تفسير سورة الجاثية

التفسير القرآني للقرآن
تفسير سورة سورة الجاثية من كتاب التفسير القرآني للقرآن المعروف بـالتفسير القرآني للقرآن .
لمؤلفه عبد الكريم يونس الخطيب . المتوفي سنة 1390 هـ

بسم الله الرحمن الرّحيم

الآيات: (١- ٥) [سورة الجاثية (٤٥) : الآيات ١ الى ٥]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (٣) وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٤)
وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٥)
التفسير:
قوله تعالى:
«حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ».
مضى تفسير «حم» فى مطلع أكثر من سورة من الحواميم.. وقد جاء بدء سورة غافر، هكذا:
«حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ».
والاختلاف بين مطلع السورتين، فى وصف الله سبحانه وتعالى هنا بالحكمة بعد العزة، على حين جاء الوصف فى سورة غافر، بالعلم بعد العزة..
وهذا الاختلاف يقتضيه المقام هنا وهناك.. ففى سورة غافر، كان العلم مطلوبا للكشف عما يدور فى نفوس المشركين من هواجس، وما يبّيتون من مكر..
220
وهنا الحكمة مطلوبة، حيث تعرض الآيات القرآنية مشاهد من هذا الوجود فى أرضه وسمائه،.. وكل مشهد منها تتجلّى فيه الحكمة الإلهية التي أبدعت هذا الوجود وأقامته على أكمل نظام وأروعه..
قوله تعالى:
«إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ»..
هو عرض عام للوجود كله، فى السموات والأرض.. ففى كل نظرة ينظر بها المؤمن فى هذا الوجود، يرى آيات دالة على قدرة الله، وعلمه، وحكمته..
فالكون كله- فى نظر المؤمن بالله- هو كتاب مفتوح، يقرأ فى صفحاته آيات تحدث عن جلال الله، وعظمته، وكماله..
وفى كل شىء له آية... تدلّ على أنه الواحد
أما غير المؤمن فلا يرى فيما يرى من هذا الوجود، إلا أشباحا تتحرك، وكائنات تظهر وتختفى.. وقد ينبهر بما يرى، ويفتن بما يملأ عينيه من جمال، ولكنه يظل حيث هو فى تعامله مع كائنات الوجود وعوالمه، دون أن يصله شىء من هذا بخالق الكون ومبدعه! قوله تعالى:
«وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ».
وهذه نظرة فى أفق محدود من آفاق الوجود.. إنها نظرة ينظر بها الإنسان إلى نفسه.. وكيف خلق؟ ومن أين جاء؟ ثم نظرة أخرى يتجاوز بها حدود نفسه، إلى عوالم الأحياء التي تدب على الأرض وتعيش فيها. فهى عوالم كثيرة،
221
مختلفة الأشكال والصور، بعضها يعيش على اليابسة، وبعضها يعيش فى الماء، وبعضها يسبح فى الجو.. وفى كل عالم منها أجناس كثيرة لا تكاد تقع تحت حصر..
ففى هذه النظرة القائمة على حدود الإنسان وما يحيط به من كائنات حية، يرى المؤمن ما يملأ قلبه يقينا بما لله سبحانه وتعالى من حكمة، وعلم، وقدرة، حيث تصنع القدرة الإلهية من تراب هذه الأرض، تلك الكائنات المنتشرة فى كل أفق من آفاقها، والتي تملأ وجه الأرض حياة، وحركة، وجمالا..
قوله تعالى:
«وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ».
وهذه نظرة أخرى فيما وراء الحياة وصورها المختلفة، فى الإنسان والحيوان.. نظرة فى هذه الحركة الدائمة بين الليل والنهار، حيث يخلف أحدهما الآخر، كما يقول الله تعالى: «وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً» (٦٢: الفرقان).
وعلى امتداد هذه النظرة فى الليل والنهار، حيث تلبس الأرض ثوبا من ضياء بالنهار، ثم تخلعه لترتدى ثوبا أسود بالليل- على امتداد هذه النظرة، ترى السماء وقد نزل منها الغيث الذي ينزع عن الأرض ثوب الموت، ويلبسها ثوب الحياة، كما ترى الرياح التي تدفع السحب، وتسوقها إلى كل اتجاه.
فهذه النظرة تحوى فى أعماقها نظرات معطية لكثير من الدلائل والآيات الدالة على قدرة الله.. وإنها لن تتجلى إلا لأولى العقول السليمة، والمدركات
222
القوية النافذة.. الذين يتفكرون فى خلق السموات والأرض، ثم ينتهى بهم التفكير إلى الإيمان بالله، والإقرار بوحدانيته، وتفرده بالخلق والأمر..
الآيات: (٦- ١١) [سورة الجاثية (٤٥) : الآيات ٦ الى ١١]
تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ (٦) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٧) يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٨) وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٩) مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠)
هذا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (١١)
التفسير:
قوله تعالى:
«تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ».
آيات الله، هى تلك الآيات التي ذكرت من أول السورة.. وليست آيات الله محصورة فى هذه الآيات، وإنما عبّر عن هذه الآيات بما يفيد حصر آيات الله كلّها على هذا النمط العالي من الكمال والجلال، والإعجاز.. فكل آية من كتاب الله، تمثل آيات الله كلّها فى إحكامها وإعجازها.
223
وقوله تعالى: «نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ» جملة حالية من قوله تعالى:
«آياتُ اللَّهِ» أي هذه آيات الله متلوّة عليك بالحقّ الذي تحمله فى كيانها.
وفى إسناد تلاوة آيات الله على النبي، إلى الله سبحانه وتعالى، مع أن الذي يتلوها عليه هو جبريل- فى هذا تشريف للنبىّ، واحتفاء به، وتكريم له..
وحسبه- صلوات الله وسلامه عليه- من الشرف والرفعة، أن ينكشف الحجاب بينه وبين ربّه جلّ وعلا وأن يخلى جبريل مكانه بين الله سبحانه، وبين عبده محمد- صلوات الله وسلامه عليه- فلا يسمع الرسول إلّا كلمات ربّه، من ربّه وإن كان جبريل هو الذي يحملها إليه.
وقوله تعالى: «فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ» استفهام إنكارى تقريعىّ، يسفّه موقف المشركين من آيات الله، واتهامهم لها، وشكّهم فيها وتوقفهم عن الإيمان بها. فأى حديث بعد حديث الله، وأي آيات بعد آيات الله، ينتظر القوم أن يأتيهم ببيان أجلى من هذا البيان، وحجة أبلغ وأصدق من هذه الحجة، ليؤمنوا به، ويطمئنوا إليه؟.
إن الله سبحانه وتعالى هو الذي يتحدث بآياته تلك التي يتلوها الرسول عليهم.. فالله سبحانه وتعالى يتلوها على الرسول، والرسول يتلوها عليهم، ويبلغهم إياها.. ولو أنهم أحسنوا الاستماع، وفتحوا لما يسمعون آذانهم وقلوبهم، لسمعوا الحقّ جلّ وعلا، يتلو عليهم هذه الآيات التي يتلوها الرسول عليهم، ولا رتفع الحجاب بينهم وبين ربّهم.. فإن كلمات الله تأخذ طريقها مباشرة إلى القلوب المهيأة لها، المستعدّة لا ستقبالها.
قوله تعالى:
ْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ»
224
هو تهديد ووعيد بالويل والبلاء، لمن يسمع آيات الله تتلى عليه، ثم يلقاها ضائفا بها، متكرّها لها، مستعليا ومستكبرا، على الإقبال عليها، والنظر فى وجهها، فلا يأبه لما يتلى عليه منها، بل يمضى كأن لم يسمع شيئا، كان فى أذنيه صمما..
