مكية وعن ابن عباس : غير ست آيات.
وآياتها ١٦٥
ﰡ
﴿ جَعَلَ ﴾ يتعدّى إلى مفعول واحد إذا كان بمعنى أحدث وأنشأ، كقوله :﴿ وَجَعَلَ الظلمات والنور ﴾ وإلى مفعولين إذا كان بمعنى صيَّر، كقوله :﴿ وَجَعَلُواْ الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إناثا ﴾ [ الزخرف : ١٩ ] والفرق بين الخلق والجعل : أن الخلق فيه معنى التقدير، وفي الجعل معنى التضمين، كإنشاء شيء من شيء، أو تصيير شيء شيئاً، أو نقله من مكان إلى مكان. ومن ذلك ﴿ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا ﴾ [ الأعراف : ١٨٩ ] ﴿ وَجَعَلَ الظلمات والنور ﴾ ؛ لأن الظلمات من الأجرام المتكاثفة، والنور من النار ﴿ ثم جعلكم أزواجاَ ﴾ [ فاطر : ١١ ] ﴿ أَجَعَلَ الآلهة إلها واحدا ﴾ [ ص : ٥ ]. فإن قلت : لم أفرد النور ؟ قلت : للقصد إلى الجنس، كقوله تعالى :﴿ والملك على أَرْجَائِهَا ﴾ [ الحاقة : ١٧ ] أو لأن الظلمات كثيرة، لأنه ما من جنس من أجناس الأجرام إلاّ وله ظلّ، وظلّه هو الظلمة، بخلاف النور فإنه من جنس واحد وهو النار. فإن قلت : علام عطف قوله :﴿ ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ ﴾ ؟ قلت : إما على قوله :﴿ الحمد للَّهِ ﴾ على معنى أن الله حقيق بالحمد على ما خلق ؛ لأنه ما خلقه إلاّ نعمة، ثم الذين كفروا به يعدلون فيكفرون نعمته، وإما على قوله :﴿ خَلَقَ السماوات ﴾ على معنى أنه خلق ما خلق مما لا يقدر عليه أحد سواه، ثم هم يعدلون به ما لا يقدر على شيء منه. فإن قلت : فما معنى ثم ؟ قلت : استبعاد أن يعدلوا به بعد وضوح آيات قدرته، وكذلك ﴿ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ ﴾ [ الأنعام : ٢ ] استبعاد لأن يمتروا فيه بعد ما ثبت أنه محييهم ومميتهم وباعثهم.
﴿ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً ﴾ أجل الموت ﴿ وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ ﴾ أجل القيامة. وقيل : الأجل الأوّل : ما بين أن يخلق إلى أن يموت. والثاني : ما بين الموت والبعث وهو البرزخ. وقيل : الأوّل النوم. والثاني : الموت. فإن قلت : المبتدأ النكرة إذا كان خبره ظرفاً وجب تأخيره، فلم جاز تقديمه في قوله :﴿ وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ ﴾ ؟ قلت : لأنه تخصص بالصفة فقارب المعرفة، كقوله :﴿ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مّن مُّشْرِكٍ ﴾ [ البقرة : ٢٢١ ] فإن قلت : الكلام السائر أن يقال : عندي ثوب جيد، ولي عبد كيس، وما أشبه ذلك ؛ فما أوجب التقديم ؟ قلت : أوجبه أن المعنى : وأي أجل مسمىً عنده تعظيماً لشأن الساعة، فلما جرى فيه هذا المعنى وجب التقديم.
﴿ في السماوات ﴾ متعلق بمعنى اسم الله، كأنه قيل : وهو المعبود فيها. ومنه قوله :﴿ وَهُوَ الذى فِى السماء إله وَفِى الأرض إله ﴾ [ الزخرف : ٨٤ ] أو وهو المعروف بالإلهية أو المتوحد بالإلهية فيها، أو هو الذي يقال له : الله فيها- لا يشرك به في هذا الاسم، ويجوز أن يكون ﴿ الله فِي السموات ﴾ خبراً بعد خبر على معنى : أنه الله وأنه في السموات والأرض بمعنى أنه عالم بما فيهما لا يخفى عليه منه شيء، كأن ذاته فيهما، فإن قلت : كيف موقع قوله :﴿ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ ﴾ ؟ قلت : إن أردت التوحد بالإلهية كان تقريراً له ؛ لأن الذي استوى في علمه السر والعلانية هو الله وحده، وكذلك إذا جعلت في السموات خبراً بعد خبر، وإلا فهو كلام مبتدأ بمعنى : هو يعلم سركم وجهركم. أو خبر ثالث ﴿ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ ﴾ من الخير والشرّ، ويثيب عليه، ويعاقب.
﴿ مِّنْ في { مِّنْ ءَايَةٍ ﴾ للاستغراق. وفي ﴿ من آيات ربهم ﴾ للتبعيض. يعني : وما يظهر لهم دليل قط من الأدلة التي يجب فيها النظر والاستدلال والاعتبار، إلا كانوا عنه معرضين : تاركين للنظر لا يلتفتون إليه ولا يرفعون به رأساً، لقلة خوفهم وتدبرهم للعواقب.
﴿ فقد كذبوا ﴾ مردود على كلام محذوف كأنه قيل : إن كانوا معرضين عن الآيات فقد كذبوا بما هو أعظم آية وأكبرها وهو الحق ﴿ لَمَّا جَاءهُمْ ﴾ يعني القرآن الذي تحدُّوا به على تبالغهم في الفصاحة فعجزوا عنه ﴿ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاء ﴾ الشيء الذي ﴿ كَانُواْ بِهِ يستهزئون ﴾ وهو القرآن، أي أخباره وأحواله، بمعنى : سيعلمون بأي شيء استهزءوا. وسيظهر لهم أنه لم يكن بموضع استهزاء، وذلك عند إرسال العذاب عليهم في الدنيا أو يوم القيامة أو عند ظهور الإسلام وعلوّ كلمته.
مكن له في الأرض : جعل له مكاناً له فيها. ونحوه : أرّض له. ومنه قوله :﴿ إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِى الأرض ﴾ [ الكهف : ٨٤ ] ﴿ أَوَ لَمْ نُمَكّن لَّهُمْ ﴾ [ القصص : ٥٧ ] وأمّا مكنته في الأرض فأثبته فيها. ومنه قوله :﴿ وَلَقَدْ مكناهم فِيمَا إِن مكناكم فِيهِ ﴾ [ الأحقاف : ٢٦ ] ولتقارب المعنيين جمع بينهما في قوله :﴿ مكناهم فِى الارض مَا لَمْ نُمَكّن لَّكُمْ ﴾ والمعنى لم نعط أهل مكة نحو ما أعطينا عاداً وثمود وغيرهم، من البسطة في الأجسام، والسعة في الأموال والاستظهار بأسباب الدنيا. والسماء المظلة ؛ لأن الماء ينزل منها إلى السحاب، أو السحاب أو المطر. والمدرار : المغزار. فإن قلت : أي فائدة في ذكر إنشاء قرن آخرين بعدهم ؟ قلت : الدلالة على أنه لا يتعاظمه أن يهلك قرناً ويخرب بلاده منهم ؟ فإنه قادر على أن ينشىء مكانهم آخرين يعمر بهم بلاده، كقوله تعالى :﴿ وَلاَ يَخَافُ عقباها ﴾ [ الشمس : ١٥ ].
﴿ كتابا ﴾ مكتوباً ﴿ فِى قِرْطَاسٍ ﴾ في ورق ﴿ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ ﴾ ولم يقتصر بهم على الرؤية، لئلا يقولوا سكرت أبصارنا، ولا تبقى لهم علة. لقالوا ﴿ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ﴾ تعنتاً وعناداً للحق بعد ظهوره.
﴿ لَّقُضِىَ الأمر ﴾ لقضي أمر إهلاكهم ﴿ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ ﴾ بعد نزوله طرفة عين. إما لأنهم إذا عاينوا الملك قد نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في صورته وهي آية لا شيء أبين منها وأيقن، ثم لا يؤمنون كما قال :﴿ وَلَوْ أننا َنزَلْنَا إِلَيْهِمُ الملائكة وَكَلَّمَهُمُ الموتى ﴾ [ الأنعام : ١١١ ] لم يكن بدّ من إهلاكهم، كما أهلك أصحاب المائدة، وإما لأنه يزول الاختيار الذي هو قاعدة التكليف عند نزول الملائكة، فيجب إهلاكهم. وإما لأنهم إذا شاهدوا ملكاً في صورته زهقت أرواحهم من هول ما يشاهدون ومعنى ﴿ ثُمَّ ﴾ بعد ما بين الأمرين : قضاء الأمر، وعدم الإنظار. جعل عدم الإنظار أشدّ من قضاء الأمر، لأنّ مفاجأة الشدّة أشدّ من نفس الشدّة.
﴿ وَلَوْ جعلناه مَلَكاً ﴾ ولو جعلنا الرسول ملكاً كما اقترحوا لأنهم كانوا يقولون : لولا أنزل على محمد ملك. وتارة يقولون :﴿ مَا هذا إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ ﴾ [ المؤمنون : ٣٣ ]، ﴿ وَلَوْ شَاء رَبُّنَا لأنزل ملائكة ﴾ [ فصلت : ١٤ ] ﴿ لجعلناه رَجُلاً ﴾ لأرسلناه في صورة رجل، كما.
كان ينزل جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أعم الأحوال في صورة دحية. لأنهم لا يبقون مع رؤية الملائكة في صورهم ﴿ وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم ﴾ ولخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم حينئذ، فإنهم يقولون : إذا رأوا الملك في صورة إنسان : هذا إنسان وليس بملك، فإن قال لهم : الدليل على أني ملك أني جئت بالقرآن المعجز، وهو ناطق بأني ملك لا بشر- كذبوه كما كذبوا محمداً صلى الله عليه وسلم، فإذا فعلوا ذلك خذلوا كما هم مخذولون الآن، فهو لبس الله عليهم. ويجوز أن يراد :﴿ وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم ﴾ حينئذ مثل ما يلبسون على أنفسهم الساعة في كفرهم بآيات الله البينة : وقرأ ابن محيصن :«ولبسنا عليهم »، بلام واحدة. وقرأ الزهري :«وللبَّسْنا عليهم ما يلبِّسُون »، بالتشديد.
﴿ وَلَقَدِ استهزىء ﴾ تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عما كان يلقى من قومه ﴿ فَحَاقَ ﴾ بهم فأحاط بهم الشيء الذي كانوا يستهزئون به وهو الحق، حيث أهلكوا من أجل الاستهزاء به.
فإن قلت : أي فرق بين قوله ﴿ فانظروا ﴾ وبين قوله :﴿ ثُمَّ انظروا ﴾ ؟ قلت : جعل النظر مسبباً عن السير في قوله :﴿ فانظروا ﴾ فكأنه قيل سيروا لأجل النظر، ولا تسيروا سير الغافلين. وأما قوله :﴿ سِيرُواْ فِى الارض ثُمَّ انظروا ﴾ فمعناه إباحة السير في الأرض للتجارة وغيرها من المنافع وإيجاب النظر في آثار الهالكين. ونبه على ذلك بثم، لتباعد ما بين الواجب والمباح.
﴿ لّمَن مَّا فِى السماوات والأرض ﴾ سؤال تبكيت، و ﴿ قُل لِلَّهِ ﴾ تقرير لهم، أي هو الله لا خلاف بيني وبينكم، ولا تقدرون أن تضيفوا شيئاً منه إلى غيره ﴿ كَتَبَ على نَفْسِهِ الرحمة ﴾ أي أوجبها على ذاته في هدايتكم إلى معرفته، ونصب الأدلة لكم على توحيده بما أنتم مقرون به من خلق السموات الأرض، ثم أوعدهم على إغفالهم النظر وإشراكهم به من لا يقدر على خلق شيء بقوله ﴿ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إلى يَوْمِ القيامة ﴾ فيجازيكم على إشراككم. وقوله :﴿ الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُم ﴾ نصب على الذم، أو رفع : أي أريد الذين خسروا أنفسهم، أو أنتم الذين خسروا أنفسهم. فإن قلت : كيف جعل عدم إيمانهم مسبباً عن خسرانهم، والأمر على العكس ؟ قلت : معناه : الذين خسروا أنفسهم في علم الله : لاختيارهم الكفر. فهم لا يؤمنون.
﴿ وَلَهُ ﴾ عطف على الله ﴿ مَا سَكَنَ فِى الليل والنهار ﴾ من السكنى وتعديه بفي كما في قوله :﴿ وَسَكَنتُمْ فِى مساكن الذين ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ ﴾. ﴿ وَهُوَ السميع العليم ﴾ يسمع كل مسموع ويعلم كل معلوم، فلا يخفى عليه شيء مما يشتمل عليه الملوان.
أوَليّ ﴿ أَغَيْرَ الله ﴾ ؟ همزة الاستفهام دون الفعل الذي هو ﴿ اتخذ ﴾ لأن الإنكار في اتخاذ غير الله ولياً، لا في اتخاذ الولي، فكان أولى بالتقديم. ونحوه ﴿ أَفَغَيْرَ الله تَأْمُرُونّى أَعْبُدُ أَيُّهَا الجاهلون ﴾ [ الزمر : ٦٤ ] ﴿ ءَآللهُ أَذِنَ لَكُمْ ﴾ [ يونس : ٥٩ ]. وقرئ ﴿ فَاطِرِ السماوات ﴾ بالجرّ صفة لله، وبالرفع على المدح. وقرأ الزهري :«فَطَرَ ». وعن ابن عباس رضي الله عنهما : ما عرفت ما فاطر السموات والأرض، حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما : أنا فطرتها أي ابتدعتها ﴿ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ ﴾ وهو يرزُق ولا يُرْزَق، كقوله :﴿ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مّن رّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ ﴾ [ الذاريات : ٥٩ ] والمعنى : أن المنافع كلها من عنده، ولا يجوز عليه الانتفاع. وقرئ :«ولا يَطعم »، بفتح الياء. وروى ابن المأمون عن يعقوب :«وهو يُطْعَمُ ولا يُطْعِمُ »، على بناء الأول للمفعول والثاني للفاعل، والضمير لغير الله، وقرأ الأشهب :«وهو يطعم ولا يطعم »، على بنائهما للفاعل. وفسر بأن معناه : وهو يطعم، ولا يستطعم. وحكى الأزهري : أطعمت، بمعنى استطعمت، ونحوه أفدت. ويجوز أن يكون المعنى : وهو يطعم تارة ولا يطعم أخرى على حسب المصالح، كقولك : وهو يعطي ويمنع، ويبسط، ويقدر، ويغني ويفقر ﴿ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ ﴾ لأنّ النبي سابق أمته في الإسلام، كقوله ﴿ وبذلك أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ المسلمين ﴾ [ الأنعام : ١٦٣ ] وكقول موسى :﴿ سبحانك تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ المؤمنين ﴾ [ الأعراف : ١٤٣ ] ﴿ وَلاَ تَكُونَنَّ ﴾ وقيل لي لا تكونن ﴿ مِنَ المشركين ﴾ ومعناه : أمرت بالإسلام ونهيت عن الشرك.
و ﴿ مِنْ يُصْرَفْ عَنْهُ ﴾ العذاب ﴿ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ ﴾ الله الرحمة العظمى وهي النجاة، كقولك : إن أطعمت زيداً من جوعه فقد أحسنت إليه ؟ تريد : فقد أتممت الإحسان إليه أو، فقد أدخله الجنة، لأن من لم يعذب لم يكن له بدّ من الثواب. وقرئ :«من يَصْرِفْ عنه » على البناء للفاعل، والمعنى : من يصرف الله عنه في ذلك اليوم فقد رحمه، بمعنى : من يدفع الله عنه. ويحفظه، وقد علم من المدفوع عنه. وترك ذكر المصروف ؛ لكونه معلوماً أو مذكوراً قبله وهو العذاب. ويجوز أن ينتصب يومئذ بيصرف انتصاب المفعول به، أي من يصرف الله عنه ذلك اليوم : أي هوله، فقد رحمه. وينصر هذه القراءة قراءة أبيّ رضي الله عنه : من يصرف الله عنه.
﴿ وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرّ ﴾ من مرض أو فقر أو غير ذلك من بلاياه، فلا قادر على كشفه إلا هو ﴿ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ ﴾ من غنى أو صحة ﴿ فَهُوَ على كُلّ شَىْء قَدُيرٌ ﴾ فكان قادراً على إدامته أو إزالته.
﴿ فَوْقَ عِبَادِهِ ﴾ تصوير للقهر والعلوّ بالغلبة والقدرة، كقوله :﴿ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهرون ﴾ [ الأعراف : ١٢٧ ] الشيء أعم العام لوقوعه على كل ما يصح أن يعلم ويخبر عنه، فيقع على القديم والجرم والعرض والمحال والمستقيم. ولذلك صحّ أن يقال في الله عزّ وجلّ : شيء لا كالأشياء، كأنك قلت : معلوم لا كسائر المعلومات، ولا يصح : جسم لا كالأجسام.
وأراد : أي شهيد ﴿ أَكْبَرُ شهادة ﴾ فوضع شيئاً مقام شهيد ليبالغ في التعميم ﴿ قُلِ الله شَهِيدٌ بِيْنِى وَبَيْنَكُمْ ﴾ يحتمل أن يكون تمام الجواب عند قوله :﴿ قُلِ الله ﴾ بمعنى الله أكبر شهادة، ثم ابتدئ ﴿ شَهِيدٌ بِيْنِى وَبَيْنَكُمْ ﴾ أي هو شهيد بيني وبينكم، وأن يكون ﴿ الله شَهِيدٌ بِيْنِى وَبَيْنَكُمْ ﴾ هو الجواب، لدلالته على أنّ الله عزّ وجلّ إذا كان هو الشهيد بينه وبينهم، فأكبر شيء شهادة شهيد له ﴿ وَمَن بَلَغَ ﴾ عطف على ضمير المخاطبين من أهل مكة. أي : لأنذركم به وأنذر كل من بلغه القرآن من العرب والعجم. وقيل : من الثقلين. وقيل : من بلغه إلى يوم القيامة. وعن سعيد بن جبير : من بلغه القرآن فكأنما رأى محمداً صلى الله عليه وسلم ﴿ أئنكم لتشهدون ﴾ تقرير لهم مع إنكار واستبعاد ﴿ قُل لاَّ أَشْهَدُ ﴾ شهادتكم.
﴿ الذين ءاتيناهم الكتاب ﴾ يعني اليهود والنصارى يعرفون رسول الله صلى الله عليه وسلم بحليته ونعته الثابت في الكتابين معرفة خالصة ﴿ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ ﴾ بحلاهم ونعوتهم لا يخفون عليهم ولا يلتبسون بغيرهم. وهذا استشهاد لأهل مكة بمعرفة أهل الكتاب به وبصحة نبوّته. ثم قال :﴿ الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُم ﴾ من المشركين من أهل الكتاب الجاحدين ﴿ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ به.
جمعوا بين أمرين متناقضين، فكذبوا على الله بما لا حجة عليه، وكذبوا بما ثبت بالحجة البينة، والبرهان الصحيح، حيث قالوا :﴿ لَوْ شَاء الله مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ ءَابَاؤُنَا ﴾ [ الأنعام : ١٤٨ ] وقالوا :﴿ والله أَمَرَنَا بِهَا ﴾ [ الأعراف : ٢٨ ] وقالوا :﴿ الملائكة بَنَاتُ الله ﴾ و ﴿ هَؤُلاء شفعاؤنا عِندَ الله ﴾ [ يونس : ١٨ ] ونسبوا إليه تحريم البحائر والسوائب، وذهبوا فكذبوا القرآن والمعجزات، وسموها سحراً، ولم يؤمنوا بالرسول صلى الله عليه وسلم.
﴿ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ ﴾ ناصبه محذوف تقديره : ويوم نحشرهم كان كيت وكيت، فترك ليبقى على الإبهام الذي هو داخل في التخويف ﴿ أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ ﴾ أي آلهتكم التي جعلتموها شركاء لله. وقوله :﴿ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ﴾ معناه تزعمونهم شركاء، فحذف المفعولان. وقرئ :«يحشرهم ». «ثم يقول » : بالياء فيهما. وإنما يقال لهم ذلك على وجه التوبيخ، ويجوز أن يشاهدوهم، إلا أنهم حين لا ينفعونهم ولا يكون منهم ما رجوا من الشفاعة. فكأنهم غيب عنهم، وأن يحال بينهم وبينهم في وقت التوبيخ ليفقدوهم في الساعة التي علقوا بهم الرجاء فيها، فيروا مكان خزيهم، وحسرتهم
﴿ فِتْنَتُهُمْ ﴾ كفرهم. والمعنى : ثم لم تكن عاقبة كفرهم - الذي لزموه أعمارهم، وقاتلوا عليه وافتخروا به، وقالوا دين آبائنا- إلا جحوده والتبرؤ منه، والحلف على الانتفاء من التدين به. ويجوز أن يراد : ثم لم يكن جوابهم إلا أن قالوا فسمي فتنة ؛ لأنه كذب. وقرئ :«تكن » بالتاء و ( فتنتهم )، بالنصب. وإنما أنث ﴿ أَن قَالُواْ ﴾ لوقوع الخبر مؤنثاً، كقولك : من كانت أمّك ؟ وقرئ بالياء ونصب الفتنة. وبالياء والتاء مع رفع الفتنة. وقرئ :«ربنا » بالنصب على النداء.
﴿ وَضَلَّ عَنْهُم ﴾ وغاب عنهم ﴿ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ﴾ أي يفترون إلهيته وشفاعته. فإن قلت : كيف يصحّ أن يكذبوا حين يطلعون على حقائق الأمور على أن الكذب والجحود لا وجه لمنفعته ؟ قلت : الممتحن ينطق بما ينفعه وبما لا ينفعه من غير تمييز بينهما حيرة ودهشاً : ألا تراهم يقولون :﴿ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظالمون ﴾ [ المؤمنون : ١٠٧ ] وقد أيقنوا بالخلود ولم يشكوا فيه، ﴿ وَنَادَوْاْ يا مالك لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ ﴾ [ الزخرف : ٧٧ ] وقد علموا أنه لا يقضى عليهم. وأما قول من يقول : معناه : ما كنا مشركين عند أنفسنا وما علمنا أنا على خطأ في معتقدنا، وحملُ قوله :﴿ انظر كَيْفَ كَذَبُواْ على أَنفُسِهِمْ ﴾ يعني في الدنيا فتمحل وتعسف وتحريف لأفصح الكلام إلى ما هو عيّ وإقحام، لأن المعنى الذي ذهبوا إليه ليس هذا الكلام بمترجم عنه ولا منطبق عليه، وهو نابٍ عنه أشدّ النبوّ. وما أدري ما يصنع من ذلك تفسيره بقوله تعالى :﴿ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ على شَىْء أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الكاذبون ﴾ [ المجادلة : ١٨ ] بعد قوله :﴿ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الكذب وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [ المجادلة : ١٤ ] فشبه كذبهم في الآخرة بكذبهم في الدنيا.
