تفسير سورة الأنعام

التفسير المظهري
تفسير سورة سورة الأنعام من كتاب التفسير المظهري .
لمؤلفه محمد ثناء الله المظهري . المتوفي سنة 1225 هـ

سورة الانعام
مكيّة وهى مائة وخمس او ست وستون اية وعشرون ركوعا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ تعليم للعباد بالتحميد فى ضمن الاخبار بثبوت جميع المحامد له تعالى والتعريض بانه سبحانه مستغن عن تحميد العباد فله الحمد وان لم يحمد الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ يعنى قدرهما وأوجدهما من غير مثال سبق وفى التوصيف به تنبيه على ظهور ثبوت الحمد لله تعالى من غير احتياج الى الاستدلال خص الله سبحانه السموات والأرض بالذكر لانهما أعظم المخلوقات فيما يرى العباد وفيهما العبر والمنافع للناس ولان خلق غيرهما وحدوثهما مما يراه الناس من الحوادث اليومية ظاهر ومن ثم زعم بعض الجهلة قدمهما بالزمان وذكر السموات بلفظ الجمع دون الأرض وهى مثلهن اشعارا باختلاف ماهيات السموات وأشكالها دون الأرضين قال كعب الأحبار هذه الاية اوّل اية فى التورية واخر اية فى التورية قل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا الاية قال ابن عباس فتح الله الخلق بالحمد فقال الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وختمهم بالحمد فقال وقضى بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العلمين وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ فى القاموس الجعل بمعنى الخلق وقال البيضاوي الفرق بينهما ان الخلق بمعنى التقدير والجعل فيه معنى التضمين اى جعل الشيء فى ضمن الشيء اى تحصيل منه او تصير إياه او ينقل منه اليه بالجملة فيه اعتبار الشيئين وارتباط بينهما ولذلك عبر عن احداث النور والظلمة بالجعل تنبيها على انهما لا يقومان بانفسهما كما زعمت الثنوية قلت ولاجل عدم قيامهما
بانفسهما أسند الجعل الى الظلمة مع كونها عدميا والعدم لا يتعلق به الجعل نظرا الى كونها منتزعا من محل مخلوق وجمع الظلمات لكثرة اجرام حاملة لها بالنسبة الى الاجرام النورانية فالنور بالنسبة الى الظلمة كل واحد بالنسبة الى المتعدد وقال الحسن جعل الظلمات والنور يعنى الكفر والايمان فعلى هذا أورد الظلمات بلفظ الجمع دون النور لتعدد طرق الكفر واتحاد طريقة الايمان عن ابن مسعود رض قال خط لنا رسول الله ﷺ خطا ثم قال هذا سبيل الله ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله وقال هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعوا اليه ثم قرأ ان هذا صراطى مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله رواه احمد والنسائي والدارمي وقدم الظلمات فى الذكر لتقدمها فى الوجود عن عبد الله ابن عمرو بن العاص عن النبي ﷺ قال ان الله خلق الخلق فى ظلمة فالقى عليهم من نوره فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضل فلذلك أقول جف القلم على علم الله رواه احمد والترمذي ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ عطف على قوله الحمد لله يعنى انه تعالى حقيق بالحمد على ما خلقه نعمة على العباد ثم الذين كفروا به يعدلون فيكفرون نعمته او على قوله خلق يعنى انه خلق ما لا يقدر عليه أحد غيره ثم هم يعدلون به ما لا يقدر على شىء أصلا ومعنى ثم استبعاد عدولهم بعد هذا البيان والباء فى بربهم متعلق بكفروا وصلة يعدلون محذوف ليقع الإنكار على الفعل يعنى يعدلون عنه وعلى الثاني متعلق بيعدلون يعنى ان الكفار يعدلون اى يسوون بربهم الأوثان وقال النضر بن شميل الباء بمعنى عن اى عن ربهم يعدلون اى يميلون وينحرفون الى غيره من العدول.
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ يعنى ابتدأ خلقكم منه حيث خلق منه أصلكم آدم عليه السّلام او المعنى خلق أباكم آدم بحذف المضاف قال السدى بعث الله تعالى جبرئيل الى الأرض لياتيه طائفة منها فقالت الأرض انى أعوذ بالله منك ان تنقص منى فرجع ولم يأخذ وقال يا رب انها عاذت بك فبعث ميكائيل فاستعاذت فرجع فبعث ملك الموت فعاذت منه بالله فقال وانا أعوذ بالله ان أخالف امره فاخذ من وجه الأرض فخلط الحمراء والسوداء والبيضاء فلذلك اختلف ألوان بنى آدم ثم عجنها بالماء العذب والملح والمر كذلك
213
ولذا اختلف اخلاقهم فقال الله تعالى رحم جبرئيل وميكائيل الأرض ولم ترحمها لا جرم اجعل أرواح من اخلق من هذا الطين بيدك روى عن ابى هريرة رضى الله عنه خلق الله آدم عليه السلام من تراب وجعله طينا ثم تركه حتى كان حماء مسنون ثم خلقه وصوره وتركه حتى صار صلصالا كالفخار ثم نفخ فيه روحه كذا قال البغوي وعن ابى موسى قال سمعت رسول الله ﷺ يقول ان الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنو آدم على قدر الأرض منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك والسهل والحزن والخبيث والطيب رواه احمد والترمذي وابو داؤد وعن ابى هريرة عن النبي ﷺ خلق الله آدم من تراب الجابية «١» وعجنه بماء الجنة رواه الحكيم وابن عدى بسند حسن ثُمَّ قَضى أَجَلًا والمراد به والله اعلم انه يكتب الملك اجله بإذن ربه بعد تمام خلقه كما يدل عليه كلمة ثم والجملة الفعلية عن ابن مسعود قال حدثنا رسول الله ﷺ وهو الصادق المصدوق ان خلق أحدكم يجمع فى بطن امه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله اليه ملكا بأربع كلمات فيكتب عمله واجله ورزقه وشقى او سعيد ثم ينفخ فيه الروح فو الذي لا اله غيره ان أحدكم ليعمل بعمل اهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها الاذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل اهل النار فيدخلها وان أحدكم ليعمل بعمل اهل النار حتى ما يكون بينه وبينها الا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل اهل الجنة فيدخلها متفق عليه وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ اى أجل مثبت معين عند الله فى علمه القديم لا يقبل التغير ولا مدخل فيه لغيره تعالى ولذا عبر عنه بالجملة الاسمية الدالة على الدوام والاستمرار والاستيناف به لتعظيمه ولذلك نكر وكونه مخصوصة بالصفة اغنى عن تقديم الخبر وقال الحسن وقتادة والضحاك الاجل الاول من الولادة الى الموت والاجل الثاني من الموت الى البعث وهو البرزخ روى ذلك عن ابن عباس وقال لكل واحد أجلان أجل من الولادة الى الموت وأجل من الموت الى البعث فان كان برا تقيا وصولا للرحم زيد له من أجل البعث فى أجل العمر وان كان فاجرا قاطعا للرحم نقص من أجل العمر وزيد فى أجل البعث وقال مجاهد وسعيد بن جبير الاجل الاول أجل الدنيا
(١) الجبا بالكسر ما جمعت فيه الماء ١٢
214
أجل الثاني أجل الاخرة وقال عطية عن ابن عباس ثم قضى أجلا يعنى النوم يقبض فيه الروح ثم يرجع عند اليقظة وأجل مسمى عنده أجل الموت ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ اى تشكون من المرية او تجادلون من المراء فى قضائه وقدره تعالى او فى البعث بعد الموت وكلمة ثم لاستبعاد المرية والمراء بعد ظهور انه تعالى خالقهم وخالق أصولهم ومحييهم الى اجالهم فمن كان هذا شانه لا يخرج من قضائه وعلمه شىء ويقدر هو على اعادتهم كما خلق أول مرة عن عائشة قالت قال رسول الله ﷺ ستة لعنتهم ولعنهم الله وكل نبى مجاب الزائد فى كتاب الله والمكذب بقدر الله والمتسلط بالجبروت ليعز من اذله الله ويذل من أعزه الله والمستحل لحرمة الله والمستحل من عزتى ما حرم الله والتارك لسنتى رواه البيهقي فى المدخل ورزين فى كتابه قلت الزائد فى كتاب الله الروافض يزيدون فى كتاب الله عشرة اجزاء فوق ثلثين جزء ويزعمون ان عثمان أسقطها من القران ويزعمون ان سورة الأحزاب مثل سورة البقرة والمستحل من عترة النبي ﷺ الخوارج والمكذب بقدر الله المعتزلة وهم المشار إليهم بهذه الاية والمستحل لحرمة الله المرجئة القائلين بالجبر والمتسلط بالجبروت السلاطين الظلمة والتارك للسنة جميع اهل الأهواء والفساق.
وَهُوَ اللَّهُ الضمير راجع الى الله الموصوف بما ذكروا الله خبره او بدل منه وجاز ان يكون الضمير للشان والله مبتدا نظيره قوله تعالى قل هو الله أحد فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ متعلق باسم الله على تقدير كونه مشتقا بمعنى المعبود يعنى هو المعبود على الاستحقاق فيهما لا غيره نظيره قوله تعالى وهو الذي فى السماء اله وفى الأرض اله او على تاويل المشتق يعنى هو المعرف بذلك الاسم او المذكور به فيهما او ظرف مستقر وقع خبرا على التجوز فان الخلائق كلها مظاهر صفاته ومجالى كمالاته وقال البيضاوي انه تعالى لكمال علمه بما فيهما كانه فيهما وقوله تعالى يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ الجملة خبر ثان او هى الخبر والظرف متعلق به ويكفى لصحة الظرفية كون المعلوم فيهما يقال رميت الصيد فى المفازة من العمران والمعنى يعلم ما تكتمون فى أنفسكم وما تبدون منها وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ بالجوارح من خيرا وشر فيجازيكم عليها وجاز ان يكون المعنى يعلم ما أسررتم من افعال القلوب
والجوارح وما أعلنتم منها وما تكسبونها فى الاستقبال ولم تعملوا بعد فانه من خصائص معلومات الله تعالى.
وَما تَأْتِيهِمْ يعنى اهل مكة مِنْ آيَةٍ من زايدة للاستغراق مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ مثل انشقاق القمر ونطق الحصيات وغير ذلك وقال عطاء من آيات القران ومن للتبعيض إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ تاركين النظر فيه.
فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ بالقران وقيل بمحمد عليه السّلام لَمَّا جاءَهُمْ الفاء للتفريع على ما سبق فانهم لما اعرضوا عن الآيات كلها كذبوا بالحق الذي جاءهم فانه من الآيات او للسببية يعنى انهم لما كذبوا بالقران الذي هو أعظم المعجزات باهر الاعجاز لفظا ومعنى فى كل حين وزمان وكذبوا محمدا ﷺ مع ظهور اعجاز وجوده الشريف حيث كان مولودا فيهم اميا لم يقرء ولم يكتب فى زمان الجاهلية وفترة العلم والحكمة وقد تفجر منه ينابيع العلم والحكمة والآداب على ما تساعده الكتب القيمة المتقدمة وأقر بنبوته القسيسين والأحبار والرهبان فكيف لا يعرضون عن افراد المعجزات فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ يوم القيمة او عند ظهور الإسلام وارتفاع امره أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ يعنى يظهر لهم قبحه عند نزول العذاب بهم فى الاخرة او فى الدنيا.
أَلَمْ يَرَوْا فى أسفارهم الى الشام كَمْ خبرية بمعنى كثيرا أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ من زائدة وكذا فى قوله تعالى مِنْ قَرْنٍ القرن القوم المقترنون فى زمان واحد وجمعه قرون ومنه قوله ﷺ خير القرون قرنى يعنى من اقترن معى او طائفة من الزمان يقترن فيها الناس فقيل هو أربعون سنة او عشرة او عشرون او ثلثون او خمسون او ستون او سبعون او ثمانون او مائة او مائة وعشرون والأصح انه مائة سنة لانه ﷺ قال لعبد الله بن بشر المازني انك تعيش قرنا فعاش مائة سنة كذا ذكر البغوي وفى نهاية الجزري انه ﷺ مسح راس غلام وقال عش قرنا فعاش مائة سنة وعلى تقدير كونه للزمان معناه اهل قرن مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ يعنى قررناهم فيها وأعطيناهم من القوى والأسباب والعدد ما تمكنوا بها على ما أرادوا والجملة فى موضع الجر صفة لقرن وجمع نظرا للمعنى ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ ما لم نعطكم من القوى والمال والأسباب والعدد ما موصوفة بمعنى شيئا منصوب اما على انه مفعول ثان
لمكناهم بتضمين أعطيناهم او على المصدرية يعنى مكناهم شيئا من التمكين لم نمكن لكم مثلهم قال ابن عباس امهلناهم فى العمر ما لم نعمركم مثل قوم نوح وعاد وثمود فيه التفات من الغيبة الى الخطاب وقال البصريون اخبر عن اهل مكة بلفظ الغيبة فقال الم يروا ولما كان فيهم محمد ﷺ وأصحابه أورد بلفظ الخطاب وَأَرْسَلْنَا عطف على مكنا السَّماءَ يعنى المطر عَلَيْهِمْ مِدْراراً مفعال من الدر والدر اللبن وفى اللبن خير كثير للعرب حال من السماء يعنى حال كونه كثير النفع فى اوقات حاجاتهم وقال ابن عباس يعنى متتابعا وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ اى من تحت مساكنهم فعاشوا مترفهين بين الثمار والأنهار فَأَهْلَكْناهُمْ إذا جاءتهم الرسل وكذبوهم بِذُنُوبِهِمْ بسبب عصيانهم الرسل ولم يغن مكنتهم فى الدنيا ورفاهيتهم فيها عنهم شيئا فكيف يغنى هؤلاء الكفار أسبابهم فى الدنيا إذا كذبوا محمدا ﷺ القران وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ فكما أهلكنا من قبلكم وأنشأنا مكانهم آخرين نفعل بكم يا اهل مكة ان لم تؤمنوا قال الكلبي ومقاتل ان النضر بن الحارث وعبد الله بن ابى امية ونوفل بن خويلد قالوا يا محمد لن نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من عند الله ومعه اربعة من الملئكة يشهدون عليه انه من عند الله وانك رسوله فانزل الله تعالى.
وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً مكتوبا فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ اى مسوا ذلك القرطاس بِأَيْدِيهِمْ بحيث لا يحتمل التزوير بوجه فان السحر لا يجرى فى الملموس فلا يمكنهم ان يقولوا سكرت أبصارنا لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا تعنتا وعنادا إِنْ هذا المكتوب إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ لانه سبق علمه تعالى فيهم انهم لا يؤمنون.
وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ يعنى على محمد اى معه مَلَكٌ يكلمنا انه نبى كما فى قوله تعالى لولا انزل معه ملك فيكون معه نذيرا وَلَوْ أَنْزَلْنا معه مَلَكاً كما اقترحوا لَقُضِيَ الْأَمْرُ باهلاكهم بجريان سنة الله تعالى باهلاك الأمم عند نزول الآيات على اقتراحهم ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ اى لا يهملون بعد نزوله طرفة عين وقال مجاهد لقضى الأمر اى لقامت القيامة وقال الضحاك لو أتاهم ملك فى صورته لماتوا من هوله وكلمة ثم لبعد ما بين الامرين قضاء الأمر وعدم الانظار فان عدم الانظار بمعنى فجاءد العذاب أشد من نفس العذاب.
وَلَوْ جَعَلْناهُ الضمير للمطلوب او للرسول مَلَكاً يعنى لو جعلنا
قرينا لك ملكا يعاينوه او جعلنا الرسول ملكا فانهم تارة يقولون لولا انزل معه ملكا فيكون معه نذيرا وتارة يقولون لو شاء ربنا لانزل ملئكة لَجَعَلْناهُ رَجُلًا يعنى لمثلناه رجلا كما كان جبرئيل يتمثل للنبى ﷺ غالبا فى صورة دحية لان القوة البشرية لا يقوى على روية الملك فى صورته وانما رأهم كذلك الافراد من الأنبياء أحيانا لقوتهم القدسية ولان الرسول برزخ بين الخالق والخلق ولا بد فى البرزخ من المناسبتين مناسبة بالخالق كى يتلقى الفيوض من جنابه المقدس ومناسبة بالخلق كى يفيض عليهم ما استفاض من الجناب المقدس فان الافادة والاستفادة لا يتصور من غير مناسبة فالرسول له مناسبة باطنية بالخالق فان مبدأ تعينه صفة من صفات الله تعالى بخلاف سائر الخلائق سوى الأنبياء والملائكة فان مبادى تعيناتهم ظلال الصفات فلا بد ان يكون للرسول مناسبة صورية بالناس المرسل إليهم ولان بناء التكليف على الايمان بالغيب فلابد من التلبيس والتخليط لبقاء التكليف ومن ثم قال الله تعالى وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ اى لخلطنا واشكلنا عليهم فلا يدرون انه ملك بل يقولون ما هذا الا بشر مثلكم ما يَلْبِسُونَ على أنفسهم من امر الرّسول بعد ظهور رسالته بالآيات ثم سلى نبيه ﷺ على ما أصابه من استهزاء قومه بقوله.
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ كما استهزئك يا محمد فلا تهتم فَحاقَ قال الضحاك أحاط وكذا فى القاموس وقال الربيع بن انس نزل وقال عطاء حل بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ فكذا يحيق بهؤلاء ما يستهزءون بك وما موصولة او مصدرية والمضاف على التقديرين محذوف يعنى أحاط بهم وبال الذي كانوا يستهزءون به او وبال كونهم مستهزئين.
قُلْ يا محمد سِيرُوا فِي الْأَرْضِ بالاقدام او بالعقول والقوى الفكرية معتبرين ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ اى جزاء أمرهم وكيف أورثهم الكفر والتكذيب الهلاك والخسران فان قيل جاء فى موضع اخر قل سيروا فى الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين بكلمة الفاء وهاهنا بكلمة ثم والفاء للتعقيب بلا مهلة وثم للتراخى فكيف التوفيق قلنا السير ممتد والنظر على مساكن المكذبين من الأمم السابقة يقع متراخيا بالنسبة الى ابتداء السير غالبا ويترتب على بعض اجزاء السير بلا مهلة فايراد الفاء نظرا الى بعض اجزاء
السير وإيراد ثم نظرا الى بداية السير قال البيضاوي والفرق بين هذه وبين قوله تعالى سيروا فى الأرض فانظروا ان السير ثمه لاجل النظر ولا كذلك هاهنا ولذلك قيل معنى هذه الاية اباحة السير للتجارة وغيرها وإيجاب النظر فى اثار الهالكين وكذا قال صاحب المدارك وزاد انه تعالى نبه على إيجاب النظر فى اثار الهالكين بثم للتباعد بين الواجب والمباح قلت بناء قول الشيخين على ان الفاء للسببية دون ثم ومقتضى السببية كون السير سببا للنظر فى الواقع سواء كان السير لاجل النظر قصدا اولا فمفاد الآيتين ان المطلوب شيئان.....
السير مطلقا والنظر فى اثار الهالكين غير ان هذا الاية بكلمة ثم لا يفيد سببية أحدهما للاخر وتلك الاية تفيدها وسياق كلتا الآيتين يقتضى ان المأمور به قصدا انما هو النظر والسير انما امر به لكونه وسيلة الى النظر وكانّ فى كلمة ثم اشارة الى التباعد بين ما هو المطلوب قصدا وبالذات وما هو المطلوب ليكون وسيلة الى غيره وعلى هذا التحقيق لا حاجة فى التوفيق بين الآيتين الواردتين إحداهما بالفاء والاخرى بثم الى ملاحظة بداية السير ونهايته.
قُلْ يا محمد تبكيت للخصم لِمَنْ من استفهامية والظرف خبر والمبتدأ ما يعنى الأشياء التي هى كائنة فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعم العقلاء وغيرهم ولذلك أورد بكلمة ما قُلْ لِلَّهِ تقرير لهم اى هو الله لا خلاف بيننا وبينكم فيه وتنبيه على انه لا يمكن لاحد ان يجيب بغيره كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ يعنى التزم ووعد وعدا مؤكدا لا يمكن خلفه الرَّحْمَةَ قال رسول الله ﷺ لما قضى الله الخلق كتب كتابا فهو عنده فوق العرش ان رحمتى غلبت غضبى وفى رواية بلفظ ان رحمتى سبقت غضبى رواه البغوي من حديث ابى هريرة وعنه قال قال رسول الله ﷺ ان لله مائة رحمة انزل منها رحمة واحدة بين الجن والانس والبهائم والهوام فبها يتعاطفون وبها يتراحمون وبها يتعاطف الوحوش على أولادها واخّر تسعة وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيمة رواه مسلم قلت لعل المراد بعدد المائة تمثيل التكثير دون تعيين العدد فان ما عندكم ينفد وما عند الله باق كيف وصفات الممكنات متناهية وصفاته تعالى غير متناهية وما انزل الله من الرحمة فى خلقه وخلقها فى قلوبهم انما هى ظل من ظلال رحمة الله تعالى وعن عمر بن الخطاب قال قدم على النبي ﷺ سبى فاذا امراة من السبي قد تحلب ثديها تسعى إذا وجدت صبيا فى السبي
أخذته فالصقته ببطنها وارضعته فقال النبي ﷺ ترون هذه طارحة ولدها فى النار قلنا لا وهى تقدر على ان لا تطرحه فقال لله ارحم بعباده من هذه بولدها واعلم ان رحمة الله تعالى منها ما يترتب عليها نعماء الدنيا ومنها ما يترتب عليها نعماء الاخرة لارسال الرسل وإنزال الكتب ونصب الادلة الدالة على التوحيد والموت والبعث بعدها المفضى الى نعيم الجنان ولقاء الرحمن والعمدة فى الباب والمقصود بالذكر انما هى التي تعلقت بالاخرة كما يدل عليه ما ذكرنا من الأحاديث ويدل عليه قوله تعالى لَيَجْمَعَنَّكُمْ يعنى ليجمعن اجزاءكم مبعوثين إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ الظاهر ان الى هاهنا بمعنى فى او المعنى ليجمعنكم فى القبور ميتين الى يوم القيمة ويفهم منه التزاما انه ثم يبعثكم فتصدرون أشتاتا لتروا أعمالكم والجملة جواب قسم محذوف وهو بدل من الرحمة بدل البعض وبهذا يظهر ان المقصود انما هى الرحمة الاخروية ولما كان الكفار مبالغين فى انكار البعث أكده سبحانه بالقسم بعد الانذار على تكذيب المبلغ الصادق وبيان قدرته عليه بقوله لمن ما فى السموات والأرض وبيان الحكمة فى البعث بقوله كتب على نفسه الرحمة لا رَيْبَ فِيهِ اى فى الجمع او فى اليوم ولما كان مقتضى الاية عموم رحمة الله تعالى موهما شمولها للكفار قال الله تعالى لدفع ذلك التوهم وبيان ان حرماتهم من رحمة الله تعالى بسوء اختيارهم وخسرانهم الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بالاشراك حيث ضيعوا رأس ما لهم وهو الفطرة السليمة والعقل السليم وفوتوا حظهم من الرحمة واشتروا به العذاب والنقمة الموصول مبتدأ وخبره فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ الفاء للدلالة على ان خسرانهم فى علم الله تعالى سبب لعدم ايمانهم وكان القياس العطف على لا ريب فيه ووجه الفصل تقدير السؤال كانه قيل فلم يرتاب الكافرون فاجيب بان خسرانهم أنفسهم صار سببا لعدم الايمان وجاز ان يكون الموصول منصوبا على الذم وكما يدل هذه الاية على شمول رحمة الله تعالى وحرمان الكفار بسوء اختيارهم وخسرانهم يدل عليه حديث ابى امامة قال قال رسول الله ﷺ كلكم يدخل الجنة الا من شرد على الله شرد «١» البعير على اهله رواه الطبراني والحاكم بسند صحيح.
وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ من السكنى
(١) اى اخرج عن طاعته وفارق الجماعة يقال شرد البعير إذا نفر وذهب فى الأرض ١٢ نهايه
وتعديته الى المكان بفي كما فى قوله تعالى وسكنتم فى مساكن الذين ظلموا أنفسهم وعدى هاهنا الى الزمان اتساعا والمراد كل ما يمر عليه الليل والنهار او من السكون والمعنى كل ما سكن فيهما وتحرك فاكتفى بأحد الضدين عن الاخر كما فى قوله تعالى سرابيل تقيكم الحر يعنى الحر والبرد وَهُوَ السَّمِيعُ لاصواتهم الْعَلِيمُ بأحوالهم وعيد للمشركين على أقوالهم وأفعالهم.
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا ناصرا ومعبودا استفهام لانكار اتخاذ غير الله وليالا لاتخاذ الولي ولذلك قدم المفعول الاول لاتخذ عليه وذكره متصلا بالهمزة فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اى خالقهما ومبدعهما والاضافة معنوية لان فاطر بمعنى فطر ولذلك قرأ فطر فهو مجرور صفة لله وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ اى يرزق المرزوقين ولا يرزق وتخصيص الطعام لشدة احتياج الناس اليه والجملة حال من الله والاية نزلت حين دعى رسول الله ﷺ الى دين ابائه قُلْ إِنِّي قرأ نافع بفتح الياء والباقون بالإسكان أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ لان النبي ﷺ سابق أمته فى الدين وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ معطوف على قل او على أمرت بتقدير وقيل لى ان لا تكونن من المشركين قُلْ إِنِّي قرأ نافع وابن كثير وابو عمرو بفتح الياء والباقون بالإسكان.
أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي بان عبدت غيره عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ مبالغة فى قطع اطماعهم وتعريض بهم باستيجابهم العذاب بالكفر والعصيان اعترض الشرط بين الفعل والمفعول به وحذف جزاء الشرط لدلالة الجملة عليه يعنى انى أخاف عذاب يوم عظيم اى يوم القيمة ان عصيت ربى عذبنى يومئذ.
مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ قرأ حمزة والكسائي وابو بكر عن عاصم ويعقوب يصرف بفتح الياء وكسر الراء على البناء للفاعل والضمير عائد الى ربى والمفعول به محذوف او يومئذ بحذف المضاف واقامة المضاف اليه مقامه يعنى من يصرف ربى العذاب يومئذ او عذاب يومئذ يعنى يوم القيامة والباقون بضم الياء وفتح الراء على البناء للمفعول والضمير عائد الى العذاب يعنى من يصرف عنه العذاب يومئذ او يكون مسندا الى يومئذ بحذف المضاف اى عذاب يومئذ وحينئذ ويومئيذ «١» مبنى على الفتح فَقَدْ رَحِمَهُ الله حيث نجاه من العذاب
(١) لاكتسابه البناء من المضاف اليه ١٢ منه
ادخله الجنة رحمة منه لا لاداء حق عليه وَذلِكَ الصرف الْفَوْزُ الْمُبِينُ فى القاموس الفوز النجاة والظفر بالخير والهلاك فالمراد هاهنا الظفر بالخير لان الهلاك ليس بمراد البتة لدلالة السياق وكذا النجاة غير مراد إذ المراد باسم الاشارة هو الصرف وهو عين النجاة فيكون الحمل غير مفيد وبهذا يظهر ان دخول الجنة لازم لصرف العذاب عنه فيمكن بهذه الاية الاستدلال على نفى المنزلة بين المنزلتين كما قالت بها المعتزلة.
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ بشدة كفقر او مرض او عذاب فَلا كاشِفَ لَهُ يعنى لا قادر على كشفه أحد إِلَّا هُوَ والا يلزم عجزه تعالى وهو محال مناف للالوهية ووجوب الوجود وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ بعافية ونعمة من صحة وغنى وغيرهما فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فكان قادرا على ادامته وحفظه وكذا على إزالته ولا يستطيع أحد غيره إزالته روى البغوي بسنده عن ابن عباس رض قال اهدى للنبى ﷺ بغلة اهديها له كسرى فركبها بحبل من شعر ثم أردفني خلفه ثم سار بي مليا ثم التفت الى فقال يا غلام قلت لبيك يا رسول الله قال احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده امامك تعرف الله فى الرخاء يعرفك فى الشدة فاذا سالت فاسال الله وإذا استعنت فاستعن بالله قد مضى القلم بما هو كائن فلو جهد الخلائق ان ينفعوك بما لم يقضه الله تبارك وتعالى لك لم يقدروا عليه ولو جهدوا ان يضروك بما لم يكتبه الله سبحانه وتعالى عليك ما قدروا عليه فان استطعت ان تعمل بالصبر مع اليقين فافعل فان لم تستطع فاصبر فان فى الصبر على ما تكره خيرا كثيرا واعلم ان النصر مع الصبر وان مع الكرب الفرج وان مع العسر يسرا وروى احمد والترمذي نحوه وقال الترمذي حديث حسن صحيح وليس فى روايتهما من قوله فان استطعت ان تعمل بالصبر إلخ.
وَهُوَ الْقاهِرُ مبتدأ وخبر والقهر الغلبة والتذليل معا وفيه زيادة معنى على القدرة وهى منع غيره عن بلوغ المراد من غير إرادته فَوْقَ عِبادِهِ خبر بعد خبر تصوير لقهره وعلوه وَهُوَ الْحَكِيمُ فى امره الْخَبِيرُ بكل شىء لا يخفى عليه شى قال الكلبي اتى اهل مكة رسول الله ﷺ فقالوا أرنا من يشهد انك رسول الله فانا لا نرى أحدا يصدقك ولقد سالنا عنك اليهود والنصارى فزعموا انه ليس لك عندهم ذكر فانزل الله تعالى.
قُلْ أَيُّ شَيْءٍ الشيء يقع
222
على كل موجود وقد مر الكلام فيه فى سورة البقرة والمعنى اى شاهد أَكْبَرُ اى أعظم شَهادَةً اى شىء مبتدأ واكبر خبره وشهادة تميز عن النسبة يعنى شهادة اى شاهد اكبر فان أجابوك والا قُلْ أنت اللَّهُ اكبر شهادة حذف الخبر لقرينة السؤال وتم الكلام وقوله شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ خبر مبتدأ محذوف يعنى هو شهيد بينى وبينكم وجاز ان يكون الله شهيد هو الجواب لانه تعالى إذا كان شهيدا كان اكبر شىء شهادة وجاز ان يكون تاويل الاية انه اى مشهود اكبر شهادة يعنى مشهودية رسالتى او عدمها والجواب الله شهيد على رسالتى ومعلوم انه ما كان الله عليه شهيدا فهو اكبر شهادة وحينئذ لا حاجة الى تكلف وشهادة الله تعالى على الرسالة اظهار المعجزات الدالة على صدقه ﷺ ولما كان أعظم المعجزات القران بين الشهادة بقوله وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ المعجز المخبر بأخبار المبدأ والمعاد على ما نطق به الكتب السابقة لِأُنْذِرَكُمْ أخوفكم من عذاب الله ان لم تؤمنوا بِهِ اى بالقران اكتفى بالإنذار عن ذكر البشارة لدلالة الحال والمقال ولمزيد الاهتمام بالإنذار فان دفع المضرة اولى من جلب المنفعة وَمَنْ بَلَغَ منصوب بالعطف على ضمير المخاطبين يعنى لانذركم يا اهل مكة ومن بلغه القران من الموجودين فى ذلك الزمان وبعد ذلك الزمان الى يوم القيامة من الجن والانس عن عبد الله بن عمر وقال قال رسول الله ﷺ بلغوا عنى ولو اية وحدثوا عن بنى إسرائيل ولا حرج ومن كذب على متعمدا فليتبوأ مقعده من النار متفق عليه والمراد ببني إسرائيل فى هذا الحديث المؤمنين الصادقين منهم إذ لا وثوق برواية الكفرة الكذابين بدليل حديث سمرة بن جندب والمغيرة ابن شعبة قالا قال رسول الله ﷺ من حدث عنى بحديث يرى انه كذب فهو أحد الكاذبين رواه مسلم وعن ابن مسعود ان رسول الله ﷺ قال نضر الله عبد اسمع مقالتى فحفظها ووعاها وأداها فرب حامل فقه الى من هو افقه منه ثلث لا يغل عليهن قلب مسلم اخلاص العمل لله تعالى ونصيحة المسلمين ولزوم جماعتهم فان دعوتهم تحيط من ورائهم رواه الشافعي والبيهقي فى المدخل ورواه احمد والترمذي وابو داؤد وابن ماجة والدارمي عن زيد بن ثابت الا ان الترمذي وأبا داؤد لم يذكرا ثلاث لا يغل إلخ قال محمد بن كعب القرظي من بلغه القران فكانما رأى
223
محمدا ﷺ وسمع منه أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ يا اهل مكة أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى تقرير لهم مع انكار واستبعاد وتعجب حيث يشهدون على امر ظاهر بطلانه بالادلة القطعية النقلية والعقلية على التوحيد هذه الاية تدل على ان اهل مكة طلبوا من النبي ﷺ شاهدا على التوحيد ومعنى الاية ان الله يشهد على التوحيد بنصب الادلة عليه وإنزال القران المعجز وهو اكبر شهادة اأنتم تشهدون على خلافه قلت لعلهم طلبوا شاهدا على التوحيد والرسالة جميعا واقتصر الكلبي فى ذكر شان النزول على طلب الشهادة على الرسالة فان الشهادة على الرسالة يستلزم الشهادة على التوحيد من غير عكس قُلْ لا أَشْهَدُ بما تشهدون قُلْ إِنَّما هُوَ اى الله إِلهٌ واحِدٌ متوحد فى استحقاق العبودية ووجوب الوجود والتخليق والترزيق وغير ذلك من صفات الكمال لا شريك له فى شىء منها منزه عن أنحاء التركيب والتعدد وما يستلزمه أحدهما من الجسمية والتحيز والمشاركة لشئ من الأشياء فى صفة من صفات الكمال فلا يرد ما يقال ان الحمل غير مفيد فان الله جزئى حقيقى والجزئى الحقيقي لا يحتمل التعدد هذا على تقدير كون ما كافة وضمير هو راجعا الى الله تعالى وجاز ان يكون ما موصولة مبتدأ وضمير هو راجعا الى الموصولة وجملة هو اله صلة وواحد خبر للموصول مع الصلة فلا إشكال يعنى ما هو اله مستحق للعبادة لاجل كونه واجبا وجوده وصفات كماله مقتضيا لوجود من عداه وتوابعه واحد لا شريك له والمعنى لا اشهد ما تشهدون بل على التوحيد وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ بالله تعالى إياه فى استحقاق العبادة من الأصنام او من اشراككم.
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ يعنى محمدا ﷺ موصوفا بالرسالة من الله تعالى لتطابق حليته وأخلاقه وأوصافه بما نعت فى التورية والإنجيل كَما يَعْرِفُونَ اى معرفة كمعرفة أَبْناءَهُمُ من بين الصبيان بحلاهم الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ من اهل الكتاب بكتمان نعته ﷺ حيث قدر الله تعالى عليهم بالخسران فى علمه القديم فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ بالنبي ﷺ ويجحدون بنبوته بعد ما استيقنت به أنفسهم ظلما وعلوا وتعنتا وعنادا هذه الاية جواب لقولهم لقد سالنا عنك اليهود والنصارى
فزعموا انه ليس لك عندهم ذكر يعنى انهم كذبوا وخسروا أنفسهم حيث بدلوا منازلهم من الجنة ان أمنوا بمنازلهم من النار اخرج ابن ماجة والبيهقي بسند صحيح عن ابى هريرة قال قال رسول الله ﷺ ما منكم من أحد الا له منزلان منزل فى الجنة ومنزل فى النار فاذا مات فدخل النار ورث اهل الجنة منزله فذلك قوله تعالى أولئك هم الوارثون قال البغوي إذا كان يوم القيامة جعل الله للمؤمنين منازل اهل النار فى الجنة ولاهل النار منازل اهل الجنة فى النار وذلك الخسران قلت كان مقتضى سياق الكلام الذين لا يؤمنون خسروا أنفسهم قلب الحمل مبالغة.
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً يعنى ادعى الرسالة كاذبا وقال اوحى الى ولم يوح اليه شىء أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ المنزلة فى القران والمعجزات الدالة على التوحيد وصدق الرسول يعنى لا أحد اظلم منه فهذه الاية بهذا التأويل لتنزيه النبي ﷺ عن الكذب وتنبيه الكافرين على كونهم اظلم الناس وجاز ان يكون المعنى من اظلم ممن افترى على الله كذبا وقال فيه ما لا يليق به من نسبة الولد او الشريك وقال للحجارة هؤلاء شفعاءنا عند الله او كذب باياته وكان المناسب على هذا التأويل العطف بالواو مكان او لانهم قد جمعوا بين الامرين لكن ذكر كلمة او تنبيها على ان كل واحد من الامرين بالغ غاية الافراط فى الظلم فكيف إذا اجتمعا وجاز ان يكون فى كلمة او اشعارا بكون الامرين متناقضين مع كونهما قبيحا ومع ذلك جمع الكفار بين الامرين المتناقضين لفرط حماقتهم وجه التناقض ان الافتراء على الله ودعوى انه تعالى حرم كذا وأحل كذا واتخذ صاحبة وولدا ويقبل شفاعة الأصنام مثل دعوى الرسالة يزعمون وجوب قبوله بلا دليل وتكذيبهم الآيات والمعجزات وقولهم الرسول لا يكون بشرا بل لا بد ان يكون ملكا يشعر وجوب عدم قبول دعوى الرسالة مع قيام الادلة القاطعة إِنَّهُ اى الشان لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ فضلا عمن هو اظلم الناس لا أحد اظلم منه «١».
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ يعنى الكفار وما عبدوه جَمِيعاً يعنى يوم القيمة قرأ يعقوب بالياء على الغيبة والضمير عائد الى الله تعالى ووافقه حفص فى سبا والباقون بالنون على التكلم فى الموضعين والظرف معمول بفعل
(١) شعر
واى بر قومى كه بت را سجده بي حجت كنند با رسل گويند ايتونا بسلطن مبين
. ١٢ منه
محذوف حذف الفعل لينتقل الذهن الى احوال كثيرة واهوال متعددة تلحق الناس فى ذلك اليوم كانه قال يدهشون دهشة لا يحيط به العبارة وتدنو الشمس منهم ويلجمهم العرق ويذهب عرقهم فى الأرض سبعين باعا كما ورد فى الصحاح من الأحاديث ويفعل بهم كيت كيت يوم يحشرهم وجاز ان يكون مفعولا به لا ذكر ثُمَّ نَقُولُ معطوف على نحشر وفى كلمة ثم اشارة الى انتظارهم بعد الحشر الى السؤال قال رسول الله ﷺ كيف بكم إذا جمعكم الله كما يجمع النبل فى الكنانة خمسين الف سنة لا ينظر إليكم رواه الحاكم وصححه والبيهقي عن ابن عمر وقال تمكثون الف عام فى الظلمة يوم القيامة لا تكلمون رواه البيهقي عن ابن عمر لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ اى الهتكم التي جعلتموها شركاء الله فى العبادة الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ اى تزعمونها شركاء فى استحقاق العبادة او تزعمونها شفعاء عند الله حذف المفعولان والمراد من الاستفهام التوبيخ.