والأفاك: صيغة مبالغة من الإفك، والافتراء، وقلب الحقائق..
والأثيم: صيغة مبالغة كذلك من الإثم، وهو اقتراف المنكر، واجتراح السيئات.. وهاتان الصفتان هما الآفتان اللتان تتسلطان على أهل الزيغ والضلال، فلا يكون منهم قبول للحق، ولا تجاوب معه.. إذ كيف يجد الحق له مكانا فى نفوس لا تستمرئ إلا الإفك، ولا تستطيب إلا الإثم؟..
وقوله تعالى: «ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً».. إما أن يكون من الإصرار، وهو التمسك والتشبث بما مع المشركين من شرك.. ويكون المعنى: ثم يصر على الكفر، ويتشبث به، مستصحبا معه الكبر والاستعلاء.. وهذا مثل قوله تعالى فى قوم نوح: «وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً» (٧: نوح)..
وإما أن يكون من الصرّ، وهو تجّهم الوجه، ضيقا وتكرها.. ومنه قوله تعالى:
«فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ» (٢٩: الذاريات)..
ومنه الصّر، وهى الريح الباردة التي يجمد منها الدم فى العروق.. ومنه الصّرصر، وهى الريح العاصفة الباردة..
225
وقوله تعالى: «فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ» - هو بيان لهذا الويل، الذي توعد الله سبحانه وتعالى به كل أفاك أثيم، ذلك الذي يسمع آيات الله تتلى عليه، ثم يلقاها متكرها مستكبرا..
فالذى يساق إلى هذا الأفاك الأثيم من بشريات فى يوم القيامة، هو العذاب الأليم.. فهذا هو النعيم الذي يبشّر به، ويزفّ إليه..! فكيف إذا انتقل من هذا النعيم الجهنمّى إلى العذاب الموعود به؟.. وهذا أسلوب من الأساليب البلاغية التي تكشف عن جسامة الأمر، وفداحة الخطب، وذلك يوصفه بغير صفته.
قوله تعالى:
«وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ».
هو معطوف على تلك الأوصاف التي وصف بها الأفاك الأثيم فى الآية السابقة.. فهو لا يسمع آيات الله، ولا يعقلها، ثم إنه إذا سمع شيئا من آيات الله- عرضا- ووقع له منها بعض العلم- عفوا، من غير قصد- لم ينتفع بهذا العلم، بل يتخذ منه مادة للسخرية والاستهزاء.. لأنه لم يكن حين استمع لآيات الله يقصد استماعا، ولا يبغى علما.. ومن هنا لم يكن لما وقع له من علم، ثمر ينتفع به، أو خير يرجى منه.. بل لقد فتح له هذا العلم طريقا جديدا من طرق الضلال التي يسلكها..
وفى قوله تعالى: «أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ» بضمير الجماعة العائد على المفرد- فى هذا ما يشير إلى أن استهزاء المستهزئ، وسخرية الساخر بآيات الله، لم تكن تتحق صورتها، إلا بمشاركة ممن يستمع له، ويجرى معه فى استهزائه وسخريته، سواء أكان ذلك بمجرد الاستماع والاستحسان، أو بتجاذب حبل الحديث معه، ومدّه بمدد جديد من السخرية والاستهزاء..
226
فالسخرية والاستهزاء، لا يكون لهما وجود بعمل فردىّ، وإنما الذي يعطيهما الحياة، هو المشاركة الصامتة، أو الناطقة، ومن هنا كانت كلمة السوء فى مجلس من المجالس، مأثما يحيط بأهل المجلس جميعا، إن هم سكتوا على كلمة السوء، ولم يقم فيهم من ينكرها على صاحبها، ويكبته ويخزيه..
وفى قوله تعالى: «أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ» - وفى وصف العذاب بأنه عذاب مهين لهم، مذلّ لكبرهم- هو رد على استهزائهم بآيات الله، واستخفافهم بها..
قوله تعالى:
«مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ».
أي أن العذاب المهين، الذي سيأخذ المستهزئين بآيات الله، المستخفّين بها- هو عذاب جهنم، التي تطلع عليهم وهم فى غفلة عنها.. إنها تأنى من وراء تلك الحجب من الضلال التي حجبتهم عن اليوم الآخر، فلم يروه، ولم يعملوا على اتقائه، والفرار منه..
ثم إن فى وصف جهنم بأنها من ورائهم، وفيما يشير إليه هذا الوصف من غفلتهم عنها- تقريرا للحقيقة الواقعة، وهى أن جهنم وإن كانت أمامهم، تنتظرهم على الموعد الذي يلاقونها عنده- فإنها لا تأنى إلا بعد زمن متأخر عن يومهم هذا الذي هم فيه..
وقوله تعالى: «وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ» جملة حالية، تكشف عن تعرية القوم من كل واق يقيهم هذا العذاب الذي يمد يده لا ختطافهم، وهم فى غفلة عنه..!
227
وقد يكون الإنسان فى غفلة عن خطر يتهدده، ولكن هناك ما يحميه من هذا الخطر، ويردّه عنه، كأن يكون فى حصن قد أحكم بناءه، وأقام الحراس عليه، أو قد يكون له أولياء يخفّون لنجدته إذا دهمه خطر!.
أما هؤلاء المشركون، المكذبون بآيات الله، والمستهزءون بها، فلا شىء لهم من هذا.. فهم عن هذا الخطر فى غفلة.. ، ولا حارس يقوم على حراستهم.. والمال الذي فى أيديهم، والذي كان من شأنه أن يكون ذا غناء لهم فى هذه الشدة- قد خلت أيديهم منه.
وآلهتهم التي عبدوها من دون الله، وكان لهم متعلق بها، ورجاء فيها- قد أنكرتهم، وخلّت بينهم وبين ما حل بهم من بلاء..
فكيف يكون لهم نجاة من هذا العذاب الذي يسوقهم أمامه؟
وفى قوله تعالى: «وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ».. استكمال لصورة هذا العذاب الذي يلقاه هؤلاء المشركون.. فهو عذاب مهين، وهو مع ما يسوق إليهم من ذلة وهوان- عظيم فى وقعه، شديد فى بلائه..
قوله تعالى:
«هذا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ»..
الإشارة هنا، إلى القرآن الكريم، وإلى ما تحمل آياته الكريمة المباركة من هدى ونور.. وفى هذا دعوة لهؤلاء الضالين الذين جلسوا مجلس الاستهزاء والسخرية بآيات الله، والذين تتهددهم جهنم بعذابها وهم فى غفلة عنها- فى هذا دعوة لهم إلى أن يهتدوا بهذا الهدى الذي بين أيديهم، وأن
228
يأخذوا به طريق النجاة من النار، التي تكاد تمسك بهم من خلف.. فإن هم لم يفعلوا، فهذه جهنم، وهذا عذابها..!
والرجز: القذر، والمنكر المكروه من كل شىء..
وفى وصف العذاب بأنه مخلّق من القذر، إشارة إلى ما يساق إلى أهل النار من طعام وشراب، هو فى أصله مستقذر تعافه النفوس.. فكيف به إذا كان مع استقذاره مقتطعا من النار.
الآيات: (١٢- ١٥) [سورة الجاثية (٤٥) : الآيات ١٢ الى ١٥]
اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢) وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١٣) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١٥)
التفسير:
قوله تعالى:
«اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ»..
