تفسير سورة الرّوم

تفسير النيسابوري
تفسير سورة سورة الروم من كتاب غرائب القرآن ورغائب الفرقان المعروف بـتفسير النيسابوري .
لمؤلفه نظام الدين القمي النيسابوري . المتوفي سنة 850 هـ
سورة الروم وهي مكية حروفها ثلاثة آلاف وخمسمائة وأربعة وثلاثون وكلماتها ثمانمائة وتسعة عشر آياتها ستون.

ﮭﮮ ﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘ ﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧ ﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜ ﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧ ﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀ ﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣ ﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱ ﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛ ﯝﯞﯟﯠﯡ ﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫ ﯭﯮﯯﯰﯱ ﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛ ﭝﭞﭟﭠﭡﭢ ﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫ ﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻ ﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇ ﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝ ﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬ ﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝ ﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡ ﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫ ﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀ ﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞ ﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱ ﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬ ﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷ ﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄ
(سورة الروم)
(وهي مكية حروفها ثلاثة آلاف وخمسمائة وأربعة وثلاثون وكلماتها ثمانمائة وتسعة عشر آياتها ستون)
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ١ الى ٣٢]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (٣) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (٤)
بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٥) وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٦) يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (٧) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (٨) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٩)
ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠) اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١١) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (١٢) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (١٣) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (١٤)
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (١٥) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (١٦) فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (١٧) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (١٨) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١٩)
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (٢٠) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢١) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (٢٢) وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٢٣) وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٤)
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (٢٥) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (٢٦) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧) ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٨) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٩)
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٠) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٣١) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٣٢)
399
القراآت:
عاقبة بالنصب: ابن عامر وعاصم وحمزة وعلي وخلف. الآخرون:
بالرفع. السُّواى بالإمالة: أبو عمرو وحمزة وعلي وخلف وحماد يرجعون على الغيبة: أبو عمرو غير عباس وأوقية وسهل ويحيى وحماد تخرجون بفتح التاء وضم الراء: حمزة وعلي وخلف. الباقون: مجهولا لِلْعالِمِينَ بكسر اللام: حفص يفصل على الغيبة: عباس. الآخرون: بالنون.
الوقوف:
الم كوفي غُلِبَتِ الرُّومُ هـ سَيَغْلِبُونَ هـ سِنِينَ هـ وَمِنْ بَعْدُ ط الْمُؤْمِنُونَ هـ بِنَصْرِ اللَّهِ ط وكلاهما مبني على أن قوله بِنَصْرِ اللَّهِ يتعلق ب يَفْرَحُ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ ط الرَّحِيمُ هـ وَعْدَ اللَّهِ هـ لا يَعْلَمُونَ هـ الدُّنْيا ج لعطف الجملتين المختلفتين والوصل أولى غافِلُونَ هـ فِي أَنْفُسِهِمْ ط لحق الحذف أي فيعلموا ذلك أو فيقولوا هذا القول مُسَمًّى ط لَكافِرُونَ هـ مِنْ قَبْلِهِمْ ط بِالْبَيِّناتِ ط يَظْلِمُونَ هـ لا لأن «ثم» لترتيب الأخبار يَسْتَهْزِؤُنَ هـ يرجعون هـ الْمُجْرِمُونَ هـ والوصل جائز كافِرِينَ هـ يَتَفَرَّقُونَ هـ يُحْبَرُونَ هـ مُحْضَرُونَ هـ تُصْبِحُونَ هـ تُظْهِرُونَ هـ بَعْدَ مَوْتِها ط تُخْرَجُونَ هـ تَنْتَشِرُونَ هـ وَرَحْمَةً ط يَتَفَكَّرُونَ هـ وَأَلْوانِكُمْ ط لِلْعالِمِينَ هـ مِنْ فَضْلِهِ ط يَسْمَعُونَ هـ مَوْتِها ط يَعْقِلُونَ هـ بِأَمْرِهِ ط لأن «ثم» لترتيب الأخبار دَعْوَةً لا وقيل: على من الأرض وكلاهما تعسف.
400
والحق أن قوله مِنَ الْأَرْضِ متعلق ب دَعاكُمْ كقولك دعوت زيدا من بيته لا كقولك دعوته من بيتي تَخْرُجُونَ هـ وَالْأَرْضِ ط قانِتُونَ هـ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ج وَالْأَرْضِ ط الْحَكِيمُ هـ مِنْ أَنْفُسِكُمْ ط لانتهاء الإخبار إلى الاستفهام كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ ط يَعْقِلُونَ هـ بِغَيْرِ عِلْمٍ ج لابتداء الاستفهام مع الفاء أَضَلَّ اللَّهُ ط لتمام الاستفهام وابتداء النفي ناصِرِينَ هـ حَنِيفاً ط عَلَيْها ط لِخَلْقِ اللَّهِ ط الْقَيِّمُ هـ لا للاستدراك لا يَعْلَمُونَ هـ وقيل: لا وقف عليه بناء على أن مُنِيبِينَ حال من ضمير فَأَقِمْ على أن الأمر له ولأمته مثل يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ [الطلاق: ١] والوقف أوضح لبعد العامل عن المعمول بل التقدير: كونوا منيبين بدليل قوله وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ لأن قوله مِنَ الَّذِينَ كالبدل مما قبله شِيَعاً ط فَرِحُونَ هـ.
التفسير:
وجه تعلق السورة بما قبلها هو أنه ﷺ كان يقول للمشركين ما أمر الله به صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ [البقرة: ١٧١] وكان يحقر آلهتهم وينسبها إلى العجز وعدم النفع والضر، وكان أهل الكتاب يوافقون المسلمين في الإله وفي كثير من الأحكام ولذلك قال وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إلى قوله وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ [العنكبوت: ٤٦] فلا جرم أبغض المشركون أهل الكتاب وتركوا مراجعتهم في الأمور. فاتفق أن بعث كسرى جيشا إلى الروم واستعمل عليهم رجلا يقال له شهريران، فسار إلى الروم بأهل فارس فظفر عليهم وقتلهم وخرب مدائنهم. وكان قيصر بعث رجلا يدعى بجنس فالتقى مع شهريران بأذرعات وبصرى وهو أدنى الشام إلى أرض العرب وإليه الإشارة بقوله أَدْنَى الْأَرْضِ لأن الأرض المعهودة عند العرب هي أرضهم أي غلبوا في أقرب أرض العرب منهم وهي أطراف الشام. وجوز جار الله أن يراد بأرضهم على إنابة اللام مناب المضاف إليه أي في أدنى أرضهم إلى عدوهم. وهذا تفسير مجاهد لأنه قال: هي أرض الجزيرة وهي أدنى أرض الروم إلى فارس. عن ابن عباس: الأردن وفلسطين. ففرح المشركون بذلك فأنزل الله تعالى هذه الآيات لبيان أن الغلبة لا تدل على الحق فقد يبتلى المحبوب ويعجل عذابه ليسلم في الآجل. وقوله فِي أَدْنَى الْأَرْضِ إشارة إلى ضعفهم أي انتهى ضعفهم إلى أن وصل عدوهم إلى طريق الحجاز وكسروهم وهم في بلادهم. ثم بين أن الروم سيغلبون غلبة عظيمة بعد ذلك الضعف العظيم، وكل ذلك دليل على أن الأمر بيد الله من قبل الغلبة ومن بعدها، أو من قبل تلك المدة ومن بعد ذلك، وقد وقع كما أخبر فغلبت الروم على فارس حتى وصلوا إلى المدائن وبنوا هنالك الرومية،
قال المفسرون: لما نزلت الآية قال أبوبكر للمشركين: لا أقر الله أعينكم، والله ليظهرن الروم على فارس بعد بضع سنين. فقال له أبي
401
ابن خلف: كذبت يا أبا فضيل اجعل بيننا أجلا أناحبك عليه، فخاطره على عشر قلائص من كل واحد منهما وجعل الأجل ثلاث سنين. فأخبر أبو بكر رسول الله ﷺ فقال: البضع ما بين الثلاث إلى التسع فزايده في الخطر وماده في الأجل فجعلاها مائة قلوص إلى تسع سنين. فلما أراد أبوبكر أن يخرج من مكة أتاه أبي فلزمه وطلب كفيلا فكفله ابنه عبد الله بن أبي بكر، فلما أراد أن يخرج إلى أحد أتاه عبد الله فلزمه إلى أن أقام كفيلا ثم خرج إلى أحد ثم رجع أبي فمات بمكة من جراحته التي جرحها رسول الله ﷺ فظهرت الروم على فارس يوم الحديبية. وذلك عند رأس سبع سنين. فأخذ أبو بكر الخطر من ذرية أبي وجاء به إلى رسول الله ﷺ فأمره أن يتصدق به.
