عليه وآله وسلم عما كان يصيبه من المشركين.
وفي معنى هذه الآية جاءت آيات كثيرة منها قوله تعالى : فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا. ( الكهف : ٦ ).
ومنها قوله تعالى : فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون. ( فاطر : ٨ ).
ومنها قوله تعالى : فلا يحزنك قولهم إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون. ( يس : ٧٦ ).
ومن ذلك قوله تعالى : في شأن قوم فرعون وتكذيبهم بمعجزات موسى : وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين. ( النمل : ١٤ ).
المفردات :
لكلمات الله : المراد من كلمات الله ؛ وعده للمؤمنين، ووعيده للكافرين.
نبأ : النبأ ؛ الخبر ذو الشأن العظيم.
التفسير :
٣٤- ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأذوا حتى أتاهم نصرنا... الآية. هذه الآية من جملة التسلية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ببيان ما عاناه الرسل السابقون بالدعوة، حتى جاءهم نصر الله.
أي فاقتد بالرسل الذين من قبلك، ولا تحزن، واصبر كما صبروا على ما كذبوا به وأوذوا، حتى يأتيك نصرنا، كما أتاهم، وأنت منصور على المكذبين، ظاهر عليهم، وقد كان ذلك والحمد لله.
ولا مبدل لكلمات الله. أي لا مغير لكلمات الله وآياته التي وعد فيها عباده الصالحين بالنصر على أعدائه، فسنة الله مستمرة وقوانينه باقية وأحكامه لا تنقض، ووعده لا يتخلف.
بيد أن الله لا يعجل لعجلة العباد ويمهل ولا يهمل ومن قوانينه أن يبارك المجاهدين، وأن ينصر المرسلين.
قال تعالى : كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز. ( المجادلة : ٢١ ).
وقال سبحانه : ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين * إنهم المنصرون * وإن جندنا لهم الغالبون. ( الصافات : ١٧١ : ١٧٣ ).
وقال تعالى : إنا لننصر رسلنا والذين ءامنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد. ( غافر : ٥١ ).
وبعض العلماء المحققين يرى أن المراد بكلمات الله شرائعه وصفاته وأحكامه وسننه في كونه، ويدخل فيها دخولا أوليا ما وعد الله به أنبياءه وأولياءه من النصر والظفر، وهذا الرأي أرجح من سابقه لأنه أعم وأشمل.
ولقد جاءك من نبإ المرسلين. أي ولقد قصصنا عليك من أخبار الرسل ما يثبت فؤادك ويطمئن نفسك ويبين كيفية إنجاء الله لهم ومن معهم من المؤمنين، وكيف أهلك الله المكذبين.
قال تعالى : وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك. ( هود : ١٢٠ )
المفردات :
وإن كان كبر عليك : شق عليك.
نفقا : الطريق النافذ، والسرب في الأرض النافذ فيها، وله مدخل ومخرج.
أو سلما : السلم الدرج، مشتق من السلامة لأنه يسلمك إلى الوضع الذي تريده.
الجاهلين : الجهل هنا ضد العلم، والمراد منه الجهل بما ينبغي العلم به.
التفسير :
وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية... الآية.
كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يكبر عليه إعراض قومه، ويتعاظمه ويحزن له، وقد شاءت إرادة الله تعالى أن يعطي الإنسان الفعل والإرادة والاختيار، والتنوع في الاستعدادات، والتنوع في استقبال دلائل الهدى وموجبات الإيمان، والتنوع في الاستجابة لهذه الدلائل والموحيات، قال تعالى : ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم. ( هود : ١١٨، ١١٩ ).
ومعنى الآية :
وإن كان يا محمد شق عليك إعراض قومك عن الإيمان، وظننت أن إتيانهم بما اقترحوه من آيات يكون سببا في إيمانهم، فإن استطعت أن تطلب مسلكا عميقا في جوف الأرض، أو درجا ترتقى عليه إلى السماء لتأتيهم بما اقترحوا من مطالب فافعل، فإن ذلك لن يفيد شيئا لأن هؤلاء المشركين لا ينقصهم الدليل الدال على صدقك، ولكنهم يعرضون عن دعوتك عنادا وجحودا.
ولو شاء الله لجمعهم على الهدى. أي ولو شاء الله هداية الناس جميعا، لجمعهم على ذلك، ولكن لم يرد ذلك، حتى يتحقق معنى التكليف والاختبار و الابتلاء والامتحان، ويكافأ الإنسان أو يعاقب حسب اختياره بدون قسر أو إجبار، ولله الحكمة البالغة وهو الحكيم العليم.
فلا تكونن من الجاهلين. بحكمة الله في خلقه وبسنته التي اقتضاها علمه.
قال الإمام الشوكاني : فإن شدة الحرص، والحزن لإعراض الكفار عن الإجابة، قبل أن يأذن الله بذلك هو صنيع أهل الجهل، ولست منهم.
وقال الأستاذ سيد قطب : من عدل الله تنوع الجزاء على الهدى والضلال لذلك لم يجمعهم الله على الهدى بأمر تكويني ولكنه أمرهم بالهدى، وترك لهم اختيار الطاعة أو المعصية، وتلقى الجزاء العادل في نهاية المطاف، فاعلم ذلك ولا تكن ممن يجهلونه.
ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين.. يا لهول الكلمة ! ويا لحسم التوجيه ! ولكنه المقام الذي يقتضي هول الكلمة وحسم التوجيه.
وفي القرآن الكريم : إنك لتهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء... ( القصص : ٥٦ ).
المفردات :
إنما يستجيب : الاستجابة، هي الإجابة المقارنة للقبول.
والموتى : الكفار. تشبيها لهم بالموتى.
التفسير :
إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون. بين الله في آيات سابقة إعراض المشركين عن سماع دعوة الإسلام والاستجابة لها، بسبب تعطيل مواهبهم عن التلقي والقبول. فقد أعرضوا بقلوبهم عن الاستجابة للحق فختم عليها جزاء عنادهم وكفرهم.
وفي هذه الآية يوضح الحق سبحانه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أهل الإيمان والاستجابة، ومعنى الآية.
ما يجيبك يا محمد إلى الهدى، ويقبل منك شريعة الإسلام إلا الأحياء بقلوبهم الذين يسمعون سماع تفهم حسبما تقضيه العقول وتوجبه الأفهام.
وهؤلاء المشركون الذين لم يجيبوك، ولم يهتدوا بهديك يشبهون الموتى، لفقدهم ما يميز الأحياء عن الأموات، من السماع والتدبر.
والموتى يبعثهم الله. الواو للاستئناف وجوبا ولزم الوقف قبلها.
والمعنى : والموتى يحييهم الله يوم القيامة.
ثم إليه يرجعون. للحساب والجزاء، فلا يشق عليك إعراضهم وأمرهم إلى الله الذي سيتولى عقابهم حين يبعثهم.
المفردات :
لولا : حرف يدل على الحث والتحضيض مثل : هلا.
نزل : المقصود من التنزيل ؛ الإظهار.
آية : الآية، العلامة، والمراد بها هنا : معجزة كونية تلجئهم إلى الإيمان. كجعل الصفا ذهبا.. وسنوضح ذلك.
التفسير :
٣٧- وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه. تذكر هذه الآية جانبا من تعنت المشركين، فقد أنزل الله القرآن على رسوله، وهو خطاب الله الأخير اشتمل على فنون الإعجاز فهو معجز بنصه وروحه ولفظه ومحتواه تحدى به العرب والإنس والجن وسيظل آية باقية محفوظة إلى يوم القيامة.
بيد أن المشركين لم تكفهم هذه الآية العقلية بل طلبوا آية مادية تضطرهم إلى الإيمان كنزول الملائكة بمرأى ومسمع منهم، أو نتق الجبل أو تحويل الصفا ذهبا، أو تفجير أرض مكة ينابيع وبساتين وزحزحة الجبال من قلب مكة إلى ما حولها، أو يكون للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بيت من ذهب، إلى غير ذلك من الآيات الملموسة التي اقترحوها في سورة الإسراء في الآيات : ٩٠ : ٩٣.
والمتأمل في هذه الآيات المادية يرى أن الباعث عليها هو التعنت والعناد.
فلو كانوا طلاب حق لكفاهم ما أيد الله به رسوله من القرآن كما أيده الله ببعض المعجزات المادية التي وردت في السنة الصحيحة ومنها.
انشقاق القمر، ونزول المطر بدعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورفعه بدعائه أيضا، وتكثير الماء والطعام وحنين الجذع، وغير ذلك.
وقد بين الحق سبحانه الحكمة في عدم الاستجابة لمطالب المشركين فقال : قل إن الله قادر أن ينزل آية ولكن أكثرهم لا يعلمون. لقد مضت سنة الله في إنزال الآيات المادية أن يهلك المكذبين إذا لم يؤمنوا بعد نزولها، وهو يعلم أنهم سيجحدون بالآيات بعد وقوعها كما وقع من الأقوام قبلهم.
فيحق عليهم الهلاك، بينما يريد الله أن يمهلهم ليؤمن منهم من يؤمن، فمن لم يؤمن استخرج الله من ظهره ذرية مؤمنة، ولا يشكرون نعمة الله عليهم في إمهالهم، وذلك بعدم الاستجابة لاقتراحهم الذي لا يعلمون جرائره قال تعالى : وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا. ( الإسراء : ٥٩ ).
وقل عز شأنه : وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون. ( الأنفال : ٣٣ ).
المفردات :
دابة : الدابة ؛ ما يدب على الأرض، أي يمشي على هيئته.
أمم : جمع أمة بمعنى ؛ جماعة.
التفسير :
٣٨- وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم... الآية.
لفت القرآن نظر المخاطبين في هذه الآية إلى بديع خلق الله وجميل صنعه.
فكل ما يدب على وجه الأرض من حيوان وحشرات وهوام وزواحف وفقاريات.
وكل ما يطير بجناحيه في الهواء – وهذا يشمل كل طائر من طير أو حشرة أو غير ذلك من الكائنات الطائرة – ما من خلق حي في الأرض كلها إلا وهو ينتظم في أمة ذات خصائص واحدة، وذات طريقة في الحياة واحدة كذلك، شأنها في ذلك شأن أمة الناس.
والمقصود من قوله : إلا أمم أمثالكم. بيان أن حيوانات الأرض والبحر، وطيور الجو، إنما هي جماعات وطوائف لها مثل ما لنا من الخصائص في الجملة.
فالنمل مثلا أمة أرضية لها تدبيرها في السعي على رزقها، وجمعه في أحجارها، استعدادا لفصل الشتاء، لتقتات به وهي مختبأة فيها طول الفصل. كما أن لها أميرة منها توجهها، وتنظم مصالها، ولها لغة تتفاهم بها.
كما يدل على ذلك قوله تعالى : حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون. ( النمل : ١٨ ).
وقد فهم سليمان عليه السلام لغتها قال تعالى : فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين. ( النمل : ١٩ ).
كما فهم سليمان صوت الهدهد، وتبين أن للهدهد رسالة فاضلة حيث اكتشف وجود مملكة سبأ وحمله سليمان رسالة إلى بلقيس، وتمت القصة بإسلام بلقيس ودخولها في طاعة الله رب العالمين، وكذلك للنحل لغة ومملكة ورئيسة يطلق عليها لغة " اليعسوب " وهذه الأميرة توجه أمتها من النحر وتدبر أمرها، ولها نظام في السعي على الرزق وبناء بيوت هندسية دقيقة تجمع فيها العسل، وتحتضن البيض إلى غير ذلك من شئونها المختلفة.
قال تعالى : وأوحى إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون * ثم كلي من كل الثمرات... الآية.
( النحل : ٦٨ : ٦٩ ).
وهكذا شأن سائر الحيوانات الأرضية والبحرية والطيور الجوية، فالآية فتحت آفاقا من العلم عن أمم أخرى : لها خصائص تقرب من خصائصنا، ظلت مجهولة حتى عرفها الباحثون أخيرا عن طريقة التجربة.
ما فرطنا في الكتاب من شيء.
ما فرطنا. ما ضيعنا أو ما أهملنا.
الكتاب. اللوح المحفوظ، أو كتاب الكون، أو القرآن الكريم.
والمعنى :
١- لقد أثبتنا في اللوح المحفوظ ما كان وما يكون يوم القيامة.
٢- أو أن هذا الكون منظم بديع قد أتقن الله صنعه ويسر لجميع المخلوقات أرزاقها وحياتها ومعايشها. كما يسر الكون بما فيه من سماء وفضاء وأرض وأفلاك وأملاك.
٣- أو ما تركنا في القرآن شيئا من الأشياء الهامة في الدنيا والدين، ومن جملتها بيان أنه تعالى مراع لصالح جميع مخلوقاته على ما ينبغي.
قال الأستاذ سيد قطب في ظلال القرآن :
إن هذه الآية القصيرة، لتهز القلب بما ترسم من آفاق الإشراف الشامل أو التدبير الواسع، والعلم المحيط والقدرة القادرة لله ذي الجلال.
ثم إلى ربهم يحشرون. تحشر جميع الأمم من أول آدم إلى يوم القيامة وتقف أمام الله للحساب والجزاء.
وقيل المراد من الحشر المذكور حشر الكفار والمراد بالحشر لازمه وهو الحساب والجزاء.
وقيل المراد من الحشر حشر دواب الأرض وطيور الجو كما يحشر الناس، فينصف الله بعضهم من بعض روى الإمام مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال :
( لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء ) ( ٨٠ ).
والشاة الجلحاء : التي ليس لها قرن.
وهذه الحيوانات وإن كان القلم لا يجري عليها في الأحكام ولكنها تؤاخذ فيما بينها.
والحديث مقصود منه التمثيل على جهة تعظيم أمر الحساب والقصاص والاعتناء فيه حتى يفهم منه، أنه لا بد لكل أحد منه.
وقد صحح هذا الوجه الإمام القرطبي في تفسيره للآية.
وقال الزمخشري في تفسير الكشاف :
فإن قلت ما الغرض من ذكر هذه الآية، قلت الدلالة على عظم قدرة الله وسعة سلطانه، وتدبير الخلائق المتفاوتة الأجناس، المتكاثرة الأصناف وهو حافظ لما لها، وما عليها، مهيمن على أحوالها، لا يشغله شأن عن شأن وأن المكلفين ليسوا مخصوصين بذلك دون من عداهم من سائر الأمم...
وفي ختام الآية. ثم إلى ربهم يحشرون... ويرى بعض العلماء أن المراد بحشر البهائم موتها، ويرى آخرون أن المراد بعثها يوم القيامة لقوله تعالى وإذا الوحوش حشرت.
المفردات :
صم : جمع أصم، وهو ؛ من ثقل سمعه.
وبكم : جمع أبكم وهو من لا يستطيع الكلام خلقة فعله بكم يبكم بكما.
صراط : طريق جمعه صرط، وأصله السراط بالسين.
التفسير :
٣٩- والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات... الآية. بينت الآية السابقة أن الكون كله منظم مهيأ للمعاش، يدل دلالة واضحة على أن يدا حكيمة ترعاه وتمسك توازنه ونظامه بيد أن بعض الأشقياء يعرض عن رؤية هذه الدلالات ببصيرته، أو يعرض عن استماع آيات القرآن استماع تفهم أو استجابة، هؤلاء الذين كذبوا بآيات الله القرآنية أو الكونية ولم يهتدوا بهداها، مثلهم كمثل الصم الذين لا يسمعون، البكم الذين لا يتكلمون، الذين احتوتهم الظلمات فلا يبصرون، فكيف يهتدي هؤلاء إلى سواء السبيل وهم بهذه الهيئة ؟
من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم. هذه الجملة مقررة لما سبق من حالهم، مقيدة أنهم مقيمون على الضلال فلا يستغرب تكذيبهم.
والمعنى : من يشأ الله يضلله : لفساد طويته واختياره الضلالة على الهدى ومن يشأ. هدايته – لحسن اختياره – يجعله على طريق مستقيم في العقيدة والأخلاق ويوفقه لصالح الأعمال.
المفردات :
أرأيتكم : أخبروني.
الساعة : هي القيامة. وسميت الساعة لأنها تفجأ الناس في ساعة علمها عند الله. والمراد بها أهوالها.
التفسير :
٤٠- قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو اتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين. أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين، تبكيتا لهم على عبادة الله تعالى، أخبروني عن حالكم عندما يداهمكم عذاب الله الدنيوي كزلزال مدمر. أو ريح صرصر عاتية، أو تفاجئكم الساعة بأهوالها وشدائدها، ألستم في هذه الأحوال تلجئون إلى الله وحده، وتنسون ألهتك الباطلة لأن الفطرة حينئذ هي التي تنطق على ألسنتكم بدون شعور منكم ؟ وما دام الأمر كذلك فلماذا تشركون مع الله آلهة أخرى ؟
إن احوالكم هذه لتدعوا إلى الدهشة والغرابة، لأنكم تلجئون إليه وحده عند الشدائد والكروب، ومع ذلك تعبدون غيره، ومن لا يملك ضرا ولا نفعا.
المفردات :
وتنسون : وتتركون.
التفسير :
ثم أكد سبحانه أنهم عند الشدائد يلجئون إلى الله تعالى، فقال :
٤١- بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون. أي ليس غير الله تدعون، بل تخصونه – وحده – بالدعاء دون آلهتكم، فيكشف ما تلتمسون كشفه إن شاء ذلك، لأنه هو القادر على كل شيء، وتنسون ما تشركون. أي تغيب عن ذاكرتكم عند الشدائد والأهوال تلك الأصنام الزائفة والمعبودات الباطلة.
المفردات :
بالبأساء : بالداهية والشدة.
والضراء : والضر.
لعلهم يتضرعون : لكي يدعوا الله في تذليل وخضوع.
التفسير :
٤٢- ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون. هذا كلام مستأنف لتسلية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بذكر ما حدث لإخوانه المرسلين من إعراض أقوامهم وعدم تأثرهم بالزواجر، فإن البلوى إذا عمت هانت.
والمعنى : ولقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى أقوامهم، فكان هؤلاء الأقوام أعتى من قومك في الشرك والجحود، فعاقبناهم بالفقر الشديد، والبلاء المؤلم. لعلهم يخضعون ويرجعون عن كفرهم وشركهم.
فالآية الكريمة تصور لونا من ألوان العلاج النفسي الذي عالج الله به الأمم التي تكفر بأنعمه وتكذب أنبياءه ورسله، إذ أن الآلام والشدائد علاج للنفوس المغرورة بزخارف الدنيا ومتعها، إن كانت صالحة للعلاج.
المفردات :
فلولا : بمعنى هلا. وهي هنا ؛ للتوبيخ والتنديم وسيأتي لذلك مزيد بيان في الشرح.
التفسير :
ثم بين سبحانه أن تلك الأمم لم تعتبر بما أصابها في شدائد فقال سبحانه :
٤٣- فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون. ولولا هنا للنفي، أي أنهم ما خشعوا ولا تضرعوا وقت أن جاءهم بأسنا.
وقيل إنها للحث والتحضيض، بمعنى هلا، أي فهلا تضرعوا تائبين إلينا وقت أن جاءهم بأسنا.
والمعنى : فهلا حين جاءهم بأسنا وشدتنا ابتهلوا إلينا خاضعين مستغفرين، ولكنهم استمروا في غيهم وقد حال بينهم وبين الالتجاء إلى الله أمران :
الأول : قسوة قلوبهم أي انها غلظت وجمدت وصارت كالحجارة أو أشد قسوة.
الثاني : تزيين الشيطان لهم أعمالهم السيئة بأن يوحي إليهم بأن ما هم عليه من كفر وشرك وعصيان هو عين الصواب، وأن ما أتاهم به أنبياؤهم ليس خيرا لأنه يتنافى مع ما كان عليه آباءهم.
المفردات :
نسوا ما ذكروا به : تركوا الاتعاظ بما خوفوا به، وهو : البأساء والضراء.
بغتة : فجأة.
مبلسون : متحيرون، آيسون من النجاة.
التفسير :
٤٤- فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون.
والمعنى : فلما أعرضوا عن النذر والعظات التي وجهها إليهم الرسل، فتحنا عليهم أبواب كل شيء من الرزق وأسباب القوة والجاه، حتى إذا اغتروا وبطروا بما أوتوا من ذلك أخذناهم بالعقاب فجأة فإذا هم متحيرون يائسون.
والتعبير بقوله تعالى : فتحنا عليهم أبواب كل شيء. يرسم صورة بليغة لإقبال الدنيا عليهم من جميع أقطارها بجميع ألوان نعمها، وبكل قوتها وإغرائها، فهو اختبار لهم بالنعمة بعد أن ابتلاهم بالبأساء والضراء.
وكان الأخذ بغتة وفجأة ليكون أشد وقعا وأفظع هولا، أي أخذناهم بعذاب الاستئصال حال كوننا مباغتين لهم، أو حال كونهم مبغوتين فقد فاجأهم العذاب على غرة بدون إمهال.
وإذا في قوله تعالى : فإذا هم مبلسون. فجائية، والمبلس الباهت الحزين اليائس من الخير الذي لا يحير جوابا لشدة ما نزل به من سوء الحال.
روى الإمام أحمد بسنده عن عقبة بن عامر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال :( إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا – على معاصيه – ما يحب، فإنما هو استدراج، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون. ( ٨١ ).
المفردات :
فقطع دابر القوم : فأهلك آخرهم. من دبره ؛ إذا كان خلفه، وقطع دابرهم : كناية عن إهلاكهم حتى آخرهم وهذا يستلزم – قبل ذلك – إهلاك أولهم بالضرورة.
التفسير :
٤٥- فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين. أي فأهلك الله تعالى أولئك الأقوام عن آخرهم بسبب ظلمهم وفجورهم، والحمد لله رب العالمين الذي نصر رسله وأولياءه على أعدائهم.
وقد ختم الله تعالى هذه الآية بقوله : والحمد لله رب العالمين. تعليم لنا إذ أن زوال الظالمين نعمة تستوجب الحمد والثناء على الله تعالى.
المفردات :
وختم على قلوبهم : أي غطاها فأصبحت لا تعقل.
نصرف الآيات : الصرف رد الشيء من حالة إلى حالة، أو إبداله بغيره، ومعنى نصرف الآيات هنا، أي نكررها على وجوه شتى.
التفسير :
٤٦- قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به أنظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون. أي قل أيها الرسول لقومك : أخبروني – إن أذهب الله سمعكم وأبصاركم، وغطى على قلوبكم، فصرتم لا تسمعون ولا تبصرون ولا تعقلون – أي هذه الآلهة التي تعبدونها دونه يأتيكم بما أخذه منكم.
قال الأستاذ سيد قطب :
وهذا مشهد تصويري يجسم لهم عجزهم أمام بأس الله من جانب، كما يصور له حقيقة ما يشركون به من دون الله من جانب، ولكن هذا المشهد يهزهم من الأعماق، ليدركوا أن الله قادر على أن يفعل بهم هذا، قادر على أن يأخذ الأسماع والأبصار وأن يختم على القلوب، فلا تعود هذه الأجهزة تؤدي وظائفها. وأنه سبحانه إن فعل ذلك، فليس هناك من إله غيره يرد بأسه.
ثم التفت القرآن عنهم إلى التعجب من حالهم فقال :
أنظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون. أي أنظر وتعجب يا محمد كيف نبين لهم الآيات ونصرفها من أسلوب إلى أسلوب : ما بين حجج عقلية، وتوجيه إلى آيات كونية، وترغيب وترهيب وتنبيه وتذكير ثم بعد ذلك كله يعرضون عن الحق.
المفردات :
جهرة : أي علنا : يقال جهر بصلاته يجهر جهرا. أعلنها.
التفسير :
٤٧- قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة هل يهلك إلا القوم الظالمون.
والمعنى : قل لهم أيها الرسول الكريم أخبروني عن مصيركم إن أتاكم عذاب الله مباغتا ومفاجئا لكم من غير ترقب ولا انتظار، أو أتاكم ظاهرا واضحا بحيث ترون مقدماته ومبادئه، هل يهلك به إلا القوم الظالمون ؟
والاستفهام في قوله تعالى : هل يهلك إلا القوم الظالمون. للتقرير.
أي هل يهلك – انتقاما بهذا العذاب أو ذاك – سواكم أيها القوم الظالمون لأنفسهم بالشرك والمعاصي.
وقد صحت مقابلة البغتة بالجهرة، لأن البغتة ما كانت مقدماتها خفية، فقوبلت بالجهرة الظاهرة التي تسبقها علامات.
وقيل عذاب البغتة ما كان ليلا لأن الغالب فيه ذلك وعذاب الجهرة ما كان نهارا. قال تعالى : قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون. ( يونس : ٥٠ ).
المفردات :
مبشرين ومنذرين : التبشير ؛ اإخبار بما يسر، والإنذار ؛ التخويف مما يضر.
التفسير :
٤٨- وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
قال القاضي أبو السعود : هذا كلام مستأنف مسوق لبيان وظائف منصب الرسالة على الإطلاق وتحقيق ما في عهدة الرسل عليهم السلام، وإظهار أن ما يقترحه الكفرة عليه – عليه السلام – ليس مما يتعلق بالرسالة أصلا، وصيغة المضارع لبيان أن ذلك أمر مستمر جرت عليه العادة الإلهية ( ٨٢ ).
ومعنى الآية : وما نبعث المرسلين إلا مبشرين للمؤمنين الصالحين بحسن الثواب، ومنذرين للمكذبين الفاسقين بسوء العقاب، لا ليقترح عليهم غير ما جاءوا به من الآيات، فمن آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وأصلح في عمله فلا خوف عليهم من عذاب الدنيا الذي ينزل بالجاحدين، ولا من عذاب الآخرة الذي يحل بالمكذبين، ولا هم يحزنون يوم لقاء الله على شيء فاتهم.
المفردات
يمسهم العذاب : أي يصيبهم.
يفسقون : يخرجون عن طاعة الله بالكفر والمعاصي.
التفسير :
٤٩- والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون.
قال الأستاذ عبد الكريم الخطيب :
هذه الآية كشف للوجه الآخر من دعوة الرسل، وأنه إذا آمن بهم كثير من الناس فقد كفر بهم كثير من الناس أيضا ولكل من المؤمنين والكافرين حسابه وجزاؤه.. ( ٨٣ ).
يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون. والفسوق هو الخروج، يقال فسق الفرخ من البيضة إذا خرج منها والفاسق هو من يخرج عن حدود الله. قال تعالى : إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه. ( الكهف : ٥٠ )
وفي قوله تعالى : يمسهم العذاب. إشارة إلى أن عذاب الله شديد لا يطاق وأن مسة من هذا العذاب تحيل حياة من تصيبه إلى شقاء دائم وبلاء متصل. نعوذ بالله من عذاب الله. ( ٨٤ ).
المفردات :
خزائن الله : المراد بها ؛ خزائن مقدوراته ؛ كما قال الجبائي.
الأعمى والبصير : المراد بهما ؛ الضال والمهتدي.
التفسير :
٥٠- قل لا أقول لكم عندي خزائن الله و لا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك.. الآية. هذه الآية الكريمة ترد على المشركين في ما اقترحوه على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من معجزات أو آيات.
وتبين أن وظيفة الرسول هي تبليغ الرسالة التي كلف بها فهو لا ينشىء الرسالة ولكن يبلغ ما كلف به من الله تعالى.
والنبي لا يملك للناس سعة من الرزق، لأنه يرزق مثلهم، ولا يرزق غيره، قل لا أقول لكم عندي خزائن الله. فخزائن الله لله يعطي منها ما يشاء لمن يشاء.
والنبي لا يعلم الغيب، ولا يدري ما يطلع به يومه أو غده فعالم الغيب والشهادة هو الله.
والنبي بشر من البشر وإنسان من الناس، هو مثلهم مقيد بقيود الجسد البشري، وليس هو ملك من ملائكة الرحمن، يستطيع أن يفعل ما لا يفعله الإنسان من خوارق ومعجزات.
وكان المشركون قد طلبوا من النبي أن يقلب الجبال ذهبا، وأن يفجر ينابيع الأرض ليزرعوا على مياهها الصحراء، واقترحوا عليه أن يرقى في السماء كما تفعل الملائكة، واستكثروا عليه أن يأكل الطعام أو أن يمشي في الأسواق كما يفعل سائر الناس.
إن أتبع إلا ما يوحى إلي قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون. أي ما أفعل إلا اتباع ما يوحى إلي، من غير أن يكون لدي مدخل ما في الوحي أو في الموحى به بطريق الاستدعاء أو بوجه آخر من الوجوه أصلا.
إن الرسل بشر يوحى إليهم برسالة ليبلغوها للناس ولا يتطلعون إلى صفات تزيد عن صفات البشر كعلم الغيب، أو ملك خزائن الله، أو تملك صفات الملائكة.
إنما الرسل عباد الله يتبعون تعاليم الوحي في تبليغ الوحي للناس والعمل بمقتضاه ليكون الرسول قدوة عملية أمام قومه.
قال تعالى : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة.
من أجل هذا كان الرسول بشرا، يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ويتزوج النساء ويولد له الأولاد، ويموت بعض أولاده، ويحزن عليهم ويتعرض للبلاء في غزوة أحد وغيرها من المعارك حتى تتم القدوة والأسوة العملية في حياة الناس.
قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون. أي لا يمكن أن يستوي الضال الشبيه بالأعمى – في عدم تبين الحقائق – بالمهتدي الشبيه بالمبصر في استجلاء الأمور.
أفلا تتفكرون. استفهام إنكاري للحث على التفكير والتأمل ليستقبلوا آيات. النور والهدى. إن أرادوا لأنفسهم النجاة والخير.
المفردات :
وأنذر : الإنذار ؛ التخويف.
ولي : ناصر.
شفيع : الشفيع ؛ من يرجو رفع ضر، أو جلب خير لغيره.
التفسير :
٥١- وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون.
والمعنى : اتجه يا محمد بهذا الكتاب إلى الذين هم من خشية ربهم مشفقون، وأنذر به الذين يخافون سوء الحساب يوم القيامة، حالة أن ليس لهم من دونه ولي ينصرهم، ولا شفيع يخلصهم، ذلك أنه ما من شفيع يشفع عند الله إلا بإذنه.
فهؤلاء الذين تستشعر قلوبهم خوف ذلك اليوم، الذي ليس فيه – من دون الله – ولي ولا شفيع، أحق بالإنذار وأسمع له، وأكثر انتفاعا به... لعلهم أن يتوقوا في حياتهم الدنيا، ما يعرضهم لعذاب الله في الآخرة.
فالإنذار بيان كاشف كما أنه مؤثر موح، بيان يكشف لهم ما يتقونه ويحذرونه، ومؤثر يدفع قلوبهم للتوقي والحذر، فلا يقعون فيما نهوا عنه بعد ما تبين لهم.
قال الإمام الشوكاني في فتح القدير :
وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم. لأن الإنذار يؤثر فيهم لما حل بهم من الخوف من الله، بخلاف من لا يخاف الحشر من طوائف الكفر لجحوده به وإنكاره له، فإنه لا يؤثر في ذلك.
فيشمل كل من آمن بالبعث من المسلمين، وأهل الذمة وبعض المشركين، وإن لم يكن مصدقا به في الأصل لكنه يخاف أن يصح ما أخبر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإن من كان كذلك تكون الموعظة فيه أنجع والتذكير له أنفع.
ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع. لا ولي لهم يواليهم، ولا نصير يناصرهم، ولا شفيع يشفع لهم عند الله لينجيهم من عذابه.
وفيه رد على من زعم من أهل الكتاب أن آباءهم يشفعون لهم وعلى من زعم من الكفار أن أصنامهم تشفع لهم.
المفردات :
بالغداة والعشي : الغداة والغدوة أول النهار، والعشي جمع عشية، وهي آخر النهار.
التفسير :
٥٢- ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداوة والعشي يريدون وجهه. أي لا تبعد أيها الرسول عن مجالسك هؤلاء المؤمنين الفقراء الذين يدعون ربهم صباح مساء، ويريدون بعملهم وعبادتهم وجه الله وحده، بل اجعلهم جلساءك وأخصاءك فهم أفضل عند الله من الأغنياء والمتغطرسين، والأقوياء الجاهلين.