229
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآية السابقة عليها، أشارت إلى القرآن الكريم، ونبهت إلى أنه الهدى لكل من طلب الهدى.. ثم تهددت الآية أولئك الذين يكفرون بربّهم، ولا يقبلون على هذا الهدى الذي أنزله الله سبحانه وتعالى إليهم..
وهذه الآية، تجىء بعد هذا، لتحثّ أولئك الذين استمعوا للآية السابقة، ووقفوا موقف التدبّر والتبصر- على أن يسرعوا الخطا إلى الله، وان يستجيبوا لما يدعوهم إليه الرسول، من خير وهدى.. وإنهم إذ يتجهون إلى الله ليجدون هذه الدعوة المجدّدة إليهم، والكاشفة لهم عن جلال ربهم وعظمته وقدرته، وماله من فضل وإحسان إليهم.. فهو سبحانه، الذي سخر البحر، ومكّن الناس من أن يجعلوه طريقا ذلولا تجرى الفلك عليه، كما تجرى الدواب على اليابسة.. كل هذا بأمر الله وحكمته.. فهو سبحانه الذي قدّر بحكمته أن تطفو بعض الأجسام على الماء، حسب قانون محكم لا يتخلف أبدا.. ومن عجب أنه بحكم هذا القانون، أن يلقى بالحصاة الصغيرة فى الماء فتغوص فيه، على حين أنه يلقى فوق ظهره بالسفينة محملة بالدواب، والناس، والأمتعة، فتظلّ سابحة فوقه! قوله تعالى:
«وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ».
وهذا الإله الذي يدعى إليه العباد، هو الذي سخر لهم ما فى السموات وما فى الأرض، وأتاح لهم الانتفاع به فى كل وجه من وجوه الانتفاع، حسب استعدادهم وقدرتهم على التصرف فيه..
230
ففى السماء، النجوم، والكواكب.. وهى مسخرة بأمر الله سبحانه وتعالى، فى دورانها فى أفلاكها، على ما يرى الناس منها، فى جميع الأوقات..
وهى قائمة على ما أقامها الله عليه، من إرسال أضوائها، وأنوارها على الأرض، دون أن يكون للناس شأن، أو حول، فى تحويل مداراتها، أو تغيير نظامها..
ثم إن للناس مع هذا أن ينتفعوا بكل ما أمكنهم الانتفاع به منها.. فإذا كشف لهم العلم عن إمكان اختزان الطاقة الحرارية للشمس، واستخدام هذه الطاقة فى إدارة المحركات، وتسيير البواخر، والقاطرات، والسيارات، وغيرها- فذلك مما سخر الله للناس، ويسر لهم الانتفاع به.. وقل مثل هذا فى كل ما يمكن أن يحصل عليه الإنسان من عالم السماء..
وفى الأرض.. ما لا يحصى من قوى الطبيعة المختزنة فيها، والتي جعل الله مفاتحها فى يد الإنسان، بما يكشف له العلم من أسرار..
فهذا البناء الشامخ للمدنية، وما تزخر به الحياة فى هذا العصر من ألوان لا حصر لها- هو مما أودعه الله سبحانه وتعالى فى هذه الأرض، وهو ما استطاعت يد الإنسان أن تطوله.. وهناك ذخائر كثيرة لا تزال مطوّية فى صدر الطبيعة، تنتظر يد الإنسان القادر على الوصول إليها، وكشف الستر عنها..
وقوله تعالى: «جَمِيعاً مِنْهُ» حالان من لفظ «ما» فى قوله تعالى: «ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» أي سحر كل هذا مجتمعا، فى حال أنه من الله سبحانه وتعالى.. أي من فضله وإحسانه..
هذا وقد رأى بعض أصحاب الجدل والمراء، من طوائف المعتزلة والمتصوفة وغيرهم، أن فى قوله تعالى: «مِنْهُ» يشير إلى أن هذا الوجود فى أرضه وسمائه، هو من ذات الله، وأن هذه العوالم هى ظل الله، وتجلّياته، أو هى الله ذاته.. إلى
231
غير ذلك من المقولات، التي تنتهى إلى القول بوحدة الوجود، وأنه ليس ثمة خالق ومخلوق..
ولا شك أن هذا تعسف فى التأويل، فضلا عن فساد المعنى المستنبط من هذا التأويل.. فإن الجار والمجرور «منه» متعلق بمحذوف، هو مضاف إلى الله سبحانه وتعالى، أي ذلك كله، من فضل الله، ورحمته..
وفى قوله تعالى: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» دعوة إلى إعمال الفكر، فى مواجهة هذه القوى المسخرة، حتى ينسج الإنسان من هذه الخيوط المتنائرة هنا وهناك، ثوبا قشيبا، يتزين به، ويكون سمة له، وشارة تفرق بينه وبين عالم الحيوان، الذي يعيش على ما تعطيه الطبيعة، دون أن يكون له أثر يذكر فى تحوير شىء أو تبديله..
قوله تعالى:
«قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ»..
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآيات السابقة قد كشفت عن بعض الوجوه المنكرة من المشركين الذين إذا علموا من آيات الله شيئا اتخذوها هزوا، ومع هذا فإن الله سبحانه وتعالى لم يمسك رحمته عنهم، بل ساق إليهم آياته، تحمل إليهم الهدى، وتدعوهم إليه، وتغريهم بالإيمان بالله، بما تعرض عليهم من دلائل قدرته، وسوابغ نعمه..
ثم إنه لكى يكون من المشركين الضالين إصاخة إلى هذه الدعوة الكريمة من الله سبحانه وتعالى لهم، ثم يكون منهم نظر فيما يدعون إليه من النظر فى آيات الله، وفيما سخر للناس فى السموات وفى الأرض من نعم- لكى يكون من المشركين هذا، كان على المؤمنين ألا يدخلوا معهم فى مجال الخصومة الحادة،
232
والجدل العنيف، فإن ذلك من شأنه أن يثير فى القوم دوافع الكبر والاستعلاء، وأن يشغلوا بالمؤمنين، وبالانتصار عليهم فى المقاولة والمصاولة- عن النظر فى أنفسهم والإفادة من آيات الله التي تتلى عليهم..
ومن أجل هذا جاء قوله تعالى: «قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ» - جاء داعيا المؤمنين إلى أن يتجاوزوا عن سفاهة هؤلاء المشركين، وألا يلقوا سفههم بسفه مثله، حتى تتاح الفرصة لهؤلاء المشركين أن يستمعوا إلى آيات الله، فى جوّ لا تنعقد فيه سحب الجدل والخصام، التي تحجب عنهم الرؤية الصحيحة لآيات الله.. وبهذا تقام الحجة عليهم، بعد هذا البلاغ المبين لدعوة الله.. فإذا لم يستجيبوا بعد هذا، لم يكن لهم عذر يعتذرون به، ووقعوا تحت طائلة العقاب الذي هم أهل له.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ».. فلقد أزيلت الحواجز التي تحجز القوم عن الاستماع إلى آيات الله، حتى لقد احتمل المسلمون ما احتملوا من سفههم وتطاولهم عليهم، كى يهيئوا لهم الجوّ الصالح للاستماع، والنظر، والتأمل، فإذا كان بعد هذا ثمة حاجز يحجزهم عن الإيمان بالله، فهو من عند أنفسهم، وكان كفرهم وضلالهم من صنع أيديهم، التي حجبوا بها نور الحق عنهم..
وفى قوله تعالى: «لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ».. وفى تنكير «قوم» إشارة إلى قوم بأعيانهم، وأن أمرهم مع تنكيرهم، أظهر من أن يدلّ عليه، وأن يعرّف به.. وهؤلاء القوم، هم أولئك المشركون، الذين دعى المؤمنون إلى أن يغفروا لهم، وأن يتجاوزوا عن سيئاتهم وسفاهاتهم..