قالت العلماء: إنما أبهم الوقت لأن الكفار كانوا معاندين والأمور التي تقع في البلاد الشاسعة قلما يحصل الاتفاق على وقتها المعين من السنة والشهر واليوم والساعة وإن كان معلوما للنبي بإعلام الله إياه، فالمعاند كان يتمكن من الإرجاف بوقوع الواقعة قبل وقوعها ليحصل الخلف في الميعاد ولكن المعاند لا يتمكن من إنكار الواقعة في البضع، وَيَوْمَئِذٍ أي يوم يغلب الروم فارس ويحصل ما وعد الله من غلبتهم يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ وبغلبة من له كتاب على من لا كتاب له، أو بغيظ الشامتين بهم من كفار مكة. وقيل: نصر الله هو إظهار صدق المؤمنين فيما أخبر به نبيهم من غلبة الروم.
وعن أبي سعيد الخدري: وافق ذلك يوم بدر وهو المراد بنصر الله، وذلك أن خبر الكسر لم يصل إليهم في ذلك اليوم بعينه فلا يكون فرحهم يومئذ بل الفرح يحصل بعده، ولناصر القولين الأولين أن يقول: أقيم سبب الفرح، مقام الفرح أو المراد باليوم الوقت الواسع الشامل لما بين زمان وقوع الكسر إلى زمان وصول خبر الكسر الموجب للفرح. ومن علق قوله بِنَصْرِ اللَّهِ بقوله يَنْصُرُ بناء على أن المقصود بيان أن النصرة بيد الله لا بيان وقوع النصرة لم يقف هاهنا ووقف على الْمُؤْمِنُونَ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ فإذا سلط العدو على الحبيب فلعزته واستغنائه عن العالمين، وإذا نصر الحبيب فلرحمته عليه. أو نقول: إن نصر المحب فلعزته واستغنائه عنه ورحمته في الآخرة واصلة إليه. وَعْدَ اللَّهِ مصدر مؤكد لنفسه لأن ما سبق في معنى الوعد وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أنه لا خلف في وعده لأنهم بله في أمور الدين. وفي إبدال قوله يَعْلَمُونَ من قوله لا يَعْلَمُونَ أو في بيان هذا بذاك إشارة أن العلم بأمور الدنيا كالجهل المطلق، وفي تنكير ظاهِراً إشارة إلى قلة علمهم بظاهر الدنيا أيضا وفي تكرير «هم» إشارة إلى أن الغفلة منهم وإلا فأسباب التذكرة حاصلة وظاهر الدنيا ملاذها وملاعبها وباطنها مضارها ومتاعبها.
402
هي الدنيا تقول بملء فيها حذار حذار من سفكي وفتكي
فلا يغرركم طول ابتسامي فقولي مضحك والفعل مبكي
ثم أشار إلى وجه التفكر بقوله أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا وقوله فِي أَنْفُسِهِمْ يتعلق به أما تعلق الظرف بالفعل كأنه قال: أو لم يحدثوا التفكر في قلوبهم الفارغة فيكون كما لو قلت لأجل زيادة التصوير اعتقده في قلبك وأضمره في نفسك مع أن الاعتقاد لا يكون إلا في القلب، والإضمار لا يوجد إلا في النفس. وأما تعلق الجار بالفعل كقولك: تفكر في الأمور. وذلك أنه إذا تفكر في نفسه التي هي أقرب الأشياء إليه وقف على غرائب الحكم ودقائق الصنع التي أودعها الله تعالى فيها كما يكفل بيان بعضها علم التشريح فجره ذلك إلى العلم بأنه سبحانه ما خلق السموات والأرض وما بينهما إلا متلبسا بالغرض الصحيح الذي أودعه الله فيها، وبتقدير أجل مسمى هو وقت الجزاء والحساب، ثم في الآية تقريران:
أحدهما يناسب أصول الأشاعرة وهو أن دلائل الأنفس منجرة إلى دلائل الآفاق المذكورة للتوحيد وللعلم بالإله القادر المختار الصادق كلامه، لكنه أخبر عن تخريب السموات والأرض وعن حشر الأجساد وانتهاء الجسمانيات إلى الإفناء ثم الإعادة في الوقت المعلوم فيكون الأمر على ما أخبر. وثانيهما يتوقف على أصول المعتزلة، وهو أن التفكر في النفس يجذب بصنعه إلى معرفة الإله الحكيم الذي لا يفعل العبث والجزاف، فإنه خلق السموات وغيرها من الأجسام لمنافع المكلفين، وإذا انتهى التكليف فلا بد من تخريب السموات والأرض وانتهاء الأمر إلى حالة الجزاء واللقاء كيلا تنخرم قاعدة الحكمة والتدبير ورعاية الصلاح والعدل. ثم قال وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ وقد قال قبل ذلك وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لأنه قد ذكر دليلا على الأصول، ولا شك أن الإيمان بعد الدليل يكون أكثر من الإيمان قبل الدليل فلا يبقى الأكثر كما هو فعبر عن الباقي بالكثير. قال في الكشاف والمراد بِلِقاءِ رَبِّهِمْ الأجل المسمى، والأشاعرة يحملونه على الرؤية، واعلم أن دليل الأنفس مقدم على دليل الآفاق، لأن الإنسان قلما يذهل عن نفسه، وأن نفسه أقرب الأشياء إليه نظير الآية قوله سبحانه الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [آل عمران: ١٩١] أي يعرفون الله بدلائل الأنفس في سائر الأحوال، ويتفكرون في خلق السموات والأرض بدلائل الآفاق. وإنما أخر الأنفس في قوله سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ [فصلت: ٥٣] لإن الإراءة إنما يفتقر إليها في معرفة الأبعد الأخفى كأنه قال: سنريهم آياتنا الآفاقية فإن لم يفهموها فآيات الأنفس معلومة. وهذا الترتيب لا يناسب التفكر بل الفكر يتصور دليل الأنفس أولا ثم يرتقي إلى دليل الآفاق فظهر أن كل آية وردت على ما اقتضته الحكمة والبلاغة. وحين ذكر دليل النفس الذي لا يقع الذهول عنه إلا
403
ندرة ارتقى إلى دليل السموات والأرض الذي يقع الذهول عنه في كثير من الأحوال لكنه لا يحتاج إلا إلى التفات ذهني، ثم أتبعه دليل الآفاق الذي يتوقف على السير والتحول ليقفوا على أمر أمثالهم. وحكاية أشكالهم ثم ذكر أنهم أولى بالهلاك لأن من تقدمهم كعاد وثمود كانوا أشد منهم قوة جسمانية وأثاروا الأرض حرثوها وهو إشارة إلى القوة المالية. ثم أشار إلى القوة الظهرية التي يستند إليها عند الضعف والفتور وهي الحصون والعمائر بقوله وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها هؤلاء يعني أهل مكة كانوا أهل واد غير ذي زرع ما لهم أثارة أرض أصلا ولا عمارة لها رأسا، ففيه نوع تهكم بهم. قال أهل البرهان: إنما قال في هذه السورة وفي آخر «فاطر» وفي «المؤمن» أَوَلَمْ يَسِيرُوا بالواو وفي غيرهن أفلم بالفاء لأن ما قبلها في هذه السورة أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا وما بعدها وَأَثارُوا بالواو فوافق ما قبلها وما بعدها. وكذا في «فاطر» ما قبله وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا وما بعده وَما كانَ [الآية: ٤٣، ٤٤] وفي «المؤمن» ما قبله وَالَّذِينَ يَدْعُونَ وأما في آخر «المؤمن» فما قبله أَيَّ آياتِ اللَّهِ
وما بعده فَما أَغْنى عَنْهُمْ [الآية: ٨٢] وكلاهما بالفاء. قوله في هذه السورة مِنْ قَبْلِهِمْ متصل بكون آخر مضمر. وقوله كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وكذا معطوفاه إخبار عما كانوا عليه قبل الإهلاك. وإنما قال في «فاطر» وَكانُوا بزيادة الواو لأن التقدير فينظروا كيف أهلكوا وكانوا أشد، وخصت السورة به لقوله وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ [فاطر: ٤٤] وقال في «المؤمن» كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ فأظهر «كان» وزاد لفظه «هم» لأن الآية وقعت في أوائل قصة موسى وهي تتم في ثلاثين آية، فكان اللائق به البسط دون الوجازة ولم يبسط هذا البسط في آخر السورة اكتفاء بالأول والله أعلم. وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بوضع الأنفس الشريفة في موضع خسيس هو عبادة الأصنام. قال أهل السنة: هذا الوضع كان بمشيئة الله وإرادته لكنه صدر عنهم فأضيف إليهم والسوأى تأنيث الأسوإ وهو الأقبح وهي خبر «كان» فيمن قرأ عاقِبَةَ بالرفع واسم «كان» فيمن قرأ عاقِبَةَ بالنصب. و «ثم» لتفاوت الرتبة، وفي التركيب وضع للمظهر موضع المضمر. والمعنى أنهم أهلكوا ثم كانت عاقبتهم السوأى وهي عذاب النار. وأَنْ كَذَّبُوا المعنى لأن «أو» بأن كذبوا أو هو تفسير أساؤا على أن الإساءة في
معنى القول نحو: نادى وكتب معناه أي كذبوا وجوز جار الله أن يكون السوأى مفعول أَساؤُا وأَنْ كَذَّبُوا عطف بيان لها، وخبر «كان» محذوف إرادة الإبهام ليذهب الوهم كل مذهب فيكون تقدير الكلام. ثم كان عاقبة الذين اقترفوا الخطيئة التي هي أسوأ الخطايا أن كذبوا كذا وكذا مما لا يكتنه كنهه. قال أهل التحقيق: ذكر الزيادة في حق المحسن في قوله لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [يوسف: ٢٦] ولم يذكر في الحق المسيء لأن جزاء
404
سيئة سيئة بمثلها، وذكر السبب في العقوبة وهو قوله أَنْ كَذَّبُوا ولم يذكره في الآية ليعلم أن إحسانه لا يتوقف على السبب بل فضله كاف فيه.