جاء في تفسير ابن كثير، في سبب نزول الآية، ما رواه الإمام أحمد وغيره، ونقله الأستاذ سيد قطب بأسلوبه فقال :
إن جماعة من أشراف العرب، أنفوا إن يستجيبوا لدعوة الإسلام، لأن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم يؤوى إليه الفقراء والضعاف، من أمثال صهيب وبلال وعمار وخباب وسلمان وابن مسعود ومن إليهم وعليهم جباب تفوح منها رائحة العرق، لفقرهم ومكانتهم الاجتماعية لا تؤهلهم لأن يجلس معهم سادات قريش في مجلس واحد، فطلب هؤلاء الكبراء إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أن يطردهم عنه.. فأبى.. فاقترحوا أن يخصص لهم مجلسا، ويخصص للأشراف مجلسا آخر، لا يكون فيه هؤلاء الفقراء الضعاف، كي يظل للسادة امتيازهم واختصاصهم ومهابتهم في المجتمع الجاهلي ! فهم صلى الله عليه وآله وسلم رغبة في إسلامهم أن يستجيب لهم في هذه، فجاء أمر الله تعالى : ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداوة والعشي يريدون وجهه.
وروى مسلم عن سعد بن أبي وقاص، قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ستة نفر، فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وآله وسلم هؤلاء عنا لا يتجترئون علينا ! فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما شاء الله أن يقع فحدث نفسه، فأنزل الله عز وجل هذه الآية ( ٨٥ ).
ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين.
إن الله تعالى هو الذي سيتولى حسابهم وجزاءهم ولن يعود عليك من حسابهم شيء، كما أنه لا يعود عليهم من حسابك شيء فهم مجزيون بأعمالهم، كما أنك مجزى لعملك.
وكان الأغنياء قد طعنوا وعابوا على النبي مجالسة الفقراء، وطعنوا في هؤلاء الفقراء وعابوا ما هم فيه من فقر وضعف، وما يسببه وجودهم في مجلس النبي صلى الله عليه وآله وسلم من نفور السادة وعدم إقبالهم على الإسلام.
فبين الحق سبحانه أن الله لا ينظر إلى صور الناس ولا إلى أموالهم، وإنما ينظر إلى قلوبهم وأعمالهم.
وهؤلاء الفقراء، الراغبون في الإسلام، لا يعيبهم فقرهم ما دامت قلوبهم غنية بالإيمان والرغبة فيما عند الله.
قال الإمام الشوكاني :
ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء. أي حساب هؤلاء هو على أنفسهم، ما عليك منه شيء، وحسابك على نفسك ما عليهم منه شيء، فعلام تطردهم ؟
أي فأقبل عليهم، وجالسهم، ولا تطردهم.
فتكون من الظالمين. أي إن طردتهم كنت من الظالمين. وحاشا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يكون من الظالمين.
قال الزمخشري في تفسير الكشاف :
فإن قلت : أما كفى قوله : ما عليك من حسابهم من شيء. حتى ضم إليه : وما من حسابك عليهم من شيء. ؟ قلت كيف جعلت الجملتان بمنزلة جملة واحدة، وقصد بهما مؤدى واحد، وهو المعنى في قوله : ولا تزر وازرة وزر أخرى. ولا يستقل بهذا المعنى إلا الجملتان جميعا، كأنه قيل لا تؤخذ أنت ولا هم بحساب صاحبه.
وجاء في تفسير الآية للدكتور محمد سيد طنطاوي :
وهنا تخريج آخر لقوله :
ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء. بأن المعنى : ما عليك شيء من حساب رزقهم إن كانوا فقراء، وما من حسابك في الفقر والغنى عليهم من شيء.
أي أنت مبشر ومنذر ومبلغ للناس جميعا، سواء منهم الفقير والغني. فكيف تطرد فقيرا لفقره، وتقرب غنيا لغناه ؟ إنك إن فعلت ذلك كنت من الظالمين، ومعاذ الله أن يكون ذلك منك. ( ٨٦ ).
وفي هذه الآية دليل على أن الإسلام لا يميز بين الناس بالمال والرياسة، بل بالإيمان والعمل الصالح، وإن كانوا فقراء معدمين، وعلى أن الأمراء مطالبون بإعطاء الفقراء حقهم من مجالس العلم ودوره، وألا يمنعوهم عن مجالسة الأغنياء فيها.
المفردات :
فتنا : ابتلينا، يقال يفتنه فتنة، أي ابتلاه وأضله وأحرقه واختبره.
التفسير :
وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين. شاءت إرادة الله تعالى، أن يختبر بعض الناس بالغنى والجاه وأن يمنح بعض الناس الهداية والعلم مع فقرهم.
ومن الناس من لم يدرك هذه الحكمة السامية في توزيع أرزاق العباد، فالمال رزق والهداية رزق والتقوى رزق والله أعلم حيث يوزع أرزاقه ومواهبه.
وقال الدكتور سيد طنطاوي :
ومعنى الآية : ومثل ذلك الفتن، أي الابتلاء والاختبار، جعلنا بعض البشر فتنة لبعض ليترتب على هذا الفتن أن يقول المفتونون الأقوياء في شأن الضعفاء : أهؤلاء الصعاليك خصهم الله بالإيمان من بيننا ! وقد رد عليهم بقوله : أليس الله بأعلم بالشاكرين. أي أليس هو أعلم بالشاكرين له بأقوالهم وأفعالهم وضمائرهم، فيوفقهم ويهديهم سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم ( ٨٧ ).
وقد ذكر القرآن أن هذا المعنى في كثير من آياته، مثل : وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه و إذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم. ( الأحقاف : ١١ ).
وفي قصص الأنبياء السابقين، نجد الأغنياء يقولون لنوح عليه السلام : وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادئ الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين. ( هود : ٧٢ ).
وفي سورة الكهف يقول الله تعالى : واصبر نفسك مع الذين يدعون الله بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا و اتبع هواه وكان أمره فرطا * وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. ( الكهف : ٨٢ : ٢٩ ).
المفردات :
بجهالة : بسفه وسوء رأي.
التفسير :
٥٣- وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم. ذهب بعض المفسرين إلى أن هذه الآية تخص السابقين إلى الإسلام الذين سخر منهم الكبراء والأشراف، فقد أمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أن يبدأهم بالسلام، وأن يبشرهم بما لزم الله به نفسه من رحمة عباده وقبول توبتهم، متى تابوا وأصلحوا.
قال الإمام الشوكاني في فتح القدير :
وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا : هم الذين نهاه الله عن طردهم وهم المستضعفون من المؤمنين فقل سلام عليكم. تطييبا لخواطرهم وإكراما لهم، وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد نزول هذه الآية إذا رآهم بدأهم بالسلام.
كتب ربكم على نفسه الرحمة. أي اوجب ذلك على نفسه إيجاب فضل وإحسان، وقيل : كتب ذلك في اللوح المحفوظ، وقيل : هذا من جملة ما أمره الله سبحانه. بإبلاغه إلى أولئك تبشيرا بسعة مغفرة الله وعظيم رحمته.
ويرى بعض المفسرين : أن هذه الآية الكريمة ليست خاصة بالمنهى عن طردهم من ضعفاء المؤمنين.
بل هي دستور عام لجميع المؤمنين المقصرين إذا ما تابوا وأصلحوا.
والمعنى : وإذا جاءك – يا محمد – الذين آمنوا، وقد أصابوا بعض الذنوب، فقل تبشيرا لهم : سلام عليكم، أي مسالمة من الله ربكم، وتلك المسالمة هي أنه تعالى قضى على نفسه بالرحمة لعباده : تفضيلا، وذلك أنه من عمل منكم سوءا أي ذنبا – بجهالة – أي سفه وسوء رأى فشأنه تعالى : أنه غفار للذنوب رحيم بعباده فلا تقنطوا من رحمة الله ( ٨٨ ).
ومن المعروف في كتب علوم القرآن أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
فالآية عامة لجميع المؤمنين، وما فيها من رحمة الله بعباده، وتوبته على المذنبين، ورحمته بالعصاة، ومغفرته للنادمين، أمر قد ورد في القرآن الكريم والسنة الصحيحة.
فالتوبة النصوح، إذا قرنت بالندم على فعل الذنوب، وصدق الالتجاء إلى الله، والانتقال من فعل الذنب، إلى فعل الصلاح وامتثال المأثورات واجتناب المنهيات هذه التوبة جديرة بالقبول إن شاء الله.
قال تعالى : إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما* ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا. ( الفرقان : ٧٠ : ٧١ ).
وقال عز شأنه : نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم * وأن عذابي هو العذاب الأليم. ( الحجر : ٤٩ : ٥٠ ).
وقال سبحانه : غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير. ( غافر : ٣ ) :
وقال تعالى : قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم. ( الزمر : ٥٣ ).
وقال تعالى : والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون * أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين. ( آل عمران : ١٣٥ : ١٣٦ ).
وقال تعالى : إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما. ( النساء : ١٧ ).
وفي الحديث الصحيح يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم :( ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير فينادي يا عبادي هل من داع فأستجيب له، هل من مستغفر فأغفر له، هل من تائب فأتوب عليه، هل من طالب حاجة فأقضيها له حتى يطلع الفجر ( ٨٩ ).
وفي الحديث الشريف :( إن الله يمد يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويمد يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها ( ٩٠ ).
وفي القرآن الكريم : إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين. ( البقرة : ٢٢٢ ).
المفردات :
ولتستبين : ولتتضح.
سبيل المجرمين : طريق أهل الذنوب.
التفسير :
٥٥-وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين. وضح الحق سبحانه قاعدة أساسية بالنسبة للدعاة والهداة فالناس جميعا أمام الله سواء لا فضل لعربي على عجمي ولا لأبيض على أحمر إلا بالتقوى، الناس يتفاضلون عند الله بالتقوى ويدركون ثوابه بالعمل الصالح.
وموازين الناس عند الله هي مدى اقترابهم من الحق والصدق والخير والمعروف.
وقد وضحت الآيات السابقة أن أبواب الدعوة يجب أن تظل مفتوحة أمام الجميع، وكذلك أبواب المساجد والمعاهد والمدارس، لا ينبغي أن يكون الفقر عائقا لصاحبه أن ينال حقه، وأن يأخذ نصيبه.
إن هذه المبادئ التي حملها وحي السماء إلى الناس في بدء الإسلام قد أرست قيما، وبينت أسسا من أسمى ما اهتدت إليها البشرية في تاريخها.
وهذه الآية تعقيب على ما سبق من توضيح الحقائق أمام الأغنياء والفقراء في وقت واحد ومكان واحد.
ومعنى الآية : ومثل ذلك التبيين الواضح في صفة أهل الطاعة وأهل الإجرام تبين سائر الآيات لما له من فوائد كثيرة، ولتستبين سبيل المجرمين. أي ولأجل أن يظهر بها طريق المجرمين فعندئذ يحذرهم المسلمون ويتحاشونهم لأن طريق المجرمين غير طريق المؤمنين، ولأن معرفة الخير لا تكفي في هذه الحياة، بل ينبغي أن نعرف الشر حتى نحذره، ونعرف طريق المجرمين وأعمالهم حتى نتجنب هذا الطريق.
وقد حذر القرآن الكريم من الخمر والميسر والكفر والظلم وسائر الموبقات. كما حذر من سلوك طريق المجرمين.
قال تعالى : إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي ويعظكم لعلكم تذكرون. ( النحل : ٩٠ ).
المفردات :
تدعون : تعبدون.
التفسير :
٥٦-قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله قل لا أتبع أهواءكم قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين.
تستمر سورة الأنعام في بيان حقيقة الألوهية، وتوحيد الربوبية، فالإله واحد، واحد في ذاته، واحد في صفاته، واحد في أفعاله.
وهو سبحانه أغنى الأغنياء عن الشرك.
( وقد كان المشركون يدعون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يوافقهم على دينهم، فيوافقوه على دينه ! وأن يسجد لآلهتهم فيسجوا لإلهه، ! كأن ذلك يمكن أن يكون !
وكأن الشرك والإسلام يجتمعان في قلب ! وكأن العبودية لله يمكن أن تقوم مع العبودية لسواه، وهو أمر لا يكون أبدا ) ( ٩١ ).
ومعنى الآية : قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يريدون منك أن تركن إليهم إن الله نهاني وصرفني بفضله، وبما منحني من عقل مفكر عن عبادة الآلهة التي تعبدونها من دون الله، وقل لهم بكل صراحة وإيجاز وحسم إني لست متبعا لما تمليه عليكم أهواؤكم وشهواتكم من انقياد للأباطيل، ولو أني ركنت إليكم لضللت عن الحق وكنت خارجا عن طائفة المهتدين.
قال الإمام فخر الدين الرازي في التفسير الكبير :
( اعلم أنه تعالى – لما ذكر في الآية المتقدمة ما يدل على أنه يفصل الآيات ليظهر الحق وليستبين سبيل المجرمين، ذكر في هذه الآية أنه تعالى نهى عن سلوك سبيلهم فقال :
إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله، وبين أن الذين يعبدونها إنما يعبدونها بناء على محض الهوى والتقليد لا على سبيل الحجة والدليل، لأنها جمادات وأحجار وهي أخس مرتبة من الإنسان بكثير، وكون الأشراف مشتغلا بعبادة الأخس أمر يدفعه صريح العقل، وأيضا فالقوم كانوا ينحتون تلك الأصنام ويركبونها، ومن المعلوم بالبديهية أنه يقبح من هذا العامل الصانع أن يعبد معموله ومصنوعه، فثبت أن عبادتها مبنية على الهوى ومضادة للدين ) أ. ه.
المفردات :
بينة : حجة.
يقص الحق : يتبع الحكمة.
التفسير :
٥٤- قل إني على بينة من ربي وكذبتم به... الآية. و المعنى قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يريدون منك اتباع أهوائهم كيف يتأتى لي ذلك وأنا على شريعة واضحة وملة صحيحة، لا يعتريها شك ولا يخالطها زيغ لأنها كائنة من ربي الذي لا يضل ولا ينسى.
والتنوين في كلمة بينة للتفخيم والتعظيم، وهي صفة لموصوف محذوف، أي على حجة بينة واضحة محقة للحق ومبطلة للباطل فأنا لن أتزحزح عنها أبدا.
وفي هذا تعريض بالمشركين بأنهم ليسوا على بصيرة من أمرهم، وإنما هم قد تبعوا ما وجدوا عليه آباءهم بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير.
ما عندي ما تستعجلون به إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين. أي ليس في مقدوري أن أنزل بكم ما تستعجلون من العذاب، وإنما ذلك مرجعه إلى الله وحده، فهو وحده الذي يقص الحق ويخبر به، وهو وحده الذي يفصل في قضايا خلقه، وهو خير الفاصلين في شؤون عباده، وهو يرى الحكمة في إمهالكم فأمهلكم.
( وبذلك يجرد الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم – نفسه من ان تكون له قدرة، أو تدخل في شأن القضاء الذي ينزله الله بعباده، فهذا من شأن الألوهية وحدها وخصائصها، وهو بشر يوحى إليه ليبلغ وينذر، لا لينزل قضاء ويفصل، وكما ان الله سبحانه هو الذي يقص الحق ويخبر به، فهو كذلك الذي يقضي في الأمر ويفصل فيه.. وليس بعد هذا تنزيه وتجريد لذات الله سبحانه وتعالى وخصائصه، عن ذوات العبيد ) ( ٩٢ ).
قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم والله أعلم بالظالمين.
أي لو كان العذاب الذي تستعجلون به عندي وفي قبضتي لطلبت من ربي أن يعجل به غضبا لأجله بسبب كفركم.
قال الزمخشري في تفسير الكشاف :
أي لأهلكتكم عاجلا غضبا لربي، وامتعاضا من تكذيبكم به ولتخلصت منكم سريعا. ا. ه.
لقضي الأمر بيني وبينكم. بإنزال هذا العذاب بكم والتخلص من كفركم وشرككم.
والله أعلم بالظالمين. فهو يمهلهم عن علم، ويملي لهم عن حكمة، ويحلم عليهم وهو قادر على أن يجيبهم إلى ما يقترحون ثم ينزل بهم العذاب الأليم.
المفردات :
مفاتح : جمع مفتح أو مفتاح – بكسر الميم فيهما، وهو أداة الفتح. والمراد بمفتاح الغيب : أسباب علمه.
في كتاب مبين : الكتاب المبين هو علم الله.
التفسير :
٥٥- وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها... الآية.
تصور هذه الآية علم الله تعالى الشامل المحيط لهذا الكون، فلا يند عن علم الله شيء في الزمان ولا في المكان، في الأرض ولا في السماء، في البر ولا في البحر، في جوف الأرض، ولا في طبقات الجو، من حي وميت ويابس ورطب.
أي أن الله سبحانه وتعالى استأثر بعلم الغيب فلا يعلمه أحد سواه، إنه هو الذي خلق الإنسان، وكتب أجله ورزقه، وشقي أو سعيد، وهو المحيط علما بما في البر والبحر وخصهما بالذكر لأنهما مشاهدان أمام الإنسان وهما رمز لإحاطة علم الله الشامل بكل ما في الكون.
والمعنى : يعلم ما في البر والبحر من أجزائهما، وما ظهر أو خفي فيهما : من الإنسان والحيوان والنبات، والسوائل، والجوامد، والأدهنة والأبخرة، وعناصرها، وذراتها، ومكونات هذه الذرات.
وقد صرح الحق سبحانه بشمول علمه لكل كلي وجزئي، ولكل صغير وكبير، ولكل دقيق وجليل فقال سبحانه :
وما تسقط من ورقة إلا يعلمها، ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين. أي وما تسقط ورقة ما من شجرة من الأشجار، ولا حبة في باطن الأرض وأجوافها، ولا رطب ولا يابس من الثمار أو غيرها، إلا ويعلمه علما تاما شاملا، لأن ذلك مكتوب ومحفوظ في العلم الإلهي الثابت.
ويمكن أن نضيف إلى تفسير هذه الآية ما يأتي :
قامت الشيوعية وأظهرت تبرمها بالأديان، وادعت أن الإنسان يخطط لنفسه ويصنع مستقبله بعلمه وعمله وظن الناس ان التطور العلمي سيحدد مستقبل الإنسان، وإذا بالعلماء يصرحون أن الإنسان كلما زاد علمه زاد إدراكه بالجهل، واتساع دائرة ما لا يعلمه. أي أن زيادة العلم تشعر الإنسان بزيادة الجهل بحقائق كثيرة في هذا الكون، وبذلك تراجعت الفلسفة الشيوعية، وانسحبت الشيوعية من أوروبا الشرقية بعد مرور ( ٧٠ ) سبعين عاما على نشأتها وعاد الإيمان إلى الناس، وعادت ثقتهم في الإيمان بالغيب.
الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر عاد الناس إلى الكنائس في موسكو نفسها، وفي غيرها من البلدان التي كانت شيوعية، ولم يكن الذاهبون إلى الكنائس من كبار السن فقط بل كان فيهم الشباب والفتيان والفتيات.
يتعلق بهذه الآية أيضا : أن علم الغيب مقصور على الله تعالى، أما ظن الغيب بأمارات فإنه ممكن لمن يأخذ بأسباب هذه المعرفة كما يحدث عن الراصدين لحركات الرياح والشمس والقمر، حين يخبرون بهبوب الرياح بشدة أو باعتدالها، وبكسوف الشمس يوم كذا، وبخسوف القمر ليلة كذا، وكما يحدث عن علماء الفلك حين يخبرون بزمن نزول المطر، أو نزول درجة الحرارة أو صعودها.
أو نحو ذلك، فيقع الأمر كما قالوا.. وكما يفعله الأطباء بحكم العادة عندهم إذ يقولون : لمن حلمة ثديها الأيمن سوداء جنينك ذكر، ولمن حلمة ثديها الأيسر كذلك جنينك أنثى فيقع الأمر كما قالوا. ونحو ذلك مما يخضع لقواعد علمية أو أمارات ظنية.
أما العرافون الذين يدعون علم الغيب كقول أحدهم :
إنك ستكسب كذا، أو تتزوج فلانة فهو آثم جاحد.
قال القرطبي في تفسير الآية :
قال علماؤنا : أضاف سبحانه علم الغيب إلى نفسه في غير ما آية من كتابه، إلا من اصطفى من عباده، والله تعالى يقول : قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله.
ثم قال : وقد انقلبت الأحوال في هذه الأزمان بإتيان المنجمين والكهان ولا سيما بالديار المصرية، فقد شاع في رؤسائهم وأتباعهم وأمرائهم، اتخاذ المنجمين، بل ولقد انخدع كثير من المنتسبين للفقر والدين فلجأوا إلى هؤلاء الكهنة والعرافين فبهرجوا عليهم بالمحال واستخرجوا منهم الأموال، فحصلوا من أقوالهم على السراب ( ٩٣ ).
وقد ورد في السنة الصحيحة النهي عن الذهاب إلى العرافين والمنجمين، جاء في صحيح مسلم :( من أتى عرافا فسأله عن شيء، لم تقبل له صلاة أربعين ليلة ( ٩٤ ).
وروى البخاري بسنده عن ابن عمر أن رسول الله قال :( مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله لا يعلم أحد ما يكون في غد إلا الله، ولا يعلم أحد ما يكون في الأرحام إلا الله، ولا تعلم نفس ماذا تكسب غدا، ولا تدري نفس بأي أرض تموت، ولا يدري أحد متى يجيء المطر ( ٩٥ ).
وهذا الحديث يوافق قوله تعالى : إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير. ( لقمان : ٣٤ ).
وهنا نجد بعض الناس يتساءلون عن توصل العلم إلى معرفة نوع الجنين، والجواب أن علم الله بما في الأرحام علم شامل يمتد إلى معرفة أجله ورزقه وسعادته أو شقاوته وهذه أمور لا يعلمها إلا الله تعالى.
ولا ينبغي أن نطاوع العامة في محاولة معرفة المستقبل عند العرافين فقد روى الإمام أحمد وغيره عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ( من أتى عرافا أو كاهنا فصدقه، فقد كفر بما أنزل على محمد ( ٩٦ ).
المفردات :
يتوفاكم بالليل : التوفي لغة ؛ قبض الشيء بتمامه، وأكثر ما يستعمل فيه قبض الروح. والمراد منه هنا : الإنامة ؛ أي ينيمكم في الليل.
جرحتم : كسبتم.
يبعثكم : يوقظكم.
أجل مسمى : وقت محدد لكل واحد ينتهي إليه عمره.
التفسير :
٥٦- وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى ثم إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعملون. هذه الآية امتداد لسعة القدرة الإلهية فهو سبحانه عالم الغيب، وهو سبحانه بيده الخلق والأمر والإيجاد والعدم والموت والحياة.
والإنسان له موتتان صغرى وكبرى فالصغرى النوم والكبرى الموت.
( والنعاس صورة من صور الوفاة، بما يعتري الحواس من غفلة وما يعتري الحس من سهوة، وما يعتري العقل من سكون، وما يعتري الوعي من سبات – أي انقطاع – وهو السر الذي لا يعلم البشر كيف يحدث، وإن عرفوا ظواهره وآثاره ) ( ٩٧ ).
ويعلم ما جرحتم بالنهار. فهو سبحانه مطلع على جميع حركاتكم وسكناتكم ويعلم ما كسبت جوارحكم من الخير والشر.
ثم يبعثكم فيه. أي في النهار يعني اليقظة.
ليقضى أجل مسمى. لأجل أن يقضي كل فرد أجله المسمى في علم الله تعالى والمقدر له في هذه الدنيا، فقد جعل سبحانه لأعماركم آجالا محدودة لابد من قضائها وإتمامها.
ثم إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعلمون : أي : ثم إليه وحده يكون رجوعكم بعد انقضاء حياتكم في هذه الدنيا فيحاسبكم على أعمالكم التي اكتسبتموها فيها، إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
فالآية الكريمة تسوق للناس مظهرا من مظاهر قدرة الله و تبرهن لهم على صحة البعث والحساب يوم القيامة، لأن النشأة الثانية منزلتها بعد الأولى كمنزلة اليقظة بعد النوم في أن من قدر على أحدهما فهو قادر على الأخرى.
مما يتعلق بهذه الآية ما يأتي :
١- قال تعالى : الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها ويمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون. ( الزمر : ٤٢ ).
تفيد هذه الآية أن هناك وفاتان، وفاة صغرى بالنوم ووفاة كبرى بالموت، وتجتمع أرواح النائمين وأرواح الميتين في فترة نوم النائم، والله تعالى يمسك روح الميت عنده ويرسل روح النائم إلى أجل مسمى، إلى وقت انقضاء أجله.
٢- تخصيص الليل بالنوم والنهار بالكسب، جريا على المعتاد لأن الغالب أن يكون النوم ليلا وأن يكون الكسب والعمل نهارا قال تعالى : وجعلنا الليل لباسا * وجعلنا النهار معاشا. ( النبأ : ١٠، ١١ ).
المفردات :
القاهر : الغالب.
توفته : قبضت روحه.
التفسير :
٦١- وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليهم حفظة حتى إذا جاء احدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون.
تصور الآية قدرة الله وهي فوق جميع القدر.
فهو سبحانه صاحب السلطان القاهر، وهم تحت سيطرته وقهره، هم ضعاف في قبضة هذا السلطان لا قوة لهم ولا ناصر، هم عباد والقهر فوقهم. وهم خاضعون له مقهورون.
وهذه هي العبودية المطلقة للألوهية القاهرة.
إن الله تعالى هو الغالب على عباده والمتصرف فيهم إيجادا وإعداما وإحياء وإماتة، وتعذيبا وتنعيما إلى غير ذلك من شؤون القهر والسلطان : لا يشركه فيها شريك ولا يرده عن مراده أحد.
ويرسل عليهم حفظة أي : ويرسل عليكم ملائكة تحفظ أعمالكم وتحصيها، وتسجل ما تعملونه من خير أو شر.
قال تعالى : وإن عليكم لحافظين * كراما كاتبين. ( الإنفطار : ١٠، ١١ ).
وقال سبحانه : ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد. ( ق : ١٨ ).
وجاء في كتاب الجوهرة، وهي منظومة فنية في علم التوحيد :
بكل عبد حافظون وكلوا وكاتبون خيرة لن يهملوا
من امره شيئا ولو ذهل حتى الأنين في المرض كما نقل
وتفيد الآية رقابة الحق سبحانه على كل نفس، وشعور النفس بأنها غير منفردة لحظة واحدة، وغير متروكة : لذاتها لحظة واحدة، فهناك حفيظ عليها رقيب يحصي كل حركة.
قال الزمخشري في تفسير الكشاف :
فإن قلت إن الله تعالى غني بعلمه عن كتابة الملائكة. فما فائدتها.
قلت فيها لطف للعباد لأنهم إذا علموا أن الله رقيب عليهم، والملائكة الذين هم أشرف خلق موكلون بهم يحفظون عليهم أعمالهم، ويكتبونها في صحائف تعرض على رؤوس الأشهاد في موقف القيامة، كان ذلك أزجر لهم عن القبيح وأبعد عن السوء ( ٩٨ ).
حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون. أي حتى إذا احتضر أحدكم، وحان أجله قبضت روحه ملائكتنا الموكلون بذلك حال كونهم لا يتوانون ولا يتأخرون في أداء مهمتهم.
نقل الدكتور محمد سيد طنطاوي عن حاشية الجمل ما يأتي :
قال الجمل :
فإن قلت إن هناك آية تقول : الله يتوفى الأنفس حين موتها. وثانية تقول : قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون.
والآية التي معنا تقول توفته رسلنا.
فكيف الجمع بين هذه الآيات ؟
فالجواب على ذلك أن المتوفي في الحقيقة هو الله، فإذا حضر أجل العبد أمر الله ملك الموت بقبض روحه، ولملك الموت أعوان من الملائكة، فيأمرهم بنزع روح ذلك العبد من جسده، فإذا وصلت إلى الحلقوم تولى قبضها ملك الموت نفسه، فقيل المراد من قوله توفته رسلنا. ملك الموت وحده، وإنما ذكر بلفظ الجمع تعظيما له ( ٩٩ ).
٦٢- ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين.
ثم رجع الجميع إلى الله تعالى، وأعيد جميع المتوفين – مكلفين وغيرهم – إلى الله مولاهم ومالكهم الحق، الذي أنشأهم، والذي أطلقهم للحياة ما شاء، ثم ردهم إليه عندما شاء ليقضي فيهم بحكمه بلا معقب.
ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين فهو وحده يحكم، وهو وحده يحاسب، وهو لا يبطئ في الحكم، ولا يمهل في الجزاء، ولا يحتاج إلى ما يحتاج إليه البشر من الفكر والرواية والتدبر.
وكيفية الحساب، لم يرد في شأنها خبر عن المعصوم صلى الله عليه وآله وسلم، ولا تحيط بها عقول البشر.
فلذا يجب الإيمان بحصول الحساب وتفويض الأمر في كيفيته إلى علام الغيوب.
المفردات :
ظلمات البر والبحر : شدائدهما.
تضرعا وخفية : إعلانا وإسرارا.
التفسير :
٦٣- قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين.
أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين، من الذي ينجيكم من شدائد البر والبحر عندما تغشاكم بأهوالها المرعبة، وشدائدها المدهشة إنكم في هذه الحالة تلجأون إلى الله وحده تدعونه إعلانا وإسرارا بذلة وخضوع وإخلاص قائلين لئن أنجيتنا يا ربنا من هذه الشدائد والدواهي المظلمة لنكونن من المستديمين لشكرك.
قال الزمخشري في الكشاف : وظلمات البر والبحر مجاز أن مخاوفهما وأهوالهما يقال لليوم الشديد يوم مظلم ويوم ذو كواكب، أي اشتدت ظلمته حتى عاد كالليل.
المفردات :
كرب : الكرب ؛ هو الغم والحزن الذي يأخذ بالنفس – كالكرب بضم الكاف.
التفسير :
٦٤- قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون. قل لهم يا محمد : الله وحده هو الذي ينجيكم من هذه المخاوف والأهوال، من كل غم يتنزل بكم، لا يشاركه في إنجائكم من ذلك الشريك كما تعرفون وتشهدون، ثم أنتم – بعد إنعامه عليهم إجابة دعائكم – تشركون معه غيره مخلفين بذلك وعدكم، حانثين في أيمانكم.
فهل يليق بعاقل ان يشرك بالله آلهة تخلت عنه وقت الشدة، وهل يليق بعاقل أن يترك شكر الله الذي أسدى له النعمة.
في الآية كما نرى هو دليل من أدلة الايمان هو دليل الفطرة، فالإنسان عنده الشدة واللهفة والكوارث العظام لا يلجأ إلى الله، حتى إن أحد الملحدين الكافرين كانت له ابنة وحيدة اشتد بها المرض وأصبحت على حافة الموت، ولم ينفع معها علاج ولا دواء، فجثا الملحد على ركبتيه امام ابنته وتضرع إلى الله قائلا يا رب اشفق ابنتي.
قال تعالى : حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين * فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير حق يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون. ( يونس : ٢٢، ٢٣ ).
من تفسير الفخر الرازي :
جاء في التفسير الكبير لفخر الدين الرازي :
( والمقصود من ذلك أنه عند اجتماع هذه الأسباب الموجبة للخوف الشديد لا يرجع الإنسان إلا إلى الله، وهذا الرجوع يحصل ظاهرا وباطنا، لأن الإنسان في هذه الحالة يعظم إخلاصه في حضرة الله، وينقطع رجاءه عن كل ما سواه وهو المراد من قوله : تضرعا وخفية.
ثم يقول في مكان آخر :
( ولفظ الآية يدل على أن عند حصول الشدائد، يأتي الإنسان بأمور أحدها الدعاء، وثانيها التضرع، وثالثهما الإخلاص بالقلب، وهو المراد بقوله خفية، ورابعها التزام الاشتغال بالشكر، ونظير هذه الآية قوله تعالى : وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه. وبالجملة فعادة أكثر الناس أنهم إذا شاهدوا الأمر الهائم أخلصوا، وإذا انتقلوا إلى الأمن والرفاهية أشركوا به ( ١٠٠ ).
المفردات :
أو يلبسكم شيعا : أو يخلطكم فرقا مختلفة الأهواء، كل فرقة تشايع هوى.
بأس بعض : البأس، الشدة.
كيف نصرف الآيات : كيف نبين ونلون الحجج.
التفسير :
٦٥- قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويضيق بعضكم بأس بعض وانظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون. هذا كلام مستأنف لبيان قدرة الله تعالى على إيقاعهم في المهالك وفيه وعيد ضمني بعذابهم إن بقوا على شركهم.
والمعنى :
قل يا محمد لهؤلاء الجاحدين : إن الله تعالى قادر على أن يرسل عليكم عذابا عظيما من فوقكم من جهة العلو، كما أرسل على قوم لوط وعلى أصحاب الفيل والحجارة ؛ أو من تحت أرجلكم أي من الجهة السفل كالغرق وخسف الأرض، كما حدث لفرعون وقارون، أو أن يخلطكم فرقا مختلفة الأهواء : تشايع كل فرقة رأيا وتناصره، فتصبح الأمة في بلاء وجدال وصراع، وفي خصومة ونزاع، فينشأ القتال وتأكل الأمة بعضها بعضا، ويضيق بعضها بأس بعض.