فهؤلاء القوم قد امتنّ الله سبحانه وتعالى عليهم بهذه المنة العظيمة، بفضل مقام رسول الله فيهم، فلم يعجّل الله سبحانه وتعالى لهم العذاب، بل أمهلهم إلى آخر لحظة من حياتهم، حتى تكون أمامهم فسحة من الوقت،
233
يصلحون فيها أنفسهم، ويصححون عقيدتهم.. ثم إنه- سبحانه- بعد أن أفسح لهم المقام فى هذه الحياة الدنيا، صرف عنهم الدواعي التي تشغلهم عن الاستماع إلى آيات الله التي تتلى عليهم، أو تحول بينهم وبين النظر فيها، فدعا الله سبحانه وتعالى الذين آمنوا، أن يغفروا لهم، وألا يدخلوا معهم فى جدل..
وهذا كله دليل على مزيد من الفضل والإحسان إلى هؤلاء القوم.. فإذا لم يستقبلوا هذا الفضل وذلك الإحسان بالإقبال على الله، والاستجابة لما يدعوهم سبحانه وتعالى إليه، من هدى- لم يكن لهم بعد هذا إلا العقاب الأليم..
وأيام الله، التي لا يرجوها هؤلاء المشركون ولا يتوقعونها، هى الأيام الواقعة فى الحياة الآخرة، والمراد بها الحياة الآخرة، ذاتها، وإنما عبّر عنها بالأيام، لأن الأيام دلالة على وحدة من وحدات الزمن فى الحياة الدنيا، وهناك فى الحياة الآخرة أيام ذات دلالة على الزمن، وإن اختلفت تلك الأيام عن أيام الدنيا فى مقدارها.. وهذا ما يشير إليه سبحانه وتعالى فى قوله عن أهل الجنة: «وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا» (٦٢: مريم).. وفى إضافة أيام الآخرة إلى الله سبحانه وتعالى، مع أن الأيام كلها هى أيام الله- إشارة إلى شرف هذه الأيام، وإلى عظم قدرها، وأن أيام الحياة الدنيا إذا ووزنت بها لا تساوى شيئا، كما يقول الله سبحانه: «وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ» (٦٤: العنكبوت).. وكما يقول سبحانه: «وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ» (٢٦: الرعد).
فللأيام أقدار وأوزان عند الله، كأقدار الناس وأوزانهم، فالناس كلّهم عباد الله، ولكن الله سبحانه يضيف إلى ذاته أهل ودّه، ومحبته، تكريما لهم وتشريفا.. فيقول سبحانه: «فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ» (١٧- ١٨: الزمر)
234
قوله تعالى:
«مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ».
هو تعقيب على الآيات السابقة، وما حملت إلى المشركين من دعوة إلى الإيمان، وما دعت إليه المؤمنين من الرفق بالمشركين والتجاوز عن جهلهم وسفاهتهم.. فمن استجاب لأمر الله، وعمل صالحا، فله جزاء عمله، ومن أعرض عن الله سبحانه وتعالى، وركب طرق الباطل والضلال، فسيلقى جزاء كفره وضلاله.. فهناك يوم يرجع فيه الناس جميعا إلى الله، ويحاسبون على كل ما عملوا، ويجزون عن الإحسان إحسانا ورضوانا، وعن السوء عذابا ونكالا..
الآيات: (١٦- ٢٢) [سورة الجاثية (٤٥) : الآيات ١٦ الى ٢٢]
وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٦) وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٧) ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (١٨) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (١٩) هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٢٠)
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٢١) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٢)
235
التفسير: قوله تعالى:
«وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ».
مناسبة هذه الآية وما بعدها مما فيه ذكر لبنى إسرائيل، هى أن الآيات السابقة عليها قد وضعت بين يدى المشركين من قريش هذا الهدى الذي أرسله الله إليهم، وتلك الرحمة التي ساقها لهم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم يقفون من هذا الهدى وتلك الرحمة، موقف الشك، والاتهام، والتردد، وإن ذلك يوشك أن يعرّضهم لعقاب الله، وينزلهم منازل سخطه وغضبه- فناسب ذلك أن يلفتوا إلى بنى إسرائيل الذين يجاورونهم، ويعيشون بينهم، وإلى ما آتاهم الله من الحكم والنبوة، وما رزقهم من طيبات، حيث أنزل عليهم المنّ والسلوى، وكانوا بهذا مثلا فريدا فى الناس بكثرة الأنبياء الذين بعثوا فيهم، وبالملوك الذين جمعوا بين الملك والنبوة، فحكموهم بسياسة الملك، وحكمة النبوة.. ثم يتلك المعجزات الكثيرة التي جاءتهم من الله سبحانه على يد الأنبياء والرسل.. فهذه الألطاف والنعم لم تجتمع لمجتمع كهؤلاء القوم، ومع هذا فقد تحولت تلك النعم فى أيدى القوم إلى بلاء ونقم، حيث مكروا بآيات الله وكفروا بها، فرماهم الله سبحانه وتعالى، باللعنة، وأمطرهم برجوم من سخطه
236
وغضبه، وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت، وأقامهم فى هذه الدنيا مقاما مضطربا قلقا، لا يجدون فيه إلى الأمن والسلام سبيلا، إذ قطّعهم فى الأرض أمما، وسلّط عليهم الناس فى كل مجتمع يعيشون فيه، كما يقول سبحانه:
«وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ» (١٦٧: الأعراف).
فهذا التفضيل الذي فضّل الله به بنى إسرائيل، هو ابتلاء لهم، كشف عن نفوسهم الخبيثة، وطباعهم الشرسة، كما يكشف الغيث المنزّل من السماء عن معدن الأرض السبخة التي يصيبها الماء الغدق، فإذا هى بعد قليل قد أصبحت مستنقعا آسنا متعفنا، يؤذى كل من يلم به..
ففى هذا المثل، يرى المشركون عاقبة من يكفر بنعم الله، ويمكر بآياته..
وها هم أولاء بين يدى نعم الله وآياته.. فماذا هم فاعلون؟ أيكفرون ويمكرون، فيلقوا جزاء الكافرين.. الماكرين.. أم يشكرون ويؤمنون، فيكون لهم جزاء الشاكرين المؤمنين؟ ذلك ما تكشف عنه التجربة التي لم يخرجوا منها بعد..
قوله تعالى:
«وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ»..
هو معطوف على قوله تعالى:
«وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ » أي وآتيناهم كذلك بينات من الأمر..
والبينات: هى المعجزات التي تكشف لهم الطريق إلى الأمر الذي يدعون إليه، ويؤمرون باتباعه، وهو دين الله وشريعته..
237
وقوله تعالى: «فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ» - أي أن هذه الآيات البينات، وهذا العلم الذي تحمله تلك الآيات البينات، قد كان سببا فى اختلافهم، فآمن فريق منهم، وكفر فريق، وشكّ فريق، وقد كانوا من قبل هذا العلم على طريق واحد، هو طريق الغواية والضلال..
وفى قوله تعالى: «بَغْياً بَيْنَهُمْ» - إشارة إلى أن هذا الاختلاف والتفرق الذي حدث بينهم حين جاءهم العلم، إنما هو عن بغى وعدوان منهم، وإلا فقد كان من شأن هذا العلم أن يجمعهم على الهدى، وأن يقيمهم على طريق الحق، لو سلمت نفوسهم من داء البغي والعدوان.