﴿ وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ ﴾ حين تتلو القرآن. روي : أنه اجتمع أبو سفيان والوليد والنضر وعتبة وشيبة وأبو جهل، وأضرابهم يستمعون تلاوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا للنضر : يا أبا قُتَيْلَة، ما يقول محمد ؟ فقال : والذي جعلها بيته - يعني الكعبة - ما أدري ما يقول، إلا أنه يحرّك لسانه ويقول أساطير الأوّلين، مثل ما حدثتكم عن القرون الماضية، فقال أبو سفيان : إني لأراه حقاً. فقال أبو جهل : كلا، فنزلت. والأكنة على القلوب، والوقر في الأذان : مثلٌ في نبوّ قلوبهم ومسامعهم عن قبوله واعتقاد صحته. ووجه إسناد الفعل إلى ذاته وهو قوله :﴿ وَجَعَلْنَا ﴾ للدلالة على أنه أمر ثابت فيهم لا يزول عنهم، كأنهم مجبولون عليه. أو هي حكاية لما كانوا ينطقون به من قولهم ﴿ وفي آذاننا وقر، ومن بيننا وبينك حجاب ﴾ [ فصلت : ٥ ] وقرأ طلحة :«وقراً » بكسر الواو ﴿ حتى إِذَا جاءوك يجادلونك ﴾ هي حتى التي تقع بعدها الجمل. والجملة قوله :﴿ إِذَا جاءوك ﴾ ﴿ يَقُولُ الذين كَفَرُواْ ﴾ و ﴿ يجادلونك ﴾ موضع الحال. ويجوز أن تكون الجارة ويكون إذا جاءوك في محل الجرّ بمعنى حتى وقت مجيئهم، ويجادلونك حال، وقوله : يقول ﴿ الذين كفروا ﴾. وتفسير له. والمعنى بأنه بلغ تكذيبهم الآيات إلى أنهم يجادلونك ويناكرونك. وفسر مجادلتهم بأنهم يقولون :﴿ إِنْ هذا إِلاَّ أساطير الأولين ﴾ فيجعلون كلام الله وهو أصدق الحديث، خرافات وأكاذيب، وهي الغاية في التكذيب.
﴿ وَهُمْ يَنْهَوْنَ ﴾ الناس عن القرآن أو عن الرسول عليه الصلاة والسلام وأتباعه، ويثبطونهم عن الإيمان به
﴿ عَنْهُ وينأون ﴾ بأنفسهم فيضلون ويضلون
﴿ وَإِن يُهْلِكُونَ ﴾ بذلك
﴿ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ ﴾ ولا يتعداهم الضرر إلى غيرهم، وإن كانوا يظنون أنهم يضرون رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل : هو أبو طالب لأنه كان ينهى قريشاً عن التعرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم وينأى عنه ولا يؤمن به. وروي أنهم اجتمعوا إلى أبي طالب وأرادوا برسول الله صلى الله عليه وسلم سوءاً. فقال :
وَاللَّهِ لَنْ يَصِلُوا إلَيْكَ بِجَمْعِهِم | حَتَّى أُوَسَّدَ فِي التُّرَابِ دَفِينَا |
فَاصْدَعْ بِأَمْرِكَ مَا عَلَيْكَ غَضَاضَةٌ | وَابْشِرْ بِذَاكَ وَقَرَّ مِنْهُ عُيُونَا |
وَدَعَوتَنِي وَزَعَمْتَ أَنَّكَ نَاصِحٌ | وَلَقَدْ صَدَقْتَ وَكُنْتَ ثَمَّ أَمِينَا |
وَعَرَضْتُ دِيناً لاَ مَحَالَةَ أَنَّهُ | مِنْ خَيْرِ أَدْيانِ الْبَرِيَّةِ دِينَا |
لَوْلاَ الْمَلاَمَةُ أَوْ حَذَارِيَ سُبَّةً | لَوَجَدْتَنِي سَمْحاً بِذَاكَ مُبِينَا |
فنزلت.
﴿ وَلَوْ تَرَى ﴾ جوابه محذوف تقديره. ولو ترى لرأيت أمراً شنيعاً ﴿ وُقِفُواْ عَلَى النار ﴾ أروها حتى يعاينوها. أو اطلعوا عليها اطلاعاً هي تحتهم، أو أدخلوها فعرفوا مقدار عذابها من قولك : وقفته على كذا إذا فهمته وعرفته، وقرئ :«وقفوا » على البناء للفاعل، ومن وقف عليه وقوفاً ﴿ يا ليتنا نُرَدُّ ﴾ تم تمنيهم. ثم ابتدأوا ﴿ وَلاَ نُكَذّبَ بآيات رَبّنَا وَنَكُونَ مِنَ المؤمنين ﴾ واعدين الإيمان، كأنهم قالوا : ونحن لا نكذب ونؤمن على وجه الإثبات. شبهة سيبويه بقولهم : دعني ولا أعود، بمعنى : دعني وأنا لا أعود، تركتني أو لم تتركني. ويجوز أن يكون معطوفاً على نردّ، أو حالاً على معنى : يا ليتنا نرد غير مكذبين وكائنين من المؤمنين، فيدخل تحت حكم التمني. فإن قلت : يدفع ذلك قوله :﴿ وَإِنَّهُمْ لكاذبون ﴾ لأن المتمنّي لا يكون كاذباً. قلت : هذا تمنٍّ قد تضمن معنى العدة، فجاز أن يتعلق به التكذيب، كما يقول الرجل : ليت الله يرزقني مالاً فأحسن إليك وأكافئك على صنيعك، فهذا متمنّ في معنى الواعد، فلو رزق مالاً ولم يحسن إلى صاحبه ولم يكافئه كذب، كأنه قال : إن رزقني الله مالاً كافأتك على الإحسان. وقرئ :«ولا نكذب ونكون » بالنصب بإضمار أن على جواب التمني ومعناه : إن رددنا لم نكذب ونكن من المؤمنين.
﴿ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ ﴾ من قبائحهم وفضائحهم في صحفهم وبشهادة جوارحهم عليهم ؛ فلذلك تمنوا ما تمنوا ضجراً ؛ لا أنهم عازمون على أنهم لو ردّوا لآمنوا. وقيل : هو في المنافقين وأنه يظهر نفاقهم الذي كانوا يسرونه. وقيل : هو في أهل الكتاب وأنه يظهر لهم ما كانوا يخفونه من صحة نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ وَلَوْ رُدُّواْ ﴾ إلى الدنيا بعد وقوفهم على النار ﴿ لعادوا لِمَا نُهُواْ عَنْهُ ﴾ من الكفر والمعاصي ﴿ وَإِنَّهُمْ لكاذبون ﴾ فيما وعدوا من أنفسهم لا يفون به.
﴿ وَقَالُواْ ﴾ عطف على لعادوا. أي : ولو ردّوا لكفروا ولقالوا :﴿ إِنْ هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا ﴾ كما كانوا يقولون قبل معاينة القيامة. ويجوز أن يعطف على قوله : وإنهم لكاذبون، على معنى : وإنهم لقوم كاذبون في كل شيء، وهم الذين قالوا : إن هي إلا حياتنا الدنيا. وكفى به دليلاً على كذبهم.
﴿ وُقِفُواْ على رَبّهِمْ ﴾ مجاز على الحبس للتوبيخ والسؤال، كما يوقف العبد الجاني بين يدي سيده ليعاتبه. وقيل : وقفوا على جزاء ربهم. وقيل : عرفوه حق التعريف ﴿ قَالَ ﴾ مردود على قول قائل قال : ماذا قال لهم ربهم إذ وقفوا عليه ؟ فقيل : قال :﴿ أَلَيْسَ هذا بالحق ﴾ وهذا تعيير من الله تعالى لهم على التكذيب. وقولهم - لما كانوا يسمعون من حديث البعث والجزاء - : ما هو بحق وما هو إلا باطل ﴿ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ﴾ بكفركم بلقاء الله ببلوغ الآخرة وما يتصل بها. وقد حقق الكلام فيه في مواضع أخر.
و ﴿ حتى ﴾ غاية لكذبوا لا لخسر، لأن خسرانهم لا غاية له. أي ما زال بهم التكذيب إلى حسرتهم وقت مجيء الساعة. فإن قلت : أما يتحسرون عند موتهم ؟ قلت : لما كان الموت وقوعاً في أحوال الآخرة ومقدماتها جعل من جنس الساعة وسمي باسمها، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«من مات فقد قامت قيامته » أو جعل مجيء الساعة بعد الموت لسرعته كالواقع بغير فترة ﴿ بَغْتَةً ﴾ فجأة وانتصابها على الحال بمعنى باغتة، أو على المصدر كأنه قيل : بغتتهم الساعة بغتة ﴿ فَرَّطْنَا فِيهَا ﴾ الضمير للحياة الدنيا، جيء بضميرها وإن لم يجر لها ذكر لكونها معلومة، أو للساعة على معنى : قصرنا في شأنها وفي الإيمان بها، كما تقول : فرّطت في فلان. ومنه فرّطت في جنب الله ﴿ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ على ظُهُورِهِمْ ﴾ كقوله :﴿ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ﴾ [ الشورى : ٣٠ ] لأنه اعتيد حمل الأثقال على الظهور، كما ألف الكسب بالأيدي ﴿ سَاء مَا يَزِرُونَ ﴾ بئس شيئاً يزرون وزرهم، كقوله ﴿ سَاء مَثَلاً القوم ﴾ [ الأعراف : ١٧٧ ].
جعل أعمال الدنيا لعباً ولهواً واشتغالاً بما لا يعني ولا يعقب منفعة، كما تعقب أعمال الآخرة المنافع العظيمة. وقوله :﴿ لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ ﴾ دليل على أن ما عدا أعمال المتقين لعب ولهو. وقرأ ابن عباس رضي الله عنه :( ولدار الآخرة ) وقرئ :«تعقلون » بالتاء والياء.
﴿ قَدْ ﴾ في
﴿ قد نعلم ﴾ بمعنى
«ربما » الذي يجيء لزيادة الفعل وكثرته، كقوله :
أَخُو ثِقَةٍ لاَ تُهْلِكُ الْخَمْرُ مَالَه | وَلَكِنَّهُ قَدْ يُهْلِكُ الْمَالَ نَائِلُهْ |
والهاء في
﴿ إِنَّهُ ﴾ ضمير الشأن
﴿ لَيَحْزُنُكَ ﴾ قرئ بفتح الياء وضمها. و
﴿ الذى يَقُولُونَ ﴾ هو قولهم : ساحر كذاب
﴿ لاَ يُكَذّبُونَكَ ﴾ قرئ بالتشديد والتخفيف من كذبه إذا جعله كاذباً في زعمه وأكذبه إذا وجده كاذباً. والمعنى أن تكذيبك أمر راجع إلى الله، لأنك رسوله المصدق بالمعجزات فهم لا يكذبونك في الحقيقة وإنما يكذبون الله بجحود آياته، فاله عن حزنك لنفسك وإن هم كذبوك وأنت صادق، وليشغلك عن ذلك ما هو أهمّ وهو استعظامك بجحود آيات الله تعالى والاستهانة بكتابه. ونحوه قول السيد لغلامه -إذا أهانه بعض الناس - إنهم لم يهينوك وإنما أهانوني. وفي هذه الطريقة قوله تعالى :
﴿ إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله ﴾ [ الفتح : ١٠ ] وقيل : فإنهم لا يكذبونك بقلوبهم، ولكنهم يجحدون بألسنتهم. وقيل : فإنهم لا يكذبونك لأنك عندهم الصادق الموسوم بالصدق، ولكنهم يجحدون بآيات الله. وعن ابن عباس رضي الله عنه : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمى الأمين فعرفوا أنه لا يكذب في شيء، ولكنهم كانوا يجحدون. وكان أبو جهل يقول : ما نكذبك لأنك عندنا صادق، وإنما نكذب ما جئتنا به. وروي : أنّ الأخنس بن شريق قال لأبي جهل : يا أبا الحكم، أخبرني عن محمد، أصادق هو أم كاذب، فإنه ليس عندنا أحد غيرنا ؟ فقال له : والله إن محمداً لصادق وما كذب قط، ولكن إذا ذهب بنو قصيّ باللواء والسقاية والحجابة والنبوّة، فماذا يكون لسائر قريش، فنزلت، وقوله :
﴿ ولكن الظالمين ﴾ من إقامة الظاهر مقام المضمر، للدلالة على أنهم ظلموا في جحودهم.
﴿ وَلَقَدْ كُذّبَتْ ﴾ تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا دليل على أن قوله :﴿ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذّبُونَكَ ﴾ [ الأنعام : ٣٣ ] ليس بنفي لتكذيبه، وإنما هو من قولك لغلامك : ما أهانوك ولكنهم أهانوني ﴿ على مَا كُذّبُواْ وَأُوذُواْ ﴾ على تكذيبهم وإيذائهم ﴿ وَلاَ مُبَدّلَ لكلمات الله ﴾ لمواعيده من قوله :﴿ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون ﴾ [ الصافات : ١٧١ ] ﴿ وَلَقدْ جَآءَكَ مِن نَّبَإِ المرسلين ﴾ بعض أنبائهم وقصصهم وما كابدوا من مصابرة المشركين.
كان يكبر على النبي صلى الله عليه وسلم كفر قومه وإعراضهم عما جاء به فنزل :﴿ لَعَلَّكَ باخع نَّفْسَكَ ﴾ [ الشعراء : ٣ ]، ﴿ إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ ﴾ [ القصص : ٥٦ ]، ﴿ وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِن استطعت أَن تَبْتَغِىَ نَفَقاً فِى الأرض ﴾ منفذاً تنفذ فيه إلى ما تحت الأرض حتى تطلع لهم آية يؤمنون بها ﴿ أَوْ سُلَّماً فِى السماء فَتَأْتِيَهُمْ ﴾ منها ﴿ بئَايَةٍ ﴾ فافعل. يعني أنك لا تستطيع ذلك. والمراد بيان حرصه على إسلام قومه وتهالكه عليه، وأنه لو استطاع أن يأتيهم بآية من تحت الأرض أو من فوق السماء لأتى بها رجاء إيمانهم. وقيل : كانوا يقترحون الآيات فكان يودُّ أن يجابوا إليها لتمادي حرصه على إيمانهم. فقيل له : إن استطعت ذلك فافعل، دلالة على أنه بلغ من حرصه أنه لو استطاع ذلك لفعله حتى يأتيهم بما اقترحوا من الآيات لعلهم يؤمنون. ويجوز أن يكون ابتغاء النفق في الأرض أو السلم في السماء هو الإتيان بالآيات، كأنه قيل : لو استطعت النفوذ إلى ما تحت الأرض أو الرقي إلى السماء لفعلت، لعل ذلك يكون لك آية يؤمنون عندها. وحذف جواب «إن » كما تقول إن شئت أن تقوم بنا إلى فلان نزوره ولو شاء الله لجمعهم على الهدى بأن يأتيهم بآية ملجئة، ولكنه لا يفعل لخروجه عن الحكمة ﴿ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الجاهلين ﴾ من الذين يجهلون ذلك ويرومون ما هو خلافه.
﴿ إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الذين يَسْمَعُونَ ﴾ يعني : أن الذين تحرص على أن يصدّقوك بمنزلة الموتى الذين لا يسمعون، وإنما يستجيب من يسمع، كقوله : ﴿ إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى ﴾ [ النمل : ٨٠ ] ﴿ والموتى يَبْعَثُهُمُ الله ﴾ مثل لقدرته على إلجائهم إلى الاستجابة بأنه هو الذي يبعث الموتى من القبور يوم القيامة ﴿ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ﴾ للجزاء فكان قادراً على هؤلاء الموتى بالكفر أن يحييهم بالإيمان. وأنت لا تقدر على ذلك. وقيل : معناه : وهؤلاء الموتى - يعني الكفرة - يبعثهم الله. ثم إليه يرجعون، فحينئذ يسمعون. وأما قبل ذلك فلا سبيل إلى استماعهم وقرئ :«يرجعون »، بفتح الياء.
﴿ لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ ﴾ نزل بمعنى أنزل. وقرىء :«أن ينزل » بالتشديد والتخفيف. وذكر الفعل والفاعل مؤنث. لأن التأنيث آية غير حقيقي، وحسن للفصل. وإنما قالوا ذلك مع تكاثر ما أنزل من الآيات على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لتركهم الاعتداد بما أنزل عليه، كأنه لم ينزل عليه شيء من الآيات عناداً منهم ﴿ قُلْ إِنَّ الله قَادِرٌ على أَن يُنَزّلٍ ءايَةً ﴾ تضطرهم إلى الإيمان. كنتق الجبل على بني إسرائيل ونحوه، أو آية إن جحدوها جاءهم العذاب ﴿ ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ أن الله قادر على أن ينزل تلك الآية، وأن صارفاً من الحكمة يصرفه عن إنزالها.
﴿ أُمَمٌ أمثالكم ﴾ مكتوبة أرزاقها وآجالها وأعمالها كما كتبت أرزاقكم وآجالكم وأعمالكم ﴿ مَّا فَرَّطْنَا ﴾ ما تركنا وما أغفلنا ﴿ فِى الكتاب ﴾ في اللوح المحفوظ ﴿ مِن شَىْء ﴾ من ذلك لم نكتبه ولم نثبت ما وجب أن يثبت مما يختص به ﴿ ثُمَّ إلى رَبّهِمْ يُحْشَرُونَ ﴾ يعني الأمم كلها من الدواب والطير فيعوضها وينصف بعضها من بعض، كما روي : " أنه يأخذ للجماء من القرناء "، فإن قلت : كيف قيل :﴿ إِلاَّ أُمَمٌ ﴾ مع إفراد الدابة والطائر ؟ قلت : لما كان قوله تعالى :﴿ وَمَا مِن دَابَّةٍ فِى الأرض وَلاَ طَائِرٍ ﴾ دالاً على معنى الاستغراق ومغنياً عن أن يقال : وما من دواب ولا طير، حمل قوله :﴿ إِلاَّ أُمَمٌ ﴾ على المعنى، فإن قلت : هلا قيل : وما من دابة ولا طائر إلا أمم أمثالكم ؟ وما معنى زيادة قوله :﴿ فِى الأرض ﴾ و ﴿ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ ﴾ قلت : معنى ذلك زيادة التعميم والإحاطة، كأنه قيل : وما من دابة فقط في جميع الأرضين السبع، وما من طائر قط في جو السماء من جميع ما يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم محفوظة أحوالها غير مهمل أمرها. فإن قلت : فما الغرض في ذكر ذلك ؟ قلت : الدلالة على عظم قدرته، ولطف علمه، وسعة سلطانه وتدبيره تلك الخلائق المتفاوتة الأجناس، المتكاثرة الأصناف، وهو حافظ لما لها وما عليها، مهيمن على أحوالها، لا يشغله شأن عن شأن، وأنّ المكلفين ليسوا بمخصوصين بذلك دون من عداهم من سائر الحيوان. وقرأ ابن أبي عبلة :«ولا طائر »، بالرفع على المحل، كأنه قيل : وما دابة ولا طائر. وقرأ علقمة «ما فرطنا » بالتخفيف.
فإن قلت : كيف أتبعه قوله :﴿ والذين كَذَّبُواْ بئاياتنا ﴾ ؟ قلت : لما ذكر من خلائقه وآثار قدرته ما يشهد لربوبيته وينادي على عظمته قال : والمكذبون ﴿ صُمٌّ ﴾ لا يسمعون كلام المنبه ﴿ وَبُكْمٌ ﴾ لا ينطقون بالحق، خابطون في ظلمات الكفر، فهم غافلون عن تأمل ذلك والتفكر فيه، ثم قال إيذاناً بأنهم من أهل الطبع ﴿ مَن يَشَإِ الله يُضْلِلْهُ ﴾ أي يخذله ويخله وضلاله لم يلطف به، لأنه ليس من أهل اللطف ﴿ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ على صراط مُّسْتَقِيمٍ ﴾ أي يلطف به لأنّ اللطف يجدي عليه.
﴿ أَرَأَيْتُكُم ﴾ أخبروني. والضمير الثاني لا محل له من الإعراب ؛ لأنك تقول : أرأيتك زيداً ما شأنه، فلو جعلت للكاف محلاً لكنت كأنك تقول : أرأيت نفسك زيداً ما شأنه ؟ وهو خلف من القول، ومتعلق الاستخبار محذوف، تقديره : إن أتاكم عذاب الله ﴿ أَوْ أَتَتْكُمْ الساعة ﴾ من تدعون. ثم بكتهم بقوله :﴿ أَغَيْرَ الله تَدْعُونَ ﴾ بمعنى أتخصون آلهتكم بالدعوة فيما هو عادتكم إذا أصابكم ضرّ، أم تدعون الله دونها.
﴿ بَلْ إياه تَدْعُونَ ﴾ بل تخصونه بالدعاء دون الآلهة ﴿ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ ﴾ أي ما تدعونه إلى كشفه ﴿ إِن شَاء ﴾ إن أراد أن يتفضل عليكم ولم يكن مفسدة ﴿ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ ﴾ وتتركون آلهتكم أو لا تذكرونها في ذلك الوقت : لأن أذهانكم في ذلك الوقت مغمورة بذكر ربكم وحده، إذ هو القادر على كشف الضرّ دون غيره، ويجوز أن يتعلق الاستخبار بقوله :﴿ أَغَيْرَ الله تَدْعُونَ ﴾ كأنه قيل : أغير الله تدعون إن أتاكم عذاب الله. فإن قلت : إن علقت الشرط به فما تصنع بقوله :﴿ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ ﴾ مع قوله :﴿ أَوْ أَتَتْكُمْ الساعة ﴾ وقوارع الساعة لا تكشف عن المشركين ؟ قلت : قد اشترط في الكشف المشيئة، وهو قوله :﴿ إِن شَاء ﴾ إيذاناً بأنه إن فعل كان له وجه من الحكمة، إلا أنه لا يفعل لوجه آخر من الحكمة أرجح منه.
البأساء، والضراء : البؤس، والضر. وقيل : البأساء : القحط والجوع. والضراء : المرض ونقصان الأموال والأنفس. والمعنى : ولقد أرسلنا إليهم الرسل فكذبوهم فأخذناهم ﴿ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ﴾ يتذللون ويتخشعون لربهم ويتوبون عن ذنوبهم.
﴿ فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ ﴾ معناه : نفي التّضرع، كأنه قيل : فلم يتضرعوا إذ جاءهم بأسنا. ولكنه جاء بلولا ليفيد أنه لم يكن لهم عذر في ترك التضرع إلا عنادهم وقسوة قلوبهم، وإعجابهم بأعمالهم التي زينها الشيطان لهم.
﴿ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ ﴾ من البأساء والضراء : أي تركوا الاتعاظ به ولم ينفع فيهم ولم يزجرهم ﴿ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلّ شَىْء ﴾ من الصحة والسعة وصنوف النعمة، ليزاوج عليهم بين نوبتي الضراء والسراء، كما يفعل الأب المشفق بولده يخاشنه تارة ويلاطفه أخرى، طلباً لصلاحه ﴿ حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ ﴾ من الخير والنعم، لم يزيدوا على الفرح والبطر، من غير انتداب لشكر ولا تصدّ لتوبة واعتذار ﴿ أخذناهم بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ ﴾ واجمون، متحسرون آيسون.
