تفسير سورة ص

أحكام القرآن
تفسير سورة سورة ص من كتاب أحكام القرآن .
لمؤلفه ابن الفرس . المتوفي سنة 595 هـ
وهي مكية. وروي أن ابن المسيب كان لا يدع كل ليلة قراءتها وسئل عن ذلك فقال : بلغني أنه ما من عبد يقرأها كل ليلة إلا اهتز له العرش. وفيها مواضع من الأحكام والنسخ.

قوله تعالى :﴿ اصبر على ما يقولون ﴾ : في هذه الآية مهادنة وهي منسوخة بما نزل في المدينة من الأمر بالقتال.
قوله تعالى :﴿ يسبحن بالعشي والإشراق ﴾ : تأول ابن عباس قوله تعالى :﴿ والإشراق ﴾ على صلاة الضحى. روي عنه أنه قال لم يزل في نفسي من صلاة الضحى شيء حتى قرأت :﴿ إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق ﴾. وعلى صلاة الضحى أيضا تأول ابن عباس قول الله تعالى :﴿ في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال ﴾ [ النور : ٣٦ ]. وذكر المحققون الذين يرون تبرئة الأنبياء صلوات الله تعالى عليهم عن الكبائر أن داود عليه السلام كان قد قدم على خطبة امرأة قد خطبها غيره ويقال هو أوريا فمال قوم المرأة إلى داود، ولم يكن داود بذلك عالما ولكن قد كان يمكنه أن يعرف ذلك. وقد كان لداود عليه السلام عدد من النساء وذلك الخاطب قبله لا امرأة له فنبه الله تعالى داود على ما فعل بما ذكر من تسور الملكين وتعريضهما له بأمر النكاح لفهم قدر ما فعل، فيعدل عن ذلك ويستغفر ربه من هذه الصغيرة ففي هذا دليل على جواز الصغائر على الأنبياء، وفيه تلطف في رد الإنسان عن مكروه صنعه وأن لا يؤخذ بعنف ما أمكن. وفيه جواز المعاريض من القول. وقد استدل بعضهم على جواز قضاء القاضي في المسجد خلافا لمن كرهه. ويؤيد دليل الآية فعل النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء في القضاء فيه.
قوله تعالى :﴿ وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب ﴾ : ذكر المفسرون أن ظن داود واستغفاره ومغفرة الله تعالى له لأجل أنه رأى امرأة فأعجبته فأخرج زوجها في الغزو فقتل فتزوجها. وقال بعضهم لم يتزوجها ولكنه سأله أن ينزل له عنها. وهذا على قول من يجوز على الأنبياء الكبائر. وذهب بعض العلماء إلى أن الآية على ظاهرها في النكاح حقيقة وأن داود ظن أنه آتاه الله من الملك فلذلك استغفر وغفر له.
قوله تعالى :﴿ وخر راكعا وأناب ﴾ : لم ير الشافعي في هذا الموضع سجدة خلافا لمالك رحمه الله تعالى فقال بعضهم لعل الشافعي لم ير ذلك لأجل أنها شريعة من قبلنا أو لأنها توبة نبي فليس فيها دلالة على الأمر بالسجود لنا. وهذا كله ضعيف. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سجد فيها.
قوله تعالى :﴿ يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ﴾ : استدل بعض الناس بهذه الآية على احتياج الأرض إلى خليفة من الله تعالى. وليس ذلك بلازم من الآية.
قوله تعالى :﴿ فطفق مسحا بالسوق والأعناق ﴾ :
اختلف في المسح في هذه الآية ما هو، فقيل مسحها بيده تكريما لها ومحبة كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بفرسه، وهو قول ابن عباس وغيره. وقيل أراد بالمسح هنا الغسل بالماء. وقيل كان وسما في السوق، والأعناق بوسم حبس في سبيل الله. وقيل إن المسح هنا بمعنى القطع، وقيل إنه قطع سوقها وأعناقها. وقال بعضهم قتلها حتى لم يبق منها أكثر من مائة فرس فمن نسل تلك المائة كل ما يوجد اليوم من الخيل. والذين ذهبوا إلى هذا اختلفوا لم فعل ذلك بها ؟ فقيل لمجاعة كانت بالناس فعقرها لهم ليأكلوها وكان لحوم الخيل لهم إذ ذاك حلالا. قال بعضهم وقد ذبحت الصحابة فرسا وأكلوه، رواه مسلم عن جابر. وقيل بل فعل ذلك عقابا للبهائم من أجل أنها شغلته عن صلاة العشي وهي صلاة العصر حتى غابت الشمس. فعلى هذا القول يكون هذا الأمر الذي كان منهاجا له صلى الله عليه وسلم منسوخا في شريعتنا لأنه لا يجوز عندنا معاقبة البهائم. قال بعضهم : فإن قيل العرقبة تعذيب وذلك لا يجوز، قلنا بل ذلك جائز في شريعتنا إذا أراد أن لا يمكن أحدا من الانتفاع. وقد قال الحسن : قطع سوقها وأعناقها فعوضه الله تعالى خيرا منها الريح تجري بأمره رخاء حيث أصابه. فهذه شريعة بائنة منعها الله تعالى في شرعنا بما ثبت من النهي عن قتل البهائم صيدا وعن إفساد المال وإن فتن. وهذا الحديث في النهي عن قتل البهائم فيما اجتمعت الأمة على معناه فجاز نسخ القرآن به.