وقوله تعالى: «إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ» أي أن هذا الخلاف الذي وقع بينهم لن يذهب من غير حساب وجزاء، بل إن الله سبحانه وتعالى سيحكم بينهم يوم القيامة فيما اختلفوا فيه، فيجزى أهل الضلال بضلالهم، وأهل الإحسان بإحسانهم.
قوله تعالى:
«ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ»..
هو معطوف على قوله تعالى: «وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ».. أي ثم بعد أن آتينا بنى إسرائيل ما آتيناهم من بينات من دين الله وشريعته، جعلناك أيها النبي على شريعة من الأمر، فاتبعها..
وفى العطف بثم، إشارة إلى تراخى الزمن، بين ما أنزل الله سبحانه
238
على بنى إسرائيل من آيات ومعجزات، وبين بعثه الرسول، وما أنزل الله الله سبحانه وتعالى عليه من آياته وكلماته..
وفى قوله تعالى: «ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ» - إشارة إلى أن الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- لم يؤت مجرد آيات، وبينات من الدين، وإنما أوتى الدّين كلّه، وأنه قد جعل القائم على شريعة هذا الدين، حيث يرد الواردون إليه، فيجدون الرّى من هذا المورد، ويحمل كل وارد ما استطاع حمله منه..
والشريعة: مورد الماء.. وفى تشبيه الشريعة الإسلامية بمورد الماء، إشارة إلى أمور:
أولها: أن القرآن الكريم، الذي هو مصدر هذه الشريعة، هو شىء واحد، أشبه بالماء... طبيعة واحدة، لا يختلف بعض عن بعض من حيث هو ماء يرده الواردون للسقيا منه.. وكذلك آيات الله وكلماته، كلها على سواء فى جلالها وإعجازها وما فيها للأرواح من حياة.
وثانيها: أن إعجاز القرآن، يبدو فى كل آية من آياته، كما يبدو فى القرآن كله.. كالماء تكشف القطرة منه عن جوهره كله..
وثالثها: أن ما أوتيه الرسل من المعجزات، هو بينات من الدين الذي يدعون إليه، وليس بيّنة واحدة، إذ كانت كل معجزة تختلف عن أختها فى صورتها، وفى آثارها فى الناس.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى عن الآيات التي جاء بها موسى إلى فرعون وملائه..: «وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها» (٤٨: الزخرف)..
أما ما أوتيه الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- فهو بيّنة واحدة، وآية واحدة، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا
239
مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ»
(١- ٣: البينة) كما يشير إليه الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- فى قوله: «ما من نبى من الأنبياء إلا أوتى من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحى إلىّ، فأنا أرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة».
وفى قوله تعالى: «فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ» - إشارة إلى أن هذه الشريعة، لا يتجه إليها، ولا يرد مواردها إلا من كانت معهم عقولهم التي ينظرون بها إلى هذه الشريعة، ثم يؤديهم هذا النظر إلى العلم الذي يكشف لهم الطريق إليها.. أما من زهد فى عقله، وصحب هواه، فلن يتعرف إلى هذه الشريعة، ولن يرد مواردها.
قوله تعالى:
«إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ»..
الضمير فى «إِنَّهُمْ» يعود إلى المذكورين فى قوله تعالى فى الآية السابقة «وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ».. وهم المشركون الذين استولى عليهم الجهل، واستبدّ بهم العمى، فانقادوا لأهوائهم، ولم يلتفتوا إلى هذا الهدى الذي يدعون إليه..
فهؤلاء الضالون، ينبغى على النبي أن يدعهم وما اختاروا لأنفسهم، بعد أن أنذرهم، ومدّ إليهم حبل النجاة، فأعرضوا عنه، وأن يستقيم هو على طريقه، وألا يشغل نفسه بهم.. فإنه مسئول عن نفسه أولا، وأن هؤلاء الضالين لن يغنوا عن النبي شيئا، إذا هو شغل بهم، وقصّر- وحاشاه-
240
فى حق ربه.. وأنه إنما يتولى المؤمنين، الذين استجابوا لله وللرسول، ويعمل على ما يعينهم على البر والتقوى.. أما الظالمون فإنما يتولى بعضهم بعضا.. لا ولاية لهم من الله، ولا من رسوله، ولا من المؤمنين.. أما المؤمنون فإن بعضهم أولياء بعض، والله ورسوله أولياء لهم، كما يقول سبحانه:
«إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا» (٥٥: المائدة)..
قوله تعالى:
«هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ»..
الإشارة هنا إلى القرآن الكريم، وهو الشريعة التي جعل الله- سبحانه وتعالى- النبىّ قائما عليها..
فهذا القرآن هو «بَصائِرُ لِلنَّاسِ» - أي مراد ومسرح للعقول، حيث يقيم لها من النظر فيه، بصائر، تتهدى إلى الحق، وتتعرف إلى مواقع الهدى..
والبصائر: جمع بصيرة، والبصيرة، قوة من قوى الإدراك المستنير المشرق.. يرى بها الإنسان من عالم الحق، ما يرى البصر من عالم الحسّ..
وفى تسمية القرآن بأنه «بَصائِرُ» إشارة إلى أنه هو ذاته عيون مبصرة، وأنه بقدر ما يفتح الله للناس منه، بقدر ما يكون لهم من نور تستبصر به عقولهم، وبقدر ما يحصلون من «هُدىً» وما ينالون من «رَحْمَةٌ».
وقوله تعالى: «لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ» - إشارة إلى أن هذا القرآن، وما فيه من بصائر للناس جميعا وهدى ورحمة لهم- لا يرد مورده، ولا يرتوى من هذا المورد إلا من جاء إليه بقلب سليم، مهيأ لاستقبال الخير وتقبله..
241
قوله تعالى:
«أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ.. ساءَ ما يَحْكُمُونَ»
..
هو تهديد لهؤلاء الذين دعوا إلى الحق، فلم يستجيبوا، ورفعت لهم معالم الاستبصار، فلم يبصروا- فهؤلاء لهم عذاب شديد، على حين أن الذين آمنوا واهتدوا سيلقون من الله سبحانه ورحمة ورضوانا.. فهذا هو ميزان الناس عند الله إنه ميزان عدل، لا يسوى فيه بين من «اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ»
أي اقترفوا الآثام والمنكرات، وبين الذين آمنوا وعملوا الصالحات.. فهؤلاء غير أولئك، فى الدنيا وفى الآخرة جميعا.. إنهم ليسوا سوآء عند الله فى الدنيا أو فى الآخرة.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى فى موضع آخر: «أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ»
(٢٨: ص)..
فالمؤمنون على هدى من ربهم فى الدنيا، وفى الآخرة، يؤنسهم الإيمان فى الدنيا، ويملأ قلوبهم أمنا وطمأنينة، وهم بهذا الإيمان يلقون ربهم فى الآخرة، فينزلهم منازل رحمته ورضوانه.
أما الكافرون وأهل الضلال، فهم من كفرهم وضلالهم، لا يجدون برد الطمأنينة فى الدنيا، ولا ريح الرحمة فى الآخرة.. وذلك هو الخسران المبين..
وفى قوله تعالى: «اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ»
إشارة إلى أن اقتراف السيئات، لا يكون إلا بجرح فضيلة من الفضائل، وبعدوان على حق من الحقوق..
242
فالاجتراح من الجرح، الذي يجىء عن طريق العدوان، والذي يوقع صاحبه تحت حكم القصاص منه، كما يقول سبحانه: «وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ» (٤٥: المائدة).
قوله تعالى:
«وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» - يمكن أن يكون معطوفا على قوله تعالى: «وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ» وتكون الآيات الواقعة بين المتعاطفين، اعتراضا يراد به الإلفات إلى موقف الناس من آيات الله الكونية أو الكلامية، وأنهم ليسوا سواء فى موقفهم من تلك الآيات، فبعضهم مؤمن مهتد، وكثير منهم فاسقون..