وحين ذكر أن عاقبتهم النار وكان في ذلك إشارة إلى الإعادة والحشر لم يتركه دعوى بلا بينة فقال اللَّهُ يَبْدَؤُا يعني من خلق بالقدرة والإرادة لا يعجز عن الرجعة والإعادة. ثم بين ما يكون وقت الرجوع فقال وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ يعني في ذلك اليوم يتبين إفلاسهم ويتحقق إبلاسهم وهو سكوت مع تحير ويأس مع بؤس ويأس لا اليأس الذي هو إحدى الراحتين وذلك إذا كان المرجو أمرا غير ضروري فيستريح الطامع من الانتظار.
ثم ذكر وجه الإبلاس وذلك قوله وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ يجحدونها وقتئذ بقوله سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ [مريم: ٨٢] أو وكانوا في الدنيا كافرين بسببهم. ثم حكى أنهم يعني المسلمين والكافرين يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ فريق في الجنة وفريق في السعير تفصيله في الآيتين بعده والروضة عندهم كل أرض ذات نبات وماء. وفي الأمثال «أحسن من بيضة في روضة» يعنون بيضة النعامة وتنكير روضة للتعظيم ومعنى يُحْبَرُونَ يسرون بأنواع المسار لحظة فلحظة. حبره إذا سره سرورا تهلل ببشر. وخصه مجاهد بالتكريم، وقتادة بالتنعيم، وابن كيسان بالتحلية، ووكيع بالسماع.
عن النبي ﷺ «إن في الجنة لنهرا حافتاه الأبكار من كل بيضاء رخصة يتغنين بأصوات لم تسمع الخلائق بمثلها قط فذلك أفضل نعيم الجنة» «١»
قال الراوي: سألت أبا الدرداء بم يتغنين؟ قال: بالتسبيح.
وروي أن في الجنة لأشجارا عليها أجراس من فضة، فإذا أراد أهل الجنة السماع بعث الله ريحا من تحت العرش في تلك الأشجار فتحرك تلك الأجراس بأصوات لو سمعها أهل الدنيا لماتوا.
وأما معنى مُحْضَرُونَ لا يغيبون عنه وقد مر في قوله ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ [القصص: ٦١] وإنما أهمل ذكر الفسقة من أهل الإيمان اكتفاء بما ذكر في الآيات الأخر كقوله إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء:
٤٨] وكقوله إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ إلى قوله تُبْتُ الْآنَ [النساء: ١٧- ١٨] قال جار الله: لما ذكر الوعد والوعيد أتبعه ذكر ما يوصل إلى الوعد وينجي من الوعيد وقال آخرون: لما ذكر عظمته في المبدأ بقوله ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وفي الانتهاء بقوله وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ وكرر ذكر قيام الساعة للتأكيد والتخويف، أراد أن ينزه نفسه عن كل سوء ويثبت لذاته كل حمد ليعلم أنه منزه عن طاعات المطيعين، محمود على كل ما يوصل
(١) رواه الترمذي في كتاب الجنة باب ٢٤.
405
إلى المكلفين، مذكور على لسان أهل السموات والأرضين. والتسبيح في الظاهر هو تنزيه الله من السوء والثناء عليه بالخير في هذه الأوقات لما في كل منها من كل نعمة متجددة.
وخص بعضهم التسبيح بالصلاة لما روي عن ابن عباس أنه قال تُمْسُونَ صلاتا المغرب والعشاء وتُصْبِحُونَ صلاة الفجر وَعَشِيًّا صلاة العصر ويَظْهَرُونَ صلاة الظهر أمر بالصلاة في أول النهار ووسطه وآخره، وأمر بالصلاة أول الليل ووسطه وهو العشاء
بقوله ﷺ «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك وبتأخير العشاء إلى نصف الليل»
ولم يأمر بالصلاة في آخر الليل لأن النوم فيه غالب وإنه منّ على عباده بالاستراحة في الليل بالنوم في مواضع منها قوله وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ [الروم: ٢٣] كما يجيء. روي عن الحسن أن الآية مدنية بناء على أنه كان يقول: فرضت الصلوات الخمس بالمدينة وكان الواجب بمكة ركعتين في غير وقت معلوم. وقول الأكثر إن الخمس فرضت بمكة. قوله وَعَشِيًّا معطوف على حِينَ وما بينهما وهو قوله وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اعتراض.
قال جار الله: معناه إن على المميزين كلهم من أهل السموات والأرض أن يحمدوه قلت:
فيه أيضا أن الله غني عن تسبيح المسبحين فلو لم يحمده حامد فله استئهال الحمد على الإطلاق ولو حمدوه لعاد نفعه إليهم. وقدم الإمساك لأن الظلمة عدمية والأصل في الأشياء العدم، وقدم العشي على الظهيرة لأجل الفاصلة أو للتنبيه على فضيلة صلاة العصر، ولعل في تقديم الاعتراض المذكور على العشي إشارة إلى هذا ومعنى ويُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ قد سلف مرارا ويحتمل أن يراد هاهنا اليقظان والنائم لقوله وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ أي من القبور، فتنبيه النائم بعد اليقظة يشبه الإعادة، وكذا رد الأرض إلى حالة الخضرة والنضرة بعد ذبولها.
عن رسول الله ﷺ «من قال حين يصبح فسبحان الله حين تمسون إلى قوله وكذلك تخرجون أدرك ما فاته من يومه، ومن قالها حين يمسي أدرك ما فاته من ليلته»
ثم أراد أن يذكر الحجج الباهرة على استحقاق التسبيح والتحميد له فقال وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ أي أصلكم أو كلا منكم كما مر في أول الحج مِنْ تُرابٍ وذلك أن التراب أبعد الأشياء عن درجة الإحياء لكثافته ولبرودته ويبسه والحياة بالحرارة والرطوبة، ولكدورته والروح نير ولثقله وخفة الأرواح ولسكونه والحي متحرك حساس. ولا تتنافي بين هذا وبين قوله خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً [الفرقان: ٥٤] لأنه أراد الأصل الثاني الذي هو النطفة، أو أراد أن أصل البشر في الظاهر هو التراب والماء وأما النار فللإنضاج، والهواء فللاستبقاء كالزق المنفوخ يقوم بالهواء، وثُمَّ لتبعيد الرتبة وإِذا للمفاجأة أي ثم فاجأتم وقت كونكم بشرا.
قالوا: فيه إشارة إلى مسألة حكمية وهي أن الله تعالى يخلق أولا إنسانا فيتبعه أنه حيوان تام لا أنه يخلق أولا حيوانا ثم يجعله إنسانا، فخلق الأنواع هو المراد الأول ثم تكون الأنواع
406
فيها الأجناس بتلك الإرادة الأولى. وقوله بَشَرٌ إشارة إلى القوة المدركة التي البشر بها بشرو بها يمتاز عن غيره من الحيوانات. وقوله تَنْتَشِرُونَ إشارة إلى القوة المتحركة التي بها الحيوان حيوان فكأنه أشار إلى فصله وجنسه، وكان الأولى تقديم الجنس على الفصل، إلا أنه عكس الترتيب لأنه كأنه قال: العجب غير مختص بالإنسان بل الحيوان المنتشر من التراب الساكن عجيب أيضا. والانتشار إما بمعنى التردد في الحوائج كقوله فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [الجمعة: ١٠] وإما بمعنى البث والتفريق كقوله وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً [النساء: ١].