قوله تعالى :﴿ وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث ﴾ : روي أن أيوب عليه السلام لما مرض كانت زوجته تختلف إليه مدة مرضه فيلقاها الشيطان – في صورة طبيب مرة وفي صورة ناصح مرة أخرى وعلى غير ذلك – فيقول لها : لو سجد هذا المريض للصنم الفلاني لبرئ. لو ذبح عناقا للصنم الفلاني لبرئ، ويعرض عليها وجوها من الكفر فكانت هي ربما عرضت ذلك على أيوب، فيقول لها : لقيت عدو الله في طريقك. فلما أغضبته بهذا ونحوه حلف لئن برئ ليضربنها مائة سوط. فلما برئ أمره الله تعالى أن يأخذ ضغثا فيه مائة قضيب، والضغث القبضة الكبيرة من القضبان ونحوها من الشكيس الرطب فيضرب بها ضربة واحدة فيبر به يمينه. وهذا الحكم قد ورد مثله في شرعنا عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في رجل عليه حد زنا وكان زمنا فأمر صلى الله عليه وسلم أن يضرب بعذق نخلة فيها شماريخ مائة فيضرب بها ضربة.
واختلف الناس هل هذا الحكم باق لم ينسخ ؟ فذهب جماعة إلى أنه حكم باق محكم وأن من حلف ليضربن عبده مائة سوط يبر بجمعها وضربه بها ضربة واحدة، وإلى هذا ذهب الشافعي، وهو قول أبي حنيفة ومحمد وزفر وعطاء وذهب أكثر العلماء إلى ترك القول به، وهو قول مالك وأصحابه. إلا أن الذين ذهبوا إلى ذلك اختلفوا هل ذلك منسوخ بشريعتنا أم لا ؟ فذهب قوم إلى أنه منسوخ في شريعتنا وأن الحدود والبر في الأيمان لا يقع إلا بإتمام عدد الضربات. قال بعضهم : والناسخ لذلك من شريعتنا قوله تعالى :﴿ الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ﴾ [ النور : ٢ ] والذي يجلد بالضغث جلدة واحدة لم يجلد مائة جلدة وإنما جلد جلدة واحدة، وكتاب الله أولى أن يقتدى به. وذهب بعضهم إلى أنه كان ذلك الحكم خاصا بأيوب عليه السلام لا يشاركه فيه غيره. فعلى هذا لا يتصور في الآية نسخ، وهذا مذهب مالك رحمه الله تعالى وقال أبو بكر بن العربي لما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إنما الأعمال بالنيات " ركب مالك رحمه الله تعالى عليها اليمين فاعتبر فيها النية أيضا، ولعل أيوب عليه السلام اقتضت يمينه ما أمر به من جمع الضغث. والذي أراه أن يمينه على أية صفة تصورت فإن الحالف يبر بجمع مائة سوط والضرب بها مرة واحدة. والأيمان إنما يراع فيها الأرفق بالناس ولا يؤخذ فيها بالتغليظ لما فيه من التنفير عن الدين والوقوع في المحظور وذلك قوي جدا في الأيمان التي أخذ بها الناس. وقد قال مالك إمام الأئمة في قوله الحلال عليه حرام أنه إن حاشى زوجته بقلبه لم يلزمه فيها حنث وليس يبقى تحت اليمين بعدها شيء. فإن سائر الأعيان المحرمة – غير الزوجة – لا يحرم شيء منها بهذه اليمين. فيبقى اليمين لغوا وتكون نيته في استثناء الزوج بقلبه رفعا لليمين.
وفي الآية أيضا دليل على أن للرجل أن يضرب زوجته وأن له أن يحلف ولا يستثني.
Icon