﴿ فَقُطِعَ دَابِرُ القوم ﴾ آخرهم لم يترك منهم أحد، قد استؤصلت شأفتهم ﴿ والحمد للَّهِ رَبّ العالمين ﴾ إيذان بوجوب الحمد عند هلاك الظلمة، وأنه من أجلّ النعم وأجزل القسم. وقرىء :﴿ فَتَحْنَا ﴾ بالتشديد.
﴿ إِنْ أَخَذَ الله سَمْعَكُمْ وأبصاركم ﴾ بأن يصمكم ويعميكم ﴿ وَخَتَمَ على قُلُوبِكُمْ ﴾ بأن يغطي عليها ما يذهب عنده فهمكم وعقلكم ﴿ يَأْتِيكُمْ بِهِ ﴾ أي يأتيكم بذلك، إجراء للضمير مجرى اسم الإشارة أو بما أخذ وختم عليه ﴿ يَصْدِفُونَ ﴾ يعرضون عن الآيات بعد ظهورها.
لما كانت البغتة أن يقع الأمر من غير أن يشعر به وتظهر أماراته، قيل :﴿ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً ﴾ وعن الحسن : ليلاً أو نهاراً. وقرىء :«بغتة أو جهرة » ﴿ هَلْ يُهْلَكُ ﴾ أي ما يهلك هلاك تعذيب وسخط إلا الظالمون. وقرىء :( هل يهلك ) بفتح الياء.
﴿ مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ ﴾ من آمن بهم وبما جاؤا به وأطاعهم، ومن كذبهم وعصاهم ولم يرسلهم ليتلهى بهم ويقترح عليهم الآيات بعد وضوح أمرهم بالبراهين القاطعة ﴿ وَأَصْلَحَ ﴾ ما يجب عليه إصلاحه مما كلف.
جعل العذاب ماساً، كأنه حيّ يفعل بهم ما يريد من الآلام. ومنه قولهم : لقيت منه الأمرّين والأقورين، حيث جمعوا جمع العقلاء. وقوله :﴿ إِذَا رَأَتْهُمْ مّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً ﴾ [ الفرقان : ١٢ ].
أي لا أدعي ما يستبعد في العقول أن يكون لبشر من ملك خزائن الله - وهي قسمة بين الخلق وإرزاقه، وعلم الغيب، وأني من الملائكة الذين هم أشرف جنس خلقه الله تعالى وأفضله وأقربه منزلة منه. أي لم أدّع إلهية ولا ملكية ؛ لأنه ليس بعد الإلهية منزلة أرفع من منزل الملائكة، حتى تستبعدوا دعواي وتستنكرونها. وإنما أدّعي ما كان مثله لكثير من البشر وهو النبوّة ﴿ هَلْ يَسْتَوِى الأعمى والبصير ﴾ مثل للضالّ والمهتدي ويجوز أن يكون مثلاً لمن اتبع ما يوحي إليه. ومن لم يتبع. أو لمن ادّعى المستقيم وهو النبوة. والمحال وهو الإلهية أو الملكية ﴿ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ ﴾ فلا تكونوا ضالين أشباه العميان. أو فتعلموا أني ما ادعيت ما لا يليق بالبشر. أو فتعلموا أن اتباع ما يوحى إليَّ مما لا بدّ لي منه. فإن قلت :﴿ أَعْلَمُ الغيب ﴾ ما محله من الإعراب ؟ قلت : النصب عطفاً على قوله :﴿ عِندِى خَزَائِنُ الله ﴾، لأنه من جملة المقول كأنه قال : لا أقول لكم هذا القول ولا هذا القول.
﴿ وَأَنذِرْ بِهِ ﴾ الضمير راجع إلى قوله : و ﴿ وَمَا يُوحِى إِلَىَّ ﴾ و ﴿ الذين يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ ﴾ إمّا قوم داخلون في الإسلام مقرّون بالبعث إلاّ أنهم مفرطون في العمل فينذرهم بما يوحي إليه ﴿ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾ أي يدخلون في زمرة المتقين من المسلمين. وأمّا أهل الكتاب لأنهم مقرّون بالبعث. وإمّا ناس من المشركين علم من حالهم أنهم يخافون إذا سمعوا بحديث البعث أن يكون حقاً فيهلكوا، فهم ممن يرجى أن ينجع فيهم الإنذار، دون المتمردّين منهم، فأمر أن ينذر هؤلاء. وقوله :﴿ لَيْسَ لَهُمْ مّن دُونِهِ وَلِىٌّ وَلاَ شَفِيعٌ ﴾ في موضع الحال من يحشروا، بمعنى يخافون أن يحشروا غير منصورين ولا مشفوعاً لهم، ولا بدّ من هذه الحال، لأنّ كلاًّ محشور، فالمخوف إنما هو الحشر على هذه الحال.
ذكر غير المتقين من المسلمين وأمر بإنذارهم ليتقوا، ثم أردفهم ذكر المتقين منهم وأمره بتقريبهم وإكرامهم، وأن لا يطيع فيهم من أراد بهم خلاف ذلك، وأثنى عليهم بأنهم يواصلون دعاء ربهم أي عبادته ويواظبون عليها، والمراد بذكر الغداة والعشي : الدوام. وقيل معناه : يصلون صلاة الصبح والعصر، ووسمهم بالإخلاص في عبادتهم بقوله :﴿ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ﴾ والوجه يعبر به عن ذات الشيء وحقيقته. روي :
أن رؤوساً من المشركين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : لو طردت عنا هؤلاء الأعبد يعنون فقراء المسلمين، وهم عمار وصهيب وبلال وخباب وسلمان وأضرابهم رضوان الله عليهم - وأرواح جبابهم - وكانت عليهم جباب من صوف جلسنا إليك وحادثناك، فقال عليه الصلاة والسلام : ما أنا بطارد المؤمنين. فقالوا : فأقمهم عنا إذا جئنا، فإذا قمنا فأقعدهم معك إن شئت. فقال : نعم، طمعاً في إيمانهم. وروي : أن عمر رضي الله عنه قال : لو فعلت حتى ننظر إلى ما يصيرون. قال فاكتب بذلك كتاباً، فدعا بصحيفة وبعليّ رضي الله عنه ليكتب. فنزلت. فرمى بالصحيفة، واعتذر عمر من مقالته. قال سلمان وخباب : فينا نزلت فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقعد معنا ويدنو منا حتى تمس ركبتنا ركبته. وكان يقوم عنا إذا أراد القيام فنزلت :﴿ واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم ﴾ فترك القيام عنا إلى أن نقوم عنه وقال : الحمد لله الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع قوم من أمّتي. معكم المحيا ومعكم الممات و ﴿ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَىْء ﴾ كقوله :﴿ إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ على رَبّى ﴾ [ الشعراء : ١١٣ ] وذلك أنهم طعنوا في دينهم وإخلاصهم، فقال :﴿ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَىْء ﴾ بعد شهادته لهم بالإخلاص وبإرادة وجه الله في أعمالهم على معنى : وإن كان الأمر على ما يقولون عند الله، فما يلزمك إلا اعتبار الظاهر والاتسام بسيمة المتقين وإن كان لهم باطن غير مرضي فحسابهم عليهم لازم لهم لا يتعدّاهم إليك، كما أن حسابك عليك لا يتعدّاك إليهم، كقوله :﴿ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى ﴾ [ الزمر : ٧ ]. فإن قلت : أما كفى قوله :﴿ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَىْء ﴾ حتى ضم إليه ﴿ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مّن شَىْء ﴾ ؟ قلت : قد جعلت الجملتان بمنزلة جملة واحدة، وقصد بهما مؤدى واحد وهو المعنيّ في قوله :﴿ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى ﴾ [ الزمر : ٧ ] ولا يستقل بهذا المعنى إلا الجملتان جميعاً، كأنه قيل : لا تؤاخذ أنت ولا هم بحساب صاحبه. وقيل : الضمير للمشركين. والمعنى : لا يؤاخذون بحسابك ولا أنت بحسابهم، حتى يهمك إيمانهم ويحرّك الحرص عليه إلى أن تطرد المؤمنين ﴿ فَتَطْرُدَهُمْ ﴾ جواب النفي ﴿ فَتَكُونَ مِنَ الظالمين ﴾ جواب النهي. ويجوز أن يكون عطفاً على ﴿ فَتَطْرُدَهُمْ ﴾ على وجه التسبيب، لأن كونه ظالماً مسبب عن طردهم. وقرىء :«بالغدوة والعشي ».
﴿ وكذلك فَتَنَّا ﴾ ومثل ذلك الفتن العظيم، فتنا بعض الناس ببعض، أي ابتليناهم بهم. وذلك أنّ المشركين كانوا يقولون للمسلمين ﴿ أهؤلاء ﴾ الذين ﴿ مَنَّ الله عَلَيْهِم مّن بَيْنِنَا ﴾ أي أنعم عليهم بالتوفيق لإصابة الحق ولما يسعدهم عنده من دوننا، ونحن المقدمون والرؤساء، وهم العبيد والفقراء، إنكاراً لأن يكون أمثالهم على الحق وممنوناً عليهم من بينهم بالخير، ونحوه ﴿ أَألْقِىَ الذّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا ﴾ [ القمر : ٢٥ ]، ﴿ وَلَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ ﴾ [ الأحقاف : ١١ ]. ومعنى فتناهم ليقولوا ذلك : خذلناهم فافتتنوا، حتى كان افتنانهم سبباً لهذا القول، لأنه لا يقول مثل قولهم هذا إلاّ مخذول مفتون ﴿ أَلَيْسَ الله بِأَعْلَمَ بالشاكرين ﴾ أي الله أعلم بمن يقع منه الإيمان والشكر فيوفقه للإيمان. وبمن يصمم على كفره فيخذله ويمنعه التوفيق.
﴿ فَقُلْ سلام عَلَيْكُمْ ﴾ إما أن يكون أمراً بتبليغ سلام الله إليهم. وإما أن يكون أمراً بأن يبدأهم بالسلام إكراماً لهم وتطييباً لقلوبهم. وكذلك قوله :
﴿ كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة ﴾ من جملة ما يقول لهم ليسرهم ويبشرهم بسعة رحمة الله وقبوله التوبة منهم. وقرىء :
«إنه » فإنه بالكسر على الاستئناف كأن الرحمة استفسرت فقيل :
﴿ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ ﴾ وبالفتح على الإبدال من الرحمة
﴿ بِجَهَالَةٍ ﴾ في موضع الحال، أي عمله وهو جاهل. وفيه معنيان، أحدهما : أنه فاعل فعل الجهلة لأنّ من عمل ما يؤدي إلى الضرر في العاقبة وهو عالم بذلك أو ظانّ فهو من أهل السفه والجهل، لا من أهل الحكمة والتدبير. ومنه قول الشاعر :
عَلَى أَنَّهَا قَالَتْ عَشِيَّةَ زُرْتُهَا | جَهِلْتَ عَلَى عَمْدٍ وَلَمْ تَكُ جَاهِلا |
والثاني : أنه جاهل بما يتعلق به من المكروه والمضرة. ومن حق الحكيم أن لا يقدم على شيء حتى يعلم حاله وكيفيته. وقيل : إنها نزلت في عمر رضي الله عنه حين أشار بإجابة الكفرة إلى ما سألوا ولم يعلم أنها مفسدة.
وقرىء :«ولتستبين » بالتاء والياء مع رفع السبيل لأنها تذكر وتؤنث. وبالتاء على خطاب الرسول مع نصب السبيل. يقال : استبان الأمر وتبين واستبنته وتبينته. والمعنى : ومثل ذلك التفصيل البين نفصل آيات القرآن ونلخصها في صفة أحوال المجرمين. من هو مطبوع على قلبه لا يرجى إسلامه، ومن يرى فيه إمارة القبول وهو الذي يخاف إذا سمع ذكر القيامة، ومن دخل في الإسلام إلا أنه لا يحفظ حدوده، ولتستوضح سبيلهم فتعامل كلاً منهم بما يجب أن يعامل به، فصلنا ذلك التفصيل.
﴿ نُهِيتُ ﴾ صرفت وزجرت، بما ركب فيّ من أدلة العقل، وبما أوتيت من أدلة السمع عن عبادة ما تعبدون ﴿ مِن دُونِ الله ﴾ وفيه استجهال لهم ووصف بالاقتحام فيما كانوا فيه على غير بصيرة ﴿ قُلْ لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَاءكُمْ ﴾ أي لا أجري في طريقتكم التي سلكتموها في دينكم من اتباع الهوى دون اتباع الدليل، وهو بيان للسبب الذي منه وقعوا في الضلال، وتنبيه لكل من أراد إصابة الحق ومجانبة الباطل ﴿ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً ﴾ أي إن اتبعت أهواءكم فأنا ضال وما أنا من الهدى في شيء يعني أنكم كذلك.
ولما نفى أن يكون الهوى متبعاً نبه على ما يجب اتباعه بقوله :﴿ قُلْ إِنّى على بَيّنَةٍ مّن رَّبّى ﴾ ومعنى قوله :﴿ إِنّى على بَيّنَةٍ مّن رَّبّى وَكَذَّبْتُم بِهِ ﴾ : إني من معرفة ربي وأنه لا معبود سواه، على حجة واضحة وشاهد صدق ﴿ وَكَذَّبْتُم بِهِ ﴾ أنتم حيث أشركتم به غيره. ويقال : أنا على بينة من هذا الأمر وأنا على يقين منه، إذا كان ثابتاً عندك بدليل. ثم عقبه بما دل على استعظام تكذيبهم بالله وشدة غضبه عليهم لذلك وأنهم أحقاء بأن يغافصوا بالعذاب المستأصل فقال :﴿ مَا عِندِى مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ ﴾ يعني العذاب الذي استعجلوه في قولهم :﴿ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماء ﴾ [ الأنفال : ٣٢ ] ﴿ إِنِ الحكم إِلاَّ للَّهِ ﴾ في تأخير عذابكم ﴿ يَقْضي الحق ﴾ أي القضاء الحق في كل ما يقضي من التأخير والتعجيل في أقسامه ﴿ وَهُوَ خَيْرُ الفاصلين ﴾ أي القاضين. وقرىء :«يقص الحق » أي يتبع الحق والحكمة فيما يحكم به ويقدّره، من قص أثره.
﴿ لَّوْ أَنَّ عِندِى ﴾ أي في قدرتي وإمكاني ﴿ مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ ﴾ من العذاب ﴿ لَقُضِىَ الأمر بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ ﴾ لأهلكتكم عاجلاً غضباً لربي وامتعاضاً من تكذيبكم به. ولتخلصت منكم سريعاً ﴿ والله أَعْلَمُ بالظالمين ﴾ وبما يجب في الحكمة من كنه عقابهم. وقيل ﴿ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّى ﴾ على حجة من جهة ربي وهي القرآن ﴿ وَكَذَّبْتُم بِهِ ﴾ أي بالبينة. وذكر الضمير على تأويل البيان أو القرآن. فإن قلت : بم انتصب الحق ؟ قلت : بأنه صفة لمصدر يقضي أي يقضي القضاء الحق. ويجوز أن يكون مفعولاً به من قولهم : قضى الدرع إذا صنعها، أي يصنع الحق ويدبره. وفي قراءة عبد الله :«يقضى بالحق » فإن قلت : لم أسقطت الياء في الخط ؟ قلت : إتباعاً للخط اللفظ، وسقوطها في اللفظ لالتقاء الساكنين.
جعل للغيب مفاتح على طريق الاستعارة، لأنّ المفاتح يتوصل بها إلى ما في المخازن المتوثق منها بالأغلاق والأقفال. ومن علم مفاتحها وكيف تفتح، توصل إليها، فأراد أنه هو المتوصل إلى المغيبات وحده لا يتوصل إليها غيره كمن عنده مفاتح أقفال المخازن ويعلم فتحها، فهو المتوصل إلى ما في المخازن. والمفاتح : جمع مفتح وهو المفتاح. وقرىء :«مفاتيح »، وقيل : هي جمع مفتح - بفتح الميم - وهو المخزن. ﴿ وَلاَ حَبَّةٍ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ ﴾ عطف على ورقة وداخل في حكمها، كأنه قيل : وما يسقط من شيء من هذه الأشياء إلا يعلمه. وقوله :﴿ إِلاَّ فِى كتاب مُّبِينٍ ﴾ كالتكرير لقوله :﴿ إِلاَّ يَعْلَمُهَا ﴾ لأنّ معنى ﴿ إِلاَّ يَعْلَمُهَا ﴾ ومعنى ﴿ إِلاَّ فِى كتاب مُّبِينٍ ﴾ واحد. والكتاب المبين : علم الله تعالى، أو اللوح : وقرىء :«ولا حبةٌ، ولا رطبٌ، ولا يابسٌ » بالرفع. وفيه وجهان : أن يكون عطفاً على محل ﴿ مِن وَرَقَةٍ ﴾ وأن يكون رفعاً على الابتداء وخبره ﴿ إِلاَّ فِى كتاب مُّبِينٍ ﴾ : كقولك : لا رجل منهم ولا امرأة إلاّ في الدار.
﴿ وَهُوَ الذى يتوفاكم بالليل ﴾ الخطاب للكفرة، أي أنتم منسدحون الليل كله كالجيف ﴿ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بالنهار ﴾ ما كسبتم من الآثام فيه ﴿ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ ﴾ ثم يبعثكم من القبور في شأن ذلك الذي قطعتم به أعماركم، من النوم بالليل، وكسب الآثام بالنهار، ومن أجله، كقولك : فيم دعوتني ؟ فتقول : في أمر كذا ﴿ ليقضى أَجَلٌ مّسَمًّى ﴾ وهو الأجل الذي سماه وضربه لبعث الموتى وجزائهم على أعمالهم. ﴿ ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ﴾ وهو المرجع إلى موقف الحساب ﴿ ثُمَّ يُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ في ليلكم ونهاركم.
﴿ حَفَظَةً ﴾ ملائكة حافظين لأعمالكم وهم الكرام الكاتبون. وعن أبي حاتم السجستاني أنه كان يكتب عن الأصمعي كل شيء يلفظ به من فوائد العلم، حتى قال فيه : أنت شبيه الحفظة، تكتب لغط اللفظة : فقال أبو حاتم : وهذا أيضاً مما يكتب. فإن قلت : الله تعالى غنيّ بعلمه عن كتبة الملائكة، فما فائدتها ؟ قلت : فيها لطف للعباد، لأنهم إذا علموا أن الله رقيب عليهم والملائكة الذين هم أشرف خلقه موكلون بهم يحفظون عليهم أعمالهم ويكتبونها في صحائف تعرض على رؤوس الأشهاد في مواقف القيامة، كان ذلك أزجر لهم عن القبيح وأبعد عن السوء ﴿ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا ﴾ أي استوفت روحه وهم ملك الموت وأعوانه. وعن مجاهد : جعلت الأرض له مثل الطست يتناول من يتناوله. وما من أهل بيت إلاّ ويطوف عليهم في كل يوم مرّتين. وقرىء :«توفاه »، ويجوز أن يكون ماضياً ومضارعاً بمعنى تتوفاه. و ﴿ يُفَرّطُونَ ﴾ بالتشديد والتخفيف، فالتفريط التواني والتأخير عن الحدّ، والإفراط مجاوزة الحدّ أي لا ينقصون مما أمروا به أو لا يزيدون فيه.
﴿ ثُمَّ رُدُّواْ إلى الله ﴾ أي إلى حكمه وجزائه ﴿ مولاهم ﴾ مالكهم الذي يلي عليهم أمورهم ﴿ الحق ﴾ العدل الذي لا يحكم إلاّ بالحق ﴿ أَلاَ لَهُ الحكم ﴾ يومئذ لا حكم فيه لغيره ﴿ وَهُوَ أَسْرَعُ الحاسبين ﴾ لا يشغله حساب عن حساب. وقرىء :«الحقَّ » بالنصب على المدح كقولك : الحمد لله الحقَّ.
﴿ ظلمات البر والبحر ﴾ مجاز عن مخاوفهما وأهوالهما. يقال لليوم الشديد : يوم مظلم، ويوم ذو كواكب. أي اشتدت ظلمته حتى عاد كالليل ؛ ويجوز أن يراد. ما يشفون عليه من الخسف في البر والغرق في البحر بذنوبهم، فإذا دعوا وتضرعوا كشف الله عنهم الخسف والغرق فنجوا من ظلماتها ﴿ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا ﴾ على إرادة القول ﴿ مِنْ هذه ﴾ من هذه الظلمة الشديدة.
وقرىء :﴿ يُنَجّيكُمْ ﴾ بالتشديد والتخفيف، وأنجانا، وخفية، بالضم والكسر.
﴿ هُوَ القادر ﴾ هو الذي عرفتموه قادراً وهو الكامل القدرة
﴿ عَذَاباً مّن فَوْقِكُمْ ﴾ كما أمطر على قوم لوط وعلى أصحاب الفيل الحجارة، وأرسل على قوم نوح الطوفان
﴿ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ﴾ كما أغرق فرعون وخسف بقارون، وقيل من فوقكم : من قبل أكابركم وسلاطينكم. ومن تحت أرجلكم : من قبل سفلتكم وعبيدكم. وقيل : هو حبس المطر والنبات
﴿ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً ﴾ أو يخلطكم فرقاً مختلفين على أهواء شتى، كل فرقة منكم مشايعة لإمام. ومعنى خلطهم : أن ينشب القتال بينهم فيختلطوا ويشتبكوا في ملاحم القتال، من قوله :
وَكَتِيبَةٍ لَبَّسْتُهَا بِكَتِيبَة | حَتَّى إذَا الْتَبَسَتْ نَفَضْتُ لَهَا يَدِي |
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
«سألت الله أن لا يبعث على أمتي عذاباً من فوقهم أو من تحت أرجلهم فأعطاني ذلك، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعني، وأخبرني جبريل أنّ فناء أمتي بالسيف »، وعن جابر بن عبد الله : لما نزل
﴿ مّن فَوْقِكُمْ ﴾ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
«أعوذ بوجهك » فلما نزل :
﴿ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً ﴾ قال :
«هاتان أهون » ومعنى الآية : الوعيد بأحد أصناف العذاب المعدودة.
والضمير في قوله :﴿ وَكَذَّبَ بِهِ ﴾ راجع إلى العذاب ﴿ وَهُوَ الحق ﴾ أي لا بدّ أن ينزل بهم ﴿ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ ﴾ بحفيظ وكُل إليَّ أمركم أمنعكم من التكذيب إجباراً، إنما أنا منذر.
﴿ لِّكُلِّ نَبَإٍ ﴾ لكل شيء ينبأ به، يعني إنباءهم بأنهم يعذبون وإيعادهم به ﴿ مُّسْتَقِرٌّ ﴾ وقت استقرار وحصول لا بدّ منه. وقيل : الضمير في ﴿ نَبَإٍ ﴾ للقرآن.