وحين بين خلق الإنسان ولم يكن مما يبقى على مر الزمان منّ عليهم بأن جعل نوع الإنسان باقيا بتعاقب الأشخاص فقال وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ ولا يلزم منه أن لا يكنّ مخلوقات للعبادة والتكليف لأن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي ما عداه، فقد يكون الشيء مختصا باثنين وجعل مهيأ لآخرين على أن النعمة ما كانت تتم علينا إلا بتكليفهن، فلولا خوف العقاب لتمردت النسوان على أزواجهن. ومِنْ أَنْفُسِكُمْ أي من جنسكم أو هو إشارة إلى أن حواء خلقت من ضلع آدم وقد مر في «النحل» ويشهد للتفسير الأول قوله لِتَسْكُنُوا إِلَيْها فإن الجنس إلى الجنس أسكن وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً عن الحسن هي الجماع وَرَحْمَةً هي الولد. وقال غيره: المودة حالة حاجة نفسه إليها، والرحمة حالة حاجة صاحبته إليه، وقد تفضي المودة إلى مجرد الرحمة وذلك إذا خرجت عن محل الشهوة بكبر أو مرض، أو خرج عن إمكان رعاية حقها بكبر أو زمانة أو فقر. قال بعضهم:
المودة والرحمة بعصمة الزواج من غير سابقة معرفة وقرابة وهي من قبل الله، والفرك من قبل الشيطان إِنَّ فِي ذلِكَ الخلق والجعل لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ فخلق الإنسان من الوالدين آية، وجعل أحدهما ذكرا والآخر أنثى آية، وخروج الولد الضعيف من الموضع الضيق آية، وجعل التوادد بين الزوجين من غير صلة رحم آية ولما ذكر دلائل الأنفس أتبعها دلائل الآفاق وأعظمها خلق السموات والأرض، فإن خلق المركبات قد يسنده بعض الجهلة إلى ما في العناصر من الكيفيات وإلى ما في السموات من الحركات والاتصالات، وأما السماء والأرض فلا يجد بدا من أن يقول: إنهما بقدرة الله تعالى. ثم عاد إلى ذكر أحوال الأنفس ومن جملتها اختلاف الألسنة لا جرمها، فإن التباين بين أجرامها ليس يبلغ إلى حد يعد آية بل وصفها وهو النطق وتقطيع الأصوات اللذان بهما يمتاز بعض الأصناف والأشخاص عن بعض، واختلاف الألوان والحلي فبذلك يقع التفاوت ويرتفع الاشتباه، فحس البصر يدرك اختلاف الصور وحسن السمع يدرك اختلاف الأصوات وأما اللمس
407
والشم والذوق فلا حكم ظاهرا لها في باب التمييز بين الأشخاص الإنسانية. وحيث ذكر بعض العرضيات اللازمة أراد أن يذكر الأعراض المفارقة بعضها فقال وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ قال جار الله: هذا من باب اللف والنشر وتقدير الكلام. ومن آياته منامكم بالليل وابتغاؤكم من فضله بالنهار ليكون موافقا لما جاء في مواضع أخر كقوله وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً [النبأ: ١٠، ١١] وقدم المنام على الابتغاء لأن الاستراحة مطلوبة لذاتها والطلب لا يكون إلا لحاجة قال: وإنما فصل بين القرينتين الأوليين بالقرينتين الآخريين لأنهما زمانان، والزمان والواقع فيه كشيء واحد مع إعانة اللف على الاتحاد يعني كأنه لم يعطف النهار على الليل والابتغاء على المنام. وجوز أن يراد منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله بالليل والنهار، فان الإنسان كثيرا ما ينام بالنهار ويكسب بالليل. وفي اقتران الفضل بالابتغاء إشارة إلى أن العبد ينبغي أن لا يرى الرزق من نفسه وبحذقه بل يرى كل ذلك من فضل ربه. ثم أشار إلى عوارض الآفاق فقال وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ فأضمر «أن» وأسكن الياء بعد حذفها وإنزال الفعل منزلة المصدر كما في المثل السائر «تسمع بالمعيدي خير من أن تراه» قيل: لما كان البرق من الأمور التي تتجدد زمانا دون زمان ذكره بلفظ المستقبل ولم يذكر معه «أن» وقيل: ومن آياته كلام كاف كما تقول: منها كذا ومنها كذا.
وتسكت تريد بذلك الكثرة: وقيل: أراد ويريكم من آياته البرق. وانتصاب خَوْفاً وَطَمَعاً كما مر في «الرعد» ثم ذكر بعض لوازم الآفاق قائلا وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ فقيام السموات والأرض استمساكهما بغير عمد، ومن نسب ذلك إلى الطبيعة فلا بد أن يستند الطبع إلى واجب لذاته وأمره أن يقول لهما كونا كذلك نظيره قوله إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ إلى قوله مِنْ بَعْدِهِ [فاطر: ٤١] واعلم أن الأمر عند المعتزلة موافق للإرادة، وعند الأشاعرة ليس كذلك. ولكن النزاع في الأمر الذي هو للتكليف لا الذي للتكوين، فإن قوله كُنْ فَيَكُونُ [يس: ٨٢] موافق للإرادة بالاتفاق. قال جار الله: قوله إِذا دَعاكُمْ بمنزلة قوله يُرِيكُمُ في إيقاع الجملة موقع المفرد على المعنى كأنه قال: ومن آياته قيام السموات والأرض، ثم خروج الموتى من القبور إذا دعاكم مرة واحدة يا أهل القبور اخرجوا والمراد سرعة الخروج من غير توقف وإلا فلا أمر ظاهرا. أو أراد نداء الملك والأرض مكان المدعو على التقديرين لا الداعي إذ لا مكان لله مطلقا ولا للملك في جوف الأرض. نعم، لو كان المراد أن الملك يدعوهم وهو على وجه الأرض جاز. ومعنى «ثم» عظم ما يكون من ذلك الأمر وتهويل لتلك الحالة، وإذا الأولى للشرط، والثانية للمفاجأة نائبة مناب الفاء.
واعلم أنه تعالى ذكر في كل باب أمرين: أما من الأنفس فخلق البشر ثم خلقهم زوجين،
408
وأما من الآفاق فخلق السموات والأرض. ومن لوازم الإنسان اختلاف اللسان والألوان، ومن عوارضه المنام والابتغاء، ومن عوارض الآفاق البروق والأمطار، ومن لوازمها قيام السماء والأرض. والواحد يكفي للإقرار بالحق، إلا أن الثاني يجري مجرى الشاهد الآخر.
وراعى في تعداد العرضيات لطيفة، بدأ باللوازم وختم باللوازم وذلك أن الإنسان متغير الحال، فالأحوال اللازمة له أغرب والأفلاك ثابتة بالنسبة إلى الإنسان فعوارضها أغرب، وبدأ في كل باب بما هو أعجب، وإنما ختم الآية الأولى بقوله إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ لأن الفكر يؤدي إلى الوقوف على المعاني المقتضية للإنس والسكون وعلى دقائق صنع الله في خلق الإنسان وبثهم في الأرض، أو نقول: إن من الأشياء ما يعلم بمجرد الفكر كدقائق حكمة الله في خلق الإنسان، لأن أقرب الأشياء إلى الإنسان هو ذاته فلذلك قال هنالك لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ومنها ما يعلم من غير تجشم فكر كالاستدلال على قدرة الله بخلق السماء والأرض، واختلاف ألسنة الناس وألوانهم، فإن الكل تظلهم السماء وتقلهم الأرض.
وكل واحد منفرد بلطيفة في صورته يمتاز بها عن غيره، ولهذه يشترك في معرفتها الناس جميعا فلهذا قال لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ ومن حمل اختلاف الألسن على اللغات اختلاف الألوان على البياض والسواد والصفرة والسمرة، فالاشتراك في معرفتها أيضا ظاهر. ومن قرأ لِلْعالِمِينَ بكسر اللام فقد أحسن، فبالعلم يمكن الوصول إلى معرفة ما سبق ذكره، ومن الأشياء ما يحتاج الفكر فيه إلى إعانة مرشد كالمنام والابتغاء فإنهما لزوالهما في بعض الأوقات قد يرفعان لوازمهما فلهذا قال لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ويجعلون بالهم إلى كلام المرشد، ومن هنا ذهب بعضهم إلى أن معنى يَسْمَعُونَ هاهنا يستجيبون لما يدعون إليه، ثم إن حدوث الولد من الوالدين كالأمر المطرد العادي فكان الولد يمكن أن يسبق إلى الوهم إسناده إلى الطبيعة فأمر هنالك بالفكر. وأما البرق والمطر فليس أمرا عاديا ولذلك يختلف بالشدة والضعف وبحسب الأوقات والأمكنة فالعقل الصحيح يجزم بأن من فعل الفاعل المختار فلذلك قال لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وقيل: إن العقل ملاك الأمر وهو المؤدي إلى العلم فوقع الختم عليه. وحين فرغ من تعداد الآيات وكان مدلولها الوحدانية التي هي الأصل الأول والقدرة على الحشر التي هي الأصل الآخر أكد الأول بقوله وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ مطيعون منقادون وأكد الأصل الآخر بل كلا الأصلين بقوله وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ يعني أن يعيده أَهْوَنُ عَلَيْهِ أي في نظركم وعند معقولكم وإلا فلا صعوبة في الإبداء أصلا حتى يقع التفضيل على حده. وإنما أخرت الصلة هاهنا وقدمت في قوله في سورة مريم وهُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ [مريم: ٩] لأنه قصد هناك الاختصاص يعني أن خلق الولد
409
بين هرم وعاقر لا يهون إلا علي. ولا معنى للاختصاص هاهنا فإن الأمر مبني على المعقول بين الآدميين من ان المعاد أهون من المبدأ ولهذا قيل: أول الغزو أخرق. وليس الدخيل في أمر كالناشىء عليه. ومن الدليل العقلي على هذا المطلوب أن الإبداء خلق الأجزاء وتأليفها، والإعادة تأليف فقط، ولا شك أن أمرا واحدا أهون من الأمرين ولا يلزم منه أن يكون في الأمرين صعوبة فإن من قال: الرجل القوي يقدر على حمل شعيرة من غير صعوبة وسلم السامع له ذلك فإذا قال فلان لا يتعب من حمل خردلة وإن حمل خردلة أهون عليه.