أنظر أيها الرسول الكريم – أو أيها العاقل، كيف ننوع الآيات والعبر والعظات، بالترغيب تارة وبالترهيب أخرى لعلهم يفقهون الحق ويدركون حقيقة الأمر، فينصرفوا عن الجحود والمكابرة، ويكفوا عن كفرهم وعنادهم.
وفي معنى هذه الآية قوله تعالى : أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا ثم لا تجدوا لكم وكيلا * أم أمنتم ان يعيدكم فيه تارة أخرى فيرسل عليكم خاسفا من الريح فيغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا. ( الإسراء : ٦٨، ٦٩ ).
وعندما يجد الإنسان آثار الفيضانات أو الزلازل والبراكين، أو آثار القنابل المهلكة أو تسرب الغاز السام من المعامل، أو إخفاق صاروخ في الانطلاق إلى مساره، أو الحروب التي يذيق الناس بعضهم بأس بعض يتبين جانبا من المعنى الإلهي في هذه الآية، وأن الإنسان سيظل مربوبا لقدرة الله القادرة.
والآية خطاب من الله تعالى للمشركين، لكن القرآن معناه عام ولا يحمل وعده أو وعيده على أناس بأعيانهم بل يشمل كل من يتأتى منه الخطاب إلى يوم القيامة.
وعن مجاهد إن الآية عامة في المسلمين والكفار.
وقد ورد في الأحاديث الصحيحة. أن الله تعالى قدا ستجاب لدعاء نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم فحفظ الأمة المحمدية من العذاب الإلهي من فوقها أو من تحتها.
لكنه تعالى ابتلاها باختلافها شيعا، وإذاقة بعضها بأس بعض عندما تستحق هذا الابتلاء روى البخاري، عن عمرو بن دينار عن جابر بن عبد الله قال :
( لما نزلت هذه الآية : قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم. قال صلى الله عليه وآله وسلم ( أعوذ بوجهك )، أو من تحت أرجلكم. قال :( أعوذ وجهك )، أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض. قال :( هذه أهون وأيسر ).
وروى مسلم بسنده عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( سألت ربي ثلاثا : سألته ألا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها، وسألته ألا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها، وسألته ألا يجعل بأسهم بينهم.. فمنعنيها ) والمراد بالسنة القحط والجدب ( ١٠١ ).
المفردات :
بوكيل : بحفيظ.
التفسير :
٦٦- وكذب به قومك و هو الحق قل لست عليكم بوكيل... الآية.
وكذب قومك بالقرآن الذي اشتمل على تصريف الآيات المقتضية للتصديق، وهو الحق المطابق للواقع، فكيف استهانوا بتكذيبه.
قل لهم يا محمد لست عليكم بوكيل. أي : لم يفوض إلي أمركم فأمنعكم من التكذيب وأجبرتكم على التصديق، فأنا لست بقيم عليكم، وإنما منذر وقد بلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين.
٦٧- لكل نبأ مستقر وسوف تعلمون. قال الراغب : النبأ خبر ذو فائدة عظيمة يحصل به علم أو غلبة ظن، ولا يقال للخبر نبأ حتى يتضمن هذه الأشياء الثلاثة :
والمستقر : وقت الاستقرار.
والمعنى : لكل خبر من أخبار القرآن زمان استقرار، يستقر ويقع فيه مدلوله، وسوف تعلمون حال خبركم في الدنيا والآخرة ومبلغه من الصدق.
أي ستلمسون صدق القرآن عند تحقيق ما وعدكم به في دنياكم وأخراكم. قال تعالى : ولتعلمن نبأه بعد حين.
المفردات :
يخوضون : يندفعون.
فاعرض عنهم : فاتركهم.
وإما ينسيك الشيطان : إما، أصله :( إن ) الشرطية المدغمة في ( ما )( وما ) صلة للتأكيد أي وإن أنساك الشيطان.
بعد الذكر : بعد التذكر.
التفسير :
٦٨- وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فاعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره... الآية.
سبب النزول :
قال ابن جريج إن قريشا كانوا يستهزئون بالقرآن ويقولون فيه إنه سحر، وشعر وأساطير الأولين، وما حلا لهم من الأكاذيب.
فنزلت الآية تأمر النبي صلى اله عليه وآله وسلم أن يعرض عنهم إعراض منكر عليهم إذا سمع ذلك منهم، ولا يجلس معهم ولا يجادلهم، فجعل النبي صلى اله عليه وآله وسلم إذا استهزءوا قام، فحذروا، وقالوا لا تستهزئوا فيقوم.
والمعنى :
وإذا رأيت أيها النبي الكريم أو أيها المؤمن العاقل، الذين يخوضون في آياتنا بالتكذيب والطعن والاستهزاء، فأعرض عنهم، وانصرف عن مجالسهم، وأرهم من نفسك التسامي عن مجالستهم، حتى يدخلوا في حديث غيره، فلك حينئذ مجالستهم، لأن آيات الله من حقها أن تعظم وأن تحترم لا أن تكون محل استهزاء.
وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين. أي : وإما ينسينك الشيطان ما أمرت به من ترك مجالسة الخائفين على سبيل الفرض والتقدير فلا تقعد بعد التذكر مع القوم الظالمين لأنفسهم بتكذيب آيات ربهم، والاستهزاء بها، وقد جاء الشرط الأول. بإذا لأن خوفهم في الآيات محقق.
وجاء الشرط الثاني. بإن لأن إنساء الشيطان له قد يقع وقد لا يقع.
رأى العلماء في نسيان الرسول
يرى بعض العلماء أن ما جاء في الآية من نسيان الرسول إنما هو على سبيل الفرض، إذ لم يقع منه نسيان لترك مجالستهم عندما يخوضون في آيات القرآن الكريم.
ولهذا استعملت إن الشرطية فهي لمجرد الفرض لما ليس محقق الوقوع، وذلك على حد قوله تعالى : لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين. ( الزمر : ٦٥ ).
ويرى بعض آخر من العلماء. أن الخطاب في الآية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، والمراد غيره من المؤمنين ولكن جهود العلماء على جواز النسيان على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الأفعال.
فقد ورد في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى بالمسلمين الظهر فسلم على رأس ركعتين، وفي القوم رجل في يديه طول يسمى ذو اليدين فقال : أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله ؟
فقال : النبي صلى الله عليه وآله وسلم : كل ذلك لم يكن.
فقال ذو اليدين : بل بعض ذلك قد كان، صليت بنا الظهر ركعتين.
فقال صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه : أحق ما يقوله ذو اليدين ؟ فقالوا : نعم، فأتم النبي الصلاة أربعا.
ثم قال : إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون. فإذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب فليتم عليه، ثم ليسجد سجدتين ( ١٠٢ ).
وفي الحديث الصحيح :( إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني ) ( ١٠٣ ).
ما يؤخذ من الآية :
أخذ العلماء من هذه الآية ما يأتي :
١- وجوب الإعراض عن مجالسة المستهزئين بآيات الله أو برسله.
قال القرطبي : من خاض في آيات الله تركت مجالسته وهجر، مؤمنا كان أو كافرا.
روى الحاكم عن عائشة رضي الله عنها قالت، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( من وقر صاحب بدعة فقد أعانه على هدم الإسلام ( ١٠٤ ).
وقال صاحب المنار : وسبب هذا النهي، أن الإقبال على الخائضين والقعود معهم، فيه إقرار لهم على خضوعهم، وإغرائهم لهم بالتمادي فيه.
قال تعالى : وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضون في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا. ( النساء : ١٤٠ ).
٢- جواز مجالسة الكفار مع عدم الخوض، لأنه إنما أمرنا بالإعراض في حالة الخوض، وأيضا فقد قال تعالى : حتى يخوضوا في حديث غيره.
٣- استدل بهذه الآية على أن الناسي غير مكلف.
وفي الحديث الشريف :( إن الله رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ( ١٠٥ ).
المفردات :
ولكن ذكرى : ولكن تذكير ووعظ.
التفسير :
٦٩- وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء ولكن ذكرى لعلهم يتقون.
روى البغوي عن ابن عباس قال : لما نزلت وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم )... إلخ.
قال المسلمون : كيف نقعد في المسجد الحرام ونطوف بالبيت وهم يخوضون أبدا ؟
لئن كان علينا أن نخرج من الحرم كلما استهزءوا بالقرآن، لم نستطيع أن نستقر في المسجد الحرام ونطوف، فنزلت الآية وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء.
أي : وما على الذين يتقون الله شيء، من حساب الخائضين على ما ارتكبوا من جرائم وآثام، ماداموا قد أعرضوا عنهم، ولكن عليهم مع ترك مجالستهم – أن يذكروهم ويعظوهم لعل أولئك الخائضين يجتنبون ذلك ويتقون الله في أقوالهم وأفعالهم.
المفردات :
ذر : اترك.
غرتهم : خدعتهم.
تبسل نفس : الإبسال ؛ المنع، ومنه أسد باسل، لأن فريسته لا تفلت منه. ومعنى تبسل نفس تمنع من النجاة.
وإن تعدل كل عدل : تفد نفسها كل فداء.
حميم : ماء شديد الحرارة. وقد يطلق على الماء البارد. والمراد منه في الآية المعنى الأول. لقوله تعالى :.. وسقوا ماء حميما فقطع أمعائهم.
التفسير :
٧٠- وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت... الآية.
المعنى الإجمالي للآية من فتح القدير للشوكاني :
وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا. أي اترك هؤلاء الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا أي اترك هؤلاء الذين اتخذوا الدين الحق – الذي كان يجب عليهم العمل به والدخول فيه – لعبا ولهوا ولا تقلق قلبك بهم فإنهم أهل تعنت، وإن كنت مأمورا. بإبلاغهم الحجة.
وغرتهم الحياة الدنيا. حتى آثروها على الآخرة، وأنكروا البعث.
وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت. الإبسال تسليم المرء نفسه للهلاك.
فالمعنى : ذكر بالقرآن لعل أحدا يتذكر فينجو بنفسه من العذاب قبل أن يحبط بها فلا تجد مخلصا.
وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها. وإن بذلت تلك النفس التي سلمت للهلاك كل فدية لا يؤخذ منها ذلك العدل حتى تنجو به من الهلاك.
أولئك. المتخذون دينهم لعبا ولهوا، هم الذين أبسلوا بما كسبوا. أي هؤلاء الذين سلموا للهلاك بما كسبوا لهم شراب من حميم. وهو الماء الحار، يشربونه فيقطع أمعائهم.
تمهيد :
حرص المشركون على إبطال دعوة الإسلام بكل سبيل وقد عرضوا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يترك مجالسة الفقراء، أو يجعل لهم مجلسا خاصا بهم، وقد رفض القرآن عرضهم، فاتخذوا هدفا آخر، وهو السخرية والاستهزاء بالقرآن، يريدون بذلك صرف المسلمين عن دينهم، وعن كتاب ربهم، فأمر الله رسوله ألا يبالي بهم، وأن يمضي في سبيله وتبليغ رسالة ربه.
والآية ٧٠ من سورة الأنعام هذه تستعرض عنت المشركين وسوء فعالهم، وتضع أمامهم أهوال عذاب يوم القيامة ليتصوروا هول ما هم قادمون عليه، عل هذا أن يسوق لهم العبرة والموعظة النافعة قبل فوات الأوان.
توضيح :
وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا. أي اترك يا محمد المشركين الذي جعلوا دينهم شيئا يشبه اللعب واللهو، حيث عبدوا الأوثان وجعلوها آلهة، وأباحوا أكل الميتة، وحرموا البحيرة والسائبة، وغير ذلك من الأمور.
وقيل المعنى : اترك يا محمد هؤلاء الغافلين الذين اتخذوا دينهم الذي كلفوا به وهو الإسلام لعبا ولهوا حيث سخروا من تعاليمه واستهزؤوا بها.
وغرتهم الحياة الدنيا. حيث اطمأنوا إليها، واشتغلوا بلذاتها، وزعموا أنه لا حياة بعدها.
قال الإمام الرازي ما ملخصه :( ومعنى ذرهم : أعرض عنهم ولا تبال بتكذيبهم واستهزائهم، ولا تقم لهم في نظرك وزنا، وليس المراد أن يترك إنذارهم لأنه قال له بعده وذكر به وإنما المراد ترك معاشرتهم وملاطفتهم، لا ترك إنذارهم وتخويفهم...
وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع.
وحذر بهذا القرآن أو بهذا الدين الناس مخافة أن تهلك نفوسهم بما كسبته من الكفر والمعاصي إذ ليس لها من غير الله نصير أو شفيع يدفع عنها السوء.
وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها. العدل عنها الفداء.
والمعنى : ومهما قدمت من فداء فلن يؤخذ منها.
قال تعالى : إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به أولئك لهم عذاب أليم وما لهم من ناصرين. ( آل عمران : ٩١ ).
قال الإمام الرازي ما معناه :
إن وجوه الخلاص في الدنيا ثلاثة :
١- ولي يتولى الدفاع ودفع المحذور.
٢- شفيع يشفع للمذنب.
٣- فدية تقبل منه ليحصل الخلاص بسببها.
وهذه الثلاثة لا تفيد في الآخرة البتة.
فليس أمام العصاة إلا الإبسال، الذي هو الارتهان والاستسلام.
وإذا تصور الإنسان كيفية العقاب على هذا الوجه، يكاد يرعد إذا أقدم على معاصي الله ( ١٠٦ )
أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون. أي أولئك الذين حبسوا للهلاك ومنعوا من النجاة بسبب كفرهم ومعاصيهم، لهم في جهنم شراب من ماء شديد الحرارة، تتقطع به أمعاؤهم، ولهم من فوق ذلك عذاب مؤلم بنار تشتعل بأبدانهم بسبب استمرارهم وإصرارهم على كفرهم.
المفردات :
ونرد على أعقابنا : ونرجع إلى الوراء بالعودة إلى الشرك. وسيأتي لذلك مزيد بيان في الشرح.
استهوته الشياطين : ذهبت بهواه وعقله.
يدعونه إلى الهدى : المراد بالهدى الطريق الهادي إلى المقصد، جعل نفس الهدى للمبالغة.
التفسير :
٧١- قل أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا... الآية. ثبت بالقرآن والسنة أن المشركين عرضوا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المال والجاه والسلطان، والملك، نظير أن يترك دعوة الإسلام، فقال كلمته الخالدة لعمه أبي طالب :( والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر ما تركته، حتى يظهره الله أو أهلك دونه ).
وقد عرض المشركون مثل هذه العروض على أبي بكر الصديق، وعلى غيره من المسلمين.
جاء في تفسير ابن كثير، قال السدي : قال المشركون للمؤمنين اتبعوا سبيلنا. واتركوا دين محمد، فأنزل الله عز وجل :
قل أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا... والمعنى : قل يا محمد : للمشركين، أو قل يا أيها العاقل لهؤلاء المشركين، الذين يحاولون رد المسلمين عن الإسلام، قل لهم : أنعبد من دون الله ما لا يقدر على نفعنا إن دعوناه، ولا ضرنا إن تركناه، ومن شأن الإله الحق أن ينفع ويضر، فكيف يليق بنا أن نعبد آلهة خالية من النفع والضر ؟
ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله.. أي : نرجع إلى الشرك الذي كنا فيه بعد أن هدانا الله إلى الإسلام، وأنقذنا من الكفر والضلال.
يقال لمن رد عن حاجته ولم يظفر بها : قد رد على عقبيه.
قال العلامة أبو السعود :( والتعبير عن الرجوع إلى الشرك بالرد على الأعقاب، لزيادة تقبيحه، بتصويره بصورة ما هو علم في القبح ) ا. ه.
وهو الرجوع إلى الوراء إدبارا بغير رؤية موضع القدم.
كالذي استهوته الشياطين في الأرض. وهم الغيلان، أو مردة الجن، يدعونه باسمه واسم أبيه وأمه فيتبعها ويرى أنه في شيء، فيصبح وقد ألقته في مضلة من الأرض يهلك فيها عطشا، فهذا مثل من أجاب الآلهة التي تعبد من دون الله ( ١٠٧ ).
حيران. أي أمسى حيران لا يدري كيف ينجو من المهالك ويصل إلى غايته.
له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا. أي له رفاق لم يستجيبوا إلى استهواء الشياطين، بل ثبتوا على الطريق المستقيم، وجعلوا يدعونه إلى الطريق المستقيم قائلين له : ائتنا لكي تنجو من الهلاك، ولكنه لحيرته وضلاله لا يجيبهم ولا يأتيهم.
من تفسير ابن كثير :
جاء في تفسير ابن كثير لهذه الآية : إن مثل من يكفر بالله بعد إيمانه، كمثل رجل خرج مع قوم على الطريق، فضل الطريق فحيرته الشياطين واستهوته في الأرض، وأصحابه على الطريق، فجعلوا يدعونه إليهم، ويقولون : ائتنا فإنا على الطريق، فأبى أن يأتيهم، فذلك مثل من يتبعهم بعد المعرفة بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومحمد - صلى الله عليه وآله وسلم – هو الذي يدعوا إلى الطريق، والطريق هو الإسلام.
قل إن هدى الله هو الهدى وأمرنا لنسلم لرب العالمين. أي قل أيها الرسول لدعاة الضلال : إن هدى الله – هو الإسلام – هو الطريق الهادي إلى السلامة في الدنيا والآخرة، وما عداه فهو الضلال والخذلان، وأمرنا لنسلم وجوهنا لله رب العالمين.
التفسير :
٧٢- وأن أقيموا الصلاة واتقوه وهو الذي إليه تحشرون... وأمرنا أن نقيم الصلاة ونؤديها في أوقاتها مستوفية لأركانها، وشروطها، وأن نتقي الله ونخشاه، في أمرنا كله فلا نقصر في طاعة ولا نلم بمعصية.
وهو الذي إليه تحشرون. أي : تحشرون إليه وحده، وله الحكم وحده يوم القيامة في المحشر وما بعده، ولا ينفعكم يومئذ إلا ما قدمتموه من الأعمال الصالحة ورأسها الصلاة والتقوى.
٧٣- وهو الذي خلق السموات والأرض بالحق ويوم يقول كن فيكون قوله الحق وله الملك... الآية. أي هو الذي خلق السماوات والأرض وما فيهما – خلقا مشتملا على الحكمة الرفيعة، ومنها أن يعرف بآياته فيها فيعبد ويقصد، ولم يخلقها عبثا وباطلا. وقضاؤه المتصف بالحق والصواب – دائما – نافذ، حين يقول لشيء من الأشياء كن فيكون. ذلك الشيء ويوجد بأمره فورا، وفق تدبيره وإرادته.
وفي آية أخرى يقول سبحانه :
إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون. ( يس : ٨٢ ).
قوله الحق. قوله سبحانه هو الحق الكامل، يأمر بالبعث والحشر فتطيعه الخلائق، أي فكيف ندعوا من دونه ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرتد على أعقابنا.
وله الملك يوم ينفخ في الصور. أي إن الملك لله تعالى وحده في ذلك اليوم فلا ملك لأحد سواه.
والصور قرن ينفخ فيه النفخة الأولى للفناء. والثانية للإنشاء.
قال تعالى : ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون. ( الزمر : ٦٨ ).
واعلم أن الملك دائما لله في الدنيا والآخرة، ولكن الله أعطى بعض عباده الملك ظاهرا وصورة في الدنيا، ويوم القيامة لا يجدون لملكهم ظلا ولا أثرا، وفي هذا المعنى قال تعالى : لمن الملك اليوم لله الواحد القهار. ( غافر : ١٦ ). وقال سبحانه : الملك يومئذ الحق للرحمن وكان يوما على الكافرين عسيرا... ( الفرقان : ٢٦ ).
عالم الغيب والشهادة. الغيب ما غاب عن الناس فلم يدركوه، والشهادة الزمور التي يشهدها الناس ويشاهدونها، ويتوصلون إلى علمها.
فالله هو العالم بما غاب وبما حضر من كل شيء.
وهو الحكيم الخبير.
- الحكيم – صاحب الحكمة في جميع أفعاله.
- الخبير – المطلع على خفايا الأمور وظواهرها.
التفسير :
٧٤- وإذ قال إبراهيم لأبيه ءازر أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين.
بهذه الآية تبدأ قصة إبراهيم عليه السلام، وقد ذكرت في القرآن أكثر من مرة، لكنها تركز في كل مرة على جانب من جوانب القصة، وقد كان إبراهيم عليه السلام أمة وحده، فيه أخلاق الرجال وفيه الوفاء والعزيمة، وفيه جانب البحث والتأمل ومحاولة هداية قومه عن طريق الحوار، وفيه صدق العزيمة، ولو أردنا أن نسجل عناوين لقصة إبراهيم فسنجدها كالآتي :
إبراهيم وآية البعث، إبراهيم يتلطف في دعوة أبيه.
إبراهيم يحطم الأصنام، إبراهيم يلقى في النار.
إبراهيم ونمرود، إبراهيم يهدي قومه عن طريق الحوار.
إبراهيم في مصر، إبراهيم يؤمر بذبح إسماعيل.
إبراهيم وإسماعيل في بناء الكعبة، سلام على إبراهيم.
إذا قال إبراهيم لأبيه ءازر أتتخذ أصناما ءالهة.. أي واذكر يا محمد قومك ليعتبروا ويتعظوا، وقت ان قال إبراهيم لأبيه آزر منكرا عليه عبادة الأصنام.
أتتخذ أصناما ءالهة. أي أتجعلها آلهة لك تعبدها من دون الله الذي خلقك فسواك فعدلك.
وآزر أب لإبراهيم عليه السلام، كما هو ظاهر النص القرآني، وقيل إن اسم والد إبراهيم ( تارخ ) وقيل كان له اسمان آزر وتارخ ( ١٠٨ ).
وكان آزر وقومه يعبدون الأصنام، والشمس، والقمر و الكواكب.
إني أراك وقومك في ضلال مبين. أي : إني أراك وقومك الذين يتبعونك في عبادتها في ضلال عن الحق، ظاهرين... وفي هذا تبكيت وتقريع لهم على هذا المسلك، الذي يتنافى مع ما يقتضيه العقل السليم والفطرة الصحيحة.
وقد ذكر الألوسي في تفسيره : أن آزر بزنة آدم علم أعجمي لأبي إبراهيم – عليه السلام – وكان من قرية من سواد الكوفة، وقيل إن آزر لقب لأبي إبراهيم واسمه الحقيقي تارخ.
وذكر الشيخ القاسمي في تفسيره :
أن الآية حجة على الشيعة في زعمهم أنه لم يكن أحد من آباء الأنبياء كافرا، وأن آزر عم إبراهيم لا أبوه، وذلك لأن الأصل في الإطلاق الحقيقة، ومثله لا يجزم به من غير نقل.
كما نقل الشيخ القاسمي أن ثمرة الآية الدالة على وجوب النصيحة في الدين لا سيما للأقارب فإن من كان أقرب فهو أهم، ولهذا قال تعالى : وأنذر عشيرتك الأقربين.
وقال تعالى : قوا أنفسكم وأهليكم نارا.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم :( ابدأ بنفسك ثم بمن تعول ) ( ١٠٩ ).
ولهذا بدأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعلي وخديجة وزيد ثم بسائر قريش ثم بالعرب ثم بالموالى.
وبدأ إبراهيم بأبيه ثم بقومه، وتدل الآية على أن النصيحة في الدين ليست من العقوق.
وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال :
يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة، وعلى وجه آزر قترة وغبرة، فيقول له إبراهيم ألم أقل لك لا تعصني ؟، فيقول أبوه، فاليوم لا أعصيك، فيقول إبراهيم يا رب أنت وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون فأي خزي أخزى من أبي الأبعد، فيقول الله تعالى : إني حرمت الجنة على الكافرين. ( ١١٠ ).
التفسير :
٧٥- وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين. أي : وكما أرينا إبراهيم الحق، وعرفناه ضلال قومه واضحا، وأريناه الحق في مخالفتهم، نعرفه ونظهر له ملك السماوات والأرض ليستدل به على وحدانيتنا.
وجاء في فتح القدير للشوكاني :
وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض. أي ما فيها من الخلق.
وقيل : كشف الله له عن ذلك حتى رأى إلى العرش، وإلى أسفل الأرضين، وقيل رأى من ملكوت السماوات والأرض ما قصه الله في هذه الآية.
نري. أي أريناه، فهو حكاية حال ماضية. وقد كان آزر وقومه يعبدون الأصنام والكواكب والشمس والقمر فأراد أن ينبههم على الخطأ.
وليكون من الموقنين. أي أريناه من عجائب الخلق، وغرائب الملكوت ليكون نبيا ذا علم، وليكون علمه عن يقين، لا يخالجه شك في عظمة الله، وقدرته على كل شيء.
المفردات :
جن عليه الليل : ستره بظلامه.
أفل : غرب وغاب.
٧٦- فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين. كان قوم إبراهيم يعبدون الأصنام والنجوم والكواكب والقمر والشمس فأراد مجاراتهم تمهيدا لهدايتهم.
وجن عليه الليل أي ستره بظلامه وتغشاه بظلمته وأصل الجن الستر عن الحاسة، يقال جنه الليل وجن عليه يجن جنا وجنونا، ومنه الجن والجنة بالكسر، لأن الجن لا يرى.
والجنة بالفتح وهي البستان الذي يستر بأشجاره الأرض.
والمجن التي تستر المحارب، والأجنة المستورة في بطون أمهاتها، والمجنون الذي غاب عقله وذهب.
ومعنى الآية : فلما ستر الليل بظلامه إبراهيم قال هذا ربي، قال ذلك على سبيل الفرض وإرخاء العنان، مجارات مع عباد الأصنام والكواكب ليكر عليه بالإبطال ويثبت أن الرب لا يجوز عليه التغيير والانتقال.
قال الشوكاني في فتح القدير : وكان هذا منه عند قصور النظر لأنه في زمن الطفولية، وقيل أراد قيام الحجة على قومه كالحاكي لما هو عندهم، وما يعتقدونه لأجل إلزامهم.
وقال الزمخشري في تفسير الكشاف :
كان أبوه وقومه يعبدون الأصنام والشمس والقمر والكواكب، فأراد أن ينبههم على الخطإ في دينهم، وأن يرشدهم إلى طريق النظر والاستدلال، ويعرفهم أن النظر الصحيح مؤد إلى أن شيئا منها لا يصح أن يكون إلها لقيام دليل الحدوث فيها، وأن وراءها محدثا أحدثها، وصانعا صنعها، ومدبرا دبر طلوعها وأفولها وانتقالها ومسيرها وسائر أحوالها.
وقول إبراهيم هذا ربي. قول من ينصف خصمه مع علمه بأنه مبطل، فيحكي قوله، كما روى غيره، متعصب لمذهبه لأن ذلك أدعى إلى الحق، وأنجى من الشغب، ثم يكر عليه بعد حكايته فيبطله بالحجة ا. ه.
والقصة كلها درس في عقيدة الألوهية، وتوحيد الربوبية، وبيان قدرة الله الذي لا أول له ولا آخر بل هو الأول والآخر.
فلما أفل قال لا أحب الآفلين.
فلما غاب النجم قال لا أحب عبادة الأرباب، المنتقلين من مكان إلى مكان، ومن حال إلى حال، لأن الأفول غياب وشأن الإله أن الحق يكون دائم المراقبة لتدبير أمور عباده.
المفردات :
بازغا : مبتدئا في الطلوع والظهور.
التفسير :
٧٧- فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قل لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين. أي وحين أبصر إبراهيم القمر – مبتدئا في الطلوع والظهور قال مستعظما شأنه : هذا ربي. مجاراة لقومه فما أفل وغاب قال إبراهيم عليه السلام، إرشادا لقومه إلى أن يطلبوا الهداية من الله تعالى :
لئن لم يرشدني ربي إلى الحق، ويثبتني عليه، لأكونن من جملة القوم الذين بعدوا عن الصراط المستقيم.
وإنما استدل على بطلان كون القمر إلها بعد أفوله، ولم يستدل على ذلك بمجرد ظهوره، مع أن أفوله محقق، لأنه أراد أن يقيم استدلاله على المشاهدة لأنها أقوى وأقطع لحجة الخصم.
٧٨- فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون. أي فحين أبصر إبراهيم عليه السلام الشمس مبتدئة في الظهور والطلوع، قال مشيرا إلى الشمس، هذا الذي أبصره هو ربي - وهو أكبر من الكواكب، ومن القمر – قال ذلك ليشد انتباههم إلى التأمل والنظر، في التفسيرات الكونية حتى يصلوا منها إلى معرفة الإله الصانع القدير.
فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون. أي فلما غابت الشمس واحتجب ضوءها، جاهر إبراهيم لقومه بالنتيجة التي يريد الوصول إليها فقال : يا قوم إني بريء من عبادة الأجرام المتغيرة التي يغشاها الأفول، وبريء من إشراككم مع الله آلهة أخرى.
لقد تدرج إبراهيم مع قومه في ثلاثة مواقف.
في عبادة النجم، ثم عبادة القمر، ثم في عبادة الشمس.
كما تدرج في أسلوب دعوته لقومه، وتصريحه بضلالهم.
قال صاحب الانتصاف :
والدليل على ذلك أنه ترقى في النوبة الثالثة إلى تمام المقصود والتصريح بالبراءة منهم، والتقريع بأنهم على شرك حين تم قيام الحجة، وتبلج الحق وبلغ من الظهور غاية المقصود ( ١١١ ).
٧٩- إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين. لقد فرغ إبراهيم من الاتجاه نحو آلهة متغيرة، تظهر وتختفي، واتجه بقلبه نحو الإله الحق، الذي لا يتغير ولا يتحول، وأعلن ذلك في صراحة ووضوح قائلا :
إني وجهت قلبي وفطرتي وعبادتي، لخالق الكون الذي خلق السماوات والأرض على غير مثال سابق.
حنيفا. مائلا عن الأديان الباطلة والعقائد الزائفة كلها إلى الدين الحق.
وما أنا من المشركين. أي ولست من الذين أشركوا مع الله بعض مخلوقاته في عبادته.
وبذلك ثبت أن إبراهيم ليس مع قومه في عقيدتهم
المفردات :
وحاجه قومه : وجادله قومه.
وسع ربي كل شيء علما : أحاط علمه بكل شيء.
التفسير :
٨٠- وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان..... الآية. أي جادلوه في التوحيد الذي توصل إليه، وحاولوا أن يقنعوه بصحة اتخاذ الآلهة الأخرى، وخوفوه من ضررها وغضبها.
قال : أتحاجوني في الله وقد هدان.
أي أتجادلونني في شأنه تعالى – وفي أدلة وحدانيته، والحال أنه سبحانه قد هداني إلى الدين الحق، وإلى إقامة الدليل عليكم بأنه هو المستحق للعبادة.
ولا أخاف ما تشركون به... أي لا أخاف معبوداتكم، لأنها جمادات لا تضر ولا تنفع ولا تبصر ولا تسمع.
إلا أن يشاء ربي شيئا. أي لكن إن شاء ربي وقوع شيء، من الضرر لي بذنب عملته فالأمر إليه، وذلك منه لا من معبوداتكم.
وسع ربي كل شيء علما. أي أحاط ربي علما بكل شيء، فلا يقع في ملكه إلا ما شاء هو، وليست لآلهتكم مشيئة حتى أخافها.
أفلا تتذكرون. أي أتعرضون أيها الغافلون عن التأمل في أن آلهتكم جمادات غير قادرة على شيء ما، فلا تتذكرون أنها عاجزة عن إلحاق ضرر بي ؟
وهذه أمور بديهية، لكن القوم من طول ما ألفوا الباطل وعبادة الأصنام، توهموا أن لها قدرة على إلحاق الضرر بمن ترك عبادتها.
المفدرات :
سلطانا : حجة.
التفسير :
٨١- وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا... الآية. أي كيف ساغ لكم أن تظنوا أني أخاف معبوداتكم الباطلة، وهي مأمونة الخوف لأنها لا تضر ولا تنفع، وأنتم لا تخافون إشراككم بالله خالقكم، دون أن يكون معكم على هذا الإشراك حجة أو برهان من العقل أو النقل.
قال الأستاذ سيد قطب في ظلال القرآن :
( إنه منطق المؤمن الواثق المدرك لحقائق هذا الوجود، إنه إن كان احد قمينا بالخوف فليس هو إبراهيم – وليس هو المؤمن الذي يضع يده في يد الله ويمضي على الطريق – وكيف يخاف آلهة عاجزة، ولا يخافون هم أنهم أشركوا بالله ما لم يجعل له سلطانا ولا قوة من الأشياء والأحياء.
فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون. ؟ أي أينا في موقف الأمن من وقوع المكروه الذي تخوفوننا به ؟
قال الشوكاني في فتح القدير :
فأي الفريقين أحق بالأمن. ؟ فريق المؤمنين بالله القوي القادر، الكافرين بالصنم العاجز، أم فريق المؤمنين بالصنم العاجز الكافرين بالله القوي القادر ؟
فأخبروني أي الفريقين أحق بالأمن وعدم الخوف.
إن كنتم تعلمون. وتعرفون البراهين الصحيحة وتميزونها عن الشبه الباطلة.
المفردات :
يلبسوا إيمانهم بظلم : لم يخلطوه بشرك.
التفسير :
٨٢- الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون. هذا جواب السؤال السابق في الآية قبلها، وهو تأييد من الملأ الأعلى لسيدنا إبراهيم عليه السلام وبيان واضح لمن يستحق الأمن، وهم المؤمنون الذين أخلصوا إيمانهم من الشرك.
أولئك لهم الأمن. اليقين والثقة والاطمئنان.
وهم مهتدون. أي : إلى الطريق المستقيم دون من سواهم.
من السنة الصحيحة :
ورد في البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود قال لما نزلت : الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم، قال الصحابة وأينا لم يظلم نفسه ؟ فنزلت : إن الشرك لظلم عظيم ( ١١٢ ).
وروى الإمام أحمد عن ابن مسعود قال : لما نزلت هذه الآية الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم.
شق ذلك على الناس فقالوا يا رسول الله : فأينا لا يظلم نفسه ؟ قال : إنه ليس الذي تعنون ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح : إن الشرك لظلم عظيم. إنما هو الشرك. ( ١١٣ ).
ومن هذه الأحاديث النبوية الشريفة ندرك مدى جدية الصحابة في تلقي أوامر القرآن ونواهيه، لقد كانوا يدركون أنه أوامر للتنفيذ، وكانوا يفزعون حين يظنون أن هناك مفارقة بين طاقتهم المحدودة، ومستوى التكليف المطلوب.
إنه مشهد رائع لهذه النفوس، التي حملت هذا الدين وكانت ستارا لقدر الله، ومنفذا لمشيئته في واقع الحياة.
المفردات :
حجتنا آتيناها إبراهيم : أي أدلتنا التي أرشدنا إبراهيم إليها.
حكيم عليم : بالغ الحكمة واسع العلم.
التفسير :
٨٣- وتلك حججنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم. هذه الآية إشارة إلى تلك الدلائل التي أرشد الله إبراهيم إلى الاحتجاج بها على وحدانية الله وإبطال شرك قومه الذي كانوا عاكفين عليه، وهي تبدأ من قوله تعالى : وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض.
وفي هذا إشادة بمكانة إبراهيم عليه السلام، وبالدلائل التي أرشده الله إليها.
وقد عدد الإمام الرازي وجوه نعم الله على إبراهيم وإحسانه إليه.
فأولها : قوله تعالى : وتلك حججنا آتيناها إبراهيم. والمراد إنا نحن آتيناه تلك الحجة، وهديناه إليها، وأوقفنا عقله على حقيقتها
وثانيها : أنه تعالى خصه بالرفعة والاتصال إلى الدرجات العالية وهي قوله : نرفع درجات من نشاء.
وثالثها : أنه جعله عزيزا في الدنيا وذلك لأنه – تعالى – جعل أشرف الناس وهم الأنبياء والرسل من نسله وذريته.
ويتقرر معنى الآية على النحو الآتي :
وتلك الحجة التي لا يمكن نقضها أو مغالبتها في إثبات الحق، وتزييف الباطل، أعطيناها، إبراهيم وأطمناه إياها، فلما قدم إبراهيم أدلته على توحيد الله، وبطلان عبادة الأصنام، علت حجته وارتفعت منزلته، وسقطت حجة المشركين وبهت الذي كفر.
وهكذا يرفع الله من يشاء درجات متصرفا في هذه بحكمته وعلمه :
نرفع درجات من نشاء. لقد كانت سعادة إبراهيم ورفعته في وضوح حجته، وتبليغ رسالته وكشف بطلان عبادة الأصنام.
يقول الإمام الشافعي : إن سعادة العالم في حجة تتبختر اتضاحا أو في شبهة تتضاءل افتضاحا.
ويقول الإمام الرازي : في هذه الآية دليل على أن كمال السعادة في الصفات الروحانية لا في الصفات الجسمانية.
فقد رفع الله قدر إبراهيم حين أتاه الله الحجة والبينة.
إن ربك حكيم عليم. أي بالغ الحكمة وواسع العلم بحال خلقه فيعلم حال من شاء رفعه.
المفردات :
وهبنا : أنعمنا.
التفسير :
٨٤- ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا.. الآية. أي وهبنا لإبراهيم فضلا منا وكرما : إسحاق وهو ولده من زوجته سارة، ويعقوب وهو ابن إسحاق لتقر عينه ببقاء عقبه إذ في رؤية أبناء الأبناء سرور للنفس وراحة للفؤاد، وقد تربى يعقوب في حجر إبراهيم فنسب إليه، وهو ابن ابنه وليس ابنه.
كلا هدينا. أي كل من إسحاق ويعقوب هديناه الهداية الكبرى فقد جعلنا كلا منهما نبيا.
ونوحا هدينا من قبل. أي وهدينا نوحا – النبي السابق على إبراهيم – إلى التوحيد والدعوة إليه.
وقد امتن الله على إبراهيم بالهداية في أصوله، والهداية في ذريته وهذه من أكبر النعم.
قال الإمام ابن كثير :( وكل من نوح وإبراهيم له خصوصية عظيمة أما نوح فإن الله لما أغرق أهل الأرض إلا من آمن به وهم الذين صحبوه في السفينة، جعل الله ذريته هم الباقين، فالناس كلهم من ذريته، وأما الخليل إبراهيم فلم يبعث الله بعده نبيا إلا من ذريته، كما قال تعالى : ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب. ( الحديد : ٦٢ ).
ثم قال تعالى : ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون كذلك نجزي المحسنين.
وسيذكر هنا سبعة عشر نبيا غير إبراهيم عليه السلام، أحسنوا أداء الرسالة فأحسن الله لهم الجزاء، وخلد ذكرهم ومآثرهم، ومثل ذلك الجزاء الحسن. يجزي الله به كل محسن، قال تعالى : هل جزاء الإحسان إلا الإحسان. ( الرحمن : ٦٠ ).
٨٥- وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين. أي وكذلك هدينا زكريا ويحيى وعيسى وإلياس، فكل واحد من هؤلاء الأنبياء من جملة الصالحين المستقيمين.
٨٦- وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين. أي فضلنا كل واحد من هؤلاء بالنبوة على سائر العالمين في عصره فالأنبياء أفضل البشر.
والمذكور من الرسل في هذه الآيات من أول قوله تعالى : وتلك حجتنا ثمانية عشر نبيا هم من الأنبياء الذين يجب الإيمان بهم تفصيلا وهناك سبعة آخرون يجب الإيمان بهم تفصيلا، وقد ذكروا في مواضع أخرى من القرآن الكريم، وهؤلاء السبعة جمعهم نظما في منظومة فنية في علم التوحيد من قال :
إدريس هود شعيب صالح وكذا ذو الكفل آدم بالمختار قد ختموا
المفردات :
واجتبيناهم : أي اخترناهم واصطفيناهم.
صراط : أي طريق جمعه صرط وأصله سراط.
التفسير :
٨٧- ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم. أي ومن آباء هؤلاء الأنبياء وذرياتهم وإخوانهم من هديناه إلى الطريق المستقيم فمن هنا للتبعيض.
واجتبيناهم. أي قربناهم واخترناهم.
المفردات :
لحبط : أي لبطل ويقال حبط عمله يحبط حبوطا. أي بطل وسقط ثوابه.
التفسير :
٨٨- ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده... الآية. أي ذلك الاجتباء والهداية والتفضيل المفهوم مما تقدم إنما هو هدى الله، يرشد إليه من يشاء هدايته من عباده وهم المستعدون لذلك.
ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون. ولو فرض أن أشرك بالله أولئك المهديون المختارون لبطل وسقط عنهم ثواب ما كانوا يعلمونه من أعمال صالحة. فكيف بغيرهم.
قال ابن كثير : في هذه الآية تشديد لأمر الشرك، وتغليظ لشأنه، وتعظيم لملابسته، كقوله تعالى :
ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين. ( الزمر : ٦٥ ).
المفردات :
والحكم : أي الحكمة أو فصل الخطاب. والقدرة على الفصل في الأمور على أساس من الحق والصواب.
التفسير :
٨٩- أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة.. الآية. أولئك : أي هؤلاء الأنبياء المذكورون سابقا.
الذين آتيناهم الكتاب. أي جنسه المتحقق في ضمن أي فرد كان من أفراد الكتب السماوية.
والمراد بإيتائه : التفهيم التام لما اشتمل عليه من حقائق وأحكام، وذلك أعم من أن يكون بالإنزال ابتداء أو بالإيراث بقاء، فإن المذكورين لم ينزل على كل واحد منهم كتاب معين.
والحكم. أي الحكمة وهي علم الكتاب ومعرفة ما فيه من الأحكام أو الإصابة في القول والعمل، أو القضاء بين الناس بالحق.
والنبوة. الرسالة.
فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين. فإن يكفر بهذه الثلاث التي اجتمعت فيك يا محمد هؤلاء المشركون من أهل مكة، فلن يضرك كفرهم، لأنا قد وفقنا للإيمان بها قوما كراما ليسوا بها بكافرين في وقت من الأوقات، وإنما هم مستمرون على الإيمان بك والتصديق برسالتك وهم أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المهاجرين والأنصار وقد وفقناهم لحمل الرسالة حتى كأنهم موكولون بها.
المفردات :
اقتده : أي تأس واتبع طريقهم بالاقتداء. والهاء للوقف
التفسير :
٩٠- أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده... الآية. أي هؤلاء الأنبياء الذين وفقهم الله تعالى إلى منهج الحق والخير فاقتد بهم يا محمد، وسر على طريقتهم من التوحيد وأصول الدين لأن دعوة الأنبياء في أصولها واحدة.
قل لا أسئلكم عليه أجرا. أي قل أيها الرسول الكريم لمن بعثت إليهم لا أطلب منكم على ما أدعوكم إليه من خير، وما أبلغكم إياه من قرآن أجرا قليلا أو كثيرا.
إن هو إلا ذكرى للعالمين. أي ما القرآن إلا عظة وإرشاد للثقلين : الإنس والجن وهو تذكير للخلق كافة، الموجودين عند نزوله ومن سيوجد من بعد.
المفردات :
وما قدروا الله حق قدره : وما عظموه حق تعظيمه.
قراطيس : جمع قرطاس وهو الورق ويقال له قرطاس وقرطاس أيضا.
في خوضهم : في باطلهم.
يلعبون : يلهون.
التفسير :
٩١- وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء... الآية.
والمعنى : ما عظموا الله حق تعظيمه، وما عرفوه حق معرفته في اللطف بعاده وفي الرحمة بهم، بل أخلوا بحقوقه إخلالا عظيما، إذ أنكروا بعثة الرسل، وإنزال الكتب، وقالوا تلك المقالة الشنعاء، ما أنزل الله على بشر شيئا من الأشياء، قاصدين بهذا القول : الطعن في نبوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وفي أن القرآن من عند الله.
قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس. أي قل لهم يا محمد ردا عليهم من الذي أنزل التوراة على موسى.
نورا. أي أنزلنا التوراة واضحة في نفسها تضيء للناس طريق العلم.
وهدى للناس. والتوراة مرشدة للناس إلى الطريق المستقيم وهي هداية تعصمهم من الأباطيل والضلالة.
تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفونها كثيرا. أي تجعلون هذا الكتاب الذي أنزله الله نورا وهداية للناس أوراقا مكتوبة مفرقة، لتتمكنوا من إظهار ما تريدون منها، ومن إخفاء الكثير منها على حسب ما تمليه عليكم مصالحكم، وشهواتكم.
والمراد من هذه الجملة ذم المحرفين لكتب الله وتوبيخهم على هذا الفعل الشنيع.
وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباءكم.
قال الشوكاني : والذي علموه هو الذي أخبرهم به نبينا صلى الله عليه وآله وسلم من الأمور التي أوحى الله إليه بها، فإنها اشتملت على ما يعلموه من كتبهم، ولا على لسان أنبياءهم، ولا علمه آباءهم.
قل الله. أي أنزل الله.
ثم ذرهم في خوضهم يلعبون. في باطلهم يصنعون صنع الصبيان الذين يلعبون.
وفي أمره – صلى الله عليه وآله وسلم – بأن يجيب عنهم، إشعار بأن الجواب متعين لا يمكن غيره، وتنبيه على أنهم بهتوا بحيث أنهم لا يقدرون على الجواب.
ملحق في مكية الآية أو مدنيتها :
للمفسرين في هذه الآية قولان :
١- الأول أن الآية مكية فسورة الأنعام كلها مكية، والسياق كله حديث عن المشركين الذين قالوا :
ما أنزل الله على بشر من شيء.
وإنما ألزمهم الله بإنزال التوراة لأنهم كانوا يعرفون ذلك ولا ينكرون أن الله قد أنزل التوراة على موسى.
وقد اختار هذا الرأي ابن جرير الطبري وابن كثير.
٢- الرأي الثاني أنه هذه الآية مدنية، وكون سورة الأنعام مكية لا يمنع من وجود بعض آيات مدنية منها كما نص عليه كثير من العلماء.
جاء في لباب النقول في أسباب النزول للسيوطي ما يأتي :
أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير مرسلا قال :
جاء رجل من اليهود يقال له مالك بن الصيف فخاصم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم : أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى، هل تجد في التوراة أن الله يبغض الحبر السمين – وكان حبرا سمينا – فغضب وقال : هل أنزل الله على بشر من شيء ؟ فقال له أصحابه : ويحك ولا على موسى، فأنزل الله : وما قدروا الله حق قدره. ( ١١٤ ).
والمتأمل في سياق الآية يجد أن الخطاب كان موجها إلى أهل مكة، وتفيدنا كتب علوم القرآن أن المشركين كانوا يلجئون إلى اليهود يسألونهم عن محمد ودينه وربما وجه اليهود إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أسئلة عل لسان المشركين فقد قال اليهود للمشركين، اسألوه عن الروح وعن ذي القرنين وعن أهل الكهف.
إذا علمنا هذا ترجح لدينا أن الآية مكية وقد التفت الخطاب فيها لليهود باعتبارهم عنصر الشغب الذي يقف وراء مشركي مكة.
( وتوجيه الخطاب إلى اليهود لا يتنافى مع كون الآية مكية، لأنه ليس بلازم أن يكون كل قرآن مكي خطابا لغير اليهود ) ( ١١٥ ).
المفردات :
أم القرى : مكة سميت بذلك لأنها قبلة أهل القرى ومحجهم وأعظم القرى شأنا. وقيل : لأنها مكان أول بيت وضع للناس.
التفسير :
٩٢- وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها... الآية.
أي كثير الفوائد لاشتماله على منافع الدين والدنيا.
فقد اشتمل القرآن على أشرف العلوم وأكملها وهي معرفة ذات الله وصفاته وأفعاله وأحكامه وأسمائه كما اشتمل على بيان السبيل إلى طهارة الأخلاق وتزكية النفس ؛ وتشريع العبادات والمعاملات كما يقول الإمام الرازي في تفسيره. ثم قد جرت سنة الله بأن الباحث في القرآن والمتمسك به يجعل له عز الدنيا وسعادة الآخرة.
مصدق الذي بين يديه. موافق للكتب التي سبقته في التوحيد وفي تنزيه الله، وفي أصول العقائد، .
ولتنذر أم القرى ومن حولها.
أي ولتنذر بهذا الكتاب أم القرى : مكة ومن حولها : من أطراف الأرض شرقا وغربا لعموم بعثته - صلى الله عليه وآله وسلم – قال تعالى : وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أم القرى ومن حولها وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه. ( الشورى : ٧ ).
وسميت بأم القرى لأنها مكان أول بيت وضع للناس، ولأنها أهل القرى كلها ومكان حجهم، ولأنها أعظم القرى شأنا وغيرها كالتبع لها، كما يتبع الفرع الأصل.
وقد ثبت عموم بعثته صلى الله عليه وآله وسلم بالكتاب والسنة وإجماع الأمة.
قال تعالى : وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا... الآية. ( سبأ : ٢٨ ).
وروى البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال :
أعطيت خمسا لم يعطهن نبي قبلي :
١- نصرت بالرعب مسيرة شهر.
٢- وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا.
٣- وأحلت لي الغنائم.
٤- وأعطيت الشفاعة.
٥- وأرسل كل نبي إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة.
وقد أجمعت الأمة الإسلامية على عموم رسالته صلى الله عليه وآله وسلم.
قال السيد رشيد رضا في تفسير المنار :( وزعم بعض اليهود المتقدمين وغيرهم أن المراد بمن حولها بلاد العرب، واستدلوا به على أن بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم خاصة بقومه من العرب، والاستدلال باطل وإن سلم التخصيص المذكور فإن إرساله إلى قومه لا ينافي إرساله إلى غيرهم، وقد ثبتت عموم رسالته من آيات أخرى. ا. ه.
و إذا تأملت وجدت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذكر لقومه عندما جمعهم أنه رسول الله إليهم خاصة و إلى الناس عامة.
ومن الأدلة على عموم رسالته قوله تعالى : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين... ( الأنبياء : ١٠٧ ).
والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به وهم على صلاتهم يحافظون. أي والذين يؤمنون بالآخرة وما فيها من ثواب وعقاب يؤمنون بهذا الكتاب الذي أنزله الله هداية ورحمة لأن من صدق بالآخرة خاف العاقبة، وحرص على العمل الصالح الذي ينفعه.
وهم على صلاتهم يحافظون. أي يؤدونها في أوقاتها مقيمين لأركانها وآدابها في خشوع واطمئنان، وخصت الصلاة بالذكر لكونها أشرف العبادات وأعظمها خطرا بعد الإيمان.
فهي عماد الدين، وسبيل إلى طهارة النفس ونظافة القلب وهي الصلة بين المؤمن وربه، قال تعالى : اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون... ( العنكبوت : ٤٥ ).
المفدرات :
افترى : اختلق والفرية الكذبة.
غمرات : جمع غمرة، وغمرة الشيء شدته و مزدحمه وغمرات الموت شدائده وسكراته.
عذاب الهون : أي الهوان يريد العذاب المتضمن لشدة وإهانة، وإضافته إلى الهون لعراقته فيه.
التفسير :
٩٣- ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا... الآية.
قال الإمام الشوكاني في فتح القدير :
أي كيف تقولون ما أنزل الله على بشر من شيء، وذلك يستلزم تكذيب الأنبياء، عليهم السلام، ولا أحد أظلم ممن افترى على الله كذبا، فزعم أنه بني، وليس بنبي، أو كذب على الله في شيء من الأشياء.
أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء. أو ادعى نزول الوحي عليه، ولم ينزل عليه شيء، وقد صان الله أنبياءه عما تزعمون عليهم، وإنما هذا شأن الكاذبين رؤوس الضلال، كمسيلمة الكذاب، والأسود العنسى وسجاح.
ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله. أي ولا أحد أظلم - أيضا – ممن قال بأني قادر على أن أنزل قرآنا مثل الذي أنزله الله، كالذين حكى القرآن عنهم : وإذ تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين... ( الأنفال : ٣١ ).
وهيهات أن يكون لأحد قدرة على الإتيان بمثل القرآن فليس في مقدور بشر أن يأتي بمثله قال تعالى : ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا. ( النساء : ٨٢ ). وقال سبحانه : قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا. ( الإسراء : ٨٨ ).
ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت. أي ولو ترى أيها الرسول الكريم أو أيها العاقل حالة أولئك الظالمين وهم في غمرات الموت أي في شدائده وكرباته وسكراته لرأيت شيئا فظيعا هائلا ترتعد منه الأبدان، فجواب الشرط محذوف.
والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم. أي والملائكة الموكولون بقبض أرواحهم باسطوا أيديهم إليهم بالإهانة والعذاب قائلين على سبيل التوبيخ والزجر : أخرجوا إلينا أرواحكم من أجسادكم وسلموها إلينا.
وقيل المعنى : أخرجوا أنفسكم من هذه الغمرات التي وقعتم فيها، أو أخرجوا أنفسكم من أيدينا وخلصوها من العذاب.
وفي آية أخرى يقول الله تعالى : ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم. ( الأنفال : ٥٠ ).
اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون. أي تقول لهم الملائكة اليوم تجزون عذاب الذل والهوان بسبب أنكم كنتم في دنياكم تفترون على الله الكذب فتنكرون إنزال الله كتبه على رسله وبسبب ادعائكم أن لله شركاء، وبسبب إعراضكم عن التأمل في آيات الله والتصديق بها. فكان ما جوزيتم به من عذاب الهون جزاءا وفاقا.
المفردات :
فرادى : منفردين جمع فرد.
ما خولناكم : ما أعطيناكم.
وراء ظهوركم : في الدنيا.
تقطع بينكم : تشتت جمعكم.
ضل عنكم : ضاع وبطل.
التفسير :
٩٤- ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة... الآية. من شأن القرآن أن ينقل المشاهد إلى ما يريد عرضه أمامه أنه واقع مشاهد.
فالآية السابقة عرضت مشهد الملائكة وهي تستخرج أرواح الظالمين.
وهذه الآية نقلت المشاهد إلى مشاهد القيامة وقد بعث الله الظالمين فرادى مجردين من أموالهم وسلطانهم وأهلهم وأولادهم.
ومضمون الآية :
ويقول الله للظالمين : ولقد جئتمونا للحساب والجزاء منعزلين ومنفردين عن الأموال والأولاد وعن كل ما جمعتموه في الدنيا من متاع. أو منفردين عن الأصنام والأوثان التي زعمتم أنها شفعاؤكم عند الله.
كما أوجدناكم – في أول حياتكم الأولى – بدون مال ولا متاع ولا ولد.
وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم. أي وتركتم ما أعطيناكم من النعم في الدنيا، ولم تحملوا منها معكم شيئا.
وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء. أي ويقال لهم توبيخا وتقريعا على شركهم : وما نبصر معكم من زعمتم أنهم سيشفعون لكم عند الله تعالى من الأوثان والأصنام الذين توهمتم أنهم شركاء لله تعالى في الربوبية واستحقاق العبادة. منكم كما يستحقها الله تعالى – وقد حكى القرآن عن المشركين قولهم : ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى. ( الزمر : ٣ ).
لكنهم لم يجدوا أثرا للأصنام، ولا لشفاعتهم ولا لعبادتهم لهم.
لقد تقطع بينكم. أي انفصمت الروابط بينكم، وتشتت جمعكم.
وضل عنكم ما كنتم تزعمون. أي ذهب وضاع عنكم، ما كنتم تزعمون في الدنيا، من أن الأصنام شفعاء لكم عند الله، ومن أنه لا بعث ولا جزاء ولا حساب.
المفردات :
فالق : الفلق ؛ الشق.
النوى : ما في داخل الثمرة ؛ تمرا أو غيره.
يخرج الحي من الميت : يخرج النبات الحي من التربة الميتة، والزرع من الحب، والشجر من النوى.
تؤفكون : أي تصرفون يقال أفكه عن الأمر يأفكه أي صرفه عنه إلى غيره.
التفسير :
٩٥- إن الله فالق الحب والنوى... الآية.
تستعرض الآيات القدرة الإلهية، وآثار رحمة الله في إعمار الكون، وسوق المطر وإنبات النبات وتسخير الشمس والقمر، وهذه من لطائف القرآن وخصائصه، فهو لم يجمع الآيات الكونية في سورة واحدة، وإنما كان يتخلل حديثه لفت الأنظار إلى آثار القدرة، ونحن في الآيات السابقة شاهدنا أدلة الوحدانية، ونفى الشركاء، وتفرد الإله بالألوهية.
وهنا نجد أدلة القدرة والعظمة، وبيان أن وراء هذا الكون البديع يدا حانية تحفظ توازنه، وتمده بمقومات الحياة وبصنوف النعم. قال تعالى : وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون...
( النحل : ٥٣ ).
إن الله فالق الحب والنوى.
إن الله وحده هو الذي يشق الحبة اليابسة كالحنطة فيخرج منها النبات الأخضر النامي، وكذلك الزروع على اختلاف أصنافها والله وحده هو الذي يشق النواة الصلبة فيخرج منها النخلة والشجرة النامية. وفي ذلك أكبر دلالة على قدرة الله التي لا تحد وعلى أنه هو المستحق للعبادة لا غيره.
ونجد عجائب في طبيعة الشجرة أو النخلة.
كما يذكر الإمام فخر الدين الرازي في تفسير الآية قائلا :
إنه إذا وقعت الحبة أو النواة في الأرض الرطبة ثم مر بها قدر من الماء أظهر الله تعالى في تلك الحبة والنواة من أعلاها شقا ومن أسفلها شقا آخر، فالأول يخرج منه الشجرة الصاعدة إلى الهواء، والثاني يخرج منه الشجرة الهابطة في الأرض. وهنا عجائب.
لأن الذي يغوص في الأرض أطراف بسيطة في غاية الدقة واللطافة، ولكنها تغوص في الأرض الصلبة بقدرة الله العزيز الحكيم. لتكون الجذور التي تثبت الشجرة أمام الأعاصير والرياح.
وفي تكوين الورقة الواحدة وما فيها من عروق وأوتار دليل من دلائل القدرة الإلهية. وكل ذلك إنما ظهر من كيفية خلقه تلك الورقة من الحبة والنواة.
يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي.
أي يخرج ما ينمو من الحيوان والنبات والشجر مما لا ينمو كالنطفة والحبة.
ومخرج الميت من الحي.
فهو يخرج الخلايا الميتة من النبات والحيوان، كما يخرج الأظافر والشعر. وبقايا الغذاء من الخلايا الحية من الإنسان والحيوان، وحينما يموت النبات والحيوان والإنسان، تتحلل أجسامها جميعها فتعود إلى العناصر الترابية التي كانت قد تكونت وهي بضعة عشر عنصرا على اختلاف في النسب بين الحيوان والنبات.
ذلكم الله.
أي صانع ذلك الصنع العجيب هو الله ذو القدرة العجيبة، المستحق للعبادة دون سواه.
فأنى تؤفكون.
فكيف تصرفون عن الحق ما ترون من كمال قدرته وبديع صنعه ؟.
وكيف تصرفون عن عبادة الله إلى عبادة آلهة أخرى ؟
المفردات :
فالق الإصباح : الإصباح في الأصل مصدر أصبح سمى به الصبح، وفالق الإصباح أي شاق عمود الصبح عن ظلمة الليل، أو عن بياض النهار.
سكنا : السكن كل ما يسكن إليه ويؤنس به، والسكن الرحمة.
حسبانا : مصدر حسب أي يحسب بهما الأوقات.
التفسير :
٩٦- فالق الإصباح :
أي فالق ظلمة الإصباح وهي الغبش عن بياض النهار حيث يضيء الوجود، ويستنير الكون ويستفيد الناس من ظلام الليل بالهدوء والسكن، ومن نور النهار بالسعي والعمل.
وجعل الليل سكنا.
يسكن فيه الناس عن الحركة في معاشهم، ويستريحون من التعب والنصب.
والشمس والقمر حسبانا.
أي وجعل الشمس والقمر يجريان بحساب مقدر لا يتغير ولا يتبدل وبهما تحسب الأوقات، التي تؤدى فيها العبادات والمعاملات.
ذلك تقدير العزيز العليم.
أي ذلك الذي تم من ظهور الإصباح، وجعل الليل سكنا و الشمس والقمر حسبانا جار وحاصل، بتقدير العزيز. الذي أحسن كل شيء خلقه وأبدع تصويره.
العليم. الذي وسع علمه كل شيء فلا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء.
وقد وردت هذه الخاتمة كثيرا في القرآن، بعد ذكر خلق الليل والنهار والشمس والقمر مما يدل دلالة واضحة. على أن نظام هذه الأفلاك والشمس والقمر والنجوم والكواكب والفضاء والهواء والليل والنهار من أقوى الأدلة على سعة علم الله وعظيم تدبيره.
وقد بين الإمام الرازي في تفسيره الكبير : أن في الآية أنواعا من الأدلة على وجود الصانع وكمال قدرته، منها فلق الحب والنوى، ومنها حركة الأفلاك التي ينتج عنها فلق ظلمة الليل بنور الصبح، وهذه أعظم في كمال القدرة من فلق الحب والنوى، لأن الأحوال الفلكية أعظم في القلوب وأكثر وقعا من الأحوال الأرضية.
٩٧- وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر... الآية.
هذا لون من ألوان قدرته تعالى وأنعمه على عباده ومعنى الآية :
وهو الذي جعل وأنشأ لكم هذه الكواكب النيرة لتهتدوا بها إلى الطرق والمسالك خلال سيركم في ظلمات الليل بالبر والبحر حيث لا ترون شمسا ولا قمرا.
ومن آثار النجوم، أنها زينة للسماء وأيضا هي رجوم للشياطين وشهبا تقذف بها الجن قال تعالى : إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب * وحفظا من كل شيطان مارد * لا يسمعون إلى الملإ الأعلى ويقذفون من كل جانب * دحورا ولهم عذاب واصب * إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب... ( الصافات : ٦ : ٨ ).
وقال عز شأنه : ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين... ( الملك : ٥ ).
قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون.
أي : وقد وضحنا وبينا الآيات الدالة على كمال قدرته تعالى، ورحمته بعباده، لقوم يعلمون وجه الاستدلال بها، فيعلمون بموجب علمهم، ويزدادون إيمانا على إيمانهم.
المفردات :
فمستقر ومستودع : أي فلكم استقرار في الأصلاب، أو فوق الأرض، واستيداع في الأرحام أو تحت الأرض.
يفقهون : يفهمون.
التفسير :
٩٨- وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة... الآية.
أي وهو سبحانه الذي أوجدكم من نفس واحدة هي نفس أبيكم آدم عليه السلام قال تعالى :
يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء... الآية.
( النساء : ١ ).
وفي هذه الجملة تذكير بنعم الله على خلقه فإن رجوع الناس إلى أصل واحد أقرب إلى التواد والتراحم.
وفي خطبته صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع إشارة إلى هذا المعنى حيث قال صلى الله عليه وآله وسلم :
( أيها الناس إن أباكم واحد كلكم لآدم وآدم من تراب لا فضل لعربي على عجمي، ولا لأبيض على أحمر إلا بالتقوى إن أكرمكم عند الله أتقاكم.
وقال تعالى : يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير... ( الحجرات : ١٣ ).
فمستقر ومستودع : أي فلكم مستقر على ظهر الأرض، ومستودع في باطن الأرض.
وقيل المستقر ما كان في الرحم والمستودع ما كان في الصلب.
المفردات :
خضرا : أي شيئا أخضر، يقال هو أخضر وخضر.
متراكبا : أي بعضه فوق بعض.
قنوان : القنو ما يحمل من التمر، وهو كالعنقود للعنب.
دانية : قريبة التناول.
مشتبها وغير متشابه : بعضه متشابه في الهيئة والطعم، وبعضه غير متشابه.
إذا أثمر : إذا أخرج ثمره صغيرا.
وينعه : أي وانظروا إلى حالته حينما ينضج.
التفسير :
٩٩- وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء... الآية.
هذا تذكير بنعمة أخرى من نعم الله الجليلة، الدالة على كمال قدرته.
والمعنى : وهو سبحانه الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا بسبب ذلك كل صنف من أصناف النبات والثمار المختلفة في الكم والكيف والطعوم والألوان.
قال تعالى : وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون... ( الرعد : ٤ ).
فأخرجنا منه خضرا.
هذا تفصيل لأنواع ما يخرج من الأرض، أي فأخرجنا من النبات الذي لا ساق له، نباتا غضا أخضر، وهو ما تشعب من أصل النبات من الحبة.
نخرج منه حبا متراكبا.
أي نخرج من ذلك النبات الأخضر حبا ركب بعضه فوق بعض كما في السنبل من القمح والشعير.
ومن النخل من طلعها قنوان دانية.
الطلع : أول ما يخرج ويبدو من ثمر النخل كالكيزان، أي ويخرج بأمر الله تعالى من طلع النخل عذوقه وهي عناقيد البلح.
والقنوان جمع قنو وهو العرجون بما فيه الشماريخ، والدانية القريبة التي ينالها القائم والقاعد.