﴿ يَخُوضُونَ فِى ءاياتنا ﴾ في الاستهزاء بها والطعن فيها ؛ وكانت قريش في أنديتهم يفعلون ذلك ﴿ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ ﴾ فلا تجالسهم وقم عنهم ﴿ حتى يَخُوضُواْ فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ ﴾ فلا بأس أن تجالسهم حينئذ ﴿ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشيطان ﴾ وإن شغلك بوسوسته حتى تنسى النهي عن مجالستهم ﴿ فَلاَ تَقْعُدْ ﴾ معهم ﴿ بَعْدَ الذكرى ﴾ بعد أن تذكر النهي. وقرىء :«ينسينك » بالتشديد. ويجوز أن يراد : وإن كان الشيطان ينسينك قبل النهي قبح مجالسة المستهزئين لأنها مما تنكره العقول ﴿ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذكرى ﴾ بعد أن ذكرناك قبحها ونبهناك عليه معهم.
﴿ وَمَا عَلَى الذين يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَىْءٍ ﴾ وما يلزم المتقين الذين يجالسونهم شيء مما يحاسبون عليه من ذنوبهم ﴿ ولكن ﴾ عليهم أن يذكروهم ﴿ ذكرى ﴾ إذا سمعوهم يخوضون، بالقيام عنهم، وإظهار الكراهة لهم، وموعظتهم ﴿ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾ لعلهم يجتنبون الخوض حياء أو كراهة لمساءتهم. ويجوز أن يكون الضمير للذين يتقون، أي يذكرونهم إرادة أن يثبتوا على تقواهم ويزدادوها. وروي : أن المسلمين قالوا : لئن كنا نقوم كلما استهزؤوا بالقرآن لم نستطع أن نجلس في المسجد الحرام وأن نطوف، فرخص لهم. فإن قلت : ما محل ﴿ ذكرى ﴾ ؟ قلت : يجوز أن يكون نصباً على : ولكن يذكرونهم ذكرى، أي تذكيراً. ورفعاً على : ولكن عليهم ذكرى. ولا يجوز أن يكون عطفاً على محل ﴿ مِن شَىْءٍ ﴾، كقولك : ما في الدار من أحد ولكن زيد، لأنّ قوله :﴿ مِنْ حِسَابِهِم ﴾ يأبى ذلك.
﴿ اتخذوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً ﴾ أي دينهم الذي كان يجب أن يأخذوا به لعباً ولهواً. وذلك أن عبدة الأصنام وما كانوا عليه من تحريم البحائر والسوائب وغير ذلك، من باب اللعب واللهو واتباع هوى النفس والعمل بالشهوة، ومن جنس الهزل دون الجد. أو اتخذوا ما هو لعب ولهو من عبادة الأصنام وغيرها ديناً لهم. أو اتخذوا دينهم الذي كلفوه ودعوا إليه وهو دين الإسلام لعباً ولهواً، حيث سخروا به واستهزؤوا. وقيل : جعل الله لكل قوم عيداً يعظمونه ويصلون فيه ويعمرونه بذكر الله والناس كلهم من المشركين وأهل الكتاب اتخذوا عيدهم لعباً ولهواً، وغير المسلمين فإنهم اتخذوا عيدهم كما شرعه الله. ومعنى
«ذرهم » أعرض عنهم، ولا تبال بتكذيبهم واستهزائهم ولا تشغل قلبك بهم،
﴿ وَذَكّرْ بِهِ ﴾ أي : بالقرآن
﴿ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ ﴾ مخافة أن تسلم إلى الهلكة والعذاب وترتهن بسوء كسبها. وأصل الإبسال المنع، لأن المسلم إليه يمنع المسلم، قال :
وَإبْسَالِي بَنِيَّ بِغَيْرِ جُرْم | بَعَوْنَاهُ وَلاَ بِدَمٍ مُرَاقِ |
ومنه : هذا عليك بسل، أي حرام محظور. والباسل : الشجاع لامتناعه من قرنه، أو لأنه شديد البسور. يقال : بسر الرجل إذا اشتد عبوسه. فإذا زاد قالوا : بسل. والعابس : منقبض الوجه
﴿ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا ﴾ وإن تفد كل فداء، والعدل : الفدية. لأن الفادي يعدل المفدي بمثله. وكلّ عدل : نصب على المصدر. وفاعل
﴿ يُؤْخَذْ ﴾ قوله :
﴿ مِنْهَا ﴾ لا ضمير العدل لأن العدل ههنا مصدر فلا يسند إليه الأخذ. وأما في قوله تعالى :
﴿ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ ﴾ [ البقرة : ٤٨ ] فبمعنى المفدي به، فصحّ إسناده إليه
﴿ أولئك ﴾ إشارة إلى المتخذين دينهم لعباً ولهواً. قيل : نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين دعاه ابنه عبد الرحمن إلى عبادة الأوثان.
﴿ قُلْ أَنَدْعُواْ ﴾ أنعبد ﴿ مِن دُونِ الله ﴾ الضارّ النافع ما لا يقدر على نفعنا ولا مضرتنا ﴿ وَنُرَدُّ على أعقابنا ﴾ راجعين إلى الشرك بعد إذ أنقذنا الله منه وهدانا للإسلام ﴿ كالذي استهوته الشياطين ﴾ كالذي ذهبت به مردة الجن والغيلان ﴿ فِى الأرض ﴾ المهمه ﴿ حَيْرَانَ ﴾ تائهاً ضالاً عن الجادة لا يدري كيف يصنع ﴿ لَهُ ﴾ أي لهذا المستهوي ﴿ أصحاب ﴾ رفقة ﴿ يَدْعُونَهُ إِلَى الهدى ﴾ إلى أن يهدوه الطريق المستوي. أو سمي الطريق المستقيم بالهدى، يقولون له ﴿ ائتنا ﴾ وقد اعتسف المهمه تابعاً للجن لا يجيبهم ولا يأتيهم. وهذا مبني على ما تزعمه العرب وتعتقده : أن الجنّ تستهوي الإنسان. والغيلان تستولي عليه، كقوله :﴿ كالذي يَتَخَبَّطُهُ الشيطان مِنَ المس ﴾ [ البقرة : ٢٧٥ ] فشبه الضالّ عن طريق الإسلام التابع لخطوات الشيطان والمسلمون يدعونه إليه فلا يلتفت إليهم ﴿ قُلْ إِنَّ هُدَى الله ﴾ وهو الإسلام ﴿ هُوَ الهدى ﴾ وحده وما وراءه ضلال وغيّ ﴿ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا ﴾ [ آل عمران : ٨٥ ]. ﴿ فَمَاذَا بَعْدَ الحق إِلاَّ الضلال ﴾ [ يونس : ٣٢ ]. فإن قلت : فما محل الكاف في قوله :﴿ كالذي استهوته ﴾ ؟ قلت النصب على الحال من الضمير في ﴿ نُرَدُّ على أعقابنا ﴾ أي : أننكص مشبهين من استهوته الشياطين ؟ فإن قلت : ما معنى ﴿ استهوته ﴾ ؟ قلت : هو استفعال، من هوى في الأرض إذا ذهب فيها، كأن معناه : طلبت هويه وحرصت عليه. فإن قلت : ما محل :﴿ أَمْرُنَا ﴾ قلت : النصب عطفاً على محل قوله :﴿ إِنَّ هُدَى الله هُوَ الهدى ﴾ على أنهما مقولان، كأنه قيل : قل هذا القول وقل أمرنا لنسلم. فإن قلت : ما معنى اللام في ﴿ لِنُسْلِمَ ﴾ ؟ قلت : هي تعليل للأمر، بمعنى : أمرنا وقيل لنا أسلموا لأجل أن نسلم. فإن قلت : فإذا كان هذا وارداً في شأن أبي بكر الصديق رضي الله عنه فكيف قيل للرسول عليه الصلاة والسلام قل أندعو ؟ قلت : للاتحاد الذي كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، خصوصاً بينه وبين الصديق أبي بكر رضي الله تعالى عنه.
فإن قلت : علام عطف قوله :﴿ وَأَنْ أَقِيمُواْ ﴾ ؟ قلت : على موضع ﴿ لِنُسْلِمَ ﴾ كأنه قيل : وأمرنا أن نسلم، وأن أقيموا ويجوز أن يكون التقدير وأمرنا لأن نسلم ولأن أقيموا : أي للإسلام ولإقامة الصلاة.
﴿ قَوْلُهُ الحق ﴾ مبتدأ. ويوم يقول : خبره مقدّماً عليه، وانتصابه بمعنى الاستقراء، كقولك : يوم الجمعة القتال. واليوم بمعنى الحين. والمعنى : أنه خلق السموات والأرض قائماً بالحق والحكمة، وحين يقول لشيء من الأشياء ﴿ كُن ﴾ فيكون ذلك الشيء قوله الحق والحكمة، أي لا يكون شيئاً من السموات والأرض وسائر المكونات إلا عن حكمة وصواب. و ﴿ يَوْمَ يُنفَخُ ﴾ ظرف لقوله :﴿ وَلَهُ الملك ﴾ كقوله :﴿ لّمَنِ الملك اليوم ﴾ ؟ [ غافر : ١٦ ] ويجوز أن يكون ﴿ قَوْلُهُ الحق ﴾ فاعل يكون، على معنى : وحين يقول لقوله الحق، أي لقضائه الحق ﴿ كُن ﴾ فيكون قوله الحق. وانتصاب اليوم لمحذوف دلّ عليه قوله ﴿ بالحق ﴾ كأنه قيل : وحين يكوّن ويقدّر يقوم بالحق ﴿ عالم الغيب ﴾ هو عالم الغيب، وارتفاعه على المدح.
﴿ ءَازَرَ ﴾ اسم أبي إبراهيم عليه السلام. وفي كتب التواريخ أنّ اسمه بالسريانية تارح. والأقرب أن يكون وزن
﴿ ءَازَرَ ﴾ فاعل مثل تارح وعابر وعازر وشالخ وفالغ وما أشبهها من أسمائهم، وهو عطف بيان لأبيه. وقرىء :
«آزر » بالضم على النداء. وقيل :
«آزر » اسم صنم، فيجوز أن ينبز به للزومه عبادته، كما نبز ابن قيس بالرقيات اللاتي كان يشبب بهنّ، فقيل : ابن قيس الرقيات. وفي شعر بعض المحدثين :
أُدْعَى بَأَسْمَاءَ نَبْزاً في قَبَائِلِهَا | كَأَنَّ أَسْمَاءَ أَضْحَتْ بَعْدُ أَسْمَائِي |
أو أريد عابد آزر، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وقرىء :
«ءأزر » تتخذ أصناماً آلهة بفتح الهمزة وكسرها بعد همزة الاستفهام وزاي ساكنة وراء منصوبة منونة، وهو اسم صنم. ومعناه : أتعبد آزراً على الإنكار ؟ ثم قال : تتخذ أصناماً آلهة تثبيتاً لذلك وتقريراً، وهو داخل في حكم الإنكار، لأنه كالبيان له.
﴿ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اليل ﴾ عطف على قال إبراهيم لأبيه : وقوله :﴿ وَكَذَلِكَ نُرِى إبراهيم ﴾ جملة معترض بها بين المعطوف والمعطوف عليه. والمعنى : مثل ذلك التعريف والتبصير نعرف إبراهيم ونبصره. ملكوت السموات والأرض : يعني الربوبية والإلهية ونوفقه لمعرفتها ونرشده بما شرحنا صدره وسدّدنا نظره وهديناه لطريق الاستدلال. وليكون من الموقنين : فعلنا ذلك. ونروي : حكاية حال ماضية، وكان أبوه [ آزر ] وقومه يعبدون الأصنام والشمس والقمر والكواكب، فأراد أن ينبههم على الخطأ في دينهم، وأن يرشدهم إلى طريق النظر والاستدلال، ويعرفهم أن النظر الصحيح مؤدّ إلى أن شيئاً منها لا يصحّ أن يكون إلها، لقيام دليل الحدوث فيها، وأن وراءها محدثاً أحدثها، وصانعاً صنعها، مدبراً دبر طلوعها وأفولها وانتقالها ومسيرها وسائر أحوالها ﴿ هذا رَبّى ﴾ قول من ينصف خصمه مع علمه بأنه مبطل، فيحكي قوله كما هو غير متعصب لمذهبه. لأن ذلك أدعى إلى الحق وأنجى من الشغب، ثم يكرّ عليه بعد حكايته فيبطله بالحجة ﴿ لا أُحِبُّ الآفلين ﴾ لا أحبّ عبادة الأرباب المتغيرين من حال إلى حال، المتنقلين من مكان إلى آخر، المحتجبين بستر، فإنّ ذلك من صفات الأجرام.
﴿ بَازِغاً ﴾ مبتدئاً في الطلوع ﴿ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِى رَبّى ﴾ تنبيه لقومه على أنّ من اتخذ القمر إلها وهو نظير الكوكب في الأفول، فهو ضال، وأنّ الهداية إلى الحق بتوفيق الله ولطفه.
﴿ هذا أَكْبَرُ ﴾ من باب استعمال النصفة أيضاً مع خصومه ﴿ إِنّى بريء مّمَّا تُشْرِكُونَ ﴾ من الأجرام التي تجعلونها شركاء لخالقها.
﴿ إِنّى وَجَّهْتُ وَجْهِىَ لِلَّذِى فَطَرَ السماوات والأرض ﴾ أي للذي دلت هذه المحدثات عليه وعلى أنه مبتدؤها ومبتدعها. وقيل : هذا كان نظره واستدلاله في نفسه، فحكاه الله. والأوّل أظهر لقوله :﴿ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِى رَبّى ﴾ وقوله :﴿ قَالَ ياقوم إِنّى بَرِىء مّمَّا تُشْرِكُونَ ﴾.
فإن قلت : لم احتج عليهم بالأفول دون البزوغ، وكلاهما انتقال من حال إلى حال ؟ قلت : الاحتجاج بالأفول أظهر، لأنه انتقال مع خفاء واحتجاب. فإن قلت : ما وجه التذكير في قوله :﴿ هذا رَبّى ﴾ والإشارة للشمس ؟ قلت : جعل المبتدأ مثل الخبر لكونهما عبارة عن شيء واحد، كقولهم : ما جاءت حاجتك، ومن كانت أمك، و ﴿ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ﴾ [ الأنعام : ٢٣ ] وكان اختيار هذه الطريقة واجباً لصيانة الرب عن شبهة التأنيث. ألا تراهم قالوا في صفة الله «علام » ولم يقولوا «علامة » وإن كان العلامة أبلغ، احترازاً من علامة التأنيث. وقرىء :«تري إبراهيمَ ملكوتُ السموات والأرض » بالتاء ورفع الملكوت. ومعناه : تبصره دلائل الربوبية.
﴿ وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونّى فِى الله ﴾ وكانوا حاجوه في توحيد الله ونفي الشركاء عنه منكرين لذلك ﴿ وَقَدْ هدان ﴾ يعني إلى التوحيد ﴿ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ ﴾ وقد خوفوه أن معبوداتهم تصيبه بسوء ﴿ إِلاَّ أَن يَشَاء رَبّى شَيْئاً ﴾ إلاّ وقت مشيئة ربي شيئاً يخاف، فحذف الوقت، يعني لا أخاف معبوداتكم في وقت قط ؛ لأنها لا تقدر على منفعة ولا مضرة، إلاّ إذا شاء ربي أن يصيبني بمخوف من جهتها إن أصبت ذنباً استوجب به إنزال المكروه، مثل أن يرجمني بكوكب أو بشقة من الشمس أو القمر، أو يجلعها قادرة على مضرتي ﴿ وَسِعَ رَبّى كُلَّ شَىْء عِلْماً ﴾ أي ليس بعجب ولا مستبعد أن يكون في علمه إنزال المخوف بي من جهتها ﴿ أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ ﴾ فتميزوا بين الصحيح والفاسد والقادر والعاجز.
﴿ وَكَيْفَ أَخَافُ ﴾ لتخويفكم شيئاً مأمون الخوف لا يتعلق به ضرر بوجه ﴿ و ﴾ أنتم ﴿ لا تخافون ﴾ ما يتعلق به كل مخوف وهو إشراككم بالله ما لم ينزل بإشراكه ﴿ سلطانا ﴾ أي حجة، لأن الإشراك لا يصحّ أن يكون عليه حجة، كأنه قال : وما لكم تنكرون علي الأمن في موضع الأمن، ولا تنكرون على أنفسكم الأمن في موضع الخوف. ولم يقل : فأينا أحق بالأمن أنا أم أنتم، احترازاً من تزكيته نفسه، فعدل عنه إلى قوله :﴿ فَأَىُّ الفريقين ﴾ يعني فريقي المشركين والموحدين.
ثم استأنف الجواب على السؤال بقوله :﴿ الذين ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إيمانهم بِظُلْمٍ ﴾ أي لم يخلطوا إيمانهم بمعصية تفسقهم. وأبى تفسير الظلم بالكفر لفظ اللبس.
﴿ وَتِلْكَ ﴾ إشارة إلى جميع ما احتج به إبراهيم عليه السلام على قومه من قوله :﴿ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اليل ﴾ إلى قوله :﴿ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ ﴾. ومعنى ﴿ ءاتيناهآ ﴾ أرشدناه إليها ووفقناه لها ﴿ نَرْفَعُ درجات مَّن نَّشَاء ﴾ يعني في العلم والحكمة.
وقرىء بالتنوين ﴿ وَمِن ذُرّيَّتِهِ ﴾ الضمير لنوح أو لإبراهيم. و ﴿ دَاوُودُ ﴾ عطف على نوحاً، أي وهدينا داود.
﴿ وَمِنْ ءابَائِهِمْ ﴾ في موضع النصب عطفاً على كلاًّ، بمعنى : وفضلنا بعض آبائهم.
﴿ وَلَوْ أَشْرَكُواْ ﴾ مع فضلهم وتقدمهم وما رفع لهم من الدرجات. لكانوا كغيرهم في حبوط أعمالهم، كما قال تعالى وتقدّس ﴿ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ﴾ [ الزمر : ٦٥ ].
﴿ ءاتيناهمالكتاب ﴾ يريد الجنس ﴿ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا ﴾ بالكتاب والحكمة والنبوّة. أو بالنبوّة ﴿ هؤلاء ﴾ يعني أهل مكة ﴿ قَوْماً ﴾ هم الأنبياء المذكورون ومن تابعهم بدليل قوله :﴿ أُوْلَئِكَ الذين هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقتده ﴾ وبدليل وصل قوله :﴿ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء ﴾ بما قبله. وقيل : هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وكل من آمن به. وقيل : كل مؤمن من بني آدم. وقيل : الملائكة وادّعى الأنصار أنها لهم. وعن مجاهد : هم الفرس. ومعنى توكيلهم بها : أنهم وفقوا للإيمان بها والقيام بحقوقها كما يوكّل الرجل بالشيء ليقوم به، ويتعهده ويحافظ عليه. والباء في ﴿ بِهَا ﴾ صلة كافرين. وفي ﴿ بكافرين ﴾ تأكيد النفي.
﴿ فَبِهُدَاهُمُ اقتده ﴾ فاختص هداهم بالاقتداء، ولا تقتد إلاّ بهم. وهذا معنى تقديم المفعول، والمراد بهداهم طريقتهم في الإيمان بالله وتوحيده وأصول الدين دون الشرائع، فإنها مختلفة وهي هدى، ما لم تنسخ. فإذا نسخت لم تبق هدى، بخلاف أصول الدين فإنها هدى أبداً. والهاء في ﴿ اقتده ﴾ للوقف تسقط في الدرج. واستحسن إيثار الوقف لثبات الهاء في المصحف.
﴿ وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ ﴾ وما عرفوه حق معرفته في الرحمة على عباده واللطف بهم حين أنكروا بعثة الرسل والوحي إليهم، وذلك من أعظم وأجلّ نعمته ﴿ وَمَا أرسلناك إِلاَّ رَحْمَةً للعالمين ﴾ [ الأنبياء : ١٠٧ ] أو ما عرفوه حق معرفته في سخطه على الكافرين وشدّة بطشه بهم، ولم يخافوه حين جسروا على تلك المقالة العظيمة من إنكار النبوّة. والقائلون هم اليهود، بدليل قراءة من قرأ :«تجعلونه » بالتاء. وكذلك ﴿ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ ﴾ وإنما قالوا ذلك مبالغة في إنكار إنزال القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فألزموا ما لا بد لهم من الإقرار به من إنزال التوراة على موسى عليه السلام وأدرج تحت الإلزام توبيخهم وأن نعي عليهم سوء جهلهم لكتابهم وتحريفهم، وإبداء بعض وإخفاء بعض فقيل :﴿ جَاء بِهِ موسى ﴾ وهو نور وهدى للناس، حتى غيروه، ونقصوه وجعلوه قراطيس مقطعة وورقات مفرقة، ليتمكنوا مما راموا من الإبداء والإخفاء. وروي : أن مالك بن الصيف من أحبار اليهود ورؤسائهم قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى هل تجد فيها أنّ الله يبغض الحبر السمين ؟ فأنت الحبر السمين، قد سمنت من مالك الذي يطعمك اليهود " فضحك القوم، فغضب، ثم التفت إلى عمر فقال : ما أنزل الله على بشر من شيء، فقال له قومه : ويلك ما هذا الذي بلغنا عنك ؟ قال : إنه أغضبني، فنزعوه وجعلوا مكانه كعب بن الأشرف. وقيل : القائلون قريش وقد ألزموا إنزال التوراة لأنهم كانوا يسمعون من اليهود بالمدينة ذكر موسى والتوراة، وكانوا يقولون لو أنا أنزل علينا الكتاب، لكنا أهدى منهم ﴿ وَعُلّمْتُمْ مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ ءابَاؤُكُمْ ﴾ الخطاب لليهود، أي علمتم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم مما أوحى إليه ما لم تعلموا أنتم، وأنتم حملة التوراة، ولم يعلمه آباؤكم الأقدمون الذين كانوا أعلم منكم ﴿ إِنَّ هذا القرءان يَقُصُّ على بَنِى إسرائيل أَكْثَرَ الذى هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴾ [ النمل : ٧٦ ] وقيل الخطاب لمن آمن من قريش، كقوله تعالى :﴿ لتنذر قوماً ما أنذر آباؤهم ﴾ [ يس : ٦ ]. ﴿ قُلِ الله ﴾ أي أنزله الله، فإنهم لا يقدرون أن يناكروك ﴿ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِى خَوْضِهِمْ ﴾ في باطلهم الذي يخوضون فيه، ولا عليك بعد إلزام الحجة. ويقال لمن كان في عمل لا يجدي عليه : إنما أنت لاعب. و ﴿ يَلْعَبُونَ ﴾ حال من ذرهم، أو من خوضهم، ويجوز أن يكون ﴿ فِى خَوْضِهِمْ ﴾ حالاً من يلعبون، وأن يكون صلة لهم أو لذرهم.