ثُمَّ لَمْ تَكُنْ قرأ حمزة والكسائي ويعقوب بالياء على التذكير وفِتْنَتُهُمْ بالنصب على انه خبر كان واسمها إِلَّا أَنْ قالُوا وقرأ نافع وابو عمرو وابو بكر وابو جعفر لم تكن بالتاء على التأنيث لتانيث الخبر وفتنتهم بالنصب وابن كثير وابن عامر وحفص لم تكن بالتاء على التأنيث وفتنتهم بالرفع على انه اسم كان والمستثنى حبره وكلمة ثم تدل على طول التأمل فى الجواب والمراد بالفتنة الكفر يعنى يكون عاقبة كفرهم هذا القول بعد طول التأمل والندامة وقال ابن عباس وقتادة معذرتهم وانما سمى المعذرة فتنة لانهم يتوهمون بها خلاص أنفسهم من فتنت الذهب إذا أخلصته وقيل معنى فتنتهم جوابهم وانما سماه فتنة لانه كذبا ولانهم قصدوا بها الخلاص وقيل معناه التجربة ولما كان سوالهم تجربة لاظهار ما فى قلوبهم سمى الجواب فتنة قال الرجاج فى قوله تعالى ثم لم تكن فتنتهم معنى لطيف وذلك مثل الرجل يفتن بحبوب ثم يصيبه فيه محنة فيتبرأ من محبوبه فيقال لم تكن فتنة الا هذا كذلك الكفار فتنوا بمحبة الأصنام قلت بل بتقليد الآباء ثم لما رأوا العذاب تبرأوا منها وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ مقولة قالوا قرأ حمزة ربنا بالنصب على النداء او المدح والباقون بالجر على انه نعت لله روى البخاري وغيره عن ابن عباس فى قوله تعالى ولا يكتمون الله حديثا وقوله تعالى والله ربنا ما كنا مشركين انه قال ان المشركين لما راوا يوم القيامة ان الله يغفر لاهل الإسلام ويغفر الذنوب و
لا يغفر الشرك جحدوا رجاء ان يغفر لهم فقالوا والله ربنا ما كنا مشركين فيختم الله على أفواههم وتكلمت أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون فعند ذلك يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا فقال الله تعالى.
انْظُرْ ايها المخاطب كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ اى زال وذهب عنهم افترائهم بان الله حرم هذا وهؤلاء شفعاءنا عند الله عطف على كذبوا وكيف حال من فاعل كذبوا قدم لاقتضاء الاستفهام الصدارة ومضمون الجملة مفعول انظر يعنى انظر كذبهم على أنفسهم متكيفين باى كيفية حيث لا يفيدهم قال الكلبي اجتمع ابو سفيان بن حرب وابو جهل بن هشام والوليد بن المغيرة والنضر بن الحارث وعتبة وشيبة ابنا ربيعه وامية وابى ابنا خلف والحرث بن عامر يستمعون القران فقالوا للنضر يا با قتيلة ما يقول محمد قال ما أدرى ما يقول الا انه يحرك لسانه ويقول أساطير الأولين مثل ما أحدثكم عن القرون الماضية وكان النضر كثير الحديث عن القرون واخبارها فقال ابو سفيان انى ارى بعض ما يقول حقا فقال ابو جهل كلا لا تقر بشئ من هذا وفى رواية الموت أهون علينا من هذا فانزل الله تعالى.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حين تتلو القران وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً جمع كنان وهو ما يستر الشيء أَنْ يَفْقَهُوهُ اى لئلا يفقهوه او كراهة ان يفقهوه وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً صمما وثقلا يمنع أسماعهم وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ من المعجزات لا يُؤْمِنُوا بِها لانه تعالى جعل على أبصارهم غشاوة وعلى قلوبهم اكنة وتلك الاكنة موجبة لفرط عنادهم بالنبي ﷺ واستحكام تقليدهم بالآباء حيث لا يرون الحسن حسنا ولا القبيح قبيحا حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا حتى عاطفة تدخل على الجمل عطف على لا يؤمنون وإذا ظرف تضمن معنى الشرط جوابه يجادلونك ويقول تفسير له او يقال يجادلونك منصوب المحل على انه حال من فاعل جاؤا وجواب الشرط يقول والمعنى بلغ عدم ايمانهم وتكذيبهم الى مرتبة المجادلة وجعل اصدق الحديث خرافات الأولين والمجيء لاجل المجادلة وهذا غاية التكذيب وجاز ان يكون حتى جارة وإذا فى محل الجر متعلقا بقوله تعالى لا يؤمنون على مذهب سيبويه حيث يقول بجواز وقوع إذا غير ظرف خلافا لجمهور النحاة وعلى هذا التأويل
يجادلونك حال ويقول تفسير له وفى يقول الذين كفروا وضع المظهر موضع المضمر إِنْ هذا يعنى ما هذا القران إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ مقولة يقول فى القاموس السطر الصف من الشيء كالكتاب والشجر والخط والجمع اسطر وسطور واسطار وجمع الجمع أساطير والأساطير الأحاديث التي لا نظام لها وقال البيضاوي الأساطير الأباطيل قلت هذا لازم معناه الحقيقي فان المكتوب فى كتب قصص الأولين غالبا يكون أباطيل لعدم الاطلاع على ما سبق وعدم الاحتياط فى الرواية ويكون قصص الأولين غالبا لا نظام لها لاجل اختلاف الروايات ثم استعمل لفظ أساطير الأولين فى الأحاديث الباطلة الكاذبة حتى صار هو معناه الحقيقي المنقول اليه.
وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ قال ابن عباس نزلت الاية فى ابى طالب كان ينهى المشركين ان يؤذوا رسول الله ﷺ ويتباعد عما جاء به فلا يؤمن به كذا اخرج الحاكم وغيره عنه وعلى هذا ضمير الجمع راجع الى ابى طالب ومن يساعده وكذا اخرج ابن ابى حاتم عن سعيد بن ابى هلال حيث قال نزلت فى عمومة النبي ﷺ وكانوا عشرة فكانوا أشد الناس معه فى العلانية وأشد الناس عليه فى السر فمعنى الاية ينهون الناس عن إيذائه ﷺ وينئون اى يتباعدون عن اتباعه قال البغوي انه روى انه اجتمع رؤس المشركين الى ابى طالب وقالوا خذ شابا من أصبحنا وجها وادفع إلينا محمدا ﷺ فقال ابو طالب ما أنصفتموني ادفع إليكم ولدي لتقتلوه واربى ولدكم وروى ان النبي ﷺ دعاه الى الإسلام فقال لولا ان يعيرنى قريش لا قررت به عينك ولكن أذب عنك ما حييت وقال فيه أبياتا شعر
والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى اوسّد فى التراب دفينا
فاصدع بامرك ما عليك غضاضة وابشر وقر بذاك عنك عيونا
دعوتنى وعرفت انك ناصحى ولقد صدقت وكنت ثم أمينا
وعرضت دينا قد علمت بانه من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة او حذار مسبة لوجدتنى سمحا بذاك مبينا
غضاضة الشباب نضارته وطراوته وقال محمد بن الحنفية والضحاك وقتادة نزلت فى كفار مكة ومعناه ينهون الناس
عن اتباع محمد ﷺ او القران ويتباعدون عنه وَإِنْ اى ما يُهْلِكُونَ بذلك إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ ان ضرره يعود إليهم ولا يعود الى النبي ﷺ منه شىء.
وَلَوْ تَرى الكفار إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ يعنى حين يوقفون على النار حتى يعاينوها ويطلعوا عليها او يدخلوها فيعرفوا عذابها وجواب لو محذوف يعنى لرايت امرا عجيبا فزيعا فَقالُوا عطف على وقفوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ الى الدنيا دار العمل وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قرأ حفص وحمزة الفعلين منصوبين على جواب التمني بإضمار ان بعد الواو وقرأ ابن عامر برفع الاول عطفا على نرد او حالا من الضمير فيه ونصب الثاني على الجواب والباقون بالرفع فيهما عطفا على نرد او حالا من فاعله او استينافا وقال المحقق التفتازانيّ هو عطف الخبر على الإنشاء وهو جائز إذا اقتضاه المقام.
بَلْ إعجاب عن ارادة الايمان والعزم عليه المفهوم من التمني يعنى انما قالوا ذلك ضجرا على كفرهم لا عزما على الايمان بَدا لَهُمْ اى ظهر لهم ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ فى الدنيا من النفاق او ما كان اهل الكتاب يخفون نعت النبي ﷺ وقد كانوا يعرفون النبي ﷺ كما يعرفون أبناءهم او ما كانوا يخفون فى الاخرة من الشرك حين قالوا والله ربنا ما كنا مشركين قال النضر بن شميل معناه بدا عنهم وقال المبرد بدا لهم جزاء ما كانوا يخفون وَلَوْ رُدُّوا الى الدنيا فرضا بعد ما عاينوا نار جهنم لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ من الكفر والمعاصي لان مبادى تعيناتهم ظلال اسم الله المضل لا يحتمل صدور الايمان منهم وان كانوا على يقين من حقية الايمان وبطلان الكفر كما ان اليهود كانوا ينكرون ويبغضون محمدا عليه السلام وهم كانوا يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ويجحدون بما استيقنت به أنفسهم ظلما وعلوا وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ فيما وعدوه بعدم التكذيب والايمان على قراءة الرفع او فيما يفهم من الوعد من التمني او المعنى انهم معتادون بالكذب لا يتكلمون بمقتضى الآيات من التوحيد وغير ذلك عوض العايضين اخرج الطبراني فى الأوسط عن ابى هريرة قال سمعت رسول الله ﷺ يقول ليعذرن الله الى آدم يوم القيمة ثلثة معاذير يقول يا آدم لولا انى لعنت الكاذبين وأبغضت الكذب والخلف وواعدت عليه لرحمتك اليوم ولدك أجمعين
ولكن حق القول منى لئن كذّبت رسلى وعصى امرى لاملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ويقول الله يا آدم انى لا ادخل النار أحدا ولا أعذب منهم الا من علمت بعلمي انى لورددته الى الدنيا لعاد الى شر ما كان فيه لم يرجع ولم يعقب ويقول الله يا آدم قد جعلتك حكما بينى وبين زريتك قم عند الميزان إذا يرفع إليك من أعمالهم فمن رجح منهم خيره على شره مثقال ذرة فله الجنة حتى تعلم انى لا ادخل النار الا ظالما.
وَقالُوا عطف على لعادوا يعنى لوردوا قالوا او على انهم لكاذبون يعنى وهم الذين قالوا ذلك فى الدنيا او على نهوا يعنى لو ردوا لعادوا لما نهوا ولما قالوا او استيناف بذكر ما قالوه فى الدنيا إِنْ هِيَ الضمير للحيوة إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا اى القربى مؤنث ادنى من الدنو وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ وَلَوْ تَرى يا محمد إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ مجاز عن الحبس للسوال والتوبيخ وقيل معناه على قضاء ربهم او جزائه او عرفوه حق التعريف وجواب لو محذوف مثل ما تقدم قالَ الله او خزنة النار بإذن الله كانه جواب قائل قال ماذا قال ربهم حينئذ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ المشار اليه البعث وما ترتب عليه من الثواب والعقاب استفهام للتفريع والتعيير على التكذيب قالُوا بَلى وَرَبِّنا أقروا مؤكدا باليمين لظهور الأمر كل الظهور وللتبرى عن الشرك والتكذيب وقال ابن عباس هذا فى موقف وللقيامة مواقف ففى موقف يقرون وفى موقف ينكرون قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ع اى بسبب كفركم او يبدله.
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ اى بالبعث بعد الموت المفضى الى روية الله خسر الكافرون حيث أنكروا البعث والجنة والنار ففاتهم النعيم المقيم واستبدلوا بها العذاب الأليم وخسر المعتزلة حيث أنكروا روية الله تعالى فيحرمون عنها وأنكروا الشفاعة والمغفرة فيحرمون عنهما قال الله تعالى انا عند ظن عبدى بي متفق عليه عن ابى هريرة مرفوعا وعند الطبراني والحاكم بسند صحيح عن واثلة واخرج اللالكائى عن ابراهيم الصائغ قال ما يسرنى ان لى نصف الجنة بالروية ثم تلى كلا انهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ثم انهم لصالوا الجحيم ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون قال بالروية حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ قال البيضاوي غاية لكذبوا لا لخسروا فان خسرانهم لا غاية له فان قيل تكذيبهم منته الى الموت لا الى قيام
230
الساعة قلنا لعل المراد بالساعة ساعة الموت فانه من مات فقد قامت قيامته فى الصحيحين عن عائشة قالت كان رجال من الأعراب يأتون النبي ﷺ فيسألونه عن الساعة فكان ينظر الى أصغرهم فيقول ان يعش هذا لا يدركه الهرم حتى تقوم عليكم ساعتكم وان كان المراد بها القيامة فالموت مقدمة للساعة فكانها هى الساعة او جعل الساعة زمان الموت لسرعة مجئ الساعة بعدها وحينئذ يمكن ان يقال انه غاية للخسران لان الخسران فوات راس المال وحين الموت لم يبق راس المال وهى الحيوة فانتهى زمان خسرانهم وبعده زمان الإفلاس بَغْتَةً يعنى فجأة منصوب على الحال او المصدر فانها نوع من المجيء قالُوا يا حَسْرَتَنا جواب إذا ذكر على وجه النداء يعنى تعال هذا او انك عَلى ما فَرَّطْنا فِيها اى فى الحيوة الدنيا من عمل الخير فهو إضمار بلا ذكر المرجع للعلم به او الضمير راجع الى الساعة يعنى قصرنا فى شان الساعة والايمان بها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ يعنى أعمالهم القبيحة عَلى ظُهُورِهِمْ إذا خرجوا من القبور اخرج ابن ابى حاتم عن عمرة بن قيس الملائى ان المؤمن إذا خرج من قبره استقبله عمله فى احسن صورة وأطيب ريح فيقول هل تعرفنى فقال لا الا ان الله قد أطيب ريحك واحسن صورتك فيقول كذلك كنت فى الدنيا انا عملك الصالح طال ما ركبتك فى الدنيا اركبنى اليوم وتلا يوم نحشر المتقين الى الرحمن وفدا وإن كان الكافر يستقبله عمله فى أقبح صورة وأنتنه ريحا فيقول او لا تعرفنى قال لا الا ان الله قبح صورتك ونتن ريحك فيقول كذلك كنت فى الدنيا انا عملك السيء طال ما ركبتى فى الدنيا وانا أركبك اليوم وتلى وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم وعن ابى هريرة قال قام رسول الله ﷺ فعظم الغلول وامره ثم قال الا الفين أحدكم يجئ يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء فيقول يا رسول الله أغثني فاقول لا املك من الله شيئا قد أبلغتك الحديث ذكر فيه على رقبته فرس له حمحمة على رقبته شاة لها ثغاء على رقبته صامة متفق عليه وروى ابو يعلى والبزار عن عمر بن الخطاب نحوه واخرج الطبراني عن ابن مسعود مرفوعا من بنى بناء فوق ما يكفيه كلف ان يحمل على عاتقه وفى الصحيحين عن عائشة مرفوعا من ظلم قيد شبر من ارض طوقه الله يوم القيامة من سبع ارضين وفى الباب عند الطبراني عن الحكم بن حارث وانس وعنده وعند احمد عن يعلى بن مرة وابى مالك الأشعري
231
أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ اى بئس شيئا يزرونه وزرهم.
وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ جواب لقولهم ان هى الا حيوتنا الدنيا واللعب فعل لا يكون له غرض صحيح ولا يترتب عليه منفعة واللهو ما يشغله عما ينفعه يعنى ما الأعمال التي يقصد بها معيشة الدنيا ولذاتها من غير ان يبتغى بها وجه الله تعالى الا باطلا لا ينفع منفعة معتدة بها لسرعة زوالها فكانها لا منفعة فيها أصلا وهى شاغلة عما يفيده فى الحيوة الابدية وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ قرأ ابن عامر ولدار الاخرة بالاضافة بتأويل ولدار الساعة الاخرة كصلوة الوسطى ومسجد الجامع والباقون بالتوصيف خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ عن الشرك والمعاصي لدوامها وخلوص منافعها ولذاتها وتخصيص الخيرية بالمتقين لانها شر للمشركين حيث يعذبون فيها وفيه اشارة الى انه ما ليس من اعمال المتقين لعب ولهو فان اعمال المتقين فى مقابلة اعمال الدنيا أَفَلا تَعْقِلُونَ قرأ نافع وابن عامر وحفص بالتاء على الخطاب والباقون بالياء على الغيبة يعنى أفلا يعقلون اى الامرين من اعمال الدنيا والاخرة خير فان خير ما يكون منفعته قوية خالصة ابدية على ما هى ضعيفة مشوبة بالمضرات على شرف الزوال بديهية روى الترمذي والحاكم عن على ان أبا جهل قال للنبى ﷺ انا لا نكذبك ولكن نكذب بما جئت به فانزل الله تعالى.
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ الاية قال البيضاوي قد لزيادة الفعل وكثرته كما فى قوله ولكنه قد يهلك المال نايله وضمير انه للشان قال السدى التقى الأخنس بن شريف وابو جهل ابن هشام فقال الأخنس لابى جهل يا أبا الحكم أخبرني عن محمد بن عبد الله اصادق هو أم كاذب فانه ليس هاهنا أحد يسمع كلامك غيرى فقال ابو جهل والله ان محمد الصادق وما كذب محمد قط لكن إذا ذهب بنو قصى باللواء والسقاية والحجابة والندوة والنبوة فماذا يكون لساير قريش فانزل الله عز وجل فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ قرأ نافع والكسائي بالتخفيف من الافعال من أكذبه إذا وجده كاذبا والباقون بالتشديد من التفعيل بمعنى نسبته الى الكذب وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ قال ناجية بن كعب قال ابو جهل للنبى ﷺ لا نتهمك ولا نكذبك ولكنا نكذب التي جئت به وضع الظالمين موضع الضمير للدلالة على انهم ظلموا لجحودهم او جحدوا لتمرنهم على الظلم والباء لتضمين الجحود معنى التكذيب يعنى ان تكذيبهم
إياك راجع الى الله تعالى فانهم انما يكذبونك من حيث الرسالة وتكذيب الرسول من حيث انه رسول تكذيب للمرسل.
وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ تسلية لرسول الله ﷺ يعنى كذّبهم قومهم كما كذبك قومك وفيه دليل على ان قوله لا يكذبونك ليس على حقيقة بل المراد منه ان تكذيبه ﷺ راجع الى تكذيب الله سبحانه قال رسول الله ﷺ من آذاني فقد أذى الله فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا يعنى على تكذيبهم وإيذائهم حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا جعل غاية الصبر النصر فاصبر أنت ايضا كما صبروا حتى يأتيك النصر ففيه وعد بالنصر وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ اى لمواعيده بالنصرة لانبيائه قال الله تعالى ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين انهم لهم المنصورون وان جندنا لهم الغالبون وقال انا لننصر رسلنا وقال كتب الله لاغلبن انا ورسلى وجاز ان يكون المعنى لا مبدل لقضائه وكلماته التكوينية يعنى متى لم يأت وقت النصر لا فائدة للاضطراب بل لا بد من الصبر وإذا جاء وقت النصر لا مرد له وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ من زائدة عند الأخفش وتبعيضية عند سيبويه حيث لا يجوز زيادة من فى الكلام الموجب يعنى جاءك ما يكفيك للتسلية من نبأ المرسلين ولما كان رسول الله ﷺ حريصا أشد الحرص على ايمان قومه وكان يشق عليه اعراضهم من الايمان وكان إذا سئلوا اية أحب ان يريهم الله تعالى طمعا فى ايمانهم انزل الله تعالى.
وَإِنْ كانَ كَبُرَ اى شق عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ عن الايمان بما جئت به فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ تطلب نَفَقاً سريا فِي الْأَرْضِ صفة لنفقا يعنى تطلب منفذا تنفذ الى جوف الأرض فتطلع لهم اية أَوْ سُلَّماً يعنى مصعدا فِي السَّماءِ صفة سلما يعنى تطلب مصعدا جانب العلو تصعد منه الى السماء فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ فتنزل منها اية وجواب الشرط الثاني محذوف يعنى فافعل والجملة جواب للشرط الاول والحاصل انك لا تقدر على إتيان اية فلا تتعب وان كبر عليك اعراضهم بل تصبر وَلَوْ شاءَ اللَّهُ هدايتهم أجمعين لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فان مشية العباد مخلوقة لله تعالى تابع للمشية لكنه لم يشأ لحكمة لا يعلمها الا الله ولا تتمالك أنت فلا تتعب واصبر فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ فان اتعاب النفس فيما لا يفيد والجزع
فى مواضع الصبر من داب الجاهلين او المعنى لا تكونن من الجاهلين بان هدايتهم بمشية الله تعالى لا بمشيتك.
إِنَّما يَسْتَجِيبُ دعوتك من أمتك الَّذِينَ يَسْمَعُونَ يعنى الذين يخلق الله تعالى فى قلوبهم علما بحقية المسموع اطلق السمع وأريد به العلم الحاصل بعد ذلك جريا على عادة الله تعالى وَالْمَوْتى يعنى الكافر عبر الله تعالى الكافر بالموتى لان الله تعالى لما طبع على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم فلا يخلق فى قلوبهم العلم بحقية ما هو حق وبطلان ما هو باطل فلا ينتفعون بالأسماع والابصار كانوا كالموتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ يوم القيامة ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ فيجازيهم على كفرهم ولا يسمعون الحق ولا يبصرونه قبل ذلك او المعنى والموتى من المؤمن والكافر يبعثهم الله ثم اليه يرجعون بعد البعث فيجازيهم على حسب أعمالهم.
وَقالُوا يعنى روساء قريش لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ يعنى اية مما اقترحوه او اية اخرى سوى ما انزل عليه من الآيات المتكثرة لعدم اعتدادهم بها عنادا قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً مما اقترحوه او اية يضطرهم الى الايمان كنتق الجبل او اية ان جحدوا بعدها هلكوا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ان الله قادر على انزالها او ما عليهم فى انزالها من الاستيصال بعد تكذيب اية ينزل باقتراحهم كما هو عادة الله تعالى.
وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ تدب عليها وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ فى الهواء وضعه به تأكيدا وقطعا لاحتمال مجاز السرعة ونحوها الّا امم أَمْثالُكُمْ فى الخلق والموت والبعث وفى الغذاء وابتغاء الرزق والعافية وإصابة البلاء لا مزية لكم عليها الا بمعرفة الله تعالى ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ يعنى فى اللوح المحفوظ مِنْ شَيْءٍ من زائد وشىء فى موضع المصدر اى شيئا من التفريط وليس بمفعول به فان فرط لا يتعدى بنفسه يعنى علم الله تعالى شامل لكل شىء خفى وجلى ولم يهمل فى اللوح المحفوظ امر حيوان ولا جماد او المراد بالكتاب القران فانه قد دون فيه ما يحتاج اليه من امر الدين مفصلا او مجملا ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ يعنى الأمم كلها المشبه والمشبه به فصح الجمع بالواو قال ابن عباس والضحاك حشرها موتها وروى ابن جرير وابن ابى حاتم والبيهقي عن ابى هريرة قال يحشر الخلق كلهم يوم القيامة البهائم و
الدواب والطير وكل شىء فبلغ من عدل الله تبارك وتعالى ان يأخذ للجماء من القرناء ثم يقول كونى ترابا فذلك حين يقول الكافر يا ليتنى كنت ترابا وروى البغوي عنه انه قال عليه الصّلوة والسّلام لتؤدن الحقوق الى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من القرناء وروى الطبراني فى الأوسط عنه قال قال رسول الله ﷺ ان أول خصم يقضى فيه يوم القيامة عنزان ذات قرن وغير ذات قرن ونحوه عن ابى ذر عند احمد والبزار والطبراني وروى الحاكم عن ابن عمر ونحوه ولما ذكر من خلائقه واثار قدرته ما يدل على عظمته وشمول علمه وقدرته على البعث والجزاء قال.
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ لا يسمعون مثل هذه الآيات المنبهة خبر للموصول وَبُكْمٌ لا ينطقون بالحق معطوف على صم فِي الظُّلُماتِ خبر بعد خبر والمراد بالظلمات ظلمة الكفر والجهل والعناد وتقليد الآباء وجاز ان يكون حالا من المستكن فى الخبر ثم قال إيذانا بان الاهتداء بالآيات وعدمه يتوقف على مشية الله تعالى وانه تعالى يفعل ما يريد مَنْ يَشَأِ اللَّهُ ضلاله يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ هدايته يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ موصل الى ما هو حق فى نفس الأمر.
قُلْ يا محمد لهؤلاء المشركين أَرَأَيْتَكُمْ قرأ نافع ارايتكم وارايتم وأ فرأيت وشبهه إذا كان قبل الراء همزة بتسهيل الهمزة والتي بعد الراء والكسائي يسقطها أصلا وحمزة يوافق نافعا فى الوقف فقط والباقون يحققونها فى الحالين استفهام تعجيب والكاف حرف خطاب أكد به الضمير المرفوع المفرد بناء على شمول الجمع المفرد ولا محل له من الاعراب ومفعولاه محذوفان تقديره ارايتكم الهتكم تنفعكم إذ تدعونها يدل عليهما ما بعده او الفعل فى المعنى متعلق بغير الله تدعون لكنه معلق لان الروية تعلق قبل الاستفهام كما عرف فى موضعه قال البيضاوي الاستفهام للتعجيب فانهم لما عاملوا معاملة من يعلم انه يدعو غير الله فى الابتلاء الشديد نزلهم منزلتهم وتعجيب عن هذا العلم وقال الفراء يقولون ارايتك وهم يريدون أخبرنا قال المحقق التفتازانيّ انما وضع الاستفهام عن العلم او عن روية البصر عن الاستخبار لان الروية بالبصر سبب للعلم والعلم سبب للاخبار فوضع السبب موضع المسبب إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ فى الدنيا كما اتى الأمم الماضية أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ باهوالها أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ بصرف
العذاب عنكم استفهام انكار فيه تبكيت لهم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ان الأصنام الهة فادعوها وليس الأمر كذلك.
بَلْ إِيَّاهُ يعنى الله تعالى تَدْعُونَ قدم المفعول للحصر يعنى لا تدعون فى الشدائد الا الله سبحانه لا غير فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ اى ما تدعونه الى كشفه إِنْ شاءَ كشفه ذلك فى الدنيا دون الاخرة وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ ع يعنى تتركون الهتكم فى ذلك الوقت لما تقرر فى العقول ان القادر على كشف الضر هو الله تعالى لا غير.
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ من زائدة فكذبوهم فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ بالشدة والفقر وَالضَّرَّاءِ المرض والآفات لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ اى يتوبون بالتضرع والخشوع عن ذنوبهم التضرع السؤال بالتذلل.
فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا يعنى فلم يتضرعوا إذ جاءهم بأسنا وانما عدل عن نفى التضرع الى صيغة التنديم ليفيد ان ترك التضرع منهم لم تكن من عذر بل كان مع قيام ما يدعوهم اليه وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ فلم ينتبهوا بما ابتلوا به وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ فاستحسنوا سيئات أعمالهم استدراك على المعنى وبيان للصارف لهم عن التضرع وانه لا مانع لهم الا قساوة قلوبهم وإعجابهم بأعمالهم بتزيين الشيطان.
فَلَمَّا نَسُوا تركوا ما ذُكِّرُوا بِهِ ما وعظوا وأمروا به ولم ينتبهوا بالبأساء والضراء ولم يتضرعوا فَتَحْنا قرأ ابن عامر هاهنا وفى الأعراف والقمر وفتحت فى الأنبياء بتشديد التاء فى الاربعة من التفعيل للتكثير وقرأ ابو جعفر فى كل القران بالتشديد والباقون بالتخفيف فى الكل عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ من انواع النعم استدراجا ومكرا بهم عن عقبة بن عامر مرفوعا إذا رايت يعطى العبد فى الدنيا وهو مقيم على معاصيه ما يجب فانما هو استدراج ثم تلى رسول الله ﷺ فلما نسوا ما ذكروا به الاية والتي بعدها حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا فرح بطر اى بطروا ولم يتوجهوا الى المنعم شكرا كما لم يتضرعوا اليه فى الضراء وقام عليهم حجة بامتخانهم بالسراء والضراء ولم يبق بهم معذرة أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً أخذا فجاة اعجب ما كانت الدنيا لهم فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ آيسون من كل خير.
فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا فى القاموس الدابر التابع واخر كل شىء
والأصل والمعنى انهم اهلكوا كلهم ولم يبق منهم أحد حتى يتوالد فقطع نسلهم فقطع الدابر اما باعتبار هلاك الأصول او باعتبار قطع الاتباع والفروع وضع المظهر موضع المضمر ليدل على ان هلاكهم كان لاجل ظلمهم وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ على إهلاكهم حمد نفسه عند هلاك الظلمة لانه نعمة جليلة من حيث دفع شرهم عن المؤمنين وتطهير الأرض عن العقائد والأعمال الفاسدة الموجبة لنزول العذاب ووصف نفسه برب العالمين لان مقتضى ربوبية العالم إهلاك الظلمة وفيه إيذان بوجوب الحمد عند هلاك من لم يحمد لله ثم دل على قدرته وتوحيده بقوله.
قُلْ يا محمد أَرَأَيْتُمْ ايها المشركون إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ بان اصمكم واعميكم وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ بان يغشها بما يزول به عقولكم وجواب الشرط محذوف يدل عليه قوله مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ يعنى لا يأتكم به أحد والجملة الشرطية فى موضع المفعولين لرايتم والاستفهام للتقرير يعنى قد علمتم انه لا يأتيكم أحد بشئ مما ذكره ان اخذه الله انْظُرْ يا محمد كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ فى القاموس صرف الآيات تبيينها كذا قال البغوي يعنى نبيّن العلامات الدالة على التوحيد وقال البيضاوي معناه نكررها تارة من جهة المقدمات العقلية وتارة من حيث الترغيب والترهيب وتارة بالتنبيه والتذكير بأحوال المتقدمين ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ اى يعرضون عنها وثم لاستبعاد الاعراض بعد تصريف الآيات وظهورها.
قُلْ يا محمد أَرَأَيْتَكُمْ ايها المشركون إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً منصوبان على المصدرية او على الحالية يعنى اتيانا بغتة فجاة من غير تقدم امارة إتيانه او اتيانا جهرة اى ظاهرة قبل إتيانه بتقدم اماراته او المعنى أتاكم عذابه حال كونه مباغتا اى مفاجيا او مجاهرا وقال ابن عباس والحسن معناه ليلا او نهارا هَلْ يُهْلَكُ استفهام انكار ومعناه النفي ومن ثم جاز الاستثناء المفرغ فالتقدير ما يهلك إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ على أنفسهم بالكفر.
وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ المؤمنين بالجنة وَمُنْذِرِينَ الكافرين بالنار يعنى ما نرسلهم قادرين على إتيان الآيات المقترحة وهداية من لم يشأ الله هدايته ولا على شىء اخر من الأحوال التي يتوقعها الكفار الا حال كونهم مبشرين ومنذرين فَمَنْ
آمَنَ
بما جاؤا به وَأَصْلَحَ عمله طمعا فيما بشروا به وخوفا مما حذروه من النار فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من العذاب وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ بفوات الثواب.
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا المبشرة والمنذرة يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ جعل العذاب ما سالهم كانه حى يفعل بهم ما يريد بِما كانُوا يَفْسُقُونَ اى بسبب خروجهم عن الايمان والطاعة.
قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ اى مقدوراته او خزائن رزقه وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ عطف على عندى خزائن الله ولا زائدة يعنى لا أقول لكم اعلم الغيب ما لم يوح الىّ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ من الملئكة حتى ينافى دعوى الاكل والشرب والنكاح يعنى لا أقول لكم شيئا يجب إنكاره عقلا او يستدعى اقتراح الآيات إِنْ أَتَّبِعُ فى تعليم العلوم وتبليغ الاحكام شيئا إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ يعنى انما ادعى النبوة واتصدى بما يتصدى له الأنبياء ولا استحالة فيه بل هو جائز عقلا واقع تواتر به الاخبار عن الأنبياء الماضين فيه رد على استبعادهم دعواه وجزمهم على فساد مدعاه وقال البغوي هذه الاية نزلت حين اقترحوا الآيات يعنى قل لهم لا أقول لكم عندى خزائن الله حتى اجعل لكم الصفا ذهبا وأعطيكم ما تريدون ولا اعلم الغيب حتى أخبركم بما مضى وما سيكون من غير وحي من الله ولا أقول لكم انى ملك حتى لا احتاج الى الاكل والشرب والنكاح ان اتبع الا ما يوحى إليّ قُلْ يا محمد هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى يعنى الذي لا يمتاز بين الحق والباطل فينكر ما لا يجوز إنكاره ويصدق ما لا يجوز تصديقه وَالْبَصِيرُ الذي يمتاز بينهما فيصدق من يدعى النبوة بعد شهادة الآيات والمعجزات ويكذب من يدعى ان مع الله الهة اخرى ويقول للحجارة هؤلاء شفعاءنا عند الله وان الملئكة بنات الله ويقول بتحريم السوائب مثلا بلا دليل أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ فتهتدوا للامتياز بين الحق والباطل وما يجب تصديقه وما لا يجوز القول به.
وَأَنْذِرْ بِهِ اى خوف بما يوحى الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا اى يجمعوا ويبعثوا إِلى رَبِّهِمْ قال البيضاوي أراد بالموصول المؤمنون المفرّطون فى العمل او المجوزون الحشر مومنا كان او كافرا مقرا به من اهل الكتاب او مترددا فيه فان الانذار ينجع فيهم دون الفارغين الجازمين باستحالته والباعث له على هذا القول كون الخوف صلة له وهذا ليس بشئ لان الأمر بالإنذار
لم يكن مختصا بمن ذكر بل امره الله تعالى بان يقول اوحى الىّ هذا القران لانذركم به ومن بلغ وايضا لا وجه لتخصيص الانذار بالمفرطين فان المجتهدين فى العمل ايضا ينفعهم الانذار كيلا يخرجوا من اجتهادهم كيف ولم يكن من المؤمنين فى خير القرون مفرط بل كلهم كانوا مجتهدين فالاولى ان يقال المراد بالموصول من كان من شانه ان يخاف فيعم الناس أجمعين فان العبد المقهور حقيق ان يخاف الخالق القهار او يقال خص الخائفون بالذكر لانهم هم المنتفعون بالإنذار لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ اى من دون الله وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ الجملة فى موضع الحال من الضمير فى يحشروا فان المخوف هو الحشر فى هذا الحال يعنى يحشرون غير منصورين ولا مشفوعا لهم قلت وجاز ان يكون مضمون هذه الجملة بدلا من الضمير المجرور فى انذر به يعنى انذر بان ليس لهم من دون الله من ولى ولا شفيع فلا يعبدوا ولا يدعوا الا إياه فان قيل هذه الاية ينفى الولاية والشفاعة لغير الله تعالى من الأولياء والأنبياء قلنا لا بل ولاية الأولياء وشفاعتهم انما هى بإذن الله تعالى فهى ولاية الله تعالى وشفاعته لا غير لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ اى لكى يتقوا روى احمد والطبراني وابن ابى حاتم عن ابن مسعود قال مر الملأ من قريش على رسول الله ﷺ وعنده خبّاب وصهيب وبلال وعمار فقالوا يا محمد رضيت بهؤلاء أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا لو طردت هؤلاء لاتبعناك فانزل فيهم القران وانذر به الذين يخافون ان يحشروا الى ربهم الى قوله سبيل المجرمين وروى ابن حبان والحاكم عن سعد ابن ابى وقاص قال لقد نزلت هذه الاية فى ستة انا وعبد الله بن مسعود واربعة قالوا يعنى كفار قريش رسول الله ﷺ اطردهم فانا نستحيى ان نكون تبعا لك كهولاء فوقع فى نفس النبي ﷺ ما شاء الله فانزل الله تعالى وروى مسلم بلفظ كنا مع النبي ﷺ ستة نفر فقال المشركون اطردهم لا يجترؤا علينا قال كنت انا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان نسيت اسمها فوقع فى نفس رسول الله ﷺ ما شاء الله ان يقع فحدث نفسه فانزل الله تعالى.
وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ اى يعبدونه ويذكرونه فان عبادة الكريم وذكره داع الى انعامه وقيل المراد منه حقيقة الدعاء بِالْغَداةِ قرأ ابن عامر هاهنا
وفى سورة الكهف بضم الغين وسكون الدال وواو مفتوحة والباقون بفتح الغين وو الدال والالف وَالْعَشِيِّ قال ابن عباس يعنى صلوة الصبح والعصر ويروى عنه ان المراد منه الصلوات الخمس وذلك ان ناسا من الفقراء كانوا مع النبي ﷺ فقال ناس من الاشراف إذا صلينا فاخّره هؤلاء ليصلوا خلفنا فنزلت الاية يُرِيدُونَ وَجْهَهُ حال من فاعل يدعون يعنى يدعون مخلصين فان الإخلاص ملاك الأمر رتب النهى عليه اشعارا بانه يقتضى إكرامهم وينافى طردهم ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ من زائدة وشىء اسم ما والظرف خبره ومن حسابك وكذا من حسابهم حال من الظرف يعنى ان الطرد وترك المجالسة انما يجوز بل يجب إذا أضر مجالسة أحدهما صاحبه وليس فلا يجوز او المعنى لا يضرك حسابهم بل ينفعك فانهم يأتون بالحسنات وثواب حسنات الامة راجع الى النبي ﷺ ولا يضرهم حسابك بل ينفعهم فانك قد بلغتهم وأرشدتهم وهديتهم والجملة المنفية فى موضع الحال من الموصول فى لا تطرد الذين ويمكن ان يكون ضمير حسابهم وعليهم راجعا الى المشركين والمعنى لا تواخذ بحساب المشركين ولا هم بحسابك حتى يهمك ايمانهم بحيث تطرد المؤمنين طمعا فيه فَتَطْرُدَهُمْ منصوب على جواب النفي يعنى ما ثبوت حسابهم عليك فتطردهم منك فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ منصوب على جواب النهى يعنى لا يكن منك طردهم فكونك من الظالمين.