ولكلّ من الفريقين حسابه عند الله، حيث لا يسوّى بين المؤمنين، وبين الكافرين الظالمين..
ثم يجىء بعد هذا قوله تعالى: «وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ» استكمالا لعرض آيات الله الدالة على قدرته، وعلمه، وحكمته..
ويجوز أن تكون الواو هنا للحال، لا للعطف، ويكون الحال من الفاعل، وهو الله سبحانه، فى قوله تعالى: «أَنْ نَجْعَلَهُمْ»
.. أي أيظن الذين كفروا بالله، واقترفوا ما اقترفوا من آثام- أن يجعلهم الله كالذين آمنوا وعملوا الصالحات على سواء فى الحياة، وفى الممات، وفيما بعد الممات؟. أيظنون هذا وقد خلق الله السموات والأرض بالحق؟ إن هذا ظنّ فاسد، وما يبنى عليه من تصورات وأحكام لا يكون إلا فاسدا.. فإن هذا الوجود الذي خلقه الله من مادة الحق، وأقامه على الحق، لا يمكن أن يدخل عليه ما يغيّر صورة الحق.
243
وإن مما يغير صورة الحق أن يسّوى بين المحسنين والمسيئين.. وهذا ما لا يكون أبدا واقعا فى ملك الله.
وقوله تعالى: «وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ» معطوف على محذوف دلّ عليه السياق، أي وخلق الله السموات والأرض بالحقّ، وأرسل رسله بالبينات، وأنزل معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط، ولتقوم عليهم الحجة، «وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ».
وقوله تعالى: «وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» جملة حالية من فاعل الفعل «كَسَبَتْ» المراد به الناس جميعا.. أي أن الجزاء الذي يجزى به الناس، لا يدخل عليه جور، ولا يتلبس به ظلم.. فالمحسن ينال جزاء إحسانه، من غير أن ينقص منه شىء..
بل سيضاعف له الجزاء.. والمسيء سينال جزاء إساءته وما كسبت يداه، دون أن يؤخذ بجريرة أحد.. «وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى» (١٦٤: الأنعام).
الآيات: (٢٣- ٣٥) [سورة الجاثية (٤٥) : الآيات ٢٣ الى ٣٥]
أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٣) وَقالُوا ما هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٢٤) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٥) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢٦) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (٢٧)
وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٩) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (٣٠) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ (٣١) وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (٣٢)
وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٣) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٤) ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٣٥)
244
التفسير:
قوله تعالى:
«أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ».
هو عرض لصورة واحد من صور هؤلاء الضالين، الذين عموا عن آيات الله، بعد هذا العرض العام الذي لا حت فيه صور المبطلين، الذين خرجوا عن
245
سنن الحق الذي خلق الله سبحانه وتعالى به السموات والأرض، والذي فرّق به الله سبحانه بينهم وبين المؤمنين، فى الحياة الدنيا وفى الآخرة..
ففى هذه الصورة المفردة لواحد من آحاد الضالين المكذبين، يرى كلّ واحد من أهل الزيغ والضلال وجوده فى هذه الصورة، وينكشف له الداء المسلط عليه..
فهذا المكذب بآيات الله، المعرض عن دعوة الهدى التي يدعوه إليها رسول الله- إنما يتبع هواه، وينقاد له، انقياد المؤمنين لله.. فالإله الذي يعبده هذا السفيه الضال، هو ما يقيمه له هواه، ويصوره له سفهه، من معبودات يتخذها من دون الله، من أصنام وغير أصنام.
والاستفهام هنا تعجبى، يراد به الاستهزاء والسخرية من هذا الضال، وفضحه على الملأ وهو عاكف على هذا الضلال الذي يعبده من دون الله..
أي إن لم تكن قد رأيت هذا الإنسان المنكود الضال الذي يعبد هواه، فها هو ذا، فانظر إليه!! واتخاذ الهوى إلها، إنما هو بالانقياد لهوى النفس، والامتثال لما تأمر به..
وفى الأثر: «الهوى إله معبود».
وقوله تعالى: «وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ» جملة حالية من فاعل «اتَّخَذَ» وهو هذا الذي اتخذ هواه إلها معبودا من دون الله.. أي أنه قد اتخذ إله هواه، فى الحال التي أضله الله فيها على علم.. وهذا يعنى أنه، مع ما جاءه من العلم الذي بلّغه الرسول إياه، وكشف له به معالم الطريق إلى الله- قد اتبع هواه، وركب مركب الضلال..
وفى إسناد الإضلال لهذا الضال إلى الله سبحانه وتعالى، إنما هو بسبب
246
ما كان من إعراض هذا الضال عن آيات الله، وعن العلم الذي جاءه منها..
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ» (١١٥: التوبة) وقوله سبحانه: «فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ.. وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ» (٥: الصف).
وقوله تعالى: «وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ» - معطوف على قوله تعالى:
«وَأَضَلَّهُ اللَّهُ» أي وأضله الله إذ دعاه إلى الهدى فلم يستجب لدعوته، وختم على سمعه وقلبه، أي أغلقهما، وأطبقهما على ما فيهما من ضلال، فلم تنفذ كلمة الحق إلى أذنه، ولم يدخل نور الهدى إلى قلبه..
فالختم على الشيء: إغلاقه على ما فيه..
وقوله تعالى: «وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً».. الغشاوة ما يغشى العين من ظلام، فيحجبها عن أن ترى الأشياء رؤية كاشفة.. وهذا من الأدواء التي رمى الله سبحانه وتعالى بها أهل الضلال، حيث يحجب أبصارهم عن النظر فى آيات الله، نظرا يكشف ما فيها من حق، وهدى، يهدى إلى الله، وإلى طريق مستقيم..
وقوله تعالى: «فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ» ؟ أي أنه لا سبيل إلى هداية هذا الإنسان التعس الشقي، بعد أن أضله الله سبحانه وتعالى، وختم على سمعه وقلبه، وجعل على بصره غشاوة! إن الله سبحانه قد رماه بهذه الآفات، وحال بينه وبين أن ينال خيرا من هذا الخير الممدود على مائدة الهدى..
فمن ذا الذي يمكن أن يرد بهذا الضال موارد الهدى؟ ومن ذا الذي يفضّ هذا الختم الذي ختم الله به على سمعه وقلبه؟ ومن ذا الذي يرفع هذه الغشاوة التي ضربها الله على بصره؟ والله سبحانه وتعالى يقول: «مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً» (١٧: الكهف)
247
وقوله تعالى: «أَفَلا تَذَكَّرُونَ» - دعوة إلى الوقوف عند هذا المشهد، الذي يرى فيه هذا الإنسان الذي اتخذ إلهه هواه، وأضلّه الله بعد أن جاء العلم، وختم الله على سمعه وقلبه، وجعل على بصره غشاوة..
فليأخذ كل إنسان لنفسه عظة من هذا المشهد، ولينظر إلى نفسه، فإن كان بالمكان الذي فيه هذا الضّال فليحاول أن ينخلع عن هذا المكان، وليمدّ يده إلى الله طالبا العون منه.. فإنه لا يطلب العون إلا منه، ولا يرحى الخلاص إلا على يده سبحانه.
قوله تعالى:
«وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ».
تلقى هذه الآية أصحاب الزيغ والضلال، بعد أن أرتهم أنفسهم فى واحد منهم، قد رماه الله بتلك الآفات المهلكة، التي حجبته عن كل هدّى، وحالت بينه وبين كل سبيل إلى النجاة..