﴿ مُّبَارَكٌ ﴾ كثير المنافع والفوائد
﴿ وَلِتُنذِرَ ﴾ معطوف على ما دلّ عليه صفة الكتاب، كأنه قيل : أنزلناه للبركات، وتصديق ما تقدمه من الكتب والإنذار. وقرىء :
«ولينذر » بالياء والتاء. وسميت مكة
﴿ أُمَّ القرى ﴾ لأنها مكان أول بيت وضع للناس، ولأنها قبلة أهل القرى كلها ومحجهم. لأنها أعظم القرى شأناً لبعض المجاورين :
فَمَنْ يَلْقَى فِي الْقُرَيَّاتِ رَحْلَه | فَأُمُّ الْقُرَى مُلْقَى رِحَالِي وَمُنْتَابِي |
﴿ والذين يُؤْمِنُونَ بالاخرة ﴾ يصدّقون بالعاقبة ويخافونها
﴿ يُؤْمِنُونَ ﴾ بهذا الكتاب. وذلك أنّ أصل الدين خوف العاقبة، فمن خافها لم يزل به الخوف حتى يؤمن. وخصّ الصلاة لأنها عماد الدين. ومن حافظ عليها كانت لطفاً في المحافظة على أخواتها.
﴿ افترى عَلَى الله كَذِبًا ﴾ فزعم أن الله بعثه نبياً ﴿ أَوْ قَالَ أُوْحِى إِلَىَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَىْء ﴾ وهو مسيلمة الحنفي الكذاب. أو كذاب صنعاء الأسود العنسي. وعن النبي صلى الله عليه وسلم :«رأيت فيما يرى النائم كأنّ في يديّ سوارين من ذهب فكبرا عليّ وأهماني فأوحى الله إليّ أن أنفخهما، فنفختهما فطارا عني، فأولتهما الكذابين الذين أنا بينهما : كذاب اليمامة مسيلمة. وكذاب صنعاء الأسود العنسي » ﴿ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ الله ﴾ هو عبد الله بن سعد بن أبي سرح القرشي. كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان إذا أملى عليه سميعاً عليماً، كتب هو : عليماً حكيماً. وإذا قال : عليماً حكيماً، كتب غفوراً رحيماً. فلما نزلت :﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سلالة مّن طِينٍ ﴾ [ المؤمنون : ١٢ ] إلى آخر الآية، عجب عبد الله من تفصيل خلق الإنسان : فقال : تبارك الله أحسن الخالقين. فقال عليه الصلاة والسلام اكتبها : فكذلك نزلت، فشك عبد الله وقال : لئن كان محمداً صادقاً لقد أوحي إليّ مثل ما أُوحي إليه. ولئن كان كاذباً فلقد قلت كما قال : فارتدّ عن الإسلام ولحق بمكة، ثم رجع مسلماً قبل فتح مكة. وقيل : هو النضر بن الحرث والمستهزؤن ﴿ وَلَوْ تَرَى ﴾ جوابه محذوف. أي : رأيت أمراً عظيماً ﴿ إِذِ الظالمون ﴾ يريد الذين ذكرهم من اليهود والمتنبئة، فتكون اللام للعهد. ويجوز أن تكون للجنس فيدخل فيه هؤلاء لاشتماله. و ﴿ غَمَرَاتِ الموت ﴾ شدائده وسكراته، وأصل الغمرة : ما يغمر من الماء فاستعيرت للشدّة الغالبة ﴿ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ ﴾ يبسطون إليهم أيديهم يقولون : هاتوا أرواحكم أخرجوها إلينا من أجسادكم. وهذه عبارة عن العنف في السياق، والإلحاح، والتشديد في [ الإزهاق ]، من غير تنفيس وإمهال، وإنهم يفعلون بهم فعل الغريم المسلط يبسط يده إلى من عليه الحق، ويعنف عليه في المطالبة ولا يمهله، ويقول له :[ أخرج ] إليّ ما لي عليك الساعة، ولا أريم مكاني، حتى أنزعه من أحداقك. وقيل : معناه باسطو أيديهم عليهم بالعذاب ﴿ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ ﴾ خلصوها من أيدينا، أي لا تقدرون على الخلاص ﴿ اليوم تُجْزَوْنَ ﴾ يجوز أن يريدوا وقت الإماتة وما يعذبون به من شدة النزع، وأن يريدوا الوقت الممتدّ المتطاول الذي يلحقهم فيه العذاب في البرزخ والقيامة. والهون الشديد، وإضافة العذاب إليه كقولك : رجل سوء يريد العراقة في الهوان والتمكن فيه ﴿ عَنْ ءاياته تَسْتَكْبِرُونَ ﴾ فلا تؤمنون بها.
﴿ فرادى ﴾ منفردين عن أموالكم وأولادكم وما حرصتم عليه، وآثرتموه من دنياكم، وعن أوثانكم التي زعمتم أنها شفعاؤكم وشركاء لله ﴿ كَمَا خلقناكم أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ على الهيئة التي ولدتم عليها في الانفراد ﴿ وَتَرَكْتُمْ مَّا خولناكم ﴾ ما تفضلنا به عليكم في الدنيا فشغلتم به عن الآخرة ﴿ وَرَاء ظُهُورِكُمْ ﴾ لم ينفعكم ولم تحتملوا منه نقيراً ولا قدّمتموه لأنفسكم ﴿ فِيكُمْ شُرَكَاء ﴾ في استبعادكم، لأنهم حين دعوهم آلهة وعبدوها، فقد جعلوها لله شركاء فيهم وفي استعبادهم. وقرىء :«فرادى » بالتنوين. وفراد، مثل ثلاث. وفردى، نحو سكرى : فإن قلت : كما خلقناكم، في أي محل هو ؟ قلت : في محل النصب صفة لمصدر جئتمونا، أي مجيئنا مثل خلقنا لكم ﴿ تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ ﴾ وقع التقطع بينكم، كما تقول : جمع بين الشيئين، تريد أوقع الجمع بينهما على إسناد الفعل إلى مصدره بهذا التأويل ومن رفع فقد أسند الفعل إلى الظرف كما تقول قوتل خلفكم وأمامكم. وفي قراءة عبد الله :«لقد تقطع ما بينكم ».
﴿ فَالِقُ الحب والنوى ﴾ بالنبات والشجر. وعن مجاهد : أراد الشقين الذين في النواة والحنطة ﴿ يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت ﴾ أي الحيوان، والنامي من النطف. والبيض والحب والنوى ﴿ وَمُخْرِجُ ﴾ هذه الأشياء الميتة من الحيوان والنامي. فإن قلت : كيف قال :﴿ مُخْرَجَ الميت مِنَ الحي ﴾ بلفظ اسم الفاعل، بعد قوله :﴿ يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت ﴾ قلت : عطفه على فالق الحب والنوى، لا على الفعل. ويخرج الحيَّ من الميت : موقعة موقع الجملة المبينة لقوله :﴿ فَالِقُ الحب والنوى ﴾ لأنّ فلق الحب والنوى بالنبات والشجر الناميين من جنس إخراج الحيّ من الميت، لأنّ النامي في حكم الحيوان. ألا ترى إلى قوله :﴿ يحيي الأرض بعد موتها ﴾ [ الروم : ٥٠ ]، ﴿ ذَلِكُمُ الله ﴾ أي ذلكم المحي والمميت هو الله الذي تحق له الربوبية ﴿ فأنى تُؤْفَكُونَ ﴾ فكيف تصرفون عنه وعن توليه إلى غيره.
﴿ الإصباح ﴾ مصدر سمي به الصبح. وقرأ الحسن بفتح الهمزة جمع صبح، وأنشد قوله :
[ أفْنَى ] رَبَاحاً وَبَنِي رَبَاح | تنَاسُخُ الإمْسَاءِ وَالإصْبَاح |
بالكسر والفتح مصدرين، وجمع مساء وصبح. فإن قلت : فما معنى فلق الصبح، والظلمة هي التي تنفلق عن الصبح. كما قال :
تَرَدَّتْ بِهِ ثُمَّ انْفَرَي عَنْ أدِيمِهَا | تَفَرَّى لَيْلٍ عَنْ بَيَاضِ نَهَارٍ |
قلت : فيه وجهان، أحدهما : أن يراد فالق ظلمة الإصباح، وهي الغبش في آخر الليل، ومنقضاه الذي يلي الصبح. والثاني : أن يراد فالق الإصباح الذي هو عمود الفجر عن بياض النهار وإسفاره. وقالوا : انشق عمود الفجر. وانصدع الفجر. وسموا الفجر فلقاً بمعنى مفلوق. وقال الطائي :
وَأزْرَقُ الْفَجْرِ يَبْدُو قَبْلَ أبَيْضِه ِ*** وَأَوَّلُ الْغَيْثِ قَطْرٌ ثُمَّ يَنْسَكِبُ
وقرىء :
«فالق الإصباح، وجاعل الليل سكناً » بالنصب على المدح. وقرأ النخعي :
«فلق الإصباح وجعل الليل » السكن : ما يسكن إليه الرجل ويطمئن استئناساً به واسترواحاً إليه، من زوج أو حبيب. ومنه قيل للنار : سكن ؛ لأنه يستأنس بها. ألا تراهم سموها المؤنسة، والليل يطمئن إليه التعب بالنهار لاستراحته فيه وجمامه، ويجوز أن يراد : وجعل الليل مسكوناً فيه من قوله :
﴿ لتسكنوا فيه ﴾ ﴿ والشمس والقمر ﴾ قرئاً بالحركات الثلاث، فالنصب على إضمار فعل دلّ عليه جاعل الليل، أي وجعل الشمس والقمر حسباناً. أو يعطفان على محل الليل. فإن قلت كيف يكون لليل محل والإضافة حقيقية، لأنّ اسم الفاعل المضاف إليه في معنى المضيّ، ولا تقول : زيد ضارب عمراً أمس ؟ قلت : ما هو في معنى المضيّ، وإنما هو دال على جعل مستمرّ في الأزمنة المختلفة، وكذلك فالق الحب، وفالق الإصباح، كما تقول : الله قادر عالم، فلا تقصد زماناً دون زمان، والجر عطف على لفظ الليل، والرفع على الابتداء، والخبر محذوف تقديره : والشمس والقمر مجعولان حسباناً، أو محسوبان حسباناً. ومعنى جعل الشمس والقمر حسباناً : جعلهما على حسبان، لأنّ حساب الأوقات يعلم بدورهما وسيرهما. والحسبان - بالضم - : مصدر حسب، كما أنّ الحسبان - بالكسر - مصدر حسب. ونظيره الكفران والشكران
﴿ ذلك ﴾ إشارة إلى جعلهما حسباناً، أي ذلك التسيير بالحساب المعلوم
﴿ تَقْدِيرُ العزيز ﴾ الذي قهرهما وسخرهما
﴿ العليم ﴾ بتدبيرهما وتدويرهما.
﴿ فِى ظلمات البر والبحر ﴾ في ظلمات الليل بالبر والبحر، وأضافها إليهما لملابستها لهما، أو شبه مشتبهات الطرق بالظلمات.
من فتح قاف المستقر، كان المستودع اسم مكان مثله أو مصدراً. ومن كسرها، كان اسم فاعل والمستودع اسم مفعول. والمعنى فلكم مستقرّ في الرحم. ومستودع في الصلب، أو مستقر فوق الأرض ومستودع تحتها. أو فمنكم مستقر ومنكم مستودع. فإن قلت : لم قيل ﴿ يَعْلَمُونَ ﴾ مع ذكر النجوم و ﴿ يَفْقَهُونَ ﴾ مع ذكر إنشاء بني آدم ؟ قلت : كان إنشاء الإنس من نفس واحدة وتصريفهم بين أحوال مختلفة ألطف وأدق صنعة وتدبيراً، فكان ذكر الفقه الذي هو استعمال فطنة وتدقيق نظر مطابقاً له.
﴿ فَأَخْرَجْنَا بِهِ ﴾ بالماء ﴿ نَبَاتَ كُلّ شَىْء ﴾ نبت كل صنف من أصناف النامي، يعني أن السبب واحد وهو الماء. والمسببات صنوف مفتنة، كما قال :﴿ يسقى بِمَاء واحد وَنُفَضّلُ بَعْضَهَا على بَعْضٍ فِى الأكل ﴾ [ الرعد : ٤ ]. ﴿ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ ﴾ من النبات ﴿ خَضِرًا ﴾ شيئاً غضاً أخضر. يقال أخضر وخضر، كأعور وعور، وهو ما تشعب من أصل النبات الخارج من الحبة ﴿ نُخْرِجُ مِنْهُ ﴾ من الخضر ﴿ حَبّاً مُّتَرَاكِباً ﴾ وهو السنبل. و ﴿ قنوان ﴾ رفع الابتداء. و ﴿ مِنْ النخل ﴾ خبره. و ﴿ مِن طَلْعِهَا ﴾ بدل منه، كأنه قيل : وحاصلة من طلع النخل قنوان. ويجوز أن يكون الخبر محذوفاً لدلالة أخرجنا عليه تقديره ومخرجة من طلع النخل قنوان ومن قرأ يخرج منه حب متراكب، كان ﴿ قنوان ﴾ عنده معطوفاً على حب. والقنوان : جمع قنو، ونظيره : صنو وصنوان. وقرىء : بضم القاف وبفتحها، على أنه اسم جمع كركب ؛ لأنّ فعلان ليس من زيادة التكسير ﴿ دَانِيَةٌ ﴾ سهلة المجتنى معرضة للقاطف، كالشيء الداني القريب المتناول ؛ ولأنّ النخلة وإن كانت صغيرة ينالها القاعد فإنها تأتي بالثمر لا تنتظر الطول. وقال الحسن : دانية قريب بعضها من بعض. وقيل : ذكر القريبة وترك ذكر البعيدة، لأنّ النعمة فيها أظهر وأدلّ بذكر القريبة على ذكر البعيدة، كقوله :﴿ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر ﴾ [ النحل : ٨١ ] وقوله :﴿ وجنات مّنْ أعناب ﴾ فيه وجهان، أحدهما : أن يراد : وثم جنات من أعناب، أي مع النخل. والثاني : أن يعطف على ﴿ قنوان ﴾ على معنى : وحاصلة، أو ومخرجة من النخل قنوان وجنات من أعناب، أي من نبات أعناب. وقرىء :«وجنات » بالنصب عطفاً على ﴿ نَبَاتَ كُلّ شَىْء ﴾ أي : وأخرجنا به جنات من أعناب، وكذلك قوله :﴿ والزيتون والرمان ﴾ والأحسن أن ينتصبا على الاختصاص، كقوله :﴿ والمقيمين الصلاة ﴾ [ النساء : ١٦٢ ] لفضل هذين الصنفين ﴿ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ متشابه ﴾ يقال اشتبه الشيئان وتشابها، كقولك استويا وتساويا. والافتعال والتفاعل يشتركان كثيراً. وقرىء :«متشابهاً وغير متشابه » وتقديره : والزيتون متشابهاً وغير متشابه، والرمّان كذلك كقوله :
كُنْتُ مِنْهُ وَوَالِدَيَّ بَرِيًّا ***
والمعنى : بعضه متشابهاً وبعضه غير متشابه، في القدر واللون والطعم. وذلك دليل على التعمد دون الإهمال ﴿ انظروا إلى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ ﴾ إذا أخرج ثمره كيف يخرجه ضئيلاً ضعيفاً لا يكاد ينتفع به. وانظروا إلى حال ينعه ونضجه كيف يعود شيئاً جامعاً لمنافع وملاذ، نظر اعتبار واستبصار واستدلال على قدرة مقدّره ومدبره وناقله من حال إلى حال. وقرىء ﴿ وَيَنْعِهِ ﴾ بالضم. يقال : ينعت الثمرة ينعاً وينعاً. وقرأ ابن محيصن :«ويانعه ». وقرىء :«وثمره »، بالضم.
إن جعلت ﴿ للَّهِ شُرَكَاء ﴾ مفعولي جعلوا، نصبت الجنّ بدلاً من شركاء، وإن جعلت ﴿ للَّهِ ﴾ لغواً كان ﴿ شُرَكَاء الجن ﴾ مفعولين قدم ثانيهما على الأول. فإن قلت : فما فائدة التقديم ؟ قلت : فائدته استعظام أن يتخذ لله شريك مَن كان ملكاً أو جنياً أو إنسياً أو غير ذلك. ولذلك قدّم اسم الله على الشركاء. وقرىء :«الجن » بالرفع، كأنه قيل : من هم ؟ فقيل : الجن. وبالجرّ على الإضافة التي للتبيين. والمعنى أشركوهم في عبادته، لأنهم أطاعوهم كما يطاع الله. وقيل : هم الذين زعموا أنّ الله خالق الخير وكل نافع، وإبليس خالق الشر وكل ضارّ ﴿ وَخَلَقَهُمْ ﴾ وخلق الجاعلين لله شركاء. ومعناه : وعلموا أن الله خالقهم دون الجن، ولم يمنعهم علمهم أن يتخذوا من لا يخلق شريكاً للخالق. وقيل : الضمير للجن. وقرىء :«وخلقهم »، أي اختلاقهم الإفك، يعني : وجعلوا لله خلقهم حيث نسبوا قبائحهم إلى الله في قولهم ﴿ والله أَمَرَنَا بِهَا ﴾ [ الأعراف : ٢٨ ]، ﴿ وَخَرَقُواْ لَهُ ﴾ وخلقوا له، أي افتعلوا له ﴿ بَنِينَ وَبَنَاتٍ ﴾ وهو قول أهل الكتابين في المسيح وعزير، وقول قريش في الملائكة يقال : خلق الإفك وخرقه واختلفه واخترقه، بمعنى : وسئل الحسن عنه فقال : كلمة عربية كانت العرب تقولها : كان الرجل إذا كذب كذبة في نادي القوم يقول له بعضهم : قد خرقها والله، ويجوز أن يكون من خرق الثوب إذا شقه، أي اشتقوا له بنين وبنات، وقرىء :«وخرّقوا » بالتشديد للتكثير، لقوله :﴿ بَنِينَ وَبَنَاتٍ ﴾ وقرأ ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما «وحرّفوا » له، بمعنى : وزوّروا له أولاداً لأنّ المزوّر محرّف مغير للحق إلى الباطل ﴿ بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ من غير أن يعلموا حقيقة ما قالوه من خطأ أو صواب، ولكن رمياً بقول عن عمى وجهالة. من غير فكر وروية.
﴿ بَدِيعُ السماوات ﴾ من إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها، كقولك : فلان بديع الشعر أي بديع شعره أو هو بديع في السموات والأرض كقولك فلان ثبت الغدر، أي ثابت فيه، والمعنى أنه عديم النظير والمثل فيها. وقيل : البديع بمعنى المبدع، وارتفاعه على أنه خبر مبتدأ محذوف، أو هو مبتدأ وخبره ﴿ أنى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ ﴾ أو فاعل تعالى، وقرىء بالجرّ ردّاً على قوله ﴿ وَجَعَلُواْ للَّهِ ﴾ أو على ﴿ سبحانه ﴾. وبالنصب على المدح، وفيه إبطال الولد من ثلاثة أوجه، أحدها : مبدع السموات والأرض وهي أجسام عظيمة لا يستقيم أن يوصف بالولادة لأن الولادة من صفات الأجسام ومخترع الأجسام لا يكون جسماً حتى يكون والداً. والثاني : أن الولادة لا تكون إلا بين زوجين من جنس واحد وهو متعال عن مجانس، فلم يصحّ أن تكون له صاحبة، فلم تصحّ الولادة. والثالث : أنه ما من شيء إلا وهو خالقه والعالم به، ومن كان بهذه الصفة كان غنياً عن كل شيء، والولد إنما يطلبه المحتاج. وقرىء :«ولم يكن له صاحبة » بالياء وإنما جاز للفصل كقوله :
لقد ولد الأخيطل أم سوء ***
﴿ ذلكم ﴾ إشارة إلى الموصوف مما تقدم من الصفات، وهو مبتدأ وما بعده أخبار مترادفة وهي ﴿ الله رَبُّكُمْ لا إله إِلاَّ هُوَ خالق كُلّ شَىْء ﴾ أي ذلكم الجامع لهذه الصفات ﴿ فاعبدوه ﴾ مسبب عن مضمون الجملة على معنى : أن من استجمعت له هذه الصفات كان هو الحقيق بالعبادة فاعبدوه ولا تعبدوا من دونه من بعض خلقه. ثم قال :﴿ وَهُوَ على كُلّ شَىْء وَكِيلٌ ﴾ يعني وهو مع تلك الصفات مالك لكل شيء من الأرزاق والآجال، رقيب على الأعمال.
البصر : هو الجهر اللطيف الذي ركبه الله في حاسة النظر، به تدرك المبصرات، فالمعنى أن الأبصار لا تتعلق به ولا تدركه ؛ لأنه متعال أن يكون مبصراً في ذاته، لأن الأبصار إنما تتعلق بما كان في جهة أصلاً أو تابعاً، كالأجسام والهيآت ﴿ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار ﴾ وهو للطف إدراكه للمدركات يدرك تلك الجواهر اللطيفة التي لا يدركها مدرك ﴿ وَهُوَ اللطيف ﴾ يلطف عن أن تدركه الأبصار ﴿ الخبير ﴾ بكل لطيف فهو يدرك الأبصار، لا تلطف عن إدراكه وهذا من باب اللطف.
﴿ قَدْ جَاءكُمْ بَصَائِرُ مِن رَّبّكُمْ ﴾ هو وارد على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقوله :﴿ وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ﴾ والبصيرة نور القلب الذي به يستبصر، كما أن البصر نور العين الذي به تبصر أي جاءكم من الوحي، والتنبيه على ما يجوز على الله وما لا يجوز ما هو للقلوب كالبصائر ﴿ فَمَنْ أَبْصَرَ ﴾ الحق وآمن ﴿ فَلِنَفْسِهِ ﴾ أبصر وإياها نفع ﴿ وَمَنْ عَمِىَ ﴾ عنه فعل نفسه عمى وإياها ضرَّ بالعمى ﴿ وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ﴾ أحفظ أعمالكم وأجازيكم عليها، إنما أنا منذر والله هو الحفيظ عليكم.