قال الزجاج : المعنى منها دانية، ومنها بعيدة، فحذف الثانية.
وفي التفسير الوسيط : أي : ومن طلع النخل، قنوان يحمل تمرها ويكون في متناول الأيدي وهو الداني القريب، أو في غير متناول الأيدي وهو البعيد، ونبه على الأولى لزيادة النعمة فيها.
وجنات من أعناب.
هذه الجملة معطوفة على نبات كل شيء.
أي فأخرجنا بهذا الماء نبات كل شيء وأخرجنا به جنات كائنة من أعناب.
والتمر والعنب هما أشرف الثمار عند أهل الحجاز وربما كانا خيار الثمار في الدنيا، قال تعالى : وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب.
( يس : ٣٤ ).
والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه.
أي وأخرجنا الزيتون والرمان متشابها في الحجم واللون وغير متشابه في الطعم. مما يدل على كمال القدرة وحكمة المبدع الخالق جل جلاله.
انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه.
أي أنظروا نظر اعتبار إلى ثمر الزيتون والرمان إذا أخرج ثمره، كيف يخرجه ضئيلا لا يكاد ينتفع به، وإلى ينعه. أي وإلى حال إدراكه ونضجه حيث يصبح ذا نفع عظيم ولذة كاملة وملاءمة للجسم كل الملاءمة.
إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون.
إن فيما ذكرنا من أنواع النبات والثمار وفيما أمرتم بالنظر إليه لدلائل عظيمة على وجود القادر الحكيم، لقوم يؤمنون، ويصدقون أن الذي أخرج أنواع النبات والثمار المشاهدة أمامكم قادر على البعث والنشور وإحياء الموتى للحساب والجزاء.
قال تعالى :
ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحي الموتى إنه على كل شيء قدير. ( فصلت : ٣٩ ).
المفردات :
الجن : المراد بهم الشياطين، أو ما يعمهم والملائكة.
وخرقوا : أي اختلقوا، وافتروا.
التفسير :
١٠٠- وجعلوا لله شركاء الجن... الآية.
عدد الله سبحانه وتعالى فيما سبق عددا من أنعمه على عباده التي تقتضي الاعتراف له بالألوهية، وتفرده سبحانه عن الشريك، لأنه هو الذي يخلق وينعم وحده.
وجعلوا لله شركاء الجن.
أي جعلوا الجن شركاء لله فعبدوهم وعظموهم كما عبدوه تعالى وعظموه.
وفي المراد بالجن هنا أقوال :
الأول : الملائكة حيث عبدوهم وقالوا إنهم بنات الله وتسميتهم جنا مجازا لاستتارهم عن الأعين كالجن.
الثاني : أن المراد بالجن هنا الشياطين، حيث أطاعوهم كما يطاع الله.
الثالث : أن المراد بالجن هنا إبليس فقد عبدوه قوم وسموه ربا ومنهم من سماه إله الشر والظلمة وخص الباري بأنه إله الخير والنور.
وقد تكون العبادة حقيقة وقد تكون مجازا قال تعالى :
ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين * وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم. ( يس : ٦٠، ٦١ ).
وخلقهم.
أي اتخذوا له سبحانه شركاء، وقد خلقهم وحده فلا يصح أن يعبد سواه.
وجملة وخلقهم. حال من فاعل جعلوا أي وجعلوا لله شركاء الجن والحال أنهم قد علموا أن الله وحده هو الذي خلقهم دون الجن وليس من يخلق كمن لا يخلق.
وخرقوا بنين وبنات بغير علم.
أي واختلقوا وافتروا لله سبحانه بنين وبنات بغير علم بحقيقة ما يقولون، بل عن جهل خالص بالله وبعظمته، إذ لا ينبغي ما دام إلها أن يكون له بنون وبنات أو صاحبة أو أن يشاركه أحد في خلقه، فلا يجوز أن ينسب إليه تعالى إلا ما قام الدليل على صحته.
وفي هذا تنبيه على تنزيه الله تعالى عن افتراء المفترين حيث ادعى المشركون أن الملائكة بنات الله، وادعى اليهود أن عزيرا ابن الله، وادعت النصارى أن المسيح ابن الله.
سبحانه وتعالى عما يصفون.
سبحانه. أي تنزيها له وتقديسا.
وتعالى. أي تباعد وارتفع عن قولهم الباطل.
عما يصفون. عما يصفه به هؤلاء الضالون من الأنداد والأولاد والنظراء والشركاء.
المفردات :
بديع السموات والأرض : منشئها ابتداء. من غير مثال سبق. وهو صيغة مبالغة. من بدعه ؛ بمعنى : اخترعه.
أنى يكون له ولد : من أين يكون له ولد. أو كيف يكون له ولد ؟
صاحبة : زوجة.
التفسير :
١٠١- بديع السموات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة... الآية. الله سبحانه وتعالى خالق السموات والأرض على غير مثال سابق ولا شريك يعينه.
أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة. فكيف يكون له ولد كما يزعمون، ولم تكن له زوجة يأتي منها الولد.
وخلق كل شيء. أي وخلق كل شيء من الموجودات، ومنهم الملائكة والمسيح وعزير.
وهو بكل شيء عليم. أي عالم بكل المعلومات، لا تخفى عليه خافية، وقد وسع علمه جميع المخلوقات.
وفي الآية دليل على نفي الولد عن الله تعالى من وجوه :
١- أن الله هو خالق السماوات والأرض، ومن كان كذلك لا يصح أن يكون له ولد، لأن ما ادعوه ولدا، لا يقدر على مثل ذلك، ومن شأن الولد أن يكون قادرا على مثل ما يقدر عليه أبوه.
٢- من شأن الولد أن يتولد من ذكر وأنثى متجانسين، والله تعالى ليس له زوجة.
٣- إن الله وحده هو العليم بكل خلقه، وما زعموه ولدا ليس كذلك. فلا يصلح أن يكون ولدا لله. لأنه فقد صفته، وهي العلم بكل شيء.
المفردات :
وكيل : تستعمل هذه الكلمة بمعنى : حفيظ. وبمعنى : من يوكل إليه الأمر، ومن يتولاه.. وكل تصح إرادته هنا.
التفسير :
١٠٢- ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل. أي ذلكم المتصف بالأوصاف العلية السابقة هو ربكم لا رب لكم غيره.
لا إله إلا هو. هو الإله المستحق للعبادة وحده لا من زعمتم من الشركاء.
خالق كل شيء فاعبدوه. هو الخالق لكل شيء، أي ما كان منه وما يكون، وإذا كان الأمر كذلك فاعبدوا الله وحده غير مشركين به ولا متخذين له ولدا.
وهو على كل شيء وكيل. أي وهم مع تلك الصفات الجليلة، رقيب على عباده حفيظ عليهم يدبر أمورهم، ويمسك بنظام هذا الكون كله بما فيه ومن فيه ليعصمه من الخلل قال تعالى : إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا. ( فاطر : ٤١ ).
المفردات :
لا تدركه الأبصار : إدراك الشيء ؛ الوصول إليه، والإحاطة به.
الأبصار : جمع بصر. وهو حاسة النظر. وقد يطلق على العين. لأنها محل النظر والإبصار.
اللطيف : العليم بدقائق الأمور وخوافيها.
التفسير :
١٠٣- لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير. أي لا تبلغ كنه حقيقته الأبصار، فالمنفي هو الإدراك والإحاطة به، ويراه المؤمنون في الآخرة لقوله تعالى : وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة... ( القيامة : ٢٢، ٢٣ ).
وقد استدل المعتزلة بالآية ١٠٣ من سورة الأنعام هذه على امتناع رؤية البشر لله تعالى في الآخرة.
أما أهل السنة. فيرون أن رؤية الله تعالى ممنوعة في الدنيا لأن عيوننا فانية والله باق والفاني لا يرى الباقي فإذا كان يوم القيامة ودخل المؤمنون الجنة منحوا أبصارا باقية، وكانت رؤيتهم لله تعالى رؤية تكريم وإنعام، وقد ثبتت بالكتاب والسنة.
قال الإمام الشوكاني في تفسيره فتح القدير : والرؤية في الآخرة قد ثبتت بالأحاديث المتواترة تواترا لا شك فيه ولا شبهة.
وقال الإمام ابن كثير : تواترت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن المؤمنين يرون الله في الدار الآخرة في العرصات وفي روضات الجنات.
وقد روى الشيخان عن ابن جرير بن عبد الله البجلي قال :
كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ نظر إلى القمر ليلة البدر وقال : إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا. ثم قرأ وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب ( ١١٦ ).
وأرى أن المكلف يكفيه أن يؤمن بالله ربا وخالقا ورازقا وأن يؤمن بأنه متصف إجمالا بكل كمال ومنزه إجمالا عن كل نقص، أما الخلاف حول نفي الرؤية أو ثبوتها، وأشباه ذلك فيكفي المسلم فيه تفويض الأمر إلى الله تعالى ويكفيه أن يقول كما قال القرآن الكريم ءامنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب. ( آل عمران : ٧ ).
المفردات :
بصائر : جمع بصيرة، وهي : النور الذي تبصر به النفس والقلب. أما البصر : فهو نور العين. وأطلقت البصائر على آيات القرآن، تشبيها لها بها، في إظهار الحق.
التفسير :
١٠٤- قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها... الآية. أي قد جاءكم حجج وبراهين واضحة من عقلها أبصر الحق، وذلك فيما أورده القرآن في هذه السورة وفي غيرها.
قال الدكتور محمد سيد طنطاوي في تفسير الآية : البصائر جمع بصيرة وهي للقلب بمنزلة البصر للعين، فهي النور الذي يبصر به القلب، كما أن البصر هو النور الذي تبصر به العين، والمراد بها آيات القرآن ودلائله التي يفرق بها بين الهدى والضلالة، أي قد جاءكم أيها الناس من ربكم وخالقكم هذا القرآن بآياته وحججه وهداياته لكي تميزوا بين الحق والباطل، وتتبعوا الصراط المستقيم ( ١١٧ ).
فمن أبصر فلنفسه. أي فمن أبصر الحق وعلمه بواسطة تلك البصائر وآمن به فنفع ذلك راجع لنفسه عائد عليها، إذ أنه بذلك يرزق سعادة الدنيا، والنجاة في الآخرة.
ومن عمي فعليها. ومن تعامى عن الحق، ولم يذعن للحجة ولم يتعقلها، فضرر ذلك عائد على نفسه، راجع إليها إذ أنه سيعاقب على ذلك، بالعذاب في نار جهنم.
وقريب من هذه الآية قوله تعالى : إن أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها... الآية. ( الإسراء : ٧ ).
وقوله عز شأنه : من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها... الآية. ( فصلت : ٤٦ ).
واختتمت الآية بقوله تعالى : وما أنا عليكم بحفيظ. أي لست رقيبا عليكم أحصي عليكم أعمالكم، وأحفظكم من الضلال وإنما على البلاغ والإنذار، وقد فعلت.
المفردات :
نصرف الآيات : نبينها أو ننقلها من نوع إلى نوع، مأخوذ من الصرف والتصريف وهو نقل الشيء من حال إلى حال.
درست : أي درست الكتب الإلهية المتقدمة.
التفسير :
١٠٥- وكذلك نصرف الآيات وليقولوا درست ولنبينه لقوم يعلمون.
لقد صرف الله في آيات القرآن الكريم، ولون في أساليبه وحججه حيث اشتمل على الوعد والوعيد والوصف وبيان قدرة الله وأدلة عظمته وآثاره في خلق السماوات والأرض وما فيهما. وفي خلق الإنسان والحيوان والنبات وسائر الموجودات.
وكذلك نصرف الآيات. أي وكما فصلنا الآيات الدالة على التوحيد في هذه السورة تفصيلا بديعا محكما، نفصل الآيات ونبينها وننوعها في كل موطن لتقوم الحجة على الجاحدين، وليزداد المؤمنون إيمانا على إيمانهم.
وليقولوا درست. وسوف يقول المشركون إذا سمعوا هذا البيان إنك يا محمد لم تأت بهذا من عند الله. وإنما درست علم أهل الكتاب وتعلمت منهم. وجملة. وليقولوا درست. جملة معترضة بين ما قبلها وما بعدها، للمسارعة إلى تسلية النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن معارضتهم.
فإن المراد منها ألا يعتد بما يقولون من الأكاذيب والتهم الباطلة.
قال الفراء :
وليقولوا درست. معناه تعلمت من اليهود لأنهم كانوا معروفين عند أهل مكة بالمعرفة والعلم.
- وفي قراءة دارست. بزيادة الألف وفتح التاء أي دارست غيرك ممن يعلم الأخبار الماضية كأهل الكتاب من المدارسة بين الإثنين أي قرأت عليهم وقرءوا عليك. وهاتان القراءتان متواترتان.
ولنبينه لقوم يعلمون. والمعنى ولنبين ونوضح هذا القرآن لقوم يعلمون الحق فيتبعونه والباطل فيجتنبونه، فهم المنتفعون به دون سواهم.
١٠٦- اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين. أمره الله تعالى ألا يشغل خاطره بهم، وألا يبال بافترائهم وكذبهم، بل عليه أن يشغل نفسه بتبليغ الوحي اعتقادا وقولا وعملا مع الإعراض عن المشركين وجملة لا إله إلا هو معترضة لتأكيد إيجاب الاتباع.
المفردات :
حفيظا : حارسا من حفظه بمعنى حرسه.
التفسير :
١٠٧- ولو شاء الله ما أشركوا وما جعلناك عليهم حفيظا وما أنت عليهم بوكيل. أي أن الله تعالى قادر على أن يجعلهم كلهم مؤمنين غير مشركين فالأمر بيده، ولكنه تركهم لما يدور عليه أمر التكليف وهو الاختيار.
ولما تركهم لاختيارهم، لم يحسنوا الانتفاع بآياته فتخلى عن معونتهم.
وما جعلناك عليهم حفيظا. أي رقيبا يحصي أعمالهم ويجازيهم عليها.
وما أنت عليهم بوكيل. أي قيم بما فيه نفعهم فتجلبه إليهم.
والمراد : دع أمرهم لنا فنحن أعلم بأعمالهم، وأقدر على جزائهم، ولا تشغل نفسك بغير تبليغهم إن عليك إلا البلاغ. ( الشورى : ٤٨ ).
المفردات :
ولا تسبوا : السب ؛ الشتم.
عدوا : اعتداء وتجاوزا للحق.
التفسير :
١٠٨- ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم... الآية. أي : ولا تسبوا أيها المؤمنون آلهة المشركين الباطلة، فيترتب على ذلك أن يسب المشركون معبودكم الحق جهلا منهم وضلالا.
سبب النزول :
روى معمر عن قتادة قال : كان المسلمون يسبون أوثان الكفار، فيسب الكفار الله عدوا بغير علم فنزلت. ( ١١٨ )
وقال ابن عباس : قالت قريش لأبي طالب : إما أن تنهى محمدا وأصحابه عن سب آلهتنا والغض منها، وإما أن نسب إلهه ونهجوه فنزلت الآية.
قال صاحب الكشاف : فإن قلت سب الآلهة الباطلة حق وطاعة، فكيف صح النهي عنه، وإنما يصح النهي عن المعاصي ؟
قلت رب طاعة علم أنها تؤدي إلى مفسدة، فتخرج عن أن تكون طاعة فيجب النهي عنها لأنها معصية لا لأنها طاعة، كالنهي عن المنكر هو من أجل الطاعات، فإذا علم أنه يؤدي إلى زيادة الشر انقلب إلى معصية، ووجب النهي عنه كما يجب النهي عن المنكر.
وقال السيوطي :( وقد يستدل بهذه الآية على سقوط وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا خيف من ذلك مفسدة أقوى. وكذا كل فعل مطلوب ترتب على فعله مفسدة أقوى منه ).
وقال الشوكاني في فتح القدير :( وفي هذه الآية دليل على أن الداعي إلى الحق والناهي عن الباطل إذا خشي أن يتسبب عن ذلك ما هو أشد منه من انتهاك حرم، ومخالفة حق ووقوع في باطل أشد، كان الترك أولى به، بل كان واجبا عليه ( ١١٩ )
قال القرطبي : قال العلماء وهذه الآية الكريمة حكمها باق في هذه الأمة على كل حال، فمتى كان الكافر في متعة وخيف أن يسب الإسلام أو النبي أو الله تعالى، فلا يحل لمسلم أن يسب صلبانهم، ولا دينهم ولا كنائسهم، ولا يتعرض إلى ما يؤدي إلى ذلك، لأنه بمنزلة البعث على المعصية.
وفي الآية دليل على وجوب سد الذرائع ( ١٢٠ )
كذلك زينا لكل أمة عملهم. أي مثل ذلك التزيين الذي حمل المشركين على الدفاع عن عقائدهم الباطلة جهلا منهم وعدوانا، زينا لكل أمة من الأمم عملهم من الخير والشر، والإيمان والكفر، فقد مضت سنتنا في أخلاق البشر أن يستحسنوا ما تعودوه، وأن يتعلقوا بما ألفوه. قال ابن عباس : زينا لأهل الطاعة الطاعة، ولأهل الكفر الكفر.
ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون. ثم إلى مالك أمرهم رجوعهم بالبعث بعد الموت، فيخبرهم ويجزيهم بما كانوا يعملونه باختيارهم من طاعة أو معصية، وفقا لما تأثرت به نفوسهم، وكسبته أيديهم من دواعي هذه الأعمال، وهو وعيد بالجزاء والعذاب.
جاء في التفسير الوسيط. بإشراف مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر : وقد دلت الآية الكريمة على أن الأعمال تظهر لبعض الناس في الدنيا بغير صورتها الحقيقية التي تكون لها في الآخرة. فالكفر والمعاصي، تبدو في الدنيا بصورة تستحسنها نفوس الكفرة والعصاة.
والإيمان والطاعات تظهر لديهم فيها على العكس من ذلك ولذا قال صلى الله عليه وآله وسلم ( حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات ).
فإذا بعثوا يوم القيامة عرفهم الله الأعمال بحقائقها وجزاهم على تقصيرهم، وهذا هو قوله سبحانه.
ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون.
المفردات :
جهد أيمانهم : أي بقدر جهدهم وطاقتهم في أيمانهم.
التفسير :
١٠٩- وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها... الآية. أي أقسم أولئك المشركون بالله مجتهدين في أيمانهم مؤكدين إياها بأقصى ألوان التأكيد. معلنين أنهم لئن جاءتهم آية من الآيات الكونية التي اقترحوها عليك يا محمد ليؤمنن بها أنها من عند الله، وأنك صادق فيما تبلغه عن ربك.
سبب النزول :
أخرج ابن جرير الطبري بسنده عن محمد بن كعب القرظي قال : كلم نفر من قريش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا : يا محمد : تخبرنا أن موسى كان معه عصا ضرب بها الحجر، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا، وتخبرنا أن عيسى كان يحيي الموتى، وتخبرنا أن ثمود كانت لهم ناقة، فأتنا بآية من الآيات حتى نصدقك، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( أي شيء تحبون أن آتيكم به ؟ )
قالوا : تجعل لنا الصفا ذهبا، فقال لهم :( فإن فعلت تصدقوني ؟ ) قالوا نعم، والله لئن فعلت لنتبعنك أجمعون.
فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعو فجاءه جبريل فقال له إن شئت أصبح الصفا ذهبا على أن يعذبهم الله إذا لم يؤمنوا، وإن شئت فاتركهم حتى يتوب تائبهم، فقال صلى الله عليه وآله وسلم بل اتركهم حتى يتوب تائبهم، فأنزل الله تعالى قوله :
وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن به. إلى قوله تعالى : ولكن أكثرهم يجهلون. ( الأنعام : ١١١ ).
قل إنما الآيات عند الله. أي قل لهم يا محمد إن أمر المعجزات والأمور الخارقة للعادة التي اقترحتم الإيمان عقب مجيئها. عند الله لا عندي فهو وحده القادر على الإتيان بها دوني، وهو سبحانه يأتي بالآيات حسب حكمته ومشيئته إن شاء أتى بها وإن شاء منعها. أما أنا فليس ذلك إلي.
وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون. وما يدريكم أيها المؤمنون الراغبون في إنزال الآيات والمعجزات طمعا في إيمان هؤلاء المشركين. أنها إذا جاءت لا يصدقون بها ! !
فأنا أعلم أنهم لا يؤمنون، وأنتم لا تعلمون ذلك ولذا توقعتم إيمانهم.
قال الزمخشري في تفسير الكشاف : يعني أنا أعلم أنها إذا جاءت لا يؤمون بها وأنتم لا تدرون بذلك. وذلك أن المؤمنين كانوا يطمعون في إيمانهم إذا جاءت تلك الآية ويتمنون مجيئها.
المفردات :
ونقلب أفئدتهم : ونحول قلوبهم.
يعمهون : يتحيرون.
التفسير :
١١٠- ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة... الآية. أي ونحول قلوبهم عن الإيمان كما لم يؤمنوا بما أنزل من القرآن أول مرة.
جاء في حاشية الصاوي على الجلالين : وهو استئناف مسوق لبيان أن خالق الهدى والضلال هو الله لا غيره، فمن أراد له الهدى حول قلبه لله تعالى ومن أراد الشقاوة حول قلبه لها.
وقال الشوكاني في فتح القدير : ونقلب أفئدتهم وأبصارهم. معطوف على لا يؤمنون.
والمعنى : نقلب أفئدتهم وأبصارهم يوم القيامة على لهب النار وحر الجمر.
كما لم يؤمنوا : في الدنيا.
ونذرهم. : أي : نمهلهم ولا نعاقبهم.
في طغيانهم يعمهون : أي : ونتركهم في ضلالهم يتخبطون ويترددون متحيرين.
وقد دل قوله تعالى : ونذرهم في طغيانهم يعمهون. على أن تقليبه تعالى لأفئدتهم وأبصارهم ليس بطريق الإجبار والقهر، بل بأن يخليهم وما انطوت عليه نفوسهم في الطغيان.
إن الله تعالى ألهم الإنسان رشده ومنحه العقل والإرادة والاختيار. فإذا سار في طريق الخير والحق يسر له ذلك وأعانه وشرح صدره وأمده بالهدى والتوفيق، وإذا تكبر الإنسان على هداية السماء وأعرض عنها، سلب الله عنه الهدى عقوبة على إعراضه فالله لا يظلم أحدا من خلقه.
قال تعالى : إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون. ( يونس : ٤٤ ).
وقد علم الله منهم البعد عن الاستجابة إلى دعوة الله والبعد عن الإيمان برسوله حتى لو أنزل إليهم ملائكة السماء عيانا، وأحيا لهم الموتى فكلموهم الموتى وأخبروهم بصدق محمد، وجمع لهم كل شيء من الخلائق عيانا ومشاهدة وأعطاهم جميع الآيات التي اقترحوها ما كانوا ليؤمنوا إلا من سبقت له الهداية والمشيئة من الله بالهداية.
قال تعالى : ولو أننا أنزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ولكن أكثرهم يجهلون. ( الأنعام : ١١١ ).
وهذه الآية الكريمة يبدأ بها الجزء الثامن إن شاء الله والحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يرضى ربنا ويحب. وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
تم تفسير الجزء السابع، ويليه تفسير الجزء الثامن إن شاء الله رب العالمين.
***
اللهم ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا. ( الكهف : ١٠ ).
الله يسر لنا إتمام هذا العمل حتى نكمل تفسير كتابك الكريم على النحو الذي تحبه وترضاه، وهب لنا الإخلاص والتوفيق والقبول لنا وللقارئين وسائر المؤمنين.
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
***
كلمة الختام :
أخي المؤمن :
لقد دار الزمان دورته، وجربت البشرية نظما وضعية من صنع البشر، ثم أفاقت فوجدت أنها أخطأت كثيرا.
ونحن المسلمين أولى الناس بالعودة إلى تراثنا وديننا وكتاب ربنا فهو الهدى والنور.
عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنه ستكون فتن، قلنا ما المخلص منها يا رسول الله ؟ قال : كتاب الله فيه نبأ من قبلكم وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم وهو الجد ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، لم تسمعه الجن حتى قالت إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا.
أخي المؤمن : نحن في حاجة إلى مدارسة القرآن وفهمه واستكنان هديه وروحه وحكمته فهو النور والهدى والدواء والشفاء قال تعالى : وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين. ( الإسراء : ٨٢ ).
في القرآن الكريم شفاء لأمراضنا، ودواء لمشاكلنا ونور يضيء لنا الطريق، وفي هدى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعمله وسنته وأقواله وأفعاله نبراس ونموذج يقتدى به قال تعالى : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا. ( الأحزاب : ٢١ ).
وهذه الصحوة الإسلامية فجر جديد، وروح جديد، ونور جديد يحتاج منا مدارسة القرآن وتلاوته وحفظه وترتيله وتجويده والتغني به وفي الحديث الشريف :( اقرءوا القرآن فإن الله يأجركم بكل حرف منه عشر حسنات ) ( ١٢١ ).
أخي المؤمن : العهد هو المحافظة على الصلاة والطهارة وإقامة أركان الإسلام والتوبة النصوح فضع يدك في يد الله، ولتكن بيعة صادقة وعهد لله صادق على طاعة الله و مرضاته و سلوك الطريق المستقيم، و ثق أنك ستجد الامان و الرضا و السعادة في طاعة الله وفي حب كتاب الله وفي الاقتداء بهدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال رجل يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا وأقلل فيه لعلي أعيه. فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم ( قل آمنت بالله ثم استقم ) ( ١٢٢ ).
وقال تعالى : إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون * نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون * نزلا من غفور رحيم * ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين * ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم * وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم. ( فصلت : ٣٠ : ٣٥ ).
وصل الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
***
تخريج أحاديث وهوامش
تفسير القرآن الكريم
( الجزء السابع )
خرج أحاديثه
الأستاذ
كمال سعيد فهمي
تفسير القرآن الكريم
الجزء الثامن من القرآن الكريم
الدكتور
عبد الله شحاتة

بسم الله الرحمن الرحيم

المفردات :
حشرنا : جمعنا وعرضنا.
قبلا : أي : مقابلة ومعاينة حتى يواجهوهم، أو هو جمع قابل بمعنى : مقابل لحواسهم. أو جمع قبيل بمعنى كفيل – أو جمع قبيلة بمعنى جماعة.
التفسير :
١١١- ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا... الآية.
كان أهل مكة يقترحون على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يأتيهم بآيات ومعجزات كونية غير ما أيده الله بها.
والقرآن هنا يبين أن الإيمان يقين يهدي إليه التفتح للحق، والاتقاء له، وأهل مكة قد صموا آذانهم عن سماع أدلة الحق.
فلو نزلت إليهم الملائكة، حتى يروهم عيانا، ويسمعوا تأييدهم لرسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ويخبروهم بصدقه.
وكلمهم الموتى. الذين ماتوا من قومهم شاهدين بصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وحشرنا عليهم كل شيء قبلا. أي : وجمعنا كل شيء من الآيات الكونية، مقابلة ومواجهة، أو جماعة جماعة وقبيلة قبيلة.
ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله. أي : لو فعلنا كل ذلك ؛ ما استقام لهم الإيمان ؛ لسوء استعدادهم وفساد فطرتهم، إلا أن يشاء الله إيمانهم فيؤمنوا – وهو سبحانه – القادر على كل شيء.
ولكن أكثرهم يجهلون. فيقترحون الآيات سفها، دون رغبة في الإيمان.
وأجاز بعضهم أن يكون المعنى : ولكن أكثر المسلمين يجهلون أنهم لا يؤمنون فلذا يقترحون نزول الآيات طمعا في إيمانهم، وصدق الله العظيم إذ يقول :
سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين. ( الأعراف : ١٤٦ ).
المفردات :
شياطين : جمع شيطان، وهم المتمردون من الجن أو الإنس.
يوحي : يوسوس.
زخرف القول : أي : القول المزين ظاهره، الباطل باطنه.
التفسير :
١١٢- وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا... الآية.
في هذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقد كذبت رسل من قبله، وكأنما تواطأ الكفار، وتواصوا على تكذيب المرسلين.
والمعنى : وكما جعلنا لك يا محمد أعداء يخالفونك ويعادونك – جعلنا لكل نبي من قبلك أيضا أعداء من شياطين الإنس والجن ذوي الضرار، يلقي بعضهم إلى بعض القول المزين ظاهره الفاسد باطنه، ومن ذلك ما ألقاه شياطين الجن في نفوس شياطين مكة، من اقتراح آيات ومعجزات خاصة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وقد وردت في تفسير ابن كثير عدة روايات، تفيد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر المسلمين أن يستعيذوا بالله من شياطين الإنس والجن، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم لأبي ذر :( يا أبا ذر، هل تعوذن بالله من شياطين الجن والإنس ؟ ) قال أبو ذر : لا يا رسول الله ثم قال : وهل للإنس من شياطين ؟ قال ( نعم هم شر من شياطين الجن )( ١ ).
قال ابن كثير : ومجموع روايات هذا الحديث تفيد قوته وصحته.
ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون.
أي : ولو شاء ربك ألا يفعل هؤلاء الشياطين ما فعلوه، من معاداة الأنبياء، ومن الإيحاء بالقول الباطل ؛ لتم له ذلك، ولكنه تعالى تخلى عنهم ؛ لانصرافهم عنك.
فدعهم يا محمد وما يفترون من الكفر، وغيره من ألوان الشرور فسوف يعلمون سوء عاقبتهم.
١ يا أبا ذر تعوذ بالله من شر شياطين الجن:
رواه النسائي في الاستعاذة (٥٥٠٧) من حديث أبي ذر قال دخلت المسجد ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيه فجئت فجلست إليه فقال يا أبا ذر، تعوذ بالله من شر شياطين الجن والإنس قلت أو للإنس شياطين قال: نعم. ورواه أحمد في مسنده (٢١٧٨٥) من حديث أبي أمامة قال كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد جالسا وكانوا يظنون أنه ينزل عليه فأقصروا عنه حتى جاء أبو ذر فاقتحم فأتى فجلس إليه فأقبل عليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال يا أبا ذر هل صليت اليوم قال لا قال قم فصل فلما صلى أربع ركعات الضحى أقبل عليه فقال يا أبا ذر تعوذ من شر شياطين الجن والإنس قال يا نبي الله وهل للإنس شياطين قال نعم شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ثم قال يا أبا ذر ألا أعلمك من كنز الجنة......... الحديث..

١١٣- ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون... الآية.
هذه الآية مرتبطة بقوله تعالى : يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا...
والمعنى : يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول ليغروا به الضعفاء، ولتميل إلى هذا الزخرف الباطل في القول، قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة، لموافقته لأهوائهم وشهواتهم، وليرضوه لأنفسهم، وليكتسبوا ما هم مكتسبون، من الأعمال السيئة، فإن الله سيجازيهم عليها بما يستحقونه.
قال أبو حيان التوحيدي في تفسير الآية :
وترتيب هذه المفاعيل في غاية الفصاحة ؛ لأنه أولا يكون الخداع، فيكون الميل، فيكون الرضا، فيكون الاقتراف. فكل واحد مسبب عما قبله.
وقد جعل القرآن عدم إيمانهم بالآخرة، سببا لإصغائهم إلى شياطين الإنس والجن، وما يزخرفونه لهم من الكفر والمعاصي ؛ لأنهم لو كانوا يعتقدون البعث والحساب والجزاء ؛ لفكروا فيما يلقيه الشياطين، ولخافوا سوء عاقبته.
المفردات :
أبتغي : أطلب.
حكما : حاكما يفصل بيني وبينكم.
مفصلا : مبينا.
الممترين : الشاكين.
التفسير :
١١٤- أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا... الآية.
روى أن مشركي مكة قالوا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، اجعل بيننا حكما من أحبار اليهود، أو من أساقفة النصارى، ليخبرنا عنك بما في كتابهم من أمرك فنزل قوله تعالى :
أفغير الله أبتغي حكما ( ٢ )... الآية.
والمعنى : قل لهم يا محمد : أيصح غير الله حكما يفصل بيني وبينكم، فيظهر باطلكم، الذي اعتمدتم فيه على زخارف الشياطين، ويبين الحق الذي جئت به مؤيدا بالبراهين، وهو سبحانه الذي أنزل إليكم القرآن مفصلا ومبينا فيه الحق والباطل.. ولا حكم خير منه ؟ ! ! !
والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق.
أي : والذين آتيناهم الكتاب، أي : التوراة والإنجيل، من اليهود والنصارى، يعلمون علم اليقين، أن هذا القرآن منزل عليك من ربك بالحق ؛ لأنهم يجدون في كتبهم البشارات التي تبشر بك، ولأن هذا القرآن الذي أنزله الله عليك، مصدق لكتبهم ومهيمن عليها.