كان كلاما معقولا وقد أجرى الزجاج قوله وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ مجرى المثل فيما يصعب ويسهل. وفسر به قوله وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى يعني هذا مثل مضروب لكم في الأرض وله المثل الأعلى من هذا المثل ومن كل مثل يضرب في السموات فيما بين الملائكة. وعن ابن عباس: أراد أن فعله وإن شبهه بفعلكم ومثله به لكنه ليس كمثله شيء فله المثل الأعلى وقال جار الله: المثل الوصف أي له الوصف الأعلى الذي ليس لغيره مثله قد عرف به ووصف في السموات والأرض على ألسنة الخلائق وألسنة الدلائل، وهو أنه القادر الذي يقدر على الخلق والإعادة، العليم الذي لا يعزب عن علمه شيء فلا يصعب عليه جمع الأجزاء بعد تفرّقها على الوجه الذي يقتضيه التدبير ولهذا ختم الآية بقوله: وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وعن مجاهد: المثل الأعلى وصفه بالوحدانية وهو قوله «لا إله إلا الله» وقد ضرب لذلك مثلا. ومعنى مِنْ أَنْفُسِكُمْ أنه أخذ مثلا وانتزعه من أقرب شيء منكم وهي أنفسكم و «من» للابتداء وفي قوله مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ للتبعيض، والثالثة مزيدة لتأكيد الاستفهام الجاري مجرى النفي. والمعنى هل ترضون لأنفسكم أن يكون لكم شركاء من بعض عبيدكم يشاركونكم فيما رزقناكم من الأموال والأملاك فَأَنْتُمْ يعني بسبب ذلك أنتم أيها السادات والعبيد في ذلك المرزوق سَواءٌ من غير تفضيل وففضل للأحرار على العبيد تَخافُونَهُمْ أن تستبدوا بتصرف دونهم كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ أي كما يهاب بعضكم بعضا من الأحرار.
والحاصل أن من يكون له مملوك لا يكون شريكا له في ماله ولا يكون له حرمة كحرمة سيده فكيف يجوز أن يكون عباد الله شركاء له أو شفعاء عنده بغير إذنه؟ وكيف يجوز أن يكون لهم عظمة مثل عظمة الله حتى يعبدوا كعبادته على أن مملوككم ليس مملوكا لكم في الحقيقة ليس إلا اختصاص المبايعة، ولهذا لا حكم لهم عليهم بالقتل والقطع وبالمنع من الفرائض وقضاء الحاجة والنوم. وقد يزول الاختصاص بالبيع والعتق ومملوك الله لا خروج له من ملكه بوجه من الوجوه وفي قوله فِي ما رَزَقْناكُمْ إشارة إلى أن الذي هو لكم ليس في الحقيقة لكم وإنما الله استخلفكم فيه ورزقكموه من فضله كَذلِكَ أي مثل هذا التفصيل والتبعيد للتعظيم أو لدخوله في حيز الذكر أو المضي نُفَصِّلُ الْآياتِ نبينها لِقَوْمٍ
410
يَعْقِلُونَ
لأن التمثيل إنما يكشف المعاني لأرباب العقول.
ثم شوه صورة الشرك بقوله بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أي أشركوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فهوى العالم ربما يتبدل بالهدى وأما الجاهل فإنه هائم في هواه كالبهائم لا يرجى ارعواه يؤكده قوله فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ والإضلال هاهنا لا يخفى أن الأشاعرة يحملونه على خلق الضلال في المكلف، والمعتزلة يحملونه على الخذلان ومنع الألطاف وقد تقدم مرارا. ثم قال لرسوله ولأمته تبعية إذا تبين الحق وظهرت الوحدانية فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ أي سدده نحوه غير مائل إلى غيره من الأديان الباطلة فِطْرَتَ اللَّهِ أي الزموها أو عليكم بها. قال جار الله: إنما أضمرته على خطاب الجماعة لقوله مُنِيبِينَ وهو حال منهم ولأن الأمر والنهي بعده معطوفان عليه لكنك قد عرفت في الوقوف أن هذا التقدير غير لازم وعلى ذلك يحتمل أن يقدر الزم أو عليك أو أخص أو أريد وأشباه ذلك.
وفطرة الله هي التوحيد الذي تشهد به العقول السليمة والنظر الصحيح كما
جاء في الحديث النبوي «كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه هما اللذان يهودانه وينصرانه» «١».
ويحتمل أن تكون الفطرة إشارة إلى أخذ الميثاق من الذر. وقوله لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ نفي في معنى النهي أي لا تبدلوا خلقه الذي فطركم عليه لكن الإيمان الفطري غير كاف.
وقيل: هو تسلية للنبي ﷺ حيث لم يؤمن قومه فكأنه قال: إنهم أشقياء ومن كتب شقيا لم يسعد. وقيل: أراد أن الخلق لا خروج لهم عن عبوديته بخلاف مماليك الإنسان فإنهم قد يخرجون من أيديهم بالبيع والعتق. وفيه فساد قول من زعم أن العبادة لتحصيل الكمال فإذا كمل العبد لم يبق عليه تكليف، وفساد قول الصابئة وبعض أهل الشك أن الناقص لا يصلح لعبادة الله وإنما الإنسان عبد الكواكب والكواكب عبيد الله، وفساد قول النصارى والحلولية أن الله يحل في بعض الأشخاص كعيسى وغيره فيصير إلها. ومعنى فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً قد مر في آخر «الأنعام» وأنهم فرق كل واحدة تشايع إمامها الذي أضلها وقال أهل التحقيق: بعضهم يعبد الدنيا وبعضهم يعبد الهوى وبعضهم يريد الجنة وبعضهم يطلب الخلاص من النار. ومعنى كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ قد مر في «المؤمنين» وجوز جار الله أن يكون مِنَ الَّذِينَ منقطعا عما قبله وكُلُّ حِزْبٍ مبتدأ وفَرِحُونَ صفة كل ومعناه من المفارقين دينهم كل حزب بصفة كذا والله أعلم.
(١) رواه البخاري في كتاب الجنائز باب ٨٠. كتاب تفسير سورة ٣٠ باب ١. مسلم في كتاب القدر حديث ٢٢، ٢٣، ٢٤، أحمد في مسنده (٢/ ٣١٥، ٣٤٦).