﴿ وَلِيَقُولُواْ ﴾ جوابه محذوف تقديره. وليقولوا درست تصرّفها. ومعنى ﴿ دَرَسْتَ ﴾ قرأت وتعلمت. وقرىء :«دارست » أي دارست العلماء. ودرست بمعنى قدّمت هذه الآيات وعفت كما قالوا : أساطير الأولين، ودرست بضم الراء، مبالغة في درست، أي اشتد دروسها. ودرست - على البناء للمفعول - بمعنى قرئت أو عفيت. ودارست. وفسروها بدارست اليهود محمداً صلى الله عليه وسلم، وجاز الإضمار ؛ لأن الشهرة بالدراسة كانت لليهود عندهم. ويجوز أن يكون الفعل للآيات، وهو لأهلها، أي دارس أهل الآيات وحملتها محمداً، وهم أهل الكتاب. ودرس أي درس محمد. ودارسات، على : هي دارسات، أي قديمات. أو ذات دروس، كعيشة راضية، فإن قلت : أي فرق بين اللامين في ﴿ لّيَقُولواْ ﴾، ﴿ وَلِنُبَيّنَهُ ﴾ ؟ قلت : الفرق بينهما أنّ [ الأولى ] مجاز والثانية حقيقة، وذلك أن الآيات صرفت للتبيين ولم تصرف ليقولوا دارست، ولكن لأنه حصل هذا القول بتصريف الآيات كما حصل التبيين، شبه به فسيق مساقه. وقيل : ليقولوا كما قيل لنبينه : فإن قلت : إلام يرجع الضمير في قوله :﴿ وَلِنُبَيّنَهُ ﴾ ؟ قلت : إلى الآيات لأنها في معنى القرآن، كأنه قيل : وكذلك نصرف القرآن. أو إلى القرآن وإن لم يجر له ذكر، لكونه معلوماً إلى التبيين الذي هو مصدر الفعل، كقولهم : ضربته زيداً. ويجوز أن يراد فيمن قرأ درست ودارست : درست الكتاب ودارسته، فيرجع إلى الكتاب المقدّر.
﴿ لاَ إله إِلاَّ هُوَ ﴾ اعتراض أكد به إيجاب اتباع الوحي لا محلّ له من الإعراب. ويجوز أن يكون حالاً من ربك، وهي حال مؤكدة كقوله ﴿ وَهُوَ الحق مُصَدّقًا ﴾ [ البقرة : ٩١ ].
﴿ وَلاَ تَسُبُّواْ ﴾ الآلهة ﴿ الذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله فَيَسُبُّواْ الله ﴾ وذلك أنهم قالوا عند نزول قوله تعالى :﴿ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ ﴾ [ الأنبياء : ٩٨ ] لتنتهينّ عن سبّ آلهتنا أو لنهجونّ إلهك. وقيل : كان المسلمون يسبون آلهتهم، فنهوا لئلا يكون سبهم سبباً لسبّ الله تعالى. فإن قلت : سب الآلهة حق وطاعة، فكيف صحّ النهي عنه، وإنما يصحّ النهي عن المعاصي قلت : ربّ طاعة علم أنها تكون مفسدة فتخرج عن أن تكون طاعة، فيجب النهي عنها لأنها معصية، لا لأنها طاعة كالنهي عن المنكر هو من أجلّ الطاعات، فإذا علم أنه يؤدّي إلى زيادة الشرّ انقلب معصية، ووجب النهي عن ذلك النهي. كما يجب النهي عن المنكر. فإن قلت : فقد روي عن الحسن وابن سيرين : أنهما حضرا جنازة فرأى محمد نساء فرجع، فقال الحسن : لو تركنا الطاعة لأجل المعصية لأسرع ذلك في ديننا. قلت : ليس هذا ممن نحن بصدده، لأنّ حضور الرجال الجنازة طاعة وليس بسبب لحضور النساء فإنهنّ يحضرنها حضر الرجال أو لم يحضروا، بخلاف سبّ الآلهة. وإنما خيل إلى محمد أنه مثله حتى نبه عليه الحسن. ﴿ عَدْوَا ﴾ ظلماً وعدواناً. وقرىء :«عُدوّاً » بضم العين وتشديد الواو بمعناه. ويقال :[ عدا ] فلان عدواً وعدواً وعدواناً وعداء. وعن ابن كثير :«عدوّاً »، بفتح العين بمعنى أعداء ﴿ بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ على جهالة بالله وبما يجب أن يذكر به ﴿ كذلك زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ ﴾ مثل ذلك التزيين زينا لكل أمّة من أمم الكفار سوء عملهم. أو خليناهم وشأنهم، ولم نكفهم حتى حسن عندهم سوء عملهم، أو أمهلنا الشيطان حتى زين لهم أو زيناه في زعمهم. وقولهم : إن الله أمرنا بهذا وزينه لنا ﴿ فَيُنَبِّئُهُم ﴾ فيوبخهم عليه ويعاتبهم ويعاقبهم.
﴿ لَئِن جآءَتْهُمْ ءايَةٌ ﴾ من مقترحاتهم
﴿ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيات عِندَ الله ﴾ وهو قادر عليها، ولكنه لا ينزلها إلاّ على موجب الحكمة، أو إنما الآيات عند الله لا عندي. فكيف أجيبكم إليها وآتيكم بها
﴿ وَمَا يُشْعِرُكُمْ ﴾ وما يدريكم
﴿ أَنَّهَآ ﴾ أن الآية التي تقترحونها
﴿ إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ يعني أنا أعلم أنها إذا جاءت لا يؤمنون بها وأنتم لا تدرون بذلك. وذلك أن المؤمنين كانوا يطمعون في إيمانهم إذا جاءت تلك الآية ويتمنون مجيئها. فقال عزّ وجلّ وما يدريكم أنهم لا يؤمنون على معنى أنكم لا تدرون ما سبق علمي به من أنهم لا يؤمنون به ألا ترى إلى قوله
﴿ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ وقيل :
﴿ أَنَّهَآ ﴾ بمعنى
«لعلها » من قول العرب : ائت السوق أنك تشتري لحماً. وقال امرؤ القيس :
عُوجَا عَلَى الطَّلَلِ الْمُحِيلِ لأَنَّنَا | نَبْكِي الدِّيَارَ كَمَا بَكَى ابْنُ خُذَامِ |
وتقويها قراءة أبيّ
«لعلها إذا جاءت لا يؤمنون »، وقرىء بالكسر على أن الكلام قد تمّ قبله بمعنى : وما يشعركم ما يكون منهم، ثم أخبرهم بعلمه فيهم فقال : أنها إذا جاءت لا يؤمنون البتة. ومنهم من جعل
«لا » مزيدة في قراءة الفتح وقرىء :
«وما يشعرهم أنها إذا جاءت لا يؤمنون » أي يحلفون بأنهم يؤمنون عند مجيئها. وما يشعرهم أن تكون قلوبهم حينئذ كما كانت عند نزول القرآن وغيره من الآيات مطبوعاً عليها فلا يؤمنوا بها.
﴿ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ.... وَنَذَرُهُمْ ﴾ عطف على ( يؤمنون )، داخل في حكم وما يشعركم، بمعنى : وما يشعركم أنهم لا يؤمنون، وما يشعركم أنّا نقلب أفئدتهم وأبصارهم : أي نطبع على قلوبهم وأبصارهم فلا يفقهون ولا يبصرون الحق كما كانوا عند نزول آياتنا، أو لا يؤمنون بها لكونهم مطبوعاً على قلوبهم، وما يشعركم أنا نذرهم في طغيانهم أي نخليهم وشأنهم لا نكفهم عن الطغيان حتى يعمهوا فيه. وقرىء :«ويقلب ويذرهم » بالياء أي الله عزّ وجلّ. وقرأ الأعمش : وتقلب أفئدتهم وأبصارهم » على البناء للمفعول.
﴿ وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الملائكة ﴾ كما قالوا ﴿ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا الملائكة ﴾ [ الفرقان : ٢١ ]، ﴿ وَكَلَّمَهُمُ الموتى ﴾ كما قالوا :﴿ فَأْتُواْ بآبائنا ﴾ [ الدخان : ٣٦ ]، ﴿ وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَىْء قُبُلاً ﴾ كما قالوا ﴿ أَوْ تَأْتِىَ بالله والملائكة قَبِيلاً ﴾ [ الإسراء : ٩٢ ] قبلاً كفلاء بصحة ما بشرنا به وأنذرنا، أو جماعات. وقيل :﴿ قُبُلاً ﴾ مقابلة. وقرىء :«قبلا » أي عياناً ﴿ إلا أَن يَشَاء الله ﴾ مشيئة إكراه واضطرار ﴿ ولكن أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ ﴾ فيقسمون بالله جهد إيمانهم على ما لا يشعرون من حال قلوبهم عند نزول الآيات. أو ولكن أكثر المسلمين يجهلون أن هؤلاء لا يؤمنون إلا أن يضطّرهم فيطمعون في إيمانهم إذا جاءت الآية المقترحة.
﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِىٍّ عَدُوّاً ﴾ وكما خلينا بينك وبين أعدائك، وكذلك فعلنا بمن قبلك من الأنبياء وأعدائهم، لم نمنعهم من العداوة، لما فيه من الامتحان الذي هو سبب ظهور الثبات والصبر، وكثرة الثواب والأجر. وانتصب ﴿ شياطين ﴾ على البدل من عدوّاً. أو على أنهما مفعولان كقوله ﴿ وَجَعَلُواْ لِلَّهِ شُرَكَاء الجن ﴾ [ الأنعام : ١٠٠ ] ﴿ يُوحِى بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ ﴾ يوسوس شياطين الجنّ إلى شياطين الإنس. وكذلك بعض الجنّ إلى بعض وبعض الإنس إلى بعض. وعن مالك ابن دينار : إن شيطان الإنس أشدّ عليّ من شيطان الجنّ، لأني إذا تعوّذت بالله ذهب شيطان الجنّ عني، وشيطان الأنس يجيئني فيجرّني إلى المعاصي عياناً ﴿ زُخْرُفَ القول ﴾ ما يزينه من القول والوسوسة والإغراء على المعاصي ويموّهه ﴿ غُرُوراً ﴾ خدعاً وأخذاً على غرّة ﴿ وَلَوْ شَآء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ ﴾ ما فعلوا ذلك، أي ما عادوك، أو ما أوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول بأن يكفهم ولا يخليهم وشأنهم.
﴿ ولتصغى ﴾ جوابه محذوف تقديره : وليكون ذلك جعلنا لكل نبيّ عدوّاً، على أن اللام لام الصيرورة وتحقيقها ما ذكر. والضمير في ﴿ إِلَيْهِ ﴾ يرجع إلى ما رجع إليه الضمير في فعلوه، أي ولتميل إلى ما ذكر من عداوة الأنبياء ووسوسة الشياطين ﴿ أَفْئِدَةُ ﴾ الكفار ﴿ وَلِيَرْضَوْهُ ﴾ لأنفسهم ﴿ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ ﴾ من الأثام.
﴿ أَفَغَيْرَ الله أَبْتَغِى حَكَماً ﴾ على إرادة القول، أي قل يا محمد : أفغير الله أطلب حاكماً يحكم بيني وبينكم، ويفصل المحق منا من المبطل ﴿ وهُوَ الذى أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الكتاب ﴾ المعجز ﴿ مُفَصَّلاً ﴾ مبيناً فيه الفصل بين الحق والباطل، والشهادة لي بالصدق وعليكم بالافتراء. ثم عضد الدلالة على أنّ القرآن حق بعلم أهل الكتاب أنه حق لتصديقه ما عندهم وموافقته له ﴿ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين ﴾ من باب التهييج والإلهاب، كقوله تعالى :﴿ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين ﴾ [ الأنعام : ١٤ ] أو ﴿ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين ﴾ في أنّ أهل الكتاب يعلمون أنه منزل بالحق، ولا يريبك جحود أكثرهم وكفرهم به. ويجوز أن يكون ﴿ فَلاَ تَكُونَنَّ ﴾ خطاباً لكل أحد، على معنى أنه إذا تعاضدت الأدلة على صحته وصدقه، فما ينبغي أن يمتري فيه أحد. وقيل : الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم خطاب لأمته.
﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ ﴾ أي تمّ كل ما أخبر به، وأمر ونهى، ووعد وأوعد ﴿ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلَ لكلماته ﴾ لا أحد يبدّل شيئاً من ذلك مما هو أصدق وأعدل. وصدقاً وعدلاً. نصب على الحال. وقرىء :«كلمة ربك »، أي ما تكلم به. وقيل : هي القرآن.
﴿ وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِى الأرض ﴾ أي من الناس أضلوك، لأن الأكثر في غالب الأمر يتبعون هواهم، ثم قال :﴿ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن ﴾ وهو ظنهم أنّ آباءهم كانوا على الحق فهم يقلدونهم ﴿ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ ﴾ يقدّرون أنهم على شيء. أو يكذبون في أنّ الله حرّم كذا وأحلّ كذا.
وقرىء :«من يضل » بضم الياء أي يضله الله.
﴿ فَكُلُواْ ﴾ مسبب عن إنكار اتباع المضلين، الذي يحلون الحرام ويحرّمون الحلال. وذلك أنهم كانوا يقولون للمسلمين : إنكم تزعمون أنكم تعبدون الله، فما قتل الله أحقّ أن تأكلوا مما قتلتم أنتم، فقيل للمسلمين : إن كنتم متحققين بالإيمان فكلوا.
﴿ مِمَّا ذُكِرَ اسم الله عَلَيْهِ ﴾ خاصة دون ما ذكر عليه اسم غيره من آلهتهم أو مات حتف أنفه، وما ذكر اسم الله عليه هو المذكى ببسم الله ﴿ وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ ﴾ وأي غرض لكم في أن لا تأكلوا ﴿ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم ﴾ وقد بين لكم ما حرّم عليكم مما لم يحرّم وهو قوله :﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة ﴾ [ المائدة : ٣ ] وقرىء :«فصل لكم ما حرّم عليكم » على تسمية الفاعل، وهو الله عزّ وجلّ ﴿ إِلاَّ مَا اضطررتم إِلَيْهِ ﴾ مما حرّم عليكم فإنه حلال لكم في حال الضرورة ﴿ وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ ﴾ قرئ بفتح الياء وضمها، أي يضلون فيحرّمون ويحللون ﴿ بِأَهْوَآئِهِم ﴾ وشهواتهم من غير تعلق بشريعة.
﴿ ظاهر الإثم وَبَاطِنَهُ ﴾ ما أعلنتم منه وما أسررتم. وقيل : ما عملتم وما نويتم. وقيل : ظاهره الزنا في الحوانيت، وباطنه الصديقة في السرّ.
﴿ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ ﴾ الضمير راجع إلى مصدر الفعل الذي دخل عليه حرف النهي، يعني وإنّ الأكل منه لفسق. أو إلى الموصول على : وإنّ أكله لفسق، أو جعل ما لم يذكر اسم الله عليه في نفسه فسقاً. فإن قلت : قد ذهب جماعة من المجتهدين إلى جواز أكل ما لم يذكر اسم الله عليه بنسيان أو عمد. قلت : قد تأوله هؤلاء بالميتة وبما ذكر غير اسم الله عليه : كقوله :﴿ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ ﴾ [ الأنعام : ١٤٥ ] ﴿ لَيُوحُونَ ﴾ ليسوسون ﴿ إلى أَوْلِيَائِهِمْ ﴾ من المشركين ﴿ ليجادلوكم ﴾ بقولهم : ولا تأكلوا مما قتله الله. وبهذا يرجع تأويل من تأوله بالميتة ﴿ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ﴾ لأنّ من اتبع غير الله تعالى في دينه فقد أشرك به. ومن حق ذي البصيرة في دينه أن لا يأكل مما لم يذكر اسم الله عليه كيفما كان ؛ لما يرى في الآية من التشديد العظيم، وإن كان أبو حنيفة رحمة الله مرخصاً في النسيان دون العمد، ومالك والشافعي رحمهما الله فيهما.
مثل الذي هداه الله بعد الضلالة ومنحه التوفيق لليقين الذي يميز به بين المحق والمبطل والمهتدي والضال، بمن كان ميتاً فأحياه الله وجعل له نوراً يمشي به في الناس مستضيئاً به، فيميز بعضهم من بعض، ويفصل بين حلاهم ومن بقي على الضلالة بالخابط في الظلمات لا ينفك منها ولا يتخلص ومعنى قوله :﴿ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظلمات لَيْسَ بِخَارِجٍ مّنْهَا ﴾ كمن صفته هذه وهي قوله :﴿ فِى الظلمات لَيْسَ بِخَارِجٍ مّنْهَا ﴾ بمعنى : هو في الظلمات ليس بخارج منها، كقوله تعالى :﴿ مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون فِيهَا أَنْهَارٌ ﴾ [ محمد : ١٥ ] أي صفتها هذه، وهي قوله :﴿ فِيهَا أَنْهَارٌ ﴾. ﴿ زُيّنَ للكافرين ﴾ أي زينه الشيطان، أو الله عزّ وعلا على قوله :﴿ زَيَّنَّا لَهُمْ أعمالهم ﴾ [ النمل : ٤ ]. ويدل عليه قوله :﴿ وكذلك جَعَلْنَا فِي كُلّ قَرْيَةٍ أكابر مُجْرِمِيهَا ﴾ويدل عليه قوله :﴿ وكذلك جَعَلْنَا فِي كُلّ قَرْيَةٍ أكابر مُجْرِمِيهَا ﴾
﴿ وكذلك جَعَلْنَا فِي كُلّ قَرْيَةٍ أكابر مُجْرِمِيهَا ﴾ يعني : وكما جعلنا في مكة صناديدها ليمكروا فيها، كذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها لذلك. ومعناه : خليناهم ليمكروا وما كففناهم عن المكر، وخصّ الأكابر لأنهم هم الحاملون على الضلال والماكرون بالناس، كقوله :﴿ أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا ﴾ [ الإسراء : ١٦ ] وقرىء :«أكبر مجرميها » على قولك : هم أكبر قومهم، وأكابر قومهم ﴿ وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ ﴾ لأنّ مكرهم يحيق بهم. وهذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتقديم موعد بالنصرة عليهم. روي أن الوليد بن المغيرة قال : لو كانت النبوة حقاً لكنت أولى بها منك، لأني أكبر منك سناً وأكثر منك مالاً. وروي : أن أبا جهل قال : زاحمنا بني عبد مناف في الشرف، حتى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا : منا نبيّ يوحى إليه، والله لا نرضى به ولا نتبعه أبداً إلاّ أن يأتينا وحي كما يأتيه، فنزلت ونحوها قوله تعالى :﴿ بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امرىء مّنْهُمْ أَن يؤتى صُحُفاً مُنَشَّرَة ﴾ [ المدثر : ٥٢ ].
﴿ الله أَعْلَمُ ﴾ كلام مستأنف للإنكار عليهم، وأن لا يصطفى للنبوة إلاّ من علم أنه يصلح لها وهو أعلم بالمكان الذي يضعها فيه منهم ﴿ سَيُصِيبُ الذين أَجْرَمُواْ ﴾ من أكابرها ﴿ صَغَارٌ ﴾ وقماءة بعد كبرهم وعظمتهم ﴿ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ ﴾ في الدارين من الأسر والقتل وعذاب النار.
﴿ فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ ﴾ أن يلطف به ولا يريد أن يلطف إلاّ بمن له لطف ﴿ يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإسلام ﴾ يلطف به حتى يرغب في الإسلام وتسكن إليه نفسه ويحبّ الدخول فيه ﴿ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ ﴾ أن يخذله ويخليه وشأنه، وهو الذي لا لطف له ﴿ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقاً حَرَجاً ﴾ يمنعه ألطافه، حتى يقسو قلبه، وينبو عن قبول الحق وينسدّ فلا يدخله الإيمان. وقرىء :«ضيقاً » بالتخفيف والتشديد :﴿ حَرَجاً ﴾ بالكسر، حرجاً - بالفتح - وصفاً بالمصدر ﴿ كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى السماء ﴾ كأنما يزاول أمراً غير ممكن. لأن صعود السماء مثل فيما يمتنع ويبعد من الاستطاعة، وتضيق عنه المقدرة. وقرىء :«يصعد »، وأصله يتصعد. وقرأ عبد الله :«يتصعد ». و «يصاعد ». وأصله : يتصاعد ويصعد، من صعد، ويصعد من أصعد ﴿ يَجْعَلُ الله الرجس ﴾ يعني الخذلان ومنع التوفيق، وصفه بنقيض ما يوصف به التوفيق من الطيب. أو أراد الفعل المؤدّي إلى الرجس وهو العذاب من الارتجاس وهو الاضطراب.
﴿ وهذا صراط رَبّكَ ﴾ وهذا طريقه الذي اقتضته الحكمة وعادته في التوفيق والخذلان ﴿ مُّسْتَقِيماً ﴾ عادلاً مطرداً. وانتصابه على أنه حال مؤكدة كقوله :﴿ وَهُوَ الحق مُصَدّقًا ﴾ [ البقرة : ٩١ ].
﴿ لَهُمْ ﴾ لقوم يذكرون ﴿ دَارُ السلام ﴾ دار الله، يعني الجنة أضافها إلى نفسه تعظيماً لها أو دار السلامة من كل آفة وكدر ﴿ عِندَ رَبّهِمْ ﴾ في ضمانه كما تقول لفلان عندي حق لا ينسى، أو ذخيرة لهم لا يعلمون كنهها، كقوله :﴿ فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ ﴾ [ السجدة : ١٧ ]، ﴿ وَهُوَ وَلِيُّهُم ﴾ مواليهم ومحبهم أو ناصرهم على أعدائهم ﴿ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ بسبب أعمالهم، أو متوليهم بجزاء ما كانوا يعملون.
﴿ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ ﴾ منصوب بمحذوف، أي واذكر يوم نحشرهم، أو يوم نحشرهم قلنا ﴿ يا معشر الجن ﴾ أو ويوم نحشرهم وقلنا يا معشر الجنّ كان ما لا يوصف لفظاعته، والضمير لمن يحشر من الثقلين وغيرهم. والجنّ هم الشياطين ﴿ قَدِ استكثرتم مّنَ الإنس ﴾ أضللتم منهم كثيراً أو جعلتموهم أتباعكم فحشر معكم منهم الجم الغفير، كما تقول : استكثر الأمير من الجنود، واستكثر فلان من الأشياع ﴿ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُم مّنَ الإنس ﴾ الذين أطاعوهم واستمعوا إلى وسوستهم ﴿ رَبَّنَا استمتع بَعْضُنَا بِبَعْضٍ ﴾ أي انتفع الإنس بالشياطين حيث دلوهم على الشهوات وعلى أسباب التوصل إليها، وانتفع الجنّ بالإنس حيث أطاعوهم وساعدوهم على مرادهم وشهوتهم في إغوائهم، وقيل : استمتاع الإنس بالجنّ ما في قوله :﴿ وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مّنَ الإنس يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مّنَ الجن ﴾ [ الجن : ٦٠ ] وأن الرجل كان إذا نزل وادياً وخاف قال : أعوذ بربّ هذا الوادي، يعني به كبير الجنّ. واستمتاع الجنّ والإنس : اعتراف الإنس لهم بأنهم يقدرون على الدفع عنهم إجارتهم لهم ﴿ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الذى أَجَّلْتَ لَنَا ﴾ يعنون يوم البعث وهذا الكلام اعتراف بما كان منهم من طاعة الشياطين واتباع الهوى والتكذيب بالبعث واستسلام لربهم وتحسر على حالهم ﴿ خالدين فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء الله ﴾ أي يخلدون في عذاب النار الأبد كله، إلاّ ما شاء الله إلاّ الأوقات التي ينقلون فيها من عذاب النار إلى عذاب الزمهرير، فقد روي أنهم يدخلون وادياً فيه من الزمهرير ما يميز بعض أوصالهم من بعض، فيتعاوون ويطلبون الردّ إلى الجحيم. أو يكون من قول الموتور الذي ظفر بواتره ولم يزل يحرق عليه أنيابه وقد طلب إليه أن ينفس عن خناقه. أهلكني الله إن نفست عنك إلاّ إذا شئت، وقد علم أنه لا يشاء إلاّ التشفي منه بأقصى ما يقدر عليه من التعنيف والتشديد، فيكون قوله : إلاّ إذا شئت، من أشد الوعيد، مع تهكم بالموعد لخروجه في صورة الاستثناء الذي فيه إطماع ﴿ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ ﴾ لا يفعل شيئاً إلاّ بموجب الحكمة ﴿ عَلِيمٌ ﴾ بأن الكفار يستوجبون عذاب الأبد.