فلا تكونن من الممترين. أي : من الشاكين ؛ لأن عدم اعتراف بعضهم بذلك، مرده إلى الحسد والجحود، وهذا النهي إنما هو زيادة في التوكيد، وتثبيت اليقين.
قال ابن كثير : وهذا كقوله تعالى : فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين. ( يونس : ٩٤ ).
قال : وهذا شرط والشرط لا يقتضي وقوعه، ولهذا جاء عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال :( لا أشك ولا أسأل ) ( ٣ ).
وقيل : الخطاب هنا لكل أحد، على معنى : أن الأدلة على كون القرآن منزلا بالحق من الله سبحانه وتعالى، قد بلغت من الوضوح والقوة، بحيث لا تترك مجالا للافتراء والشك فيها من أحد من العقلاء.
فكأنه يقول : فلا تكن – أيها العاقل – من المتشككين، في كون القرآن منزل في ربك بالحق، وأنه هو الحكم بين الرسول وبين الكافرين.
وقيل : الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمقصود أمته ؛ لأنه - صلى الله عليه وآله وسلم – حاشاه من الشك.
١١٥- وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم.
المراد بكلمة ربك : القرآن الكريم، وفي قراءة ( كلمات ربك ) أي : أن هذا القرآن كامل من حيث ذاته، صادقا في أخباره ووعده ووعيده، عادلا في أحكامه، فقد بلغ الغاية القصوى في ذلك، لا مبدل لهذا الكتاب، فهو محفوظ بعناية الله تعالى من عبث العابثين، وتبديل المبدلين. وإنما تكفل الله بحفظ القرآن دون غيره ؛ لأنه تضمن شريعة الله الباقية إلى قيام الساعة، الصالحة لكل زمان ومكان، بخلاف ما تقدمه من الكتب، فإنه كان لوقت محدود.
وهو السميع العليم. أي : السميع لكل ما في شأنه أن يسمع. العليم بكل ما يسرون، وما يعلنون، وفي لازم ذلك الجزاء العالي، وإثباته الطائع وتعذيب العاصي.
المفردات :
إن يتبعون إلا الظن : ما يتبعون في عقائدهم وأحوالهم إلا التخمين الباطل.
وإن هم إلا يخرصون : وما هم إلا يكذبون على الله سبحانه. وأصل الخرص : الظن والتخمين. ومنه خرص النخل وهو تقدير ما عليها من التمر ظنا.
التفسير :
١١٦- وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله... الآية.
المراد بأكثر من في الأرض : أهل الكتاب الذين تركوا هداية أنبيائهم، وضلوا ضلالا بعيدا، وكذلك أمم الوثنية.
والمعنى : وإن تطع أكثر من في الأرض. في عقائدهم وأهوائهم.
يضلوك عن سبيل الله : وهو الدين القويم الذي شرعه لعباده.
ويجوز أن يكون المعنى : أن الطبيعة الغالبة في البشر هي اتباع الظنون والأهواء ؛ لأن طلب الحق متعب، والكثيرون لا يصبرون على مشقة البحث والتمحيص، والقليلون هم الذين يتبعون اليقين في أحكامهم.
إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون. ما يتبع أكثر الناس إلا الظن المفضى إلى الباطل، الذي لا يستند إلى دليل، وما هم إلا يكذبون في عزو أحكامهم إليه تعالى افتراء وزورا.
ومن ذلك زعمهم : أن الله اتخذ ولدا، وأن الأوثان تقربهم إلى الله زلفى، وأن الله أحل أكل الميتة، وشرع البحيرة والسائبة.
قال الإمام الشوكاني في تفسيره ( فتح القدير ) :
وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله.
لأن عادة الله في خلقه جرت على أن الحق لا يكون إلا بيد الأقلين، أما أكثر الناس فإنهم يتبعون في أمور الدين أهواءهم.
إن يتبعون إلا الظن. الذي لا أصل له، وهو ظنهم أن معبوداتهم تستحق العبادة، وأنها تقربهم إلى الله.
وإن هم إلا يخرصون. أي : يحسدون ويقدرون. اه
والخرص والتخمين والتقدير بمعنى واحد، وهو جائز في بعض المعاملات، وفي تقدير الزكاة في الرطب والعنب، بتقديرهما تمرا أو زبيبا، وإخراج الزكاة وفقا لهذا التقدير.
إلا أن هذه الأمور لا تجوز في العقائد ؛ لأنها لا تبنى إلا على الدليل القطعي.
١١٧ – إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين.
هذه الآية تقرير للآية السابقة، وتأكيد لما يفيده مضمونها، أي : إن ربك الذي لا تخفى عليه خافية، هو أعلم منك ومن سائر خلقه، بمن يضل عن طريق الحق، وهو أعلم منك ومن سائر الخلق أيضا بالمهتدين السالكين.
لقد قررت الآيات ما يأتي.
تكفل الله بحفظ كتابه من التغيير والتبديل.
الطبيعة الغالبة في البشر هي اتباع الظنون والأهواء ؛ لأن طلب الحق متعب، والكثيرون لا يصبرون على مشقة البحث والتمحيص، والقليلون هم الذين يتبعون اليقين في أحكامهم.
الله وحده هو الذي يعلم الضالين والمهتدين من عباده.
التفسير :
١١٨- فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين.
كان المشركون المكيون يأكلون الميتة، و يأكلون مما ذكر اسم أوثانهم عليه عند ذبحه، ويمتنعون عن ذبح البحيرة والسائبة والوصيلة والحام من الإبل، ويحرمون ذبحها وقد ناقشهم القرآن في هذه السورة كثيرا في أمر ذبائحهم الباطلة، وتشريعاتهم الباطلة، التي يزعمون أن الله شرع لهم ما أحلوا وما حرموا.
فأنزل الله هذه الآية آمرا المسلمين أن يخالفوهم، فيأكلوا مما ذكر اسم الله عليه من الذبائح.
والمعنى : لا تحرموا مما ذكر اسم الله عليه شيئا على أنفسكم، ولا تمتنعوا عن أكله تدينا لأن كل ما ذكر الذابح عليه اسم الله فهو حلال، إن كان مما أباح الله أكله.
روى أبو داود بسنده عن ابن عباس. قال : أتى ناس إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم – فقالوا : يا رسول الله، إنا نأكل ما نقتل، ولا نأكل ما يقتل الله، فأنزل الله – فكلوا مما ذكر اسم الله عليه... إلى قوله : وإن أطعمتموهم إنكم لمشركون.
وكان المشركون يستحلون الميتة ويرون أن الله هو الذي قتلها فهي أولى بالأكل.
فخاطب الله المسلمين بهذه الآيات مشرعا للمسلمين ناقضا لتشريعات المشركين.
١١٩- وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه.....
أي : أي مانع يمنعكم من أن تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه، وأي فائدة تعود عليكم من ذلك ؟ فالاستفهام هنا إنكاري، لدفع التحرج من تناوله، إذا كان مما حرمه المشركون زورا، وافتراء على الله، من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، فإنها حلال في شرع الله، كسائر ما يذبح مذكورا عليه اسم الله.
وقد فصل لكم ما حرم عليكم. أي : بين لكم المحرمات من الأطعمة، بيانا مفصلا يدفع الشك ويزيل الشبهة، بقوله تعالى : حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به... ( المائدة : ٣ ).
فكونوا عند حدود الله فلا تعتدوها.
إلا ما اضطررتم إليه. أي : لكن ما اضطررتم إلى أكله من المحرمات، فإنه حلال لكم، بقدر الضرورة التي تحيا بها النفس.
وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم.
وإن كثيرا من الكفار ليضلون الناس بتحريم الحلال وتحليل الحرام، بأهوائهم الزائفة، وشهواتهم الباطلة، بغير مستند إلى وحي الله تعالى :( وهكذا في كثير من الشعوب تحريمات راجعة إلى الهوى والجهل ).
إن ربك هو أعلم بالمعتدين.
أي : أعلم منك يا محمد ومن كل مخلوق بالمتجاوزين لحدود الحق إلى الباطل، والحلال والحرام.
قال تعالى : ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون. ( النحل : ١١٦ ).
المفردات :
وذروا : واتركوا.
ظاهر الإثم وباطنه : أي : الذنب الظاهر والخفي.
يقترفون : الاقتراف. الاكتساب مطلقا، ولكنه في الإساءة أكثر.
التفسير :
١٢٠- وذروا ظاهر الإثم وباطنه... الآية.
واتركوا الذنب ظاهره وباطنه، جهرة وخفية، أي : اتركوا جميع المعاصي.
إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يعملون. إن الذين يرتكبون المعاصي ظاهرة أو باطنه، سيجزون بما يستحقونه من عقوبات. ولا يظلم ربك أحدا. ( الكهف : ٤٩ ).
١٢١- ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق... الآية.
أي : لا تأكلوا – أيها المسلمون – من أي حيوان لم يذكر عليه اسم الله عند ذبحه، بأن ذكر عليه اسم غيره، أو ذكر اسم مع اسمه، أو كان من الميتة.
وإن الأكل منه ؛ خروج عن طاعة الله تعالى، وإثم.
وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم... أي : يلقون إليهم بالشبه ويخبرونهم ما يستندون إليه في مجادلتكم كقولهم :( أنتم لا تأكلون مما قتل الله، وتأكلون مما قتلتم أنتم ).
ذبيحة المسلم :
إن ترك المسلم التسمية عمدا حرم أكله عند الجمهور، وإن تركها ناسيا لم يضر.
وقال الشافعي وغيره : التسمية مستحبة وليست واجبة، وإن تركها المسلم ولو عمدا لم يضر ؛ فإن اسم الله على لسان كل مسلم.
وقيل : الآية واردة في الميتة التي لم تذبح أصلا، وفيما ذبح لغير الله.
وإن أطعتموهم إنكم لمشركون.
أي : من ترك طاعة الله تعالى إلى طاعة غيره ؛ فقد أشرك بالله.
المفردات :
أو من كان ميتا فأحييناه : أو من كان كافرا فهديناه ؟ جعل الكفر موتا، والهداية إحياء.
التفسير :
١٢٢- أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها... الآية.
الآية تمثيل بليغ للمؤمن والكافر، والمقصود منها : تثبيت المؤمنين ؛ حتى لا يفكروا في متابعة المشركين.
والمعنى : لستم أيها المسلمون مثل المشركين حتى تتبعوهم في جاهليتهم ؛ فإن الله أحياكم بالهداية، بعد موتكم الروحي بالكفر والشرك، وأنعم عليكم بأن جعل لكم نورا تمشون به في الناس، بما أنزل عليكم من أنوار القرآن والهدى النبوي، فهل يصح لكم أن تتبعوا من يعيشون في الظلمات.
وخلاصة المقصود :
أو من كان في غيه وضلاله ميتا، فأحييناه بالهدى ودين الحق، كمن صفته أنه غارق في الظلمات ليس بخارج منها ؟ !
والنور : عبارة عن الهداية والإيمان، وقيل : هو القرآن، وقيل : الحكمة.
وجمهور المفسرين يرون أن المثل في الآية عام لكل مؤمن ولكل كافر، وقيل : إن المراد بمن أحياه الله وهداه : عمر بن الخطاب، وبمن بقي في الظلمات أبو جهل بن هشام.
قال الشوكاني : كانا ميتين في ضلالتهما، فأحيا الله عمر بالإسلام وأعزه، وأقر أبا جهل في ضلالته وموته.
وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دعا فقال :
( اللهم، أعز الإسلام بأبي جهل بن هشام، أو بعمر بن الخطاب ) فاستجيب له في عمر بن الخطاب.
وقيل : نزلت في عمار بن ياسر وأبي جهل، وقيل : في حمزة وأبي جهل وعند التأمل نرى :
أن الآية عامة في كل من هداه الله إلى الإيمان بعد أن كان كافرا، وفي كل من بقى على ضلالته، ويدخل في ذلك هؤلاء المذكورون دخولا أوليا.
كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون. أي : مثل ذلك التزيين الذي تضمنته الآية، وهو تزيين الهدى للمؤمنين، وظلمات الشرك للضالين، قد زين للكافرين ما كانوا يعلمونه من الآثام، كعداوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وذبح القرابين لغير الله، وتحريم الحلال، وتحليل الحرام، وغير ذلك من المنكرات.
التفسير :
وكذلك جعلنا في كل قرية أكبر مجرميها ليمكروا فيها... الآية.
المعنى : وكما جعلنا لقريتك مكة رؤساء دعاة إلى الكفر وإلى عداوتك، جعلنا في كل قرية من قرى الرسل من قبلك، رؤساء من المجرمين مثلهم، ليمكروا فيها ويتجبروا على الناس، ثم كانت العاقبة للرسل، فلا تبتئس يا محمد لما يصيبك من زعماء مكة، فتلك طبيعة الحياة في كل عصر، أن يكون زعماء الأمم وكبراؤها، أشد الناس عداوة للرسل والمصلحين.
قال ابن كثير : والمراد بالمكر هنا : دعاءهم غيرهم إلى الضلالة، بزخرف من المقال والفعال.
وفي تفسير الوسيط : وإنما جعل الله أكابر المجرمين في كل قرية ؛ ليمكروا فيها ؛ إمتحانا لعباده، كما امتحنهم بشياطين الجن حتى يظهر الصادق في إيمانه من الكاذب، ويجزي الله كلا بما هو أهله وفي هذا المعنى يقول الله تعالى :.. وجعلنا بعضكم لبعض فتنة... ( الفرقان : ٢٠ ).
وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون.
وما يعود وبال مكرهم إلا عليهم، ولكنهم لانطماس بصيرتهم ؛ لا يشعرون بأن مكرهم سيعود ضرره عليهم، بل يتوهمون أنهم سينجون في مكرهم بغيرهم من الأنبياء والمصلحين.
والآية مسوقة لتسلية الرسول عما يلقاه من مكر عتاة المشركين.
المفردات :
أجرموا : اكتسبوا جرما، والجرم : الذنب.
صغار : ذل وهوان.
التفسير :
وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته... الآية.
هذه الآية استمرار في مناقشة أهل مكة، ومجابهة للظالمين والمتكبرين منهم عن الاستجابة للهدى.
سبب النزول :
قال مقاتل بن سليمان نزلت في أبي جهل، وذلك أنه قال : زاحمنا بنو عبد مناف في الشرف، حتى إذا صرنا كفرسى رهان، قالوا : منا نبي يوحى إليه.. والله، لا نؤمن به، ولا نتبعه أبدا، إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه ؛ فأنزل الله سبحانه الآية.
وروي أن الوليد بن المغيرة قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم : ولو كانت النبوة حقا لكنت أنا أولى بها منك ؛ لأني أكبر منك سنا وأكثر مالا ؛ فأنزل الله هذه الآية.
والمعنى : وإذا أنزلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم آية تدعوا قريش إلى الإيمان بما جاءهم به ؛ امتنعوا عن الإيمان به ؛ حسدا واستكبارا.
وقالوا : لن نومن حتى نؤتى من الوحي مثل ما أوتي رسول الله، وتكون لنا نبوة، كما لبني عبد مناف نبوة، وإلا فلن نؤمن بمحمد.
الله أعلم حيث يجعل رسالته.
الله سبحانه وتعالى يحتار لرسالته المعدن السليم، والقلب النظيف، الذي لا يحمل الحقد والحسد والكبر.
ثم إن الرسالة منة من الله وفضل، والله يختص برحمته من يشاء.
قال الألوسي :
وجملة الله أعلم حيث يجعل رسالته استئناف بياني.
والمعنى : إن منصب الرسالة، ليس مما ينال بما يزعمونه من كثرة المال والولد، وتعاضد الأسباب والعدد، وإنما ينال بفضائل نفسانية، ونفس قدسية، أفضاها الله تعالى، بمحض الكرم والجود، على من كمل استعداده. ا. ه.
لقد اصطاف الله لرسالته الأنبياء والمرسلين، واختار أولوا العزم من الرسل فجعلهم قدوة وأسوة ؛ لأنهم كانوا أكثر تحملا وجهادا وتضحية، قال تعالى : فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل. ( الأحقاف : ٣٥ ).
وأولوا العزم من الرسل خمسة : إبراهيم ونوح وموسى وعيسى ومحمد عليهم السلام، وقد أتم الله الرسالات بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم ومنحه من المزايا الخلقية والنفسية وغيرها، وما جعله رحمة لعالمين.
روى الإمام مسلم في كتاب فضاء عن وائلة بن الأسقع أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال :
إن الله عز وجل اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل. اصطفى من بني إسماعيل كنانه، واصطفى من بني كنانة قريشا، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفى من بني هاشم محمد - صلى الله عليه وآله وسلم – ( ٤ ).
سيصيب الذين أجرموا صغارا عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون.
قال القرطبي : الصغار : الضيم والذل والهون.
والمعنى : سيصيب أولئك المستكبرين المجرمين، ذلة وهوان شديد ثابت لهم عند الله في الدنيا والآخرة، بدل العزة التي طلبوها بالاشتراك في النبوة، ويصيبهم إلى جانب ذلك عذاب شديد بسبب مكرهم بنبي الهدى ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله.
المفردات :
حرجا : شدة الضيق. وفعله : حرج حرجا، من باب تعب تعبا. وقد وصف الصدر بالحرج الذي هو المصدر، للمبالغة. والمراد : أنه شديد الضيق.
الرجس : العذاب، أو ما لا خير فيه.
التفسير :
فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء... الآية.
الشرح في اللغة معناه : الفتح والشق. وشرح الصدر للإسلام، كناية عن جعل النفس قابلة للحق، مهيأة لحلوله فيها، محصنة مما يمنعه وينافيه.
أخرج بن أبي حاتم عن عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن هذه الآية : كيف يشرح صدره ؟ فقال :( نور يقذف فينشرح له وينفسح ) قالوا : فهل لذلك من أمارة يعرف بها ؟ فقال :( نعم الإنابة إلى دار الخلود، والإعراض عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزول الموت ) ( ٥ ).
والمعنى : من يرد الله هدايته ؛ يشرح صدره للحق، ويهيئ نفسه لقبول الإسلام، لما علمه من حسن استعداده وسعيه في القبوله، ويبعده عن الحق ؛ يجعل صدره ضيقا شديد الضيق ؛ لتمسكه بضلاله لا يبغي به بديلا.
كأنما يصعد في السماء.
فإن من صعد في السماء يحس بأشد الضيق، وقرب الاختناق، لقلة الهواء، وهذا التشبيه من معجزات القرآن، وكذلك من يدعى إلى الإسلام، وقد قدر عليه الضلال أي : يجد أشد الضيق لذلك.
قال أبو السعود : شبه ضيق صدره بالحق، بمن يزاول ما لا يكاد يقدر عليه، فإن صعود السماء، مثل فيما هو خارج عن دائرة الاستطاعة، وفيه تنبيه على أن الإيمان يمتنع منه كما يمتنع منه الصعود، وقيل معناه كأنما يتصاعد إلى السماء، نبوا عن الحق وتباعدا في الهرب.
كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون.
أي : مثل جعل الصدر ضيقا حرجا بالإسلام، يجعل الله الرجس وهو العذاب أو الخذلان أو اللعنة على الذين لا يؤمنون، فيترك الشيطان مسلطا عليهم، ولا يلطف بهم.
وخلاصة الآية : أن من تقرب إلى الله ؛ أعانه، ومن بعد عنه ؛ خذله.
وهذا صراط ربك مستقيما قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون.
وهذا دين ربك الذي ارتضاه وهو الإسلام مستقيما لا عوج فيه، ولا ميل فيه، إلى إفراط أو تفريط في الاعتقادات والأخلاق والأعمال.
قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون.
أي : جعلناها بينة واضحة مفصلة، لقوم يتذكرون ما فيها من هدايات وإرشادات فيعملون بها ؛ لينالوا السعادة في الدنيا والآخرة.
المفردات :
دار السلام : دار المسألة. والمراد بها : الجنة.
التفسير :
لهم دار السلام عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعلمون.
أي : هؤلاء المتذكرين المتقين لهم دار السلامة من كل المكاره في جوار ربهم وكفالته، وهو مولاهم وناصرهم بسبب أعمالهم الصالحة.
قال تعالى : فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون. ( السجدة : ١٧ ).
المفردات :
يا معشر : المعشر : الجماعة المختلطون بالعشرة.
مثواكم : مقركم ومآلكم.
التفسير :
ويوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس... الآية.
تشير هذه الآيات إلى حوار بين الله سبحانه وتعالى وبين من خرج عن طاعته من الإنس والجن.
والمعنى : وذكر يا محمد الخلائق، يوم يحشر الله الإنس والجن، إلى ساحة القيامة، فيوبخ شياطين الجن قائلا لهم : يا جماعة الجن المفسدين، قد استكثرتم من إغواء الإنس، وإضلالهم حتى صاروا في حكم الأتباع لكم، فلم تكتفوا بضلالكم وكفركم، بل تجاوزتموه إلى إغواء الإنس.
وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض.
قال الذين أطاعوهم من الإنس :
لقد استمتعنا بارتكاب الملذات وإشباع الشهوات، التي زينتها لنا الجن، واستمتعت الجن بطاعة الإنس لهم.
قال أبو السعود :
أي : انتفع الإنس بالجن بأن دلوهم على الشهوات وما يتوصل به إليها، وقيل : بأن ألقوا إليهم من الأراجيف والسحر والكهانة. وأما انتفاع الجن بالإنس، فإن الإنس صاروا أتباعا لهم، وأطاعوهم، وحصلوا مرادهم بقبول ما ألقوه إليهم.
وقيل : استمتاع الإنس بهم أنهم كانوا يعوذون بهم من المفاوز، والمخاوف، واستمتاعهم بالإنس، اعتزامهم بأنهم قادرون على إجارتهم.
وبعد هذا الإقرار الذي لم يجدوا عنه محيصا قالوا في ندامة وحسرة :
وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا.
أي : يوم القيامة الذي أجلته لحسابنا وجزائنا، حيث بعثنا، وظهرت لنا قبائح أعمالنا، التي نستحق العقاب عليها، لتركنا صراطك المستقيم.
قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله.
قال الله تعالى : النار منزلكم، ومحل إقامتكم الدائمة، وأنتم خالدون فيها في كل وقت، إلا في وقت مشيئة الله بخلاف ذلك ؛ لأن الأمور كلها متروكة إليه وخاضعة لمشيئته.
عن ابن عباس قال : في هذه الآية : لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه، لا ينزلهم جنة ولا نارا.
قال أبو السعود :
إلا ما شاء الله.
روى ابن عباس أنه قال : استثنى الله تعالى قوما، قد سبق في علمه أنهم يسلمون ويصدقون النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقيل المعنى : الأوقات التي ينتقلون فيها من النار إلى الزمهرير، فقد روى أنهم يدخلون واديا فيه من الزمهرير ما يميز بعض أوصالهم من بعض، فيتعاوون، ويطلبون الرد إلى الجحيم ؛ وقيل : يفتح لهم وهم في النار باب إلى الجنة فيسرعون نحوه، حتى إذا ما وصلوا إليه سد عليهم الباب.
وقد ورد في تفسير المنار، دراسة مستفيضة حول فناء النار بمن فيها. وهي مسألة خلافية بين العلماء.
ومعنى الآية : إلا وقت مشيئة الله فناء النار وزوال عذابها.
إن ربك حكيم عليم.
أي : حكيم في عقاب الظالمين، عليم بما في صدوهم فلا تخفى عليه خافية.
وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون.
أي : ومثل ما سبق من تمكين الجن من الإنس وإضلالهم، لما بينهم من التناسب والمشاكلة، نولي بعض الظالمين من الإنس بعضا آخر منهم، بأن نجعلهم يزنون لهم السيئات.
قال الشوكاني :
نسلط ظلمة الجن على ظلمة الإنس، ونسلط بعض الظلمة على بعض فيهلكه ويذله.
عن الأعمش قال : إذا فسد الزمان ؛ أمر عليهم شرارهم، وقال فضيل بن عياض : إذا رأيت ظالما ينتقم من ظالم فقف وانظر متعجبا.
وقال الإمام الرازي : والآية تدل على أن الرعية متى كانوا ظالمين، فالله تعالى يسلط عليهم ظالما مثلهم، فإن أرادوا أن يتخلصوا من ذلك الأمير الظالم فليتركوا الظلم.
المفردات :
يا معشر : المشعر جماعة أمرهم واحد.
يقصون : يتلون.
وغرتهم : وخدعتهم.
التفسير :
يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا... الآية.
جاءت هذه الآية لتقريع الإنس والجن على معاصيهم.
جاء في تفسير الطبري :
( وهذا خبر من الله جل ثناؤه، عما هو قائل يوم القيامة، لهؤلاء العادلين به، من مشركي الإنس والجن، يخبر أنه تعالى يقول لهم : يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي.
يقول : يخبرونكم بما أوحي إليهم، من تنبيهي إياكم على مواضع حججي، وتعريفي لكم أدلتي على توحيدي، وتصديق أنبيائي والعلم بأمري، والانتهاء إلى حدودي.
وينذرونكم لقاء يومكم هذا. يقول : يحذرونكم لقاء عذابي في يومكم هذا، وعقابي على معصيتكم إياي، فتنتهوا عن معاصي. وهذا من الله تعال تقريع لهم، وتوبيخ على ما سلف منهم في الدنيا من الفسوق والمعاصي، ومعناه : قد أتاكم رسل منكم ينبهونكم على خطإ ما كنتم عليه مقيمين بالحجج البالغة، وينذرونكم وعيد الله فلم تقبلوا ولم تتذكروا ) ا. ه.
قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين. ( الأنعام : ١٣٠ ).
تحكي الآية موقفا من مواقف القيامة، حين يوبخ الله جماعة المكذبين بالرسل من الإنس والجن.
ولا يملك كفار الإنس والجن، إلا أن يعترفوا على أنفسهم، بأن الرسل قد بشروهم وأنذروهم، ولم يقصروا في تبليغهم وإرشادهم.
ولكن الكفار غرتهم الحياة الدنيا، من الشهوات والمال والجاه وحب الرياسة، فاستحبوا العمى على الهدى، وباعوا آخرتهم بدنياهم.
وشهدوا على أنفسهم أمام الله يوم القيامة، أنهم كانوا كافرين في الدنيا بما جاءتهم به الرسل.
والآية تشتمل على التحذير للسامعين في الدنيا ؛ حتى لا يتعرضوا لمثل هذه المواقف، في يوم الحشر والحساب.
ونلاحظ أن مشاهد الآخرة متعددة. ومواقف الحساب كثيرة. فأحيانا ينكر الكفار شركهم بالله، ويقولون : والله ربنا ما كنا مشركين ( الأنعام : ٢٣ ). وحينا آخر يعترفون بخطئهم وغرورهم، ويشهدون على أنفسهم بأنهم كانوا كافرين، وهو دليل على شدة خوفهم واضطراب أحوالهم، كما ذكر الإمام الزمخشري في تفسير الكشاف.
ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلمهم وأهلها غافلون.
المعنى : ذلك الذي ذكرناه لك يا محمد، من إتيان الرسل يقصون على الأمم آيات الله، سببه أن ربك لم يكن من شأنه، ولا من سنته في تربية خلقه، أن يهلك القرى من أجل أي ظلم فعلوه، قبل أن ينبهوا على بطلانه، وينهوا عنه بواسطة الأنبياء والمرسلين.
كما في قوله تعالى : ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع ءاياتك من قبل أن نذل ونخزى. ( طه : ١٣٤ ).
فائدة :
جمهور العلماء يرون أن الرسل جميعا من الإنس.
وقال مقاتل والضحاك : أرسل الله رسلا من الجن كما أرسل من الإنس.
وقال السيد رشيد رضا في تفسير المنار :
وجملة القول في الخلاف : أنه ليس في المسألة نص قطعي، والظواهر التي استدل بها الجمهور يمكن أن تكون خاصة برسل الإنس ؛ لأن الكلام معهم، وليست أقوى من ظاهر ما استدل به من قال : إن الرسل من الفريقين، والجن عالم غيبي، لا نعرف عنه إلا ما ورد به النص، وقد دل القرآن والسنة على رسالة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فنحن نؤمن بما ورد، ونفوض الأمر فيما عدا ذلك إلى الله تعالى.
ولكل درجات مما عملوا وما ربك بغافل عما يعملون.
أي : ولكل من الجن والإنس درجات ومنازل متفاوتة في الآخرة، في الجنة والنار بحسب أعمالهم صالحة كانت أو سيئة، أو من أجل أعمالهم، إذ الجزاء من جنس العمل.
وما ربك بغافل عما يعملون. بل هو عالم بأعمالهم، ومحصيها عليهم، وسيجازيهم عليها جزاء عادلا، بما يستحقونه من ثواب وعقاب.
التفسير :
وربك الغني ذو الرحمة.... الآية.
أي : هو سبحانه مستغن عن خلقه لا يحتاج إليهم ولا إلى عبادتهم، لا ينفعه إيمانهم ولا يضره كفرهم، ومع كونه غنيا عنهم، فهو ذو رحمة بهم، والرحمة بهم مع كمال الغنى عنهم، هو غاية الكرم والفضل.
أخرج الإمام مسلم في صحيحه حديثا قدسيا رواه أبو ذر جاء فيه :
(.. يا عبادي، إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني.. يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم، كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئا.. يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم، ما نقص ذلك من ملكي شيئا، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم، اجتمعوا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كلا مسألته، ما نقص ذلك من ملكي شيئا.. ) الحديث( ٦ ).
قال الألوسي : وفي هذه الآية تنبيه على أن ما سبق ذكره من إرسال الرسل ليس لنفعه، بل رحمة منه بالعباد.
إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء.
أي : إن يشأ يهلككم أيها العباد العصاة، فيستأصلكم بالعذاب، ويأتي بخلف لكم من بعدكم أطوع منكم، فهو سبحانه قادر على دلك.
قال تعالى : يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد * إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد * وما ذلك على الله بعزيز. ( فاطر : ١٥ – ١٧ ).
كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين.
أي : مثلما أنشأكم من نسل قوم آخرين، لم يكونوا على مثل صفتكم، وهم أهل سفينة نوح عليه الصلاة والسلام.
المفردات :
وما أنتم بمعجزين : وما أنتم بمعجزين طالبكم.. فلا تقدرون على الإفلات من عقابه الذي توعدكم به.
التفسير :
إن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين.
أي : إن ما توعدون من أمر القيامة والحساب والعقاب والثواب، لواقع لا شك فيه.
وما أنتم بمعجزين.
أي : بجاعليه عاجزا عنكم، غير قادر على إدراككم، فهو سبحانه القادر على الإعادة إذا صاروا ترابا وعظاما نخره كما قال تعالى : إنما توعدون لصادق * وإن الدين لواقع. ( الذاريات : ٥، ٦ ).
المفردات :
اعملوا على مكانتكم : اعملوا على تمكنكم فيما أنتم فيه، بقدر ما تستطيعون.
التفسير :
قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون.
أي : اثبتوا على ما أنتم عليه فإني غير مبال بكم، ولا مكترث بكفركم، بل إني عامل جهد طاقتي، على تثبيت دعوتي إلى الله تعالى، فسوف تعلمون بعد حين، من تكون له العاقبة الحسنى في هذه الدنيا، من النصر ووراثة الأرض، ومن له النصر في الآخرة.
إنه لا يفلح الظالمون.
أي : لا يظفر بمراده من كفر بالله تعالى، وأشرك به سبحانه.
قال ابن كثير :
وقد أنجز الله موعده لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم فمكن له في البلاد، وحكمه في نواصي مخالفيه من العباد، وفتح له مكة، وأظهره على من كذبه من قومه، واستقر أمره على سائر جزيرة العرب، وكل ذلك في حياته، ثم فتحت الأقاليم والأمصار بعد وفاته، قال تعالى : إنا لننصر رسلنا والذين ءامنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد. ( غافر : ٥١ ).
***
المفردات :
ذرأ : خلق.
الحرث : الزرع والثمار.
نصيبا : جزءا.
التفسير :
وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا.... الآية.
تبدأ الآيات التالية حديثا عن مساوئ الجاهلية وأوهام المشركين، التي تتعلق بمآكلهم ومشاربهم، ونذروهم وذبائحهم وتقاليدهم، فتناقشهم في كل ذلك مناقشة منطقية حكيمة، وترد عليهم فيما أحلوه وحرموه بدون علم ولا دليل.
وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا.
أي : جعلوا لله تعالى مما خلق من زروعهم، وثمار أشجارهم، ونتاج دوابهم، نصيبا ينفقونه على الفقراء والمساكين والمحتاجين، وجعلوا لآلهتهم نصيبا من ذلك، يصرفونه إلى سدنتها والقائمين بخدمتها.