والآية الكريمة معطوفة على محذوف، يفهم من قوله تعالى:
«أَفَلا تَذَكَّرُونَ».
أي أن هؤلاء المشركين الضالين، لم يستجيبوا لهذه الدعوة التي تدعوهم إلى التذكر والتدبّر فى أمرهم.. فلم يتذكروا ولم يتدبروا، بل أمسكوا بكل ما فى كيانهم من ضلال، وقالوا ما كانوا يقولونه من قبل، من أنه لا بعث ولا حساب ولا جزاء، وأنه ليس إلا هذه الحياة الدنيا، ولا حياة بعدها.
«وَقالُوا: ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ».
أي إن حياتنا ما هى إلا هذه الحياة الدنيا.. «نَمُوتُ وَنَحْيا».. أي
248
لا نرى فيها إلا هذه الصور المكررة من حياة وموت، وموت وحياة..
أحياء يموتون، ومواليد يردّون إلى الحياة..! ولا شىء غير هذا..
«وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ» وهكذا تمضى بنا الأزمان والدهور، فتحتوى كلّ حىّ، وتضمّه فى كيانها، وتدرجه فى أكفان العدم الأيدى..
وما المرء إلا كالشهاب وضوئه يحور رمادا بعد إذ هو ساطع
وقوله تعالى: «وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ» أي إن هذا القول الذي يقولونه، ويقيمون تصوراتهم وأفكارهم عليه، إنما هو من واردات الظنّ الذي لا يستند إلى شىء من العلم. «إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً» (٣٦: يونس) قوله تعالى:
«وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ».
أي ومن مقولات هؤلاء الضّالين، القائمة على الظّن الفاسد، أنهم إذا تليت عليهم آيات الله تحدّثهم عن البعث، والحساب والجزاء أنكروا هذا الحديث، وردّوه بلا حجّة، إلا هذه الحجة الفاسدة، وهى أنهم لن يصدّقوا هذا الحديث، ولن يأخذوا به إلا إذا ردّ إليهم آباؤهم الذين ذهبوا، وأن يروهم رأى العين أحياء بينهم! وهذا منطق لا يقبله عقل.. إذ كيف يقوم الأموات من القبور، ويعودون إلى الحياة مرة أخرى، ويعيشون فى الناس، ويشاركونهم الحياة فى هذه الدنيا؟ أهذا مما تحتمله الحياة؟. وهل بعث الأموات من قبورهم ليكونوا فى هذه الحياة الدنيا مرة أخرى- مما لا تتسع له الحياة. ؟.
إن الحياة الدنيا لا تتسع إلا لأهلها الأحياء فيها، فإذا ذهبوا جاء غيرهم ليأخذ
249
مكانهم.. وهكذا.. ولو أنه كان من تدبير الله سبحانه أن يردّ الموتى إلى الحياة الدنيا، ويجعل لهم مقاما فيها لما كان من هذا التدبير أن يموتوا، ولظلوا أحياء أبد الدهر.. وهذا لا يكون إلا إذا لم يكن من هؤلاء الأحياء الخالدين توالد..
لأن التوالد معناه أن يبقى الخلف ويذهب السلف..
وانظر كيف يمكن أن تكون الحياة ليومنا هذا، لو طلع علينا الأموات الذين ضمتهم الأرض، واحتواهم التراب، منذ كان للناس وجود على هذه الأرض؟ يقول المعرّى، وقد وقع فى خاطره هذا التصور:
لو هبّ سكان القبور من الثرى أعيا المحل على المقيم الساكن
لغدوا وقد ملأ البسيطة بعضهم ورأيت معظمهم بغير أماكن!!
فأين هى الأرض التي تتسع لأجيال الناس، وهى تكاد تضيق بهذا الجيل من الناس؟.
فهذا القول الذي يقوله المشركون، ويتحدون به دعوتهم إلى الإيمان بالحياة الآخرة- قول فاسد، لا منطق له.. بل إن هؤلاء المشركين أنفسهم لهم أول الذين يدفعونه لو أنه تحقق، وطلع عليهم موتاهم من الآباء والأجداد..
وسمّى قولهم هذا حجة، لأنه لا حجة عندهم إلا هو.. فهو كل بضاعتهم فى هذا المقام..
250
قوله تعالى:
«قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ»..
هو ردّ على مقولة هؤلاء المشركين، وتقرير للحق الذي لا ريب فيه، دون إقامة وزن لهذه التّرهات التي يهذون بها..
«اللَّهُ يُحْيِيكُمْ» أي هو سبحانه الذي أوجدكم فى هذه الحياة، وأخرجكم من عالم الموات إلى عالم الحياة، وأمسك عليكم هذه الحياة التي ألبسكم إياها «ثُمَّ يُمِيتُكُمْ» وهو سبحانه الذي يميتكم، وينزع عنكم ثوب الحياة الذي ألقاه عليكم..
«ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ» - وهو سبحانه الذي يعيدكم إلى الحياة مرة أخرى، لا إلى هذه الدنيا، وإنما ليدعوكم إلى دار أخرى، غير تلك الدار ويجمعكم فيها..
«وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ».. أي أن أكثر الناس هم الذين يكذبون بالبعث، وينكرون اليوم الآخر.. وذلك لما ركبهم من جهل، وما غشيهم من ضلال..
قوله تعالى:
«وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ»..
أي أن هذا الذي يكون من حياة وموت، وبعث، هو من تدبير الله، ومن تصريفه فى ملكه، لا يسأل عما يفعل.. فمن أسلم نفسه لله،
251
فقد فاز ونجا، ومن أبى أن يسلم نفسه لله، فقد خاب وخسر.. وذلك يوم تنكشف له الحقيقة، ويجد اليوم الذي كان يكذب به، والنار التي توعّد الله بها المكذبين..
قوله تعالى:
«وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ»..
هو معطوف على قوله تعالى: «يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ» أي وفى هذا اليوم- يوم القيامة- يخسر المبطلون، وفى هذا اليوم، «تَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً»..
والخطاب للنبى صلى الله عليه وسلم، وهو خطاب لكل من هو من شأنه أن يرى فى هذا اليوم، ويجد من نفسه القدرة على النظر إلى ما حوله، فى هذا الهول الذي يشتمل على الناس..
والجثو: الإناخة على الركب.. حيث تنحلّ عزائم الناس من الهول المحيط بهم فى هذا اليوم، فلا تحملهم أرجلهم، فيجثون على ركبهم..
أي فى هذا اليوم ترى كل أمة قد اجتمعت، وجنت على ركبها..
وقوله تعالى: «كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا».. هو جواب عن سؤال يعرض لبيان سبب هذا الجثو، ولهذا وقع الفصل بين الجملتين..
فكأنه قيل: لم تجثو هذه الأمم؟ فكان الجواب: «كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا» أي أن هذا الاجتماع، والاستشهاد من الأمم، لأن كل أمة مدعوة إلى كتابها، الذي تحاسب به، على حسب شريعتها التي دعيت
252
إليها.. فلكل أمة شريعة، ولكل أمة حسابها على هذه الشريعة.. من حيث اتباعها والاستقامة عليها، أو تضييعها. والخروج عنها..
وقوله تعالى: «الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ».. لم تعطف هذه الجملة على ما سبقها، لأنها فى تقدير جواب على سؤال مقدر.. فكأنه قيل: لم تدعى الأمم إلى كتابها؟ فكان الجواب: «الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ».. فهذا هو يوم الحساب والجزاء، بما تنطق به هذه الكتب التي فى أيدى الناس من كل أمة..