﴿ نُوَلّى بَعْضَ الظالمين بَعْضاً ﴾ نخليهم حتى يتولى بعضهم بعضاً كما فعل الشياطين وغواة الإنس، أو نجعل بعضهم أولياء بعض يوم القيامة وقرناءهم كما كانوا في الدنيا ﴿ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ﴾ بسبب ما كسبوا من الكفر والمعاصي.
يقال لهم يوم القيامة على جهة التوبيخ ﴿ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مّنكُمْ ﴾ واختلف في أن الجنّ هل بعث إليهم رسل منهم، فتعلق بعضهم بظاهر الآية ولم يفرق بين مكلفين ومكلفين أن يبعث إليهم رسول من جنسهم، لأنهم به آنس وله آلف. وقال آخرون : الرسل من الإنس خاصة، وإنما قيل : رسل منكم لأنه لما جمع الثقلان في الخطاب صحَّ ذلك وإن كان من أحدهما، كقوله :﴿ يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ ﴾ [ الرحمن : ٢٢ ] وقيل : أراد رسل الرسل من الجنّ إليهم، كقوله تعالى :﴿ وَلَّوْاْ إلى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ ﴾ [ الأحقاف : ٢٩ ] وعن الكلبي : كانت الرسل قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم يبعثون إلى الإنس، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى الإنس والجنّ ﴿ قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا ﴾ حكاية لتصديقهم وإيجابهم قوله :﴿ أَلَمْ يَأْتِكُمْ ﴾ لأن الهمزة الداخلة على نفي إتيان الرسل للإنكار، فكان تقريراً لهم. وقولهم :﴿ شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا ﴾ إقرار منهم بأن حجة الله لازمة لهم، وأنهم محجوجون بها. فإن قلت : ما لهم مقرّين في هذه الآية جاحدين في قوله :﴿ والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ﴾ [ الأنعام : ٢٣ ] ؟ قلت : تتفاوت الأحوال والمواطن في ذلك اليوم المتطاول، فيقرّون في بعضها، ويجحدون في بعضها أو أريد شهادة أيديهم وأرجلهم وجلودهم حين يختم على أفواههم. فإن قلت : لم كرّر ذكر شهادتهم على أنفسهم ؟ قلت : الأولى حكاية لقولهم كيف يقولون ويعترفون ؟ والثانية : ذمّ لهم، وتخطئة لرأيهم، ووصف لقلة نظرهم لأنفسهم، وأنهم قوم غرتهم الحياة الدنيا واللذات الحاضرة، وكان عاقبة أمرهم أن اضطروا إلى الشهادة على أنفسهم بالكفر والاستسلام لربهم واستيجاب عذابه وإنما قال ذلك تحذيراً للسامعين من مثل حالهم.
﴿ ذلك ﴾ إشارة إلى ما تقدم من بعثة الرسل إليهم وإنذارهم سوء العاقبة، وهو خبر مبتدأ محذوف : أي الأمر ذلك. و ﴿ أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ القرى ﴾ تعليل، أي الأمر ما قصصناه عليك لانتفاء كون ربك مهلك القرى بظلم، على أن «أن » هي التي تنصب الأفعال، ويجوز أن تكون مخففة من الثقيلة، على معنى : لأن الشأن والحديث لم يكن ربك مهلك القرى بظلم. ولك أن تجعله بدلاً من ذلك، كقوله :﴿ وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الامر أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآْء مَقْطُوعٌ ﴾ [ الحجر : ٦٦ ]، ﴿ بِظُلْمٍ ﴾ بسبب ظلم قدموا عليه. أو ظالماً، على أنه لو أهلكهم وهم غافلون ولم ينبهوا برسول وكتاب، لكان ظلماً، وهو متعال عن الظلم وعن كل قبيح.
﴿ وَلِكُلٍّ ﴾ من المكلفين ﴿ درجات ﴾ منازل ﴿ مّمَّا عَمِلُواْ ﴾ من جزاء أعمالهم ﴿ وَمَا رَبُّكَ بغافل عَمَّا يَعْمَلُونَ ﴾ بساه عنه يخفى عليه مقاديره وأحواله وما يستحق عليه من الأجر.
﴿ وَرَبُّكَ الغنى ﴾ عن عباده وعن عبادتهم ﴿ ذُو الرحمة ﴾ يترحم عليهم بالتكليف ليعرّضهم للمنافع الدائمة ﴿ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ ﴾ أيها العصاة ﴿ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاء ﴾ من الخلق المطيع ﴿ كَمَا أَنشَأَكُمْ مّن ذُرّيَّةِ قَوْمٍ ءاخَرِينَ ﴾ من أولاد قوم آخرين لم يكونوا على مثل صفتكم، وهم أهل سفينة نوح عليه السلام.
«المكانة » تكون مصدراً يقال : مكن مكانة إذا تمكن أبلغ التمكن. وبمعنى المكان، يقال : مكان ومكانة ومقام ومقامة. وقوله :﴿ اعملوا على مَكَانَتِكُمْ ﴾ يحتمل : اعملوا على تمكنكم من أمركم وأقصى استطاعتكم وإمكانكم. أو اعملوا على جهتكم وحالكم التي أنتم عليها. يقال للرجل إذا أمر أن يثبت على حاله ؛ على مكانتك يا فلان، أي اثبت على ما أنت عليه لا تنحرف عنه ﴿ إِنّى عامل ﴾ أي عامل على مكانتي التي أنا عليها. والمعنى اثبتوا على كفركم وعداوتكم لي، فإني ثابت على الإسلام وعلى مصابرتكم ﴿ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾ أينا تكون له العاقبة المحمودة. وطريقة هذا الأمر طريقة قوله ﴿ اعملوا مَا شِئْتُمْ ﴾ [ فصلت : ٤٠ ] وهي التخلية والتسجيل على المأمور بأنه لا يأتي منه إلاّ الشرّ، فكأنه مأمور به وهو واجب عليه حتم ليس له أن يتفصى عنه ويعمل بخلافه، فإن قلت : ما موضع ﴿ مَن ﴾ ؟ قلت : الرفع إذا كان بمعنى «أي » وعلق عنه فعل العلم. أو النصب إذا كان بمعنى «الذي » و ﴿ عاقبة الدار ﴾ العاقبة الحسنى التي خلق الله تعالى هذه الدار لها. وهذا طريق من الإنذار لطيف المسلك، فيه إنصاف في المقال وأدب حسن، مع تضمن شدة الوعيد، والوثوق بأنّ المنذر محقّ والمنذر مبطل.
كانوا يعينون أشياء من حرث ونتاج لله، وأشياء منها لآلهتهم ؛ فإذا رأوا ما جعلوه لله زاكياً نامياً يزيد في نفسه خيراً رجعوا فجعلوه للآلهة، وإذا زكا ما جعلوه للأصنام تركوه لها واعتلوا بأنّ الله غنيّ، وإنما ذاك لحبهم آلهتهم وإيثارهم لها : وقوله :﴿ مِمَّا ذَرَأَ ﴾ فيه أن الله كان أولى بأن يجعل له الزاكي، لأنه هو الذي ذرأه وزكاه، ولا يرد إلى ما لا يقدر على ذرء ولا تزكيه ﴿ بِزَعْمِهِمْ ﴾ وقرىء : بالضم، أي قد زعموا أنه لله والله لم يأمرهم بذلك ولا شرع لهم تلك القسمة التي هي من الشرك، لأنهم أشركوا بين الله وبين أصنامهم في القربة ﴿ فَلاَ يَصِلُ إِلَى الله ﴾ أي لا يصلّ إلى الوجوه التي كانوا يصرفونه إليها من قرى الضيفان والتصدق على المساكين ﴿ فَهُوَ يَصِلُ إلى شُرَكَائِهِمْ ﴾ من إنفاق عليها بذبح النسائك عندها والإجراء على سدنتها ونحو ذلك ﴿ سَاء مَا يَحْكُمُونَ ﴾ في إيثار آلهتهم على الله تعالى وعملهم ما لم يشرع لهم.
﴿ وكذلك ﴾ ومثل ذلك التزيين وهو تزيين الشرك في قسمة القربان بين الله تعالى والآلهة، أو مثل ذلك التزيين البليغ الذي هو علم من الشياطين. والمعنى : أن شركاءهم من الشياطين، أو من سدنة الأصنام زينوا لهم قتل أولادهم بالوأد، أو بنحرهم للآلهة وكان الرجل في الجاهلية يحلف : لئن ولد له كذا غلاماً لينحرنّ أحدهم، كما حلف عبد المطلب. وقرىء :«زين » على البناء للفاعل الذي هو شركاؤهم، ونصب ﴿ قَتْلَ أولادهم ﴾ وزين، على البناء للمفعول الذي هو القتل، ورفع شركاؤهم بإضمار فعل دلّ عليه زين، كأنه قيل : لما قيل زين لهم قتل أولادهم من زينه ؟ فقيل : زينه لهم شركاؤهم. وأما قراءة ابن عامر :«قتل أولادهم شركائهم » برفع القتل ونصب الأولاد وجرّ الشركاء على إضافة القتل إلى الشركاء، والفصل بينهما بغير الظرف، فشيء لو كان في مكان الضرورات وهو الشعر، لكان سمجاً مردوداً، كما سمج وردّ.
زَجَّ الْقَلْوصِ أَبِي مَزَادَهْ ***
فكيف به في الكلام المنثور فكيف به في القرآن المعجز بحسن نظمه وجزالته. والذي حمله على ذلك أن رأى في بعض المصاحف شركائهم مكتوباً بالياء. ولو قرأ بجر الأولاد والشركاء-لأن الأولاد شركاؤهم في أموالهم - لوجد في ذلك مندوحة عن هذا الارتكاب ﴿ لِيُرْدُوهْم ﴾ ليهلكوهم بالإغواء ﴿ وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ ﴾ وليخلطوا، عليهم ويشبهوه. ودينهم : ما كانوا عليه من دين إسماعيل عليه السلام حتى زلوا عنه إلى الشرك. وقيل : دينهم الذي وجب أن يكونوا عليه. وقيل معناه وليوقعوهم في دين ملتبس. فإن قلت : ما معنى اللام ؟ قلت : إن كان التزيين من الشياطين فهي على حقيقة التعليل، وإن كان من السدنة فعلى معنى الصيرورة ﴿ وَلَوْ شَاء الله ﴾ مشيئة قسر ﴿ مَّا فَعَلُوهُ ﴾ لما فعل المشركون ما زين لهم من القتل. أو لما فعل الشياطين أو السدنة التزيين أو الإرداء أو اللبس أو جميع ذلك، إن جعلت الضمير جارياً مجرى اسم الإشارة ﴿ وَمَا يَفْتَرُونَ ﴾ وما يفترونه من الإفك. أو وافتراؤهم.
﴿ حِجْرٌ ﴾ فعل بمعنى مفعول كالذبح والطحن، ويستوي في الوصف به المذكر والمؤنث والواحد والجمع ؛ لأنّ حكمه حكم الأسماء غير الصفات : وقرأ الحسن وقتادة ﴿ حِجرٌ ﴾ بضم الحاء. وقرأ ابن عباس :«حرج »، وهو من التضييق وكانوا إذا عينوا أشياء من حرثهم وأنعامهم لآلهتهم قالوا :﴿ لاَّ يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَن نَّشَاء ﴾ يعنون خدم الأوثان، والرجال دون النساء ﴿ وأنعام حُرّمَتْ ظُهُورُهَا ﴾ وهي البحائر والسوائب والحوامي ﴿ وأنعام لاَّ يَذْكُرُونَ اسم الله عَلَيْهَا ﴾ في الذبح، وإنما يذكرون عليها أسماء الأصنام. وقيل : لا يحجون عليها ولا يلبون على ظهورها. والمعنى : أنهم قسموا أنعامهم فقالوا : هذا أنعام حجر، وأنعام محرّمة الظهور، وهذه أنعام لا يذكر عليها اسم الله. فجعلوها أجناساً بهواهم، ونسبوا ذلك التجنيس إلى الله ﴿ افتراء عَلَيْهِ ﴾ أي فعلوا ذلك كله على جهة الافتراء - تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً - وانتصابه على أنه مفعول له : أو حال، أو مصدر مؤكد، لأنّ قولهم ذلك في معنى الافتراء.
كانوا يقولون في أجنة البحائر والسوائب : ما ولد منها حياً فهو خالص للذكور لا تأكل منه الإناث، وما ولد منها ميتاً اشترك فيه الذكور الإناث. وأنث ﴿ خَالِصَةٌ ﴾ للحمل على المعنى، لأنّ مافي معنى الأجنة وذكر ﴿ وَأَنْعَمٌ حُرِّمَتْ ﴾ للحمل على اللفظ. ونظيره ﴿ وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حتى إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ ﴾ [ محمد : ١٦ ] ويجوز أن تكون التاء للمبالغة مثلها في رواية الشعر. وأن تكون مصدراً وقع موقع الخالص، كالعاقبة أي ذو خالصة. ويدلّ عليه قراءة من قرأ :«خالصة » بالنصب على أنّ قوله ﴿ لِّذُكُورِنَا ﴾ هو الخبر، وخالصة مصدر مؤكد، ولا يجوز أن يكون حالاً متقدمة، لأن المجرور لا يتقدم عليه حاله. وقرأ ابن عباس :«خالصة » على الإضافة. وفي مصحف عبد الله :«خالص ». ﴿ وَإِن يَكُن مَّيْتَةً ﴾ وإن يكن ما في بطونها ميتة. وقرىء :«وإن تكن »، بالتأنيث، على : وإن تكن الأجنة ميتة. وقرأ أهل مكة :«وإن تكن ميتة » بالتأنيث والرفع على كان التامة وتذكير الضمير في قوله :﴿ فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاء ﴾ لأن الميتة لكل ميت ذكر أو أنثى، فكأنه قيل : وإن يكن ميت فهم فيه شركاء ﴿ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ ﴾ أي : جزاء وصفهم الكذب على الله في التحليل والتحريم من قوله تعالى :﴿ ولا تقولوا لما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكذب هذا حلال وهذا حَرَامٌ ﴾ [ النحل : ١١٦ ].
نزلت في ربيعة ومضر والعرب الذين كانوا يئدون بناتهم مخافة السبي والفقر ﴿ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ لخفة أحلامهم، وجهلهم بأنّ الله هو رازق أولادهم، لا هم. وقرىء :«قتلوا » بالتشديد ﴿ مَا رَزَقَهُمُ الله ﴾ من البحائر والسوائب وغيرها.
﴿ أَنشَأَ جنات ﴾ من الكروم ﴿ معروشات ﴾ مسموكات ﴿ وَغَيْرَ معروشات ﴾ متروكات على وجه الأرض لم تعرّش. وقيل :«المعروشات » ما في الأرياف والعمران مما غرسه الناس واهتموا به فعرّشوه ﴿ وَغَيْرَ معروشات ﴾ مما أنبته [ الله ] وحشياً في البراري والجبال، فهو غير معروش. يقال : عرّشت الكرم، إذا جعلت له دعائم وسمكاً تعطف عليه القضبان. وسقف البيت : عرّشه ﴿ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ ﴾ في اللون والطعم والحجم والرائحة. وقرىء :«أكله » بالضم والسكون وهو ثمره الذي يؤكل. والضمير للنخل والزرع داخل في حكمه، لكونه معطوفاً عليه. ومختلفاً : حال مقدّرة لأنه لم يكن وقت الإنشاء كذلك، كقوله تعالى :﴿ فادخلوها خالدين ﴾ [ الزمر : ٧٣ ]. وقرىء :«ثمرة » بضمتين. فإن قلت : ما فائدة قوله :﴿ إِذَا أَثْمَرَ ﴾ وقد علم أنه إذا لم يثمر لم يؤكل منه ؟ قلت : لما أبيح لهم الأكل من ثمره قيل : إذا أثمر، ليعلم أن أول وقت الإباحة وقت إطلاع الشجر الثمر، لئلا يتوهم أنه لا يباح إلاّ إذا أدرك وأينع ﴿ وَءَاتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ﴾ الآية مكية، والزكاة إنما فرضت بالمدينة، فأريد بالحق ما كان يتصدّق به على المساكين يوم الحصاد، وكان ذلك واجباً حتى نسخه افتراض العشر، ونصف العشر. وقيل مدنية، والحق هو الزكاة المفروضة. ومعناه : واعزموا على إيتاء الحق واقصدوه واهتموا به يوم الحصاد، حتى لا تؤخروه عن أول وقت يمكن فيه الإيتاء ﴿ وَلاَ تُسْرِفُواْ ﴾ في الصدقة كما روي عن ثابت بن قيس بن شماس : أنه صرم خمسمائة نخلة ففرّق ثمرها كله ولم يدخل منه شيئاً إلى منزله ﴿ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُوراً ﴾ [ الإسراء : ٢٩ ].
﴿ حَمُولَةً وَفَرْشًا ﴾ عطف على جنات. أي : وأنشأ من الأنعام ما يحمل الأثقال وما يفرش للذبح، أو ينسج من وبره وصوفه وشعره الفرش. وقيل :«الحمولة » الكبار التي تصلح للحمل «والفرش » الصغار كالفصلان والعجاجيل والغنم، لأنها دانية من الأرض للطافة أجرامها، مثل الفرش المفروش عليها ﴿ وَلاَ تَتَّبِعُواْ خطوات الشيطان ﴾ في التحليل والتحريم من عند أنفسكم فعل كما أهل الجاهلية.
﴿ ثمانية أزواج ﴾ بدل من حمولة وفرشاً ﴿ اثنين ﴾ زوجين اثنين، يريد الذكر والأنثى، كالجمل والناقة، والثور والبقرة، والكبش والنعجة، والتيس والعنز - والواحد إذا كان وحده فهو فرد، فإذا كان معه غيره من جنسه سمي كل واحد منها زوجاً، وهما زوجان، بدليل قوله :﴿ خَلَقَ الزوجين الذكر والأنثى ﴾ [ النجم : ٤٥ ] والدليل عليه قوله تعالى :﴿ ثمانية أزواج ﴾ ثم فسرها بقوله :﴿ مّنَ الضأن اثنين وَمِنَ المعز اثنين ﴾، ﴿ وَمِنَ الإبل اثنين وَمِنَ البقر اثنين ﴾ ونحو تسميتهم الفرد بالزوج، بشرط أن يكون معه آخر من جنسه : تسميتهم الزجاجة كأساً بشرط أن يكون فيها خمر. والضأن والمعز جمع ضائن وماعز، كتاجر وتجر. وقرئا بفتح العين. وقرأ أبيّ :«ومن المعزى » وقرىء :«اثنان » على الابتداء.
الهمزة في ﴿ آلذكرين ﴾ للإنكار والمراد بالذكرين : الذكر من الضأن والذكر من المعز. وبالأنثيين : الأنثى من الضأن والأنثى من المعز، على طريق الجنسية. والمعنى إنكار أن يحرّم الله تعالى من جنسين الغنم ضأنها ومعزها شيئاً من نوعي ذكورها وإناثها، ولا مما تحمل إناث، الجنسين وكذلك الذكران من جنسي الإبل والبقر والأنثيان منهما وما تحمل إناثهما وذلك أنهم كانوا يحرّمون ذكورة الأنعام تارة، وإناثها تارة، وأولادهما كيفما كانت ذكوراً وإناثاً، أو مختلطة تارة، وكانوا يقولون قد حرّمها الله، فأنكر ذلك عليهم ﴿ نَبّئُونِي بِعِلْمٍ ﴾ أخبروني بأمر معلوم من جهة الله تعالى يدلّ على تحريم ما حرّمتم ﴿ إِن كُنتُمْ صادقين ﴾ في أنّ الله حرّمه.
﴿ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء ﴾ بل أكنتم شهداء. ومعنى الهمزة الإنكار، يعني أم شاهدتم ربكم حين أمركم بهذا التحريم ؟ وذكر المشاهدة على مذهبهم، لأنهم كانوا لا يؤمنون برسول وهم يقولون : الله حرّم هذا الذي نحرّمه، فتهكم بهم في قوله :﴿ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء ﴾ على معنى : أعرفتم التوصية به مشاهدين، لأنكم لا تؤمنون بالرسل ﴿ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِبًا ﴾ فنسب إليه تحريم ما لم يحرّم ﴿ لِيُضِلَّ الناس ﴾ وهو عمرو بن لحي بن قمعة الذي بحر البحائر وسيب السوائب.
فإن قلت : كيف فصل بين بعض المعدود وبعضه ولم يوال بينه ؟ قلت : قد وقع الفاصل بينهما اعتراضاً غير أجنبي من المعدود. وذلك أنّ الله عزّ وجلّ منّ على عباده بإنشاء الأنعام لمنافعهم وإباحتها لهم، فاعترض بالاحتجاج على من حرّمها، والاحتجاج على من حرّمها تأكيد وتسديد للتحليل، والاعتراضات في الكلام لا تساق إلاّ للتوكيد ﴿ فِي مَا أُوحِىَ إِلَىَّ ﴾ تنبيه على أنّ التحريم إنما يثبت بوحي الله تعالى وشرعه، لا بهوى الأنفس ﴿ مُحَرَّمًا ﴾ طعاماً محرّماً من المطاعم التي حرّمتموها ﴿ إِلا أَن يَكُونَ مَيْتَةً ﴾ إلاّ أن يكون الشيء المحرّم ميتة ﴿ أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا ﴾ أي : مصبوباً سائلاً كالدم في العروق، لا كالكبد والطحال. وقد رخّص في دم العروق بعد الذبح ﴿ أَوْ فِسْقًا ﴾ عطف على المنصوب قبله. سمى ما أهلّ به لغير الله فسقاً لتوغله في باب الفسق. ومنه قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ ﴾ [ الأنعام : ١٢١ ] وأهل : صفة له منصوبة المحل. ويجوز أن يكون مفعولاً له من أهلّ، أي أهلّ لغير الله به فسقاً. فإن قلت : فعلام تعطف ﴿ أُهِلَّ ﴾ ؟ وإلام يرجع الضمير في ﴿ بِهِ ﴾ على هذا القول ؟ قلت : يعطف على يكون، ويرجع الضمير إلى ما يرجع إليه المستكنّ في يكون ﴿ فَمَنِ اضطر ﴾ فمن دعته الضرورة إلى أكل شيء من هذه المحرّمات ﴿ غَيْرَ بَاغٍ ﴾ على مضطر مثله تارك لمواساته ﴿ وَلاَ عَادٍ ﴾ متجاوز قدر حاجته من تناوله ﴿ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ لا يؤاخذه.