ولكنهم إذا رأوا ما عينوه لله أزكى، وأكثر نماء مما عينوه لآلهتهم، عكسوا فجعلوا ما لله لآلهتهم، وما لآلهتهم لله تعالى، وقالوا : الله غني عن ذلك، وإذا رأوا ما عينوه لآلهتهم أزكى مما عينوه لله تعالى، فإنهم يتركونه لآلهتهم، حبا وإيثارا لها.
ساء ما يحكمون.
أي : ساء وقبح حكمهم وقسمتهم، حيث آثروا مخلوقا عاجزا عن كل شيء، على خالق قادر على كل شيء، فهم بجانب عملهم الفاسد من أساسه، لم يعدلوا في القسمة.
المفردات :
شركاؤهم : أي : أولياؤهم من الشياطين.
ليردوهم : ليهلكوهم.
وليلبسوا : وليخلطوا.
التفسير :
وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم... الآية.
أي : حسن الشياطين في أعين أهل الجاهلية قتل الأولاد، وقيل : شركاؤهم ها هنا : هم الذين كانوا يخدمون الأوثان – من الكهنة وسدنة الأصنام – زينوا لهم دفن البنات مخافة السبى والحاجة، وقتل الأولاد ؛ مخافة الفقر، وكان الرجل يحلف بالله لئن ولد له كذا من الذكور لينحرن أحدهم، كما فعله عبد المطلب حينما نذر أن يذبح آخر أبنائه، إذا بلغ عددهم عشرة بنين.
ليردوهم : أي : ليهلكوهم، من الردى وهو الهلاك، يقال : ردى – كرضى – أي : هلك.
وليلبسوا عليهم دينهم.
أي : ليخلطوا عليهم ما كانوا عليه من دين إسماعيل عليه السلام، أو ما وجب عليهم أن يتدينوا به.
وليلبسوا. مأخوذ من اللبس بمعنى : الخلط بين الأشياء، التي يشبه بعضها بعض.
يقال : لبس الحق بالباطل، ولبست عليه الأمر، خلطته عليه، وجعلته مشتبها حتى لا يعرف جهته.
ولو شاء الله ما فعلوه.
أي : ولو شاء الله عدم فعلهم ذلك ؛ لعصمهم منه، ولكنه خلاهم وما يفعلون ؛ لأنه علم منهم إصرارهم على ضلالتهم وكفرهم.
فذرهم وما يفترون.
أي : فاتركهم وافتراءهم على الله الكذب ؛ فإن ذلك لا يضرك.
قال أبو السعود : الفاء فاء الفصيحة ؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط، مقدر، أي : إذا كان ما فعلوه بمشيئة الله تعالى، فدعهم وافتراءهم، أو ما يفترونه من الإفك، فإن فيما شاء الله تعالى حكما بالغة، إنما نملي لهم ؛ ليزدادوا إثما، ولهم عذاب مهين، وفيه من شدة الوعيد ما لا يخفى ( ٧ ).
المفردات :
حرث : زرع.
حجر : محجور محرم.
بزعمهم : أي بادعائهم من غير حجة.
التفسير :
وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم... الآية.
تحكي هذه الآية نوعا آخر من جهالاتهم وكفرهم، وافترائهم الكذب على الله تعالى.
والمعنى : ومن بين أوهام المشركين وضلالتهم، أنهم يقتطعون بعض أنعامهم وأقواتهم من الحبوب وغيرها، ويقولون : هذه الأنعام وتلك الزروع حجر، وهي كلمة بزنة فعل بمعنى : مفعول، أي : محجورة علينا أي : محرمة ممنوعة، لا يأكل منها إلا من نشاء، يعنون خدم الأوثان من الرجال دون النساء، أي : لا يأكل منها إلا خدم الأوثان والرجال فقط.
وأنعام حرمت ظهورها.
حرم المشركون طائفة من الجمال على أنفسهم وتركوها للمرعى منها ما يأتي :
البحيرة : التي تلد خمسة أبطن آخرها ذكر، كانوا يشقون أذنها ويتركونها لآلهتهم.
السائبة : اسم للناقة التي يتركها صاحبها فلا تنحر ؛ لأنها نجت في الحرب، أو نذرها للأصنام.
الوصيلة : اسم للناقة التي تلد أول ما تلد أنثى ثم تثنى بأنثى، كانوا يتركونها للأصنام ؛ لأنها وصلت أخاها.
الحام : اسم للفحل إذا لقح ولد ولده قالوا : حمى ظهره فلا يركب، ويترك حتى يموت.
قال تعالى : ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون. ( المائدة : ١٠٣ ).
وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها. عند الذبح بل يذكرون أسماء أصنامهم.
وقيل : معناها : لا يحجون عليها ؛ لأن الحج لا يخلوا عن ذكر الله تعالى.
افتراء عليه. أي : كذبوا بادعائهم أن هذا من دين الله.
سيجزيهم بما كانوا يفترون. أي : سيعاقبهم الله بسبب افترائهم الكذب على الله تعالى.
التفسير :
وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم.
وقال هؤلاء المشركون عن الأجنة التي في بطون البحيرة والسائبة.. إذا نزل الجنين حيا فأكله حلال للرجال دون النساء. وإن نزل ميتا فأكله حلال للرجال والنساء على السواء.
قال ابن عباس : كانت الشاة إذا ولدت ذكرا ذبحوه فكان للرجال دون النساء، وإن كانت أنثى تركوها لم تذبح وإن كانت ميتة كانوا فيها شركاء.
ومحرم على أزواجنا.
وهن النساء، ويدخل في ذلك البنات والأخوات ونحوهن. وقيل : هو اللبن جعلوه حلالا للذكور ومحرما على النساء.
سيجزيهم وصفهم.
أي : سيعاقبهم الله جزاء لهم على وصفهم الكذب، وحكايتهم إياه على الله سبحانه، بادعائهم أنه تعالى أحل وحرم ما أحلوه وحرموه، كما في قوله تعالى : وتصف ألسنتهم الكذب. ( النحل : ٦٢ ).
قال الألوسي : وهذا كما قال بعض المحققين من بليغ الكلام وبديعه، فإنهم يقولون : كلامه يصف الكذب إذا كذب، وعينه تصف السحر أي : ساحرة. وقده يصف الرشاقة بمعنى : رشيق، مبالغة، حتى كأن من سمعه أو رآه وصف له ذلك بما يشرحه له.
إنه حكيم عليم. أي : عظيم الحكمة والتعلم.
وإن الإنسان ليعجب، كيف تحمل هؤلاء المشركون تضحيات وأعباء مادية، وخسائر في سبيل عقيدتهم الفاسدة ؟ وأمامهم نور القرآن وهديه، يرسم لهم الطريق الواضح المستقيم، فيصمون آذانهم عن الاستماع إليه.
المفردات :
خسر : خاب.
سفها : السفاهة : الخفة والجهالة.
التفسير :
قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهاء بغير علم... الآية.
والمعنى : قد خاب هؤلاء المشركون، الذين وأدوا بناتهم ؛ مخافة العار والفضيحة، وقتلوا بعض الذكور من الأبناء ؛ مخافة الفقر والحاجة، وقد فعلوا ذلك سفها أي : بسبب الطيش والخفة، لا لحجة عقلية ولا شرعية.
فلو نشأت البنت على الفضيلة لما زلت في كبرها.
قال عكرمة : نزلت فيمن يئد البنات من ربيعة ومضر، فقد كانوا يئدون بناتهم ؛ مخافة السبى والعار، وأولادهم ؛ خشية الفقر، جهلا منهم بأن الله هو الرازق لأولادهم وحده.
وحرموا ما رزقهم الله.
من البحيرة والسائبة والوصيلة والحامى، وغيرها من الحيوانات التي حرموها على أنفسهم.
افتراء على الله. كذبا عليه فإن الله لم يحرم من هذا شيئا.
قد ضلوا وما كانوا مهتدين.
أي : انحرفوا عن طريق الحق والصواب، ولم يكونوا مهتدين لسوء سلوكهم، وفساد قلوبهم.
روى البخاري عن ابن عباس قال :( إذا سرك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين والمائة من سورة الأنعام : قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين.
المفردات :
جنات : بساتين.
معروشات : مرفوعات على ما يحملها.
متشابها وغير متشابه : الاشتباه والتشابه : بمعنى واحد، والمراد به : التقارب في نحو اللون والطعم.
حصاده : جنيه.
ولا تسرفوا : ولا تجاوزوا الحد في الإنفاق.
التفسير :
وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات... الآية.
يلفت القرآن النظر إلى بديع صنع الله في خلقه، ويعدد النعم، ويلمس شغاف القلوب ؛ ليحركها نحو النظر إلى بديع صنع الله.
والمعنى : هو الله الذي خلق بساتين مختلفة، بعضها مرفوعات على ما يحملها من العرائش مثل : الكرم، وبعض الزروع والبطيخ، وبعضها متروكات بدون عرائش مثل : النخل وسائر الأشجار.
والنخل والزرع مختلف أكله.
أي : وأنشأ النخل والزرع. والمراد بالزرع : جميع الحبوب التي يقتات بها، مختلفا ثمره وحبه : في الهيئة وفي الطعم.
والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه.
أي : وأنشأ – سبحانه وتعالى – الزيتون والرمان : متشابها في الثمر والشكل والهيئة والطعم واللون والحجم، وغير متشابه في ذلك ؛ إبداعا في الخلق والإعجاز.
كلوا من ثمره إذا أثمر.
أي : كلوا من ثمر تلك الزروع والأشجار التي أنشأها لكم، شاكرين الله على ذلك، والأمر هنا للإباحة.
وفائدة التقييد بقوله إذا أثمر. إباحة الأكل قبل النضوج والإدراك من نحو الفول الأخضر والباقلاء والفريك، للاستمتاع بنعم الله، والطعام في مراحل نموه المبكرة حيث تكون له نكهة ولذة تستحق الشكر والحمد لله.
قال القرطبي : وفيه أدلة على وجود الله، وعلى عظيم المنة علينا :
فلو شاء إذا خلقنا ألا يخلق لنا غذاء، وإذا خلقه ألا يكون جميل المنظر، طيب الطعم، وإذا خلقه كذلك ألا يكون سهل الجني، فلم يكن عليه أن يفعل ذلك ابتداء ؛ لأنه لا يجب عليه شيء.
ومن دليل القدرة : أن يكون الماء الذي من شأنه الرسوب يصعد بقدرة الله الواحد علام الغيوب من أسافل الشجرة إلى أعاليها، حتى إذا انتهى إلى آخرها نشأت فيها أوراق ليست من جنسها، وثمر خارج من صفته : الجرم الوافر، واللون الزاهر، والجني الجديد، والطعم اللذيذ، فأين الطبائع وأجناسها، وأين الفلاسفة وأسسها، هل هي في قدرة الطبيعة أن تتقن هذا الإتقان ؟ أو ترتب هذا الترتيب العجيب ؟ كلا، لا يتم في العقول إلا لحي قادر عالم مريد، فسبحان من له في كل شيء آية ونهاية !.
وءاتو حقه يوم حصاده. قيل : هي في زكاة الزروع والثمار، والزكاة لم تفرض إلا في المدينة، فقالوا : هذه الآية مدنية في سورة مكية.
ورأى بعض العلماء أن المراد بهذا الحق : الصدقة بوجه عام على المستحقين لها، بأن يوزع صاحب الزرع منه عند حصاده، على المساكين والبائسين ما يسد حاجتهم، بدون إسراف أو تقتير، وأصحاب هذا الرأي فسروا هذا الحق بالصدقة الواجبة، من غير تحديد للمقدار، وليس بالزكاة المفروضة ؛ لأن الآية مكية والزكاة إنما فرضت بالمدينة ( ٨ ).
ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين.
أي : لا تتجاوزوا الحد في الأكل أو في التصدق، فخير الأمور الوسط وشر الأمور الشطط.
فلا يجوز أن يشتد البخل، ولا أن يعظم الإتفاق حتى يترك الإنسان أولاده فقراء.
قال ابن جريج : نزلت في ثابت بن قيس( ٩ )، قطع خمسمائة نخلة ففرق ثمرها كلها ولم يدخل منه شيئا إلى منزله كقوله تعالى : ولا تبسطها كل البسط. ا. ه.
والإسلام دين وسط لا غلو فيه ولا تفريط، بل فيه وسطية واعتدال. قال تعالى : وكذلك جعلناكم أمة وسطا.. ( البقرة : ١٤٣ ) وقال تعالى : والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما. ( الفرقان : ٦٧ ).
المفردات :
حمولة : تحمل الأثقال.
فرشا : ما يفرش للذبح.
التفسير :
ومن الأنعام حمولة وفرشا... الآية.
أي : وأنشأ لكم من الأنعام وهي الأصناف الثمانية الآتي ذكرها – حمولة وفرشا.
والحمولة : ما يحمل عليها وهو يختص بالإبل.
والفرش : ما يتخذ من الوبر والصوف والشعر فراشا يفترشه الناس.
وقيل : الحمولة : الإبل، والفرش : الغنم، وقيل : الحمولة، كبار الإبل، والفرش : صغارها التي لا يحمل عليها بل تركب وتضجع للذبح.
كلوا مما رزقكم الله.
أي : من هذه الثمار والزروع والأنعام وغيرها، وانتفعوا منها بسائر أنواع الانتفاع المشروعة.
ولا تتبعوا خطوات الشيطان. ولا تتبعوا وساوس الشيطان وطرقه في التحريم والتحليل كما اتبعها أهل الجاهلية.
إنه لكم عدو مبين.
أي : إنه بين العداوة لكم، حريص على إغرائكم وإغوائكم، والشيطان جنس، يشمل كل شياطين الإنس والجن ممن يحلون الحرام ويحرمون الحلال من الحكام وذوي السلطان ؛ تحقيقا للشهوات والنزوات.
المفردات :
أزواج : جمع زوج. ويطلق على كل واحد من القرينين : الذكر والأنثى في الحيوانات المتزاوجة، ويطلق أيضا على مجموعهما. والمراد الأول.
نبئوني : أخبروني.
التفسير :
ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين... الآية.
الزوج يطلق على المفرد إذا كان آخر من جنسه يزاوجه، ويحصل منهما النسل، وكذا يطلق على الاثنين فهو مشترك والمراد هنا الأول.
والمعنى : ثمانية أصناف خلقها الله لكم ؛ لتنتفعوا بها، أكلا وركوبا، وحملا وحلبا وغير ذلك.
وهذه الأصناف الثمانية أربعة ذكور من الإبل والبقر والغنم والمعز.
وأربعة إناث من كل منها.
ثم فصل هذه الأصناف فقال :
من الضأن اثنين.
أي : من الضأن زوجين اثنين هما : الكبش والنعجة.
ومن المعز اثنين.
أي : ومن المعز زوجين : ذكر وأنثى هما : التيس والعنز.
قل ءا الذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين.
أي : قل لهم يا محمد، لهؤلاء الذين يحرمون ذكور الأنعام تارة، وإناثها تارة أخرى، وينسبون ذلك إلى الله افتراء عليه – قل لهم : أكان التحريم في الضأن والمعز وغيرهما من الأنعام بسبب الذكورة ؟
أم كان بسبب الأنوثة ؟ أم هو بسبب الوجود في الرحم ؟
فإن كان التحريم بسبب الذكورة ؛ لزم تحريم جميع الذكور، وهم لم يفعلوا ذلك.
وإن كان التحريم بسبب الأنوثة ؛ لزم تحريم جميع الإناث وهم لم يفعلوا ذلك أيضا.
وإن كان التحريم بسبب اشتمال الرحم على الجنين ؛ لزمهم تحريم جميع الذكور وجميع الإناث ؛ لأن الكل يشتمل عليه الرحم ولم يفعلوا ذلك.
ومثل ذلك يقال في الإبل والبقر الآيتين.
نبئوني بعلم إن كنتم صادقين.
أي : أخبروني بأمر معلوم من جهة الله تعالى، جاءت به الأنبياء عليهم السلام، إن كنتم صادقين فيما زعمتموه، من أن التحليل والتحريم هما من عند الله.
ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين قل ءا الذكرين أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين... الآية.
أي : وأنشأ لكم من الإبل اثنين هما : الجمل والناقة.
ومن البقر اثنين. هما الثور والبقرة.
قل لهم يا محمد أكان التحريم بسبب الذكورة في الصنفين ؟ أم كان بسبب الأنوثة فيها.
قال الألوسي :
( إنهم كانوا يحرمون ذكور الأنعام تارة، وإناثها تارة، وأولادها كيفما كانت تارة أخرى، مسندين ذلك كله إلى الله.
وإنما كرر في هذه الآية، ما ذكر في الآية السابقة ؛ لزيادة الإلزام والتبكيت والإفحام )
أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا.
يعني : إذا لم يكن بيدكم مستند علم، فهل كمنتم حاضرين مشاهدين حين وصاكم الله، وأمركم بهذا التحريم ؟
والحاصل أن العلم بالتحريم، إما أن يكون عن رسول أخبرهم به، وإما أن يكون عن مشاهدة لله وسماع منه تعالى.... وكلا الأمرين منتف.
وبذلك يبطل تحريمهم ما حرموه عن الله تعالى.
فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم.
أي : لا أحد أظلم من هؤلاء المشركين الذين ينسبون إلى الله تحريم ما لم يحرمه.
قال أبو السعود : والمراد كبراؤهم المقررون لذلك، أو عمر بن لحى بن قمعة، وهو المؤسس لهذا الشر، أو الكل ؛ لاشتراكهم في الافتراء عليه سبحانه وتعالى.
ولا يقدح في ظلمهم كون بعضهم مخترعين له، وبعضهم مقتدين بهم.
إن الله لا يهدي القوم الظالمين.
أي : لا يهديهم إلى طريق الحق، بسبب ظلمهم وإيثارهم طريق الغي، على طريق الرشد.
وفي هذه الآية بيان عظم إثم من يحرم شيئا مما خلقه الله بغير مستند صحيح.
﴿ قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم ( ١٤٥ ) وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون ( ١٤٦ ) فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين ( ١٤٧ ) ﴾
المفردات :
طاعم يطعمه : آكل يأكله، من ذكر و أنثى.
مسفوحا : أي : سائلا.
رجس : نجس خبيث. والمراد : حرام.
فسقا : خروجا عما أحله الله.
أهل لغير الله به : ذكر اسم غير الله تعالى عليه، عند ذبحه.
فمن اضطر : فمن حملته الضرورة على تناول شيء من ذلك.
غير باغ : أي : غير ظالم مضطر مثله.
ولا عاد : أي : ولا متجاوز قدر الضرورة.
التفسير :
قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه.... الآية.
نزلت هذه الآية، ردا على أهل مكة حين حرموا على أنفسهم أنواعا من الحيوانات، وحرموا على إناثهم أصنافا لم يحرموها على الذكور، فنزل الوحي جوابا لهؤلاء المشركين ؛ ليقول لهم : إن التحريم لا يكون إلا بوحي، وأنا لا أجد فيما أوحاه الله إلي من الوحي، تحريم أي نوع من أنواع الحيوانات ؛ إلا الأصناف الآتية :
الميتة : وهو الحيوان الذي زهقت روحه بغير ذبح شرعي.
الدم المسفوح : أي : الدم الجاري أما غير المسفوح فهو معفو عنه، كالدم الذي يبقى في العروق بعد الذبح، وكذلك الكبد والطحال فإنهما دمان غير سائلين.
لحم الخنزير – ومثل لحم الخنزير شحمه وغضاريفه ؛ فإن جميع أجزائه قذر نجس ولو ذبح ؛ لتعوده أكل النجاسات أو لأنه خبيث محظور شرعا.
فسقا أهل لغير الله به : أي : ذبح على الأصنام. وإنما سمي فسقا ؛ لتوغله في الفسق، والخروج عن الشريعة الصحيحة، ومنه قوله تعالى : ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق. ( الأنعام : ١٢١ ).
فمن اضطر غير باغ ولا عاد.
والمعنى : فأي شخص أصابته الضرورة، على تناول شيء من المحرمات السابقة ؛ لحفظ الحياة، بسبب فقده الطعام الحلال، فإنه رخص له في ذلك.
بشرط ألا يكون باغيا على مضطر آخر مثله، أو غير طالب له للذته، وألا يتجاوز – فيما يتناوله – مقدار الضرورة، التي تحفظ عليه حياته، حتى يصل إلى مكان يجد به الطعام الحلال. وعاد : اسم فاعل بمعنى متعد ومنه قوله تعالى : بل أنتم قوم عادون. ( الشعراء : ١٦٦ ).
فإن ربك غفور رحيم.
أي : فإن الله عظيم المغفرة والرحمة، لا يؤاخذ المضطر على تناول شيء من ذلك ؛ لأنه أباحه له ؛ لحفظ حياته.
من كلام المفسرين
قال ابن كثير : الغرض من سياق الآية : الرد على المشركين، الذين ابتدعوا ما ابتدعوه من تحريم المحرمات على أنفسهم، بآرائهم الفاسدة، من البحيرة، والسائبة والوصيلة والحام ونحو ذلك، فأمر الله تعالى رسوله أن يخبرهم، بأنه لا يجد فيما أوحاه الله إليه أن ذلك محرم، وأن الذي حرمه الله هو الميتة وما ذكر معها، وما عدا ذلك فلم يحرم، وإنما هو معفو مسكوت عنه، فكيف تزعمون أنه حرام، ومن أين حرمتموه ولم يحرمه الله، وعلى هذا فلا ينبغي تحريم أشياء أخر فيما بعد هذا، كما جاء النهي عن أكل الحمر الأهلية، ولحوم السباع وكل ذي مخلب من الطير.
من تفسير القرطبي
ذكر القرطبي عدة أقوال في تفسير الآية ثم قال :
إن أكثر أهل العلم والفقه والأثر على أن هذه الآية مكية، وكل محرم حرمه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أو جاء في الكتاب، مضموم إليها، فهو زيادة حكم من الله تعالى على لسان نبيه.
فقد نزلت سورة المائدة في المدينة، وزيد فيها بعض المحرمات : كالمنخنقة، والموقوذة والمتردية. والنطيحة. ا ه. باختصار.
قال الإمام الشافعي : إن الكفار لما حرموا ما أحل الله، وأحلوا ما حرمه الله، وكانوا على المضادة والمحادة، جاءت هذه الآية مناقضة لغرضهم، فكأنه قال سبحانه : لا حلال إلا ما حرمتموه، ولا حرام إلا ما حللتموه، نازل منزلة من يقول لك : لا تأكل اليوم حلاوة، فتقول : لا آكل اليوم إلا الحلاوة، والغرض المضادة لا النفي والإثبات على الحقيقة.
فهو سبحانه، لم يقصد حل ما وراء الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وما أهل لغير الله به ؛ إذ القصد إثبات التحريم لا إثبات الحل.
قال إمام الحرمين : وهذا في غاية الحسن، ولولا سبق الشافعي إلى ذلك لما كنا نستجيز مخالفة مالك رضي الله عنه في حصر المحرمات فيما ذكرته الآية ( ١٠ ).
المفردات :
كل ذي ظفر : أي : كل ما له أصبع من الإبل، والسباع، والطيور.
شحومهما : جمع شحم. وهو الدهن.
إلا ما حملت ظهورهما : أي : إلا ما وجد من الشحم فوق ظهورهما.
أو الحوايا : أي : وإلا الشحوم التي تغطي الأمعاء.
أو ما اختلط بعظم : أي : وإلا ما اختلط من الشحم بعظم، كالإلية.
ببغيهم : أي : بسبب ظلمهم.
التفسير :
وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر... الآية.
أي : وعلى اليهود دون غيرهم بسبب ظلمهم، حرم الله جميع ماله إصبع غير منفرج، كالإبل والنعام والأوز والبط.
قال مجاهد : كل ذي ظفر. هو كل شيء لم تنفرج قوائمه من البهائم، وما انفرج أكلته اليهود.
قال : انفرجت قوائم الدجاج والعصافير، فيهود تأكله، ولم ينفرج خف البعير ولا النعامة، ولا قائمة الأوز، فلا تأكل اليهود الإبل، ولا النعام، ولا كل شيء لم تنفرج قائمته كذلك.
ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومها.
والشحم : هو المادة الدهنية التي تكون في الحيوان، وبها يكون لحمه سمينا، والعرب تسمى سنام البعير، وبياض البطن : شحما، وغلب إطلاق الشحم على ما يكون فوق أمعاء الحيوان.
والمعنى : كما حرمنا على اليهود كل ذي ظفر، فقد حرمنا عليهم كذلك من البقر والغنم شحومها الزائدة التي تنتزع بسهولة. ثم استثنى سبحانه من الشحوم المحرمة على اليهود ما يأتي :
إلا ما حملت ظهورهما.
أي : إلا الدهون التي توجد فوق ظهور البقر والغنم أو الحوايا. وهي المباعر التي يجتمع فيها البعر، فما حملته من الشحم غير حرام.
أو ما اختلط بعظم.
ما لصق بالعظام من الشحوم في جميع مواضع الحيوان، ومنه الإلية فإنها لاصقة بعجب الذنب. وهو آخر فقرات الظهر.
ذلك جزيناهم ببغيهم.
أي : ذلك التحريم الذي حكمنا به عليهم إنما ألزمناهم به، بسبب بغيهم وظلمهم وتعديهم حدود الله تعالى.
قال قتادة : وإنما حرم عليهم ما ليس بخبيث عقوبة لهم وتشديدا عليهم. اه.
إن اليهود قتلوا الأنبياء وأكلوا الربا، وأكلوا أموال الناس بالباطل كما قال تعالى :
فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم.. ( النساء : ١٦٠ )
وكانوا كلما أتوا معصية، عوقبوا بتحريم شيء مما أحل لهم، وهم ينكرون ويدعون أنها كانت محرمة على الأمم قبلهم.
وإنا لصادقون.
هذا إخبار من الله عز وجل بأنه صادق في كل ما بينه، ومنه بيان صدقه فيما أحل وحرم بالنسبة لليهود.
ولما حرم الله الشحوم على اليهود، تحايلت على ذلك فأذابوها ثم باعوها وأكلوا ثمنها، وما حرم الله شيئا إلا حرم بيعه، وحرم أكل ثمنه، مثل : الخمر والميتة والخنزير والأصنام.
جاء في تفسير ابن كثير : عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : لعن الله اليهود – ثلاثا – إن الله حرم عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا ثمنها، وإن الله لم يحرم على قوم أكل شيء إلا عليهم ثمنه ( ١١ ).
المفردات :
بأسه : عقابه.
التفسير :
فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة... الآية.
فإن كذبك اليهود، وقيل : المراد : فإن كذبك المشركون، الذين قسموا الأنعام إلى تلك اللأقسام، وحللوا بعضها وحرموا بعضها.
فقل ربكم ذو رحمة واسعة. ومن رحمته حلمه عنكم، وعدم معالجته لكم بالعقوبة.
ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين.
ولا يمنع عقابه عن القوم المصرين على إجرامهم، المستمرين على اقتراف المنكرات، وارتكاب السيئات.
المفردات :
تخرصون : تقدرون تقديرا خاطئا.
التفسير :
سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا... الآية.
تحكي هذه الآيات شبهات قديمة حديثة، يتعلل بها مرتكبو المعاصي والشرك، يحاولون تخفيف الذنب على أنفسهم فيدعون أن هذا قضاء الله وقدره، ولا معقب لأمره وعلى لسان هؤلاء المشركين حكى القرآن عنهم ما يأتي : وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آبائنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون * قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين... ( الأعراف : ٢٨، ٢٩ ).
والآيات هنا تحكي اعتذار المشركين، عندما يفحمهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالحجة والبرهان، سيقولون : لو شاء الله ألا نشرك به نحن ولا آباؤنا القريبون والبعيدون ما أشركنا وما أشرك آباؤنا... ولو شاء ألا نحرم شيئا مما حرمناه لما حدث منا هذا التحريم، فما وقع منا فهو بمشيئة الله ورضاه، أرادوا بذلك، أنهم على الحق المشروع المرضي عند الله تعالى وإلا لما وقع منهم ؛ لأنه لا يقع في ملكه إلا ما يشاء، وقد كذبوا في هذا الاحتجاج ؛ فإن الله لا يرضى لعباده الكفر والمعاصي، قال تعالى :... ولا يرضى لعباده الكفر.. ( الزمر : ٧ ).
كذلك كذب الذين من قبلهم.
أي : بمثل هذه الحجة كذب الذين من قبلهم بالمرسلين إليهم.
حتى ذاقوا بأسنا.
أي : حتى نزل بهم العذاب وأحاط بهم الهلاك. ولو كان هذا الشرك وغيره من قبائحهم مرضيا عنده سبحانه، لما أذاق أسلافهم المكذبين عذابه ونقمته ولما أخذهم أخذ عزيز مقتدر.
قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا.
أي : قل لهم يا محمد : هل يوجد لديكم دليل على أن الله رضى منكم أن تشركوا به وتحللوا وتحرموا من دونه ؟
وأما مجرد وقوع الفساد منكم فلا يدل على رضاه عنكم.
إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون.
أي : أنتم لستم على شيء ما من العلم، بل ما تتبعون في أقوالكم وأعمالكم وعقائدكم إلا الظن، الذي هو محل الخطإ ومكان الجهل، فالظن لا يغني عن الحق شيئا، وأنتم تخرصون، أي : تتوهمون مجرد توهم.
المفردات :
الحجة البالغة : أي : التامة ؛ بإنزال الكتب، وإرسال الرسل، مع تسليم العقل.
التفسير :
قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين.
أي : البينة الواضحة التي بلغت أعلى درجات العلم والقوة والمتانة والكمال، والتي تنقطع عندها معاذريهم، وتبطل شبههم وظنونهم وتوهماتهم.
فلو شاء لهداكم أجمعين.
أي : لو شاء هدايتكم جميعا لفعل ؛ لأنه لا يعجزه شيء، ولكنه لم يشأ ذلك، بل شاء هداية البعض ؛ لأنهم صرفوا اختيارهم إلى سلوك طريق الحق، وشاء ضلالة آخرين ؛ لأنهم صرفوا اختيارهم إلى سلوك طريق الباطل.
إن مشيئة الله لم تجبر أحدا على طاعة أو معصية وقضاء الله وقدره هو علمه بكل ما هو كائن قبل أن يكون وليس العلم صفة تأثير وجبر.
ولقد شاءت إرادة الله أن يجعل في البشر الاستعداد للخير والشر، غير أن سنة الله اقتضت أن من يفتح عينه يرى النور ومن يغمضها لا يراه، كذلك من يفتح قلبه لإدراك دلائل الإيمان ؛ يهتدي ومن يحجب قلبه عنها ؛ يضل : سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا. ( الفتح : ٢٣ ).
إن الله لم يشأ أن يجبر أحدا على طاعته أو معصيته، قال تعالى : فلو شاء لهداكم أجمعين. فهي مشيئة المنح والتيسير، وليست مشيئة الإلجاء والتسخير، فمن سلك طريق الهدى ؛ يسر الله له ذلك قال تعالى : فأما من أعطى واتقى * وصدق بالحسنى * فسنيسره لليسرى. ( الليل : ٥ – ٧ ).
المفردات :
هلم : أحضروا.
وهم بربهم يعدلون : أي : وهم يسوون به غيره.
التفسير :
قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا... الآية.
أي : قل لهم يا محمد : أحضروا من يشهد لكم ويعاونكم، في إثبات أن الله حرم عليكم ما حرمتموه على أنفسكم وعلى أزواجكم ! !
وهم كبراؤهم الذين أسسوا ضلالهم.
والمقصود من إحضارهم : تفضيحهم وإلزامهم الحجة، وإظهار أنه لا متمسك لهم كمقلدين.
فإن شهدوا فلا تشهد معهم.
أي : فلا تصدقهم فإنه كذب بحت وافتراء صرف، ولا تقبل شهادتهم ؛ لأنها نتيجة اتباع الهوى.
ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة وهم بربهم يعدلون.
أي : ولا تتبع أهواء الذين يجمعون بين تكذيب آيات الله، وبين الكفر بالآخرة، وبين جعلهم الله عديلا، أي : شريكا، مع أنه سبحانه هو الخالق لكل شيء ؛ لأن هذه الصفات لا تؤهلهم لشهادة الحق، ولا للثقة بهم، وإنما للاحتقار في الدنيا، ولسوء العذاب في الآخرة.
وكان مقتضى السياق أن يقول : ولا تتبعهم ولكنه وضع الظاهر موضع الضمير ؛ للدلالة على أن من كذب بآيات الله، وعدل به غيره فهو متبع للهوى لا غير، وأن من ابتع الحجة لا يكون إلا مصدقا بها ( ١٢ ).