411
التأويل:
الألف ألفة طبع المؤمنين، واللام لوم طبيعة الكافرين، والميم مغفرة رب العالمين، فمن الألفة أحبوا أهل الكتاب، ومن اللوم أبغضهم الكافرون، ومغفرة رب العالمين شملت الفريقين حتى قال إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً [الزمر: ٥٣] إلا أن يكون هناك مخصص. ثم أشار إلى أن حال أهل الطلب يتغير بتغير الأوقات فيغلب فارس النفس روم القلب تارة وسيغلب روم القلب فارس النفس بتأييد الله ونصره فِي بِضْعِ سِنِينَ من أيام الطلب وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ وهم الروح والسر والعقل. أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي استعداد أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ الروحانية وَالْأَرْضَ النفسانية إلا ليكون مظهرا للحق ولأجل مسمى بالصبر والثبات في تصفية مرآة القلوب عن صدا الأوصاف الذميمة النفسانية. والأجل المسمى هو أوان صفاء القلب متوجها إلى الحق أَوَلَمْ يَسِيرُوا في أرض البشرية بالسلوك لتبديل الأخلاق والَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ هم الفلاسفة والبراهمة المعتمدون على مجرد البراهين من غير اعتبار الشرائع. والسوأى هي أن صاروا أئمة الكفر والضلال. اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ بتصيير النفس متعلقة بالقالب ثُمَّ يُعِيدُهُ بطريق السير والسلوك والعبور عن المنازل والمقامات إلى عالم الأرواح ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ بجذبة ارْجِعِي [الفجر: ٢٨] وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ الإرادة يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ بتضييع الأوقات في طلب ما سوى الله. ويوم تقوم الساعة قيامة العشق يومئذ تتفرق المحبون، فبعضهم يطلب الجنة، وبعضهم يطلب الوصلة، وبعضهم يريد الوحدة فَسُبْحانَ اللَّهِ حين تغلبون على ليل نيل الشهوات وحين صباح نهار تجلي شموس الوصال، وله الحمد إن كنتم في سموات القربات أو أرض البعد والغفلات، وسبحانه في عشاء غشاء القساوة وفي حالة استواء شمس المعرفة في وسط سماء القلب، فإن الربح الخسران في كلتا الحالتين راجع إلى الطائفتين والله منزه عن العالمين. يخرج القلب الحي بنور الله من النفس الميتة في ظلمات صفاتها إبرازا للطفه، ويخرج القلب الميت عن الأخلاق الحميدة من النفس الحية بالصفات الحيوانية، إظهارا لقهره، ويحيي أرض القلوب بعد موتها وكذلك تخرجون بدأ وإعادة. فمن آياته خلق سموات القلوب وأرض النفوس، واختلاف ألسنة القلوب وألسنة النفوس، فلسان القلب يتكلم بلغة العلويات، ولسان النفس يتكلم بلغات السفليات واختلاف أَلْوانِكُمْ وهي الطبائع المختلفة. منكم من يريد الدنيا، ومنكم من يريد الآخرة ومنكم من يريد الله وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ في ليل البشرية وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ في نهار الروحانية والمكاشفات الربانية لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ كلام الله من شجرة الوجود، ويريكم بروق شواهد الحق ثم اللوامع ثم الطوالع. فتلك الأنوار ترى شهوات الدنيا نيرانا فيخاف منها، وترى مكاره التكاليف جنانا فيطمع فيها. أن تقوم سماء النفس وأرض القلب بأمره لأن
412
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢ ﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪ ﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵ ﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆ ﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗ ﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪ ﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣ ﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼ ﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟ ﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱ ﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼ ﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉ ﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛ ﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯ ﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮ ﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹ ﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙ ﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥ ﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵ ﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑ ﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟ ﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖ ﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠ ﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵ ﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾ ﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊ
الروح من أمره ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ بجذبة ارْجِعِي [الفجر: ٢٨] إِذا أَنْتُمْ يعني النفس والقلب والروح تَخْرُجُونَ من أنانية وجودكم وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ لأنه في البداية كان مباشرا بنفسه وفي الإعادة يكون المباشر إسرافيل بنفخه، والمباشرة بنفس الغير في العمل أهون من المباشرة بنفسه عند نظر الخلق. ويحتمل أن يكون أهون من الهون بالضم وهو الذلة والضمير للخلق، وذلك أنهم في البداية لم يكونوا ملوثين بلوث الحدوث، ولا مدنسين بأدناس الشرك والمعاصي، فلعزتهم في البداية باشر خلقهم بنفسه، ولهونهم في الإعادة باشرهم بغيره، وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فيما أودع من الآيات في سموات الأرواح وأرض القلوب. ضَرَبَ لَكُمْ أي للروح والقلب والسر والعقل مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ من الأعضاء والجوارح والحواس والقوى فِي ما رَزَقْناكُمْ من العلوم والكشوف تَخافُونَهُمْ أن لا يضيعوا شيئا من المواهب بالتصرفات الفاسدة كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ أي كخيفة الروح من القلب أن لا يضيع شيئا منها بأن يصرفها في غير موضعها رياء وسمعة وهوى، أو كخيفة القلب من السر والعقل بأن يصرفها فيما يفسد العقائد ويوقع في الشكوك. فكما لا يصلح هؤلاء لشركتكم فكذلك لا تصلحون أنتم لشركتي إذا تجليت عليكم، فدعوى الاتحاد والحلول باطلة والكبرياء ردائي لا غير.
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ٣٣ الى ٦٠]
وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٣٣) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٤) أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (٣٥) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (٣٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣٧)
فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٣٨) وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (٣٩) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٠) ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤١) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (٤٢)
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (٤٣) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (٤٤) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٤٥) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٤٦) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧)
اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٨) وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (٤٩) فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٥٠) وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (٥١) فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٥٢)
وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٥٣) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (٥٤) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (٥٥) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٥٦) فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٥٧)
وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (٥٨) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٥٩) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (٦٠)
413
القراآت:
آتَيْتُمْ مِنْ رِباً مقصورا: ابن كثير لتربوا بضم التاء وسكون الواو على الجمع: أبو جعفر ونافع وسهل ويعقوب لنذيقهم بالنون: ابن مجاهد وأبو عون عن قنبل يرسل الريح على التوحيد: ابن كثير وحمزة وعلي وخلف كسفا بالسكون: يزيد وابن ذكوان آثارِ على الجمع: ابن عامر وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد ضَعْفٍ وما بعده بفتح الضاد: حمزة وعاصم غير للفضل. الباقون: بالضم وهو اختيار خلف وحفص لا يَنْفَعُ بياء الغيبة: حمزة وعلي وخلف وعاصم. والآخرون: بتاء التأنيث لا يَسْتَخِفَّنَّكَ بالنون الخفيفة: رويس عن يعقوب.
الوقوف:
يُشْرِكُونَ هـ لا وقد يوقف على توهم لام الأمر آتَيْناهُمْ ط للعدول إلى الخطاب وابتداء أمر التهديد فَتَمَتَّعُوا قف لاستئناف التهديد تَعْلَمُونَ هـ يُشْرِكُونَ هـ بِها ج ط فصلا بين النقيضين يَقْنَطُونَ هـ وَيَقْدِرُ ج يُؤْمِنُونَ هـ وَابْنَ السَّبِيلِ
414
ط وَجْهَ اللَّهِ ز ط الْمُفْلِحُونَ هـ عِنْدَ اللَّهِ ج ط لعطف جملتي الشرط الْمُضْعِفُونَ هـ يُحْيِيكُمْ ط شَيْءٍ ط يُشْرِكُونَ هـ يَرْجِعُونَ هـ مِنْ قَبْلُ ط مُشْرِكِينَ هـ يَصَّدَّعُونَ هـ كُفْرُهُ ج لما مر يَمْهَدُونَ هـ لا وقد يوقف على جعل اللام للقسم وحذف نون التأكيد مِنْ فَضْلِهِ هـ الْكافِرِينَ هـ تَشْكُرُونَ هـ جْرَمُوا
ط وقيل:
يوقف على قًّا
أي وكان الانتقام حقا. ثم ابتدأ علينا أي واجب عليناصْرُ الْمُؤْمِنِينَ
هـ خِلالِهِ ط ج للشرط مع الفاء يَسْتَبْشِرُونَ هـ لَمُبْلِسِينَ هـ مَوْتِها ط الْمَوْتى ج لاتفاق الجملتين مع العدول عن بيان الإحياء إلى بيان القدرة قَدِيرٌ هـ يَكْفُرُونَ هـ مُدْبِرِينَ هـ ضَلالَتِهِمْ ط مُسْلِمُونَ هـ وَشَيْبَةً ط ما يَشاءُ ج ط لاختلاف الجملتين مع اتحاد المقول الْقَدِيرُ هـ الْمُجْرِمُونَ هـ لا لأن ما بعده جواب القسم غَيْرَ ساعَةٍ ط يُؤْفَكُونَ هـ يَوْمِ الْبَعْثِ ز لاختلاف الجملتين مع اتحاد المقول لا تَعْلَمُونَ هـ يُسْتَعْتَبُونَ هـ مَثَلٍ ط مُبْطِلُونَ هـ لا يَعْلَمُونَ هـ لا يُوقِنُونَ هـ.