ذو الظفر ما له أصبع من دابة أو طائر، وكان بعض ذات الظفر حلالاً لهم، فلما ظلموا حرّم ذلك عليهم فعمّ التحريم كل ذي ظفر بدليل قوله :﴿ فَبِظُلْمٍ مّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طيبات أُحِلَّتْ لَهُمْ ﴾ [ النساء : ١٦٠ ] وقوله :﴿ وَمِنَ البقر والغنم حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا ﴾ كقولك : من زيد أخذت ماله، تريد الإضافة زيادة الربط. والمعنى أنه حرّم عليهم لحم كل ذي ظفر وشحمه وكل شيء منه، وترك البقر والغنم على التحليل لم يحرّم منهما إلاّ الشحوم الخالصة، وهي الثروب وشحوم الكلى. وقوله :﴿ إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا ﴾ يعني إلاّ ما اشتمل على الظهور والجنوب من السحقة ﴿ أَوِ الحوايا ﴾ أو اشتمل على الأمعاء ﴿ أَوْ مَا اختلط بِعَظْمٍ ﴾ وهو شحم الإلية. وقيل :﴿ الحوايا ﴾ عطف على شحومهما. و «أو » بمنزلتها في قولهم : جالس الحسن أو ابن سيرين ﴿ ذلك ﴾ الجزاء ﴿ جزيناهم ﴾ وهو تحريم الطيبات ﴿ بِبَغْيِهِمْ ﴾ بسبب ظلمهم ﴿ وِإِنَّا لصادقون ﴾ فيما أوعدنا به العصاة لا نخلفه، كما لا نخلف ما وعدناه أهل الطاعة. فلما عصوا وبغوا ألحقناهم بهم الوعيد وأحللنا بهم العقاب.
﴿ فَإِن كَذَّبُوكَ ﴾ في ذلك وزعموا أن الله واسع الرحمة، وأنه لا يؤاخذ بالبغي ويخلف الوعيد جوداً وكرماً ﴿ فَقُلْ ﴾ لهم ﴿ رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسعة ﴾ لأهل طاعته ﴿ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ ﴾ مع سعة رحمته ﴿ عَنِ القوم المجرمين ﴾ فلا تغترّ برجاء رحمته عن خوف نقمته.
﴿ سَيَقُولُ الذين أَشْرَكُواْ ﴾ إخبار بما سوف يقولونه ولما قالوه قال :﴿ وَقَالَ الذين أَشْرَكُواْ لَوْ شَآء الله مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَىْء ﴾ [ النحل : ٣٥ ] يعنون بكفرهم وتمردهم أن شركهم وشرك آبائهم، وتحريمهم ما أحلّ الله، بمشيئة الله وإرادته. ولولا مشيئته لم يكن شيء من ذلك، كمذهب المجبرة بعينه ﴿ كذلك كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ ﴾ أي جاءوا بالتكذيب المطلق ؛ لأن الله عزّ وجلّ ركب في العقول وأنزل في الكتب ما دلّ على غناه وبراءته من مشيئة القبائح وإرادتها، والرسل أخبروا بذلك. فمن علق وجود القبائح من الكفر والمعاصي بمشيئة الله وإرادته فقد كذب التكذيب كله، وهو تكذيب الله وكتبه ورسله، ونبذ أدلة العقل والسمع وراء ظهره ﴿ حتى ذَاقُواْ بَأْسَنَا ﴾ حتى أنزلنا عليهم العذاب بتكذيبهم ﴿ قُلْ هَلْ عِندَكُم مّنْ عِلْمٍ ﴾ من أمر معلوم يصحّ الاحتجاج به فيما قلتم ﴿ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا ﴾ وهذا من التهكم، والشهادة بأن مثل قولهم محال أن يكون له حجة ﴿ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن ﴾ في قولكم هذا ﴿ وَإِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ ﴾ تقدّرون أن الأمر كما تزعمون أو تكذبون. وقرىء :«كذلك كذب الذين من قبلهم » بالتخفيف.
﴿ قُلْ فَلِلَّهِ الحجة البالغة ﴾ يعني فإن كان الأمر كما زعمتم أن ما أنتم عليه بمشيئة الله فللَّهِ الحجة البالغة عليكم على قود مذهبكم ﴿ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ منكم ومن مخالفيكم في الدين، فإن تعليقكم دينكم بمشيئة الله يقتضي أن تعلقوا دين من يخالفكم أيضاً بمشيئته، فتوالوهم ولا تعادوهم، وتوافقوهم ولا تخالفوهم، لأنّ المشيئة تجمع بين ما أنتم عليه وبين ما هم عليه.
﴿ هَلُمَّ ﴾ يستوي فيه الواحد والجمع، والمذكر والمؤنث عند الحجازيين. وبنو تميم تؤنث وتجمع. والمعنى : هاتوا شهداءكم وقرّبوهم. فإن قلت : كيف أمره باستحضار شهدائهم الذين يشهدون أنّ الله حرم ما زعموه محرّماً، ثم أمره بأن لا يشهد معهم ؟ قلت : أمره باستحضارهم وهم شهداء بالباطل، ليلزمهم الحجة ويلقمهم الحجر، ويظهر للمشهود لهم بانقطاع الشهداء أنهم ليسوا على شيء، لتساوي أقدام الشاهدين والمشهود لهم في أنهم لا يرجعون إلى ما يصحّ التمسك به. وقوله :﴿ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ ﴾ يعني فلا تسلم لهم ما شهدوا به ولا تصدقهم : لأنه إذا سلم لهم فكأنه شهد معهم مثل شهادتهم وكان واحداً منهم ﴿ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الذين كَذَّبُواْ بأياتنا ﴾ من وضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على أنّ من كذب بآيات الله وعدل به غيره فهو متبع للهوى لا غير، لأنه لو اتبع الدليل لم يكن إلا مصدقاً بالآيات موحداً لله تعالى. فإن قلت : هلاّ قيل : قل هلم شهداء يشهدون أنّ الله حرّم هذا ؟ وأي فرق بينه وبين المنزل ؟ قلت : المراد أن يحضروا شهداءهم الذين علم أنهم يشهدون لهم وينصرون قولهم، وكان المشهود لهم يقلدونهم ويثقون بهم ويعتضدون بشهادتهم، ليهدم ما يقومون به فيحق الحق ويبطل الباطل، فأضيفت الشهداء لذلك، وجيء بالذين للدلالة على أنهم شهداء معروفون موسومون بالشهادة لهم وبنصرة مذهبهم، والدليل عليه قوله تعالى :﴿ فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ ﴾ ولو قيل : هلم شهداء يشهدون لكان معناه هاتوا أناساً يشهدون بتحريم ذلك فكان الظاهر طلب شهداء بالحق وذلك ليس بالغرض. ويناقضه قوله تعالى :﴿ فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ ﴾.
«تعال »، من الخاص الذي صار عاماً، وأصله أن يقوله من كان في مكان عال لمن هو أسفل منه ثم كثر واتسع فيه حتى عمّ. و ﴿ مَا حَرَّمَ ﴾ منصوب بفعل التلاوة، أي أتل الذي حرمه ربكم. أو يحرم بمعنى : أقل أيّ شيء حرّم ربكم، لأنّ التلاوة من القول، و «أن » في ﴿ أَلاَّ تُشْرِكُواْ ﴾ مفسرة و «لا » النهي. فإن قلت : هلاّ قلت هي التي تنصب الفعل، وجعلت أن لا تشركوا بدلاً من ﴿ مَا حَرَّمَ ﴾ ؟ قلت : وجب أن يكون ﴿ لا تُشْرِكُواْ ﴾ و ﴿ لاَ تَقْرَبُواْ ﴾ و ﴿ لاَ تَقْتُلُواْ ﴾ و ﴿ اَ تَتَّبِعُواْ السبل ﴾ [ الأنعام : ١٥٣ ] نواهي لانعطاف الأوامر عليها، وهي قوله :﴿ وبالوالدين إحسانا ﴾ لأنّ التقدير : وأحسنوا بالوالدين إحساناً. و ﴿ أَوْفُواْ ﴾، ﴿ وَإِذَا قُلْتُمْ فاعدلوا ﴾ [ الأنعام : ١٥٢ ]، ﴿ وَبِعَهْدِ الله أَوْفُواْ ﴾ [ الأنعام : ١٥٢ ]. فإن قلت : فما تصنع بقوله :﴿ وَأَنَّ هذا صراطي مُسْتَقِيمًا فاتبعوه ﴾ فيمن قرأ بالفتح، وإنما يستقيم عطفه على أن لا تشركوا إذا جعلت أن هي الناصبة للفعل، حتى يكون المعنى : أتل عليكم نفي الإشراك والتوحيد، وأتل عليكم أن هذا صراطي مستقيماً ؟ قلت : أجعل قوله :﴿ وَأَنَّ هذا صراطي مُسْتَقِيمًا ﴾ [ الأنعام : ١٥٣ ] علة للاتباع بتقدير اللام، كقوله تعالى :﴿ وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ الله أَحَداً ﴾ [ الجن : ١٨ ] بمعنى : ولأنّ هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه. والدليل عليه القراءة بالكسر، كأنه قيل : واتبعوا صراطي لأنّه مستقيم، أو واتبعوا صراطي إنه مستقيم. فإن قلت : إذا جعلت ﴿ أن ﴾ مفسرة لفعل التلاوة وهو معلق بما حرّم ربكم، وجب أن يكون ما بعده منهياً عنه محرماً كله، كالشرك وما بعده مما دخل عليه حرف النهي فما تصنع بالأوامر قلت لما وردت هذه الأوامر مع النواهي وتقدمهن جميعاً فعل التحريم واشتركن في الدخول تحت حكمه، علم أن التحريم راجع إلى أضدادها، وهي الإساءة إلى الوالدين، وبخس الكيل والميزان. وترك العدل في القول، ونكث عهد الله ﴿ مّنْ إملاق ﴾ من أجل فقر ومن خشيته، كقوله تعالى :﴿ خَشْيَةَ إملاق ﴾ [ الإسراء : ٣١ ]. ﴿ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ﴾ مثل قوله :﴿ ظاهر الإثم وَبَاطِنَهُ ﴾ [ الأنعام : ١٢٠ ]. ﴿ إِلاَّ بالحق ﴾ كالقصاص، والقتل على الردة، والرجم.
﴿ إِلاَّ بالتى هِىَ أَحْسَنُ ﴾ إلاّ بالخصلة التي هي أحسن ما يفعل بمال اليتيم، وهي حفظه وتثميره والمعنى : احفظوه عليه حتى يبلغ أشدّه فادفعوه إليه ﴿ بالقسط ﴾ بالسوية والعدل ؛ ﴿ لاَ نُكَلّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ﴾ إلاّ ما يسعها ولا تعجز عنه. وإنما أتبع الأمر بإيفاء الكيل والميزان ذلك ؛ لأن مراعاة الحدّ من القسط الذي لا زيادة فيه ولا نقصان مما يجري فيه الحرج، فأمر ببلوغ الوسع وأن ما وراءه معفوٌّ عنه ﴿ وَلَوْ كَانَ ذَا قربى ﴾ ولو كان المقول له أو عليه في شهادة أو غيرها من أهل قرابة القاتل، فما ينبغي أن يزيد في القول أو ينقص، كقوله :﴿ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الوالدين والأقربين ﴾ [ النساء : ١٣٥ ].
وقرىء :«وأَنْ هذا صراطي مستقيماً » بتخفيف «أن » وأصله : وأنه هذا صراطي، على أن الهاء ضمير الشأن والحديث. وقرأ الأعمش :«وهذا صراطي ». وفي مصحف عبد الله :«هذا صراط ربكم ». وفي مصحف أبيّ :«وهذا صراط ربك » ﴿ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل ﴾ الطرق المختلفة في الدين، من اليهودية والنصرانية، والمجوسية، وسائر البدع والضلالات ﴿ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ ﴾ فتفرقكم أيادي سبا ﴿ عَن سَبِيلِهِ ﴾ عن صراط الله المستقيم وهو دين الإسلام. وقرىء :«فَتَّفَرَّقَ » بإدغام التاء. وروى أبو وائل عن ابن مسعود عن النبيّ صلى الله عليه وسلم : " أنه خط خطاً ثم قال : هذا سبيل الرشد، ثم خط عن يمينه وعن شماله خطوطاً ثم قال : هذه سبل، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، ثم تلا هذه الآية " ﴿ وَأَنَّ هذا صراطي مُسْتَقِيمًا فاتبعوه ﴾ وعن ابن عباس رضي الله عنهما : هذه الآيات محكمات لم ينسخهنّ شيء من جميع الكتب. وقيل : إنهنّ أمّ الكتاب، من عمل بهنّ دخل الجنة، ومن تركهنّ دخل النار، وعن كعب الأحبار : والذي نفس كعب بيده إنّ هذه الآيات لأول شيء في التوراة. فإن قلت : علام عطف قوله :﴿ ثُمَّ ءاتَيْنَا مُوسَى الكتاب ﴾ قلت : على ﴿ وصاكم بِهِ ﴾. فإن قلت : كيف صحّ عطفه عليه بثم - والإيتاء قبل التوصية بدهر طويل- ؟ قلت : هذه التوصية قديمة، لم تزل توصاها كل أمّة على لسان نبيهم، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما : محكمات لم ينسخهنّ شيء من جميع الكتاب، فكأنه قيل : ذلكم وصاكم به يا بني آدم قديماً وحديثاً.
﴿ ثُمَّ ﴾ أعظم من ذلك أنا ﴿ ءَاتَيْنَا مُوسَى الكتاب ﴾ وأنزلنا هذا الكتاب المبارك. وقيل : هو معطوف على ما تقدّم قبل شطر السورة من قوله تعالى :﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ إسحاق وَيَعْقُوبَ ﴾ [ الأنعام : ٨٤ ] ﴿ تَمَامًا عَلَى الذى أَحْسَنَ ﴾ تماماً للكرامة والنعمة، على الذي أحسن، على من كان محسناً صالحاً، يريد جنس المحسنين. وتدلّ عليه قراءة عبد الله :«على الذين أحسنوا » أو أراد به موسى عليه السلام، أي تتمة للكرامة على العبد الذي أحسن الطاعة في التبليغ وفي كل ما أمر به أو تماماً على الذي أحسن موسى من العلم والشرائع، من أحسن الشيء إذا أجاد معرفته، أي زيادة على علمه على وجه التتميم. وقرأ يحيى بن يعمر :«على الذي أحسن »، بالرفع، أي على الذي هو أحسن، بحذف المبتدإ كقراءة من قرأ :﴿ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً ﴾ [ البقرة : ٢٦ ] بالرفع أي على الدين الذي هو أحسن دين وأرضاه. أو آتينا موسى الكتاب تماماً، أي تامَّاً كاملاً على أحسن ما تكون عليه الكتب، أي على الوجه والطريق الذي هو أحسن وهو معنى قول الكلبي : أتمَّ له الكتاب على أحسنه.
﴿ أَن تَقُولُواْ ﴾ كراهة أن تقولوا ﴿ على طَائِفَتَيْنِ ﴾ يريدون أهل التوراة وأهل الإنجيل ﴿ وَإِن كُنَّا ﴾ هي إن المخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة بينها وبين النافية. والأصل : وإنه كنا عن دراستهم غافلين، على أن الهاء ضمير الشأن ﴿ عَن دِرَاسَتِهِمْ ﴾ عن قراءتهم، أي لم نعرف مثل دراستهم.
﴿ لَكُنَّا أهدى مِنْهُمْ ﴾ لحدّة أذهاننا، وثقابة أفهامنا، وغزارة حفظنا لأيام العرب ووقائعها وخطبها وأشعارها وأسجاعها وأمثالها، على أنا أمّيون. وقرىء :«أن يقولوا » أو يقولوا، بالياء ﴿ فَقَدْ جَاءكُمْ بَيّنَةٌ مّن رَّبّكُمْ ﴾ تبكيت لهم، وهو على قراءة من قرأ :«يقولوا » على لفظ الغيبة أحسن، لما فيه من الالتفات. والمعنى : إن صدّقتكم فيما كنتم تعدّون من أنفسكم فقد جاءكم بينة من ربكم، فحذف الشرط وهو من أحاسن الحذوف ﴿ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بآيات الله ﴾ بعد ما عرف صحتها وصدقها، أو تمكن من معرفة ذلك ﴿ وَصَدَفَ عَنْهَا ﴾ الناس فضلّ وأضلّ ﴿ سَنَجْزِى الذين يَصْدِفُونَ عَنْ ءاياتنا سُوء العذاب ﴾ كقوله :﴿ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله زدناهم عَذَابًا فَوْقَ العذاب ﴾ [ النحل : ٨٨ ].
﴿ الملائكة ﴾ ملائكة الموت، أو العذاب ﴿ أَوْ يَأْتِىَ رَبُّكَ ﴾ أو يأتي كل آيات ربك. بدليل قوله :﴿ أَوْ يأْتِىَ بَعْضُ ءايات رَبِّكَ ﴾ يريد آيات القيامة والهلاك الكلي، وبعض الآيات. أشراط الساعة، كطلوع الشمس من مغربها، وغير ذلك. وعن البراء بن عازب : كنا نتذاكر الساعة إذ أشرف علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " ما تتذاكرون ؟ فقلنا : نتذاكر الساعة قال : إنها لا تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات : الدخان، ودابة الأرض، وخسفاً بالمغرب، وخسفاً بالمشرق، وخسفاً بجزيرة العرب، والدجال، وطُلوع الشمس من مغربها، ويأجوج ومأجوج، ونزول عيسى، وناراً تخرج من عدن " ﴿ لَمْ تَكُنْ آمنت مِن قَبْلُ ﴾ صفة لقوله نفساً. وقوله :﴿ أَوْ كَسَبَتْ فِى إيمانها خَيْرًا ﴾ عطف على آمنت. والمعنى أنّ أشراط الساعة إذا جاءت وهي آيات ملجئة مضطرة، ذهب أوان التكليف عندها، فلم ينفع الإيمان حينئذ نفساً غير مقدّمة إيمانها من قبل ظهور الآيات، أو مقدّمة الإيمان غير كاسبة في إيمانها خيراً، فلم يفرق كما ترى بين النفس الكافرة إذا آمنت في غير وقت الإيمان، وبين النفس التي آمنت في وقته ولم تكسب خيراً، ليعلم أنَّ قوله :﴿ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات ﴾ [ البقرة : ٢٥ ] جمع بين قرينتين، لا ينبغي أن تنفك إحداهما عن الأخرى، حتى يفوز صاحبهما ويسعد، وإلاّ فالشقوة والهلاك ﴿ قُلِ انتظروا إنا مُنتَظِرُونَ ﴾ وعيد. وقرىء :«أن يأتيهم الملائكة » بالياء والتاء. وقرأ ابن سيرين :( لا تنفع ) بالتاء ؛ لكون الإيمان مضافاً إلى ضمير المؤنث الذي هو بعضه كقولك : ذهبت بعض أصابعه.
﴿ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ ﴾ اختلفوا فيه كما اختلفت اليهود والنصارى. وفي الحديث : " افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، كلها في الهاوية إلاّ واحدة وهي الناجية، وافترقت النصارى اثنتين وسبعين فرقة، كلها في الهاوية إلاّ واحدة، وتفترق أمّتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في الهاوية إلاّ واحدة " وقيل : فرّقوا دينهم فآمنوا ببعض وكفروا ببعض. وقرىء :«فارقوا دينهم » أي تركوه ﴿ وَكَانُواْ شِيَعاً ﴾ فرقاً كل فرقة تشيع إماماً لها ﴿ لَّسْتَ مِنْهُمْ فِى شَىْء ﴾ أي من السؤال عنهم وعن تفرّقهم. وقيل : من عقابهم. وقيل : هي منسوخة بآية السيف.
﴿ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ﴾ على إقامة صفة الجنس المميز مقام الموصوف، تقديره عشر حسنات أمثالها، وقرىء :«عشرُ أمثالُهَا » برفعهما جميعاً على الوصف. وهذا أقلّ ما وعد من الإضعاف. وقد وعد بالواحد سبعمائة، ووعد ثواباً بغير حساب. ومضاعفة الحسنات فضل، ومكافأة السيئات عدل ﴿ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ﴾ لا ينقص من ثوابهم ولا يزاد على عقابهم.
﴿ دِينًا ﴾ نصب على البدل من محل ﴿ إلى صراط ﴾ لأنّ معناه : هداني صراطاً، بدليل قوله :﴿ وَيَهْدِيَكُمْ صراطا مُّسْتَقِيماً ﴾ [ الفتح : ٢ ] والقيم : فيعل، من قام، كسيد من ساد، وهو أبلغ من القائم. وقرىء :«قيماً » والقيم : مصدر بمعنى القيام وصف به. و ﴿ مِلَّةِ إبراهيم ﴾ عطف بيان. و ﴿ حَنِيفاً ﴾ حال من إبراهيم.
﴿ قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى ﴾ وعبادتي وتقرّبي كله. وقيل : وذبحي. وجمع بين الصلاة والذبح كما في قوله :﴿ فَصَلّ لِرَبّكَ وانحر ﴾ [ الكوثر : ٢ ] وقيل : صلاتي وحجّي من مناسك الحج ﴿ وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى ﴾ وما آتيه في حياتي، وما أموت عليه من الإيمان والعمل الصالح ﴿ للَّهِ رَبّ العالمين ﴾ خالصة لوجهه.
﴿ وبذلك ﴾ من الإخلاص ﴿ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ المسلمين ﴾ لأنّ إسلام كل نبيّ متقدّم لإسلام أمّته.
﴿ قُلْ أَغَيْرَ الله أَبْغِى رَبّا ﴾ جواب عن دعائهم له إلى عبادة آلهتهم، والهمزة للإنكار، أي منكر أن أبغي رباً غيره ﴿ وَهُوَ رَبُّ كُلّ شَىْء ﴾ فكل من دونه مربوب ليس في الوجود من له الربوبية غيره، كما قال :﴿ قُلْ أَفَغَيْرَ الله تَأْمُرُونّى أَعْبُدُ ﴾ [ الزمر : ٦٤ ]، ﴿ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا ﴾ جواب عن قولهم :﴿ اتبعوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خطاياكم ﴾ [ العنكبوت : ١٢ ].
﴿ جَعَلَكُمْ خلائف الأرض ﴾ لأنّ محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين فخلفت أمّته سائر الأمم. أو جعلهم يخلف بعضهم بعضاً. أو هم خلفاء الله في أرضه يملكونها ويتصرفون فيها ﴿ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ درجات ﴾ في الشرف والرزق ﴿ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا ءاتاكم ﴾ من نعمة المال والجاه، كيف تشكرون تلك النعمة، وكيف يصنع الشريف بالوضيع، والحرّ بالعبد، والغني بالفقير ﴿ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العقاب ﴾ لمن كفر نعمته ﴿ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ لمن قام يشكرها. ووصف العقاب بالسرعة، لأنّ ما هو آت قريب.