وَكَذلِكَ الكاف زائدة كما فى قوله تعالى ليس كمثله شىء والمشار اليه ضلال رؤساء قريش واسم الاشارة منصوب المصدرية بقوله تعالى فَتَنَّا يعنى اضللنا ذلك الضلال بَعْضَهُمْ اى بعض الناس يعنى كفار قريش بِبَعْضٍ اى ببعضهم يعنى فقراء المؤمنين حيث امتنعوا من الإسلام بسببهم قال التفتازانيّ شاع هذا التركيب فى معنى فتنا بعضهم ببعض ذلك الفتن ولا يراد به مثل ذلك الفتن او يقال معناه مثل ذلك الفتنة التي فتنا رؤساء قريش فتنا بعض الناس ببعض فى الأمم السابقة حيث قال قوم نوح ما نريك الا بشرا مثلنا وما نريك اتبعك الا الذين هم أراذلنا بادى الرأي وقال نوح ما انا بطارد الذين أمنوا وقال البيضاوي معناه مثل ذلك الفتن وهو اختلاف الناس فى امور
240
الدنيا بالفقر والغناء فتنا يعنى ابتلينا بعضهم ببعض فى امر الدين فقد منا هؤلاء الضعفاء على اشراف قريش بالسبق الى الايمان لِيَقُولُوا اى الأغنياء واللام للعاقبة أَهؤُلاءِ الفقراء مَنَّ اى أنعم اللَّهُ عَلَيْهِمْ بالهداية والتوفيق لما يسعدهم مِنْ بَيْنِنا دوننا انكار لتخصيص الفقراء باصابة الحق والسبق الى الخير وحاصله لو كان خيرا ما سبقونا اليه أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ يعنى بالذين هم مستعدون للشكر فيوفقهم له وبمن ليس فى استعداده قبول الايمان والشكر فيخذله وهذه الاية تدل على ان الاستعداد يسبق الوجود كما قال المجدد رضى الله عنه ان مربيات تعينات المؤمنين ظلال اسم الله تعالى الهادي ومربيات تعينات الكفار ظلال اسم الله تعالى المضل فلا يمكن لاحد من الفريقين ان يصدر منه الا ما خلق منه وخلق لاجله وجاز ان يكون معنى قول الكفارا هؤلاء الفقراء الأراذل منّ الله عليهم بتخصيص صحبة نبيه ﷺ دوننا فقال الله تعالى أليس الله بأعلم بالشاكرين فان الشاكرين هم الاحقاء بصحبة النبي ﷺ دون الأغنياء قال البغوي قال سلمان وخباب بن الأرت فينا نزلت هذه الاية جاء الأقرع ابن حابس التميمي وعيينة بن حصين الفزاري وغيرهم من المؤلفة فوجدوا النبي ﷺ قاعدا مع بلال وصهيب وعمار وخباب فى ناس من ضعفاء المؤمنين فلما راوهم حوله حقروهم فاتوا وقالوا يا رسول الله لو جلست فى صدر المجلس ونفيت عنا هؤلاء وأرواح جبابهم وكان عليهم جباب صوف لم يكن عليهم غيرها لجالسناك وأخذنا عنك فقال النبي ﷺ ما انا بطارد المؤمنين فقالوا فانا نحب ان تجعل لنا منك مجلسا تعرف العرب فضلنا فان وفود العرب تأتيك فنستحيى ان يرانا العرب مع هؤلاء الا عبد فاذا نحن جئناك فاقمهم عنا فاذا نحن فرغنا فاقعد معهم ان شئت قال نعم قالوا اكتب لنا عليك بذلك كتابا قال فدعا بالصحيفة ودعا عليا ليكتب قال ونحن قعود فى ناحية إذ نزل جبرئيل بقوله تعالى ولا تطرد الذين الى قوله بالشاكرين فالقى رسول الله ﷺ الصحيفة من يده ثم دعانا فاتيناه وهو يقول سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة فكنا نقعد معه فاذا أراد ان يقوم قام وتركنا فانزل الله عز وجل واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم
241
بالغدوة والعشى يريدون وجهه فكان رسول الله ﷺ يقعد معنا بعدو وندنوا منه حتى كادت ركبتنا تمس ركبته فاذا بلغ الساعة التي يقوم فيه قمنا وتركنا حتى يقوم وقال لنا الحمد لله الذي لم يمتنى حتى أمرني ان اصبر مع قوم من أمتي معكم المحيي والممات وقال الكلبي قالوا له اجعل لنا يوما ولهم يوما قال لا افعل قالوا فاجعل المجلس واحدا فاقبل علينا وولّ ظهرك عليهم فانزل الله تعالى هذه الاية وروى ما ذكر البغوي عن سلمان وخباب وابن جرير وابن ابى حاتم وغيرهما عن خباب وزادوا ثم ذكر الله تعالى الأقرع وصاحبه فقال وكذلك فتنا بعضهم ببعض الاية قال ابن كثير هذا غريب فان الاية مكية والأقرع وعيينة انما أسلما بعد الهجرة بدهر وروى البغوي بسنده عن ابى سعيد الخدري جلست فى نفر من المهاجرين وان بعضهم ليستتر ببعض من العرى وقارئ يقرأ علينا إذ جاء رسول الله ﷺ فقام علينا فلما قام رسول الله ﷺ سكن القاري فسلم رسول الله ﷺ وقال ما كنتم تصنعون
قلنا يا رسول الله ﷺ كان قاريا يقرأ علينا فكنا نسمع الى كتاب الله تعالى فقال رسول الله ﷺ الحمد لله الذي جعل من أمتي من أمرني ان اصبر نفسى معهم ثم جلس وسطنا ليعدل نفسه فينا ثم قال بيده هكذا فتحلقوا وبرزت وجوههم له قال فما رايت رسول الله ﷺ عرف منهم أحدا غيرى فقال رسول الله ﷺ ابشروا يا معاشر صعاليك المهاجرين بالنور التام يوم القيامة يدخلون الجنة قبل اغنياء الناس بنصف يوم وذلك مقدار خمسمائة سنة واخرج ابن جرير عن عكرمة قال جاء عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة ومطعم بن عدى والحارث بن نوفل فى اشراف بنى عبد مناف من اهل الكفر الى ابى طالب فقالوا لو ان ابن أخيك يطرد عنه هؤلاء الا عبد كان أعظم فى صدورنا وأطوع له عندنا واولى لاتباعنا إياه فكلم ابو طالب النبي ﷺ فقال عمر بن الخطاب لو فعلت ذلك حتى تنتظر ما الذي يريدون فانزل الله وانذر به الذين يخافون الى قوله أليس الله بأعلم بالشاكرين وكانوا بلالا وعمار بن ياسر وسالما مولى ابى حذيفة وصبيحا مولى أسيد وابن مسعود والمقداد بن عبد الله وواقد ابن عبد الله الحنظلي وأشباههم فاقبل عمر فاعتذر من مقالته فنزل.
وَإِذا جاءَكَ
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ قال عكرمة نزلت فى الذين نهى الله عز وجل نبيه عن طردهم فكان النبي ﷺ إذا راهم بدأهم بالسّلام وقال عطاء نزلت فى ابى بكر وعمر وعثمان وعلى وبلال وسالم وابى عبيدة ومصعب بن عمير وحمزة وجعفر وعثمان بن مظعون وعمار بن ياسر وأرقم بن الأرقم وابى سلمة بن عبد الأسد رضى الله عنهم أجمعين واخرج الفريابي وابن ابى حاتم عن ماهان قال جاء ناس الى النبي ﷺ فقالوا انا أصبنا ذنوبا عظاما فما رد عليهم شيئا فانزل الله تعالى وإذا جاءك الذين يؤمنون باياتنا فقل سلام عليكم كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ امر الله تعالى نبيه ﷺ بان يبدأهم بالتسليم او يبلغ سلام الله إليهم ويبشرهم بوجوب الرحمة من الله لهم بوعده المؤكد تفضلا بعد بشارتهم بالسلامة مما يكره المستفاد من السّلام أَنَّهُ الضمير للشان قرأ نافع وابن عامر وعاصم بفتح الهمزة على انه بدل من الرحمة او بتقدير الباء والباقون بالكسر على الاستيناف على انه تفسير للرحمة مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ فى موضع الحال اى من عمل سوءا جاهلا بحقيقة ما يتبعه....... من المضار والمفاسد او متجاهلا بارتكاب ما يودى الى الضرر من افعال اهل الجهل وذلك التجاهل انما هو لغلبة شهوة النفس فمفعول الجهالة على التقدير الاول محذوف وعلى التقدير الثاني لا يقتضى المفعول ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ اى بعد السوء يعنى رجع عن ذنبه بان ندم على ما فعل وعزم على ان لا يفعل ابدا وَأَصْلَحَ عمله فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قرأ ابن عامر وعاصم ويعقوب انه بفتح الهمزة على انه خبر مبتدا محذوف او مبتدا خبره محذوف يعنى فامره انه تعالى غفور رحيم او فله انه تعالى غفور والباقون بالكسر والفاء تدل على ان التوبة سبب للغفران.
وَكَذلِكَ يعنى كما فصلنا لك فى هذه السورة نُفَصِّلُ الْآياتِ آيات القران او دلائلنا فى كل حق ينكره الكافرون وَلِتَسْتَبِينَ قرأ ابو بكر وحمزة والكسائي بالياء على الغيبة وتذكير الفاعل وابن كثير وابو عمرو وابن عامر وحفص بالتاء على تأنيث الفاعل الغائب ورفع كلهم سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ ع على الفاعلية والسبيل يذكر ويؤنث وقرأ نافع لتستبين بالتاء على الخطاب اى لتستوضح يا محمد وسبيل منصوبا على المفعولية والعطف على مقدر تقديره ليظهر الصراط المستقيم ولتستبين
سبيل المجرمين.
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ اى صرفت وزجرت بالآيات والادلة العقلية والآيات القرآنيّة السمعية أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعنى ما تدعونها وتسمونها الهة وتعبدونها من دون الله قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ تأكيد لقطع اطماعهم وبيان لان ما هم عليه انما هو امر لا دليل عليه سمعا ولا عقلا بل بتبعية الهوى وتعليل لتركه موافقتهم وتنبيه لمن طلب الحق ان يتبع الحجة ولا يقلد قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً يعنى إذا اتبعت أهواءكم فقد ضللت وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ حينئذ وفيه تعريض بانهم ليسوا بمهتدين.
قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ تنبيه على ما يجب اتباعه بعد بيان ما لا يجوز اتباعه يعنى انى على برهان وبصيرة مِنْ رَبِّي صفة لبينة أو صلة له يعنى بينة كائنة من ربى او بينة من معرفة ربى وانه لا معبود سواه وَكَذَّبْتُمْ بِهِ الضمير راجع الى البينة باعتبار المعنى يعنى كذبتم بالبرهان او راجع الى ربى والمعنى كذبتم بربي حيث أشركتم به ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ من العذاب حيث تقولون ان كان هذا هو الحق من عندك فامطر علينا حجارة من السماء او ائتنا بعذاب اليم او المراد ما تستعجلون به من القيامة قال الله تعالى يستعجل بها الذين لا يومنون بها إِنِ الْحُكْمُ فى تعجيل العذاب وتأخيره وإتيان القيامة لاحد إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ قرأ نافع وابن كثير وعاصم بالصاد المهملة المشددة يعنى يقول ويبين الْحَقَّ ويفصله او يتبع الحق والحكم من قص اثره والباقون بالضاد المعجمة المكسورة بحذف الياء من يقضى لاجتماع الساكنين وصلا وكذا وقفا اتباعا للخط يعنى يحكم بالحق وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ الحاكمين والمظهرين.
قُلْ يا محمد لَوْ ثبت أَنَّ عِنْدِي اى فى قدرتى ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ من العذاب او إتيان القيامة لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ اى فرغ من العذاب وأهلكتم وانقطع ما بينى وبينكم من المنازعة او المعنى لقضى بإحقاق الحق وابطال الباطل اليوم بقيام الساعة ما يقضى بينى وبينكم أجلا يوم القيامة قال الله تعالى ثم اليه مرجعكم ثم يحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون ولما كان قوله لقضى الأمر بينى وبينكم مجملا لم يتعين فيه مورد العذاب يبيّنه بقوله وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ فيهلكهم على مقتضى حكمة.
وَعِنْدَهُ تعالى دون عند غيره يستفاد الحصر من تقديم الظرف مَفاتِحُ الْغَيْبِ مفاتح جمع
244
مفتح بفتح الميم وهو المخزن او جمع مفتح بكسر الميم بمعنى المفتاح وهو ما يتوصل به الى شىء مغلق والمراد بمفتاح الغيب علمه فان بالعلم يدرك المعلوم كانه وصلة والمراد بالغيب ما لم يوجد بعد كاخبار المعاد ومن هذا القبيل ان المطر هل ينزل او لا ومتى ينزل ومنه ما تكسب نفس غدا وانه باى ارض تموت او وجد ولم يظهر الله تعالى على أحد ومنه ما فى الأرحام ومعنى عنده خزائن الغيب احاطة علمه بها كانه موجود عنده تعالى روى البغوي بسنده عن ابن عمر انه قال قال رسول الله ﷺ مفاتح الغيب خمس لا يعلمها الا الله لا يعلم ما يغيض الأرحام أحد الا الله ولا يعلم ما فى الغد أحد الا الله ولا يعلم متى يأتي المطر أحد الا الله ولا تدرى نفس باى ارض تموت ولا يعلم متى تقوم الساعة أحد الا الله وكذا روى احمد والبخاري وفى الصحيحين فى حديث ابى هريرة فى قصة سوال جبرئيل انه عليه السلام قال فى خمس يعنى الساعة لا يعلمهن الا الله ثم قرأ ان الله عنده علم الساعة وينزل الغيث الاية قلت وليست خزائن الغيب منحصرة فى الخمس المذكورة بل كل ما لم يوجد او لم يظهر بعد وقال الضحاك مفاتح الغيب خزائن الأرض وعلم نزول العذاب وقال عطاء ما غاب عنكم من الثواب والعقاب وقيل انقضاء الآجال وقيل احوال العباد من السعادة والشقاوة وخواتيم أحوالهم ولا تعارض بين هذه الأقوال بناء على ما قلت لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ تنصيص بما أشير اليه من حصر علم الغيب به تعالى يعنى لا يعلم شيئا من المغيبات الا الله تعالى ولا يعلم غيره منها الا بتوقيفه وهو سبحانه يعلم أوقاتها وما فى تعجيلها وتأخيرها من الحكمة وفيه دليل على انه تعالى يعلم الأشياء قبل وجودها وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ من النبات والدواب وغيرها وَالْبَحْرِ من الحيوانات والجواهر وغيرها هذه الجملة للاخبار عن تعلق علمه بالموجودات المشاهدات عطف على الاخبار عن علمه تعالى بالمغيبات وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها مبالغة فى احاطة علمه بالجزئيات بعد ما علم ذلك فيما سبق فان ما للنفى ومن للاستغراق اى يعلم عددها وأحوالها قبل السقوط وبعده وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ قال ابن عباس الرطب الماء واليابس البادية وقال عطاء ما ينبت وما لا ينبت وقيل الحي والميت والصحيح انه عبارة عن كل شىء قوله وَلا حَبَّةٍ
245
مع ما عطف عليه معطوف على ورقة والعطف يشاركهما فى الصفة اعنى لا يعلمها فكانه قال ولا رطب ولا يابس الا يعلمها فقوله تعالى إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ بدل من الاستثناء الاول من بدل الكل على ان الكتاب المبين علم الله تعالى او بدل اشتمال ان أريد به اللوح المحفوظ او يقال حبة معطوف على ورقة والا فى كتاب مبين معطوف على الا يعلمها عطف المعمولين على المعمولين بفعل واحد.
وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ اى ينيمكم فان النوم أحد اقسام التوفى وأصله قبض الشيء بتمامه او هو مستعار من الموت بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ اى كسبتم بالجوارح بِالنَّهارِ خص النوم بالليل والكسب بالنهار نظرا الى الغالب المعتاد وتخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفى الحكم عما عداه ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ اى فى النهار فيه تقديم وتأخير تقديره يتوفيكم بالليل ثم يبعثكم فى النهار ويعلم ما جرحتم به ووجه التقديم الاهتمام بذكر الكسب لِيُقْضى اى ليؤخر أَجَلٌ مُسَمًّى للموت سمى ذلك الاجل حين كان جنينا فى بطن امه بل فى الأزل ثُمَّ إِلَيْهِ اى الى حكمه تعالى بجزاء ما كسبتم مَرْجِعُكُمْ بعد الموت ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ يوم القيامة بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ع عند الحساب فيجازيكم عليه فى الاية السابقة تنبيه على شمول علمه تعالى وفى هذه الاية على كمال قدرته وايماء بالاستدلال بما نشاهد من قدرته على الاحياء بعد النوم التي هى اخت الموت على البعث بعد الموت.
وَهُوَ الْقاهِرُ الغالب الذي لا يتصور من أحد مقاومة فى إنفاذ المراد فَوْقَ عِبادِهِ تصوير للغلبة والاستعلاء وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً يحفظون أعمالكم ويكتبونها فى الصحف وينشر تلك الصحف يوم القيامة ليظهر المطيع من العاصي على رؤس الاشهاد حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ غاية لارسال الحفظة او غاية للغلبة يعنى بلغت غلبته الى انهم لا يقدرون على مخالفته فى قبض أرواحهم تَوَفَّتْهُ جواب إذا قرأ حمزة توفاه بالألف الممال على التذكير والباقون بالتاء على التأنيث رُسُلُنا اخرج ابن ابى حاتم وابن ابى شيبة عن ابن عباس ان المراد بهم أعوان ملك الموت من الملئكة وكذا اخرج ابو الشيخ عن النخعي وذكر السيوطي عن وهب بن منبه قال ان الملئكة الذين يقربون بالناس هم الذين يتوفونهم ويكتبون اجالهم فاذا توفى الأنفس
246
اجالهم دفعوها الى ملك الموت وهو كالعاقب اى العشار الذي يودى اليه من تحته واخرج ابن حبان وابو الشيخ عن الربيع بن انس انه سئل عن ملك الموت هل هو وحده الذي يقبض الأرواح قال هو الذي يلى امر الأرواح وله أعوان على ذلك غير ان ملك الموت هو الرئيس وكل خطوة منه من المشرق الى المغرب قلت اين تكون أرواح المؤمنين قال عند سدرة المنتهى قال القرطبي لا منافاة بين قوله تعالى توفته رسلنا وقوله تعالى يتوفيكم ملك الموت الذي وكل بكم وقوله تعالى الله يتوفى الأنفس لان اضافة التوفى الى ملك الموت لانه المباشر للقبض والى الملئكة الذين هم أعوانه لانهم يأخذون فى جذبها فهو قابض وهم معالجون والى الله تعالى لانه هو الفاعل على الحقيقة يعنى افعال العباد مخلوقة له تعالى وقال القرطبي انه فى الخبر انه ينزل عليه اى على الميت اربعة من الملئكة ملك يجذب النفس من قدمه اليمنى وملك يجذبها من قدمه اليسرى وملك يجذبها من يده اليمنى وملك يجذبها من يده اليسرى ذكره ابو حامد وقال الكلبي يقبض ملك الموت الروح من الجسد ثم يسلمها الى ملئكة الرحمة او ملئكة العذاب واخرج جويبر فى تفسيره عن ابن عباس قال قال ملك الموت هو الذي يتوفى الأنفس كلها وقد سلط على ما فى الأرض كما سلط على ما فى راحته ومعه ملئكة من ملئكة الرحمة والعذاب فاذا توفى نفسا طيبة دفعها الى ملئكة الرحمة وإذا توفى نفسا خبيثة دفعها الى ملئكة العذاب واخرج ابن ابى الدنيا وابو الشيخ عن ابن المثنى الحمصي نحوه ويدل على هذا ما روى احمد وابو داؤد والحاكم وابن ابى شيبة والبيهقي وغيرهم من طرق صحيحة فى حديث طويل عن البراء بن عازب وفيه قال رسول الله ﷺ ان العبد المؤمن إذا كان فى انقطاع من الدنيا واقبال من الاخرة نزل اليه ملئكة بيض الوجوه كأنّ وجوههم الشمس معهم كفن من أكفان الجنة وحنوط من حنوط الجنة حتى يجلسوا منه مد البصر ثم يجئ ملك الموت عليه السّلام حتى يجلس عند راسه فيقول أيتها النفس الطيبة اخرجى الى مغفرة من الله ورضوان قال فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من السقاء فياخذها يعنى ملك الموت فاذا أخذها لم يدعوها فى يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها فى ذلك الكفن وفى ذلك الحنوط الحديث وذكر فى الكافر انه ينزل ملئكة سود الوجوه
247
معهم المسوح فيجلسون منه مد البصر ثم يجئ ملك الموت عليه السلام حتى يجلس عند راسه فذكر الحديث نحوه انه يقبض فاذا أخذها لم يدعوها فى يده طرفة عين الحديث واخرج ابن ابى حاتم عن زهير بن محمد قال قيل يا رسول الله ملك الموت واحد والزحفان يلتقيان من المشرق والمغرب وما بين ذلك من السقط والهلاك فقال انه حوى الدنيا لملك الموت حتى جعلها كالطست بين يدى أحدكم فهل يفوته منها شىء واخرج ابن ابى الدنيا وابو الشيخ عن اشعث بن اسلم قال سال ابراهيم عليه السّلام ملك الموت واسمه عزرائيل وله عينان فى وجهه وعينان فى قفاه فقال يا ملك الموت ما تصنع إذا كانت نفس بالمشرق ونفس بالمغرب ووقع الوباء بأرض والتقى الزحفان كيف تصنع قال ادعوا الأرواح بإذن الله فيكون بين إصبعي هاتين قال ودحيت له الأرض فتركت كالطست يتناول منها حيث يشاء واخرج ان ملك الموت قال ليعقوب حين سأله ان الله سخر لى الدنيا فهى كالطست يوضع قدام أحدكم فيتناول من
اى أطرافه شاء كذلك الدنيا عندى واخرج فى الزهد وابو الشيخ وابو نعيم عن مجاهد قال جعلت الأرض لملك الموت مثل الطست يتناول من حيث شاء وجعل له أعوانا يتوفى الأنفس ثم يقبضها منهم قلت وتحقيق المسألة بالنظر الى الأحاديث والآثار ان الله سبحانه جعل ملك الموت بحيث نسبته الى جميع الأرض والأقطار على السواء كالشمس فى المشاهدات وجعل نفسه بحيث لا يغنيه شان عن شان وكذلك يجعل لنفوس بعض أوليائه فانهم يظهرون ان شاء الله تعالى فى ان واحد فى امكنة شتى بأجسادهم المكتسبة وجعل لملك الموت أعوانا فى جذب النفوس هم كالجوارح له وتنزل عند كل ميت مومن او كافر جمع من الملئكة بأكفان من الجنة او النار فياخذون روحه من ملك الموت ويرتقون به الى السماء فالمراد برسلنا فى هذه الاية اما أعوان ملك الموت واما الملئكة الذين يرتقون بالأرواح وياخذونها من ملك الموت وقيل أراد بالرسل ملك الموت وحده فذكر الواحد بلفظ الجمع وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ اى لا يقصرون بالتواني والتأخير ولا يقدرون على قبض الأرواح الا بعد اذنه تعالى اخرج الطبراني وابن مندة وابو نعيم عن الحارث بن الخزرج ان رسول الله ﷺ نظر الى ملك الموت عند راس رجل من الأنصار فقال يا ملك الموت ارفق بصاحبى فانه مومن فقال ملك الموت طب نفسا وقر عينا واعلم انى لكل مومن رفيق واعلم
248
يا محمد انى لاقبض روح ابن آدم فاذا صرخ صارخ من اهله قمت فى الدار ومعى روحه فقلت يا هذا الصارخ والله ما ظلمناه ولا سبقنا اجله ولا استعجلنا قدره وما لنا فى قبضة من ذنب فان ترضوا بما صنع الله توجروا وان تسخطوا تأثموا وتوزروا وان لنا عندكم عودة بعد عودة فالحذر الحذر وما من اهل بيت شعر ولا مدربر ولا فاجر سهل ولا جبل الا وانا أتصفحهم فى يوم وليلة حتى لانا اعرف بصغيرهم وكبيرهم منهم بانفسهم والله لو أردت قبض روح بعوضة ما قدرت.... على ذلك حتى يكون الله هو يأذن بقبضها واخرج ابن ابى الدنيا وابو الشيخ عن الحسن نحوه قال جعفر بن محمد بلغني انه انما يتصفحهم عند مواقيت الصلاة فاذا نظر عند الموت فان كان ممن يحافظ على الصلوات الخمس دنا منه ملك الموت وطرد عنه الشياطين ويلقنه لا اله الا الله محمد رسول الله فى ذلك الحال العظيم.
ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ اى مالكهم الْحَقِّ المراد بهذه الاية اما ودهم الى الله تعالى عرضهم على الحساب يوم القيامة كما تدل عليه كلمة ثم واما بعد الموت يرتقون بهم ملئكة الرحمة والعذاب كما ورد فى ذلك الحديث الطويل عن البراء بن عازب قال فيصعدون بها يعنى المؤمن فلا يمرون على ملأ من الملئكة الا قالوا ما هذا الروح الطيب فيقولون فلان بن فلان بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونها فى الدنيا حتى ينتهوا الى السماء الدنيا فيستفتحون له فيفتح لهم فيشيعه من كل سماء مقربوها الى السماء التي تليها حتى ينتهى بها الى السماء السابعة فيقول الله اكتبوا كتاب عبدى فى عليين واعيدوه الى الأرض الحديث وقال فى الكافر فيصعدون بها فلا يمرون على ملأ من الملائكة الا قالوا ما هذا الروح الخبيث فيقولون فلان بن فلان بأقبح أسمائه التي كان يسمى به فى الدنيا حتى ينتهى بها الى السماء الدنيا فيستفتح فلا يفتح له ثم قرأ رسول الله ﷺ لا تفتح لهم أبواب السماء الاية فيقول الله عز وجل اكتبوا كتابه فى سجين فى الأرض السفلى فيطرح روحه طرحا ثم قرأ رسول الله ﷺ ومن يشرك بالله فكانما خر من السماء فتخطفه الطير او تهوى به الريح فى مكان سحيق الحديث أَلا لَهُ الْحُكْمُ لا لغيره وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ لا يشغله حساب عن حساب وفى الحديث يحاسب الخلق كلهم فى قدر نصف نهار من ايام الدنيا.
قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ قرأ يعقوب بالتخفيف من الافعال والباقون بالتشديد من التفعيل
مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ يعنى من شدائدهما ومهالكهما استعيرت الظلمة للشدة لمشاركتهما فى الهول كانوا إذا سافروا فى البر او البحر فضلّوا الطريق وأحيطوا بالصواعق او الأمواج او غيرها من البليات والمصائب دعوا الله مخلصين له الدين لعلمهم ان الأوثان حجارة لا تضر ولا تنفع تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً مصدر بمعنى الفاعل حال من ضمير الفاعل فى يدعونه والجملة حال من ضمير المفعول فى ينجيكم والتضرع التذلل والمبالغة فى السؤال وَخُفْيَةً قرأ ابو بكر عن عاصم هنا وفى الأعراف بكسر الخاء والباقون بالضم وهما لغتان يعنى مسرين فان الاسرار سنة الدعاء والذكر قال رسول الله ﷺ انكم لا تدعون أصم ولا غائبا والمعنى تدعون الله بالتضرع والإخلاص فان الاسرار بالدعاء ابعد من الرياء وادل على الإخلاص لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ الظلمة والشدة بتقدير القول بيان لتدعونه يعنى تقولون لئن أنجيتنا قرأ الكوفيون أنجانا على صيغة الغائب والباقون بصيغة الخطاب لله تعالى لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ لله تعالى والشكر هو معرفة النعمة مع القيام بحقها يعنى صرفها فى رضاء المنعم.
قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ قرأ الكوفيون وهشام مشددا من التفعيل على طبق السؤال والباقون بالتخفيف من الافعال مِنْها اى من تلك الشدة وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ غاية الغم ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ تعوون الى الشرك ولا توفون بالعهد وتعلمون ان الله هو الذي ينجيكم وتشركون معه الأصنام التي قد علمتم انها لا تضر ولا تنفع وفى وضع تشركون موضع لا تشكرون كمال توبيخ وتنبيه على ان من أشرك فى عبادة الله فكانه لم يعبد الله راسا وكلمة ثم ليس للتراخى فى الزمان بل لكمال البعد بين الإحسان والإشراك.
قُلْ هُوَ اى الله هو الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ كما فعل بقوم نوح وعاد وقوم لوط واصحاب الفيل أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ كما فعل بقوم نوح من نبع الأرض وإغراق فرعون وخسف قارون عن ابن عباس ومجاهد من فوقكم السلاطين الظلمة ومن تحت أرجلكم العبيد السوء وقال الضحاك من فوقكم اى من قبل كباركم ومن تحت أرجلكم من قبل صغاركم وقيل حبس المطر والنبات أَوْ يَلْبِسَكُمْ اى يخلطكم شِيَعاً فرقا متفرقين على أهواء شتى ويكون القتال بينكم وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ البأس العذاب والشدة فى الحرب كذا فى القاموس يعنى يقتل بعضكم بعضا
عن جابر بن عبد الله قال لما نزلت هذه الاية قل هو القادر على ان يبعث عليكم عذابا من فوقكم قال رسول الله ﷺ أعوذ بوجهك الكريم او يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض قال رسول الله ﷺ هذا أهون وهذا أيسر رواه البخاري وغيره.
(فائدة) ظهر تاويل هذه الاية بعد خمس وثلثين سنة من الهجرة حين قاتل المسلمون فى وقعة جمل وصفين وغير ذلك- وعن سعد بن ابى وقاص قال أقبلنا مع رسول الله ﷺ حتى مررنا على مسجد بنى معاوية فدخل فصلى ركعتين فصلينا معه فناجى ربه طويلا ثم قال سالت ربى ثلثة سالته ان لا يهلك أمتي بالغرق فاعطانيها وسالته ان لا يهلك أمتي بالسنة فاعطانيها وسالته ان لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها رواه البغوي وعن عبد الله بن عبد الرحمن الأنصاري ان عبد الله بن عمر جاءهم ثم قال ان النبي ﷺ دعا فى مسجد فسال الله ثلثا فاعطاه اثنتين ومنعه واحدة ساله ان لا يسلط على أمته عدوا من غيرهم يظهر عليهم فاعطاه ذلك وسالهم ان لا يهلكهم بالسنين فاعطاه ذلك وساله ان لا يجعل بأس بعضهم على بعض فمنعه ذلك رواه البخاري واخرج ابن ابى حاتم عن زيد بن اسلم قال لما نزلت قل هو القادر على ان يبعث عليكم عذابا من فوقكم الاية قال رسول الله ﷺ لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض بالسيوف قالوا ونحن نشهد ان لا اله الا الله وانك رسول الله فقال بعض الناس لا يكون هذا ابدا يعنى ان يقتل بعضكم بعضا ونحن مسلمون فنزلت انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ بالوعد والوعيد لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ وَكَذَّبَ بِهِ اى بالعذاب او بالقران.
قَوْمُكَ اى كفار قريش وَهُوَ الْحَقُّ الواقع لا محالة او الصدق قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ اى مسلطا من الله عليكم وكّل الىّ أمركم ألزمكم الإسلام لا محالة او اجازيكم ان أبيتم.
لِكُلِّ نَبَإٍ خبر من اخبار القران من العذاب النازل بالكفار وغيره مُسْتَقَرٌّ وقت استقرار ووقوع لا يتقدم عليه ولا يتاخر وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ عند وقوعه فى الدنيا او فى الاخرة.
وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا بالتكذيب والاستهزاء بها والطعن فيها وكانت القريش تفعل ذلك فى أنديتهم «١» فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ اى قم من عندهم ولا تجالسهم والمقصود
(١) اندية جمع نادى وهو المجلس واهله ١٢
التحذير عن دينهم ومجالستهم لا المنع عن قتالهم حتى يقال بالنسخ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ أعاد الضمير على معنى الآيات لانها القران وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ قرأ ابن عامر بفتح النون وتشديد السين من التفعيل والباقون بسكون النون وكسر السين من الافتعال يعنى ان ينسينك ما نهيت عنه الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى يعنى بعد ان تذكره مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ اى معهم وضع المظهر موضع المضمر تنبيها على انهم ظلموا بوضع التكذيب والاستهزاء موضع التصديق والاستعظام قال البغوي روى عن ابن عباس انه لما نزلت هذه الاية قال المسلمون كيف نقعد فى المسجد الحرام ونطوف بالبيت.... وهم يخوضون ابدا وفى رواية قال المسلمون فانا نخاف الإثم حين نتركهم ولا ننههم فانزل الله عز وجل.
وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ يعنى محمدا ﷺ وأصحابه مِنْ حِسابِهِمْ اى الكفار المستهزئين ومن للتبعيض مِنْ شَيْءٍ من زائدة يعنى مما يحاسب عليه الكفار من الآثام ليس شىء منها لازما للمتقين وَلكِنْ عليهم ذِكْرى اى تذكيرهم ومنعهم عن الخوض ونحو ذلك من القبائح ان استطاعوا فذكرى فى محل الرفع ويحتمل النصب على المصدرية يعنى ولكن ذكروهم ذكرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ اى الكفار بتذكير المؤمنين وجاز ان يكون الضمير للذين يتقون يعنى لكن يثبتوا على التقوى.
وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً يعنى تدبنوا بما لا ينفعهم عاجلا وأجلا كعبادة الأوثان وتحريم البحائر والسوائب او المعنى اتخذوا دينهم الذي كلفوا بإتيانه لهوا ولعبا حيث يسخرون به وقيل معناه ان الله تعالى جعل لكل قوم عيدا فاتخذ كل قوم دينهم يعنى عيدهم لعبا ولهوا الا المسلمين فان فى عيدهم الصلاة صلوة العيد والجمعة والتكبير والنحر لله تعالى وصدقة الفطر والخطبة والتذكير والمعنى اعرض عنهم ولا تبال بأفعالهم وأقوالهم ويجوز ان يكون معناه التهديد كقوله تعالى ذرنى ومن خلقت وحيدا ومن جعله منسوخا باية السيف حمله على ترك التعرض لهم والأمر بالكف عنهم وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا حتى أنكروا البعث وَذَكِّرْ بِهِ اى بالقران أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ يعنى لئلا تبسل او كراهة ان تبسل اى تحبس بما كسبت من السيئات والبسل الحبس كذا فى القاموس لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ ناصر يدفع عنها العذاب بالمقاومة
وَلا شَفِيعٌ يدفع بالشفاعة وَإِنْ تَعْدِلْ تلك النفس كُلَّ عَدْلٍ العدل الفدية لانها تعادل المفدى اى ان تفد كل الفدية وكل منصوب على المصدرية لا يُؤْخَذْ مِنْها الفعل مسند الى منها ولا ضمير فيه عائد الى العدل لانه هاهنا بمعنى المصدر دون المفعول فلا يسند اليه الاخذ بخلاف قوله تعالى لا يؤخذ منها عدل فان هناك بمعنى المفدى أُولئِكَ المشار اليه الَّذِينَ اتخذوا دينهم لعبا الذين أُبْسِلُوا اى حبسوا وسلموا الى العذاب بِما كَسَبُوا من السيئات لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ ماء بالغ غاية الحرارة وَعَذابٌ أَلِيمٌ بالنار وغيرها بِما كانُوا يَكْفُرُونَ ع اى بسبب كفرهم جملة مستأنفة او خبر بعد خبر لاولئك.
قُلْ أَنَدْعُوا أنعبد مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا اى عبدناه وَلا يَضُرُّنا ان لم نعبده ونكفر به يعنى لا يقدر على شىء من ذلك وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا يعنى نرجع الى الشرك الذي كان الناس عليه فى الجاهلية عطف على ندعوا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ بالوحى فانقذنا من الشرك ورزقنا الإسلام كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ استفعال من هوى يهوى بمعنى ذهب قرأ حمزة استهواه بالألف مما لا على التذكير والباقون بالتاء على التأنيث نظرا الى جمعية الفاعل والكاف فى محل النصب على المصدرية او على الحالية يعنى ردا مثل رد الذي ذهب به الشياطين او نرد مشبهين بالذي ذهب به الشياطين يعنى مردة الجن فِي الْأَرْضِ اى فى المفازة من الطريق الى المهالك حَيْرانَ حال من مفعول استهوته اى ضالا متحير الا يدرى اين يذهب وكيف يصنع لَهُ اى بهذا المستهوى أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى اى الى الطريق المستقيم سماه هدى تسمية للمفعول بالمصدر ائْتِنا تفسير ليدعونه بتقدير القول يعنى يقولون له ائتنا والمستهوى لا يجيبهم ولا يأتيهم وجملة له اصحاب فى محل النصب على الحالية من مفعول استهوته شبه الله سبحانه الضال عن طريق الإسلام والمسلمون يدعونه الى الإسلام فلا يلتفت إليهم بالذي استهوته الغيلان فذهبوا به عن الطريق وأصحابه يدعونه الى الطريق والاستفهام للانكار وجملة التشبيه حال من ضمير نرد قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ اى الإسلام هُوَ الْهُدى وما عداه ضلال وَأُمِرْنا منصوب المحل عطفا على محل ان هدى الله هو الهدى يعنى قل هذا القول وقل أمرنا لِنُسْلِمَ اللام بمعنى الباء او زائدة والفعل بتأويل المصدر بان مقدوة
مفعول لامرنا يعنى أمرنا ان نسلم او بان نسلم او هى للتعليل والمفعول محذوف يعنى أمرنا باتباع الرسول لنسلم لِرَبِّ الْعالَمِينَ فان الوصول الى الله تعالى وتسليم أنفسهم له تعالى منحصر فى اتباع الرسول.
وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ عطف على ان نسلم مفعولا لامرنا او علة يعنى أمرنا بان اقيموا او لاقامة الصّلوة والتقوى وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ يوم القيمة.