التفسير:
لما بين التوحيد بالدلائل وبالمثل بين أنه أمر وجداني يعرفونه في حال الضر والبلاء وإن كانوا ينكرونه في حال الرحمة والرخاء، وفي لفظي المس والإذاقة دليل على أن الإنسان قليل الصبر في حالتي الضراء والسراء. وإنما قال إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ ولم يقل «إذا هم يشركون» كما قال في آخر «العنكبوت»، لأن الكلام هناك مع أهل الشرك وهاهنا مع الناس كلهم وليس كل الناس كذلك. ثم استفهم على سبيل الإنكار قائلا أَمْ أَنْزَلْنا كأنه قال: إذا تقررت الحجج المذكورة فماذا يقولون، أيتبعون أهواءهم بغير علم أم لهم دليل على ما يقولون؟ وإسناد التكلم الى الدليل مجاز كما تقول: نطقت الحال بكذا. و «ما» في قوله بِما كانُوا مصدرية والضمير في بِهِ لله أو موصولة والضمير لها أي بالأمر الذي بسببه يشركون، ويجوز أن يكون على حذف المضاف أي ذا سلطان وهو الملك فذلك الملك يتكلم بالبرهان الذي بسببه يُشْرِكُونَ وحين ذكر الشرك الظاهر أتبعه ذكر الخفي وهو أن تكون عبادة الله للدنيا فإذا أتاه بهواه رضي، وإذا منع وتعسر سخط وقنط، والرحمة المطر والصحة والأمن وأمثالها، والسيئة أضداد ذلك. وإنما لم يذكر سبب الرحمة ليعلم أنها بفضله وذكر سبب السيئة وهو شؤم معاصيهم ليدل على عدله. والفرح بالنعمة مذموم إذا كان مع قطع النظر عن المنعم، فإذا كان مع ملاحظة المنعم فمحمود بل الفرح الكلي يجب أن يكون بالمنعم. والقنوط من رحمة الله أيضا مذموم كما مر في قوله إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ [يوسف: ٨٧] ثم أشار بقوله أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ إلى أن الكل من الله فيجب أن يكون نظر المحقق في الحالين على الله. ففي حالة
415
الرحمة يشتغل بالشكر، وفي حالة الضراء لا ينسب الله إلى عدم القدرة وإلى عدم العناية بحال العبد بل يشتغل بالتوبة والإنابة إلى أوان الفرج والنصر، وهذه مرتبة المؤمن الموحد فلذلك قال إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ولا يخفى أن بسط الرزق مما يشاهد ويرى فلذلك قال أَوَلَمْ يَرَوْا وقال في «الزمر» أَوَلَمْ يَعْلَمُوا [الآية: ٥٢] مناسبة لما قبله وهو أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ [القصص: ٧٨] وقوله وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ قال جار الله:
لما ذكر أن السيئة أصابتهم بما قدمت أيديهم أتبعه ذكر ما يجب أن يفعل وما يجب أن يترك قائلا فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ الآية. وأقول: لما بين كيفية التعظيم لأمر الله أشار إلى الشفقة على خلق الله قائلا فَآتِ أيها المكلف أو النبي والأمة يتبعونه لا محالة كما مر في قوله فَأَقِمْ وَجْهَكَ [الروم: ٣٠] وفيه أن الله إذا بسط الرزق فلا ينقص بالإنفاق، وإذا ضيق لم يزدد بالإمساك، فينبغي أن لا يتوقف الإنسان في الإحسان. وفي تخصيص الأصناف الثلاثة بالذكر دلالة على أنهم أولى بالإشفاق عليهم من سائر الأصناف. وإنما قال ذَا الْقُرْبى ولم يقل «القريب» ليكون نصا في معناه ولا يشتبه بالقرب المكاني، وفيه أن القرابة أمر له دوام بخلاف المسكنة وكونه من أبناء السبيل. وفي قوله فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ دون أن يقول «فآت هذه الأصناف حقوقهم» تشريف لذوي القرابة حيث جعل الصنفين الآخرين تابعا لهم على الإطلاق. فإنه إذا قال الملك: خل فلانا يدخل وفلانا أيضا كان أدخل في التعظيم من أن يقول: خل فلانا وفلانا يدخلان ذلِكَ الإيتاء خَيْرٌ في نفسه أو خير من المنع لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ أي ذاته أو جهة قربته فإن من أنفق ألوفا رياء وسمعة لم ينل درجة من أنفق رغيفا لوجه الله وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ كقوله في أول «البقرة» لأن قوله فَأَقِمْ وَجْهَكَ [الروم: ٣٠] اشارة إلى الإيمان بالغيب وغيره أو إلى إقامة الصلاة، وقوله وَآتِ ذَا الْقُرْبى أمر بالزكاة بل بالصدقة المطلقة. وفي قوله يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ إشارة إلى الاعتراف بالمعاد. ثم أراد أن يعظم شأن الصدقة فضم إلى ذلك تقبيح أمر الربا استطرادا.
فمن قرأ ممدودا فظاهر، ومن قرأ مقصورا فهو من الإتيان أي وما غشيتموه أو أصبتموه من إعطاء ربا ليربو أي ليزيد في أموال أكلة الربا، وفي القراءة الأخرى ليزيد في أموالهم فَلا يَرْبُوا فلا يزكو ولا ينمو عِنْدَ اللَّهِ لأنه يمحق بركتها نظيره ما مر في آخر البقرة يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ [الآية: ٢٧٦] قيل: نزلت في ثقيف وكانوا يرابون. وقيل: نزلت في الهبة أو الإهداء لأجل عوض زائد، فبين الله تعالى أن ذلك لا يوجب الثواب عند الله وإن كان مباحا.
وفي الحديث «الجانب المستغزر يثاب عن هبته»
أي الرجل الغريب إذا أهدى شيئا فإنه ينبغي أن يزاد في عوضه. قال جار الله: في قوله فَأُولئِكَ التفات حسن كأنه قال ذلك لخواصه ولملائكته وهو أمدح لهم من أن يقول «فأنتم المضعفون» أي ذوو الإضعاف
416
من الحسنات نظيره المقوي والموسر لذوي القوة واليسار، والرابط محذوف أي هم المضعفون به. وجوز في الكشاف أن يراد فمؤتوه أولئك هم المضعفون. قالت العلماء:
أراد الإضعاف في الثواب لا في المقدار، فليس من أعطى رغيفا فإن الله يعطيه عشرة أرغفة، وإنما المراد أن الرغيف الواحد لو اقتضى أن يكون ثوابه قصرا في الجنة فإن الله تعالى يعطيه عشرة قصور تفضلا.
ثم عاد إلى بيان التوحيد مرة أخرى بتذكير الخلق والرزق والإماتة والإحياء بعدها نظرا إلى الدلائل، ثم طلب منهم الإنصاف بقوله هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ قال جار الله: «من» الأولى والثانية والثالثة كل واحدة منهن مستقلة بتأكيد لتعجيز شركائهم وتجهيل عبدتهم. قلت: الأولى للتبعيض كأنه أقام فعل البعض مقام فعل الكل توسعة على الخصم، والثالثة لتأكيد الاستفهام، والمتوسطة للابتداء ولكنه يفيد أنه رضي منهم بشيء واحد من تلك الأشياء للتوسعة المذكورة أيضا. ثم بين أن الشرك وسائر المعاصي سبب ظهور الفساد في البر والبحر وذلك لقلة المنافع وكثرة المضار ومحق البركات من كل شي. وفسره ابن عباس بإجداب البر وانقطاع مادة البحر وتموجه بمائه، وعن الحسن:
المراد بالبحر مدن البحر وقراه التي على سواحله، وقال عكرمة: العرب تسمي الأمصار بحارا لِنُذِيقَهُمْ وبال بعض أعمالهم في الدنيا قبل أن نعاقبهم بجميعها في الآخرة إرادة أن يرجعوا عما هم عليه، وجوز جار الله أن يراد ظهر الشر والمعاصي في الأرض برا وبحرا بكسب الناس. وعلى هذا فاللام في قوله لِنُذِيقَهُمْ لام العاقبة. ثم أمرهم بالنظر في حال أشكالهم الذين كانت أفعالهم كأفعالهم كقوم نوح وعاد وثمود كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ فيه إشارة إلى أن بعضهم كانوا مرتكبي ما دون الشرك من المعاصي ولكنهم شاركوا المشركين في الهلاك تغليظا عليهم. أو هو كقوله وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال: ٢٥] أو المراد أن أهل الشرك كانوا أكثر من أهل سائر الأديان الباطلة كالمعطلة والمجسمة ونحوهم. خاطب نبيه وبتبعيته أمته بقوله فَأَقِمْ كأنه قال: وإذ قد ظهر فساد سائر الملل والنحل فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ البليغ الاستقامة مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ من الله يَوْمٌ لا يرده راد. ويجوز أن يتعلق قوله مِنَ اللَّهِ بقوله لا مَرَدَّ أي لا راد له من جهة الله فلا يقدر غيره على رده فلا دافع له أصلا يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ أي يتصدعون والتصدع التفرق. ثم بين وجه تفرق الناس بقوله مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ أي وبال كفره عليه لا على غيره وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً أي آمن وعمل صالحا لأن العمل الصالح لا يتصور إلا بعد الإيمان، على أن الإيمان، أيضا عمل صالح قلبي ولساني وسيصرح به في قوله لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
417
الصَّالِحاتِ
ومعنى يَمْهَدُونَ يوطؤن كما يسوّي الراقد مضجعه، وجوز جار الله أن يراد فعلى أنفسهم يشفقون من قولهم: في المشفق أم فرشت فأنامت. وذلك أن الإشفاق يلزمه التمهيد عرفا وعادة. ثم بين غاية التمهيد بقوله لِيَجْزِيَ وقوله مِنْ فَضْلِهِ عند أهل السنة ظاهر: وحمله المعتزلة على شبه الكناية لأن الفضل تبع للثواب فلا يكون إلا بعد حصول ما هو تبع له، أو الفضل بمعنى العطاء والثواب. وفي قوله إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ وعيد عظيم لهم لأنه إذا لم يحبهم أرحم الراحمين فلا يتصور لهم خلاص من عذابه ولا مناص ولا رحمة من جهته ولا نعمة، وفيه تعريض بأنه يحب المؤمنين ولا وعد أعظم من هذا ولا شرف فوق ذلك. قال جار الله: تكرير الذين آمنوا وعملوا الصالحات وترك الضمير إلى الصريح لتقرير أنه لا يفلح عنده إلا المؤمن الصالح. وقوله إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ تقرير بعد تقرير على الطرد والعكس. قلت: يشبه أن يكون مراده أنه ذكر الكافر أولا ثم المؤمن، وفي الآية الثانية قرر أولا أمر المؤمن ثم أردفه بتقرير أمر الكافر. أو أراد أن قوله لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ دل بصريحه على ثواب المؤمن وبتعريضه على حرمان الكافر، وقوله إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ دل بصريحه على حرمان الكافر وبتعريضه على ثواب المؤمن. فالأول طرد والثاني عكس وكل منهما مقرر للآخر. وحين ذكر ظهور الفساد والهلاك بسبب الشرك ذكر ظهور الصلاح وبين أنه من دلائل الوحدانية بقوله وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ ولم يذكر أنه بسبب العمل الصالح لما مر من أن الكريم لا يذكر، لإحسانه سببا ويذكر لأضراره سببا. ومن قرأ على التوحيد فللدلالة على الجنس، ومن قرأ على الجمع فإما لأنه أراد الجنوب والشمال والصبا وهي رياح الرحمة دون الدبور التي هي للعذاب، وإما لأن أكثر الرياح نافعة والضارة كالسموم قليلة جدا لا تهب إلا حينا، وإما لأن الرياح إذا اجتمعت وتزاحمت وتراكمت حتى صارت ريحا واحدا أضرت بالأشجار والأبنية وقلعتها وإذا تفرقت وصارت رياحا اعتدلت ونفعت. قوله مُبَشِّراتٍ أي بالمطر كقوله بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ [الأعراف: ٥٧] وقيل: أي بتصحيح الأهوية وإصلاح الأبدان.