المفردات :
تعالوا : أقبلوا وأحضروا.
أتل : أقرأ.
إملاق : فقر وفاقة.
الفواحش : ما عظم قبحه من المعاصي.
وصاكم به : أمركم وألزمكم به.
التفسير :
قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم... الآية.
تأتي هذه الآية في أعقاب توجيه المشركين ومناقشتهم، حتى إذا استبان لهم الطريق ووضحت الحجة، أمر الله رسوله أن يدعوهم ؛ ليوضح لهم المحرمات، ويرشدهم إلى الواجبات.
قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم..
أي : قل لهم يا محمد : أقبلوا، وأحضروا إلي ؛ لأقرأ لكم الآيات المشتملة على ما حرم الله عليكم وما أوجبه.
ألا تشركوا به شيئا.
أوصيكم ألا تشركوا مع الله في عبادتكم آلهة أخرى، بل خصوه وحده بالعبادة والخضوع والطاعة، فإنه هو الخالق لكل شيء.
والنهي عن الإشراك يقتضي الأمر بالإخلاص وصدق النية والبعد عن الرياء، وقد ساق القرآن مئات الآيات التي تدعو إلى الإيمان، وتنفر من الشرك، وتقيم الأدلة الساطعة والبراهين الدامغة على وحدانية الله عز وجل.
قال تعالى :
قل هو الله أحد... ( الإخلاص : ١ ).
وقال سبحانه :
أمن جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا أءله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون. ( النمل : ٦١ ).
وقال عز شأنه : لو كان فيهما ءالهة إلا الله لفسدتا... ( الأنبياء : ٢٢ ).
وقال تعالى : والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون * والأرض فرشناها فنعم الماهدون * ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون * ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين * ولا تجعلوا مع الله إلها آخر إني لكم منه نذير مبين. ( الذاريات : ٤٧ – ٥١ ).
وقال تعالى : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء... ( النساء : ١١٦ ).
وبالوالدين إحسانا... ( الإسراء : ٢٣ ).
أي : أحسنوا إليهما إحسانا وذلك بالبر بهما، وامتثال أمرهما ونهيهما، وفيه نهى عن عقوقهما.
وقد جاءت الوصية بالوالدين بعد النهي عن الشرك ؛ تنبيها على أهمية بر الوالدين، وتحذيرا من عقوق الوالدين خصوصا في حالة الكبر والضعف، حيث يكون الأب أو الأم في أمس الحاجة إلى الرعاية النفسية.
أو المادية، وهو نوع من تكافل الأجيال ورد الجميل، ولا يوفق لإكرام والديه إلا من يرد له الجميل من ذريته وفي الحديث الشريف :( عفوا ؛ تعف نساؤكم، وبروا آباءكم ؛ تبركم أبناءكم ) ( ١٣ ).
وفي الربيع الثاني من سورة الإسراء قدم القرآن٢٦ ‌وصية وأدبا بدأها بالدعوة إلى التوحيد وعدم الشرك وثناها بالدعوة إلى بر الوالدين. حيث قال تعالى :
وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما * واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا.
( الإسراء : ٢٣، ٢٤ )
ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم.
الإملاق : الفقر.
وكانت الجاهلية تفعل ذلك بالذكور والإناث، خشية الإملاق وتفعله بالإناث ؛ خشية العار، فبين الله أنه هو الرزاق للوالد والولد وكل الكائنات الحية قال تعالى : وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها. ( هود : ٦ ).
والمعنى : لا تقتلوا أولادكم الصغار من أجل الفقر فنحن قد تكلفنا برزقكم ورزقهم.
وفي سورة الإسراء قال تعالى : ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطئا كبيرا. ( الإسراء : ٣١‍ )
وفي سورة الإسراء قدم رزق الأولاد على الآباء ؛ للإشارة إلى أن الولد الضعيف يرزق أصلا والأب يرزق تبعا.
فالله يرزق الأب تابعا لرزق الابن.
وقد ورد في هدى السنة أن رجلا اشتكى للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ؛ لأنه يعمل ويكدح ويطعم أخاه الذي لا يعمل، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم :( لعلك به ترزق ) ( ١٤ ).
ولا تقربوا الفواحش.
وكل قول أو فعل تستقبحه العقول فهو فاحشة يجب البعد عنها، كالسرقة والزنى، والنميمة وشهادة الزور.
ما ظهر منها وما بطن.
قال أبو السعود : أي : ما يفعل منها علانية في الحوانيت كما هو دأب أرذالهم، وما يفعل سرا باتخاذ الأخدان كما هو عادة أشرافهم.
ونجد القرآن ينهى عن الاقتراب من الفواحش ؛ لأن من حام حول الحما يوشك أن يقع فيه، ولأنه إذا حصل النهي عن الاقتراب من الشيء، فلأن ينهى عن فعله من باب أولى.
وقريب ذلك من قوله تعالى :
ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا. ( الإسراء : ٣٢ )
ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق.
أي : ولا تقتلوا النفس التي حرم الله قتلها، بأن عصمها بالإسلام أو بالعهد، إلا إذا فعلت ما يوجب قتلها كالقصاص أو الردة أو الزنى بعد الزواج.
روى الشيخان عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال :
( لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة ) ( ١٥ ).
قال الشوكاني : ومن الحق قتلها قصاصا، وقتلها بسبب زنى المحصن، وقتلها بسبب الردة، وهذه هي الأسباب التي ورد الشرع بها.
ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون.
أي : ذلكم الذي ذكرناه لكم من وصايا جليلة، وتكاليف حكيمة، وصاكم الله به، وطلبه منكم، لعلكم تستعملون عقولكم في أداء هذه الحقوق الثابتة، المتجاوبة مع الفطرة، وهذه الحقوق الخمسة المذكورة في الآية الكريمة وهي :
توحيد الله.
الإحسان إلى الوالدين.
عدم قتل الأولاد.
الابتعاد عن الفواحش.
عدم قتل النفس إلا بالحق.
وأداء هذه الوصايا يتفق مع العقل والفطرة السليمة.
المفردات :
أشده : أي : يبلغ قوته البدنية والعقلية ويحسن التصرف.
بالقسط : بالعدل وعدم الجور.
فاعدلوا : فاصدقوا في القول.
وبعهد الله أوفوا : وبما طلب الله منكم من العدل وتأدية أحكام الشرع، أوفوا وأتموا.
لعلكم تذكرون : لكي تتعظوا.
التفسير :
١٥٢- ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده... الآية.
هذه وصية سادسة تتعلق بالمعاملة الحسنة لليتيم. وقد تعرض القرآن المكي والمدني للوصية باليتيم ورعايته، والمحافظة على ماله وعدم خلط ماله بمال الموصى ؛ توطئة لأكل مال اليتيم ؛ ولما تكررت هذه الوصايا ؛ تحرج المسلمون من خلط أموال اليتيم بأموالهم فأنزل الله تعالى : ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح...
وهنا في سورة الأنعام يقول الله تعالى :
ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن.
أي : لا تتعرضوا له بخصلة من الخصال أو بوجه من الوجوه إلا بالخصلة التي هي أحسن.
لأن الوصي ربما احتال بالحيلة لأكل مال اليتيم. فنهوا عن ذلك لكن إذا كان اقتراب الوصي من مال اليتيم وسيلة لتثميره وتنميته بطريقة حسنة ؛ فيجوز الاقتراب حينئذ ما دام في صالح اليتيم ونفعه وزيادة ماله.
حتى يبلغ أشده.
أي : احفظوا ماله حتى يبلغ الحلم فإذا بلغ الحلم رشيدا عاقلا حسنا للتصرف، دفع الوصي إليه ماله، وقد وردت هذه المعاني في صدر سورة النساء. قال تعالى :
وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم... ( النساء : ٦ )
أي : اختبروا اليتيم في مرحلة الصبا، بأن تعطوه مبلغا مناسبا ليتصرف فيه برأيه وحكمته، فإذا أحسن التصرف فزيدوه ومكنوه من التصرف في ماله جزئيا، حتى إذا بلغ سن الرشد عاقلا محسنا للتصرف فادفعوا إليه ماله.
ونلاحظ أن القرآن دائما يذكر المؤمن بالله ورقابته، فإن الموصى قد يتلاعب في الدفاتر ويزيف الحسابات، فيكون منضبطا أمام المجلس الحسبي وأمثاله من مجالس المحاسبين والرقباء، لكن هناك رقابة الله وحسابه قال تعالى :
فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم وكفى بالله حسيبا. ( النساء : ٦ )
أي : يجب إشهاد الشهود على دفع الوصي مال اليتيم إليه، مع علمه أن هناك رقابة من الله الذي لا تخفى عليه خافية، وهو سريع الحساب سبحانه وتعالى.
وأوفوا الكيل والميزان بالقسط.
لا غنى للناس عن الكيل والوزن، وقد تكررت وصايا القرآن بوفاء الكيل والميزان، وحثت السنة المطهرة على عدم تطفيف الكيل والميزان ؛ لأن الجائر لا يكاد يأخذ إلا الشيء الطفيف قال تعالى : ويل للمطففين * الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون * وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون * ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون * ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين. ( المطففين : ١ – ٦ ).
وعلى لسان نبي الله شعيب يقول القرآن الكريم :
أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين * وزنوا بالقسطاس المستقيم * ولا تبخسوا الناس أشيائهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين. ( الشعراء : ١٨١-١٨٣ ).
لا نكلف نفسا إلا وسعها.
أي : إن قواعد الشريعة مبنية على رفع الحرج فلا تكليف إلا بما يطاق قال تعالى : لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها. ( الطلاق : ٧ ).
فالغبن اليسير في الكيل والوزن وغير ذلك مما لا يمكن التحرز منه معفو عنه.
قال أبو السعود : لا نكلف نفسا إلا وسعها : إلا ما يسعها ولا يعسر عليها، وهو اعتراض جيء به عقيب الأمر بالعدل ؛ للإيذان بأن مراعاة العدل كما هو عسير كأنه قيل عليكم بما في وسعكم وما وراءه معفو عنكم.
وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى.
القرآن هنا يرتفع بالضمير البشري إلى مستوى سامي رفيع، على هدى من العقيدة في الله بأن يكلفه بتحري العدل في كل أحواله ولو إزاء أقرب المقربين إليه.
قال الشوكاني في فتح القدير : إذا قلتم فاعدلوا. في خبر أو شهادة أو جرح أو تعديل، فاعدلوا فيه وتحروا الصواب ولا تتعصبوا في ذلك لقريب، ولا على بعيد، ولا تميلوا إلى صديق، ولا على عدو، بل سووا بين الناس ولو كان. المقول فيه. أو المقول له ذا قربى. أي : صاحب قرابة لكم.
وهكذا نجد القرآن يسموا بآداب هذه الأمة ويقدم لها النصائح التي تجعلها تقول الحق خالصا لوجه الله ولو كانت الشهادة على النفس أو على الوالدين أو على الأقربين فينبغي أن تؤدى بالحق، والحق المجرد الخالص.
قال تعالى :
يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين. ( النساء : ١٣٥ ).
وبعهد الله أوفوا.
أي : إذا عاهدتم الله، أو عاهدتم بالله فأوفوا. وكونوا أوفياء مع الله في كل ما عهد إليكم به من العبادات والمعاملات وغيرها.
ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون.
أي : ذلكم المتلو عليكم في هذه الآية من الأوامر والنواهي ؛ وصاكم الله به في كتابه ؛ رجاء أن تتذكروا وتعتبروا بما أمرتم به.
وجاء في تفسير أبي السعود ما يأتي :
لعلكم تذكرون.
تتذكرون ما في تضاعيفه وتعلمون بمقتضاه، وقرئ بتشديد الذال.
وهذه أحكام عشرة لا تختلف باختلاف الأمم والأعصار.
عن ابن عباس رضي الله عنه : هذه آيات محكمات لم ينسخهن شيء من جميع الكتب، وهن محرمات على بني آدم كلهم وهن أم الكتاب من عمل بهن دخل الجنة. ومن تركهن دخل النار وعن كعب الأحبار : والذي نفس كعب بيده إن هذه الآيات لأول شيء في التوراة. بسم الله الرحمن الرحيم :
قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون* ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون.
( الأنعام : ١٥١، ١٥٢ )
١٥٣- وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه... الآية.
أي ولأن هذا الذي وصيتكم به من الأوامر والنواهي طريقي وديني الذي لا اعوجاج فيه فمن الواجب عليكم أن تتبعوه وتعملوا به.
وجاء في تفسير أبي السعود ما يأتي :
وأن هذا صراطي. إشارة إلى ما ذكر في الآيتين من الأمر والنهي قال مقاتل، وقيل : إلى ما ذكر في السورة فإنها بأسرها في إثبات التوحيد والنبوة وبيان الشريعة.
وقال الشوكاني في فتح القدير :
وأن هذا صراطي مستقيما. السبيل الموصل إلى رضائي، وهو دين الله، ثم أمرهم باتباعه ونهاهم عن غيره فقال :
فاتبعوه ولا تتبعوا السبل.
أي : الأديان المتباينة طرقها.
فتفرق بكم عن سبيله.
أي : عن سبيل الله المستقيم الذي هو دين الإسلام، وهذه السبل تعم اليهودية والنصرانية والمجوسية، وسائر الملل، والبدع والضلالات من الأهواء والشذوذ.
روى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال :
خط لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطا ثم قال : هذا سبيل الله، ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله ثم قال :
هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ثم قرأ :
وأن هذا صراطي مستقيما. ( ١٦ ) ورواه الدارقطني وابن ماجة أيضا.
ومستقيما. حال مؤكدة.
وقد أفرد الله سبحانه وتعالى – الصراط المستقيم.
وهو سبيل الله، وجمع السبل المخالفة له ؛ لان الحق واحد، والباطل ما خالفه وهو كثير فيشمل الأديان الباطلة، والبدع الفاسدة، والشبهات الزائفة، والفرق الضالة وغيرها.
ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون.
أي : هذا الذي تقدم – وهو اتباع دين الله والإبتعاد عن غيره من الأديان والنحل الباطلة – هو الذي أمركم الله بالحرص عليه والسير على منهاجه، رجاء أن تكونوا من الناجين المتقين.
المفردات :
تماما على الذي أحسن : أي : إتماما للنعمة على كل من أحسن القيام به. أو على موسى الذي أحسن تبليغه.
التفسير :
ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن... الآية.
أي : ثم آتينا وأعطينا موسى التوراة : لإتمام النعمة والكرامة، على كل من أحسن القيام بما اشتملت عليه من تكاليف أو إتماما للنعمة على موسى الذي أحسن تبليغ التوراة.
وتفصيلا لكل شيء وهدى ورحمة.
أي : جاءت التوراة بيانا وتفصيلا لكل ما يحتاج إليه في الدين والدنيا، وإرشادا إلى طريق الخير ورحمة واسعة.
لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون. أي : لعل قوم موسى وسائر أهل الكتاب يصدقون بيوم الجزاء، ويقدمون العمل الصالح الذي ينفعهم في هذا اليوم.
وفي هذه الآية إخبار من الله تعالى بأن الوصايا التي تقدم ذكرها ثابتة في الكتب المتقدمة، ومنها التوراة.
التفسير :
وهذا كتاب أنزلناه مبارك... الآية.
أي : وهذا القرآن، كتاب الله العظيم، أوحيناه إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم، كثير المنافع والخير دنيا وأخرى.
فاتبعوه واتقوه لعلكم ترحمون.
أي : اعملوا بما فيه من الأوامر والنواهي والأحكام.
واتقوا. مخالفته والتكذيب بما فيه ؛ رجاء أن تعمكم رحمة الله.
المفردات :
دراستهم : قراءة كتبهم.
التفسير :
أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا... الآية.
أي : أنزلنا إليكم – معشر العرب – كتابا ينطق بلغتكم ؛ خشية أن تقولوا معتذرين يوم القيامة : إنما أنزل ذلك الكتاب – التوراة والإنجيل – على طائفتين من قبلنا، وهما اليهود والنصارى، وتخصيص الإنزال بكتابيهما ؛ لأنهما اللذان اشتهرا من بين سائر الكتب السماوية سابقا، قبل نزول القرآن.
وإن كنا عن دراستهم لغافلين.
أي : وإننا معشر العرب كنا منصرفين عن مطالعة تلك الكتب وقراءتها.
في هذه الآية قطع الأعذار، وإثبات الحجة عليهم، حيث نزل القرآن بلغة سهلة ميسرة، هي العربية.
المفردات :
وصدف عنها : أعرض عنها. أو صرف الناس عنها.
التفسير :
أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم... الآية.
أي : لئلا تقولوا معتذرين بأمر آخر، لو أنا أنزل علينا الكتاب كما أنزل على اليهود والنصارى – لصرنا أكثر هداية إلى الحق منهم، فذلك لجودة إدراكنا، وتوقد أذهاننا، وتفتح قلوبنا.
فقد جاءكم بينة من ربكم.
أي : كتاب أنزله على نبيكم، وهو منكم يا معشر العرب.
فلا تعتذروا بالأعذار الباطلة، فالقرآن فيه حجة واضحة على ما شرعه الله من الأحكام، وإرشاد بين إلى طريق الحق.
وهدى ورحمة.
أي : القرآن هداية لكم إلى طريق الحق، ورحمة لمن يعمل ؛ بما اشتمل عليه من توجيهات وإرشادات.
فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها.
أي : لا أحد أظلم ممن كذب بآيات الله وأعرض عنها بعد أن جاءته بيناتها الكاملة، وهداياتها الشاملة.
سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون.
صدف عنها. أعرض عنها غير متفكر فيها، أو صرف الناس عنها، وصدهم عن سبيلها فجمع بين الضلال، والإضلال.
والمعنى : سنعاقب الذين يعرضون عن اتباع آياتنا، ويصرفون الناس عنها بأسوأ العذاب وأشده بسبب تكذيبهم لآياتنا وإعراضهم عنها.
المفردات :
ينظرون : ينتظرون.
التفسير :
هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة... الآية.
أي : ماذا ينتظر هؤلاء المشركون بعد أن قدمنا لهم كل الدلائل والبينات الداعية إلى الإيمان.
إنهم سيظلون في غيهم إلى أن تنزل عليهم ملائكة الموت فتقبض أرواحهم.
أو يأتي ربك. يوم القيامة ؛ لفصل القضاء بينهم.
أو يأتي بعض آيات ربك.
أي : أمارات الساعة الدالة على مجيئها.
أو المراد : الآيات والمعجزات التي اقترحوها على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلمكما ورد في قوله تعالى : وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا * أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا * أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا * أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن برقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا. ( الإسراء : ٩٠ –٩٣ ).
والراجح أن المراد بآيات الله هنا : هو العلامات الصغرى والكبرى ليوم القيامة.
قال أبو السعود في تفسير الآية : وقيل إن المراد. بإتيانه تعالى : إتيان كل آياته بمعنى : آيات القيامة، والهلاك الكلي بقرينة ما بعده من إتيان بعض آياته تعالى على أن المراد به :
أشراط الساعة التي هي الدخان، ودابة الأرض، وخسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، والدجال، وطلوع الشمس من مغربها، ويأجوج ومأجوج، ونزول عيسى عليه السلام، ونار تخرج من عدن، كما نطق به الحديث الشريف المشهور ( ١٧ ).
يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفس إيمانها إن لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا.
أي : عند مجيء أشراط الساعة وعلاماتها، يذهب التكليف فلا ينفع الإيمان حينئذ نفسا كافرة، لم تكن آمنت قبل ظهورها، ولا ينفع العمل الصالح نفسا مؤمنة تعمله عند ظهور هذه الأشراط ؛ لأن وقت التكليف الاختياري قد فات. ووجود الإنسان في هذه الدنيا أساسه الاختيار والابتلاء والامتحان. فإذا عمل في مرحلة التكليف الاختياري قبل عمله، أما إذا عمل بعد ظهور علامات الموت أو علامات القيامة فلا يقبل منه.
من كلام المفسرين
قال الطبري :
معنى الآية : لا ينفع كافرا لم يكن آمن قبل الطلوع – أي : طلوع الشمس من مغربها – إيمان بعد الطلوع، ولا ينفع مؤمنا لم يكن عمل صالحا قبل الطلوع عمل بعد الطلوع ؛ لأن حكم الإيمان والعمل الصالح حينئذ. حكم من آمن أو عمل عند الغرغرة، وذلك لا يفيد شيئا، كما قال تعالى : فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا. ( غافر : ٨٥ ).
وكما ثبت في الحديث الصحيح :( إن الله قبل توبة العبد ما لم يغرغر ). وقال الشوكاني في فتح القدير :
يوم يأتي بعض آيات ربك. يوم تأتي الآيات التي اقترحوها، وهي التي تضطرهم إلى الإيمان، كطلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة التي تكلمهم.
لا ينفع نفس إيمانها. لارتفاع التكليف بذلك ؛ لأن الكل يرون الحق رأي العين فيؤمنون جميعا، فلا ينفعهم حينئذ الإيمان.
لم تكن آمنت من قبل. أي : من قبل مجيء بعض الآيات فأما التي قد كانت آمنت من قبل مجيء بعض الآيات ؛ فإيمانها ينفعها.
أو كسبت في إيمانها خيرا.
بعمل صالح قدمته، فمن آمن من قبل فقط ولم يكسب خيرا في إيمانه أو كسب خيرا ولم يؤمن ؛ فإن ذلك غير نافعة.
قال رسوا الله صلى الله عليه وآله وسلم :( لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت ورآها الناس أمنوا أجمعون، فذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها – ثم قرأ الآية - ) ( ١٨ ).
قل انتظروا إنا منتظرون.
وهذا تهديد للمشركين.
أي : قل لهم يا محمد : انتظروا ما تنتظرونه من إتيان الأمور الثلاثة وهي :( الملائكة، أو ربك، أو بعض آيات ربك ) لتروا أي شيء تنتظرون، فإنا منتظرون معكم ؛ لنشاهد ما يحل بكم من سوء العاقبة.
المفردات :
شيعا : فرقا متعددة.
ينبئهم : يخبرهم ويعلمهم.
التفسير :
إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء.... الآية.
أي : إن الذين فرقوا دينهم بأن اختلفوا فيه مع وحدته في نفسه فجعلوه أهواء متفرقة، ومذاهب متباينة وكانوا شيعا. أي : فرقا ونحلا تتبع كل فرقة إماما لها على حسب أهوائها ومتعها ومنافعها، بدون نظر إلى الحق.
وقوله : لست منهم في شيء.
أي : أنت بريء منهم، محمى الجناب عن مذاهبهم الباطلة.
أولست من هدايتهم إلى التوحيد في شيء، إذ هم قد انطمست قلوبهم فأصبحوا لا يستجيبون لمن يدعوهم إلى الهدى.
إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون.
أي : ما أمرهم ومآل حالهم إلا إلى الله وحده، فيجازيهم على أعمالهم وعقائدهم الباطلة بما يستحقون.
قال تعالى : إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والنجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد. ( الحج : ١٧ ).
وجاء في فتح القدير للشوكاني ما ملخصه :
إن الذين فرقوا دينهم. جعلوا دينهم متفرقا فأخذوا بعضه وتركوا بعضه، والمراد بهم : اليهود والنصارى والمشركون، عبد بعضهم الصنم، وبعضهم الملائكة، وكل من ابتدع وجاء بما لم يأمر به الله.
شيعا. فرقا وأحزابا.
فتصدق على كل قوم كان أمرهم في الدين واحدا متجمعا، ثم اتبع كل جماعة منهم رأي كبير من كبرائهم يخالف الصواب ويباين الحق.
لست منهم في شيء.
أي : أنت بريء من بدعهم وافتراقهم، وإنما عليك الإنذار.
إنما أمرهم إلى الله. فهو مجاز لهم بما تقضيه مشيئته.
ثم هو يوم القيامة ينبئهم. أي : يخبرهم.
بما كانوا يفعلون. من الأعمال التي تخالف ما شرعه الله لهم وأوجبه عليهم.
التفسير :
من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها... الآية.
أي : من جاء يوم القيامة بالأعمال الحسنة، فله عشر حسنات أمثالها في الحسن، فضلا من الله وكرما. وقد جاء الوعد بسبعين، وبسبعمائة، وبغير حساب ولذلك قيل : المراد بذكر العشر : بيان الكثرة لا الحصر في العدد الخاص ( ١٩ ).
ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها.
أي : ومن عمل عملا سيئا من شرك وغيره، فعقابه مماثل لما عمل عدلا.
وهم لا يظلمون. بنقص شيء من ثوابهم أو الزيادة في عقابهم.
روى الشيخان عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : يقول الله تعالى :( إذا أراد عبدي أن يعمل سيئة فلا تكتبوها عليه حتى يعملها ؛ فإن عملها فاكتبوها بمثلها، وإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة، وإذا أراد أن يعمل حسنة فلم يعملها فاكتبوها له حسنة، فإن عملها فاكتبوها له بعشر أمثالها إلى سبعمائة ) ( ٢٠ ).
قال الشوكاني في فتح القدير :
من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها. وهذا ما أوجبه الله تعالى على نفسه، وقد يزيد، كمثل حبة أنبتت سبع سنابل، وورد في بعض الحسنات أن فاعلها يجازى عليها بغير حساب ( ٢١ ).
ومن جاء بالسيئة. من الأعمال فلا يجازى إلا مثلها. من دون زيادة عليها، على قدرها في الخفة والعظم، فيجزى على سيئة الشرك بخلوده في النار وفاعل المعصية من المسلمين يجازى عليها بمثلها مما ورد تقديره من العقوبات.
وهذا إن لم يثبت، أما إذا تاب، وغلبت حسناته سيئاته، أو تغمده الله برحمته، وتفضل عليه بمغفرته فلا مجازاة.
وهم. أي : من جاء بالحسنة ومن جاء بالسيئة لا يظلمون. بنقص ثواب حسنات المحسنين، ولا بزيادة عقوبات المسيئين.
المفردات :
دينا مستقيما : لا عوج فيه.
حنيفا : مائلا عن الأديان الباطلة.
التفسير :
قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم... الآية.
أي : قل يا محمد لهؤلاء الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا، ولغيرهم ممن أرسلت إليهم – قل لهم جميعا : لقد هداني خالقي وربي إلى دين الإسلام الذي ارتضاه لعباده.
دينا قيما : هو الدين المستقيم الذي لا عوج فيه.
ملة إبراهيم حنيفا.
إن هذا الدين الذي هو الصراط المستقيم، الذي هداني إليه ربي، هو الدين القيم، المتفق مع ملة إبراهيم.
حنيفا. مبتعدا عن كل دين باطل، مائلا إلى الحق.
وما كان من المشركين.
ولم يكن إبراهيم في عقيدته مشركا مع الله آلهة أخرى في أي شأن من شؤونه.
قال أبو السعود في تفسيره :
صرح بذلك ردا على الذين يدعون أنهم على ملته عليه السلام، من أهل مكة واليهود والمشركين حيث قالت اليهود : عزي ابن الله، وقالت النصارى : المسيح ابن الله.
المفردات :
ونسكي : عبادتي.
التفسير :
قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين.
أي : قل لهم يا محمد أيضا : إن صلاتي. التي أتوجه بها إلى ربي.
ونسكي. أي : عبادتي وتقربي إليه وهو من عطف العام على الخاص، وقيل : النسك : الذبح : جمع بينه وبين الصلاة كما في قوله تعالى : فصل لربك وانحر. ( الكوثر : ٢ ).
وقيل : معناه : إن صلاتي وحجي.
وقيل : المراد بالنسك : ذبائح الحج والعمرة.
ومحياي ومماتي. أي : حياتي وموتي.
وقال الشوكاني : أي : ما أعمله في حياتي من أعمال الخير، ومن أعمال الخير بعد الممات، بالوصية بالصدقات وأنواع القربات، وقيل : نفس الحياة ونفس الموت
لله رب العالمين. أي : خالصا له. فأنا متجرد تجردا كاملا لخالقي ورازقي بكل خالجة في القلب، وبكل حركة في هذه الحياة.
لا شريك له... الآية.
أي : لا أشرك به شيئا في صلاتي ولا نسكي، ولا محياي ولا مماتي..
وبذلك أمرت. أي : بذلك القول الطيب وبذلك العمل الخالص أمرت.
وأنا أول المسلمين.
وأنا أول المنقادين المسارعين، الممتثلين لأوامر الله والمنتهين عن نواهيه من هذه الأمة.
قال الشوكاني :
وأنا أول المسلمين.. أي : أول مسلمي أمته.
عن علي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا قام إلى الصلاة قال :( وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين ). ( ٢٢ ) ***
المفردات :
أبغي ربا : أطلب.
ولا تزر : ولا تحمل.
وازرة : نفس آثمة.
التفسير :
قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء... الآية.
أي : كيف أطلب غير الله ربا مستقلا، وأترك عبادة الله أو كيف أطلب شريكا لله فأعبدهما معا، والحال أنه رب كل شيء، والذي تدعونني إلى عبادته مربوب له، ومخلوق مثلي لا يقدر على نفع ولا ضر.
ولا تكسب كل نفس إلا عليها.
كانوا يقولون للمسلمين اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم ؛ فبين القرآن هنا أن ما يعمله العاملون من خير وشر لا يعود إلا عليهم، ثوابا أو عقابا.
ولا تزر وازرة وزر أخرى.
أي : ولا تحمل نفس مذنبة، ولا غير مذنبة، ذنب نفس أخرى، وإنما تتحمل الآثمة وحدها عقوبة إثمها، الذي ارتكبته بالمباشرة أو بالتسبب.
قال القرطبي : وأصل الوزر الثقل ومنه قوله تعالى : ووضعنا عنك وزرك. وهو الذنب كما في قوله تعالى : وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم. ( الأنعام : ٣١ ).
وقال الشوكاني :
وفي هذه الآية رد لما كانت عليه الجاهلية من مؤاخذة القريب بذنب قريبه، والواحد من القبيلة بذنب الآخر.
وفي الآية الأخرى : ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم. ( النحل : ٢٥ ).
ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون.
أي : أنكم بالموت ترجعون إلى الله، وهو مالك أموركم في الآخرة فيعلمكم بأعمالكم، ليتبين لكم ما كنتم فيه من غرور وباطل مخالف للحق ويجازيكم عليه.
المفردات :
خلائف : خلفاء يخلف بعضكم بعضا.
ليبلوكم : ليمتحنكم ويختبركم.
التفسير :
وهو الذي جعلكم خلائف الأرض... الآية.
أي : هو الله الذي جعلكم تعمرون الأرض أمة تخلف أمة، وقرنا بعد قرن، وخلفا بعد خلف.
والخطاب على هذا عام لجميع البشر.
أو هو الذي جعلكم خلفاء الأمة السابقة، والخطاب على هذا للمؤمنين.
وقيل : المراد : إن هذا النوع الإنساني خلفاء الله في أرضه.
ورفع بعضكم فوق بعض درجات. في الخلق والرزق والقوة والفضل والعلم إلى درجات.
ليبلوكم في ما آتاكم.
أي : ليخبركم فيما آتاكم من تلك الأمور، هل يقوم الغني بحق المال ؟ وهل يصبر الفقير على الحرمان ؟
قال أبو السعود :
أي : ليعاملكم معاملة من يبتليكم ؛ لينظر ما تعملون من الشكر وضده.
إن ربك سريع العقاب. أي : عقابه سريع الإتيان، لمن لم يراعي حقوق ما آتاه الله تعالى ولم يشكره ؛ لأن كل آت قريب، أو سريع التمام عند إرادته لتعاليه عن استعمال المبادئ والآلات.
وإنه لغفور رحيم.
أي : كثير الغفران والرحمة. لمن آمن بالله ورسله وكتبه، واتبع أوامره وهديه.
وقد أكد الله الجملة الثانية، أشد من تأكيده الأولى، وهذا يبين أن رحمة الله تعالى أعظم من غضبه، روى مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال :( لما خلق الله الخلق كتب في كتاب عنده فوق العرش : إن رحمتي تغلب غضبي ) ( ٢٣ ).
وهذا ختام هذه السورة الكريمة التي عنيت بتثبيت عقيدة التوحيد، وتنفيذ شبهات المشركين، وقد وردت أنها نزلت جملة واحدة وشيعها سبعون ألف ملك لهم زجل بالتسبيح والتحميد.
والحمد لله رب العالمين. وصل اللهم على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.
تم تفسير هذه السورة : ليلة الإثنين ٧ شوال ١٤١١ ه
الموافق ٢٢/ ٤ / ١٩٩١ م. جامعة السلطان قابوس بمسقط سلطنة عمان.
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
Icon