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قائما بِالْحَقِّ بالحكمة او محقا او المعنى متلبسات بالحق نظيره ما خلقت هذا باطلا او الباء بمعنى اللام اى لاظهار الحق وَيَوْمَ يَقُولُ للشئ كُنْ فَيَكُونُ يعنى يقول للخلق قوموا فيقومون فيكون مرفوعا على الخبر وليس بجواب ويوم منصوب باذكر او هو معطوف على الضمير المنصوب فى واتقوه يعنى اتقوا عذاب يوم يقول كن يعنى يوم القيمة او على السموات يعنى خلق السموات ويوم القيمة او منصوب بفعل محذوف دل عليه السياق يعنى خلق السموات والأرض وما بينهما ويعيدها يوم يقول للبعث كن فيكون وعلى هذه التأويلات قَوْلُهُ الْحَقُّ مبتدأ وخبر كلام مستأنف يعنى قوله هو الحق الصدق لا محالة وجاز ان يكون الموصوف مع الصفة فاعلا ليقول يعنى فيكون قوله الحق ولا يتخلف الخلائق عن قوله او المعنى حين يقول لقوله الحق اى لقضائه كن فيكون وقيل قوله الحق مبتدا ويوم يقول خبره مقدما عليه كما تقول يوم الجمعة قولك الصدق يعنى قولك الصدق كائن يوم الجمعة قدم الخبر للاهتمام والمعنى انه الخالق للسموات والأرض قوله الحق نافذ فى الكائنات يوم يقول كن فيكون وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ كقوله تعالى لمن الملك اليوم لله الواحد القهار والصور قرن ينفخ فيه كذا قال رسول الله ﷺ فى جواب الاعرابى حين ساله رواه ابو داؤد وحسنه والنسائي وابن جبان وصححه والبيهقي فى البعث وابن المبارك فى الزهد عن عبد الله بن عمرو بن العاص واخرج ابو الشيخ بن حبان فى كتاب العظمة عن وهب بن منبه قال خلق الله الصور من لؤلؤ بيضاء فى صفاء الزجاجة ثم قال للعرش خذ الصور فتعلق به ثم قال كن فكان اسرافيل فامره ان يأخذ الصور فاخذه وبه ثقب بعدد كل روح مخلوقة ونفس منفوسة لا يخرج روحان من ثقب واحد وفى وسط الصور كوة كاستدارة السماء والأرض واسرافيل واضع فمه فى تلك الكوة ثم قال له الرب تعالى قد وكلتك بالصور فانت بالنفخة والصيحة فدخل اسرافيل
فى مقدم العرش وادخل رجله اليمنى تحت العرش وقدم اليسرى ولم يطرف منذ خلقه الله ينتظر متى يومر به واخرج احمد والطبراني بسند جيد عن زيد بن أرقم قال قال رسول الله ﷺ كيف أنعم وصاحب الصور قد التقم القرن واحنى جبهته وأصغى بالسمع متى يومر فسمع بذلك اصحاب رسول الله ﷺ فشق عليهم فقال رسول الله ﷺ قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل وكذا اخرج احمد والحاكم فى المستدرك والبيهقي فى البعث والطبراني فى الأوسط عن ابن عباس وفيه حسبنا الله ونعم الوكيل على الله توكلنا وكذا الترمذي والحاكم والبيهقي عن ابى سعيد الخدري عن النبي ﷺ وابو نعيم عن جابر واخرج البزار والحاكم عن ابى سعيد الخدري عن النبي ﷺ قال ما من صباح الا وملكان موكلان بالصور ينتظران متى يومران فينتفخان وروى ابن ماجة والبزار عنه مرفوعا بلفظ ان صاحبى الصور بايديهما قرنان يلاحظان النظر متى يومران واخرج الحاكم من حديث ابن عمر عن النبي ﷺ قال النافخان فى السماء الثانية وراس أحدهما بالمشرق ورجلاه بالمغرب وراس أحدهما بالمغرب ورجلاه بالمشرق ينتظران متى يومران ان ينفخا فى الصور فينفخان فهذه الأحاديث تدل على ان نافخا الصور ملكان لهما قرنان واخرج الطبراني بسند حسن عن كعب الأحبار حديثا فيه ملك الصور جاث على احدى ركبتيه وقد نصب الاخرى فالتقم الصور فحنى ظهره وقد امر إذ رأى اسرافيل قد ضم جناحيه ان ينفخ فى الصور فقالت عائشة هكذا يعنى مثل ما قال كعب سمعت رسول الله ﷺ يقول قال ابن حجر هذا الحديث يدل على ان النافخ غير اسرافيل فليحمل على انه ينفخ النفخة الاولى إذا راى اسرافيل ضم جناحيه ثم ينفخ اسرافيل نفخة البعث والله اعلم واخرج ابو الشيخ بن حبان فى كتاب العظمة عن ابى بكر الهذلي قال ان ملك الصور الذي وكل به ان احدى قدميه لفى الأرض وهو جاث على ركبته شاخص ببصره الى اسرافيل ما طرف منذ خلقه الله ينتظر متى يشير اليه فينفخ فى
الصور عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ اى هو عالم الغيب يعنى ما لم يوجد والشهادة يعنى ما وجد فان كل موجود مشهود لله تعالى لا يعزب عنه مثقال ذرة فى السموات ولا فى الأرض وَهُوَ الْحَكِيمُ فى الإيجاد والافناء الْخَبِيرُ بالحساب والجزاء وبأحوال المخلوقات كلها.
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ قرأ يعقوب آزر بالضم
255
يعنى يا آزر والباقون بالفتح فى محل الجر على انه عطف بيان لابيه وهو اسم أعجمي غير منصرف للعلمية والعجمة وقيل هو اسم عربى مشتق من الأزر بمعنى القوة او الوزر بمعنى الثقل لم ينصرف للعلمية ووزن الفعل وكان آزر على الصحيح عما لابراهيم والعرب يطلقون الأب على العم كما فى قوله تعالى نعبد إلهك واله ابائك ابراهيم واسمعيل وإسحاق الها واحدا وكان اسمه ناخور........ وكان ناخور على دين ابائه الكرام كما ذكرنا فى سورة البقرة ثم لما صار وزير النمرود اختار الكفر للحرص فى الدنيا وترك دين ابائه روى البخاري عن ابى هريرة عن النبي ﷺ قال يلقى ابراهيم آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قترة وغبرة فيقول ابراهيم الم اقل لك لا تعصنى فيقول أبوه فاليوم لا أعصيك فيقول ابراهيم يا رب انك وعدتني ان لا تخزينى يوم يبعثون فاى خزى اخزى من ابى الا بعد فيقول الله انى حرمت الجنة على الكافرين ثم يقال يا ابراهيم ما تحت رجليك فينظر فاذا بذيخ «١» متلطخ فيوخذ بقوائمه فيلقى فى النار والله اعلم قال الرازي انه كان عما لابراهيم ولم يكن أبوه وقد سبقه الى هذا القول جماعة من السلف قال الزرقانى فى شرح المواهب ان دليل كون آزر عما لابراهيم ما قد صرح به الشهاب الهيثمي بان اهل الكتابين والتاريخ اجمعوا ان آزر عم ابراهيم كما قال الرازي وقال السيوطي روينا بالأسانيد عن ابن عباس ومجاهد وابن جرير والسدى انهم قالوا ليس آزر أبا لابراهيم انما هو ابراهيم بن تارخ وقال السيوطي وقفت على اثر فى تفسير ابن المنذر صرح فيه بانه عمه وفى القاموس آزر اسم عم ابراهيم عليه السلام واما أبوه فانه تارخ بالخاء المهملة وقيل بالمعجمة او هما واحد ويؤيد القول بانه لم يكن أبا له عليه السلام ما ذكرنا فى سورة البقرة فى تفسير قوله تعالى ولا تسال عن اصحاب الجحيم انه صح عن النبي ﷺ انه قال بعثت من خير قرون بنى آدم قرنا فقرنا حتى بعثت من القرن الذي كنت فيه رواه البخاري وقد صنف السيوطي فى اثبات اسلام اباء النبي ﷺ الى آدم عليه السّلام رسائل والله اعلم لكن قال محمد بن إسحاق والضحاك والكلبي ان آزر اسم ابى ابراهيم واسمه تارخ ايضا مثل إسرائيل ويعقوب وقال مقاتل ابن حبان آزر لقب لابى ابراهيم واسمه تارخ قال سليمان التيمي هو سبّ وعيب ومعناه فى كلامهم المعوج وقيل معناه الشيخ الهرم بالفارسية وعلى هذا
(١) الذيخ ذكر الضباع أراد بالتلطخ التلطخ برجيعه او بالطين ١٢
256
عدم انصرافه لانه اسم أعجمي حمل على موازنه والاول أصح وقال سعيد ابن المسيب ومجاهد آزر اسم صنم لقب به لانه كان يعبده او اطلق عليه بحذف المضاف يعنى عبد آزر وعلى تقدير كونه اسم صنم منصوب بفعل مضمر يفسره ما بعده اعنى أَتَتَّخِذُ تقديره أتعبد آزر أتتخذه الها فوضع المظهر موضع المضمر للدلالة على عدم انحصار عبادته فى آزر فقال أَصْناماً آلِهَةً دون الله تعالى إِنِّي قرأ نافع وابن كثير وابو عمرو بفتح الياء والباقون بالإسكان أَراكَ وَقَوْمَكَ يعنى اهل دينك فِي ضَلالٍ عن الحق مُبِينٍ ظاهر الضلالة.
وَكَذلِكَ يعنى كما أريناه الحق على خلاف قرنه نُرِي حكاية حال ماضية إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ كرهبوت وترقوت العز والسلطان كذا فى القاموس مشتق من الملك زيدت الواو والتاء للمبالغة فهو أعظم الملك قال فى الصحاح الملكوت مختصة بملك الله تعالى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اضافة الملكوت الى السموات والأرض من قبيل اضافة المصدر الى المفعول يعنى سلطان الله وربوبيته السموات قال مجاهد وسعيد بن جبير يعنى آيات السموات والأرض وذلك انه أقيم على صخرة وكشف له عن السموات والأرض حتى العرش وأسفل الأرضين ونظر الى مكانه فى الجنة وذلك قوله تعالى واتيناه اجره فى الدنيا يعنى أريناه مكانه فى الجنة وروى عن سلمان ورفعه بعضهم عن على رضى الله عنه لما ارى ابراهيم ملكوت السموات والأرض ابصر رجلا على فاحشة فدعا عليه فهلك ثم ابصر اخر فدعا عليه فهلك ثم ابصر اخر فاراد ان يدعوا عليه فقال الرب عز وجل يا ابراهيم انك رجل مستجاب الدعوة فلا تدعون على عبادى فانما انا من عبادى على ثلث خصال اما ان يتوب الىّ فاتوب عليه واما ان اخرج عنه نسمة تعبدنى واما ان يبعث الىّ فان شئت عفوت عنه وان شئت عاتبته وفى رواية واما ان يتولى فان جهنم من ورائه وقال قتادة ملكوت السموات الشمس والقمر والنجوم وملكوت الأرض الجبال والأشجار والبحار وَلِيَكُونَ معطوف على مقدر دل عليه السباق يعنى يستدل وليكون مِنَ الْمُوقِنِينَ او متعلق بفعل محذوف معطوف على نرى يعنى وفعلنا ذلك ليكون من الموقنين عيانا كما كان على بصيرة إلهاما من الله تعالى.
فَلَمَّا جَنَّ اى اظلم عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى قرأ حمزة والكسائي وابو بكر وابن ذكوان هذا وشبهه من لفظه إذا لم يأت بعد الياء ساكن بامالة فتحة الراء والهمزة
257
جميعا كَوْكَباً اى الزهرة او المشترى قالَ إلزاما للكفار فانهم كانوا يعبدون الأصنام والكواكب ويعظمونها ويرون ان الأمور كلها إليها فاراد ان ينبههم على ضلالتهم ويرشدهم الى الحق من طريق النظر والاستدلال فقال هذا رَبِّي فى زعمكم او بحذف همزة الاستفهام يعنى أهذا ربى او قال على سبيل الفرض فان المستدل على فساد قوله يحكيه على ما يقوله الخصم ثم يرجع عليه بالابطال واجرى بعضهم على ظاهره فقال كان ابراهيم عليه السّلام حينئذ مسترشدا طالبا للتوحيد حتى وفقه الله تعالى وأتاه رشده فلم يضره ذلك فى حالة الاستدلال قال البغوي وكان ذلك فى حالة طفوليته قبل قيام الحجة عليه فلم يكن كفرا وقال البيضاوي انما قال ذلك زمان راهقته او أول أوان بلوغه وفى شرح خلاصة السير لمولانا ابى بكر ان استدلاله بالكواكب والقمر كان وهو ابن خمسة عشر شهرا والصحيح هو القول الاوّل إذ لا يجوز ان يكون لله رسول يأتي عليه وقت من الأوقات الا وهو لله موحد وبه عارف ومن كل معبود سواه برى وكيف يتوهم هذا على من عصمه الله وطهّره وأتاه رشده من قبل قال فى الشفاء قال الله تعالى ولقد اتينا ابراهيم رشده من قبل اى هديناه صغيرا قاله مجاهد وغيره وقال ابن عطا اصطفاه قبل بدأ خلقه وقال بعضهم لما ولد ابراهيم عليه السّلام بعث الله اليه ملكا يأمره عن الله تعالى ان يعرفه بقلبه ويذكره بلسانه فقال قد فعلت ولم يقل افعل فذلك رشده وفى هذه الاية عطف قوله تعالى فلما جن على قوله تعالى قال ابراهيم وقوله تعالى وكذلك نرى ابراهيم اعتراض والغاء للتعقيب فدلت هذه الاية على انه كان هذا الاستدلال بعد قوله أتتخذ أصناما الهة انى أراك وقومك فى ضلال مبين وعلى تقدير كون هذا الكلام على طريقة الاستدلال الفاء للتفسير والتفصيل لقوله تعالى كذلك نرى ابراهيم وعلى هذا التقدير لا بد ان يكون هذا الكلام أول ليلة راى الكوكب من زمان عقله وشعوره بحيث لم ير قبل ذلك قط وأساسا لهذا المفاد يذكرون قصة وذلك ان ابراهيم عليه السّلام ولد فى زمن نمرود بن كنعان وكان نمرود أول من وضع التاج على راسه ودعا الناس الى عبادته وكان له كهان ومنجمون فقالوا له انه يولد فى بلدك هذه السنة غلام يغير دين اهل الأرض ويكون هلاكك وزوال ملكك على يديه ويقال انهم وجدوا ذلك فى كتب الأنبياء عليهم السّلام وقال السدى راى نمرود فى منامه كان كوكبا طلع فذهب بضوء الشمس والقمر حتى لم يبق لهما ضوء ففزع فزعا شديدا
258
فدعا السحرة والكهنة فسالهم عن ذلك فقالوا هو مولود يولد فى ناحيتك هذه السنة فيكون هلاكك واهل بيتك وزوال ملكك على يديه قالوا فامر بذبح كل غلام يولد فى ناحيته تلك السنة وامر بعزل الرجال عن النساء وجعل على كل عشر رجلا فاذا حاضت المرأة خلى بينها وبين زوجها لانهم كانوا لا يجامعون فى الحيض فاذا طهرت حال بينهما فرجع آزر فوجد امرأته قد طهرت من الحيض فواقعها فحملت بإبراهيم عليه الصّلوة والسّلام قال محمد بن إسحاق بعث نمرودا الى كل امرأة حبلى بقرينه فحبسها عنده الا ما كان من أم ابراهيم عليه السّلام لانها كانت جارية حديثة السن لم يعرف الحبل فى بطنها وقال السدى خرج نمرود بالرجال الى المعسكر ونحاهم عن النساء تخوفا من ذلك المولود ان يكون فمكث بذلك ما شاء الله ثم بدت له حاجة الى المدينة فلم يأتمن عليها أحدا من قومه الا آزر فبعث اليه ودعاه وقال ان لى حاجة أحب ان أوصيك بها ولا أبعثك الا لثقتى بك فاقسمت عليك ان لا تدنوا من أهلك فقال آزر انا أشحّ على دينى من ذلك فاوصاه بحاجته فدخل المدينة وقضى حاجته ثم قال لو دخلت على أهلي فنظرت إليهم فلما نظر الى أم ابراهيم عليه السّلام لم يتمالك حتى واقعها فحملت بإبراهيم عليه السّلام وقال ابن عباس لما حملت أم ابراهيم قال الكهان لنمرود ان الغلام الذي قد أخبرناك به قد حملت امه الليلة فامر نمرود بقتل الغلمان فلما
دنت ولادة أم ابراهيم وأخذها المخاض خرجت هاربة مخافة ان يطلع عليها فيقتل ولدها فوضعته فى «١» حلفاء فرجعت فاخبرت زوجها بانها ولدت وان الولد فى موضع كذا فانطلق أبوه فاخذه من ذلك المكان وحفر له سربا عند نهر فواراه فيه وسد عليه بابه بصخرة مخافة السباع وكانت امه تختلف اليه فترضعه وقال محمد بن إسحاق لما وجدت أم ابراهيم الطلق خرجت ليلا الى مغارة كانت قريبا منها فولدت فيها ابراهيم فاصلحت من شانه ما يصنع بالمولود ثم سدت عليه المغارة ورجعت الى بيتها ثم كانت تطالعه لتنظره ما فعل فتجده حيا يمص إبهامه قال ابو روق قالت أم ابراهيم ذات يوم لانظرن الى أصابعه فوجدته يمص من إصبع ماء ومن إصبع لبنا ومن إصبع عسلا ومن إصبع تمرا ومن إصبع سمنا وقال محمد ابن إسحاق كان آزر قد سال أم ابراهيم عن حملها ما فعل فقالت قد ولدت غلاما فمات فصدقها وسكت
(١) حلفاء نبت فى الماء ١٢
259
عنها وكان اليوم على ابراهيم فى الشباب كالشهر والشهر كالسنة فلم يمكث ابراهيم فى المغارة الا خمسة عشر شهرا حتى قال لامه أخرجني فاخرجته عشاء فنظر فتفكر فى خلق السموات والأرض وقال ان الذي خلقنى وأطعمني وسقانى لربى الذي مالى اله غيره ثم نظر فى السماء فرأى كوكبا قال هذا ربى ثم اتبعه بصره ينظر اليه حتى غاب فلما أفل قال لا أحب الآفلين ثم راى القمر بازغا قال هذا ربى ثم اتبعه بصره حتى غاب ثم طلع الشمس هكذا الى آخره ثم رجع الى أبيه آزر وقد استقامت وجهته وعرف ربه وبرى من دين قومه الا انه لم يبادهم بذلك فاخبره انه ابنه وأخبرته امه انه ابنه وأخبرته بما كانت صنعت فى شانه فسر آزر بذلك وفرح فرحا شديدا وقيل انه كان فى السرب سبع سنين وقيل ثلث عشرة سنة وقيل سبع عشرة سنة قلت وهذه القصة ان صحت فالى هنالك لا تدل على كفر أبوي ابراهيم الا تسمية ابى ابراهيم بازر فان كفر آزر ثابت بالكتاب والسنة والظاهر ان تسمية ابى ابراهيم فى هذه القصة بازر وهم من بعض الرواة لكن قال بعضهم فى القصة انه لما شب ابراهيم عليه السّلام وهى فى السرب قال لامه من ربى قالت انا قال فمن ربك قالت أبوك قال فمن رب ابى قال نمرود قال فمن ربه قالت اسكت فسكت ثم رجعت الى زوجها فقالت ارايت الغلام الذي كنا نحدث انه يغير دين اهل الأرض فانه ابنك ثم أخبرته بما قال فاتاه أبوه فقال له ابراهيم يا أبتاه من ربى قال أمك قال فمن رب أمي قالت انا قال فمن ربك قال نمرود قال فمن رب نمرود فلطمه لطمة وقال له اسكت فلما جن عليه الليل دنا من باب السرب فنظر من خلال الصخرة فابصر كوكبا قال هذا ربى ويقال انه قال لابويه أخرجاني فاخرجاه من السرب وانطلقا به حين غابت الشمس فنظر ابراهيم الى الإبل والخيل والغنم فسال أباه ما هذه فقال ابل وخيل وغنم قال ما لهذه بد من ان يكون لهارب وخالق ثم نظر فاذا المشترى قد طلع ويقال الزهرة فكان تلك الليلة من اخر الشهر فتاخر طلوع القمر فيها فرأى الكوكب قبل القمر فذلك قوله عز وجل فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربى وهذه القصة تدل على كفر أبوي ابراهيم عليه السّلام لكن لا يدل على موتهما على الكفر وايضا هذه القصة مع اختلافها واضطرابها وعدم ثبوتها بسند صحيح لا يقوى معارضة ما صح عنه ﷺ ان ابائه كلهم من آدم عليه السّلام الى أبويه كانوا مومنين
260
وانه انتقل من أصلاب الطاهرين الى أرحام الطاهرات ومن أرحام الطاهرات الى أصلاب الطاهرين وعليه حمل قوله تعالى ونقلبك فى الساجدين واطلاق الأب على العم شائع لا سيما إذا رباه ولعل تارخ مات وترك ابراهيم فى بطن امه او وليدا رضيعا ورباه عمه آزر والله اعلم- فَلَمَّا أَفَلَ يعنى غاب الكوكب قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ اى لا أحب عبادة المتغيرين عن حال الى حال لان التغير امارة الحدوث إذ القديم لا يكون محلا للحوادث والحدوث ينافى الالوهية.
فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ قرأ حمزة وابو بكر هذا وشبهه إذا لقيت الياء ساكنا منفصلا بامالة فتحة الراء فقط دون الهمزة والباقون بفتحها هذا فى حالة الوصل واما فى حالة الوقف فالاختلاف كما مر فى رأى كوكبا وعن ابى بكر وابى شعيب فى روايته عنهما بامالة الراء والهمزة جميعا فى الوصل ايضا وعن البزي نحوه بازِغاً فى بداية الطلوع قالَ هذا رَبِّي هذا القول فى القمر والشمس بعد تمام الاستدلال بالكوكب ليس الا لالزام الخصم والا فالعاقل يكفيه الاشارة وابراهيم عليه السلام مع كمال قوته النظرية لا يتصور ان يحتاج الى استدلال اخر بعد تمام الاستدلال فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ قال ذلك شكر النعمة الهداية من الله تعالى كما قال رسول الله ﷺ لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا وفيه ارشاد لقومه وتنبيه لهم على ان القمر ايضا لتغير حاله لا يصلح للالوهية وان من اتخذه الها فهو ضال وانما احتج عليهم بالأقوال دون البزوغ مع ان كلا منهما انتقال من حال الى حال لان الاحتجاج به اظهر لكونه انتقالا الى اخس الحالين وأدونهما.
فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي قيل ذكر اسم الاشارة لتذكير الخبر وصيانية للرب عن شبهة التأنيث وقيل أراد به هذا الطالع أوردا الى المعنى وهو الضياء والنور وعندى ان تأنيث الشمس انما هو سماعى لفظى فى لغة العرب لان تصغيره شميسة دون غيرها من اللغات ولسان ابراهيم عليه السّلام لم يكن عربيا فذكر ابراهيم اسم الاشارة بناء على لغته وحكاه الله سبحانه على ما قاله بلغة العرب هذا أَكْبَرُ من الكواكب كبره استدلالا واظهار الشبهة الخصم فَلَمَّا أَفَلَتْ غربت قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ تبرأ من جميع الالهة الباطلة فانه لما تبين ان الكواكب والقمر والشمس مع كونها اجراما
علوية عظيمة منيرة غير صالحة للالوهية لكونها محلا لتغيرات محدثة محتاجة الى محدث يحدثها ويخصصها بما يختص به فالاصنام وغيرها من الاجرام السفلية اولى ان لا تتخذ الها وهذا يعنى مخاطبة القوم والتبري عما يعبدونه بعد تمام الحجة دليل واضح على ان هذا الكلام من ابراهيم عليه السّلام لم يكن الا لالزام الخصوم لا لطلب تحقيق لم يكن حاصلا له ولما تبرأ عن الالهة الباطلة ارشدهم الى وجود الإله الحق الذي دلت عليه الممكنات بأسرها فقال.
إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ قرأ نافع وابن عامر وحفص بفتح الياء والباقون بالإسكان لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وما فيها وَالْأَرْضَ وما فيها يعنى الذي دلت على وجوده ووجوبه هذه الموجودات التي لا تقتضى ذواتها وجوداتها المحتاجة الى من يخرجها من العدم الى الوجود حَنِيفاً حال من فاعل وجهت يعنى مائلا من الأديان كلها الى الإسلام وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ بالله شيئا من خلقه.
وَحاجَّهُ قَوْمُهُ فى توحيد الله ونفى الشركاء عنه يعنى قاموا بالمجادلة لما عجزوا وبهتوا فى مقابلة الاستدلال الصحيح وقالوا احذر الهتنا ان تمسك بسوء واحذر نمرود ان يقتلك او يحرقك قالَ ابراهيم أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ بعد تمام الاستدلال على وجوده وتوحيده وَقَدْ هَدانِ اثبت الياء فى الوصل ابو عمرو حذف الباقون يعنى هدانى الله الى الحق واقامة الحجة مع كونى صغيرا اميا وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ تعالى من الممكنات سواء كان من الفلكيات كالشمس والقمر والكواكب او من العنصريات من ذوى العقول كنمرود او من الجمادات كالاصنام فان كلها مثلى فى عدم الاقتدار على النفع والضرر الا باقتدار الله تعالى او أعجز منى روى ان ابراهيم لما خرج من السرب وصار بحال سقط عنه طمع الذباحين وضمه آزر الى نفسه جعل آزر يصنع الأصنام ويعطيها ابراهيم ليبيعها فيذهب بها ابراهيم وينادى من يشترى ما يضره ولا ينفعه فلا يشتريها أحد فاذا بات عليه ذهب بها الى نهر فصوب فيه راسه وقال اشربى استهزاء بقومه إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً يعنى لا يستطيع ما تشركون بالله اضرارى فى وقت من الأوقات الا وقت ان يشاء ربى شيئا من الإضرار وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً كانه علة للاستثناء يعنى لا يبعد ان يكون فى علمه ان يصيبنى مكروه من جهة بعض عباده بمشيته وخلقه وأقداره على الكسب أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ فتميّزوا بين العاجز على الإطلاق كالاصنام وبين العاجز فى نفسه
القادر باقدار الله تعالى ومشيته وبين القهار المقتدر على الإطلاق.
وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ به ولا يقدر أحد منهم على الإضرار من غير مشية الله وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ وهو حقيق ان يخاف منه كل الخوف فانه هو القادر على الإطلاق الضار النافع ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ اى باشراكه عَلَيْكُمْ سُلْطاناً دليلا نقليا من الكتاب ولا عقليا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ من الموحدين بالله المعتقدين على ما اقتضاه العقل والنقل والمشركين به المعتقدين بما لا دليل عليه أَحَقُّ بِالْأَمْنِ من العذاب والمكاره فى الدنيا والاخرة لم يقل أينا احترازا عن تزكية النفس وايماء بان استحقاق الا من غير مختص به بل يشتمل كل موحد ففيه ترغيب لهم فى التوحيد إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ من يحق ان يخاف منه لا تخافوا الا الله تعالى كما أخاف دل على الجزاء ما سبق او المعنى ان كنتم ذا علم وبصيرة فانصفوا فى الجواب عن الاستفهام.
الَّذِينَ آمَنُوا بالله وَلَمْ يَلْبِسُوا اى لم يخلطوا إِيمانَهُمْ بالله تعالى بِظُلْمٍ بشرك أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ من العذاب وَهُمْ مُهْتَدُونَ الى الحق والى الجنة عن عبد الله بن مسعود قال انه لما نزلت هذه الاية شق ذلك على المسلمين فقالوا يا رسول الله فاينا لا يظلم نفسه فقال ذلك انما هو الشرك الم تسمعوا الى ما قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بنى لا تشرك بالله ان الشرك لظلم عظيم متفق عليه وهذه الاية استيناف من الله تعالى او من ابراهيم بالجواب عما استفهم عنه حين لم يسمع منهم جوابا حقا واخرج ابن ابى حاتم من طريق عبيد الله بن زحر عن بكر بن سوادة قال حمل رجل من العدو على المسلمين فقتل رجلا ثم حمل فقتل اخر ثم حمل فقتل اخر ثم قال أينفعنى الإسلام بعد هذا فقال رسول الله ﷺ نعم فدخل فيهم ثم حمل على أصحابه فقتل رجلا ثم اخر ثم قتل قال فيرون ان هذه الاية نزلت فيه الذين أمنوا ولم يلبسوا ايمانهم بظلم الاية.
وَتِلْكَ اشارة الى ما مر من قوله تعالى فلما جن عليه الليل الى قوله تعالى وهم مهتدون وهذا اصرح دليلا على ان ما مر من مقال ابراهيم انما كان احتجاجا على قومه لا تفكرا واستدلالا لنفسه كيف والنفوس القدسية لا يحتاجون الى تجشم الاستدلال وقيل أراد به الاحتجاج الذي حاج نمرود على ما سبق فى سورة البقرة وهذا بعيد جدا حُجَّتُنا خبر لاسم الاشارة او صفة له او بدل منه آتَيْناها إِبْراهِيمَ ارشدناه إليها الجملة خبر او خبر بعد خبر او معترضة
عَلى قَوْمِهِ يعنى على من بعث إليهم كنمرود واتباعه متعلق بحجتنا ان جعل خبرا وصفة وبمحذوف ان جعل بدلا يعنى اتيناها ابراهيم حجته على قومه نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ قرأ الكوفيون هاهنا وفى سورة يوسف درجات بالتنوين على انه تميز من النسبة او مفعول مطلق يعنى نرفع من نشاء درجات فى العلم والحكمة والباقون بالاضافة اى نرفع درجاتهم إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ فى رفعه وخفضه عَلِيمٌ بحال من يرفعه واستعداده.
وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ ابنا وَيَعْقُوبَ ابن ابن كُلًّا اى كلواحد منهما هَدَيْنا انتصب كلا بهدينا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ ابراهيم عد هداه نعمة على ابراهيم من حيث انه أبوه وفيه دليل على ان شرف الوالد يتعدى الى الولد وبالعكس قلت فمن المحال ان يكون بعض اباء النبي ﷺ مع كونه محبوبا لله كافرا وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ قيل الضمير راجع الى ابراهيم لان الكلام فيه وقيل لنوح لانه اقرب ولان يونس ولوطا ليسا من درية ابراهيم والثاني اظهر فلو كان لابراهيم اختص البيان فى المعدودين فى تلك الاية والتي بعدها والمذكورون فى الاية الثالثة معطوفون على نوحا داوُدَ بن اليشا وَسُلَيْمانَ بن داود وَأَيُّوبَ بن اموص بن رازخ بن روم ابن عيص بن إسحاق بن ابراهيم وَيُوسُفَ بن يعقوب بن إسحاق وَمُوسى وَهارُونَ اخوه اكبر منه بسنة ابني عمران بن يصهر بن قاهت بن لاوى بن يعقوب وَكَذلِكَ منصوب على المصدرية بما بعده اى جزاء مثل جزاء ابراهيم على إحسانه يرفع درجاته ودرجات ابنائه نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ الإحسان ان تعبد ربك كانك تراه فان لم تكن تراه فانه يراك متفق عليه من حديث عمر مرفوعا فى قصة سوال جبرئيل.
وَزَكَرِيَّا بن اذن وَيَحْيى بن زكريا وَعِيسى بن مريم بنت عمران وَإِلْياسَ بن متى ابن فخاص بن عيزار بن هارون عليه السّلام وقال ابن مسعود هو إدريس وله اسمان مثل يعقوب وإسرائيل وسياق الاية يابى عنه فان إدريس ليس من ذرية نوح بل هو جد ابى نوح فان نوحا ابن لامك بن متوشلخ بن خنوخ بن إدريس وهو أول بنى آدم اعطى النبوة وخط بالقلم كُلٌّ اى كلواحد منهما كائن مِنَ الصَّالِحِينَ اى المعصومين عن الصغائر والكبائر فان من اتى بما نهى الله عنه او ترك ما امر به فهو فاسد وان قل فساده بالنسبة الى غيره واطلاق الصالح على غير المعصوم إضافي
غير حقيقى لكن إطلاقه على من اتى بمعصية ثم تاب عنه واستغفر صحيح بالحقيقة فان التائب من الذنب كمن لا ذنب له لكن الكامل فى الصلاح هو المعصوم والله اعلم..
وَإِسْماعِيلَ بن ابراهيم جد النبي ﷺ وَالْيَسَعَ بن أخطوب بن العجحور قرأ حمزة والكسائي واليسع هنا بلام مشددة واسكان الياء والباقون بلام ساكنة مخففة وفتح الياء وعلى القراءتين علم أعجمي ادخل عليه اللام كما ادخل على اليزيد فى قوله رايت الوليد بن اليزيد مباركا شديدا باعياء الخلافة كاهله وَيُونُسَ بن متى وَلُوطاً ابن هاران ابن أخي ابراهيم عليه وعليهم الصلاة والسلام وَكلًّا اى كلواحد منهم منصوب بما بعده فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ اى عالمى زمانهم فيه دليل على فضلهم على من عداهم فى ذلك الزمان من الملئكة وغيرهم من الخلائق.
وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ عطف على كلا يعنى فضلنا كلا منهم وبعض ابائهم وذرياتهم وإخوانهم او على نوحا يعنى هدينا هؤلاء وبعض ابائهم وذرياتهم وإخوانهم فان منهم من لم يكن نبيا ولا مهديا وَاجْتَبَيْناهُمْ اى اخترناهم عطف على فضلنا او هدينا وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ تكرير لبيان ما هدوا اليه.
ذلِكَ التوحيد الذي دانوا به هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ دليل على انه متفضل بالهداية وَلَوْ أَشْرَكُوا يعنى هؤلاء الأنبياء فرضا مع فضلهم وعلو شانهم لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ فضلا عن غيرهم.
أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ اى الجنس الكتب المنزلة والإتيان أعم من الانزال عليه او امره بتبليغه وَالْحُكْمَ اى الحكمة والفقه او فصل الخصومات على مقتضى الحق او كونهم حاكمين مطاعين وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها اى بهذه الثلاثة هؤُلاءِ اى كفار مكة فَقَدْ وَكَّلْنا بِها يعنى وفقنا بالايمان بها وبمراعات حقوقها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ يعنى الأنصار واهل المدينة قاله ابن عباس ومجاهد والظاهر عمومه لجميع الصحابة ولمن تبعهم من اهل الفرس وغيرهم وقال ابو رجا العطاردي ان يكفر بها اهل الأرض فقد وكلنا بها اهل السماء وهم الملئكة.
أُولئِكَ المذكورون من الأنبياء مبتدأ خبره الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ يعنى هديهم الله الى التوحيد واصول الدين والى الإتيان بما امر الله به والانتهاء عما نهى الله عنه فَبِهُداهُمُ اى بطريقتهم
اقْتَدِهْ الظرف للحصر يعنى لا تقتد الا بهديهم فيه تعريض على المشركين فى اقتدائهم بآبائهم الضالين والمراد بالاقتداء بطريقتهم الاخذ بها لا تقليدهم فان التقليد ليس من شأن اهل الاجتهاد من الامة فكيف يليق بالأنبياء لا سيما بسيدهم يعنى اسلك على طريق الهداية واتباع الشرع المويد بالعقل كما سلكوا ففيه تنبيه على ان طريقهم هو الحق الموافق للدليل العقلي والسمعي قال البيضاوي المراد بهداهم ماتوا فقوا عليه من التوحيد واصول الدين دون الفروع المختلف فيها فانها ليست مضافة الى الكل ولا يمكن التأسى بهم جميعا فليس فيه دليل على انه ﷺ كان متعبدا بشرائع من قبلنا قلت كلهم كانوا مامورين فى الفروع بامتثال امر نزل من الله تعالى ما لم ينزل نسخه فيحصل التأسى بجميعهم فى الفروع ايضا بإتيان ما ثبت نزوله من الله تعالى بالوحى المتلو او غير المتلو ولم يثبت نسخه فيجب التعبد بشرائع من قبلنا والله اعلم والهاء فى اقتده هاء سكت ولذا حذفه حمزة والكسائي ويعقوب وصلا وأثبتها الباقون فى الحالين تبعا للخط وقرأ ابن عامر بكسر الهاء وابن ذكوان عنه بالإشباع وهشام عنه بالكسر بلا صلة تشبيها بهاء الضمير او هى ضمير راجع الى المصدر يعنى اقتد الاقتداء قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ اى على التبليغ او القران أَجْراً من جهتكم كما لم يسأل من قبلى من النبيين وهذا مما امر بالاقتداء بهم فيه وفيه دليل على ان أخذ الاجر على تعليم القران والفقه ورواية الحديث لا يجوز إِنْ هُوَ اى التبليغ او القران إِلَّا ذِكْرى تذكيرا وعظة لِلْعالَمِينَ ع للانس والجن اخرج ابن ابى حاتم عن سعيد بن جبير مرسلا قال جاء رجل من اليهود يقال له مالك ابن الضيف يخاصم النبي ﷺ فقال له النبي ﷺ أنشدك بالذي انزل التورية على موسى هل تجد فى التورية ان الله يبغض الحبر السمين وكان سمينا فغضب فقال والله ما انزل الله على بشر من شىء فقال له أصحابه ويحك ولا على موسى فانزل الله تعالى.