وقوله وَلِيُذِيقَكُمْ إما معطوف على ما قبله معنى كأنه قيل: ليبشركم وليذيقكم بعض رحمته لأن راحات الدنيا زائلة لا محالة، وإما معطوف على محذوف أي وليكون كذا وكذا أرسلناها. وفي قوله بِأَمْرِهِ إشارة إلى أن مجرد هبوب الريح لا يكفي في جريان الفلك ولكنها تجري بإذن الله وجعله الريح على اعتدال وقوام. وفي قوله وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ دلالة على أن ركوب البحر لأجل التجارة جائز. وفي قوله وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ إشارة إلى أن نعم الله تعالى يجب أن تقابل بالشكر. وإنما بنى الكلام في هذه الآية على الخطاب بخلاف
418
قوله لنذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون تشريفا لأهل الرحمة، ورحمة الله قريب من المحسنين فكان من حقهم أن يخاطبوا ثم أشار إلى أصل النبوة مع تسلية النبي ﷺ بقوله لَقَدْ أَرْسَلْنا
واختصر الكلام فدل بذكر عاقبة الفريقين المجرم والمؤمن عليهما، فعاقبة المجرمين الذين لم يصدّقوا رسلهم الانتقام منهم، وعاقبة الذين صدّقوهم النصر والظفر على الأعداء. وفي قوله قًّا عَلَيْنا
تعظيم لأهل الإيمان ورفع في شأنهم وإلا فلا يجب لأحد على الله شيء. ثم أراد أن يشير إلى الأصل الثالث وهو المعاد فمهد لذلك مقدمة منتزعة مما تقدم ذكره وهو بيان إرسال الرياح لأجل إحداث السحاب الماطر المبسوطة بعضها على الاتصال والمتفرق بعضها كسفا أي قطعا. وقوله فَتَرَى الْوَدْقَ أي المطر يخرج من خلاله قد مر في النور. ثم ذكر في ضمن ذلك عجز الإنسان وقلة ثباته وتوكله وقوله مِنْ قَبْلِهِ مكرر للتأكيد ومعناه الدلالة على أن عهدهم بالمطر تطاول فاستحكم بأسهم وتحقق إبلاسهم. وقيل: أراد أنهم من قبل نزول المطر، أو من قبل ما ذكرنا من إرسال الريح وبسط السحاب كانوا مبلسين، وذلك أن عند رؤية السحب وهبوب الرياح قد يرجى المطر فلا يتحقق الإبلاس. ثم صرح بالمقصود قائلا إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من الإبداء والإعادة قَدِيرٌ.
ثم أكد تزلزل الإنسان وتذبذبه وأنه بأدنى سبب يكفر بنعمة الله فقال وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً ضارة باردة أو حارة فَرَأَوْهُ أي رأوا أثر الرحمة وهو النبات. ومن قرأ آثار فالضمير عائد إلى المعنى لأن آثار الرحمة النبات أيضا واسم النبات يقع على القليل والكثير، وإنما قال مُصْفَرًّا ولم يقل «أصفر» لأن تلك الصفرة حادثة. وقيل: فرأوا السحاب مصفرا لأنه إذا كان كذلك لم يمطر. ثم زاد في تسلية رسوله بقوله فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى إلى قوله فَهُمْ مُسْلِمُونَ وقد مر في آخر النمل. ثم أعاد من دلائل التوحيد دليلا آخر من الأنفس وهو خلق الآدمي وذكر أحواله وأطواره وتقلبه من ضعف الطفولية إلى قوة الشباب والكهولة ومنها إلى ضعف الهرم. وفي قوله خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ إشارة إلى أن أساس أمر الإنسان الضعف كقوله خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ [الأنبياء: ٣٧] وقيل: من ضعف أي من نطفة.
وهذا الترديد في الأطوار المختلفة أظهر دليل على وجود الصانع العليم القدير. وقوله يَخْلُقُ ما يَشاءُ كقوله في دليل الآفاق فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ [الروم: ٤٨] والكل إشارة إلى بطلان القول بالطبيعة المستقلة. ثم عاد إلى ذكر المعاد وأحوال القيامة، وذكر أن الكفار يستقصرون مدة لبثهم في الدنيا أو في القبور أو فيما بين فناء الدنيا إلى البعث، وأن أهل العلم والإيمان وهم الملائكة والأنبياء وغيرهم حالهم بالعكس. وذلك أن
419
الموعود بوعد إذا ضرب له أجل يستكثر الأجل ويريد تعجيله، والموعود بوعيد إذا ضرب له أجل يستقل المدة ويريد تأخيرها. ومعنى يُؤْفَكُونَ يصرفون عن الصدق والتحقيق أي هكذا كان أمرهم في الدنيا مبينا على الظن الكاذب وكانوا يصرون بمثله. ويحتمل أن يكونوا ناسين أو كاذبين. ومعنى في كتاب الله في اللوح المحفوظ أو في علمه وقضائه، أو فيما كتب وأوجب. وفيه رد قول الكفار وإطلاع لهم على مصدوقية الحال. قال جار الله:
في الحديث «ما بين فناء الدنيا إلى وقت البعث أربعون»
قالوا: لا نعلم أهي أربعون سنة أو أربعون ألف سنة. وذلك وقت يفنون فيه وينقطع عذابهم. والفاء في قوله فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ جواب شرط يدل عليه الكلام كأنه قيل: إن كنتم منكرين البعث فهذا يوم البعث وبه تبين بطلان قولكم وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ أنه حق. ثم بين أن ذلك اليوم لا يقبل فيه عذر من أهل الشرك وسائر أنواع الظلم وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ أي لا يطلب منهم الرضا فلا يقال لهم أرضوا ربكم بتوبة وطاعة، وقد مر في «النحل». ثم بين أن القرآن مشحون بقصص وأخبار كلها كالمثل في غرابتها وحسن مواقعها، وأن الرسول مهما جاءهم بدليل أنكروه لأن الذي اجترأ على العناد في دليل واحد، الأغلب أن يتجرأ على أمثاله وهذا نتيجة الطبع والخذلان، فلا علاج في مثل هذه القضية إلا بالصبر وتحمل أعباء الرسالة إلى إنجاز وعد الله بالنصرة وإعلاء الدين. ومعنى لا يَسْتَخِفَّنَّكَ لا يحملنك على الخفة والقلق قوم شاكون فأمثال هذه الأفعال والأقوال لا تستبعد من أهل الريب والضلال أمر أن لا يضجر ويشتغل بالدعاء إلى الحق حتى يأتي أوان النصر والظفر والله المستعان.
420
Icon