تفسير سورة العصر

فتح البيان
تفسير سورة سورة العصر من كتاب فتح البيان في مقاصد القرآن المعروف بـفتح البيان .
لمؤلفه صديق حسن خان . المتوفي سنة 1307 هـ
سورة العصر
هي ثلاث آيات، وهي مكية عند الجمهور. وقال قتادة : هي مدينة، قال ابن عباس : نزلت بمكة. عن أبي مزينة الدارمي- وكانت له صحبة- قال : كان الرجلان من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا التقيا لم يتفرقا حتى يقرأ أحدهما على الآخر سورة العصر، ثم يسلم أحدهما على الآخر " أخرجه الطبراني في الأوسط والبيهقي في الشعب.

(والعصر) أقسم سبحانه بالعصر وهو الدهر لما فيه من العبر من جهة مرور الليل والنهار على تقدير الأدوار وتعاقب الظلام والضياء، فإن في ذلك دلالة بينة على الصانع عز وجل وعلى توحيده، ويقال لليل عصر، وللنهار عصر، ويقال للغداة والعشي عصران.
قال الرازي أقسم تعالى بالدهر لما فيه من الأعاجيب لأنه يحصل فيه السراء والضراء والصحة والسقم والغنى والفقر، ولأن بقية عمر المرء لا قيمة له، فلو ضيعت ألف سنة فيما لا يعني ثم ثبتت السعادة في اللمحة الأخيرة من العصر بقيت في الجنة أبد الآباد، فعلمت أن أشرف الأشياء حياتك في تلك اللمحة، فكان الدهر والزمان من جملة أصول النعم، ولأن الزمان أشرف من المكان، فأقسم به لكونه نعمة خالصة لا غيب فيه.
وقال قتادة والحسن: المراد به في الآية العشي وهو ما بين زوال الشمس وغروبها. وعن قتادة أيضاًً أنه آخر ساعة من ساعات النهار، وقال مقاتل: إن المراد به صلاة العصر، وهي الصلاة الوسطى التي أمر الله سبحانه وتعالى بالمحافظة عليها، وأخرجه أحمد والترمذي وحسنه وغيرهما من حديث الزبير بن العوام.
وقيل هو قسم (١) بعصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
_________
(١) قال الرازي أقسم سبحانه بمكانه ﷺ في قوله: (لا أقسم بهذا البلد) وأقسم بعمره
-[٣٧٦]-
في قوله: (لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون) وبعصره هنا فكأنه قال وعصرك وبلدك وعمرك فأقسم بهذه الظروف الثلاثة فإذا وجب تعظيم الظرف فحال المظروف من باب أولى انتهى.
375
قال الزجاج: قال بعضهم معناه ورب العصر والأول أولى وبه قال ابن عباس، وعنه هو ساعة من ساعات النهار، وقال أيضاًً هو ما قبل مغيب الشمس من العشي.
وأخرج الفريابي وأبو عبيد في فضائله وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن الأنباري في المصاحف عن علي بن أبي طالب " أنه كان يقرأ والعصر ونوائب الدهر إن الإنسان لفي خسر وإنه فيه إلى آخر الدهر " وعن ابن مسعود أيضاً أنه كان يقرأ " إن الإنسان لفي خسر وإنه لفيه إلى آخر الدهر "، أخرجه عبد بن حميد.
376
(إن الإنسان لفي خسر) هذا جواب القسم، والخسر والخسران النقصان وذهاب رأس المال، والمعنى أن كل إنسان في المتاجر والمساعي وصرف الأعمار في أعمال الدنيا لفي نقص وضلال عن الحق حتى يموت، وقيل المراد بالإنسان الكافر، وقيل جماعة من الكفار وهم الوليد بن المغيرة والعاص ابن وائل والأسود بن عبد المطلب بن أسد، والأول أولى لما في لفظ الإنسان من العموم، ولدلالة الاستثناء عليه.
قال الأخفش: في خسر في هلكة، وقال الفراء: في عقوبة، وقال ابن زيد: لفي شر، وقيل لفي نقص، والمعاني متقاربة، قرأ الجمهور (والعصر) بسكون الصاد وقرىء بكسر الصاد وقرأ الجمهور أيضاًً (خسر) بضم الخاء وسكون السين وقرىء بضمهما.
والتنكير في خسر يفيد التعظيم أي في خسر عظيم لا يعلم كنهه إلا الله، فقد جعل الإنسان معموراً في الخسر للمبالغة وأنه أحاط به من كل جانب لأن كل ساعة تمر بالإنسان فإن كانت مصروفة إلى المعصية فلا شك في الخسر، وإن كانت مشغولة بالمباحثات فالخسران أيضاًً حاصل، وإن كانت
376
مشغولة بالطاعات فهي غير متناهية، وترك الأعلى والاقتصار على الأدنى نوع خسران، ولا ينافيه قوله: (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم) لأن الكلام ثَمّ في (١) أحوال البدن وهنا في أحوال النفس.
_________
(١) ثم بفتح الثاء أي هناك.
377
(إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات) أي جمعوا بين الإيمان بالله والعمل الصالح فإنهم في ربح لا في خسر، لأنهم عملوا للآخرة ولم تشغلهم أعمال الدنيا عنها، والاستثناء متصل، ومن قال أن المراد بالإنسان الكافر فقط فيكون منقطعاً، ويدخل تحت هذا الاستثناء كل مؤمن ومؤمنة، ولا وجه لما قيل أن المراد الصحابة أو بعضهم فإن اللفظ عام لا يخرج عنه أحد ممن يتصف بالإيمان والعمل الصالح.
(وتواصوا) أي أوصى (١) بعضهم بعضاً (بالحق) الذي يحق القيام به وهو الإيمان بالله والتوحيد والقيام بما شرعه الله، واجتناب ما نهى عنه، قال قتادة بالحق أي بالقرآن وقيل بالتوحيد والحمل على العموم أولى.
(وتواصوا بالصبر) عن معاصي الله سبحانه وعلى فرائضه وعلى البلايا، وفي جعل التواصي بالصبر قريناً للتواصي بالحق دليل على عظيم قدره وفخامة شرفه ومزيد ثواب الصابرين على ما يحق الصبر عليه أن الله مع الصابرين.
وأيضاًً التواصي بالصبر مما يندرج تحت التواصي بالحق فإفراده بالذكر وتخصيصه بالنص عليه من أعظم الأدلة الدالة على إنافته على خصال الحق ومزيد شرفه عليها، وارتفاع طبقته عنها، وكرر الفعل لاختلاف المفعولين.
_________
(١) أشار به إلى أن تواصوا فعل ماض لا أمر، ويؤخذ منه أن الوصية هي التقديم إلى الغير بما يعمل به مقروناً بوعظ ونصيحة من قولهم أرض واصية أي متصلة النبات، يقال قدمت إليه بكذا إذا أمرته قبل وقت الحاجة إلى الفعل (سيد ذو الفقار أحمد).
377
سورة الهمزة
هي تسع آيات وهي مكية بلا خلاف قال ابن عباس نزلت بمكة وقال المحلي أو مدنية والأولى أولى.
379

بسم الله الرحمن الرحيم

وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (١) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (٢) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (٣) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (٤) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (٥) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (٦) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (٧) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (٨) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (٩)
381
Icon