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ الاية واخرج ابن جرير نحوه عن عكرمة قال البغوي لاجل هذه المقالة نزع يهود مالكا عن الحيرية وجعلوا مكانه ابن الأشرف وقال السدى نزلت هذه الاية فى فخاص بن عازورا وهو قائل هذه المقالة وقد تقدم الحديث فى سورة النساء واخرج ابن جرير من طريق ابى طلحة عن ابن عباس قال قالت اليهود يا محمد انزل الله عليك كتابا قال نعم قالوا والله ما انزل الله من السماء كتابا فانزل الله تعالى
ما قدروا الله حقّ قدره اى ما عرفوه حق معرفته فى الرحمة والانعام على العباد إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ حين أنكروا بعثة الرسل وذلك أعظم رحمة وحق قدره منصوب على المصدرية قُلْ يا محمد مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ التورية الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً حال من الكتاب او من الضمير فى به وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تكتبون عنه دفاتر وكتبا مقطعة تُبْدُونَها اى ما تحبون منها وَتُخْفُونَ كَثِيراً كنعت محمد ﷺ وعيسى عليه السّلام واية الرجم وغير ذلك وفيه توبيخهم وذمهم على ما فعلوا بالتورية باتباع شهواتهم قرأ ابن كثير وابو عمرو يجعلونه يبدونها يخفون الثلاثة بالياء على الغيبة حملا على ما قدروا وقالوا والباقون بالتاء على الخطاب لقوله تعالى قل من انزل وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قال الأكثرون هذا خطاب لليهود يعنى علمتم ايها اليهود على لسان محمد ﷺ زيادة على ما فى التورية او بيانا لما أشكل عليكم وعلى ابائكم من عبادة التورية نظيره قوله تعالى ان هذا القران يقص على بنى إسرائيل اكثر الذي هم فيه يختلفون قال الحسن جعل لهم علم ما جاء به محمد ﷺ فضيعوه وقال مجاهد هذا خطاب للمسلمين يذكرهم النعمة فيما علموا ببعثة النبي ﷺ وكانوا أميين قُلِ اللَّهُ اى أنزله الله او الله أنزله هذا متصل بقوله تعالى قل من انزل امر الله تعالى نبيه ﷺ بالجواب لما بهتوا عن الجواب اشعارا بان الجواب متعين لا يمكن غيره ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ اى فى أباطيلهم يَلْعَبُونَ حال من مفعول ذرو الظرف متعلق بذرهم او يلعبون او حال من فاعل يلعبون وجاز ان يكون يلعبون حالا من ضمير فى خوضهم والظرف متصل بالأول.
وَهذا القران كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ اى كثير الفائدة والنفع مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ من التورية وغيرها وَلِتُنْذِرَ عطف على ما دل عليه مبارك يعنى لتنتفع به ولتنذر قرأ ابو بكر عن عاصم لينذر بالياء على الغيبة والضمير راجع الى الكتاب أُمَّ الْقُرى يعنى مكة سميت بها لان الأرض دحيت من تحتها فهى كالاصل لجميع الأرض او لانها قبلة اهل القرى وموضع حجهم ومرجع لاهل جميع الأرض والمضاف محذوف يعنى لتنذر اهل أم القرى وَمَنْ حَوْلَها الى الشرق والغرب وأطراف الأرض وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ
بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ
فان من أمن بالاخرة خاف العاقبة ولا يزال الخوف يحمله على النظر والتفكر حتى يؤمن بالنبي والكتاب والضمير يحتملهما ويحافظ على الطاعات وخص الصلاة بالذكر لانها عماد الدين وفى الاية تعريض على اليهود انهم لم يؤمنوا بالقران ومحمد ﷺ لاجل انهم لم يؤمنوا بالاخرة وبما جاء به موسى عليه السّلام للتلازم بين الايمان بالتورية والقران والقيامة.
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى اى اختلق والفرية بالكسر الكذب عَلَى اللَّهِ كَذِباً منصوب على المصدرية مثل مالك بن الضيف القائل بانه ما انزل الله على بشر من شىء ومثل عمرو بن لحىّ واتباعه القائلين بان الله حرم الصوائب والحوامي وبان انعاما حرمت ظهورها وبان ما فى بطون هذه الانعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا وان يكن ميتة فهم فيه شركاء أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ قال البغوي قال قتادة نزلت فى مسيلمة الكذاب..... وكان يسجع ويتكهن وادعى النبوة وزعم انه اوحى اليه وكذا اخرج ابن جرير عن عكرمة وكان قد أرسل الى رسول الله ﷺ رسولين فقال النبي ﷺ أتشهدان ان مسيلمة نبى قالا نعم فقال النبي ﷺ لولا ان الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما روى البغوي بسنده عن ابى هريرة قال قال رسول الله ﷺ بينا انا نائم إذ أتيت مفاتيح خزائن الأرض فوضع فى يدى سواران من ذهب فكبرا علىّ فاهمانى فاوحى الى ان انفخهما فنفختهما فذهبا فاولتهما الكذابين هما صاحب صنعاء وصاحب يمامة أراد بصاحب صنعاء الأسود العنسي وبصاحب يمامة مسيلمة الكذاب وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ قال البغوي نزلت فى عبد الله بن ابى سرج وكان قد اسلم وكان يكتب للنبى ﷺ وكان إذا املى سميعا بصيرا كتب عليما حكيما وإذا قال عليما حكيما كتب غفورا رحيما فلما نزلت ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين املاها رسول الله ﷺ فعجب عبد الله من تفصيل خلق الإنسان فقال تبارك الله احسن الخالقين فقال النبي ﷺ اكتبها فهكذا نزلت فشك عبد الله وقال ان كان محمد صادقا لقد اوحى الى كما اوحى اليه وان كان كاذبا فقد قلت مثل ما قال فارتد عن الإسلام ولحق بالمشركين وكذا اخرج ابن جرير عن عكرمة والسدى قصة تبارك الاية ذكر البغوي ثم رجع عبد الله
الى الإسلام قبل فتح مكة إذ نزل النبي ﷺ بمر الظهران وقال الحافظ فتح الدين ابن سيد الناس فى سيرته تشفع ابن ابى سرج بعثمان رضى الله عنه فقبله النبي ﷺ بعد تلوم وحسن إسلامه بعد ذلك حتى لم ينقم عليه فيه شيئا ومات ساجدا قال ابن عباس قوله تعالى سانزل مثل ما انزل الله يريد المستهزئين وهو جواب لقولهم لو نشاء لقلنا مثل هذا قلت يعنى النضر بن الحارث كان يقول والطاحنات طحنا والعاجنات عجنا والخابزات خبزا كانه يعارض قوله تعالى والنازعات غرقا الآيات وَلَوْ تَرى يا محمد والمفعول محذوف اى الظالمين يدل عليه إِذِ الظَّالِمُونَ مبتدأ واللام اما للعهد يعنى الذين نزلت فيهم الاية من اليهود والمتنبية والمستهزئين او للجنس ويدخل فيه هؤلاء وجواب لو محذوف يعنى لرأيت امرا عظيما فزيعا فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ خبر المبتدأ اى شدائده فى القاموس غمرة الشيء شدته وأصله التغطية يقال غمره الماء واغتمره اى غطاه ثم وضعت فى موضع الشدائد والمكاره وفى الصحاح اصل الغمر ازالة اثر الشيء ومنه يقال للماء الكثير وعلى هذا اضافة الغمرة الى الموت بيانية سميت شدة الموت غمرة لازالته اثر الحيوة وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ الجملة حال من الضمير المستتر فى الظرف والعائد محذوف يعنى باسطوا أيديهم لقبض أرواحهم كالمتقاضى الملظ او لتعذيبهم نظيره قوله تعالى والملئكة يضربون وجوههم وادبارهم أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ خبر للملئكة بعد خبر يعنى قائلون لهم يعنى للظلمين تغليظا وتعنيفا اخرجوا أنفسكم إلينا من أجسادكم او أخرجوها من العذاب وخلصوها من أيدينا الْيَوْمَ المراد به الزمان الممتد من وقت الامانة الى ما لا نهاية له تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ يعنى عذابا متضمنا لشدة واهانة وإضافته الى الهون لتمكنه فيه ولمقابلة الهوان فيه بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ افتراء غَيْرَ الْحَقِّ كادعاء الولد والشريك وادعاء النبوة والوحى كاذبا منصوب من تقولون على المصدرية او المفعولية وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ المنزلة فى القران او دلايل التوحيد تَسْتَكْبِرُونَ فلا تتاملون فيها ولا تؤمنون اخرج ابن جرير وغيره عن عكرمة قال قال النضر بن الحارث سوف تشفع لنا الى الله اللات والعزى فنزلت.
وَلَقَدْ جِئْتُمُونا بعد الموت ويوم القيامة للحساب والجزاء فُرادى حال من فاعل جئتمونا اى منفردين عن الأموال والأولاد والأعوان والأحباب وسائر ما اثرتموه من الدنيا او من الأوثان
التي زعمتموها شفعاء لكم وهو جمع فرد والالف للتانيث ككسالى هذا خبر من الله تعالى بقول للكفار على لسان الملئكة يوم موتهم او يوم القيامة والسياق يقتضى يوم الموت لعطفه على قوله اليوم تجزون كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بدل من فرادى اى جئتمونا على الهيئة التي ولدتم عليها فى الانفراد او حال مرادف لفرادى او من الضمير فى فرادى اى مشبهين ابتداء خلقكم عراة حفاة غرلا بهما او صفة مصدر اى جئتمونا مجيئا كخلقنا لكم وَتَرَكْتُمْ فى الدنيا ما خَوَّلْناكُمْ ما أعطيناكم من الأموال والأولاد والخدم والحشم وَراءَ ظُهُورِكُمْ ولم تحتملوا نقيرا وجاز ان يكون المعنى جئتمونا خاسرين بلا كسب كمال كما خلقناكم أول مرة وضيعتم راس مالكم اى اعماركم وتركتم فى الدنيا ما أعطيناكم من الأموال وغيرها ما قدمتم منها شيئا للاخرة وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ الله سبحانه فى ربوبيتكم واستحقاق العبادة يعنى الأوثان لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ قرأ نافع وحفص والكسائي بنصب بينكم على إضمار الفاعل لدلالة ما قبله عليه او أقيم بينكم مقام موصوفه وأصله لقد تقطع ما بينكم من الوصل او يقال فاعله ضمير راجع الى المصدر اى تقطع التقطع بينكم او يقال الفاعل بينكم مجازا فى الاسناد وترك منصوبا للزوم ظرفيته والباقون بالرفع على اسناد الفعل الى الظرف مجاز او المعنى لقد تقطع التقطع بينكم او يقال بينكم بمعنى وصلكم يعنى تقطع وصلكم وتشتت جمعكم وبين مصدر من الاضداد يستعمل للوصل والفصل اسما وظرفا كذا فى القاموس وَضَلَّ عَنْكُمْ اى ضاع وبطل ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ انها شفعائكم وان لا بعث ولا جزاء.
إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى قال الحسن وقتادة والسدى معناه شق الحبة عن السنبلة والنواة عن النخلة فيخرجها منها وقال الزجاج يشق الحبة اليابسة والنواة اليابسة فيخرج منها ورقا اخضر وقال مجاهد المراد انشقاق الذي بين الحنطة والنواة وقال الضحاك فالق الحب والنوى يعنى خالقهما والحب جمع الحبة وهى اسم لجميع البذور الماكولة من البر والشعير والذرة والارز ونحوها والنوى جمع النواة وهى كل ما لا يوكل من البذور كنواة التمر والمشمش والخوخ والرمان يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ يعنى ما ينمو من الحيوان والنبات مما لا ينمو كالنطفة والحبة والنواة هذه الجملة وقع موقع البيان لما سبق ولذا لم يعطف وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ يعنى ما لا ينموا ويتفتت مما ينموا
معطوف على فالق الحب ولذلك ذكره بلفظ اسم الفاعل ذلِكُمُ المحيي والمميت اللَّهَ يعنى هو المستحقّ للعبادة دون من لا يقدر على شىء بل ينفعل ما يفعل به فَأَنَّى اين تُؤْفَكُونَ تصرفون عنه الى غيره.
فالِقُ الْإِصْباحِ هو مصدر أصبح إذا دخل فى الصبح سمى به الصبح تسمية المحل باسم الحال يعنى شاق عمود الصبح عن ظلمة الليل او عن بياض النهار او شاق ظلمة الإصباح وهو الغبش الذي يليه وَجَعَلَ اللَّيْلَ كذا قرأ الكوفيون على صيغة الماضي ونصب الليل على المفعولية معطوف على معنى فالق فان معناه فلق الإصباح وقرأ الباقون جاعل على وزن فاعل مضافا الى الليل سَكَناً يسكن فيه الإنسان واكثر الحيوانات للاستراحة عن كد لمعيشة الى نوم الغفلة او عن وحشة الخلق الى الانس بالحق منصوب بفعل دل عليه اسم الفاعل على قراءة غير اهل الكوفة لان اسم الفاعل بمعنى الماضي كما يدل عليه قراءة جعل لا يعمل وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ على قراءة اهل الكوفة معطوفان على الليل وعلى قراءة غيرهم منصوبان يجعل مقدر يعنى جعل الشمس والقمر حُسْباناً مصدر حسب بالفتح بمعنى الحساب كما ان الحسبان بالكسر مصدر حسب بالكسر وقيل جمع حساب كشهاب وشهبان يعنى جعلهما علمين لحساب الأوقات يعلم بسيرهما ذلِكَ اى جعلهما حسبانا تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الذي قهرهما وسخرهما الْعَلِيمِ بتدبيرهما والانفع من التداوير الممكنة لهما.
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اى خلق لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الليل فى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ واضافتها إليهما للملابسة او المراد بالظلمات مشتبهات الطرق سميت ظلمات على الاستعارة قَدْ فَصَّلْنَا بيّنّا الْآياتِ الدالة على توحيد الصانع المبدع الحكيم لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ فانهم هم المنتفعون به.
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ اى ابتدأ خلقكم مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ آدم عليه السّلام فَمُسْتَقَرٌّ قرأ ابن كثير وابو عمرو بكسر القاف على انه اسم فاعل يعنى فمنكم مستقر والباقون بالفتح على انه اسم مفعول او مصدر ميمى او ظرف يعنى فمنكم مستقر او فلكم استقرار او موضع استقرار وَمُسْتَوْدَعٌ بفتح الدال بلا خلاف لجواز نسبة الاستقرار دون الاستيداع يعنى لكم استيداع او موضع استيداع او منكم مستودع قال ابن مسعود المستقر فى الرحم الى ان يولد قال الله تعالى يقر فى الأرحام والمستودع فى القبر الى ان يبعث وقال سعيد ابن جبير مستقر فى الرحم ومستودع فى صلب الأب وعن ابى بعكس هذا وقال مجاهد
مستقر فى الأرض قال الله تعالى ولكم فى الأرض مستقر والمستودع فى القبر وقال الحسن المستقر فى القبر والمستودع فى الدنيا وعندى المستقر الجنة او النار والمستودع ما عدا ذلك من الأصلاب والأرحام والدنيا والقبر قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ ذكر مع النجوم يعلمون لان أمرها ظاهر ومع ذكر تخليق بنى آدم واستيداعهم واستقرارهم يفقهون لان هذه الأمور دقيق يحتاج الى تفقه وتدبر.
وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ اى السحاب ومنه الى الأرض ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ اى بالماء نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ نبت كل صنف من الحبوب والنواة سبحان الله أنبت أنواعا مختلفة تسقى بماء واحد وفضل بعضها على بعض فى الاكل فَأَخْرَجْنا مِنْهُ اى من النبات او من الماء خَضِراً شيئا اخضر وهو ما تشعب من اصل النبات الخارج من البذر نُخْرِجُ مِنْهُ من الخضر حَبًّا مُتَراكِباً وهى السنبلة المتراكب حباتها وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها بدل للاول وهو خبر والمبتدأ قِنْوانٌ جمع قنو وهو العذق دانِيَةٌ قريبة من المتناول او قريبة بعضها من بعض اقتصر على ذكرها من مقابلها اما لدلالتها عليه كما فى قوله تعالى سرابيل تقيكم الحر يعنى والبرد واما لان قربها من المتناول او كثرتها وقرب بعضها ببعض أعظم نعمة وأوجب للشكر وجاز ان يكون التقدير وأخرجنا من النخل نخلا من طلعها قنوان دانية وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ عطف على نبات كل شىء يعنى أخرجنا منه جنات قرأ الأعمش عن الأعشى عن عاصم جنات بالرفع عطفا على قنوان وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ عطف على نبات يعنى أخرجنا منه شجرا الزيتون والرمان او نصب على الاختصاص لغير هذين الصنفين عندهم مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ حال من الرمان او من الجميع يعنى حال كون بعضها مشتبها ببعض اخر وبعضها غير متشابه فى الهيئة والقدر واللون والطعم انْظُرُوا ايها الناس بنظر الاعتبار إِلى ثَمَرِهِ قرأ حمزة والكسائي فى الموضعين هاهنا وفى يس بضم الثاء والميم على انه جمع ثمارا وثمرة والباقون بفتحتين على انه اسم جنس كتمرة وتمر وكلمة وكلم إِذا أَثْمَرَ إذا اخرج ثمره كيف يخرج لا يكاد ينتفع به وَالى يَنْعِهِ حال نضجه كيف يعود ضخيما لذيذا فهو مصدر وقيل هو جمع يانع كتاجر وتجر إِنَّ فِي ذلِكُمْ المذكورات لَآياتٍ على توحيد قادر حكيم لا يكون له ضدّ يعانده ولا ندّ يعارضه لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
فانهم هم المستدلون بها وذكر هذه الآيات يستوجب التوبيخ على المشركين فقال
وَجَعَلُوا يعنى كفار مكة مع قيام ادلة التوحيد لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ يعنى الملئكة عبدوهم وقالوا الملئكة بنات الله سماهم جنا لاجتنانهم وتحقيرهم عن درجة الربوبية او المراد بالجن الشياطين لانهم أطاعوهم وعبدوا غير الله من الأوثان وغيرها بتسويلهم او لاجل حلول الشياطين فى الأوثان أحيانا او لاجل قولهم الله خالق الخير والشيطان خالق الشر ومفعولا جعلوا لله وشركاء والجن بدل من شركاء او شركاء والجن ولله متعلق بشركاء او حال منه وَخَلَقَهُمْ حال من الله تعالى بتقدير قد او منه ومن الجن معا على ان يكون الضمير المنصوب راجعا الى الجن يعنى وقد علموا ان الله تعالى خلق الانس والجن وكل شىء وان الجن لا يخلق شيئا وَخَرَقُوا قرأ نافع بتشديد الراء للتكثير والمعنى اختلقوا وافتروا لَهُ بَنِينَ قالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله وَبَناتٍ قالت العرب الملئكة بنات الله بِغَيْرِ عِلْمٍ من غير ان يعلموا صدق ما قالوا بدليل عقلى او نقلى وهو فى موضع الحال من فاعل خرقوا او المصدر اى خرقا بغير علم سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اضافة الصفة المشبهة الى فاعلها يعنى بديع سموته وارضه ليس لها نظير وقيل معناه المبدع يعنى خالقها بلا سبق مثال خبر مبتدا محذوف يعنى هو او مبتدا خبره.
أَنَّى من اين او كيف يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ يكون منها الولد وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فى الاية استدلال على نفى الولد بوجوه الاول ان من مبدعاته السموات والأرض وهى مع انها من جنس ما يوصف بالولد مستغن عنه لطول بقائها فالله سبحانه اولى به الثاني انه خالق الأجسام العظيمة وخالق الأجسام لا يكون جسما والولادة من خواص الأجسام والثالث ان الولد ينشئ من ذكر وأنثى متجانسين والله تعالى منزه عن المجانسة الرابع ان الولد كفو للوالد ونظيره وليس له كفوا أحد لان كل ما عداه مخلوقه فلا يكافيه شىء ولانه عالم بكل شىء ولا كذلك غيره بالإجماع الا بتعليمه
ذلِكُمُ اى الموصوف بما سبق من الصفات مبتدا اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ اخبار مترادفة ويجوز ان يكون البعض خبرا والبعض بدلا او صفة فَاعْبُدُوهُ الفاء للسببية يعنى
من استجمع تلك الصفات فهو الحقيق بالعبادة دون غيره من خلقه وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ بالحفظ له والتدبير فيه يعنى هو متول لاموركم رقيب على أموالكم فكلوا إليه الأمور وتوسلوا اليه بالعبادة ينجح ما ربكم ويجازى على حسناتكم
لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ اخرج ابن ابى حاتم وغيره بسند ضعيف عن ابى سعيد الخدري عن رسول الله ﷺ قال لو ان الجن والانس والشياطين والملائكة منذ خلقوا الى ان فنوا صفا واحدا ما احاطوا بالله ابدا استدل المعتزلة بهذه الاية على امتناع الروية واجمع اهل السنة على نفى الروية فى الدنيا وإثباتها فى الاخرة للمؤمنين فى الجنة والاستدلال بها على الامتناع باطل بوجوه أحدها ان صيغة المضارع اما للحال ويستعمل فى الاستقبال مجازا او هى مشترك فى المعنيين والحال مراد فى الاية اجماعا إذ لا قايل بروية الله تعالى فى الدنيا فلا يجوز ارادة الاستقبال والا يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز او عموم المشترك ثانيها ان الابصار بصيغة الجمع يدل على ارادة الافراد دون الجنس فاللام اما للعهد يعنى الابصار الموجودة فى الدنيا او للاستغراق فانكان للعهد فلا دليل على نفى الروية بالأبصار المخلوقة للمؤمنين فى الجنة وان كان للاستغراق فمدلول الاية نفى الاستغراق لا استغراق النفي فلا دليل فيه على نفى الروية بابصار اهل الجنة روى ابو نعيم فى الحلية عن ابن عباس قال تلا رسول الله ﷺ رب أرني انظر إليك قال قال الله يا موسى انى لا يرانى حى إلا مات ولا يابس الا تدهده ولا رطب الا تفرق وانما يرانى اهل الجنة لا يموت أعينهم ولا يبلى أجسامهم ثالثها ان الإدراك غير الروية لان الإدراك هو الوقوف على كنه الشيء والإحاطة به او الوصول الى الشيء بحيث لا يفوت منه شىء والروية المعاينة ولا تلازم بينهما قال الله تعالى فلما ترائ الجمعان قال اصحاب موسى انا لمدركون قال كلا فى هذه الاية نفى للدرك بعد اثبات الروية من الجانبين رابعها ان النفي لا يوجب الامتناع وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ يحيط بها علمه وَهُوَ اللَّطِيفُ فى القاموس هو البر بعباده المحسن الى خلقه بايصال المنافع إليهم برفق ومن هاهنا قال ابن عباس اللطيف باوليائه وفيه ايضا اللطيف العالم بخفايا الأمور وفى الصحاح قد يعبر باللطيف ما لا يدرك بالحاسة وعلى هذا ففى الكلام لف ونشر مرتب يعنى لا تدركه الابصار لانه اللطيف وهو يدرك الابصار لانه الْخَبِيرُ قَدْ جاءَكُمْ
بَصائِرُ
يعنى الحجج البينة التي يحصل بها البصيرة التي تبصرون بها الهدى من الضلال والحق من الباطل فالبصيرة للنفس كالبصر للبدن مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ يعنى من استعمل الحجة وابصر الحق وأمن به فَلِنَفْسِهِ ابصر يعود نفعه إليها وَمَنْ عَمِيَ عن الحق واعرض عن الحجج وضل فَعَلَيْها وباله وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ يحفظ أعمالكم ويجازيكم عليها بل الحفيظ هو الله تعالى وانما انا البشير النذير هذا كلام ورد على لسان رسول الله ﷺ كانه قيل قل قد جاءكم بصائر الاية
وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ اى نفصلها ونبين واصل الصرف النقل من حال الى حال وفى التفصيل نقل معنى واحد من عبارة الى عبارة حتى يفهم المخاطب وفى القاموس صرف الحديث ان يزاد فيه ويحسّن من الصرف فى الدراهم وهو فضل بعضها على بعض فى القيمة وكذلك صرف الكلام وله عليه صرف اى فضل لانه إذا فضل صرف عن اشكاله وكذلك منصوب على المصدرية يعنى نصرف الآيات تصريفا مثل تصريفنا فى هذه السورة وَلِيَقُولُوا عطف على مقدر تقديره ليتم التبليغ وليقولوا اى الكفار واللام لام العاقبة يعنى يكون عاقبة الأمر ان يقولوا دَرَسْتَ قرأ نافع والكوفيون بفتح الدال والراء وسكون السين وفتح التاء على صيغة الخطاب من درست الكتاب بمعنى قرات من غيرك قال ابن عباس ليقول اهل مكة حين تقرأ عليهم درست تعلمت من يسار وجبر كانا عبدين من سبى الروم ثم قرأت علينا تزعم انه من عند الله وقرأ ابن كثير وابو عمر دارست من المفاعلة يعنى قارات وذاكرات اهل الكتاب والمعنى واحد وقرأ ابن عامر ويعقوب درست بفتح السين وسكون التاء على صيغة المؤنث الغائب اى قدمت هذه الاخبار التي تتلوها علينا وانمحت من قولهم درس الأثر دروسا وَلِنُبَيِّنَهُ اى القران وهو مذكور لذكر الآيات فيما سبق والآيات هى القران لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ فانهم هم المنتفعون به فتصريف الآيات ليتم التبليغ وليشقى به من قال درست وليسعد من تبين له الحق
اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ يعنى اعمل بالقران لا إِلهَ إِلَّا هُوَ اعتراض لتاكيد إيجاب اتباع الوحى او حال مؤكدة من ربك يعنى منفردا فى الالوهية وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ فلا تجادلهم ولا تستمع بأقوالهم ولا تلتفت الى آرائهم
وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ايمانهم ما أَشْرَكُوا ولكن حق القول منه لاملان جهنم من الجنة والناس أجمعين فيه
دليل على ان الكفر والايمان كلا منهما بارادة الله تعالى وان مراده واجب الوقوع خلافا للمعتزلة وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً لاعمالهم رقيبا عليهم ماخوذا باجرامهم وقال عطاء ما جعلنك عليهم حفيظا تمنعهم من عذاب الله انها بعثت معلما وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ تقوم بامرهم قال ابن عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال كان المسلمون يسبون أصنام الكفار فيسب الكفار الله تعالى فانزل الله
وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ الاية قال البغوي قال ابن عباس لما نزلت انكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم قال المشركون يا محمد لتنتهين عن سب الهتنا او لتهجون ربك فنهيهم الله ان يسبوا أوثانهم وقال السدى لما حضرت أبا طالب الوفاة قالت قريش انطلقوا فلندخل على هذا الرجل فلنا مرنه ان ينهى عنا ابن أخيه فانا نستحيى ان نقتله بعد موته فيقول العرب كان يمنعه عمه فلما مات قتلوه فانطلق ابو سفيان وابو جهل والنضر بن الحارث وامية وابى ابنا خلف وعقبة بن ابى معيط وعمرو بن العاص والأسود بن ابى البختري الى ابى طالب فقالوا يا أبا طالب أنت كبيرنا وسيدنا وان محمدا قد اذانا والهتنا فتجب ان تدعوه وتنهاه عن ذلك وعن ذكر الهتنا ولندعنه والهه فدعاه فقال هولاء قومك تريد ان تدعنا والهتنا وندعك وإلهك وقد أنصفك قومك فاقبل منهم فقال النبي ﷺ ارايتم ان أعطيتكم هذا هل أنتم معطى كلمة ان تكلمتم بها ملكتم العرب ودانت لكم العجم قال ابو جهل نعم وأبيك لنعطينكها وعشرة أمثالها قال فما هى قال قولوا لا اله الا الله فابوا وتفرقوا فقال ابو طالب قل غيرها يا ابن أخي قال يا عم ما انا بالذي أقول غيرها ولو أتوني بالشمس فوضعوها فى يدى فقالوا التكفن عن سب الهتنا او لنشتمنك ونشتمن من يأمرك فانزل الله عز وجل ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله يعنى لا تذكروا الأوثان بما فيها من القبائح فَيَسُبُّوا اللَّهَ منصوب على جواب النهى عَدْواً تجاوزا عن الحق الى الباطل بِغَيْرِ عِلْمٍ اى على جهالة بالله تعالى وبما يجب ان يذكر به وما هو منزه عنه فظاهر الاية وان كان نهيا عن سب الأصنام فحقيقة النهى عن سب الله تعالى لانه سبب لذلك وفيه دليل على ان الطاعة إذا أدت الى معصية راجحة وجب تركها لان ما يودى الى الشرشر كَذلِكَ اى تزئينا مثل تزئين سب الله للكافرين زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ مؤمنة وكافرة عَمَلَهُمْ من الخير والشر
توفيقا وتخذيلا فان الله يضل من يشاء ويهدى من يشاء فظهر ان الأصلح ليس بواجب عليه تعالى ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ مصيرهم فَيُنَبِّئُهُمْ بالمحاسبة والمجازاة بِما كانُوا يَعْمَلُونَ من الخير والشر اخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي وكذا ذكر البغوي عنه وعن الكلبي قال كلم رسول الله ﷺ قريشا فقالوا يا محمد تخبرنا ان موسى كان معه عصا يضرب بها الحجر فينفجر منه اثنا عشرة عينا وان عيسى كان يحيى الموتى وان ثمود كانت لهم ناقة فاتنا من الآيات حتى نصدقك فقال رسول الله ﷺ اى شىء تحبون ان اتيكم به قالوا تجعل لنا الصفا ذهبا وزاد البغوي عنهما او ابعث لنا بعض موتانا حتى نسالهم عنك أحق ما تقول أم باطل او أرنا الملئكة يشهدون لك فذكر ابن جرير والبغوي انه قال رسول الله ﷺ فان فعلت بعض ما تقولون أتصدقونني قالوا نعم والله لان فعلت لنتبعنك أجمعين وسأل المسلمون رسول الله ﷺ ان ينزلها عليهم حتى يؤمنوا فقام رسول الله ﷺ يدعو ان يجعل الصفا ذهبا فجاءه جبرئيل فقال له ان شئت أصبح ذهبا ولكن ان لم يصدقوا عذبتهم وان شئت تركتهم حتى يتوب تائبهم قال رسول الله ﷺ بل يتوب تائبهم فانزل الله تعالى
وَأَقْسَمُوا يعنى الكفار بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ منصوب على المصدرية او مصدر فى موقع الحال يعنى مجتهدين فى إتيان أوكد ما قدروا عليه من الايمان والداعي لهم على القسم وتوكيده التحكم فى طلب الآيات واستحقار ما راوا منها لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ من مقترحاتهم لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ فى قدرته تعالى واختياره يظهر منها ما يشاء وليس شىء منها فى قدرتى واختياري وَما يُشْعِرُكُمْ ما استفهامية للانكار أنكر السبب مبالغة فى نفى المسبب او ما نافية والمعنى على التقديرين انه لا تشعرون خطاب للمشركين الذين اقسموا او للمؤمنين أَنَّها اى الآيات قرأ ابن كثير وابو عمرو وابو بكر عن عاصم ويعقوب بخلاف عنه بكسر الهمزة على الابتداء فعلى هذه القراءة مفعول ما يشعركم محذوف اى ما يشعركم ما يصدر من الكفار بعد مجئ الآيات الايمان او الكفر ثم أخبرهم فقال انها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ هكذا علم الله تعالى فيهم فان مبادى تعيناتهم ظلال الاسم المضل لا يمكن منهم
الاهتداء وقرأ الباقون بفتح الهمزة على انه مفعول يشعركم لكن قرأ ابن عامر وحمزة لا تومنون بالتاء بصيغة الخطاب على انها خطاب للمشركين والباقون بالياء على الغيبة على انها خطاب للمؤمنين يعنى انكم لا تشعرون ايها المؤمنون او ايها المشركون انها إذا جاءت لا يؤمنون او لا تؤمنون وقيل لا زائدة كما فى قوله تعالى حرام على قرية أهلكناها انهم لا يرجعون ومعناه ما يشعركم انها إذا جاءت يؤمنون وقيل انها بمعنى لعلها يعنى ما يشعركم ما يصدر من الكفار بعد مجئ الآيات لعلها إذا جاءت لا يؤمنون وقيل فيه حذف وتقديره وما يشعركم ايّها المؤمنون او المشركون انها إذا جاءت لا يؤمنون او تؤمنون بالياء والتاء
وَنُقَلِّبُ عطف على لا يؤمنون الا على تقدير كون لا زائدة فحينئذ عطف على ما يشعركم أَفْئِدَتَهُمْ عن الحق فلا يفقهونه وَأَبْصارَهُمْ فلا يبصرونه نظر اعتبار فلا يومنون بها كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ اى بما انزل من الآيات كانشقاق القمر وغيرها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ اى نذرهم متحيرين فى طغيانهم ولا نهديهم.
وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى مصدقا لنبوتك باحيائنا وَحَشَرْنا جمعنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا قرأ نافع وابن عامر بكسر القاف وفتح الباء على انه مصدر والباقون بضمهما على انه جمع قبيل بمعنى كفيل اى كفلا بما بشروا وانذروا او جمع قبيل الذي هو جمع قبيلة بمعنى جماعات او مصدر بمعنى مقابلة وعلى الوجوه كلها حال من كل شىء ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا لما سبق عليهم القضاء بالكفر ولكون مبادى تعيناتهم ظلال الاسم المضل إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ يعنى فى حال من الأحوال الا حال مشية الله تعالى ايمان من سبق عليه القضاء بالايمان وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ انهم لو أتوا بكل اية لم يومنوا فيقسمون بالله جهد ايمانهم على ما لا يشعرون ولذلك أسند الجهل الى أكثرهم مع ان مطلق الجهل يعمهم او لكن اكثر المسلمين يجهلون انهم لا يؤمنون فيتمنون نزول الآيات طمعا فى ايمانهم
وَكَذلِكَ يعنى كما جعلنا كفار قريش اعداء لك يؤذونك ويخالفون أمرك كذلك جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ سبقك عَدُوًّا وهو دليل على ان عداوة الكفار للانبياء بفعل الله تعالى وخلقه شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ بدل من عدوا أو أول مفعول جعلنا وعدوا مفعوله الثاني ولكل متعلق بجعلنا او حال
والمراد بالشياطين المتمردون من الفريقين قال قتادة ومجاهد والحسن ان من الانس شياطين والشيطان العاتي المتمرد من كل شىء قلت ويؤيده حديث جابر أمرنا رسول الله ﷺ بقتل الكلاب ثم نهى عن قتلها وقال عليكم بالأسود البهيم ذى النقطتين فانه شيطان رواه مسلم وقالوا ان الشيطان إذ اعياه المؤمن وعجز عن اغوائه ذهب الى متمرد من الانس وهو شيطان الانس فاغراه بالمؤمن ليفتنه ويدل عليه ما روى عن ابى ذر قال قال لى رسول الله ﷺ هل تعوذت بالله من شر شياطين الجن والانس قلت يا رسول الله هل للانس من شياطين قال نعم هم شر من شياطين الجن قال مالك بن دينار ان شياطين الانس أشد من شياطين الجن وذلك لانى إذا تعوذت بالله ذهب عنى شياطين الجن وشياطين الانس يجيئنى فيجرنى الى المعاصي عيانا وقال عكرمة والضحاك والسدى والكلبي معنى شياطين الانس التي مع الانس وشياطين الجن التي مع الجن وليس من الانس شياطين وذلك ان إبليس قسم جنده فريقين فبعث فريقا منهم الى الانس وفريقا منهم الى الجن وكلا الفريقين اعداء للنبى ﷺ ولاوليائه وهم يلتقون فى كل حين فيقول شياطين الانس لشياطين الجن أضللت صاحبى بكذا فاضل صاحبك بمثله ويقول شياطين الجن لشياطين الانس كذلك فذلك وحي بعضهم الى بعض والاول أرجح وأشد موافقة للسياق يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ اى يوسوس شياطين الجن الى شياطين الانس او بعض الجن الى بعض وبعض الانس الى بعض زُخْرُفَ الْقَوْلِ الأباطيل المموهة غُرُوراً منصوب على العلية او المصدرية او مصدر فى موقع الحال يعنى لزينوا الأعمال القبيحة لبنى آدم او يغرهم غرورا او غارين وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ان لا يفعلوا ما فَعَلُوهُ يعنى معادات الأنبياء وايحاء الزخارف او الغرور وهذا ايضا دليل على المعتزلة فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ عليك وعلى الله فان الله يجزيهم وينصرك ويخزيهم
وَلِتَصْغى عطف على غرورا إن كان علة او متعلق بمحذوف يعنى وفعلنا ذلك لتصغى اى تميل إِلَيْهِ اى الى زخرف القول أَفْئِدَةُ اى قلوب الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ لانفسهم وَلِيَقْتَرِفُوا اى ليكتسبوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ من المعاصي ولما كانت القريش يقولون للنبى ﷺ اجعل بيننا وبينك
حكما فانزل الله تعالى فى جوابهم
أَفَغَيْرَ اللَّهِ على ارادة القول يعنى قل لهم يا محمد والفاء للعطف على محذوف يعنى أجيب ما تطلبون منى فغير الله أَبْتَغِي اى اطلب حَكَماً قاضيا بينى وبينكم يفصل المحق منا من المبطل وغير مفعول ابتغى وحكما حال منه ويحتمل ان يكون عكسه وحكما ابلغ من حاكم ولذلك لا يوصف به غير العادل وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ القران المعجز المخبر بالمغيبات مطابقا للكتب المنزلة السابقة مُفَصَّلًا مبينا فيه الحق والباطل بحيث ينفى اللبس حال من الكتاب والجملة حال من الله تعالى وفيه تنبيه على ان القران باعجازه وتقريره مغن عن سائر الآيات وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يعنى اليهود يَعْلَمُونَ أَنَّهُ اى القران مُنَزَّلٌ قرأ ابن عامر وحفص بالتشديد من التفعيل والباقون بالتخفيف من الافعال مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ تأكيد لدلالة الاعجاز لان اهل الكتاب يعلمون بالقران كونه محقا لاجل مطابقة كتبهم مع كون النبي ﷺ اميا لم يدارس كتبهم ولم يجالس علمائهم وانما أسند العلم الى جميعهم لان بعضهم يعلمون وبقيتهم متمكنون منه بأدنى تأمل او بالرجوع الى علمائهم فلا تكوننّ ايها السامع مِنَ الْمُمْتَرِينَ الشاكين فى انه من عند الله تعالى
وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ قرأ الكوفيون ويعقوب كلمة بالتوحيد على الجنس والباقون كلمات على الجمع وأراد به اخباره ووعده ووعيده وامره ونهيه الواردة فى القران يعنى بلغت الغاية صِدْقاً فى الاخبار والوعد والوعيد وَعَدْلًا فى الاحكام كذا قال قتادة ومقاتل منصوبان على التميز او الحال لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ يعنى لا أجد يبدل شيئا منها قال ابن عباس لاراد لقضائه ولا مغير لحكمه او المعنى لا نبى ولا كتاب بعد القران ينسخها ويبدل أحكامها وَهُوَ السَّمِيعُ لما يقولون الْعَلِيمُ بما يضمرون فلا يمهلهم
وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يعنى الكفار فانهم كانوا اكثر من المؤمنين يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ عن الطريق الموصل اليه تعالى يعنى الدين الإسلام إِنْ يَتَّبِعُونَ اى اكثر اهل الأرض إِلَّا الظَّنَّ يعنى جهالاتهم وآرائهم فى تحليل الميتة وتحريم البحائر ونحوها مما يقولون وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ اى يقولون ما يقولون بالظن والتخمين بلا علم حاصل بدليل صحيح
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ يعنى يعلم بالفريقين فيجازى كلا
بما يستحقه ومن موصولة او موصوفة فى محل النصب بفعل دل عليه اعلم لا بافعل التفضيل فانه لا يعمل فى الظاهر او هو منصوب بنزع الخافض متعلق بأعلم اى اعلم بمن يضل او استفهامية مرفوعة بالابتداء والخبر يضل والجملة معلق عنها الفعل المقيد روى ابو داؤد والترمذي عن ابن عباس قال اتى ناس النبي ﷺ فقالوا يا رسول الله اناكل ما نقتل ولا ناكل ما يقتل الله فانزل الله تعالى
فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ الفاء للسببية فانه تعالى لما نهى عن اتباع الكفار المضلين فرع عليه قوله فكلوا يعنى لا تتبعوا فى تحريم الحلال وتحليل الحرام آراء الكفار القائلين بتحليل الميتة وتحريم الذبائح إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ فان الايمان به تعالى يقتضى استباحة ما أحل الله واجتناب ما حرمه
وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ما استفهامية فى موضع الرفع بالابتداء ولكم خبره وَيعنى والحال انه قَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ قرأ نافع وحفص ويعقوب فصل وحرم بالفتح فيهما على البناء للفاعل يعنى بين الله لكم ما حرم الله عليكم وقرأ ابن كثير وابو عمرو وابن عامر بضم الفاء والحاء وكسر الصاد والراء على البناء للمفعول فيهما وقرأ ابو بكر وحمزة والكسائي فصل على البناء للفاعل وحرم على البناء للمفعول والمراد بتفصيل المحرمات قوله تعالى قل لا أجد فيما اوحى الىّ محرما الاية إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ استثناء من ضمير حرم وما مصدرية بمعنى المدة يعنى فصل لكم ما حرم عليكم فى جميع الأوقات الا وقت الاضطرار اليه فان قيل ما الفائدة فى الاستثناء وقد اغنى عنه قوله فصل لكم ما حرم عليكم فان التفصيل شامل للاستثناء قلنا فائدته المبالغة فى النهى عن الامتناع عن أكل سالم يحرم فان ما حرم يصير عند الاضطرار مباحا بخلاف ما أحل فانه لا يحرم قط وَإِنَّ كَثِيراً من الناس لَيُضِلُّونَ بتحليل الحرام وتحريم الحلال قرأ الكوفيون هاهنا وفى سورة يونس ليضلون بضم الياء على انه من الإضلال والباقون بالفتح بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ من دليل عقلى ولا نقلى إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ المتجاوزين من الحق الى الباطل ومن الحلال الى الحرام
وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ يعنى الذنوب كلها ظاهرها من اعمال الجوارح وباطنها من اعمال القلب وصفات النفس قال الكلبي واكثر المفسرين الإعلان بالزنا والاسرار به وقال سعيد بن جبير ظاهره نكاح المحارم وباطنه
الزنا وقال ابن زيد ظاهره التجرد من الثياب والطواف عريانا وباطنه الزنا وروى عن الكلبي ظاهره طواف الرجال عريانا بالنهار وباطنه طواف النساء عريانا بالليل إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ فى الاخرة بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ يكتسبون فى الدنيا
وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ هذه الاية بعمومها حجة لاحمد حيث يقول متروك التسمية عامدا او ناسيا لا يجوز أكله وبه قال داؤد وابو ثور والشعبي ومحمد بن سيرين وقال مالك خص متروك التسمية ناسيا من عموم هذه الاية بحديث ابى هريرة قال سال رجل رسول الله ﷺ فقال يا رسول الله ارايت الرجل منا يذبح وينسى ان يسمى الله قال اسم الله فى فم كل مسلم رواه الدارقطني وحديث ابن عباس ان النبي ﷺ قال المسلم ان نسى ان يسمى حين يذبح فليسم ثم لياكل رواه الدارقطني والحديثان ضعيفان فان فى حديث ابى هريرة مروان بن سالم قال احمد ليس بثقة وقال النسائي والدارقطني متروك وفى حديث ابن عباس معقل مجهول وقال ابو حنيفة ايضا بجواز أكل متروك التسمية ناسيا لكن القول بتخصيص الآحاد لا يصح على اصل ابى حنيفة فقال صاحب الهداية لكنا نقول فى اعتبار ذلك يعنى فى تعميم الاية للناسى ايضا من الحرج ما لا يخفى لان الإنسان كثير النسيان والحرج مدفوع والسمع غير مجرى على ظاهره إذ لو أريد به العموم لجرت المحاجة فظهرت الانقياد وارتفع الخلاف فى الصدر الاول ولا يخفى ضعف هذا القول وقال الشافعي المراد به بما لم يذكر اسم الله عليه الميتات وما ذبح على غير اسم الله تعالى بدليل قوله تعالى وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ والفسق فى ذكر اسم غير الله تعالى كما فى اخر السورة قل لا أجد فيما اوحى الى قوله او فسقا اهل لغير الله به واحتج الشافعي على حل متروكة التسمية عامدا بحديث عائشة قالت ان قوما قالوا يا رسول الله ان هاهنا أقواما حديث عهدهم بشرك يأتوننا بلحمان لا ندرى يذكرون اسم الله عليها او لا قال اذكروا أنتم اسم الله وكلوا رواه البخاري قال البغوي لو كانت التسمية شرطا للاباحة لكان الشك فى وجوده مانعا من أكلها كالشك فى اصل الذبح وبحديث الصلت مرسلا قال قال رسول الله ﷺ ذبيحة المسلم حلال ذكر اسم الله او لم يذكر رواه ابو داؤد فى المراسيل قالت الحنفية حديث الصلت محمول على حالة النسيان وحديث عائشة حجة لنا لا علينا لانهم سالوا عن الاكل عند
وقوع الشك بالتسمية بعد علمهم بان الذابح مسلم فذلك دليل على انه كان معروفا عندهم اشتراط التسمية للحل وانما امر النبي ﷺ بالأكل بناء على ظاهر ان المسلم لا يترك التسمية عمدا كمن اشترى لحما من سوق المسلمين يباح له الاكل بناء على الظاهر وان كان يحتمل انه ذبيحة مجوسى وما قال الشافعي ان الاية فى الميتات وما ذبح على غير اسم الله فمدفوع بان العبرة لعموم اللفظ ونصوص الكتاب والسنة لم يرد شىء منها فى الذبح والصيد الا مقيدا بذكر اسم الله تعالى وقد مر هذه المسألة وغيرها من مسائل الذبح فى تفسير سورة المائدة قال فى شرح المقدمة المالكية يجزيه يعنى الذبح لو ترك التسمية عمدا فى مذهب مالك عند ابى القاسم وفى مذهب المدونة لا يجزيه ومذهب المدونة هو المشهور لانها واجبة مع الذكر وكل هذا فى غير المتهاون واما المتهاون فلا خلاف انها لا يوكل ذبيحته تحريما قاله ابن الحارث وابن البشير والمتهاون هو الذي يتكرر منه ذلك كثيرا والله اعلم اخرج الطبراني وغيره عن ابن عباس قال لما نزلت ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وانه لفسق أرسلت فارس الى قريش ان خاصموا محمدا فقولوا ما تذبح أنت بسكين فهو حلال وما ذبح الله بشمشار من ذهب يعنى الميتة فهو حرام وكذا اخرج ابو داؤد والحاكم وغيرهما قول كفار مكة من غير ذكر فارس فنزلت وَإِنَّ الشَّياطِينَ يعنى شياطين الانس من الفارس او شياطين الجن لَيُوحُونَ يعنى ليلقون او ليوسوسون إِلى أَوْلِيائِهِمْ يعنى كفار قريش او مطلق الكفار لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ فى استحلال ما حرم إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ع فان من ترك طاعة الله او أطاع غيره واتبعه فى دينه فقد أشرك حذف الفاء من الجزاء لكون الشرط بلفظ الماضي قال الزجاج فيه دليل على ان من أحل شيئا مما حرم الله او حرم ما أحل الله فهو مشرك قلت إذا ثبت ذلك بدليل قطعى
أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً يعنى كافرا غافلا قلبه عن الحق قرأ نافع ويعقوب هاهنا وفى يس الأرض الميتة وفى الحجرات لحم أخيه ميتا بتشديد الياء فى الثلاثة والباقون بإسكانها استعارة تمثيلية وكذا فى قوله كمن مثله فى الظلمات فان الكافر لا يمتاز بين ما ينفعه وما يضره كالميت فَأَحْيَيْناهُ يعنى أحيينا قلبه بنور الايمان
283
وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً «١» يعنى فراسة المؤمن يمتاز به الحق من الباطل يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ يعنى يمشى بذلك النور على طريق يقتضيه العقل السليم والطبع المستقيم والشرع المنزل من الله تعالى كَمَنْ مَثَلُهُ اى صفته مبتدا كونه فِي الظُّلُماتِ خبر لمثله وجاز ان يكون الظرف خبر مبتدأ محذوف اى هو والجملة خبر لمثله والجملة الكبرى صلة وقوله لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها حال من المستكن فى الظرف لا من الهاء فى مثله للفصل والمعنى او من كان مومنا كمن هو كافر لم يومن والاستفهام للانكار يعنى هما لا يتماثلان اخرج ابو الشيخ عن ابن عباس انه قال نزلت فى عمر بن الخطاب وابى جهل واخرج ابن جرير عن الضحاك مثله وقال البغوي قال ابن عباس يريد بهما حمزة بن عبد المطلب وأبا جهل وذلك ان أبا جهل رمى رسول الله ﷺ بفرث فاخبر حمزة بما فعل ابو جهل وهو راجع من قنصه وبيده قوس وحمزة لم يؤمن بعد فاقبل غضبان حتى اتى أبا جهل بالقوس وهو يتضرع ويقول يا با يعلى اما ترى ما جاء محمد به سفّه عقولنا وسب الهتنا وخالف ابائنا فقال حمزة ومن أسفه منكم تعبدون الحجارة من دون الله اشهد ان لا اله الا الله واشهد ان محمدا عبده ورسوله فانزل الله تعالى هذه الاية وقال عكرمة والكلبي نزلت فى عمار بن ياسر وابى جهل فاتفقت الروايات ان المراد عن مثله فى الظلمات ابو جهل ومقابله أحد الثلاثة والظاهر ان هؤلاء الثلاثة أمنوا متقاربين فى الزمان وحينئذ نزلت الاية ولفظها عام فيمكن حمله على كلهم وفى هذه الاية رد لما زعم ابو جهل انه أفضل من المؤمنين الذين خالفوا ابائهم وسبوا الهتهم فكان مقتضى السياق نفى افضلية الكفار فذكر الله سبحانه نفى المساوات ليكون ابلغ فى الدلالة على نفى أفضليتهم وكيلا يتطرق الوهم الى المساوات واستدل على نفى المساوات بما يقتضى افضلية المؤمنين بل اختصاصهم بالجمال والكمال ونفى ذلك عن الكفار بالكلية فاختصاص المؤمنين بالكمال ونفى مساواتهم بالكفار اشارة النص بالمطابقة ونفى افضلية الكفار عبارة النص بالالتزام كَذلِكَ اى كما زين لابى جهل اعماله حيث زعم نفسه أفضل من المؤمنين زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ أجمعين سيئات ما كانُوا يَعْمَلُونَ وَكَذلِكَ اى كما جعلنا فى مكة أكابر مجرميها
(١) وعن زيد بن اسلم انها نزلت فى عمر بن الخطاب وابى جهل وعن الحسن مثله وعن ابى سنان مثله ١٢
284
ليمكروا فيها جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها ان كان جعلنا بمعنى صيرنا فمفعولاه اما فى كل قرية وأكابر ومجرميها بدل من أكابر واما أكابر ومجرميها على تقديم المفعول الثاني على الاول وجاز ان يكون أكابر مضافا الى مجرميها أحد مفعوليه والثاني فى كل قرية وإن كان جعلنا بمعنى مكنا فالظرف متعلق بمكنا وأكابر مضافا الى مجرميها مفعوله وافعل التفضيل إذا أضيف جاز فيه الافراد والمطابقة وخصص الأكابر لانهم أقوى فى استتباع الناس والمكر بهم وذلك سنة الله تعالى حيث يجعل اتباع الرسل فى بدو الأمر ضعفائهم والمكر الخديعة كذا فى القاموس وفى الصحاح المكر صرف الغير عما يقصده بحيلة وكان مكر قريش انهم اجلسوا على كل طريق من طرق مكة اربعة نفر ليصرفوا الناس عن الايمان بمحمد ﷺ ويقولون لكل من يقدم إياك وهذا الرجل فانه كاهن ساحر كذاب وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ حيث يعود إليهم وباله وَما يَشْعُرُونَ ذلك قال البغوي قال قتادة قال ابو جهل زاحمنا بنو عبد مناف فى الشرف حتى إذا صرنا كفرسى «١» رهان قالوا منا نبى يوحى اليه والله لا نومن به ولا نتبعه ابدا الا ان يأتينا وحي كما يأتيه وقيل ان الوليد بن المغيرة قال لو كانت النبوة حقا لكنت اولى به منك لانى اكبر منك سنا واكثر منك مالا فانزل الله تعالى
وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا يعنى كفار قريش لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ ثم قال الله تعالى اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ «٢» رِسالَتَهُ قرأ ابن كثير وحفص على الافراد وفتح التاء والباقون رسالاته بالجمع وكسر التاء استيناف للرد عليهم بان النبوة ليست بالنسب والمال والسن وانما هى فضل من الله تعالى بمن يعلم انه أحق به قال المجدد للالف الثاني رضى الله عنه مبادى تعينات الأنبياء صفات الله تعالى من غير شائبة الظلية ومبادى تعينات غيرهم من الناس ظلال
(١) فرسى رهان مثل يضرب لاثنين يستبقان الى غاية فيستويان ٥ قاموس ٥
(٢) عن ابن مسعود ان الله نظر فى قلوب العباد فوجد قلب محمد خير القلوب فاصطفاه لنفسه وبعثه برسالته ثم نظر فى قلوب العباد بعد قلب محمد ﷺ فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه فما راه المؤمنون حسنا فهو عند الله حسن وما راه المؤمنون سيئا فهو عند الله سيئ ١٢
الأسماء والصفات وصفات الله تعالى وان كانت واجبة لكن وجوبها بالغير فهى باعتبار احتياجها الى الذات صارت مبادى تعينات الأنبياء والملئكة ومن ثم خصت العصمة بهذين الصنفين غير ان الصفات من حيث بطونها وقيامها بالله تعالى مباد لتعينات الملئكة ومن حيث ظهورها وكونها مصادر للعالم وحجبا مبادى لتعينات الأنبياء فولاية الملئكة ارفع واقرب الى الله تعالى من ولاية الأنبياء وفضلهم على الملئكة انما هو من حيث النبوة المختصة بالبشر وذلك بالتجليات الذاتية البحتة فاستحقاق النبوة والرسالة ناش من كون مبادى تعيناتهم صفات الله تعالى لا من حيث النسب والسن والمال كما زعمه الا عمهون سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا يعنى أكابر الكفار صَغارٌ ذل وهوان عِنْدَ اللَّهِ يوم القيامة وقيل تقديره من عند الله يعنى فى الدنيا والاخرة وَعَذابٌ شَدِيدٌ بالقتل والاسر فى الدنيا كما أصاب كفار قريش يوم بدر وبالنار فى الاخرة بِما كانُوا يَمْكُرُونَ الباء للسببية او المقابلة اى بسبب مكرهم فى الدنيا او جزاء على مكرهم
فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ الى معرفة طريق الحق يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ لما نزلت هذه الاية سئل رسول الله ﷺ عن شرح الصدر قال نور يقذفه الله فى قلب المؤمن فيشرح له ويتفسح قلت يعنى يتسع لمعرفة الحق ويومن قالوا فهل لذلك امارة قال نعم الانابة الى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور واستعداد الموت قبل نزول الموت أخرجه الحاكم والبيهقي فى شعب الايمان من حديث ابن مسعود واخرج الفريابي وابن جرير وعبد بن حميد من حديث ابى جعفر مرسلا قالت الصوفية العلية شرح الصدر لا يكون الا بعد فناء النفس بزوال عينها واثرها وذلك بتجليات صفات الله تعالى الحسنى فى الولاية الكبرى ولاية الأنبياء وحينئذ يحصل الايمان الحقيقي وَمَنْ يُرِدْ الله سبحانه أَنْ يُضِلَّهُ عن طريق الحق يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً قرأ ابن كثير ضيقا بالتخفيف بإسكان الياء هاهنا وفى الفرقان والباقون بالتشديد وهما لغتان مثل هين وهيّن ولين وليّن وقرأ نافع وابو بكر عن عاصم حرجا بكسر الراء والباقون بفتحها قال سيبويه بالفتح المصدر كالطلب بمعنى الصفة وبالكسر الصفة وهى أشد الضيق وقيل هما لغتان بمعنى الصفة يعنى يجعل صدره بحيث لا يدخله الايمان ويشق عليه قبول الحق ويزعمه مستحيلا
قال الكلبي يعنى ليس للخير فيه منفذ وقال ابن عباس إذا سمع ذكر الله اشمأز قلبه وإذا ذكر شيئا من عبادة الأوثان ارتاح الى ذلك قرأ عمر بن الخطاب هذه الاية فسال أعرابيا من كنانة ما الحرجة قال الحرجة فينا الشجرة تكون بين الأشجار التي لا يصل إليها راعية ولا وحشية ولا شىء فقال عمر كذلك قلب المنافق لا يصل اليه شىء من الخير كَأَنَّما يَصَّعَّدُ قرأ ابن كثير بالتخفيف وسكون الصاد من المجرد وابو بكر يصاعد بالألف وتشديد الصاد اى يتصاعد والباقون بتشديد الصاد والعين اى يتصعد فِي السَّماءِ شبّهه مبالغة فى ضيق صدره بمن يزاول ما لا يقدر عليه فان صعود السماء مثل فيما يبعد من الاستطاعة فيه اشعار بان الايمان يمتنع منه كما يمتنع الصعود عادة وقيل كانما يتصاعد الى السماء يعنى يتباعد عنه فى الهرب عنه كَذلِكَ اى كما يضيق صدره ويبعد قلبه عن الايمان يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ يعنى العذاب كذا قال عطاء وقال الزجاج الرجس اللعنة فى الدنيا والعذاب فى الاخرة وقال الكلبي هو الماثم وقال مجاهد الرجس ما لا خير فيه وقال ابن عباس هو الشيطان يعنى يسلط عليه الشيطان عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اى عليهم وضع المظهر موضع المضمر للتعليل والاية حجة على المعتزلة فى ارادة المعصية
وَهذا الذي بينا من شرح صدر من أراد هدايته وجعله ضيقا لمن أراد إضلاله صِراطُ رَبِّكَ طريقه الذي اقتضته الحكمة وسنة التي جرت فى عباده وقيل معناه هذا الذي أنت عليه يا محمد وجاء به القران من الإسلام صراط ربك الموصل اليه مُسْتَقِيماً معناه على التقدير الاول عادلا مطردا وعلى التقدير الثاني لا عوج فيه حال من الصراط والعامل فيها معنى الاشارة قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ من اهل السنة والجماعة فانهم هم المنتفعون بها العالمون بان القادر هو الله تعالى لا غير وان كل ما يحدث من خير وشر بقضائه وخلقه وانه عليم بأحوال العباد حكيم عادل لا مجال لاحد بالاعتراض عليه
لَهُمْ اى لقوم يتذكرون بالنصوص ولا يتبعون الأهواء دارُ السَّلامِ يعنى الجنة سميت بها لانها دار السّلام من المكاره او دار تحيتهم فيها سلام او المعنى دار الله أضاف الى نفسه تعظيما عِنْدَ رَبِّهِمْ اى فى ضمانه او ذخيرة لهم عنده لا يعلم كنهها غيره وَهُوَ اى الله تعالى وَلِيُّهُمْ اى متولى أمورهم فى الدنيا بالتوفيق وفى القبور بالتثبيت فى الجواب جواب المنكر والنكير وفى الاخرة بجزيل الجزاء ويرفعهم فى
درجات القرب بِما كانُوا يَعْمَلُونَ اى بسبب أعمالهم
وَنقول او يقول الله يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ يعنى الجن والانس قرأ حفص بالياء على الغيبة والباقون بالنون على التكلم جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ يعنى الشياطين قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ بان جعلتم كثيرا منهم اتباعكم فى الضلالة او استكثرتم من اغوائهم وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ الذين أطاعوهم رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ اى انتفع الانس من الجن بما يتلقون منهم من الأراجيف والسحر والكهانة وتزئينهم لهم الأمور التي يشتهونها وأطاعه الجن لهم فى تحصيل مراداتهم وإيصالهم الى شهواتهم ويبيت الانس فى جوار الجن حين يقول أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه وانتفع الجن من الانس باستعبادهم واستتباعهم فى الضلالات والمعاصي وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا يعنى يوم القيامة أجلت للبعث اعتراف بذنبهم وتحسر على أنفسهم قالَ الله تعالى النَّارُ مَثْواكُمْ منزلكم او ذات مقامكم خالِدِينَ فِيها حال والعامل فيها مثويكم ان جعل مصدر او معنى الاضافة ان جعل مكانا إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ قيل معناه الا مدة سبقت على وقت دخولهم فى النار كانه قيل النار مثويكم الا ما امهلتكم وقيل المستثنى الأوقات التي ينقلون فيها من النار الى الزمهرير وقيل معنى إلا سوى والمعنى خالدين فيها سوى ما شاء الله من انواع العذاب وقال ابن «١» عباس الاستثناء يرجع الى قوم سبق فيهم علم الله انهم يسلمون فيخرجون من النار وما بمعنى من على هذا التأويل إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ فيما يفعل باوليائه وأعدائه عَلِيمٌ بما فى قلوبهم من الايمان والنفاق وباعمال الثقلين وأحوالهم
وَكَذلِكَ اى كما خذلنا عصاة الجن والانس حتى استمتع بعضهم ببعض نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً اى بعضهم قال قتادة يعنى يجعل بعضهم اولياء بعض المؤمن ولى المؤمن يعينه على الخير والكافر ولى الكافر يبعثه الى الشر وروى معمر عن قتادة معناه نتبع بعضهم بعضا فى النار من الموالاة وقيل معناه نولى ظلمة الانس ظلمة الجن وظلمة الجن ظلمة الانس اى نكل بعضهم الى بعض وروى الكلبي عن ابى صالح عن ابن عباس
(١) قلت لعل المراد من قول ابن عباس ان نامنا ممن لم يبلغهم دعوة الرسل سبق فيهم علم الله انهم يسلمون لو بلغهم دعوة الرسل فيخرجون من النار ومن سبق فيه علم الله منهم انهم لا يسلمون يخلدون فى النار ١٢
فى تفسير هذه الاية ان الله إذا أراد بقوم خيرا ولّى أمرهم خيارهم وإذا أراد بقوم شرا ولّى أمرهم شرارهم فمعنى نولى بعض الظالمين بعضا اى نسلط بعضهم على بعض فناخذ من الظالم بالظالم كما جاء من أعان ظالما سلطه الله عليه ويؤيد رواية الكلبي عن ابن عباس ما روى الحاكم عن صعصعة بن صوحان عن علىّ عليه السلام انه عليه السلام لما استشهد وضربه ابن ملجم قال الناس يا امير المؤمنين استخلف علينا فقال على ان يعلم الله فيكم خيرا بول عليكم خياركم قال على فعلم الله فينا خيرا فولّى أبا بكر رضى الله عنه وروى الظالم عدال الله فى الأرض ينتقم به من الناس ثم ينتقم منه بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ع من الكفر والمعاصي.
مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ
اختلفوا فى ان الجن هل أرسل إليهم منهم فسئل الضحاك عنه فقال بلى الم تسمع الله يقول الم يأتكم رسل منكم يعنى رسلا من الانس ورسلا من الجن قال الكلبي كانت الرسل قبل ان يبعث محمد ﷺ يبعثون الى الجن والى الانس جميعا يعنى الى بعض من كل من الفريقين فانه لم يبعث الى كافتهم الا خاتم الرسل عليه السلام وقال مجاهد الرسل من الانس والنذر من الجن ثم قرأ ولوا الى قومهم منذرين والمراد بالنذر رسل الرسل وهم قوم من الجن يستمعون كلام الرسل فيبلغون الجن ما سمعوا وليس للجن رسل فعلى هذا قوله تعالى رسل منكم ينصرف الى أحد الصنفين وهم الانس كما قال الله تعالى يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان وانما يخرج من الملح دون العذب وقال وجعل القمر فيهن وانما هو فى سماء واحدة قلت الاية تدل على كون الفريقين مرسلين إليهم سواء كان الرسل من كل صنف او من الانس فقط لكن لا مانع من كون بعض الرسل الى الجن منهم قبل مبعث النبي ﷺ كيف وقوله تعالى لو كان فى الأرض ملئكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا يقتضى كون الرسل الى الجن منهم لكمال المناسبة بين الرسول ومن أرسل اليه كيف وخلقة الجن كان اسبق من آدم عليه السلام وكانوا مكلفين لكونهم من ذوى العقول ولقوله تعالى لا ملئن جهنم من الجنة والناس فلو لم يرسل إليهم حينئذ أحد لم يعذبوا لقوله تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا فهذه الاية تدل على انه كان قبل آدم عليه السلام من الجن رسلا إليهم ومن هاهنا يظهر ان ما يدعوا اهل الهند من البرازخ ويسمونهم أوتارا ويذكرون فى تواريخهم
ألوف ومائة ألوف من السنين لعلهم كانوا من الجن برازخ مبعوثين الى الجن ولعل لاهل الهند دين منزل من الله تعالى على الجن استفاد منهم الانس قيل لاجل كونهم مولودين من بطن الجنية منسوخ بشرائع منزلة بعد ذلك فان اصول دينهم يوافق الكتاب والسنة غالبا وما يخالف منه فهو من عمل الشيطان مردود والله اعلم قُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي
يقرؤن كتبى يُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا
يعنى يوم القيامةالُوا
جواباهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا
بتبليغ الرسل إلينا وبالكفر قال مقاتل وذلك حين شهدت عليهم جوارحهم بالشرك والكفر غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا
حتى لم يؤمنوا شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ
ذم لهم على سوء اختيارهم فى الدنيا حتى اضطروا الى الاعتراف باستيجاب العذاب
ذلِكَ يعنى إرسال الرسل خبر مبتدأ محذوف اى الأمر وما بعده تعليل للحكم او بدل من ذلك والأظهر انه مبتدأ وخبره ما بعده أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ ان مصدرية او مخففة من الثقيلة اسمها ضمير الشأن يعنى إرسال الرسل كان لانتفاء كون ربك او لان الشان لم يكن ربك مُهْلِكَ الْقُرى اى اهله بِظُلْمٍ اما حال من فاعل مهلك يعنى ما كان ربك مهلكهم ظالما وَأَهْلُها غافِلُونَ لم ينبهوا برسول واما حال من مفعوله واما ظرف لغو متعلق بمهلك يعنى ما كان ربك مهلكهم بسبب ظلم فعلوه او ملتبسين بظلم فى حال غفلتهم من قبل ان يأتيهم الرسل وذلك على جرى العادة من الله تعالى
وَلِكُلٍّ من المكلفين دَرَجاتٌ مراتب من الله تعالى فى القرب والبعد مِمَّا عَمِلُوا اى من أجل أعمالهم التي اكتسبوها فى الدنيا فمنهم من هو اقرب منزلة وأجزل ثوابا ومنهم من هو ابعد رحمة وأشد عذابا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ فيجزى كلا منهم على حسب عمله قرأ ابن عامر بالتاء على الخطاب والباقون بالياء على الغيبة
وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ عن العباد وعن عبادتهم ليس إرسال الرسل وتكليف العباد بالأوامر والنواهي لغرض يعود اليه تعالى بل لانه تعالى ذُو الرَّحْمَةِ على خلقه أرسل إليهم الرسل وأمرهم ونهاهم تكميلا لهم ومن رحمته تعالى انه يمهلهم على المعاصي ويتجاوز عنهم إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ اى يهلككم يا اهل مكة بذنوبكم ما به تعالى إليكم حاجة يفوت بذهابكم وَيَسْتَخْلِفْ اى يخلف وينشأ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ من الخلق غيركم أطوع منكم إنشاء كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ
من أولاد قَوْمٍ آخَرِينَ قرنا بعد قرن لكنه أمهلكم ترحما عليكم
إِنَّ ما تُوعَدُونَ من البعث والحساب والاثابة والتعذيب لَآتٍ كائن لا شبهة فيه وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فائتين طالبكم به بل يدرككم حيث ما كنتم
قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ قرأ ابو بكر عن عاصم على مكاناتكم وعلى مكاناتهم حيث وقع على الجمع والباقون على الافراد والمكانة اما مصدر من مكن مكانة إذا تمكن وتسلط على شىء يعنى اعملوا على غاية تمكنكم واستطاعتكم او هو اسم ظرف بمعنى المكان استعير هاهنا للحال يقال للرجل إذا امر ان يثبت على حاله على مكانتك يا فلان اى اثبت على ما أنت عليه من الحال وعلى التقديرين امر للتهديد والوعيد والمعنى اثبتوا على كفركم وعداوتكم إِنِّي عامِلٌ على مكانتى التي انا عليها من المصابرة والثبات على الإسلام وعلى ما أمرني به ربى فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ قرأ حمزة والكسائي يكون بالياء هاهنا وفى القصص لان تأنيث العاقبة غير حقيقى والباقون بالتاء لتانيث الفاعل ومن اما موصولة فى محل النصب على انه مفعول يعلمون يعنى فسوف يعرفون الذين يكون له العاقبة الحسنى فى الدار الاخرى او استفهامية فى محل الرفع على الابتداء وفعل العلم معلق عنه يعنى يعلمون أينا يكون له العاقبة الحسنى فى الدار الاخرى إنذار مع الانصاف فى المقال وحسن الأدب وفيه تعريض على انى على علم ويقين بان العاقبة للمتقين إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ الواضعون العبادة والطاعة فى غير محلها قال البغوي كان المشركون يجعلون لله تعالى من حروثهم وأنعامهم وثمارهم وسائر أموالهم نصيبا وللاوثان نصيبا فما جعلوه لله صرفوه الى الضيفان والمساكين وما جعلوه للاوثان أنفقوا على خدمها فان سقط شىء مما جعلو الله فى نصيب الأوثان تركوه وقالوا ان الله لغنى عن هذا وان سقط شىء من نصيب الأصنام فيما جعلوه لله ردوه الى الأوثان وقالوا انها محتاجة وكان إذا هلك او انتقص شىء مما جعلوه لله لم يبالونه وإذا هلك او انتقص شىء مما جعلوه للاصنام جبروه بما جعلوه لله وذلك قوله تعالى
وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ اى خلقه الله مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً ولشركائهم نصيبا حذف هذه الجملة لظهورها بالمقابلة فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ يعنى زعموا كذلك ولم يأمرهم
به الله ولا شرع لهم تلك القسمة قرأ الكسائي بضم الزاء والباقون بالفتح وهما لغتان وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ حيث كانوا يتمون ما جعلوا للاوثان مما جعلوا لله تعالى دون العكس قال قتادة كانوا إذا أصابتهم سنة استعانوا بما جعلوا لله وأكلوا منه ووفروا ولم يأكلوا ما جعلوا للاوثان ساءَ ما يَحْكُمُونَ حكمهم هذا واشراكهم خالق الحرث والانعام وسائر الخلائق جمادات لا يقدر على شىء ما وترجيحهم الجمادات على خالق السموات
وَكَذلِكَ يعنى تزئينا مثل ما زين لهم قسمة الحرث ونحوها زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ بواد البنات ونحرهم لالهتهم شُرَكاؤُهُمْ فاعل زين قال مجاهد يعنى شياطينهم زينوا وحسنوا لهم واد البنات خيفة الفقر سميت الشياطين شركاء لانهم أطاعوها فى معصية الله وأضيف الشركاء إليهم لاتخاذهم إياها الهة بلا سبب موجب وقال الكلبي شركائهم سدنة الأوثان كانوا يزينون الكفار قتل الأولاد فكان الرجل منهم يحلف لئن ولد له كذا غلاما لينحرن أحدهم وقرأ ابن عامر زين بضم الزاء وكسر الياء على البناء للمفعول الذي هو القتل مرفوعا ونصب الأولاد على المفعولية للقتل وجر الشركاء على ان المصدر مضاف الى الفاعل اعنى الشركاء وترك المفعول اعنى أولادهم منصوبا ويظهر بتواتر هذه القراءة ان اضافة المصدر الى فاعله مفصولا بينهما بمفعوله صحيح فصيح وان ضعفه بعض اهل العربية كذا قال التفتازانيّ او يقال نزل المضاف اليه منزلة الفاعل المرفوع وجاز تقديم المفعول على الفاعل وانما أسند القتل الى الشركاء وان لم يتولوا ذلك لانهم هم الذين زينوا ذلك ودعوا اليه لِيُرْدُوهُمْ اى ليهلكوهم بالإغواء وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ اى ليخلطوا عليهم دينهم الذي كانوا عليه يعنى دين اسمعيل عليه السلام قبل التلبيس كذا قال ابن عباس او المراد دينهم الذي وجب عليهم ان يتدينوا به واللام للتعليل ان كان التزيين من الشياطين وللعاقبة ان كان من السدنة وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ان لا يفعلوا ذلك التخليط واللبس والتزيين او ان لا يقتلوا الأولاد وان لا يجعلوا للاصنام نصيبا من أموالهم ما فَعَلُوهُ اى المشركين ما زين لهم او الشركاء التزيين او الفريقان جميع ذلك فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ
اى افترائهم او ما يفترونه من الافك
وَقالُوا يعنى المشركين هذِهِ يعنى ما جعلوه لله ولالهتهم من الحرث والانعام على ما مر أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ اى حرام مصدر بمعنى المفعول يستوى فيه الواحد والجمع والذكر والأنثى وقال مجاهد يعنى بالانعام البحيرة والسائبة والوصيلة والحام لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ يعنون خدم الأوثان والرجال دون النساء بِزَعْمِهِمْ من غير حجة وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها يعنى البحائر والسوائب والحوامي وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا فى الذبح وانما يذكرون اسماء الأصنام وقال ابو وائل معناه لا يحجون عليها ولا يركبون لفعل الخير لانه لما جرت العادة بذكر اسم الله على فعل الخير عبر عن فعل الخير بذكر الله افْتِراءً عَلَيْهِ نصب على المصدر من قالوا لان ما قالوه تقولوا على الله والجار والمجرور متعلق لقالوا او بمحذوف هو صفة له يعنى افتراء واقعا عليه او منصوب على الحال يعنى قالوا ذلك مفترين او على العلية يعنى للافتراء والجار والمجرور متعلق به او بالمحذوف سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ اى بسبب افترائهم او بمقابلة
وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ يعنى اجنة البحائر والسوائب ما ولد منها حيا خالِصَةٌ الخالص ما لا شوب فيه والهاء فيه للتاكيد والمبالغة وقال الكسائي خالص وخالصة واحد مثل وعظ وموعظة وقال الفراء ادخلت الهاء لتانيث الانعام لان ما فى بطونها مثلها وقيل نظرا الى المعنى فان معنى ما فى بطونها الاجنة والمراد به حلال خاصة لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا اى نسائنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً قرأ ابن عامر وابو جعفر وابن كثير ميتة بالرفع على الفاعلية على ان يكون تامة لكن المكي قرأ يكن بالياء التحتانية والآخران بالتاء الفوقانية لان الفاعل مؤنث غير حقيقى او لان الميتة لفظه مؤنث ومعناه يعم الذكر والأنثى فجاز التذكير على التغليب والتأنيث على اللفظ والباقون ميتة بالنصب على الخبرية غير ان أبا بكر عن عاصم قرأ تكن بالتاء الفوقانية مع ان الضمير راجع الى الموصول نظرا الى تأنيث الخبر او الى المعنى فان ما فى بطونها هى الاجنة والباقون بالتحتانية نظرا الى لفظ الموصول فَهُمْ اى الذكر والأنثى فِيهِ اى فى الميتة وذكر الضمير لانه يعم الذكر والأنثى شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ منصوب بنزع الخافض اى يوصفهم الله
كاذبا فى التحليل والتحريم او على المصدرية بحذف المضاف اى جزاء وصفهم إِنَّهُ حَكِيمٌ فى جزائهم عَلِيمٌ بما يفعلون
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا قرأ ابن عامر وابن كثير بتشديد التاء على التكثير والباقون بالتخفيف أَوْلادَهُمْ سَفَهاً جهلا بِغَيْرِ عِلْمٍ بان الله رازق أولادهم ويجوز نصبه على المصدرية او الحال اى قتلا بغير علم او كائنين بغير علم قال البغوي نزلت الاية فى ربيعة ومضر وبعض من العرب كانوا يدفنون البنات احياء مخافة الفقر والسبي وبنو كنانة لا يفعلون ذلك وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ يعنى البحيرة والسائبة والوصيلة والحام افْتِراءً عَلَى اللَّهِ منصوب على العلية او الحالية او المصدرية يعنى يفترون على الله افتراء او حرموا مفترين او للافتراء قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ الى الحق والصواب
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ بساتين مَعْرُوشاتٍ قال ابن عباس ما انبسط على وجه الأرض فانتشر مما يعرض اى يرفع مثل الكرم والقرع والبطيخ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ ما قام على الساق ونسق مثل النخل والزرع وسائر الأشجار وقال الضحاك كلاهما من الكرم منها ما عرش يعنى غرسه الناس فعرشوه ومنها ما نبت فى البراري والجبال فلم يعرشه أحد وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ يعنى ثمره فى اللون والطعم والريح الضمير راجع الى الزرع والباقي مقيس عليه او الى النخل والزرع داخل فى حكمه لكونه معطوفا او للجميع على تقدير كل واحد منهما ومختلفا حال مقدرة لان وقت الإنشاء لا أكل له وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً بعض افرادها ببعض وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ بقيتها كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ اى من ثمر كل واحد منها إِذا أَثْمَرَ وان لم يدرك يعنى أول وقت الإباحة طلوع الثمر ولا يتوقف على الإدراك او يقال فائدة هذا القيد رخصة المالك فى الاكل منه قيل أداء حق الله تعالى وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ قرأ ابو عمرو وابن عامر وعاصم حصادة بفتح الحاء والباقون بكسرها ومعناهما واحد كالصرام والصرام والجزار والجزار بالكسر والفتح فيهما اختلفوا فى هذا الحق فقال ابن عباس وطاووس والحسن وجابر بن زيد وسعيد بن المسيب انه الزكوة المفروضة من العشر ونصف العشر لان الأمر للوجوب ولفظ الحق غالب استعماله فى الواجب والإجماع على انه لا واجب فى المال الا الزكوة وفى الصحيحين عن
294
طلحة بن عبد الله قال جاء رجل الى رسول الله ﷺ يسال عن الإسلام فذكر رسول الله ﷺ خمس صلوات وصيام شهر رمضان والزكوة فقال هل على غيرها قال لا الا ان تطوع فعلى هذا القول هذه الاية مدنية وفيها حجة لابى حنيفة حيث يقول يجب الزكوة فى الثمار مثل الرمان خلافا لمالك والشافعي فانه لا يجب الزكوة عندهما الا فيما يقتات به وقد مر مسائل زكوة الزرع فى سورة البقرة فى تفسير قوله تعالى وأنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض وقال على بن الحسين وعطاء ومجاهد وحماد والحكم هو حق فى المال سوى الزكوة امر بإتيانه لان الاية مكية وفرضت الزكوة بالمدينة قال ابراهيم هو الضغث وقال الربيع لقاط السنبل اخرج ابن مردويه والنحاس فى ناسخه عن ابى سعيد الخدري عن النبي ﷺ فى هذه الاية قال ما سقط من السنبل وقال مجاهد كانوا يعلقون العذق عند الصرام فياكل منه من مرّ وقال يزيد بن الأصم كان اهل المدينة إذا صرموا يجيئون بالعذق فيعلقونه فى جانب المسجد فيجئ المسكين فيضربه بعصاه فيسقط منه فياخذ ويويد هذا القول حديث فاطمه بنت قيس قالت قال رسول الله ﷺ ان فى المال لحقا سوى الزكوة ثم تلا ليس البر ان تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب رواه الترمذي وابن ماجة والدارمي وقد مر فى تفسير تلك الاية فى البقرة فالمراد بالحق أعم من ان يكون واجبا او مندوبا وقال سعيد ابن جبير كان هذا حقا يومر بإتيانه فى ابتداء الإسلام فصار منسوخا بايجاب العشر قال مقسم عن ابن عباس نسخت الزكوة كل نفقة فى القران وَلا تُسْرِفُوا الإسراف ضد القصد كذا فى القاموس وفى الصحاح انه التجاوز عن الحد فى كل فعل قيل أراد هاهنا بالإسراف إعطاء الكل قال البيضاوي هذه الاية كقوله تعالى ولا تبسطها كل البسط قال البغوي قال ابن عباس فى رواية الكلبي عمد ثابت بن قيس بن شماس فصرم خمسمائة نخلة فقسمها فى يوم واحد ولم يترك لاهله شيئا فانزل الله عز وجل هذه الاية وكذا اخرج ابن جرير عن ابن جريح قال البغوي قال السدى لا تسرفوا اى لا تعطوا سائر أموالكم فتقعدوا فقراء قلت إعطاء الكل انما يكون إسرافا ومنهيا عنه إذا لم يوصل الى عياله ومن له عليه حق حقوقهم كذا قال الزجاج واما بعد أداء
295
حقوق اهل الحقوق فاعطاء الكل فى سبيل الله أفضل وليس بإسراف قال قال رسول الله ﷺ لو كان لى مثل أحد ذهبا يسرّنى ان لا يمرّ علىّ ثلث ليال وعندى منه شىء الا شىء ارصده لدين رواه البخاري وعن
ابى ذر انه استاذن على عثمان فاذن له وبيده عصاه فقال عثمان يا كعب ان عبد الرحمن بن عوف توفى وترك مالا فما ترى فيه فقال إن كان يصل فيه حق الله فلا بأس به فرفع أبو ذر عصاه فضرب كعبا وقال سمعت رسول الله ﷺ يقول ما أحب لو ان لى هذا الجبل ذهبا أنفقه ويتقبل منى اذر خلفى منه ست أواق أنشدك بالله يا عثمان أسمعته ثلث مرات قال نعم رواه احمد وعن ابى هريرة ان النبي ﷺ دخل على بلال وعنده صبرة من تمر فقال ما هذا يا بلال قال شىء ادخرته لغد فقال أما تخشى ان ترى له غدا بخارا فى نار جهنم يوم القيامة أنفق يا بلال ولا تخش من ذى العرش إقلالا رواه البيهقي فى شعب الايمان وعن ابى هريرة قال يا رسول الله ﷺ اى الصدقة أفضل قال جهد المقل وابدأ بمن تعول رواه ابو داؤد وقال سعيد بن المسيب معنى لا تسرفوا لا تمنعوا الصدقة يعنى لا تجاوزوا الحد في الإمساك حتى تمنعوا الواجب من الصدقة وقال مقاتل معناه لا تشركوا الأصنام فى الحرث والانعام وقال الزهري معناه لا تنفقوا فى المعصية وقال مجاهد الإسراف ما قصرت به عن حق الله عز وجل وقال لو كان ابو قبيس ذهبا لرجل فانفقه فى طاعة الله لم يكن مسرفا ولو أنفق درهما او مدّا فى معصية الله تعالى كان مسرفا وقال إياس بن معاوية ما جاوزت به امر الله فهو سرف وإسراف وروى ابن وهب عن ابى زيد انه قال الخطاب فى هذه الاية للسلاطين يقول الله تعالى لا تأخذوا فوق حقكم فهذه الاية نظير قوله ﷺ وإياكم وكرايم اموال الناس إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ لا يرتضى فعلهم
وَانشأ مِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وهى كل ما حمل عليه من الإبل والبقر وَفَرْشاً وهى ما لا يحمل عليه من الصغار الدانية الى الأرض كالفصال والعجاجيل والغنم كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ امر اباحة وادخل من التبعيضية لان الرزق ليس كله ماكولا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ اى طرقه فى تحليل الحرام وتحريم الحلال
إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ظاهر العداوة
ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ بدل من حمولة وفرشا او مفعول كلوا ولا تتبعوا معترض بينهما او حال من ما بمعنى مختلفة او متعددة والزوج ما معه اخر من جنسه يزاوجه وقد يقال لمجموعهما والمراد الاول مِنَ الضَّأْنِ اسم جنس وهى ذات الصوف من الغنم وجمعه ضئين او الضان جمع ضائن والأنثى ضائنة وجمعها ضوائن اثْنَيْنِ زوجين اثنين الذكر والأنثى اعنى الكبش والنعجة بدل من حمولة ان جوز تعدد البدل ومن ثمانية ان جوز البدل من البدل وَمِنَ الْمَعْزِ وهى ذات الشعر من الغنم قرأ ابن كثير وابو عمرو وابن عامر بفتح العين والباقون بالإسكان وهى جمع ما عز كصحب وصاحب وقال البغوي هو جمع لا واحد له من لفظه وجمع الماعز معزى وجمع الماعزة مواعز اثْنَيْنِ الذكر والأنثى التيس والعنز قُلْ يا محمد آلذَّكَرَيْنِ اجمع القراء على ابدال الهمزة الثانية او تسهيلها وكذا كلما دخل همزة الاستفهام على همزة الوصل نحو آلله آلآن يعنى آلذكر من الضان والمعز حَرَّمَ اى حرمه الله تعالى أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ منهما ونصب الذكرين والأنثيين بحرم أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ يعنى أعم من الذكر والأنثى من الجنين نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ يعنى أخبروني بامر معلوم من عند الله تعالى يدل على تحريم ما تحرمونه إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فى دعوى التحريم
وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ كما سبق يعنى شىء منهما لم يحرم وذلك انهم كانوا يقولون هذه انعام وحرث حجر وقالوا ما فى بطون هذه الانعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا وكانوا يحرمون البحيرة والسائبة والوصيلة والحام بعضها على النساء فقط وبعضها على الرجال والنساء جميعا فلما جاء الإسلام قام مالك بن عوف ابو الأحوص الجشمي فقال يا محمد بلغنا انك تحرم أشياء مما كان ابائنا يفعلون فقال رسول الله ﷺ انكم قد حرمتم أصنافا من النعم على غير اصل وانما خلق الله تعالى هذه الأصناف الثمانية للاكل والانتفاع بها فمن اين جاء هذا التحريم من قبل الذكر أم من قبل الأنثى فسكت مالك بن عوف وتحير فلو قال جاء هذا التحريم بسبب الذكورة وجب ان يحرم جميع الذكور ولو قال بسبب
الأنوثة وجب ان يحرم جميع الأنثى ولو قال باشتمال الرحم وجب ان يحرم الكل فاما تخصيص التحريم بالولد الخامس او السابع او بالبعض دون البعض فمن اين هو ويروى ان النبي ﷺ قال لمالك يا مالك لا تتكلم قال له مالك بل نتكلم واسمع منك أَمِ بل كُنْتُمْ يا اهل مكة شُهَداءَ حضورا إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا التحريم فانكم لا تؤمنون بنبي ولا كتاب لكم فلا طريق لكم الى المعرفة الا المشاهدة والسماع فَمَنْ أَظْلَمُ يعنى لا أحد اظلم مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فى التحريم والتحليل وغيرهما والمراد عمرو بن لحى الخزاعي ومن جاء بعده على طريقه لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ روى انهم قالوا فما المحرم إذا فنزل
قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ وهو يعم القران وغيره ولا وجه لتخصيصه بالقران كيف والكلام فى رد ما يزعمون من تحريم البحائر ونحوها بغير علم وذا لا يتم الا بارادة العموم فان المقصود من هذا الكلام التنبيه ان التحريم وغيرها من الاحكام انما يعلم بالوحى دون الهوى ولا أجد هاهنا من افعال القلوب ومفعوله الاول محذوف ومفعوله الثاني قوله تعالى مُحَرَّماً واختار اكثر المفسرين تقدير طعاما محرما ليصح استثناء الخنزير منه متصلا عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ متعلق بمحرما إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً قرأ ابن عامر تكون بالتاء لتانيث الفاعل وميتة بالرفع على الفاعلية ويكون حينئذ تامة وقرأ ابن كثير وحمزة ايضا بالتاء نظرا الى تأنيث الخبر وميتة بالنصب على الخبرية كجمهور القراء والباقون بالياء التحتانية على ان الضمير المستتر فيه راجع الى المحذوف المقدر اعنى طعاما والمستثنى فى محل النصب على الحالية يعنى لا أجد طعاما محرما فى حال من الأحوال الا حال كونه ميتة والميتة ما فارقه الروح حتف انفه من غير فعل أحد فلا يدخل فيه الموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع كما يدل عليه العطف فى قوله تعالى حرمت عليكم الميتة الاية فى سورة المائدة ويدل عليه ايضا قول الكفار تزعم يا محمد ان ما قتلت أنت وأصحابك حلال وما قتله الكلب والصقر حلال وما قتله الله حرام وانما تثبت حرمة الموقوذة وأخواتها بغير هذه الآيات أَوْ دَماً مَسْفُوحاً اى مهراقا سائلا قال ابن عباس يريد ما خرج من الحيوان وهو حى وما خرج من الأوداج عند الذبح ولا يدخل فيه الكبد والطحال لانهما جامدان وقد جاء الشرع بإباحتهما
298
نصا واجماعا ولا ما اختلط باللحم من الدم لانه غير سائل أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ اى الخنزير لقربه رِجْسٌ اى قذر ومن هذه الاية ثبت كون الخنزير نجسا عينه ومن ثم لا يجوز بيع شىء من اجزائه ولا الانتفاع به أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ الجملة صفة لفسقا وهو معطوف على لحم خنزير وقوله فانه رجس معترض بين المعطوف والمعطوف عليه سمى الله سبحانه ما ذبح على اسم الصنم فسقا لتوغله فى الفسق وجاز ان يكون فسقا مفعولا له لاهل والجملة معطوفة على يكون والمستكن فيه راجع الى ما رجع اليه المستكن فى يكون فَمَنِ اضْطُرَّ اى دعته الضرورة الى تناول شىء من ذلك غَيْرَ باغٍ اى حال كونه غير باغ للذة وشهوة ولا باغ على مضطر مثله وَلا عادٍ اى متجاوز قدر الضرورة فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ «١» لا يواخذ وقد مر مثل هذه الاية فى سورة البقرة وذكرنا ما يتعلق به هناك.
(مسئلة) ذهب بعض العلماء الى ان التحريم مقصور على هذه الأشياء لانحصار التحريم بنص الكتاب فيها ولا يجوز نسخ الكتاب بخبر الآحاد يروى ذلك عن عائشة وابن عباس وبه قال مالك فانه يطلق الكراهة على ما سوى ذلك مما ورد النهى عنها فى الحديث قالوا ويدخل فى الميتة المنخنقة والموقوذة وما ذكر فى أوائل سورة المائدة قلت دخول الموقوذة وأخواتها فى الميتة ممنوع كما ذكرنا وقال اكثر الائمة ابو حنيفة والشافعي واحمد وغيرهم لا يختص التحريم بهذه الأشياء قال البيضاوي الاية محكمة يعنى غير منسوخة لانها تدل على انه لم يجد فيما اوحى اليه الى تلك الغاية محرما غير هذه وذلك لا ينافى ورود التحريم فى شىء اخر فلا يلزم نسخ الكتاب بخبر الواحد وهذا القول غير صحيح عندى فان كل اية او سنة نطقت
(١) قال الامام جلال الدين السيوطي فى الإتقان قال الشافعي فى هذه الاية ما معناه ان الكفار لما حرموا ما أحل الله وأحلوا ما حرم الله جاءت الاية مناقضة لغرضهم فكانه قال لا حلال الا ما حرمتموه من البحيرة والسائبة والوصيلة ونحوها يعنى من الانعام ولا حرام الا ما أحللتموه من الميتة والدم ولحم الخنزير وما أحل لغير الله به فالاية نازلة منزلة من يقول فى جواب قول قائل لا تأكل اليوم حلاوة لا أكل اليوم الا حلاوة والغرض المصادة يعنى فى تحليل الانعام وتحريمها لا النفي والإثبات على الحقيقة قال الامام الحرمين وهذا فى غاية الحسن ١٢
299
بحكم غير مقيد بالتابيد او التوقيت فانها مؤيدة ظاهرا نظرا الى الاستصحاب وهو فى علم الله موقت ولا يكون قابلا للنسخ الا هذا القسم من النصوص فالناسخ يكون بيانا لمدة الحكم ولذا سمى النسخ بيان تبديل كيلا يلزم على الله البدء المستحيل وو لا شك ان هذه الاية تدل على حل ما عدا المذكورات فى هذا الوقت من غير دلالة على تابيد الحل او كونه منتهيا الى وقت ومن أجل ذلك كانت الاية رد التحريم البحاير وأخواتها واحتمال ورود التحريم بعد ذلك لا ينافى كون حلها حكما شرعيا ثابتا بنص الكتاب فالحكم الوارد بالسنة بعد ذلك بالتحريم يكون ناسخا للحل البتة فلا يصح ما قيل انه لا يلزم نسخ الكتاب بخبر الواحد فالاولى ان يقال قد لحقه التخصيص بالقطعي الوارد فى المنخنقة وأخواتها والوارد فى تحريم الخمر فانه ايضا من جنس الطعام فان قوله تعالى ليس على الذين أمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا الاية وارد فى الخمر والعام المخصوص بالبعض يجوز تخصيصه بخبر الآحاد بل بالقياس ايضا والقول باشتراط المقارنة فى التخصيص ممنوع بل كل ما يخرج بعض الافراد عن الحكم من كلام مستقل فهو مخصص سواء كان متراخيا او مقارنا وانما الناسخ ما سلب الحكم عن جميع الافراد ولو سلمنا هذا الاشتراط فنقول حل جميع الحيوانات الثابت بهذا النص منسوخ بتحريم الخبائث الثابت بقوله تعالى يأمرهم بالمعروف وينهيهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث لكن الطيبات والخبائث مجمل التحق أحاديث النبي ﷺ الواردة فى تحريم السباع والحمر الاهلية وأمثالها بيانا للاية فالناسخ انما هو الكتاب للكتاب والأحاديث بيان للكتاب او نقول الأحاديث الواردة فى تحريم السباع وغيرها وانكانت من رواية الآحاد لكن تلقتها جميع الامة بالقبول ومالك رحمه الله وان لم يقل بتحريم السباع وأمثالها لكنه يقول بالكراهة التحريمية عملا بتلك الأحاديث فلا شبهة فى قبوله الأحاديث المذكورة فصارت الأحاديث المذكورة مجمعا عليها فجاز نسخ الكتاب بها لكونها قطعية بإجماع الامة على قبولها والاختلاف الواقع فى الضبع والثعلب واليربوع والضب لا يضرابا حنيفة فانه يقول الضبع والثعلب من السباع والضب واليربوع من الحشرات ولا خلاف فى عدم جوازا كل السباع والحشرات وانما الخلاف فى كونها من السباع والحشرات وقد ذكرنا مسائل ما يحل من الحيوانات وما يحرم فى سورة المائدة فى تفسير قوله تعالى اليوم
300
أحل لكم الطيبات الاية
وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وهى كل ماله إصبع كالابل والسباع والطيور قال القتيبي هو كل ذى مخلب من الطير وكل ذى حافر من الدواب وحكاه عن بعض المفسرين سمى الحافر ظفرا على الاستعارة ولعل مسبب الظلم تعميم التحريم والا فبعضها محرم فى ملة الإسلام ايضا وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما اى ما اشتمل على الظهور والجنوب أَوِ الْحَوايا عطف على ظهورهما يعنى ما اشتمل على الحوايا وهى الأمعاء جمع حاوية او حاوياء أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ يعنى شحوم الالية لاتصالها بعجب الذنب والمخ فبقى بعد الاستثناء شحوم الجوف وهى الثروب وشحوم الكلى ذلِكَ التحريم مفعول ثان لقوله تعالى جَزَيْناهُمْ عقوبة لهم بِبَغْيِهِمْ بسبب ظلمهم من قتل الأنبياء وصدهم عن سبيل الله وأخذهم الربوا وأكلهم اموال الناس بالباطل فان قيل من كان هذا شانه لا يبالى بأكل ما حرم عليه فاى عقوبة وضيق عليهم بالتحريم قلت لعل هذا التحريم لزيادة تعذيبهم فى الاخرة عن جابر بن عبد الله انه سمع رسول الله ﷺ يقول عام الفتح وهو بمكة ان الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام قيل أرأيت شحوم الميتة فانه يطلى بها السفن ويدهن بها الجلود ويستصبح فقال لا هو حرام شحومها ثم قال رسول الله لعن الله اليهود ان الله لما حرم عليهم شحومها جملوها ثم باعوه فاكلوا ثمنه رواه البخاري وغيره والله اعلم وَإِنَّا لَصادِقُونَ فى الاخبار والوعد والوعيد
فَإِنْ كَذَّبُوكَ يعنى اليهود فيما أوحيت إليك هذا فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ يمهلكم على التكذيب فلا تغتروا بامهاله فانه لا يهمل وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عذابه عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ إذا جاء وقته او المعنى ذو رحمة واسعة للمؤمنين وذو بأس شديد للمكذبين المجرمين فاقام مقامه ولا يرد بأسه للدلالة على انه لازم بهم لا يمكن رده عنهم
سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا اخبار عن مستقبل ففيه اعجاز فانه اخبار عن غيب وقع بعد ذلك وانهم لما لزمتهم الحجة وعجزوا عن جوابها استدلوا على كون ما هم عليهم مشروعا مرضيا لله تعالى بانه لَوْ شاءَ اللَّهُ خلاف ما نحن عليه ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ مما حرمناه يعنى ان الله قادر على ان يحول بيننا وبين ما نحن عليه حتى
لا نفعله فلولا انه رضى بما نحن عليه وأراد منا وأمرنا به لحال بيننا وبين ذلك وهذا الاستدلال مبنى على جهلهم وعدم تفرقهم بين المشية بمعنى الارادة وبين الرضا فان إرادته تعالى متعلق بالخير والشر ما شاء الله كان وما لم يشأ لا يكون وانه تعالى لا يرضى لعباده الكفر كَذلِكَ اى مثل ما كذبوك فى ان الله منع من الشرك ولم يرض به ولم يحرم ما حرّموه كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ رسلهم حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا عذابنا الذين أنزلنا عليهم بتكذيبهم قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ مستنبط من كتاب او حجة يفيد العلم بانه تعالى راض عن الشرك وحرم ما حرموه او المراد بالعلم امر معلوم يصح الاحتجاج به على ما زعموا فَتُخْرِجُوهُ لَنا ولتظهروا ما أفادكم ذلك العلم وليس الأمر كذلك ولا يقولون انهم يقولون عن علم إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ الحاصل بتقليد الآباء وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ تكذبون والله اعلم
قُلْ يا محمّد فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ التامة عليكم باوامره ونواهيه ولا حجة لكم بمشيته فان مشيته لا يلازم رضاه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد على مقتضى حكمته لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون احتج المعتزلة بهذه الاية على ان الكفر ليس بمشية الله تعالى وإرادته والا لما عابهم الله تعالى على قولهم لو شاء الله ما أشركنا ولما كذبهم الله فى هذا القول وبما ذكرنا لك من التفسير ظهر بطلان احتجاجهم بها وان الله تعالى لم يكذبهم فى هذا القول بل قولهم هذا يوافق قوله تعالى فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ ولم يقل الله تعالى انكم كاذبون فى هذا القول بل عابهم على تكذيبهم الرسل فى ان الله تعالى ليس براض بالكفرناه عنه ولم يحرم ما يقولونه حراما وعابهم على زعمهم ان تحريمنا البحائر وأشباهها لما كان بمشية الله فهو راض عن ذلك التحريم وان الله حرم هذه الأشياء حيث قال الله تعالى
قُلْ يا محمد هَلُمَّ اسم فعل غير منصرف يقال للواحد والتثنية والجمع عند اهل الحجاز ومعناه احضروا شُهَداءَكُمُ اى قدوتكم فى هذا القول استحضرهم ليلزم هم الحجة بأجمعهم ويظهر ضلالتهم وانه لا متمسك لهم كمن يقلدهم ولذلك قيد الشهداء بالاضافة إليهم ووصفهم بقوله الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا الذي زعموه محرما فَإِنْ شَهِدُوا بالباطل فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ اى لا تصدّقهم وبيّن لهم فسادها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا
بِآياتِنا
كان الأصل لا تتبع أهواءهم وضع المظهر موضع المضمر للدلالة على ان مكذب الآيات متبع الهوى لا غير وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ غيره من الأصنام ونحوها ولما سال المشركون النبي ﷺ عما حرمه الله تعالى بعد ظهور بطلان قولهم فى التحريم قال الله تعالى
قُلْ يا محمد تَعالَوْا امر من التعالي وأصله فيمن كان فى علو يقول لمن كان فى سفل ثم اتسع فيه بالتعميم أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ ما موصولة او مصدرية منصوبة باتل او استفهامية منصوبة بحرم والجملة مفعول اتل يعنى اتل اى شىء حرم ربكم عَلَيْكُمْ متعلق بحرم او اتل اسم فعل للاغراء بمعنى الزموا أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ ان مصدرية على تقدير كون عليكم بمعنى الزموا والا فمفسرة بفعل التلاوة يعنى اتل عليكم لا تشركوا وجاز ان يكون مصدرية فى محل الرفع تقديره المتلو ان لا تشركوا او فى محل النصب تقديره أوصيكم ان لا تشركوا ويؤيد هذا التقدير قوله تعالى ذلكم وصيكم وان يكون ان مصدرية ولا زائدة ومحلها النصب على انه بدل من الموصول او من عائده المحذوف وتقديره حرم عليكم ان تشركوا او محلها الرفع تقديره المحرم ان تشركوا به شَيْئاً من الإشراك جليا ولا خفيا او شيئا من الالهة الباطلة وَأحسنوا بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً
معطوف على لا تشركوا وضع الأمر موضع النهى عن الاساءة إليهما للمبالغة والدلالة على ان ترك الاساءة فى شانهما غير كاف وترك الإحسان بهما اساءة وان كان لا فى لا تشركوا زائدة فالتقدير حرم عليكم ان تشركوا وان تسيئوا بالوالدين بل أحسنوا إحسانا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ «١» يعنى لا تئدوا البنات مِنْ خشية إِمْلاقٍ فقر نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ فى حديث معاذ أوصاني رسول الله ﷺ بعشر كلمات قال لا تشرك بالله وان قتلت وحرقت ولا تعقن والديك وان امراك ان تخرج من أهلك ومالك الحديث رواه احمد
(١) عن على بن ابى طالب قال لما امر الله نبيه ﷺ ان يعرض نفسه على قبائل العرب خرج الى منى وانا معه وابو بكر وكان ابو بكر رجلا نسابة فوقف على منازلهم ومضاربهم بمنى فسلم عليهم وردوا السّلام وكان فى القوم مغروق بن عمر وهانى بن قبيصة والمثنى بن حادثة والنعمان ابن شريك وكان اقرب القوم الى ابى بكر مفروق قد غلب عليهم بيانا ولسانا فالتفت الى رسول الله عليه وسلم فقال الى ما تدعونا يا أخا قريش فتقدم رسول الله ﷺ وقام ابو بكر يظله بثوبه فقال النبي ﷺ أدعوكم الى شهادة ان لا اله الا الله وحده لا شريك له وانى رسول الله ولا توذونى وتضربونى وتمنعونى حتى أؤدي عن الله الذي أمرني به فان قريشا قد تظاهرت على امر الله وكذبت رسوله واعانت الباطل على الحق والله هو الغنى الحميد قال له والى ما تدعونا ايضا يا أخا قريش فتلا رسول الله ﷺ قل تعالوا اتل ما حرم ربكم عليكم ان لا تشركوا به شيئا الى قوله تتقون قال له مفروق والى ما تدعونا ايضا يا أخا قريش فو الله ما هذا من كلام اهل الأرض ولو كان من كلامهم لعرفناه فتلا رسول الله ﷺ ان الله يأمر بالعدل والإحسان الاية فقال له مفروق دعوت والله يا قرشى فى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال ولقد افك قومك كذبوك وظاهروا عليك وقال هانى بن قبيصة قد سمعتك مقالتك واستحسنت قولك يا أخا قريش وأعجبني ما تكلمت به ثم قال لهم رسول الله ﷺ لن تلبثوا الا يسيرا حتى يمنحكم الله بلادهم وأولادهم يعنى ارض فارس وانهار كسرى ويفرشكم نباتهم تسبحون الله وتقدسونه قال له النعمان بن شريك اللهم وانى ذلك لك يا أخا قريش فتلا له رسول الله ﷺ انا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا الى الله باذنه وسراجا منيرا ثم نهض رسول الله ﷺ قابضا على يد ابى بكر ١٢ [.....]