قوله تعالى:
«هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ»..
أي أنه حين تجتمع الأمم، وتدعى كل أمة إلى تناول كتابها، يقال للناس وهم يأخذون كتبهم: «هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ» أي يتحدث إليكم بالحق..
وفى تعدية الفعل ينطق بحرف الاستعلاء «على» إشارة إلى أنه ينطق من علوّ، لأنه حق، وحيث كان الحق، فهو على رأس كل أمر..
وقوله تعالى: «إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» أي أن فى هذا الكتاب الذي فى أيديكم أعمالكم التي عملتموها فى دنياكم، فلا تعجبوا أن تجدوا فى هذا الكتاب كل شىء كان منكم، لأننا كنا نكتب ما كنتم تعملون، كما يقول سبحانه فى موضع آخر: «إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى
253
وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ»
(١٢: يس)..
والاستنساخ، نقل من أصل ينسخ منه، ويؤخذ عنه ما ينقل..
والأصل هو اللوح المحفوظ.. وهذا يعنى أن الملائكة الموكلين يحفظ أعمال الناس وتسجيلها إنما ينسخون هذه الأعمال من اللوح المحفوظ، التي سبق علم الله بها، فهى تجرى على ما كان فى علم الله، وعلى ما سجّل فى الكتاب الإمام، وهو اللوح المحفوظ، كما يقول سبحانه. «وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ»..
قوله تعالى:
«فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ»..
ويبدأ بالذين آمنوا وعملوا الصالحات، فلا ينتظر بهم حتى يفصل فى الكافرين والضالين، وذلك ليروا وجه الخلاص والنجاة من أول الأمر، وبذلك تخلو نفوسهم من هواجس القلق، والفزع، لما يرون مما يحلّ بالظالمين، من بلاء..
فهؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات، يدخلهم ربهم فى رحمته، ويفيض عليهم من إحسانه، وينزلهم منازل رضوانه. و «ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ» الذي لا فوز مثله..
قوله تعالى:
«وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ»..
254
وإذ يدعى الذين آمنوا إلى جنات النعيم، وإذ يخلو الموقف إلا من من الضالين والمكذبين والكافرين- عندئذ يدعى الضالون والكافرون، يدعون إلى المساءلة والحساب، وقد عرفوا مقدما المصير الذي هم صائرون إليه، فيقال لهم على سبيل التقريع والتنديم: «أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ» وفى هذا مواجهة لهم بالاتهام، وحكم عليهم بالإدانة فيما اتهموا به..
قوله تعالى:
«وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ».
هو مما يقال للكافرين وأهل الضلال فى موقف الحساب.. وهو معطوف على قوله تعالى: «فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ» أي وكنتم إذا قيل لكم: «إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها» أنكرتم هذا القول، ورددتموه على قائليه، وقلتم فى تجاهل غبىّ: «ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ؟» إنها لا تقع فى تصورنا إلا من قبيل الظن، الذي لا يبلغ بصاحبه مبلغ اليقين. فكيف ندع حياة نحن فيها، ونتعامل مع حياة أخرى، لا نراها إلا من وراء أوهام وظنون؟.
قوله تعالى:
«وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ».
أي أنه ظهر للكافرين ما كانوا يعملون من سيئات، وانكشف لهم وجهها القبيح الذي ينادى عليهم بالويل والثبور.. «وَحاقَ بِهِمْ» أي حل وأحاط بهم، هذا اليوم الذي كانوا يستهزئون به، وينكرون أن يكون واقعا أبدا..
255
قوله تعالى:
«وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ»..
أي ومما يقال للكافرين فى هذا اليوم، هذا القول الذي يملأ قلوبهم حسرة ويأسا.. إنهم سيتركون فى هذا الهول، كما يترك الشيء المنسيّ، وذلك لأنهم أهملوا النظر فى يومهم هذا، ولم يذكروا أبدا أنهم على وعد معه.. وإن النار لهى مأواهم، ومنزلهم الذي ينزلونه فى هذا اليوم، وإنه لا ناصر لهم يخرجهم من هذا البلاء النازل بهم..
قوله تعالى:
«ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ».
الإشارة إلى هذا العذاب الذي يعذّب به الكافرون، وأنه إنما كان بسبب اتخاذهم آيات الله هزوا، حيث كانوا، إذا تليت عليهم آيات الله أعرضوا عنها، واستخفوا بها، وأطلقوا ألسنتهم بالهذر من القول فيها.. إنهم يفعلون هذا وملء كيانهم كبر وغرور بالحياة الدنيا، وما يتقلبون فيه منها من متاع..
وفى قوله تعالى: «فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ» وفى الانتقال من الخطاب إلى الغيبة- إشارة إلى تنوع مواقع المساءات التي تأتيهم من كل جهة.. فتارة يواجهون بما يسيئهم، وتارة تجيئهم المساءات من حيث لا يشعرون..
فهم إذ يواجهون بهذا التقريع لما كان منهم من الهزؤ بآيات الله، والغرور بدنياهم- يجيئهم صوت من بعيد بهذه الصاعقة التي تنصب على رءوسهم:
256
«فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ» أي أنه لا خروج لهم من هذه النار التي ألقوا فيها، ولا يسمع منهم عذر، ولا يقبل لهم اعتذار.
الآيتان: (٣٦- ٣٧) [سورة الجاثية (٤٥) : الآيات ٣٦ الى ٣٧]
فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٦) وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣٧)
التفسير:
بهاتين الآيتين الكريمتين تختم السورة، فيلتقى ختامها مع بدئها، ويكون أشبه بالتعقيب عليه.. فقد بدأت السورة بالإشارة إلى القرآن الكريم، وبأنه منزل من الله العزيز الحكيم. ثم تلا ذلك الإشارة إلى السموات والأرض وما فيهما من آيات المؤمنين.. وكان مؤدّى هذا، أن كثيرا من الناس، نظروا فى آيات الله القرآنية، والكونية، فرأوا فيها آيات من جلال الله، وعظمته، وقدرته، فآمنوا بالله، وانشرحت صدورهم، واطمأنت قلوبهم بهذا الإيمان، ومن أجل هذا فهم يحمدون الله، ويشكرون له، أن هداهم للإيمان..
فالحمد لله وحده، لا شريك له، هو سبحانه المستحق للحمد، لأنه رب السموات والأرض. وهو المتفرد بالحكم والسلطان فيهما، بعزته، وحكمته..
فالعزة، سلطان غالب قاهر، والحكمة، ميزان حق وعدل فى يد العزة الغالبة القاهرة، فلا ظلم ولا جور من سلطان العزة الغالبة القاهرة..
257
٤٦- سورة الأحقاف
نزولها: مكية بإجماع عدد آياتها: خمس وثلاثون آية عدد كلماتها: ثلاثمائة وأربع وأربعون كلمة عدد حروفها: ألفان وخمسمائة وخمسة وتسعون حرفا
مناسبتها لما قبلها
ختمت سورة الجاثية بحمد الله، من عباده المؤمنين، الذين نظروا فى آيات الله القرآنية والكونية، وفرأوا فيها دلائل قدرة الله، وعلمه، وحكمته.. ومن ثمّ كان إيمانهم بالله، وحمدهم له، أن هداهم إلى الإيمان..
وهنا تبدأ سورة الأحقاف، فتكشف عن الوجه الآخر من وجوه الناس، وموقفهم من آيات الله.. وهؤلاء هم المشركون، الكافرون، الذين عرضت عليهم آيات الله، فأعرضوا عنها، وتليت عليهم آياته، فصمّووا آذانهم عنها..
258
Icon