303
وفى حديث ابن مسعود قال قال رجل يا رسول الله ﷺ اى الذنب اكبر عند الله قال ان تدعو لله ندا وهو خلقك قال ثم اى قال ان تقتل ولدك خشية ان يطعم معك الحديث متفق عليه وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ كبائر الذنوب والزنا ما ظَهَرَ مِنْها من افعال الجوارح علانية وَما بَطَنَ يعنى افعال الجوارح سرا وافعال القلوب من النفاق وغيره ورذائل النفس قوله ما ظهر وما بطن بدل من الفواحش وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ قتله من مومن او معاهد أَلَّا قتلا متلبسا بِالْحَقِّ اى بحق يبيح قتله من ردة او قصاص او زنا بعد إحصان او نقض عهد او بغى او قطع طريق عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله ﷺ لا يحل دم امرئ يشهد ان لا اله الا الله وانى رسول الله الا بإحدى ثلث الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة رواه البغوي وقال الله تعالى وان نكثوا ايمانهم من بعد عهدهم وطعنوا فى دينكم فقاتلوا ائمة الكفر الاية وقال الله تعالى فان بغت إحداهما على الاخرى فقاتلوا التي تبغى وقال الله تعالى انما جزاء الذين يحاربون الله الاية
304
ذلِكُمْ من الأوامر والنواهي وَصَّاكُمْ بِهِ أمركم بحفظه لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ترشدون فان كمال العقل هو الرشد وضده السفه
وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ
فضلا من ان تأكلوه او تضيعوه بفعله إِلَّا بِالَّتِي
اى بالفعلة التي هِيَ أَحْسَنُ
ما يفعل بماله من حفظه وتثميره وصلاحه قال مجاهد هى التجارة فيه حَتَّى يَبْلُغَ
اليتيم أَشُدَّهُ
جمع شد كفلس وأفلس يعنى صفات كماله من البلوغ والرشد بعد البلوغ المنافى للسفه وقيل هى مفرد بمعنى كماله هذا القيد خرج مخرج العادة تأكيدا لا مفهوم له عند أحد فانه كان معتاد اهل الجاهلية التصرف فى ماله من ايام صباه حتى يبلغ أشده فاذا بلغ أشده منع غيره من ماله فقال الله تعالى لا تقربوا مال اليتيم فى شىء من زمان صباه واما بعد ذلك فلا يمكن لكم التصرف فيه لاجل ممانعته وقال البغوي تقدير الاية لا تقربوا مال اليتيم الا بالتي هى احسن ابدا حتى يبلغ أشده فادفعوا اليه ماله إن كان رشيدا قلت وجاز ان يكون غاية للمستثنى يعنى افعلوا بما له الفعلة التي هى احسن حتى يبلغ أشده وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ
بالعدل والتسوية وضع الأمر موضع النهى يعنى لا تنقصوا المكيال والميزان لكمال الاهتمام فى الإيفاء فان النهى يقتضى الأمر بضده التزاما والاهتمام فى المطابقة والله اعلم لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها
اى الا ما يسعها ولا يعسر عليها ذكر هذه الجملة بعد الأمر بالإيفاء بالقسط اشارة الى ان الأفضل ان يعطى من عليه الحق اكثر وأفضل مما وجب عليه تجوز او اخرج ابن مردويه بسند ضعيف من مرسل سعيد بن المسيب قال رسول الله ﷺ من اوفى على يده والميزان والله يعلم صحة نيته بالوفاء فيهما لم يواخذ وذلك تاويل وسعها قال رسول الله ﷺ فى أداء ثمن فرس وجب عليه زن وأرجح رواه احمد وابو داؤد والترمذي وابن ماجة والحاكم وصححه عن سويد بن قيس وفى الصحيحين عن ابى هريرة ان رجلا اتى النبي ﷺ يتقاضاه فاغلظ له فهم به بعض أصحابه فقال رسول الله ﷺ دعوه فان لصاحب الحق مقالا ثم قال أعطوه سنا مثل سنه قالوا يا رسول الله لا نجد الا أمثل من سنه قال أعطوه فان خيركم أحسنكم قضاء وهو عند مسلم من حديث ابى رافع بمعناه وعن ابى هريرة قال اتى النبي ﷺ برجل يتقاضاه قد استسلف منه شطر وسق فاعطاه وسقا فقال نصف وسق
305
لك ونصف وسق من عندى ثم جاء صاحب الوسق يتقاضاه فاعطاه وسقين فقال وسق لك ووسق من عندى رواه الترمذي وسنده لا بأس به وكذا الأفضل ان يرضى صاحب الحق من حقه سماحة عن جابر قال قال رسول الله ﷺ رحم الله رجلا سمحا إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى رواه البخاري لكن الله سبحانه لم يوجب إعطاء اكثر مما وجب عليه ولا الرضا باقل مما له تفضلا فان ذلك شاق على النفوس وذلك قوله تعالى لا يكلف الله نفسا الا وسعها وهذه الأحاديث يؤيد مذهب الشافعي حيث قال ان اهدى المستقرض الى المقرض شيئا او حمله على دابة او اسكنه فى داره ولم يكن ذلك عادة بينهما او اعطى اكثر مما أخذ منه او أجود يجوز ذلك ان كان بغير شرط سبق خلافا للائمة الثلاثة فان ذلك يكره عندهم ولا يحل له أخذ ذلك وقد مر المسألة فى سورة البقرة فى تفسير اية المداينة وَإِذا قُلْتُمْ
فى الحكم او الشهادة فَاعْدِلُوا
فيه وَلَوْ كانَ
المقول له او عليه ذا قُرْبى
لكم هذا ايضا امر وضع موضع النهى عن الجور والكذب تأكيدا فى العدالة حتى لا يجوز الشهادة على الظن والتخمين بل على كمال العلم كما يدل عليه لفظة الشهادة قال رسول الله ﷺ عدلت شهادة الزور بالاشراك بالله ثلث مرات ثم قرأ فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور حنفاء لله غير مشركين به رواه ابو داؤد وابن ماجة عن خريم بن فاتك واحمد والترمذي عن ايمن بن خريم الا ان ابن ماجة لم يذكر القراءة وعن بريدة قال قال رسول الله ﷺ القضاة ثلثة واحد فى الجنة واثنان فى النار فاما الذي فى الجنة فرجل عرف الحق فقضى به ورجل عرف الحق فجار فى الحكم فهو فى النار ورجل قضى للناس
على جهل فهو فى النار رواه ابو داؤد وَبِعَهْدِ اللَّهِ
يعنى بما عهد إليكم من ملازمة العدل وتادية احكام الشرع من الأوامر والنواهي او بالنذر واليمين أَوْفُوا
هذا ايضا امر فى موضع النهى تأكيدا يعنى لا تنقضوا عهد الله بعد ميثاقه ولا تنقضوا الايمان بعد توكيدها ومقتضى التأكيد والمبالغة فى إتيان الأوامر والنواهي ان يجتنب الشبهات قال رسول الله ﷺ الحلال بين والحرام بين وبينهما امور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى المشتبهات استبرأ لعرضه ودينه ومن وقع فى المشتبهات وقع فى الحرام كراع يرحى حول الحمى يوشك ان يوقعه الحديث متفق عليه من حديث النعمان بن بشير وروى الطبراني فى الصغير بسند
306
صحيح عن عمر مرفوعا الحلال بين والحرام بين دع ما يريبك الى ما لا يريبك ذلِكُمْ
ما ذكر وَصَّاكُمْ
أمركم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
قرأ حمزة والكسائي وحفص بتخفيف الذال حيث وقع فى القران إذا كان بالتاء الفوقانية بحذف احدى التاءين من التفعل والباقون بتشديد الذال وأصله تتذكرون
وَأَنَّ هذا قرأ حمزة والكسائي بكسر الهمزة على الاستيناف والباقون بفتح الهمزة لكن قرأ ابن عامر ويعقوب بإسكان النون على انها محففة من المثقلة واسمه ضمير الشان محذوف والباقون بالتشديد قال الفراء تقديره واتل عليكم ان هذا صِراطِي قرأ ابن عامر بفتح الياء والباقون بإسكانها مُسْتَقِيماً حال من الصراط والعامل معنى الاشارة يعنى ان هذا الذي ذكر فى جمع السورة من التوحيد والنبوة والشرائع طريقى ودينى قلت وجاز ان يكون ان فى محل الجر عطفا على الضمير المجرور فى وصيكم به يعنى ووصيكم بان وقال البيضاوي بتقدير اللام على انه علة لقوله تعالى فَاتَّبِعُوهُ وقيل المشار اليه بهذا ما فى هذه الآيات قال البغوي هذه الآيات محكمات لم ينسخهن شىء وهن محرمات فى جميع الشرائع على بنى آدم كلهم وهن أم الكتاب من عمل بهن دخل الجنة ومن تركهن دخل النار وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ اى الطرق المختلفة على حسب الأهواء فان مقتضى الشرع اتباع الكتاب والسنة فيما أدركه العقل وفيما لم يدركه ومقتضى اتباع الآراء الفاسدة انه ان وافقها الكتاب والسنة قبلوهما وان خالفها اوّلوا الكتاب واتبعوا الأهواء وهذا منشأ اختلاف الشيع فصارت روافض وخوارج ومجسمة وجبرية وقدرية وغيرهم وقد ذكرنا هذه المسألة فى سورة البقرة فى تفسير قوله تعالى كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا اظلم عليهم قاموا فَتَفَرَّقَ تلك السبل بِكُمْ ويزيلكم عَنْ سَبِيلِهِ الذي هو اتباع الوحى ذلِكُمْ الاتباع وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الضلال والتفرق عن الحق عن عبد الله بن مسعود قال خط لنا رسول الله ﷺ خطا ثم قال هذا سبيل الله ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله وقال هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو اليه وقرأ ان هذا صراطى مستقيما فاتبعوه الاية رواه احمد والنسائي والدارمي وعن عبد الله بن عمر وقال قال رسول الله ﷺ لا يومن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به رواه البغوي فى شرح السنة وقال النووي فى اربعينه هذا حديث صحيح
ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ
عطف على وصيكم وثم للتراخى فى الاخبار يعنى ثم أخبركم انا اتينا موسى الكتاب او للتفاوت فى الرتبة كانه قيل ذلكم وصّاكم به قديما وحديثا ثم أعظم من ذلك انا اتينا موسى الكتاب او عطف على قل بتقدير قل يعنى ثم قل اتينا موسى الكتاب او يقال ثم مع الجملة يأتي بمعنى الواو كما فى قوله تعالى ثم الله شهيد قلت ويمكن ان يقال ان قوله تعالى وصيكم خطاب للناس أجمعين من لدن آدم عليه السلام الى الان تغليبا للحاضرين على الغائبين وثم للتراخى فى الحكم والمعنى وصيناكم ايها الناس من بدو خلقكم بما ذكرنا من الشرائع فانها لم تزل فى جميع الشرائع ثم اتينا موسى الكتاب وشرعنا فيه احكاما اخر تَماماً للنعمة والكرامة عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ القيام بالشرائع المتقدمة واما من لم يؤمن بالله وحده ولم يأت بالشرائع المذكورة فلا انتفاع له بالتورية ولا بالقران ولم يتم النعمة والمراد بالذي احسن موسى عليه السلام يعنى تماما عليه النعمة وقيل الذي احسن بمعنى من احسن يعم الواحد والجميع يعنى تماما على من احسن من قوم موسى يدل عليه قراءة ابن مسعود على الذين أحسنوا وقال ابو عبيدة معناه على كل من احسن يعنى اتممنا فضل موسى بالكتاب على المحسنين يعنى أظهرنا فضله عليهم والمحسنون الأنبياء وَتَفْصِيلًا بيانا مفصلا لِكُلِّ شَيْءٍ يحتاج اليه فى الدين وهو عطف على تماما ونصبهما مع ما عطف عليهما للعلية او الحالية او المصدرية وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ اى الناس فى زمن موسى يعنى بنى إسرائيل بِلِقاءِ رَبِّهِمْ اى بالبعث والثواب والعقاب يُؤْمِنُونَ وَهذا القران كِتابٌ أَنْزَلْناهُ عليك بعد موسى مُبارَكٌ اكثر خيرا وبركة من التورية لوجازة نظمه وكثرة علومه وكونه بمنزلة المركز من المحيط للدائرة فَاتَّبِعُوهُ فى نسخ احكام التورية وَاتَّقُوا عذاب الله فى مخالفته لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ باتباعه
أَنْ تَقُولُوا خطاب لاهل مكة يعنى لئلا تقولوا او كراهة ان تقولوا علة لانزلناه وقال الكسائي معناه واتقوا ان تقولوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا يعنى اليهود والنصارى والاختصاص بانما لان الباقي المشهور من الكتب السماوية حينئذ لم يكن غير التورية والإنجيل وَإِنْ مخففة من الثقيلة ولذا دخلت اللام الفارقة فى خبرها كُنَّا يعنى وانه كنا عَنْ دِراسَتِهِمْ قراءتهم لَغافِلِينَ لم تعرف الشرائع لكوننا امة أميين فبعث الله محمّدا ﷺ وانزل القران ليكون حجة على الكافرين من اهل مكة
ويزيل اعتذارهم ويكون رحمة للعالمين
أَوْ تَقُولُوا عطف على الاول يعنى او كراهة ان تقولوا لَوْ ثبت أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ كما انزل على من قبلنا لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ قال البغوي وقد قال جماعة من الكفار لو انا انزل علينا كما انزل على اليهود وا النصارى لكنا خيرا منهم قال الله تعالى فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ حجة واضحة بلغة تعرفونها وتعجزون عن إتيان اقصر سورة مثلها وَهُدىً بيانا لمن تأمل فيها وَرَحْمَةٌ نعمة لمن عمل بها جزاء شرط محذوف يعنى ان صدقتم فيما قلتم فقد جاءكم ما تمنيتم مع وضوح كونه حجة ساطعة وبرهانا قاطعا فَمَنْ يعنى لا أحد أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ بعد وضوح كونها من الله وبعد تمنى مجيئها وَصَدَفَ يعنى اعرض أو صد عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا وضع الظاهر موضع المضمر للمبالغة فى ذمهم سُوءَ الْعَذابِ اى شدته بِما كانُوا يَصْدِفُونَ اى باعراضهم او صدهم
هَلْ يَنْظُرُونَ استفهام للانكار اى ما ينتظرون اهل مكة لايمانهم بالقران إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ قرأ حمزة والكسائي بالياء التحتانية هاهنا وفى النحل على التذكير والباقون بالفوقانية لكون الفاعل مؤنثا غير حقيقى الْمَلائِكَةُ يعنى ملئكة الموت او ملئكة العذاب او ملئكة يشهدون عيانا بصدق الرسول وحقية القران والحاصل انهم لما لم يؤمنوا بعد مجئ ما كانوا يتمنون مجيئه وبعد وضوح امره وسطوع برهانه فلعلهم ينتظرون إتيان الملئكة حتى يومنوا حينئذ مع ان الايمان فى تلك الحالة غير مفيد وقال البيضاوي معناه ما ينتظرون الا إتيان الملئكة شبهوا بالمنتظرين لما كان يلحقهم لحوق المنتظر وجاز ان يكون المراد بإتيان الملئكة نزولهم يوم القيامة فى الموقف كما يدل عليه قوله تعالى أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ بلا كيف لفصل القضاء بين خلقه فى موقف القيامة وقد مر نظير هذه الاية فى سورة البقرة هل ينظرون الا ان يأتيهم الله فى ظلل من الغمام والملئكة وقضى الأمر وقد مر تفسيره وما فيه خلاف السلف والخلف وما يليق ويتعلق به من الكلام هناك فليرجع اليه أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يعنى اشراط الساعة قال البغوي يعنى طلوع الشمس من مغربها وعليه اكثر المفسرين ورواه ابو سعيد الخدري مرفوعا «١»
(١) عن ابن عباس قال خطبنا عمر فقال ايها الناس ستكون قوم من هذه الامة يكذبون بالرجم ويكذبون بالدجال ويكذبون بطلوع الشمس من مغربها ويكذبون بعذاب القبر ويكذبون بالشفاعة ويكذبون بقوم يخرجون من النار بعد ما امتحشوا ١٢ منه
309
(فصل) فى اشراط الساعة عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال اطلع النبي ﷺ ونحن نتذاكر فى الساعة فقال انها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات فذكر الدخان والدجال والدابة وطلوع الشمس من مغربها ونزول عيسى بن مريم ويأجوج وماجوج وثلث خسوف خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب واخر ذلك نار يخرج من اليمن يطرد الناس الى محشرهم وفى رواية نار يخرج من قعر عدن يسوق الناس الى المحشر وفى رواية العاشر ريح تلقى الناس فى البحر رواه مسلم وعن عبد الله بن عمر وقال سمعت رسول الله ﷺ يقول ان أول الآيات خروجا طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة على الناس ضحى وأيهما كانت قبل صاحبتها فالاخرى على اثرها قريبا رواه مسلم وعن النواس بن سمعان قال ذكر رسول الله ﷺ الدجال فقال ان يخرج وانا فيكم فانا حجيجه دونكم وان يخرج ولست فيكم فامرء حجيج نفسه والله خليفتى على كل مسلم انه شاب قطط عينه طافية كانى أشبهه بعبد العزى بن قطن فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف فانها جواركم من فتنته انه خارج خلة بين الشام والعراق فعاث يمينا وعاث شمالا يا عباد الله فاثبتوا قلنا يا رسول الله وما لبثه فى الأرض قال أربعون يوما يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة وساير أيامه كايامكم قلنا فذلك اليوم الذي كسنة أيكفينا فيه صلوة يوم قال لا اقدروا له قدره قلنا يا رسول الله وما اسراعه فى الأرض قال كالغيث استدبرته الريح فياتى على القوم فيدعوهم فيؤمنون به فيأمر السماء فتمطر والأرض فتنبت فتروح عليهم سارحتهم أطول ما كانت ذرعا واسبغه ضروعا وامده خواصر ثم يأتي القوم فيدعوهم فيردون عليه قوله فينصرف منهم فيصبحون محلين ليس بايديهم شىء من أموالهم ويمر بالخرية فيقول بها اخرجى كنوزك فتتبعه كنوزها كيعا سيب النحل ثم يدعو رجلا ممتليا شبابا فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين رمية الغرض ثم يدعوه فيقبل ويتهلل وجهه يضحك فبينما هو كذلك إذ بعث الله المسيح بن مريم فينزل عند المنارة البيضاء شرقى دمشق بين مهروذتين واضعا كفيه على اجنحة ملكين إذا طاطأ راسه قطر وإذا رفعه تحدر منه مثل جمان «١» كاللؤلؤء فلا يحل لكافر يجد من ريح نفسه إلا مات ونفسه
(١) حب يتخذ من الفضة ١٢
310
ينتهى حيث ينتهى طرفه فيطلبه حتى يدركه بباب لدّ فيقتله ثم يأتي عيسى قوم قد عصمهم الله منه فيمسح عن وجوههم ويحدثهم بدرجات فى الجنة فبينما هو كذلك إذ اوحى الله الى عيسى انى قد أخرجت عبادا لى لا يدان لاحد لقتالهم فحرز عبادى الى الطور ويبعث الله يأجوج وماجوج وهم من كل حدب ينسلون فيمر اوائلهم على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها ويمر آخرهم فيقولون لقد كان بهذه مرة ماء ثم يسيرون حتى ينتهوا الى جبل الخمر وهو جبل بيت المقدس فيقولون لقد قتلنا من فى الأرض هلم فلنقتل من فى السماء فيرمون بنشابهم الى السماء فيرد الله عليهم نشابهم مخضوبة دما ويحصر نبى الله وأصحابه حتى يكون راس الثور لاحدهم خيرا من مائة دينار لاحدكم اليوم فيرغب نبى الله عيسى وأصحابه فيرسل الله عليهم النغف فى رقابهم فيصبحون فرسى كموت نفس واحدة ثم يهبط نبى الله عيسى وأصحابه الى الأرض فلا يجدون فى الأرض موضع شبر إلا ملأه زهمهم «١» ونتنهم فيرغب نبى الله عيسى وأصحابه الى الله فيرسل الله طيرا كاعناق البخت فيحملهم فيطرحهم حيث شاء الله وفى رواية فيطرحهم فى النهبل «٢» ويستوقد المسلمون من قسيهم ونشابهم وجعابهم سبع سنين ثم يرسل الله مطرا لا يكن منه بيت مدر ولا وبر فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلفة «٣» ثم يقال للارض أنبتي ثمرتك وردى بركتك فيومئذ يأكل العصابة من الرمانة ويستظلون بقحفها ويبارك فى الرسل حتى ان اللقحة من الإبل لتكفى القيام من الناس واللقحة من البقر لتكفى القبيلة من الناس واللقحة من الغنم لتكفى الفخذ من الناس فبينما هم كذلك إذ بعث الله ريحا طيبة فتاخذهم تحت اباطهم فيقبض روح كل مؤمن وكل مسلم ويبقى شرار الناس يتهارجون يختلطون منها تهارج الحمر فعليهم يقوم الساعة رواه مسلم الا الرواية الثانية وهى قوله يطرحهم بالنهبل الى قوله سبع سنين رواه الترمذي وعن حذيفة عن النبي ﷺ ان الدجال يخرج وان معه ماء ونار فاما الذي يراه الناس ماء فنار يحرق واما الذي يراه الناس نارا فماء بارد عذب فمن أدرك ذلك منكم فليقع فى الذي يراه نارا فانه ماء عذب طيب متفق عليه وزاد مسلم وان الدجال
(١) فرسى قتلى زهم رائحة اللحم ١٢
(٢) قال صاحب القاموس فى الترمذي فى حديث الدجال فيطرحهم بالنهبل وهو تصحيف والصواب بالميم ١٢
(٣) الزلفة جمعها زلف مصانع الماء وقيل الروضة ١٢
311
ممسوح العين عليها ظفرة غليظة مكتوب بين عينيه كافر يقرأه كل مؤمن كاتب وغير كاتب وفى الصحيحين من حديث ابى هريرة انه يجئ ومعه مثل الجنة والنار فالتى يقول انها الجنة هى النار وكذا عند مسلم من حديث حذيفة وفى حديث ابى سعيد عند مسلم إذ راه يعنى الدجال المؤمن قال يا ايها الناس هذا الدجال الذي ذكر رسول الله ﷺ فيأمر الدجال فيوشر بالميشار من مفرقه حتى يفرق بين رجليه ثم يمشى الدجال بين القطعتين ثم يقول قم فيستوى قائما ثم يقول أتؤمن بي فيقول ما ازددت منك الا بصيرة الحديث وفى حديث اسماء بنت يزيد رواه احمد ان من أشد فتنة الدجال انه يأتي الاعرابى فيقول ارايت ان أحييت لك إبلك الست تعلم انى ربك فيقول بلى فيتمثل له الشياطين نحو ابله كاحسن ما يكون ضروعا وأعظمه اسمنة ويأتي الرجل قد مات اخوه ومات أبوه فيقول ارايت ان أحييت لك أباك وأخاك الست تعلم انى ربك فيقول بلى فيتمثل له الشيطان نحو أبيه ونحو أخيه الحديث.
(فصل) ويكون قبل تلك الآيات ظهور المهدى عن ابن مسعود قال قال رسول الله ﷺ لو لم يبق من الدنيا الا يوم لطول الله ذلك اليوم حتى يبعث الله فيه رجلا منى او من اهل بيتي يواطى اسمه اسمى واسم أبيه اسم ابى يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا وروى الترمذي بلفظ لا يذهب الدنيا حتى يملك العرب رجل من اهل بيتي اسمه اسمى وعن أم سلمة عن النبي ﷺ يكون اختلاف عند موت خليفة فيخرج رجل من اهل المدينة هاربا الى مكة فياتيه ناس من اهل مكة فيخرجونه وهو كاره فيبايعونه بين الركن والمقام ويبعث اليه بعث من الشام فيخسف بهم بالبيداء بين مكة والمدينة فاذا راى الناس ذلك أتاه ابدال الشام وعصائب اهل العراق فيبايعونه ثم ينشا رجل من قريش أخواله كلب فيبعث إليهم بعثا فيظهرون عليهم ذلك بعث كلب ويعمل فى الناس بسنة نبيهم ويلقى الإسلام بجرانه فى الأرض فيلبث سبع سنين ثم يتوفى ويصلى عليه المسلمون رواه ابو داؤد وروى ابو داؤد عن على انه نظر الى ابنه الحسن وقال ان ابني هذا سيد كما سماه رسول الله ﷺ وسيخرج من صلبه رجل يسمى باسم نبيكم يشبهه فى الخلق ولا يشبهه فى الخلق يملأ الأرض عدلا وعن ابى سعيد فى قصة المهدى قال فيجئ رجل فيقول يا مهدى أعطني أعطني قال
312
فيحثى له فى ثوبه ما استطاع ان يحمله رواه الترمذي وعند الحاكم فى المستدرك يرضى عنه ساكن السماء وساكن الأرض لا يدع السماء من قطرها شيئا إلا صبته مدرارا ولا يدع الأرض من نباتها شيئا الا أخرجته حتى يتمنى الاحياء الأموات يعيش فى ذلك سبع سنين او ثمان او تسع يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها حينئذ كالمحتضر إذا صار الأمر عيانا والايمان واجب بالغيب لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ الجملة صفة لنفس أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً عطف على امنت احتج بهذه الاية من لم يعتبر الايمان المجرد عن العمل لان معنى الاية انه لا ينفع الايمان حينئذ نفسا لم يؤمن قبل ذلك اليوم ولا نفسا لم تكسب قبل ذلك اليوم خيرا فى إيمانها قلنا هذه الاية لا تدل على عدم نفع ايمان من لم يكسب فيه خيرا مطلقا بل على عدم نفع إيمانه فى ذلك اليوم خاصة وايضا أحد الامرين على التنكير إذا جاءت فى حيز النفي يعم الامرين كما فى قوله تعالى لا تطع منهم اثما او كفورا يعنى لا تطع اثما ولا كفورا فمعنى الاية لا ينفع الايمان نفسا لم تومن ولم تكسب فيه خيرا وقال البغوي معنى الاية لا يقبل حينئذ ايمان كافر ولا توبة فاسق فالمراد بالايمان فى إيمانها التوبة بعموم المجاز فانه يشتمل التوبة عن الكفر والتوبة عن المعاصي قال رسول الله ﷺ ان الله عز وجل جعل بالمغرب بابا مسيرة عرضه سبعون عاما للتوبة لا يغلق ما لم يطلع الشمس من قبله وذلك قوله تعالى يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن امنت من قبل رواه الترمذي وابن ماجة من حديث صفوان بن عسال وروى مسلم من حديث ابى موسى الأشعري قال قال رسول الله ﷺ ان الله يبسط يده بالليل ليتوب مسئ النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسئ الليل حتى تطلع الشمس من مغربها وروى مسلم من حديث ابى هريرة قال قال رسول الله ﷺ من تاب قبل ان تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه وروى احمد وابو داؤد والدارمي عن معاوية قال قال رسول الله ﷺ لا ينقطع الهجرة حتى ينقطع التوبة ولا ينقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها هذه الأحاديث تدل على ان المراد بالايمان فى قوله تعالى لا ينفع نفسا إيمانها التوبة وقد ورد الأحاديث بلفظ الايمان من غير لفظ التوبة منها ما روى البغوي بسنده عن ابى هريرة قال قال رسول الله ﷺ لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس
313
من مغربها فاذا طلعت وراها الناس أمنوا أجمعون وحينئذ لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن امنت من قبل او كسبت فى إيمانها خيرا وروى مسلم عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم ثلث إذا خرجن لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن امنت من قبل او كسبت فى إيمانها خير الدجال والدابة وطلوع الشمس من مغربها وتاويل هذه الأحاديث لا يكون الا ان يقال معناه لا ينفع نفسا لم تكن امنت من قبل وكسبت فى إيمانها خيرا إيمانها اى تحصيل الايمان فى ذلك اليوم بعد ما لم يكن.
(فائدة) ولعل قوله تعالى لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن امنت من قبل او كسبت فى إيمانها خيرا تدل على ان من كان كافرا قبل ذلك لا يقبل إيمانه بعد ذلك واما من ولد بعد ذلك او أدرك العقل والبلوغ بعد ذلك وأمن فالظاهر انه يقبل إيمانه قال رسول الله ﷺ ينزل عيسى بن مريم الى الأرض فيتزوج ويولد له ويمكث خمسا وأربعين سنة ثم يموت فيدفن معى فى قبرى فاقوم انا وعيسى بن مريم فى قبر واحد بين ابى بكر وعمر رواه ابن الجوزي فى كتاب الوفاء عن ابن عمر قُلِ انْتَظِرُوا يا اهل مكة إِنَّا مُنْتَظِرُونَ وعيد لهم يعنى حينئذ لنا الفوز وعليكم العذاب
إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ قرأ حمزة والكسائي فارقوا من المفاعلة يعنى خرجوا من دينهم وتركوه والباقون فرقوا من التفعيل يعنى أمنوا ببعض وكفروا ببعض او المعنى انهم صاروا فرقا مختلفة قال مجاهد وقتادة والسدى هم اليهود والنصارى تهود قوم وتنصر قوم وكان دين واحدا وهذا ليس بسديد لان تهودهم ابتنى على بعثة موسى ومجيئه بشرع جديد وتنصر آخرين على بعثة عيسى وكان اصول دين اليهود والنصارى واحدا هى اصول دين ابراهيم وانما كفر يهود بانكارهم نبوة عيسى ومحمد صلى الله عليهما وكفر نصارى بانكار نبوة محمد ﷺ وذا ليس بمراد من هذه الاية بل المراد هاهنا تخليطهم فى دينهم ما ليس منه باهوائهم وإغواء الشيطان فالذين افترقوا فى دينهم يعم الذين اتبعوا اهوائهم من الأمم السابقة ومن اصحاب البدع والأهواء من هذه الامة عن عبد الله بن عمر وقال قال رسول الله ﷺ لياتين على أمتي كما اتى على بنى إسرائيل حذو النعل بالنعل حتى ان من كان منهم
314
اتى امه علانية لكان من أمتي من يصنع ذلك وان بنى إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة وتفرق أمتي على ثلث وسبعين ملة كلهم فى النار إلا ملة واحدة قالوا من هى يا رسول الله قال ما انا عليه وأصحابي رواه الترمذي وفى رواية احمد وابى داؤد عن معاوية ثنتان وسبعون فى النار وواحدة فى الجنة وهى الجماعة وانه سيخرج فى أمتي أقوام يتجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب لصاحبه لا يبقى منه زق ولا مفصل إلا دخله وفى رواية من حديث ابى هريرة افترقت اليهود احدى وسبعين فرقة كلهم فى الهاوية الا واحدة وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة كلهم فى الهاوية الا واحدة وتفترق أمتي على ثلث وسبعين فرقة كلها فى الهاوية الا واحدة رواه ابو داؤد والترمذي وصححه وابن ماجة وابن حبان والحاكم وصححه قال البغوي روى عن عمر بن الخطاب ان رسول الله ﷺ قال لعائشة يا عائشة ان الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا هم اصحاب البدع واصحاب الأهواء من هذه الامة أخرجه الطبراني وغيره بسند جيد واخرج الطبراني بسند صحيح عن ابى هريرة عنه ﷺ نحوه وعن العرباض بن سارية قال صلى بنا رسول الله ﷺ ذات يوم ثم اقبل بوجهه فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب فقال رجل يا رسول الله كانّ هذا موعظة مودع فاوصنا فقال أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وان كان عبدا حبشيا فان من يعشى منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فان كل محدث بدعة وكل بدعة ضلالة رواه احمد وابو داؤد والترمذي وابن ماجة الا انهما لم يذكرا الصلاة وعن ابن عمر قال قال رسول الله ﷺ اتبعوا السواد الأعظم ومن شذ شذ فى النار ذكره صاحب المصابيح ورواه ابن ماجة عن انس وعن ابن عمر قال قال رسول الله ﷺ ان الله لا يجمع أمتي على ضلالة ويد الله على الجماعة ومن شذ شذ فى النار رواه الترمذي وعن معاذ ابن جبل قال قال رسول الله ﷺ إياكم والشعاب وعليكم بالجماعة وو العامة وعن ابى ذر رضى الله عنه قال قال رسول الله ﷺ من فارق الجماعة شبرا فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه رواه احمد وابو داؤد والجماعة جماعة الصحابة
315
ومن تبعهم اعلم ان الله تعالى بعث محمدا ﷺ وأعطاه كتابه ومثله معه من العلم بالوحى الغير المتلو ومن الكتاب نصوص محكمات لا شبهة فى مرادها واخر خفيات مرادها ومشكلات ومجملات ومتشابهات التزم الله سبحانه على نفسه بيانها للنبى ﷺ حيث قال ثم ان علينا بيانه ثم علم رسول الله ﷺ ما علمه الله أصحابه وعلموه حتى انتهى إلينا فسعادة ابن آدم ان يتبع كتاب الله وسنة
رسوله واجماع الصحابة والتابعين ويتبع فى تاويل ما خفى مراده من الكتاب والسنة ما اختاره الصحابة من التأويل واما اهل الأهواء اتبعوا عقولهم وأهواءهم فما وافق من الكتاب آرائهم أخذوه وأمنوا به وما لم يصاعده عقولهم أنكروه وكفروا به فانكروا روية الله سبحانه فى الاخرة وعذاب القبر ووزن الأعمال والصراط والحساب وكون كلام الله غير مخلوق وغير ذلك مما نطق به الكتاب والسنة واجمع عليه الصحابة ففارقوا دينهم وفرقوا كتاب الله أمنوا ببعضه وكفروا ببعضه هذا طريق المعتزلة وكثير منهم وقالوا بوجوب الأصلح على الله سبحانه وامتناع المغفرة وأنكروا القدر وقالوا ان العبد خالق لافعاله دون الله تعالى ولذلك سموا بمجوس هذه الامة قال رسول الله ﷺ القدرية مجوس هذه الامة ان مرضوا فلا تعودوهم وان ماتوا فلا تشهدوهم رواه احمد وابو داؤد من حديث ابن عمر وقال عليه السلام صنفان من أمتي ليس لهما فى الإسلام نصيب المرجئة والقدرية رواه الترمذي وعن عائشة قالت قال رسول الله ﷺ ستة لعنتهم لعنهم الله وكل نبى يجاب الزائد فى كتاب الله والمكذب بقدر الله والمتسلط بالجبروت ليعز من اذله الله ويذل من أعزه الله والمستحل لحرم الله والمستحل من عترتى ما حرم الله والتارك لسنتى رواه البيهقي فى المدخل ورزين فى كتابه قلت الزائد فى كتاب الله الروافض يزعمون غير ما بين فى المصحف قرانا ويحكمون ان الصحابة أخرجوه من القران ولا يومنون بقوله تعالى انا له لحافظون والمكذب بقدر الله القهرية والمستحل من عترته ﷺ الخوارج والتارك لسنة سائر المبتدعة ومن اهل الهواء من اتبع متشابهات الكتاب بناء على زيغ فى قلوبهم ولم يقتفوا السلف فى تأويلها والايمان بها وذلك داب المجسمة والمشبهة وأمثالهم
316
واما الروافض ففارقوا دينهم بالكلية فان الدين مستفاد من الكتاب والسنة والإجماع فهم تركوا كتاب الله وأنكروا الوثوق عليه حيث قالوا ان عثمان حذف من القران قريبا من الربع وزاد فيه ما زاد وتركوا سنة رسول الله ﷺ حيث ادعوا كفر جميع الصحابة وارتدادهم ولا سبيل الى معرفة الأحاديث الا بالسمع ولا يتصور السمع الا بتوسط الصحابة وأنكروا اجماع الصحابة وبنوا دينهم على مفتريات مزخرفات نسبوه الى الائمة جعفر الصادق ومحمد الباقر وابائه الكرام ولما ثبت بالتواتر اثار الائمة مطابقا لاثار الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين ادعوا افتراض التقية وقالوا كان ظاهر كلام الائمة مبنيا على التقية وما وصل إلينا علموا أسلافنا سرّا مختفين قائلين لا تفشوا هذه الاسرار فان للجدران أذان وأنت تعلم ان ما كان مرويا على سبيل الإخفاء والاسرار لا يحتمل الشهرة والتواتر وان اخبار الآحاد وإن كان من الثقات لا يفيد العلم الا الظن وان الظن لا يغنى من الحق شيئا كيف إذا كان روات الاخبار احادا من الكذابين الا بالسنة مثل عبد الله بن سبا يهودى المنافق وهشام بن سالم وهشام بن حكم وزيد بن جهيم الهلالي وشيطان الطاق وديك الجن الشاعر وغيرهم ذكرنا أحوالهم واحوال غيرهم من رجال الروافض فى السيف المسلول فلعل من اعجاز القران الاشارة الى فرق الروافض الذين يسمون أنفسهم شيعة بقوله تعالى وَكانُوا شِيَعاً اى فرقا تشيع كل فرقة منهم اماما على زعمهم عن على عليه السّلام قال قال لى رسول الله ﷺ فيك مثل من عيسى أبغضه اليهود حتى بهتوا امه وأحبته النصارى حتى أنزلوه بالمنزلة التي ليست له ثم قال على يهلك فىّ رجلان محب مفرط يفرطنّنى بما ليس فى ومبغض يحمله شنآنى على ان يبهتنى رواه احمد وعن على قال قال رسول الله ﷺ يكون فى أمتي قوم يسمعون الرافضة يرفضون الإسلام رواه البيهقي وعنه عليه السلام عن النبي ﷺ قال سياتى بعدي قوم لهم نيز يقال لهم الرافضة فان أدركتهم فاقتلهم فانهم مشركون قال قلت يا رسول الله ما العلامة فيهم قال يفرظونك بما ليس فيك ويطعنون على السلف رواه الدارقطني واخرج الدار قطنى من طريق اخر نحوه وزاد فيه ينتحلون حبنا اهل البيت وليسوا كذلك
واية ذلك انهم يسبون أبا بكر وعمرو فى الباب أحاديث اخر ذكرناها فى السيف المسلول لَسْتَ يا محمد مِنْهُمْ
317
فِي شَيْءٍ
يعنى أنت بريء منهم وهم براء منك يقول العرب ان فعلت كذا فلست منى ولا انا منك إِنَّما أَمْرُهُمْ فى الجزاء والمكافاة إِلَى اللَّهِ يعنى يجزيهم على قدر تباعدهم عن الحق ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ إذا وردوا يوم القيامة يعنى يجزون اولا على تفرقهم فى دينهم وسوء اعتقادهم ثم يجزون على أفعالهم ومعاصيهم
مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها اى فله جزاء عشر حسنات أمثال ما فعل من الحسنة حذف المضاف الى عشر وأقيم صفة الجنس المميز مقام الموصوف ولى فى هذا المقام إشكال وذلك ان جزاء الحسنات والسيئات مقدر بتقدير الله تعالى لا مدخل للراى فيه إذ لا مماثلة بين عمل وجزائه يعرف بالحس او العقل او غير ذلك فالجزاء للحسنة ما قدر الله تعالى له جزاء الا ترى الى ان اجرة أجير يستاجر فى الدنيا بعمل انما يتقدر بالعقد إذ لا مماثلة بين العمل والدراهم مثلا فعلى هذا لا يتصوران يقال من عمل حسنة يعطى له جزاء عشر أمثالها الا إذا كانت تلك الحسنة تجزى فى بعض الافراد بعشر هذا الجزاء فانه ان اعطى رجل على عمل درهما واعطى اخر على تلك العمل عشرة دراهم يقال حينئذ اعطى هذا جزاء عشرة أمثال عمله واما إذا كان كل أحد مثلا يعطى على مثل تلك العمل عشرة دراهم فيكون حينئذ جزاء هذا العمل عشرة دراهم ليس الا عشرة فكيف يقال انه اعطى جزاء عشرة أمثال عمله فالظاهر عندى فى تاويل الاية انها ليست على عمومه وان جزاء كل حسنة أدناه مقدر فى علم الله تعالى بتقدير الله تعالى يعطى بعض المكلفين ذلك الأدنى ثم يضاعف الله تعالى ذلك الجزاء على حسب اخلاص العبد ومراتب قربه من الله تعالى او تفضلا منه تعالى لمن يشاء من عباده فيضاعف من يشاء عشر أمثالها الى سبعين او الى سبعمائة ضعف الى ما شاء الله بغير حساب ويدل على ما قلت حديث ابى هريرة قال قال رسول الله ﷺ إذا احسن أحدكم إسلامه فكل حسنة يعملها تكتب بعشر أمثالها الى سبعمائة ضعف وكل سيئة يعملها تكتب له بمثلها حتى يلقى الله عز وجل متفق عليه وجه الدلالة انه عليه السّلام علق التضعيف بحسن إسلامه وحسن الإسلام بتصفية القلب وتزكية النفس المستوجبان للاخلاص فى العمل ويمكن ان يقال ثواب رجل من رجال امة محمد ﷺ عشرة أمثال ثواب رجل من الأمم السالفة
318
يدل عليه حديث ابن عمر عن رسول الله ﷺ انما اجلكم من أجل من خلا من الأمم ما بين العصر الى مغرب الشمس وانما مثلكم ومثل اليهود والنصارى كرجل استعمل عمالا فقال من يعمل لى الى نصف النهار على قيراط قيراط فعملت اليهود الى نصف النهار على قيراط قيراط ثم قال من يعمل لى من نصف النهار الى صلوة العصر على قيراط قيراط فعملت النصارى من نصف النهار الى صلوة العصر على قيراط قيراط ثم قال من يعمل لى من صلوة العصر الى مغرب الشمس على قيراطين قيراطين الا فانتم الذين يعملون من صلوة العصر الى مغرب الشمس الا لكم الاجر مرتين فغضبت اليهود والنصارى فقالوا نحن اكثر عملا واقل إعطاء قال الله تعالى فهل ظلمتكم من حقكم شيئا قالوا لا قال الله تعالى فانه فضلى أعطيه من شئت رواه البخاري قلت والتأويل الاول أوجه لان الحديث يدل على تضعيف عمل هذه الامة على الذين من قبلهم مرة لا عشر مرار فلعل ادنى رجل من رجال هذه الامة يعطى ضعف اجر من كان فى الأمم السابقة يضاعف الى عشرة أمثاله او الى سبعين او سبعمائة او الى ما شاء الله تعالى على حسب الإخلاص وتفضلا منه تعالى والله اعلم.
وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها لا يضاعف السيئة فى حق أحد من الناس كما يدل عليه قوله تعالى وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ عن ابى ذر قال قال رسول الله ﷺ قال الله عز وجل من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها وأزيد ومن جاء بالسيئة فجزاء سيئة مثلها واغفر ومن تقرب منى شبرا تقربت منه ذراعا ومن تقرب منى ذراعا تقربت منه باعا ومن أتاني يمشى أتيته هرولة ومن لقينى بقراب الأرض خطيئة لا يشرك بي لقيته بمثلها مغفرة رواه البغوي قلت معنى قوله لقيته بمثلها مغفرة يعنى ان شئت بدليل قوله فجزاء سيئة بمثلها قال البغوي قال ابن عمر الاية فى غير الصدقات من الحسنات فاما الصدقات تضاعف الى سبعمائة ضعف قلت انما قال ابن عمر هذا نظرا منه الى قوله تعالى مثل الذين ينفقون أموالهم فى سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل فى كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء وزعما منه بتخصيص هذا الحكم بالصدقات
319
وليس كذلك وقد قال رسول الله ﷺ كل تسبيحة صدقة وكل تحميدة صدقة وكل تهليلة صدقة وكل تكبيرة صدقة رواه مسلم وابو داؤد وابن ماجة وغيرهما من حديث ابى ذر بل ذكر الله تعالى اكثر ثوابا من الصدقات قال رسول الله ﷺ الا أخبركم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وارفعها فى درجاتكم وخير لكم من انفاق الذهب والورق وخير لكم من ان تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم قالوا بلى قال ذكر الله رواه ابن ماجة والترمذي والحاكم واحمد عن ابى الدرداء وقال رسول الله ﷺ ما صدقة أفضل من ذكر الله رواه الطبراني فى الأوسط عن ابن عباس والله اعلم
قُلْ يا محمد إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي قرأ ابو عمرو ونافع بفتح الياء والباقون بالإسكان إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ بالعصمة فى اصل الخلقة والوحى والإرشاد الى ما نصب من الحجج دِيناً بدل من محل الى صراط فان معناه هدانى صراطا او مفعول فعل محذوف دل عليه الملفوظ يعنى هدانى دينا قِيَماً قرأ الكوفيون وابن عامر بكسر القاف وفتح الياء مخففة على انه مصدر نعت به وكان قياسه قوما كعوض فاعلّ لاعلال فعله كالقيام وقرأ الباقون بفتح القاف وكسر الياء مشددة على انه فيعل من قام كسيد من ساد وهو ابلغ من المستقيم باعتبار النية والمستقيم باعتبار الصيغة وقال البغوي معناهما واحد وهو القويم المستقيم مِلَّةَ إِبْراهِيمَ عطف بيان لدينا حَنِيفاً حال من ابراهيم وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بالله يا اهل مكة فلم تشركون أنتم على خلاف أبيكم مع انكم تدعون اتباعه عطف على حنيفا
قُلْ يا محمد إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي قيل المراد بالنسك الذبيحة فى الحج والعمرة وقال مقاتل نسكى حجى وقيل دينى وقيل عبادتى كذا فى القاموس والصحاح وَمَحْيايَ قرأ نافع بخلاف عن ورش بسكون الياء والباقون بفتح الياء تحرزا عن اجتماع الساكنين وَمَماتِي قرأ نافع بفتح الياء والباقون بالإسكان يعنى حيوتى وموتى لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ هو يحيى ويميت وقيل ما انا عليه
فى حيوتى وأموت عليه من الايمان والطاعات او يقال طاعات الحياة من الصلاة والصوم وغيرهما والطاعات المضافة الى الموت من الوصية والتدبير وقيل معناه طاعاتى فى حيوتى لله وجزائى بعد موتى على الله وقيل محياى بالعمل الصالح ومماتى إذا مت على الايمان لله
لا شَرِيكَ لَهُ يعنى لا أشرك به أحدا غيره وَبِذلِكَ القول والإخلاص أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ من هذه الامة ولست أدعوكم الا الى ما سبقتكم به فلست الا ناصحا لكم قال البغوي كان كفار قريش يقولون للنبى ﷺ ارجع الى ديننا فقال الله سبحانه
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا اشركه فى عبادتى انكار على بغية الغير ربا ولذا قدم المفعول وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ حال فى موقع العلة للانكار يعنى كل ما سواه مربوب له مثلى لا يصلح للمعبودية وفى تعقيب هذا الكلام بعد ما سبق ان دينى دين ابراهيم دفع توهم أخذ دينه تقليدا كما أخذ المشركون دين ابائهم قال البغوي قال ابن عباس كان الوليد بن المغيرة يقول اتبعوا سبيلى احمل اوزاركم فقال الله تعالى وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ خطيئة إِلَّا كائنة إثمها عَلَيْها فلا ينفع أحدا كفالة أحد فى ابتغاء رب غيره تعالى وَلا تَزِرُ اى لا تحمل نفس وازِرَةٌ حاملة وِزْرَ ثقل معاصى نفس أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ يوم القيامة فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ من الأديان المختلفة فيميز المحق من المبطل ويجزى كلا على حسب عمله واعتقاده
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فى الْأَرْضِ يعنى أهلك اهل القرون الماضية وأورثكم الأرض يا امة محمّد وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ منصوب على التميز من النسبة يعنى رفع درجات بعضكم فوق درجات بعض اخر فى الشرف والغناء وغير ذلك- لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ من الجاه والمال وغير ذلك ليظهر منكم هل تشركون اولا إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ لاعدائه اى يسرع العذاب إذا اراده وتأخير العذاب الى ما بعد الموت او ما بعد القيامة لا ينافى ذلك لان ما هو ات قريب وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ للمؤمنين رَحِيمٌ بهم وصف العقاب بالسرعة ولم يضفه الى نفسه ووصف نفسه بالمغفرة وضم اليه الوصف بالرحمة واتى
321
ببناء المبالغة واللام الموكدة تنبيها على انه تعالى غفور بالذات معاقب بالعرض رعاية للنظام الجملي الذي هو مقتضى صفة الربوبية كثير الرحمة مبالغ فيها قليل العقوبة مصافح فيها عن ابن عمر قال قال رسول الله ﷺ أنزلت علىّ سورة الانعام جملة واحدة يشيعها سبعون الف ملك لهم زجل بالتسبيح والتحميد رواه الطبراني فى المعجم الصغير وابو نعيم فى الحلية وابن مردويه فى تفسيره وعن انس قال لما نزلت سورة الانعام سبح رسول الله ﷺ ثم قال لقد شيع هذه السورة من الملائكة ما سدوا الأفق رواه الحاكم فى المستدرك وهذا الحديث ايضا يدل على انها نزلت جملة واحدة ولعل ما ذكر فى اسباب نزول آيات منها اتفق وجودها فى تلك الأيام متقاربة فلمناسبة بعض الآيات ببعضها وبعض اخر ببعض اخر منها قيل نزلت هذه الاية فى كذا وهذه فى كذا والله اعلم «١».
تمّت سورة الانعام من التفسير المظهرى التاسع عشر من الربيع الثاني سنة الف ومائة وتسع وتسعين ويتلوه سورة الأعراف ان شاء الله تعالى سنه ١١٩٩ هـ
(١) عن عمر بن الخطاب قال الانعام من نواجب القران رواه الدارمي يعنى عتاقه وفى رواية من نجائب القران او نواجبه اى أفاضل سوره جمع نجيبة واخرج البيهقي فى الشعب بسند فيه من لا يعرف عن على موقوفا سورة الانعام ما قرئت على عليل الا شفاه الله عنه ١٢
.
322
Icon